قراسنقر المنصوري قراسنقر الجوكندار المنصوري الأمير الكبير شمس الدين أبو محمد: من أكبر الأمراء وأجل مماليك البيت المنصوري، اشتراه المنصور قلاوون في زمان الإمرة قبل أن تطير سمعته ويذكر اسمه، وجعله من الأوشاقية عنده، ثم ترقى وعرف من صغره بحسن التأتي في الأمور والتحيل لبلوغ المقاصد.
وهو من أقران طرنطاي ولاجين ومكتبغا والشجاعي وتلك الطبقة، وكان أسعد منهم، فإنه عاصرهم وقاسمهم في سعادة أيامهم، ثم عمر بعدهم العمر الطويل متنقلا في النيابات والإمرة الكبيرة إلا مدة يسيرة قضي عليه فيها بالاعتقال في أيام سلطنة لاجين.
ويقال إن أصله من قارا وليس كذلك، بل هو جهاركس قولا جزما باستنابة الملك المنصور قلاوون في حلب، وتتبعه طرنطاي ونصب له أشراك المكايد، وسلط الحلبيين على الشكوى منه، وبقي دأبه يقبح عمله ويعظم زلله، ويحسن للملك المنصور عزله، ولم يزل حتى أمره الملك المنصور بالكشف عليه، فأتى حلب وكشف عليه بنفسه ولم يظفر منه بمراد ولا حصل فيه على أمل.
ثم تقصده ابن السلعوس وأراد له البوس، وأغرى له الملك الأشرف، وتفطن له قراسنقر فلم يزل يرفع حاله ببذل نفائس الذخائر وكرائم المال إلى أن استمر به الملك الأشرف.
ثم لم ينم عنه ابن السلعوس ولا سكت حتى عزل عن حلب وولي الطباخي عوضه.
وكان حقد ابن السلعوس عليه لأنه كان يأخذ نفسه منذ عهد الصبا وهو بين أبناء التجار بالرياسة، حتى كان يسمى لحمقه الصويحب، وربما قيل: الصاحب على سبيل الهزء به لإفراط حمقه.
فأتى مرة إلى حلب وقراسنقر في نيابته وجماعة الدواوين عنده، فلما لم يخف عليه حمقه فقال: ما هذا إلا أحمق، فقيل له: يا خوند هذا الصاحب شمس الدين، وحدثوه حديثه، فطلبه إلى بين يديه ومزح معه، فعز عليه واغتاظ وحنق، فأمر به فضرب على أكتافه وأخرق به وأهانه، فحمل ابن السلعوس حقدها عليه إلى أن دارت له الدائرة.
ولما عزل قراسنقر عن حلب نقل إلى الأمراء بمصر، فأراد مقابلة ابن السلعوس وكان رجلا داهية.
حكى لي القاضي معين الدين ابن العجمي وهو ممن كان خصيصا به قال: لما استقر نقل قراسنقر إلى أمراء مصر تقرب إلى الملك الأشرف وإلى خواصه بكل نفيس إلى أن ندم الملك الأشرف على عزله وقال له هذا: الساعة حلب قد انفصل أمرها، وأنت عندنا عزيز كريم، فمهما كان لك حاجة عرفنا بها، فقبل الأرض وقال: نظرة واحدة من وجه السلطان أحب إلي من حلب وما فيها، وإنما أسأل الصدقات الشريفة أن أكون أمير جاندار.
فقال له الملك الأشرف: بسم الله، فقبل الأرض وقال: والله يا خوند ما لي غرض غير نظر الوجه الكريم، ولا طلبت هذه الوظيفة إلا حتى أكون أهين ذلك الرجل، إذا جاء أقول له: يتصدق مولانا ويقعد، فإن مولانا السلطان في هذا الوقت مشغول، يعني ابن السلعوس.
فضحك الملك الأشرف ومزح معه في هذا وقال له: هذا بس؟ قال: والله يا خوند يكفيني هذا، وهذا ما هو قليل. واستمر أمير جاندار.
وكان كثيرا ما يجيء ابن السلعوس فيقوم يقف له قراسنقر ويخدمه ويقول: يا مولانا كان السلطان الساعة مشغول، فيتصدق مولانا ويقعد، وابن السلعوس يتلظى عليه، وقراسنقر عمال عليه ودأبه إغراء الملك الأشرف به وبأمثاله من الأمراء الكبار إلى أن اتفقوا وفعلوا تلك الفعلة.
حكى لي أينبك مملوك بيسري قال: لما خرجنا مع الملك الأشرف إلى جهة تروجة، قدم للملك الأشرف لبن ورقاق وهو سائر، فنزل يأكل.
وكان أستاذي بيسري ولاجين وقراسنقر قد نزلوا جملة على جنب الطريق، فبعث الملك الأشرف إليهم بقصعة من ذلك اللبن وقد سمها، فقال بيسري: فؤادي يمغسني ما أقدر آكل لبنا على الريق، فقال لاجين: أنا صايم، فقال قراسنقر: دس الله هذا اللبن في كذا وكذا ممن بعثه، نحن ما نأكله، ثم أخذ منه وأطعم كلبا كان هناك فمات لوقته فقال: أبصروا أيش كان يريد يزقمنا.
ثم قاموا على كلمة واحدة واتفاق واحد في نجاز ما كانوا بنوا عليه، وكان لهم مدة في العمل على قتل الملك الأشرف وابن السلعوس إلى أن كان ما كان. انتهى.
ولما قتل الملك الأشرف لم يباشره قراسنقر بيده بل كان مع المباشرين له، ونزل إليه ونزع خاتمه، وحياصته بيده، وفعل به بعد موته ما تقتضيه شماتة المشتفي، واختفى هو ولاجين في بيت كتبغا، وكان ينادى عليهما ويتطلبهما وهما عنده، والناس ما يخفى عليهم هذا، وما يجسر أحد يتكلم لأن كتبغا كان هو السلطان القائم في الحقيقة.
ثم إنه أخرجهما لما تسلطن وأمرهما وعظم شأنهما وكبرهما.
ثم ناب قراسنقر للاجين لما تسلطن النيابة العامة، وأورد الأمور وأصدرها برأيه، فعز على منكودمر، وكان أكبر مماليكه، ولم يزل به حتى أمسكه لاجين واعتقله واستناب منكودمر عوضه.
حكى لي قيصر الشرفي مملوك عمي شرف الدين قال: لما اسمك لاجين قراسنقر طلب أستاذي - يعني عمي - في شغل عرض له فلم يدخل، وكانت له منه المكانة المعروفة، فطلبه يدخل، فطلبه ولز في طلبه، فلما دخل قال له: طلبناك مرتين ثلاثة وأنت ما تجيء، فقال: كيف أجيء وقد عملت مع قراسنقر ما عملت بعد أن كنتما مثل الروحين في الجسد وأمس.
كما خلصتما من تلك الشدة التي كنتما فيها وظهرتما من الاختفاء وما هكذا الناس.
فقال له: يا أخي اعذرني، هذا والله لو خليته روح روحي، وأنا قد حبسته وما آذيه.
فقال له: الله ما تؤذيه فقال: آلله ما أؤذيه. فقال: ارسم لي لأروح إليه وأطيب قلبه وأعرفه بهذا، فقال: رح إليه وعرفه، فراح إليه وعرفه بهذا فبكى وحلف: أنني ما كنت أموت وأعيش إلا معه، وإن وإن، فجاء إلى لاجين وعرفه وقال له: يا خوند، أنت قد قلت والله ما آذيه وأنت ممن يوثق بيمينه، ولا يشك في دينه، فقال: يا شرف الدين وأزيدك هات المصحف، فجاءوا بالمصحف فقال له: حلفني عليه أنني ما آذي قراسنقر في نفسه ولا أمكن من يؤذيه فيها.
فعاد القاضي شرف الدين إليه وعرفه بذلك، فقال: الساعة يا شرف الدين طاب الحبس، جزاك الله الخير.
ولم يزل كذلك إلى أن قتل لاجين، وجاءت الأيام الناصرية في النوبة الثانية، فأطلق وأعطي الصبيبة فبقي بها مديدة، ونقل إلى نيابة حماة بعد العادل كتبغا.
فلما مات الطباخي نقل قراسنقر إلى حلب نائبا وأعطيت حماة لقبجق.
ولم يزل قراسنقر بحلب نائبا إلى أن خرج الملك الناصر محمد من الكرك وجاء إلى دمشق فحضر إليه، فركب السلطان لتلقيه، فالتقيا بالميدان الكبير، وترجل السلطان له وعانقه وقبل صدره، وبه استتم أمره واستتب له الملك.
وكان ابنه الأمير ناصر الدين محمد هو الذي استمال أباه قراسنقر للملك الناصر، فشرع بذلك المظفر فيقال إنه سمه.
وأخذ قراسنقر في تدبير الملك، والسلطان تبع له فيما يراه، ووعده بكفالة الممالك والنيابة العامة بمصر.
فلما وصل إلى مصر قال له: الشام بعيد عني وما يضبطه غيرك، فأخرجه لنيابة دمشق وقال له: هذا الجاشنكير خرج إلى صهيون فتمسكه وتحضر به لتنفق على المصلحة، فخرج واجتهد على إمساك الجاشنكير، فلما أحضره إلى الصالحية أتاه أسندمر كرجي من مصر بمرسوم السلطان بأن يسلمه إليه ويتوجه، فسلمه إليه وتوجه إلى دمشق ودخلها يوم الاثنين خامس عشري ذي القعدة سنة تسع وسبعمائة ونزل بالقصر الأبلق وقد نفض يده من طاعة السلطان، فغير أنه حمل الأمر على ظاهره ولم يفسد السلطان بكشف باطنه.
وأقام بدمشق على أوفاز فما حل بها أحمالا، ولا خزن بها غلة، ولا تقيد فيها بشيء، وأخذ فيها أمره بالحزم، وجعل له مماليك بطفس، ومماليك بالصنمين، وعينا ببيسان.
وكان إذا وصل أحد من مصر ممن يتوهم منه بطقوا من بيسان بطاقة منقولة إليه.
فإذا وصل الواصل من مصر إلى طفس تلقته مماليك قراسنقر ونوابه، وقدموا له ما يأكل وما يشرب، ثم يأتي إلى الصنمين فيفعلون به أولئك كذلك ليشغلوه في كل منزلة بالأكل والشرب والتكبيس إلى أن يبلغ الخبر قراسنقر، وهجنه وخيله كلها محصلة، فيستعد لما يريد فعله.
ثم إن الواصل من مصر إذا أتى الصنمين ركب معه من مماليك قراسنقر من يوصله إليه بجميع من معه من المماليك والغلمان والسواقين حتى لا ينفرد أحد منهم بشيء خشية من كتب تكون معه فيرسل بها من يفرقها.
ثم إنه ينزله هو وكل من معه عنده ولا يدعه يجد محيصا. فلما أتاه الأمير سيف الدين أرغون الدوادار أنزله عنده، ولم يمكنه من الخروج خطرة، وأنزل مماليكه عند مماليكه، وكان عنده كأنه تحت الترسيم، وفتح أجربتهم وفتق نمازنيات سروجهم، فوجدوا فيها الملطفات بإمساكه، فأعادها إلى أماكنها وطاوله إلى أن نجز حاله ولا يظهر له شيئا مما فهمه، وغالطه بالبسط والانشراح.
قال: حكى لي الصاحب عز الدين ابن القلانسي قال: أتيت قراسنقر، وكان يأنس إلي، وقلت له: ما هذا الذي أسمعه فإن الناس نوحوا بإمساكه؟ فقال: اصبر حتى أمزجك. ثم قال لأرغون: بأي شيء غويتم أنتم، فإنا نحن كنا غاوين بالعلاج والصراع.
وحدثته في مثل هذا فقال أرغون: ونحن هكذا، فقال: أنت أيش تعمل؟ قال: أصارع، فأحضر قراسنقر مصارعين تصارعوا قدامه، ثم لم يزل به حتى قام أرغون وصارع قدامه، فبقي قراسنقر يتطلع إلي ويقول: يا مولانا ابصر من جاء يمسكني، انتهى.
قال: وفهم بيبرس العلائي الحال من غير أن يقال له، فركب على سبيل الاحتياط على أنه يمسكه، فبعث يقول له: إن كان جاءك مرسوم من أستاذي أوقفني عليه فما عندي إلا السمع والطاعة، وإن كان جاءك مرسوم خلني، وإلا أنا أركب وأقاتل، إما أنتصر أو أقتل أو أهرب، ويكون عذري قائما عند أستاذي، وأبعث أقول له: إنك أنت الذي هربتني. فتخيل بيبرس العلائي وراح إلى بيته.
وكان نيابة حلب قد خلت، وقد بعث السلطان مع أرغون إليه تقليدا بنيابتها، وفيه اسم النائب خاليا، وقال له: اتصرف في هذه النيابة، وعينها لمن تختاره فهي لك، إن اشتهيت تأخذها خذها، وإن أردتها لغيرك فهي له.
وكان في تلك المدة كلها يبعث قراسنقر إلى السلطان ويقول: يا خوند، أنا قد ثقل جناحي في حلب بكثرة علائقي بها وعلائق مماليكي، ولو تصدق السلطان بعودي إليها كنت رحت إليها.
فلما كان من بيبرس العلائي ما كان، قال لأرغون: أنا قد استرخت الله تعالى وأنا رايح إلى حلب، ثم قام وركب ملبسا تحت الثياب من وقته، وركب مماليكه معه هكذا، وخرج إلى حلب وأرغون معه إلى جانبه ما يفارقه، والمماليك حوله لا يمكن الأمراء من الدخول إليه ولا التسليم عليه.
وخرج على حمية إلى حلب في يوم الأحد ثالث المحرم سنة إحدى عشرة وسبعمائة وأقام بها وهو على خوف شديد، ثم طلب الدستور للحج، فلما كان بزيزاء أتته رسل السلطان تأمره بأن يأتي الكرك ليأخذ ما أعده السلطان هناك من الإقامات، فزاد تخيله وكثر تردد الرسل في هذا، فعظم توهمه وركب لوقته وقال: أنا ما بقيت أحج، ورمى هو وجماعة ما لا يحصى من الزاد، وأخذ مشرقا يقطع عرض السماوة حتى أتى مهنا بن عيسى ونزل عليه واستجار به؛ وأتى حلب فوقف بظاهرها حتى أخرجت مماليك قراسنقر ما كان لهم بها مما أمكنهم حمله بعد ممانعة قرطاي دون ذلك، وركوبه بالجيش للممانعة، ولكنه لم يقدر على مدافعة مهنا بن عيسى.
ثم لم يزل يكاتب الأفرم حتى جاء هو والزردكاش ومهنا يستعطف لهم خاطر السلطان على أن يعطيه البيرة ويعطي الأفرم الرحبة، والمزردكاش بهنسا، والسلطان يقول: بل الصبيبة وعجلون والصلت.
فهموا بالمقام مع العرب، وعملوا على هذا وتهيأوا لإزاحة العذر فيه، فلما طالت المدة بهم ضاقت أعطانهم وأعطان مماليكهم أكثر لأنهم لا يلائم العرب صحبة الأتراك وقشف البادية وخشونة عيشها، وشرعوا في الهرب.
فخاف قراسنقر من الوحدة فقال لمهنا في هذا، فقال له: أنا كنت أريد أحدثك في هذا، ولكن خشيت أن تظن أني استثقلت بكم، لا والله ولكن أنتم ما يضمكم لا الحاضرة والمدن، وهذا قد تخبث لكم، وأنتم يد تخبثتم له، وما بقي إلا ملك الشرق، يعني السلطان خربندا، وهو كما أسمع ملك كريم محسن إلى من يجيه ويقصده، فدعوني أكتب إليه بسببكم، فوافقوه على هذا فكتب لهم، فعاد جواب خربندا بأن يجهزهم إليه ويعدهم بالإحسان، فتوجهوا إليه فوجدوا منه ما أنساهم مصيبتهم وسلاهم عن بلادهم.
قال: حكى لي شيخنا واحد الدهر شمس الدين الأصبهاني قال:
لما جاءوا أمر السلطان خربندا الوزير أن يبصر كم كان لكل واحد منهم من مبلغ الإقطاع ليعطيهم نظيره، فأعطاهم على هذا الحكم.
فأعطى قراسنقر مراغة، وأعطى الأفرم همذان، وأعطى الزردكاش نهاوند، وتفقدهم بالإنعام حتى غمرهم.
وقال: لقد كنت حاضرا يوم وصولهم، واختبرهم في الحديث، فقال عن قراسنقر: هذا أرجحهم عقلا لأنه قال لكل واحد منهم: أيش تريد. فقال شيئا، فقال قراسنقر: ما أريد إلا امرأة كبيرة القدر أتزوج بها، فقال: هذا كلام من يعرفنا أنه ما جاء إلا مستوطنا عندنا، وأنه ما بقي له عودة إلى بلاده، فعظم عنده بهذا، وأجلسه فوق الأفرم وسنى له العطايا أكثر منه، وزوجه بنت قطلوشاه، وسماه آقسنقر لأن المغل يكرهون السواد ويتشاءمون به.
قال القاضي شهاب الدين:
وكان خربندا وابنه بوسعيد يحضران قراسنقر في الألطاغ والأرغو معهما دون الأفرم، وهما من مواضع المشورة والحكم.
وامتد عمر قراسنقر بعد الأفرم، ووقع عليه الفداوية مرات ولم يقدر الله تعالى أن ينالوا منه شيئا، وما قدرا عليه إلا مرة واحدة وهو بباب الكرباش منزل القان، فإنهم وثبوا عليه وهو بين أمراء المغل فخدش في ساقه خدشا هينا، وتكاثر المماليك والمغل على الواقع فقطعوه، ولم يتأثر قراسنقر لذلك.
قلت: قال إن الذي هلك بسببه من الفداوية ثمانون رجلا.
حكى لي مجد الدين السلامي قال:
كنا يوم عيد بالأردو، وجوبان وولده دمشق خواجا إلى جانبه، وقراسنقر جالس إلى جانبه، وهو قاعد فوق أطراف قماش دمشق خواجا، فوقع الفداوي عليه، فرأى دمشق خواجا السكين في الهواء وهي نازلة، فقام هاربا، فبسبب قيامه لما نهض مسرعا تعلق بقماشه تحت قراسنقر، فدفع قراسنقر ليخلص، فخرج قراسنقر من موضعه وراحت الضربة ضائعة في الهواء، ووقع مماليك قراسنقر على الفداوي فقطعوه قطعا.
والتفت قراسنقر إلي وقال: هذا كله منك، وما كان هذا الفداوي إلا عندك مخبوءا، وأخذ في هذا وأمثاله، ونهض إلى السلطان بوسعيد وشكا إليه، ودخلت أنا وجوبان خلفه، فقال للسلطان بوسعيد: يا خوند إلى متى هذا بالله؟ اقتلني حتى أستريح. والله زاد الأمر وطال، وأنا فقد التجأت إليكم ورميت نفسي عليكم واستجرت بكم، والعصفور يستند إلى غصن شوك يقيه من الحر والبرد.
فانزعج السلطان بوسعيد لهذا الكلام وقال لي بغيظ: إلى متى هذا وأنت عندنا، والفداوية تخبأهم عندك لهذا. فقلت: وحياة رأس القان ما كان عندي، وإنما حضر أمس مع فلان، ولكن هذا أخوك السلطان الملك الناصر قد قال غير مرة: إن هذا مملوكي ومملوك أخي ومملوك أبي وقد قتل أخي، وما أرجع عن ثأر أخي ولو أنفقت خزاين مصر على قتل هذا، وهذا دخل إليكم قبل الصلح بيننا وهو مستثنى من الصلح، فعند ذلك قال جوبان: هذا حقه، نحن ما ندخل بينه وبين مملوكه قاتل أخيه، وخرج فانفصلت القضية.
وحكى علاء الدين علي بن العديل القاصد قال: توجهنا مرة ومعنا أربعة من الفداوية لقراسنقر، فلما قاربنا مراغة وبقي بيننا وبينها يوم - أو قال يومان - ونحن في قفل تجار، والفداوية مستورون: أحدهم جمال، والآخر عكام والآخر مشاعلي والآخر رفيق، فما نشعر إلا والألجية قد وردوا علينا، فتقدموا إلى أولئك الأربعة وأمسكوهم واحدا واحدا من غير أن يتعرضوا إلى أحد غيرهم في القفل، وتوجهوا بهم إلى قراسنقر فقتلهم، وكذلك فعل بغيرهم وغيرهم.
قلت: الظاهر أنه كان له عيون تطالعه بالأخبار وتعرفه المتجددات من دمشق ومن مصر، فإنه كان في هذه البلاد نائبا وجهز جماعة من الفداوية ويعرف قواعد هذه البلاد وما هي عليه، وما كان ممن يغفل عن أمر الفداوية وما كان يؤتى إلا منهم.
قال القاضي شهاب الدين: ومات في عزه وجاهه وسعادته معظما بيت المغل كأنما عمره رب فيهم.
ويقال أنه ملك ثمانمائة مملوك، وعندي أنه لم يبلغ هذه العدة، وإنما كان عنده مماليك كثيرة جدا.
وحصل أموالا جمة، ويعطي الأموال الجمة لمماليكه وجماعته من الخيول المسومة والسروج الزرخونا والحوايص الذهب والكلاوت والطرز الزركش والأطلس والسمور وغير ذلك من كل مال فاخر.
وتأمر في حياته بنوه: الأمير ناصر الدين محمد تقدمة ألف، والأمير علاء الدين علي طبلخاناه، وفرج بعشرة، وتأمر له عدة مماليك مثل بيخان ومغلطاي وبلبان جهاركس بطبلخاناه وبهادر وعبدون بعشرات.
قال شهاب الدين ابن الضيعة النقيب:
لما جاءت العساكر الحلبية مع قراسنقر إلى دمشق سنة تسع وسبعمائة، كان ثلث الجيش يحمل رنك قراسنقر لأنهم أولاده وأتباعه ومماليكه وأتباعهم.
وكان في حلب والأمراء الحكام في مصر مثل سلار والجاشنكير وغيرهما يخافونه ويدارونه ولا يخالفون أمره.
وكان مع هذه العظمة الكبيرة والسؤدد الزايد يداري بماله ويصانع حاشية السلطتان حتى الكتاب والغلمان، فيقال له في ذلك فيقول: ما يعرف الإنسان كيف تدور الدوائر، وواحد من هؤلاء يجيء له وقت تفلح منه كلمة تعمر ألف بيت وتخرب ألف بيت.
وكان يرى أخذ الأموال ولا يرى إهراق الدماء، فحقن الله دمه وأذهب ماله.
قال القاضي شهاب الدين: حكى لي الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري الصوفي قال: كان ابن عبود إذا عمل المولد الشريف النبوي حضر إليه الأمراء وسائر الناس، فعمل المولد مرة في سنة من السنين، فحضره قراسنقر، وكان في المولد رجل صالح مغربي يعرف بالمراكشي، فلما مدت الأسمطة قام قراسنقر وقلع سيفه وتشمر ومد السماط المختص بالفقراء وقدم بيده الطعام وشرع يقطع المشوي لهم ولا يدع أحدا يتولى خدمتهم سواه، فقال المراكشي: من هذا؟ قالوا له: هذا الأمير شمس الدين قراسنقر أمير كبير، صفته نعته، ومكانته من الدولة كبيرة، فقال: لا إله إلا الله، يعيش سعيدا وتنزل به في آخر عمره كاينة، ويخلص منها ويخلص بسببه غيره ويسلم، وما يموت إلا على فراشه.
وكان لا يأخذ من أحد شيئا إلا ويقضي شغله ويفيده قدر ما أخذ منه مرات مضاعفة، وأين مثله أو من يقارب فعله؟
حكي أن شخصا من أبناء الأمراء الكبراء بحلب كان يحب صبيا اشتهر به وعرف بحبه، فاتفق أن ذلك الصبي غاب فاتهمه أهله بدمه وشكوه إلى الوالي، فأحضره وقرره بالضرب والتعليق فلم يصبر وقال: قتلته، فألزم به وأودع الحبس على دمه، وكان بريا منه، فتحيل في إرسال شيء خدم به قراسنقر، فأمر أن ينظر ولا يعجل عليه، فما مضت مدة حتى جاء كتاب نائب البيرة يخبر بأنه قد أنكر على صبي من أبناء النعمة مع جماعة من الفقراء قصدوا الدخول إلى ماردين، وأنه رده إلى حلب ليحقق أمره.
فلما جاء إذا به ذلك الصبي بعينه وظهرت براءة المتهم به. وخلي سبيله. وغفل عنه قراسنقر مدة لا يذكره إلى أن مات أمير بحلب وخلف نعمة طائلة ولا وارث له.
فلما أتاه وكيل بيت المال والديوان يستأذنونه في الحوطة عليه قال: هذا مال كثير أريد واحدا من جهتي يكون معكم. وطلب ذلك الرجل وأمره أن يكون معهم، فحصل من تلك التركة محصولا جيدا وعمل به ذهبا أضعاف ما أعطى قراسنقر أولا، وأتى بالذهب إلى قراسنقر وقال: يا خوند هذا الذي تحصل، فقال: بارك الله لك فيه، نحن أخذنا نصيبنا منك أولا سلفا.
وكانت وفاته رحمه الله بمراغة في شوال سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وفي ترجمة تمرتاش شيء من ذكره.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 24- ص: 0