الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى، أبو الحسن الرضي العلوي الحسيني الموسوي: أشعر الطالبيين، على كثرة المجيدين فيهم. مولده ووفاته في بغداد. انتهت اليه نقابة الأشراف في حياة والده. وخلع عليه بالسواد، وجدد له التقليد سنة 403 هـ. له ’’ديوان شعر –ط’’ في مجلدين، وكتب، منها ’’الحسن من شعر الحسين –خ’’ السادس والثامن منه، وهو مختارات من شعر ابن الحجاج، مرتبة على الحروف في ثمانية أجزاء، و’’المجازات النبوية –ط’’ و’’مجاز القرآن ’’و’’مختار شعر الصابئ ’’و’’مجموعة ما دار بينه وبين أبي اسحاق الصابئ من الرسائل’’. وشعره من الطبقة الأولى رصفا وبيانا وابداعا. ولزكي مبارك ’’عبقرية الشريف الرضي-ط’’ ولمحمد رضا آل كاشف الغطاء ’’الشريف الرضي –ط’’ ومثله لعبد المسيح محفوظ، ولحنا نمر.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 6- ص: 99
أبو الحسن الرضى أخو المرتضى اسمه محمد بن الحسين بن موسى.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 326
الشريف الرضي أو السيد الرضي اسمه محمد بن الحسين.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 7- ص: 28
الشريف الرضي ذو الحسبين أبو الحسن محمد بن الطاهر ذوي المنقبتين أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
ولد 359 وتوفي 406 عن 46 سنة ودفن بداره في بغداد ثم نقل إلى مشهد الحسين بكربلا.
(أبواه)
ورث الشريف الرضي المجد والعلا عن أبوين جليلين علويين طالبيين ولعله لذلك لقب ذو الحسبين. فأبوه ذو المنقبتين أو المناقب نقابة الطالبيين وإمارة الحج والنظر في المظالم. فنقابة الطالبيين تجعل جميع أمور الطالبيين وأحكامهم إليه، أحدثت هذه الولاية مع نقابة العباسيين في دولة بني العباس ولا نعلم الآن مبدأ حدوثها واستمرت في دول الإسلام إلى اليوم لكنها أصبحت في الزمن الأخير اسما بلا مسمى. وإمارة الحج مكانتها معلومة. والنظر في المظالم يشبه منزلة المدعي العام اليوم لكنه أوسع منها. وكان أبوه من جلالة الشأن وعلو المكان في عصره بحيث كان سفير الخلفاء والملوك والأمراء في الأمور المهمة، وكان ميمون النقيبة مبارك الطلعة ما سفر في أمر إلا وكلل بالنجاح. وفي ذلك يقول الشريف من قصيدة:
وهذا أبي الأدنى الذي تعرفونه | مقدم مجد أول ومخلف |
مؤلف ما بين الملوك إذا هفوا | وأشفوا على حز الرقاب وأشرفوا |
في عدة أبيات يذكر فيها سفارته بين الخلفاء والملوك ويذكر في هذه القصيدة إن أباه لجلالة قدره ما كان يقبل الأرض يدي الخلفاء والملوك كما كان متعارفا في ذلك الزمان فيقول:
حمى فاه عن بسط الملوك وقد كبت | عليها جباه من رجال وآنف |
ويزيد به الفخر والحماسة في هذه القصيدة فيفضل نفسه على أبيه مع مراعاة الأدب فيقول:
جرى ما جرى قبلي وها أنا خلفه | إلى الأمد الأقصى أغذ وأوجف |
ولولا مرعاة الأبوة جزته | ولكن لغير العجز ما أتوقف |
وأمه فاطمة بنت الناصر الصغير أبي محمد الحسن بن أحمد أبي الحسين صاحب جيش أبيه الناصر الكبير أبي محمد الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب فهو حسيني النسب من الطرفين ولعله لذلك لقب ذو الحسبين وأبوها هذا وآباؤه كانوا من ملوك طبرستان ببلاد الديلم.
وكان عضد الدولة اعتقل أباه بقلعة فارس عام 369 وبقي معتقلا إلى عام 376 فتكون مدة اعتقاله سبع سنوات. ولم يصرح المؤرخون بسبب اعتقاله، وإنما ذكر بعضهم في سببه إنه كان يخاف منه وهذا سبب إجمالي لا يفيد كثير فائدة، والمتيقن إنه كان السبب في ذلك أمر سياسي ولعله كان ميله لبعض أقارب عضد الدولة ممن كان يناوئه كعز الدولة بختيار أو غيره. ولكن عضد الدولة أرسله بعد ذلك في سفارة بينه وبين بني حمدان، وبعد ذلك بعام واحد قبض عليه وعلى أخيه أبي عبد الله واعتقلهما في القلعة بفارس. ولما سئل عضد الدولة العفو عن أبي إسحاق الصابي، قال لمن سأله ذلك: أما العفو فقد شفعناك فيه وعفونا له عن ذنب لم نعف عما دونه لأهلينا يعني الديلم ولا لأولاد نبينا يعني أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي وأخاه، ولكن وهبت إساءته لخدمته. ومن هنا يفهم إن عضد الدولة كان ينقم على أبي أحمد أشياء سياسية كبيرة في نظره. وكان عمر الرضي عند اعتقال أبيه عشر سنوات وهذا يدلنا على إن أمه فاطمة بنت الناصر هي التي كانت تقوم بشؤون الرضي وبتعليمه وان الفضل كل الفضل في تعليمه وتربيته لأمه الجليلة الفاضلة فاطمة بنت الناصر، وهي التي دفعته إلى الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان مع أخيه المرتضى ليعلمهما الفقه، ولو كان أبوه حاضرا لكان هو الذي يحضره وأخاه إلى الشيخ المفيد، ولم تحتج أمه إلى إن تحضرهما إليه وكان المفيد رأى في تلك الليلة فاطمة الزهراء جاءت إليه إلى مسجده الذي كان يعلم فيه ومعها ولداها الحسن والحسين وقالت له: أيها الشيخ خذ ولدي هذين وعلمهما الفقه، فلما أصبح تعجب من ذلك. فلما جاءت أم الشريفين إليه بولديها علم تأويل رؤياه.
ولما توفي عضد الدولة سنة 372 بعث الرضي بأبيات إلى أبيه وعمره إذ ذاك فوق الثلاث عشرة سنة بقليل، وهذه الأبيات تنم عن إن الرضي لم يكن واثقا بخلاص أبيه بعد عضد الدولة وان أبناءه سيجرون على سنة أبيهم في معاملة من كان يعاديهم أبوهم أو يصادفهم ولم يستطع الرضي إن يبوح في تلك الأبيات بكل ما في نفسه حيث يقول:
أبلغا عني الحسين الوكا | إن ذا الطود بعد عهدك ساخا |
والشهاب الذي اصطليت لظاه | عكست ضوءه الخطوب فباخا |
والفنيق الذي تدرع طول الأرض | أضوى به الردى فأناخا |
والعقاب الشعواء أهبطها النق | وقد أرعت النجوم سماخا |
أعجلتها المنون عنا ولكن | خلفت في ديارنا أفراخا |
وعلى ذلك الزمان بهم عاد | غلاما من بعد ما كان شاخا |
فلم يستطع الرضي إن يقول عند موت عضد الدولة أكثر من هذا ولا إن يصرح بشيء مما تكنه نفسه، سوى إن تلك العقاب تركت أفراخا يخاف منهم ما كان يخاف منها. وبقي أبوه معتقلا إلى سنة 326 فأفرج عنه شرف الدولة بن عضد الدولة بعد انتصاره على أخيه صمصام الدولة، وكان عضد الدولة قد صادر أملاك والد الشريف الرضي، وبذلك نعرف فضل والدته التي حفظته وأخاه وعلمتهما وأنفقت عليهما كل ما تملكه بعد مصادرة أموال أبيهما.
(نشأته)
نشأ الرضي بين هذين الأبوين الجليلين منشأ عز وشرف وتربية صحيحة ورضع الإباء والشمم مع اللبن فهو يقول وهو طفل ابن عشر سنين لا شان لمثله إلا اللعب:
المجد يعلم إن المجد من أربي | وان تماديت في غيي وفي لعبي |
أني لمن معشر إن جمعوا لعلا | تفرقوا عن نبي أو وصي نبي |
إذا هممت ففتش عن شبا هممي | تجده في مهجات الأنجم الشهب |
وان عزمت فعزمي يستحيل قذى | ترمى مسالكه في أعين النوب |
وتعلم في نشأته العلوم العربية وعلوم البلاغة والأدب والفقه والكلام والتفسير والحديث على مشاهير العلماء ببغداد كأبي الفتح عثمان بن جنى من أئمة العربية في عصره تعلم عليه العلوم العربية، وأبا عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد تعلم عليه الفقه وعلوم الحديث والتفسير والكلام وغيرها. ونظم الشعر من صباه فجاء مجليا في حلبته.
(شاعريته)
نظم الشريف الرضي الشعر في عهد الطفولية ولما يزد عمره عشر سنين فأجاد ونظم في جميع فنون الشعر فأكثر، وجاء محلقا محرزا قصب السبق بغير منازع. ولم يكن في ناحية من نواحي الشعر أشعر منه في غيرها مما دل على غزارة مادته، وأنه كان ينظم قصائده بمنحة نفسانية قلما تؤثر بها العوامل الخارجية. وامتاز الرضي بان شعره على كثرته لابس كله ثوب الجودة والملاحة وهذا قلما يتفق لشاعر مكثر، بل لم يتفق لغيره، فإننا نرى تلميذه وخريجه مهيار الديلمي قد أكثر من نظم الشعر ولكن قصائده لم تكن متناسقة متناسبة في الجودة بخلاف قصائد الرضي. وإذا نظرنا إلى شعر المتنبي المتقدم عليه في العصر نجده مع ما للمتنبي من المكانة السامية في الشعر يشتمل على سقطات لا تقع من أداني الشعراء فلا غرو إذا فضل مفضل شعر الرضي على شعر المتنبي.
وإذا تأملنا في شعر الشريف الرضي وجدناه منطبعا بطابع لا يوجد في غيره ويعسر علينا وصفه والتعبير عنه. فان حسن الشعر بمنزلة الجمال في الإنسان، فمن نظر إلى الوجه الجميل من أهل الأذواق علم إنه جميل، ولكن يعسر عليه إن يبين أسباب جماله، وتفاصيلها، وكذلك إذا استمع ذو الطبع المستقيم إلى القصيدة الجيدة عرف أنها من الشعر الجيد وصعب عليه إن يفصل الأسباب في جودتها ولعله إلى ذلك ينظر كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه السلام حين سئل عن أشعر الشعراء فقال: إن القوم لم يجروا في حلبة واحدة فيعرف السابق منهم، فإن كان ولا بد فالملك الضليل. فشعر الرضي مطبوع بطابع من البلاغة والبداوة والبراعة وعذوبة اللفظ والأخذ بمجامع القلوب وغير ذلك من المميزات لا تكاد تجده في غيره ولا نكون بعيدين عن الصواب إذا قلنا إن الشريف الرضي بين الشعراء أمة برأسه. ومما امتاز به شعر الشريف إنه نقي من كل ما يتعاطاه الشعراء من الغزل المشين والهجاء المقذع والتلون بالمدح تارة والذم أخرى. ولا يليق بنا إن نمدح الشريف الرضي بان شعره خال من المجون الذي كان شائعا في ذلك العصر فهو أجل قدرا وارفع شأنا من إن نمدحه بذلك. كما إن شعره خال من وصف الخمرة، وان وصفها كثير من الشعراء الذين لا يتعاطونها، ولكن الشريف لم يصفها إلا بسؤال من سأله ذلك على لسان بعض الناس، فوصفها بعدة أبيات لم يصفها بغيرها.
(إباؤه وعظمة نفسه)
كان الشريف الرضي كما يظهر من كثير من شعره يطمح إلى الخلافة، وكان أبو إسحاق الصابي يطمعه فيها، وكان يسامي خلفاء بني العباس ويرى إنه أحق بالخلافة منهم، ولا يكترث بهم فهو يقول:
صاحت بذودي بغداد فآنسني | تقلبي في ظهور الخيل والعير |
أطغى على قاطنيها غير مكترث | وافعل الفعل منها غير مأمور |
ومن هم الذين يطغى عليهم من قاطني بغداد ولا يأتمر بأمرهم غير الخلفاء والملوك، ولكنه لم يقصر في مدح الخلفاء المبالغة وهو الذي حكى عنه الوزير أبو محمد المهلبي إنه ولد له غلام فأرسل إليه الوزير يطبق فيه ألف دينار فرده وقال: قد علم الوزير أني لا أقبل من أحد شيئا، فرده الوزير إليه وقال: إنما أرسلته للقوابل، فرده ثانية وقال: قد علم الوزير إنه لا تقبل نساءنا غريبة، فرد، إليه وقال: يفرقه الشريف على ملازميه من طلاب العلم، قال ها هم حضور فليأخذ كل أحد ما يريد، فقام أحدهم فقرض قطعة من جانب دينار ورد الدينار إلى الطبق فسأله الشريف عن ذلك، فقال: احتجت إلى دهن للسراج ليلة ولم يكن الخازن حاضرا فافترضت دهنا من البقال وأخذت هذه القطعة لأدفعها إليه. وكان طلبة العلم الملازمون للرضي في دار قد اتخذها لهم سماها دار العلم وعين لهم ما يحتاجون إليه. فلما سمع ذلك أمر إن يتخذ للخزانة مفاتيح بعدد الطلبة ورد الطبق، وكفى في إبائه وعظمة نفسه أشعاره الكثيرة في الفخر والحماسة وسيأتي طرف منها. (شجاعته وثباته على المبدأ وتضحيته)
لما كتب الخلفاء العباسيون محضرا بالقدح في نسب الفاطميين، وكتب فيه القضاة والعلماء من أهل بغداد، وكان الداعي إليه السياسة، كما هو معلوم في كل عصر وزمان، أبى الشريف الرضي إن يكتب فيه مع إنه كتب فيه أخوه المرتضى وأبوهما النقيب أبو أحمد والشيخ المفيد وسائر العلماء والقضاة، وما ذكره بعض المؤرخين من إن الرضي كتب فيه أيضا ليس بصواب، لأنه لما شاعت هذه الأبيات التي يقول فيها:
ما مقامي على الهوان وعندي | مقول صادق وانف حمي |
وإباء محلق بي عن الضيم | كما زاع طائر وحشي |
احمل الضيم في بلاد الأعادي | وبمصر الخليفة العلوي |
من أبوه أبي ومولاه مولاي | إذا ضامني البعيد القصي |
لف عرقي بعرقه سيدا الناس | جميعا محمد وعلي |
أرسل الخليفة القادر بالله القاضي أبا بكر الباقلاني إلى والد الرضي يعاتبه فأنكر الرضي الشعر، فقال أبوه اكتب للخليفة بالاعتذار والقدح بنسب المصري، فامتنع واعتذر بالخوف من دعاة المصريين، فإنه لو كان قد كتب في المحضر لم يمتنع من الكتابة إلى الخليفة بالاعتذار والقدح في نسب المصري.
(مكانته العلمية وآثاره)
كان أوحد علماء عصره، وقرأ على أجلاء الأفاضل، فكان أديبا بارعا متميزا، وفقيها متبحرا، ومتكلما حاذقا، ومفسرا لكتاب الله وحديث رسوله محلقا، وأخفت مكانة أخيه المرتضى العلمية شيئا من مكانته العلمية، كما أخفت مكانته الشعرية شيئا من مكانة أخيه المرتضى الشعرية، ولهذا قال بعض العلماء: لولا الرضي لكان المرتضى أشعر الناس، ولولا المرتضى لكان الرضي اعلم الناس. وظهر فضله في مؤلفاته، فقد ألف كتبا منها كتاب حقائق التأويل في متشابه التنزيل قال عنه ابن جني أستاذ الرضي: صنف الرضي كتابا في معاني القرآن الكريم يتعذر وجود مثله. والحق يقال إن من يتأمل فيما ذكره الرضي في ذلك الكتاب من دقائق المعاني يعلم صدق قوله إنه يتعذر وجود مثله، وقد وجد منه الجزء الخامس فقط وطبع في العراق. وكتاب مجازات الآثار النبوية أبدع فيه ما شاء وأبان عن فضل باهر ومعرفة بدقائق العربية، وقد طبع في بغداد، ثم أعيد طبعه طبعا متقنا في مصر. وكتاب تلخيص البيان عن مجازات القرآن نظير كتاب مجازات الآثار النبوية قال فيهما مؤلفهما أنهما عرينان لم أسبق إلى قرع بابهما. وكتاب الخصائص ذكر فيه خصائص أئمة أهل البيت. وكتاب أخبار قضاة بغداد وتعليق على خلاف الفقهاء، وتعليق على إيضاح أبي علي الفارسي. وكتاب الزيادات في شعر أبي تمام. ومختار شعر أبي إسحاق الصابي. وكتاب ما دار بينه وبين إسحاق الصابي من الرسائل. وكتاب رسائله في ثلاث مجلدات ومن ذلك يظهر إنه ألف في النحو والتاريخ والفقه والتفسير وغيرها.
(نهج البلاغة)
ومما جمعه الشريف كتاب نهج البلاغة اختاره من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه السلام وغيره خفي إن من يريد اختيار أنفس الجواهر من بين الجواهر الكثيرة لا بد إن يكون جوهريا حاذقا. فكان الرضي في اختياره أبلغ منه في كتاباته كما قيل عن أبي تمام لما جمع ديوان الحماسة من منتخبات شعر العرب إنه في انتخابه أشعر منه في شعره. وقد لاقى ديوان الحماسة من القبول عند الناس إقبالا كثيرا وشرحه أعاظم العلماء وكذلك نهج البلاغة لاقى في الشهرة والقبول ما هو أهله وشرح بشروح كثيرة تنبو عن الإحصاء، وكان مفخرة من أعظم مفاخر العرب والإسلام.
(نثره)
كما كان الشريف شاعرا فذا، فقد كان كاتبا بليغا ومنشئا قديرا، فقد ذكروا إن له كتاب رسائل في ثلاث مجلدات وان كان هذا الكتاب قد فقد في جملة ما فقد من الآثار العربية العظيمة التي لعبت لها أيدي الزمان وفرقتها سهام الحوادث ولا يوجد منه اليوم إلا رسائل قليلة في ضمن المؤلفات.
(شعره: غزله ونسيبه)
ومما امتاز به شعر الشريف إنطباعه بطابع العروبة والبداوة ولا سيما حجازياته التي كان ينظمها في نجد والحجاز، فتساعده رقة الهواء واتساع الفضاء ومشاهدة العرب الصميميين من أهل تلك الديار على طبع قصائده بطابع الرقة والبداوة مضافا إلى ما في طبعه من ذلك. وهذا ظاهر في شعره لا نحتاج إلى إقامة الشواهد عليه، مع إنه يكفي فيه ما سنورده من شعره في الفنون المختلفة. ومن مميزاته إيراده الكثير من الألفاظ العربية الرقيقة العذبة المصقولة المتون التي هي أشهى إلى السماع من بارد الماء على الظمأ كلفظ الجزع، ووادي الأراك، والركب اليمانين، وسرعان الريح، واحم غضيض الناظرين كحيل، وحو اللثاث، والضرب والشمول، وثور حاد، ظباء معاطيل، الربرب العيف، نسيم البان، والنقا، والأناعم ولوثة أعرابية، وهو كثير يعسر استقصاؤه.
تعاطى الشريف الرضي في غزله ما تعاطاه الشعراء من وصف حالات الوصال وما يجري مجراها مما أكثره داخل تحت: (وإنهم يقولون ما لا يفعلون) ولكن الشريف الرضي في أكثر غزلياته أقرب إلى الآداب وابعد عن كثير مما يتعاطاه الشعراء من الألفاظ الغرامية فمن غزلياته التي مزجها بالحماسة ونحى فيها إلى مناحي الشعراء عند وصفهم الوصال قوله:
تضاجعني الحسناء والسيف دونها | ضجيعان لي والسيف أدناهما مني |
إذا دنت البيضاء مني لحاجة | أبى الأبيض الماضي فأبعدها عني |
وان نام لي في الجفن إنسان ناظر | تيقظ عني ناظر لي في الجفن |
وقالت هبوه ليلة الخوف ضمه | فما عذره في ضمه ليلة الأمن |
ومن غزله الذي ينحو به مناحي باقي الشعراء في وصف الوصال، قوله:
يا ليلة النفح هلا عدت ثانية | سقى زمانك هطال من الديم |
ماض من العيش لو يفدى بذلت له | كرائم المال من خيل ومن نعم |
وظبية من ظباء الإنس عاطلة | تستوقف العين بين الخمص والهضم |
لو أنها بفناء البيت سانحة | لصدتها وابتدعت الصيد في الحرم |
قدرت منها بلا رقبى ولا حذر | على الذي نام عن ليلي ولم أنم |
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى | يلفنا الشوق من فرع إلى قدم |
وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا | على الكثيب فضول الريط واللمم |
يشي بنا الطيب أحيانا وآونة | يضيئنا البرق مجتازا على أضم |
وبيننا عفة بايعتها بيدي | على الوفاء بها والرعي للذمم |
يا حبذا لمة بالرمل ثانية | ووقفة ببيوت الحي من أمم |
دين عليك فان تقضيه أحي به | وان أبيت تقاضينا إلى حكم |
وقوله من قصيدة وهو ما ظهر فيه طابع العروبة، وسالت الرقة من جوانبه وتنزه عما تستعمله الشعراء في غزلها وتجلبب بجلباب الأدب والكمال، وهو:
زار والركب حرام | أوداع أم سلام |
طارقا والبدر لا | يحفزه إلا الظلام |
وحلول ما قرى نا | زلهم إلا الغرام |
بدلوا الدار فلما | نزلوا القلب أقاموا |
يا غزال الجزع لو كا | ن على الجزع لمام |
أحسد الطوق على جيدك | والطوق لزام |
وأعض الكف إن نال | ثناياك البشام |
وأغار اليوم إن | مر على فيك اللثام |
أنا عرضت فؤادي | أول الحرب الكلام |
ثم قوله:
ومقبل كفي وددت لو إنه | أوما إلى شفتي بالتقبيل |
جاذبته فضل العتاب وبيننا | كبر الملول وذلة المملول |
ولحظت عقد نطاقه فكأنما | عقد الجمال بقرطق محلول |
جذلان ينفض من فروج قميصه | أعطاف غصن البانة المطلول |
من لي به والدار غير بعيدة | من داره والمال غير قليل |
ثم قوله:
أقول وقد جاز الرفاق بذي النقا | ودون المطايا مربخ وزرود |
أ تطلب يا قلبي العراق من الحمى | ليهنك من مرمى عليك بعيد |
ترى اليوم في بغداد أندية الهوى | لها مبدئ من بعدنا ومعيد |
فمن واصف شوقا ومن مشتك حشا | رمته المرامي أعين وخدود |
تلفت حتى لم يبن من بلادكم | دخان ولا من نار هن وقود |
وان التفات القلب من بعد طرفه | طوال الليالي نحوكم ليزيد |
ولما تدانى البين قال لي الهوى | رويدا وقال القلب أين تريد |
ولو قال لي الغادون ما أنت مشته | غداة أجزنا الرمل قلت أعود |
ثم قوله:
خليلي هل لي لو ظفرت بنية | إن الجزع من وادي الأراك سبيل |
وهل أنا في الركب اليمانين مصعد | وأيدي المطايا بالرحال تميل |
وفي سرعان الريح لي لو علمتما | شفاء ولو إن النسيم عليل |
وفي ذلك السرب الذي تريانه | أحم غضيض الناظرين كحيل |
شهي اللمى عاط إلى الركب جيده | ختول لأيدي القانصين مطول |
وكم فيه من حو اللثاث كأنما | جرى ضرب ما بينها وشمول |
تجللن بالريط اليماني كأنما | ضممن غصونا مسهن ذبول |
واني إذا اصطكت رقاب مطيكم | وثور حاد بالرفاق عجول |
أخالف بين الراحتين على الحشا | وانظر أني ملتم فأميل |
وقوله:
من الركب ما بين النقا فالأناعم | نشاوى من الادلاج ميل العمائم |
وجوه كتخطيط الدنانير لاحها | مع البيد إضباب الهموم اللوازم |
كان القطاميات فوق رحالهم | سوى إنها تأبى دني المطاعم |
(الفخر والحماسة)
وأما شعره في الفخر والحماسة فهو على كثرته وسمو مكانته يصعب الاختيار والانتقاء منه لأنك كلما نظرت إلى قطعة فيها شيء من ذلك، وراقك حسنها وظننت أنها أحسن ما تختاره تنظر إلى غيرها فتظنها مثلها أو أحسن منها، وهكذا فتقع في الحيرة، بل هذا حاصل في كثير من فنون شعره غير الفخر والحماسة كالغزل والنسيب وغيرهما. وإذا كان لا بد من الاختيار فليكن الحال في ذلك كقدحي العطشان ورغيفي الجائع. ولكن حماسته مع ذلك كثيرة ما تشتمل على المبالغة المفرطة، وهذا لأمر لمن تجيش نفسه بأمور لا يوصله إليها الزمان فمن قطعاته الحماسية قوله:
أنا ابن الألى أما دعوا يوم معرك | أمدوا أنابيب القنا بالمعاصم |
إذا نزلوا بالماحل استنبتوا الربى | وكانوا نتاجا للبطون العقائم |
يسيرون بالمسعاة لا السعي بالخطى | ويرقون بالعلياء لا بالسلالم |
ثم يزيد به الحماسة فيريد إن | يفتخر على بني العباس فيقول |
وما فيهم إلا امرؤ شب ناشئا | على نمطي بيضاء من آل هاشم |
فتى لم توركه الإماء ولم تكن | أعاريبه مدخولة بالأعاجم |
إذا هم أعطى نفسه كل منية | وقعقع أبواب الأمور العظائم |
وكيف أخاف الليل أني ركبته | وبيني وبين الليل بيض الصوارم |
ثم يعود إلى ذكر بني العباس، فيقول:
لويت إلى ود العشيرة جانبي | على عظم داء بيننا متفاقم |
وسالمت لما طالت الحرب بيننا | إذا لم تظفرك الحروب فسالم |
وقوله:
نبهتهم مثل عوالي الرماح | إلى الوغى قبل نموم الصباح |
فوارس نالوا المنى بالقنا | وصافحوا أغراضهم بالصفاح |
يا نفس من هم إلى همة | فليس من عب ء الأذى مستراح |
قد إن للقلب الذي كده | طول مناجات المنى إن يراح |
لأبد إن اركبها صعبة | وقاحة تحت غلام وقاح |
في حيث لا حكم لغير القنا | ولا مطاع غير داعي الكفاح |
وأشعث المفرق ذي همة | طوحه السهم بعيدا فطاح |
لما رأى الصبر مضرا به | راح ومن لم يطق الذل راح |
دفعا بصدر السيف لما رأى | إلا يرد الضيم دفع براح |
حتى أرى الأرض وقد زلزلت | بعارض أغبر دامي النواح |
ثم أشار إلى بني العباس، فقال:
متى أرى البيضة مصدوعة | عن كل نشوان طويل المراح |
مضمخ الجيد نؤوم الضحى | كأنه العذراء ذات الوشاح |
إذا رداح الروع عنت له | فر إلى ضم الكعاب الرداح |
قوم رضوا بالعجز واستبدلوا | بالسيف يدمى غربه كاس راح |
توارثوا الملك ولو أنجبوا | لورثوه عن طعان الرماح |
غطى رداء العز عوراتهم | فافتضحوا بالذل أي افتضاح |
ثم عاد إلى الحماسة فقال:
إني والشاتم عرضي كمن | روع آساد الشري بالنباح |
فارم بعينيك مليا تر | وقع غباري في عيون الطلاح |
وارق على ظلعك هيهات إن | يزعزع الطود بمر الرياح |
لا هم قلبي بركوب العلا | يوما ولا بل يدي بالسماح |
إن لم أنلها باشتراط كما | شئت على بيض الظبا واقتراح |
إما فتى نال العلا فاشتفى | أو بطل ذاق الردى فاستراح |
ثم قوله:
يقرع باسمي الجيش ثم يردني | إلى طاعة الحسناء قلب مكلف |
سلي بي ألم اثن الأعنة ظافرا | تحدث عن يومي نزار وخندف |
سلي بي ألم احمل على الضرب ساعدي | وقد ثلم الماضي ودق المثقف |
وحي تخطت بي أعز بيوته | صدور المواضي والوشيج المرعف |
وكل غلام مل درعيه نجدة | ولوثة أعرابية وتغطرف |
لنا الدولة الغراء ما زال عندها | من الجور واق أو من الظلم منصف |
بعيدة صوت في العلا غير رافع | بها صوته المظلوم والمتحيف |
ونحن أعز الناس شرقا ومغربا | وأكرم ابصار على الأرض تطرف |
بنو كل فياض اليدين من الندى | إذا جاد ألغى ما يقول المعنف |
وكل محيا بالسلام معظم | كثير إليه الناظر المتشوف |
وابيض بسام كان جبينه | سنا قمر أو بارق متكشف |
حيي فان سيم الهوان رأيته | يشدو لا ماضي الغرارين مرهف |
لنا الجبهات المستنيرات في العلا | إذا التثم الأقوام ذلا وأغدفوا |
وهو مع كل هذه الحماسة يفتخر بأنه تمكن من الهرب يوم القبض على الخليفة الطائع وسلم مما أصيب به أكثر القضاة والأشراف وغيرهم من الحاضرين من الامتهان وسلب الثياب فيقول:
إعجب لمسكة نفس بعد ما رميت | من النوائب بالابكار والعون |
ومن نجائي يوم الدار حين هوى | غيري ولم أخل من حزم ينجيني |
مرقت منها مروق النجم منكدرا | وقد تلاقت مصاريع الردى دوني |
(تولية المناصب)
لم يمنع الشريف الرضي انتظامه في سلك العلماء والفقهاء وأعاظم الأدباء من تولي أعلى المناصب. في عمدة الطالب إنه ولي نقابة الطالبيين مرارا وكانت إليه إمارة الحج والمظالم كان يتولى ذلك نيابة عن أبيه، ثم تولى ذلك بعد وفاة أبيه مستقلا وحج بالناس مرات، وقصائده الحجازيات من أشهر شعره.
(شعره في الهجاء)
من مميزات الرضي إنه ليس له شعر في الهجاء يشبه هجاء الشعراء الذين كانوا يهجون بقبيح القول والألفاظ الفاحشة ويصرحون بمن يهجونه، ويكون هجاؤهم وتركهم له تابعا للإعطاء والمنع. فالشريف إن وجد في شعره ما يشبه الهجاء فهو بألفاظ نقية وأدب وتورع عن التصريح باسم المهجو. فهو قد كان يربأ بنفسه إن يصدر منه في الهجاء شيء مما يتعاطاه الشعراء كما أشار إلى ذلك بقوله:
وإني إذا أبدى العدو سفاهة | حبست عن العوراء فضل لسانيا |
وكنت إذا التاث الصديق قطعته | وان كان يوما رائحا كنت غاديا |
وقال:
وإن مقام مثلي في الأعادي | مقام البدر تنبحه الكلاب |
رموني بالعيوب ملفقات | وقد علموا باني لا أعاب |
وإني لا تدنسني المخازي | واني لا يروعني السباب |
ولما لم يلاقوا في عيبا | كسوني من عيوبهم وعابوا |
وقال:
وجاهل نال من عرضي بلا سبب | أمسكت عنه بلا عي ولا حصر |
وقوله:
وأغضيت اللواحظ عن ذنوب | وموضعها لعيني غير خاف |
ولكن الحمية في تأبى | قراري للرجال على التكافي |
فما سهمي السديد من النوابي | ولا باعي الطويل من الضعاف |
وقوله:
وغر آكل بالغيب لحمي | وإن لاكله داء عياء |
يسئ القول أما غبت عنه | ويحسن لي التجمل واللقاء |
(وفاؤه)
من أدل الدلائل على وفاء الرضي إن يكون له رجل من الإعراب صديقا يقال له ابن ليلى واسمه عمرو وكنيته أبو العوام كما ظهر ذلك كله من شعر الشريف فيرثيه الرضي بعدة قصائد، وهو من أمراء العرب، ولم يكن من المشهورين فان المؤرخين لم يذكروا عنه شيئا وغاية ما يمكننا أن نعتقده إنه كان بينه وبين الرضي مودة فاستحق هذا الرثاء، وفيه يقول:
وأين كفارس الفرسان عمرو | إذا رزء من الحدثان فاجا |
بحق كان أولهم ولوجا | على هول وآخرهم خراجا |
ويموت إعرابي آخر تكون بينه وبين الشريف بعض الصلات فيرثيه بقصيدة غراء ولا يصرح باسمه، يقول فيها:
منابت العشب لا حام ولا راع | مضى الردي بطويل الرمح والباع |
القائد الخيل يرعيها شكائمها | والمطعم البذل للديمومة القاع |
وابن جني يشرح قصيدة للشريف فيمدحه على ذلك. وإبراهيم بن ناصر الدولة كان بينه وبين الشريف صداقة رثاه بعد موته بقصيدة طويلة. ويبلغه إن الصاحب بن عباد وقع إليه شيء من شعر الرضي، فأعجب به، وأنفذ إلى بغداد لاستنساخ تمام شعره، فيمدحه بقصيدة طويلة يقول فيها:
بهداه يستضوي الورى وبهديه | قرب الطريق لهم إلى المعبود |
أسد إذا جر القبائل خلفه | حل الطلى بلوائه المعقود |
بيني وبينك حرمتان تلاقتا | نثري الذي بك يقتدي وقصيدي |
ووصايل الأدب التي تصل الفتى لا باتصال قبائل وجدود ورثاؤه للصابي الذي يجلب في ذلك العصر شيئا من الملام، فيقول فيه:
أعلمت من حملوا على الأعواد | أرأيت كيف خبا ضياء النادي |
إلى إن يقول:
الفضل ناسب بيننا إن لم يكن | شرفي مناسبه ولا ميلادي |
ثم يشير إلى إن الذي دعاه إلى رثائه هو الوفاء، فيقول:
لا در دري إن مطلتك ذمة | في باطن متغيب أو بادي |
ورثاؤه للخليفة الطائع بعد موته، فان المدح في الحياة يكون له داع من طمع في جاه أو مال، أما الرثاء بعد الموت لخليفة مات منحى عن الخلافة، لا يكون داعية إلا الوفاء.
وهو يرثي أبا عبد الله الحسين بن أحمد المعروف بابن الحجاج الشاعر الهزلي المشهور، لمجرد صداقة كانت بينهما. ويرثي إبراهيم بن ناصر الدولة لمجرد الصداقة أيضا.
(شعره في المديح)
مدح الشريف الخلفاء والملوك الذين عاصرهم، ووصفهم بالصفات التي اعتاد الشعراء إن يصفوا بها ممدوحيهم. ولكنه امتاز عنهم بأنه كان أبعد عن المبالغة المفرطة وعن إن يكون داعيه إلى المدح حب الفوز بصلاتهم وجوائزهم فقط لما جبل عليه من الأنفة وعلو النفس ولكنه لا يمتنع مع ذلك إن يكون الخلفاء والملوك تصله منهم بعض الصلات وخصوصا صديقه الحميم الطائع، لكن لا بالطريقة التي كان ينتحيها سائر الشعراء فتكون الصلات هي هدفهم الوحيد في المديح وإذا لم يصلوا إلى هذا الهدف لجأوا إلى الهجاء والذم بالحق والباطل، فالشريف الرضي كان منزها عن هذه الطريقة، فهو يقول في الطائع:
رأي الرشيد وهيبة المنصور في | حسن الأمين ونعمة المتوكل |
نسب إليك تجاذبت أشياخه | طولا من العباس غير موصل |
هذي الخلافة في يديك ذمامها | وسواك يخبط قصر ليل أليل |
(شعره في الرثاء)
وهو يشبه شعره في المديح وجله كان وفاء لأصدقائه، بعيدا عن الطمع بالصلات. وقالت مجلة العربي:
بعد إن توفي أبو الطيب المتنبي في سنة 354 ه، وكان في حياته مالئ الدنيا وشاغل الناس، ظلت أخباره الكثيرة وأشعاره الوفيرة شغلا شاغلا لكثير من العلماء والنقاد والكتاب يستقصون هذه الأخبار في تصنيفها وشرحها وتفسيرها، ويتجادلون في ذلك ويتمارون مراء شديدا. وكان أبا الطيب كان على علم بما سيكون من بعده حين قال:
أنام مل ء جفوني عن شواردها | ويسهر الخلق جراها ويختصم |
في هذه الفترة، وبعد وفاة أبي الطيب بخمس سنوات، ولد ببغداد أبو الحسن، محمد بن الحسين بن موسى، الملقب بالشريف الرضي. الذي يتصل نسبه بموسى الكاظم والحسين بن علي بن أبي طالب، ولذلك يعرف بالموسوي. نشأ الرضي، ذو الحسبين كما لقبه الملك بهاء الدولة بن عضد الدولة البويهي سنة 369 ه، في بيت يتسم بالمجد والشرف والحسب والنسب، فنال من ذلك كله حظه فيه، وأخذ نفسه في سن مبكرة بما يأخذ به أمثاله أنفسهم من الانصراف إلى التعلم وحفظ القرآن والحديث ودراسة الفقه الإسلامي والشعر والنثر، فتتلمذ على نفر من جلة العلماء وأفاضلهم في ذلك العصر من أمثال أبي سعيد السيرافي، وأبي الفتح عثمان بن جني، وأبي علي الفارسي، والقاضي عبد الجبار، وأبي بكر الخوارزمي وغيرهم ممن يبلغ عددهم بضعة عشر أستاذا، تلقى على أيديهم علوم العربية والعلوم الإسلامية المختلفة.
وتشير الأخبار إلى إنه بكر تبكيرا شديدا في حضور جلسات العلم والعلماء وأظهر فيها نجابة ملحوظة، حتى ليروى إنه احضر إلى أبي سعيد السيرافي، العالم النحوي المشهور، وهو صبي لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقنه النحو. وكان السيرافي، والحاضرون يعجبون من ذكائه وحدة خاطره. كما يروى إنه تلقن القرآن في سن مبكرة فحفظه في مدة يسيرة، ثم درسه دراسة أمكنته من إن يصنف بعد ذلك كتابا في معاني القرآن الكريم يوصف بأنه يتعذر وجود مثله. ودل على توسعه في علم النحو واللغة.
وصنف كتابا في مجازات القرآن فجاء نادرا في بابه. ويقول محقق الكتاب الأخير إنه "يقوم في التراث العربي الإسلامي وحده شاهدا على إن الشريف الرضي خطا أول خطوة من التأليف في مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته، ولم يأت عرضا في خلال كتاب، أو بابا من أبواب مصنف".
هذه الشواهد تدلنا في سرعة على إن الشريف الرضي امتاز بشخصية جادة في الحياة أخذت نفسها أخذا شديدا بأسباب الجد في الدرس والعلم والتحصيل، وذلك في السن التي يكون فيها إضرابه وأترابه في العمر لا يزالون يلعبون لعب الصبية ويلهون لهو من لم يشبوا عن الطوق.
يواكب ذلك النبوع والذكاء في هذا التطور من حياة الرضي ملكة مبكرة وموهبة فنية نادرة، تلك هي شاعريته المصقولة المهذبة النامية، التي تؤكد الروايات والأخبار إنها بدأت تؤتى ثمارها من الشعر بعد إن جاوز عشر سنين بقليل. ونحن نقرأ شعره هذا الذي تنص الروايات على إنه من أوائل أشعاره فنجده شعرا، رصينا قويا لا تنقصه أسباب الصقل والتهذيب، ولا يقل في جودته عن شعره المتأخر من حيث النسج والصياغة والبناء.
هذه الموهبة الفنية ظلت تفيض في حياة الرضي وهي حياة ليست طويلة، حتى ملأت ديوان شعر كان يوصف في عصره بأنه ديوان كبير، يدخل في أربع مجلدات، وبأنه مشهور بين الناس كثير الوجود. . . وحتى اتفق النقاد والعلماء على إن الرضي "أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن غبر. على كثرة شعرائهم المفلقين". ولو قيل إنه أشعر قريش لم يجاوز ذلك الصدق، لأن قريشا كان فيها من يجيد القول، أما الشعر فقل في قريش مجيدوه، فأما المجيد المكثر فليس إلا الشريف الرضي".
وهذه الشاعرية الفياضة المبكرة لا ينبغي إن ننسى إنه كان بجانبها عقلية دارسة فاحصة أنتجت دراسات قيمة في القرآن والحديث والنقد والبلاغة والتاريخ، نذكر منها بالإضافة إلى كتابيه السابقين في معاني القرآن ومجازات القرآن، المجازات النبوية، وخصائص الأئمة، وأخبار قضاة بغداد، وسيرة والده، وحقائق التأويل في متشابه التنزيل، وكتاب رسائله، والحسن من شعر الحسين بن الحجاج، ونهج البلاغة الذي جمعه من كلام الإمام علي بن أبي طالب.
وتطالعنا في عقلية الرضي، كما تطالعنا في شاعريته، خاصة واضحة تبدو بجلاء فيما وصل إلينا من كتبه، هي حريته في التفكير واستقلاله في الرأي وانطلاقه في التعبير عما يرى ويستقر رأيه عليه ويناقش في حرية وغير تعصب آرائه وآراء غيره، لا يقيده في ذلك كله، سواء في شعره أو في نثره، غير قيد واحد، إن صح إن يكون تمسكه بعروبته وأصالته العربية قيدا.
لا جرم، فالرضي من أشرف العرب نسبا، واعتزازه بعربيته واعتداده بتفكيره العربي أمر واجب مقدس في نظره، يفرضه عليه نسبه العربي العريق، كما إن ثقافته العربية الخالصة التي تعتمد على مصادر عربية إسلامية صافية من القرآن والحديث وتاريخ العرب وتراثهم في النثر والشعر جميعا، ونفوره من الثقافة الأجنبية التي انحدرت في محيط الثقافة العربية، كل ذلك جعلنا نحكم على ثقافته ونصفها بأنها ثقافة دينية عربية وإنها ليست فلسفية أو علمية أو أجنبية.
وإذا أضفنا إلى ذلك إن الرضي كان من الرواة العرب المعدودين البارزين في المحيط العربي والمجال الإسلامي، بما كان يليه من أمور العرب وأمور المسلمين، حيث صارت إليه ولاية نقابة الطالبيين والحكم فيهم ‹ صفحة 222 › أجمعين، والنظر في المظالم والحج بالناس، وكانت كل هذه الأعمال لأبيه فصارت إليه في حياة أبيه سنة 380 ه، وعمره لم يتجاوز الحادية والعشرين، ثقة من السلطان ومن أبيه ومن عامة الذين ولى أمرهم فيها، واطمئنانا منهم إلى رجاحة عقله ووفرة ذكائه وحكمته، مما جعل الثعالبي يصفه بقوله وهو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة الطرق، يتحلى مع محتده الشريف، ومفخرة المنيف، بأدب ظاهر وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر".
وإذا أضفنا كذلك ما هو معروف من أسباب الصراع السياسي والاجتماعي حينذاك بين الفرس الذين استولوا على السلطان جميعه، وبين العرب الذين أحسوا بضياع نفوذهم وهيبتهم. إذا أضفنا هذا وإذا استطعنا من زاوية أخرى إن نفسر سر تمسك الرضي بعروبته وسر تمكن هذه العربية من طريقته في التفكير والتعبير، ذلك التمكن الذي يشبه القيد، بحكم نسبه العربي الأصيل وثقافته العربية الخالصة ومنصبه العربي الطالبي، والصراع السياسي الاجتماعي بين العرب والفرس. شعر الرضي مرآة تعكس شخصيته وتصور عصره
وشعر الشريف الرضي هو المرآة التي تنعكس عليها كل الملامح السابقة فتكشف لنا بوضوح كل ما فيها من جوانب وتفصيلات، وهو الذي يعطينا صورة صادقة لسمات شخصيته من ناحية، وسمات عصره وبيئته وثقافته من ناحية أخرى بحيث يصلح الكثير من شعره أن يكون من الوسائل القيمة التي تعين على فهم كثير من أحداث هذا العصر وأخباره.
وأول ما يطالعنا في هذا الشعر، في قوة ووضوح، هو أرستقراطية الشريف الرضي العربية التي تحدثنا عن أسبابها ومقوماتها، وهي تطالعنا في الفنون والأغراض التي طرقها، واهم هذه الفنون في ديوانه دون شك: الفخر والرثاء. أما الفخر فيعتمد عنده قبل كل شيء على هذه الأرستقراطية العربية التي تجري في دمه، ثم على منزلته ومنزلة بيته في المجتمع الإسلامي، ثم على الصفات العربية التليدة المأثورة، من شجاعة وإقدام وعدم مبالاة بالأخطار وبالموت، ومن كرم ونجدة وإغاثة، ومن وفاء وحسن جوار ولطف معاشرة، ومن حلم ووقار وقوة احتمال وعفة في القول والعمل. . . ولا عجب إن يكون الفخر من الفنون المبكرة جدا في حياته الفنية، إذ نجد في ديوانه قصيدة في هذا الغرض، قالها وله عشر سنين منها:
المجد يعلم إن المجد من أربى | ولو تماديت في غي وفي لعب |
أني لمن معشر إن جمعوا لعلي | تفرقوا عن نبي أوصى نبي |
ومن القصائد الرائعة في هذا الباب، وهي تجمع كثيرا من مقومات فن الفخر عنده من حيث المعاني والصياغة إلى جانب طول نفسه فيها قصيدته التي يقول فيها:
لغير العلى مني ألقى والتجنب | ولولا العلى ما كنت في الحب أرغب |
ملكت بحلمي فرصة ما استرقها | من الدهر مقتول الذراعين أغلب |
فإن تك سنى ما تطاول باعها | فلي من وراء المجد قلب مدرب |
وللحلم أوقات، وللجهل مثلها | ولكن أوقاتي إلى الحلم أقرب |
ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها | ولا انطق العوراء والقلب مغضب |
لساني حصاة يقرع الجهل بالحجى | إذا نال مني العاضة المتوثب |
وديوان الشريف الرضي يضم بين دفتيه قصائد في المديح، يمدح بها
بعض الملوك والحلفاء في عصره، ولكن أغلب مدائحه في أبيه وفي أهل بيته، وهي ألصق بفن الفخر لأنه إذا مدح أباه أو أهل بيته فهو إنما يفخر بهم وبنسبه، وحتى إذا مدح الخليفة أو غيره، فهو إنما يتخذ ذلك تكئة يعتمد عليها ويتوسل بها إلى الفخر فيقول للخليفة القادر:
عطفا أمير المؤمنين فإننا | في دوحة العلياء لا نتفرق |
ما بيننا يوم الفخار تفاوت | أبدا، كلانا في المعالي معرق |
ألا الخلافة ميزتك، فإنني | أنا عاطل منها وأنت مطوق |
الرثاء في شعر الرضي
وأما الرثاء فهو القيثارة المحببة لدى الرضي، يعزف عليها ألحانه الشجية الحزينة كلما مات فرد من أقاربه وأهل بيته، سواء في ذلك صغيرهم وكبيرهم، الذكر منهم والأنثى، بل تستبد به هذه النزعة الأرستقراطية العربية فتأخذه أخذا إلى الوراء في مواضي الليالي وسوالف الأيام أهل بيته الأبعدين والأقربين. لا سيما الحسين بن علي، الذي رثاه أكثر من مرة، وبكاه بكاء حارا بدمع ساخن مدرار.
الرضي رثى الشيعي وغير الشيعي والعربي
وغير العربي والمسلم وغير المسلم
وأغلب الظن إن نفس هذه النزعة هي التي كانت تملي عليه أن يكون وفيا، فيمسك بنفس القيثارة، وما أسرع ما كان يمسكها، ليبكي أناسا آخرين من غير أهل بيته، تربطهم به علاقة الصداقة أو الزمالة في العلم أو في الشعر، أو استأذتهم له. ومن حق الرضي أن نسجل له في هذا المقام صفة مهمة في شخصيته هي تحرره من كل عصبية، وخاصة في باب الصداقة أو باب الزمالة في الأدب والعلم، إذ لم يكن يفرق في هذا المجال بين شيعي على مذهبه وغير شيعي، ولا بين عربي وغير عربي، بل لم يكن يفرق بين مسلم وغير مسلم، حين بكى صديقه أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي، وهو على دين الصابئة، على حين كانت تجمع بينهما صناعة الأدب وكانت بينهما مراسلات بالشعر والنثر. وقصيدة الرضى في رثاء الصابي تعد من أروع قصائده في الرثاء ومطلعها:
أعلمت من حملوا على الأعواد | أرأيت كيف خبا ضياء النادي |
جبل هوى لو خر في البحر اغتدى | من وقعة متتابع الأزباد |
ما كنت اعلم قبل حطك في الثرى | إن الثرى يعلو على الأطواد |
ولقد رثاه الشريف بأكثر من قصيدة، ولم يعبأ بما وجه إليه من لوم في ذلك. ولعله ليم كذلك على رثائه الحسين بن أحمد بن الحجاج الشاعر الماجن المشهور، لبعد ما بينهما في السلوك والخلق، بقصيدة يقول فيها:
ليبك الزمان طويلا عليك | فقد كنت خفة روح الزمان |
ومما يؤكد هذه الصفة، وهذه الروح في الشريف الرضي إنه رثى عمر بن عبد العزيز، على قديم ما بين البيتين من خلاف عميق وعداء وصراع في السياسة والنحلة. قال فيه:
يا ابن عبد العزيز، لو بكت العيـ | ـن فتى من أمية لبكيتك |
غير أني أقول: انك قد طبـ | ـت، وإن لم يطب ولم يزل بيتك |
ولو أني رأيت قبرك لاستحـ | ـييت من إن أرى وما حييتك |
وقليل إن لو بذلت ماء الـ | ـبدن حزنا على الذرى وسقيتك |
وعلى بضعة أوتار من نفس هذه القيثارة الحزينة يعزف الرضي ألحانه في فنون شعره الأخرى في الحكمة والزهد والشكوى من الزمان وضياع الشباب ونزول الشيب، حتى غزله ونسبه يفيضان بالأنين والتوجع والتألم.
وشعره في الحكمة والزهد يكاد يعتمد اعتمادا خالصا على ثقافته العربية والآثار الإسلامية في معانيه وأفكاره، وان خالطه شيء غير عربي فمما كان شائعا في عصره وقبل عصره من اثر الثقافات الأجنبية، وفيما عدا ذلك فهو مستمد من القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال الصحابة والزاهدين، ومن تجاربه الخاصة في حياته العربية الخالصة ومذهبه العربي في هذه الحياة.
غزل الرضي
وغزل الشريف الرضي ونسيبه عربيان خالصان، يستوحيهما من العربيات الخالصات، ومن البيئات العربية، على الرغم من كثرة الإماء والجواري غير العربيات وذهاب الشعراء في التشبب بهن كل مذهب في عبث ومجون. والرضي لم يزل زلة واحدة ولم ينحرف به الطريق عن العفة والشرف والخلق الرفيع في هذا الباب، وهو إذا تغزل فإنما يتغزل في العربيات من مثيلات أميمة ولمياء، وهن من بيئات عربية في نجد أو في العراق أو في الحجاز، وغاية عشقه وغزله إن يقول:
عفافي من دون التقية زاجر | وصونك من دون الرقيب رقيب |
عشقت وما لي، يعلم الله، حاجة | سوى نظري، والعاشقون ضروب |
وما لي يا لمياء بالشعر طائل | سوى إن أشعاري عليك نسيب |
ومذهبه في اختصاصه العربيات بالغزل واضح حين يدلنا على ذلك في بعض شعره إذ يفرق بين نجد العربية وبابل الفارسية، فيقول في معرض النسيب:
لواعج الشوق تخطيهم وتصميني | واللوم في الحب ينهاهم ويغريني |
هيهات بابل من نجد، لقد بعدت | على المطي مرامي ذلك البين |
والرضى إذا تعرض لوصف الفتاة لا يذهب، بعفته، إلى أبعد من نضرة الوجه ونقاء الخد وصفاء البشرة وامتلاء الساعد والساق، فإذا كان بينه وبينها لقاء فهما على هذا النحو:
بتنا ضجيعين في ثوب الظلام كما | لف الغصينين مر الريح بالأصل |
طورا عناقا كأن القلب من كثب | يشكو إلى القلب ما فيه من الغلل |
وتارة رشفات لا انقضاء لها | شرب النزيف طوى علا على نهل |
وكم سرقنا على الأيام من قبل | خوف الرقيب كشرب الطائر الوجل |
غير إن الرضي كثيرا ما يؤكد أن هذه اللقاءات، على ما يبدو في ظاهرها من إرابة، بعيدة عن الشبه، وليس فيها غير عفيف القول وعفيف الفعل، مما لا يمس الشرف بخدش، ولا يؤثر في حسن الخلق بأثر:
وظبية من ظباء الإنس عاطلة | تستوقف العين بين الخمص والهضم |
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى | يلفنا الشوق من فرع إلى قدم |
وبيننا عفة بايعتها بيدي | على الوفاء بها والرعي للذمم |
فقمت انفض بردا ما تعلقه | غير العفاف وراء الغيب والكرم |
ثم انثنينا وقد رابت ظواهرنا | وفي بواطننا بعد عن التهم |
فهذه عفة عربية وتقوى عربية، ووفاء عربي، وذمة عربية لفتاته العربية إن يرعاها ويتمسك بها ولا يفرط فيها. وفيما عدا ذلك فغزل الشريف الرضي يفيض بآنات الألم، الم الفراق، والشوق، والحنين، والذكرى.
شكوى الزمان
والى جانب ذلك كله نجد الرضي كثير الشكوى من الزمان ومن نوازله وخطوبه وغدره، وأكثر من ذلك شكواه من المشيب وتفجعه على الشباب. إذ فاجأه الشيب وهو لم يزايل عتبات الصبا بكثير، ففي شعره ما يدلنا على إن الشيب داهمه وهو في سن العشرين أو بعد ذلك بقليل:
عجلت يا شيب على مفرقي | وأي عذر لك إن تعجلا |
فكيف أقدمت على عارض | ما استغرق الشعر ولا استكملا |
كنت أرى العشرين لي جنة | من طارقات الشيب إن أقبلا |
فالآن سيان ابن أم الصبا | ومن تسدى العمر الأطولا |
ولذلك نجده كثير الشكوى من الزمان ومما أنزله به من شيب باعد بينه وبين الشباب وقارب بينه وبين الموت وأغمض عنه عيون الحسان:
لو دام لي ود الأوانس لم إبل | بطلوع شيب وابيضاض غدائر |
واها على عهد الشباب وطيبه | والغض من ورق الشباب الناضر |
وأرى المنايا، إن رأت بك شيبة | جعلتك مرمى نبلها المتواتر |
لو يفتدى ذاك السواد فديته | بواد عيني بل سواد ضمائري |
إن أصفحت عنه الخدود فطالما | عطفت له بلواحظ ونواظر |
أما في الوصف فقد كان مجليا مبرزا فلم تكن شاعريته معبرة تعبيرا قويا عن مكنون نفسه ودخيلة عاطفته فحسب، وإنما كانت معبرة أيضا عن انعكاسا الصور الخارجية عليها مصورة لها تصويرا فنيا يدل على براعة المصور وروعة فنه. على إن الأمر الذي يثير التأمل حقا في شعره إنما هو موسيقاه، والذي يصيخ السمع أثناء قراءة شعر الرضي يجد أنه كان يختار الإيقاع الموسيقي المناسب ربما في غير وعي منه للفن الذي يقول فيه معانيه ويصوغ فيه أفكاره وخلجات نفسه، فالتوافق الموسيقي بين الأوزان والمعاني سمة واضحة في قصائد الرضي بحيث يثير ذلك انتباهك وتأملك ويلفتك لفتا شديدا.
عوامل صرفت الناس عن شعر الرضي
وبعد هذه الوقفة غير المستانية مع الشريف الرضي وشاعريته، أليس من الإنصاف إن ندل على إنه من الواجب إن نقف معه وقفة طويلة، تنصفه وتنصف شاعريته التي اشتغل عنها القدامى بالمتنبي وشعر المتنبي، ثم لم يلبثوا إن طلع عليهم أبو العلاء المعري فاشتغلوا به إلى جانب اشتغالهم بأبي الطيب؟؟
لا شك إن هناك عوامل أخرى صرفت الناس عن الشريف الرضي صرفا ما، من أهمها نفس هذه الأرستقراطية العربية التي لازمته في شخصيته وسلوكه وخلقه وفنه، والتزامه طريق الجد والرزانة والوقار، بعيدا عن مخالطة العامة وجماهير الناس. ويبدو إن تعففه وارتفاعه بمعانيه وأغراضه وصياغته بما يناسب ارستقراطيته صرف طوائف أخرى من الناس الذين كانوا يميلون إلى اللهو والعبث تنفيسا عن أنفسهم، ولم يكن في الفنون والأغراض التي طرقها الشريف ما يعطف هؤلاء على شعره، حتى في نسيبه وغزله اللذين كان يحافظ فيهما على الوقار والجد. ونفس النغمة الحزينة الشاكية التي تجلل معظم شعره تعتبر عاملا مهما في هذا السبيل وانصراف الكثيرين عنه. أما العلماء والنقاد فيبدو أنهم لم يجدوا في شعره من المشكلات والمعضلات ما وجدوه في شعر أبي الطيب وأبي العلاء بما يشغلهم به. كما إن شخصيته كرئيس ديني وعالم من علماء البيان والفقه والتفسير طغت على شخصيته شاعرا.
ولعل الرضي، لو كان شاعرا متفرغا للشعر وقرضه، سالكا في حياته ومذهبه وطريقته طريقا غير الطريق الذي التزمه وألزم به نفسه وسلوكه وشعره، لكان له شان آخر بين شعراء هذه الفترة وعلى رأسهم المتنبي والمعري، ولنال اهتماما أكبر عند من أرخوا لتاريخ الأدب العربي.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 9- ص: 216
الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهم المعروف بالشريف الرضي بن الطاهر ذى المناقب أبي أحمد الحسين صاحب الديوان المشهور يسميه الأدباء النايحة الثكلى لرقة شعره، قال الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل وهو أشعر الطالبيين ويقال أشعر قريش، قلت: معناه أنه ليس لقرشي كثرة جيده، كان أبوه قديما يتولى نقابة الطالبيين والنظر في المظالم والحج بالناس، فلما توفي أبوه رثاه أبو العلاء المعري بقصيدته الفائية المشهورة التي أولها
#أودى فليت الحادثات كفاف
منها يذكر الغراب:
لا خاب سعيك من خفاف أسحم | كسحيم الأسدي أو كخفاف |
من شاعر للبين قال قصيدة | يرثي الشريف على روى القاف |
فارقت دهرك ساخطا أفعاله | وهو الجدير بقلة الإنصاف |
ولقيت ربك فاسترد لك الهدى | ما نالت الأقوام بالإتلاف |
أبقيت فينا كوكبين سناهما | في الصبح والظلماء ليس بخاف |
قدرين في الإرداء بل مطرين في | الإجداء بل قمرين في الإسداف |
والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت | بأب من الأسماء والأوصاف |
ما زاغ بيتكم الرفيع وإنما | بالوهم أدركه خفي زحاف |
يا فتح يا أشهر كل الورى | باللوم والخسة والكذب |
كم تدعي شيعة آل العبا | اسمك ينبيني عن النصب |
ولقد وقفت على ربوعهم | وطلولها بيد البلى نهب |
فبكيت حتى ضج من لغب | نضوى ولج بعذلي الركب |
وتلفتت عيني فمذ خفيت | عني الطلول تلفت القلب |
عطفا أمير المؤمنين فاتنا | في دوحة العلياء لا نتفرق |
ما بيننا يوم الفخار تفاوت | أبدا كلانا في السيادة معرق |
إلا الخلافة ميزتك فإنني | أنا عاطل منها وأنت مطوق |
يا ليلة السفح ألا عدت ثانية | سقى زمانك هطال من الديم |
ماض من العيش لو يفدى بذلت له | كرايم المال من خيل ومن نعم |
بتنا ضجيعين في ثوبي تقى ونقا | فضمنا الشوق من قرع إلى قدم |
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي | مواقع اللثم في داج من الظلم |
وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا | على الكثيب فضول الريط واللمم |
وأكتم الصبح عنها وهي نايمة | حتى تكلم عصفور على علم |
فقمت انفض بردا ما تعلقه | غير العفاف وغير الرعي للذمم |
يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى | يوم النوى من قلبي المصدوع |
أأسأت بالمشتاق حين ملكته | وجزيت فرط نزاعه بنزوع |
هيهات لا تتكلفن لي الهوى | فضح التطبع شيمة المطبوع |
وتركتني طمآن أشرب أدمعي | أسفا على ذاك اللمى الممنوع |
قلبي وطرفي منك هذا في حمى | قيظ وهذا في رياض ربيع |
أبكي ويبسم والدجى وما بيننا | حتى استضاء بثغره ودموعي |
قمر إذا استجليته بعتابه | لبس الغروب فلم يعد لطلوع |
أبغي الوصال بشافع من غيره | شر الهوى ما رمته بشفيع |
ما كان إلا قبلة التسليم أر | دفها الفراق بضمة التوديع |
وتبيت ريان الجفون من الكرى | وأبيت منك بليلة الملسوع |
قد كنت أجزيك الصدود بمثله | لو أن قلبك كان بين ضلوعي |
عارضا بي ركب الحجاز اسايلـ | ـه متى عهده بأيام جمع |
واستملا حديث من سكن الخيـ | ـف ولا تكتباه إلا بدمعي |
أيها الرايح المجد تحمل | حاجة للمتيم المشتاق |
أقرعني السلام أهل المصلى | فبلاغ السلام بعض التلاقي |
وإذا ما وصلت للخيف فاشهد | أن قلبي إليه بالأشواق |
ضاع قلبي فانشده لي بين جمع | ومني عند بعض تلك الحداق |
وابك عني فطالما كنت من قبـ | ـل أعير الدموع للعشاق |
يا خليلي من ذؤابة قيس | في التصابي مكارم الأخلاق |
عللاني بذكرهم واسقياني | وامزجا لي دمعي بكأس دهاق |
وخذا النوم من جفوني فإني | قد خلعت الكرى على العشاق |
يا ظبية البان ترعى في خمايله | ليهنك اليوم أن القلب مرعاك |
يا للرجال لفجعة خدمت يدي | ووددتها ذهبت علي برأسي |
ما زلت آبي وردها حتى أتت | فحسوتها في بعض ما أنا حاس |
ومطلتها زمنا فلما صممت | لم يثنها مطلي وطول مكاسي |
لا تنكرا من فيض دمعي عبرة | فالدمع خير مساعد ومواسي |
أذكرتنا يا ابن النبي محمد | يوما طوى عني أباك محمدا |
ولقد عرفت الدهر قبلك ساليا | إلا عليك فما أطاق تجلدا |
ما زلت نصل الدهر يأكل غمده | حتى رأيتك في حشاه مغمدا |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 2- ص: 0
الشريف الرضي محمد بن الحسين.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 14- ص: 0
الشريف الرضي اسمه محمد بن الحسين.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0
محمد بن الحسين بن موسى الشريف الرضى، أبو الحسن. شاعر بغداد.
رافضي جلد.
دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان-ط 1( 1963) , ج: 3- ص: 523