محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، أبو علي: ذكره الخطيب في «تاريخه» فقال: روى عن أبي عمر وغيره أخبارا في مجالس الأدب، قلت أنا: وأدرك ابن دريد وأخذ عنه، وهو من حذاق أهل اللغة والأدب شديد العارضة، وكان مبغضا إلى أهل العلم، فهجاه ابن الحجاج وغيره بأهاج مرة. ومات سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
وذكره الثعالبي في كتاب «يتيمة الدهر» فقال: محمد بن الحسن الحاتمي حسن التصرف في الشعر موف على كثير من شعراء العصر، وأبوه أيضا شاعر، وأبو علي شاعر كاتب يجمع بين البلاغة في النثر والبراعة في النظم، وله الرسالة المعروفة في وقعة الأدهم، قال: وليس يحضرني من شعره إلا بيتان:
لي حبيب لو قيل لي ما تمنى | ما تعديته ولو بالمنون |
أشتهي أن أحل في كل جسم | فأراه بلحظ تلك العيون |
قال: ومما اخترته لأبيه قوله من قصيدة في القادر بالله أمير المؤمنين رحمه الله، أولها:
حي رسم الغميم تحي الغميما | إن فقدت الهوى فحي الرسوما |
وذكر قصيدة.
وذكره أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحصري في «كتاب النورين» وذكر أشعارا في قصر الليل وطوله فقال: وقال بعض أهل العصر وهو أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي:
يا رب يوم سرور خلته قصرا | كعارض البرق في أفق الدجى برقا |
قد كاد يعثر أولاه بآخره | وكاد يسبق منه فجره الشفقا |
كأنما طرفاه طرف اتفق ال | جفنان منه على الإطراق وافترقا |
قال: وقد ملح الحاتمي في وصف الثريا:
وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا | إلى أن بدا للصبح في الليل عسكر |
ونجم الثريا في السماء كأنه | على حلة زرقاء جيب مدنر |
وللحاتمي تصانيف عدة منها: كتاب حلية المحاضرة في صناعة الشعر .
كتاب الموضحة في مساوي المتنبئ. كتاب الهلباجة في صنعة الشعر. كتاب سر الصناعة في الشعر أيضا. كتاب الحالي والعاطل في الشعر أيضا. كتاب المجاز في الشعر أيضا. كتاب الرسالة الناجية. كتاب مختصر العربية. كتاب في اللغة لم يتم.
كتاب عيون الكاتب. كتاب الشراب رسالة. كتاب منتزع الأخبار ومطبوع الأشعار.
كتاب البراعة. كتاب المعيار والموازنة لم يتم. كتاب المغسل وهي الرسالة الباهرة في خصال أبي الحسن البتي.
قرأت في «كتاب الهلباجة» من تصنيفه، وهو كتاب صنفه للوزير أبي عبد الله ابن سعدان في رجل سبعه عنده وسمى الرجل الهلباجة من غير أن يصرح باسمه قال فيه: وقد خدمت سيف الدولة، تجاوز الله عن فرطاته، وأنا ابن تسع عشرة سنة، تميل بي سنة الصبا وتنقاد بي أريحية الشباب، بهذا العلم، وكان كلفا به علقا علاقة المغرم بأهله، منقبا عن أسراره، ووزنت في مجلسه، تكرمة وإدناء وتسوية في الرتبة ولم تسفر خداي عن عذاريهما، بأبي علي الفارسي، وهو فارس العربية وحائز قصب السبق فيها منذ أربعين سنة، وبأبي عبد الله ابن خالويه وكان له السهم الفائز في علم العربية تصرفا في أنواعه، وتوسعا في معرفة قواعده وأوضاعه، وبأبي الطيب اللغوي وكان كما قيل: حتف الكلمة الشرود حفظا وتيقظا، ونازعت العلماء ومدحت في مصنفاتهم، وعددت في الأفراد الذين منهم أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني، وأبو سعيد المعلى وقدحه الأعلى، واتخذت بعضا ممن كان يقع الايماء إليه سخرة وأنا إذ ذاك غزير الغرارة تميد بي أسرار السرور، ويسري علي رخاء الاقبال، وأختال في ملاءة العز، في بلهنية من العيش وخفض من النعيم، وخطوب الدهر راقدة وأيامه مساعدة.
وأنشد لنفسه في هذا الكتاب يمدح سيف الدولة:
تأوبنى هم من الليل وارد | وعاودني من لاعج الوجد عائد |
فبت قضيض الجنب مسترجف الحشا | كأني سقتني سمهن الأساود |
كأن القنا فيه على القرن ضاغن | وحد الحسام الهندواني حاقد |
فصمت به الاشراك وهو مقوم | وقومت دين المصطفى وهو مائد |
فلا يشفق الاسلام من سوء عثرة | وفي الروع من آل ابن حمدان ذائد |
وأنشد لنفسه في هذا الكتاب أبياتا ضمنها أعجاز أبيات للنابغة وهي في «الحماسة»:
لا يهنأ الناس ما يرعون من كلأ | وما يسوقون من أهل ومن مال |
فقال الحاتمي:
وليلة ضل عنها الصبح داجية | لبستها بمطول الجري هطال |
وقد رمى البين شعب الحي فاقتسموا | أيدي سبا بين تقويض وترحال |
فناسبت أنجم الآفاق عيسهم | «وما يسوقون من أهل ومن مال» |
ترى الهلال نحيلا من مطالعه | «أمسى ببلدة لا عم ولا خال» |
والجدي كالطرف يستن المراح به | «إلى ذوات الذرى حمال أثقال» |
والليل والصبح في غبراء مظلمة | «هذا عليها وهذا تحتها بال» |
وفي هذا الكتاب لنفسه في الهلباجة الذي صنف الكتاب لأجله:
لقد سخف الفعلي لما تحذفا | فنكر في تعريفه ما تعرفا |
ويا رب وجه حذفوه لزينة | فأصبح من قبح لصاحبه قفا |
وهذه مخاطبة جرت بين أبي الطيب المتنبي وبين أبي علي الحاتمي حكيتها كما وجدتها: قال أبو علي الحاتمي: كان أبو الطيب المتنبي عند وروده مدينة السلام التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعر خده، ونأى بجانبه، وكان لا يلقى أحدا إلا نافضا مذرويه، رافلا في التيه في برديه، يخيل إليه أن العلم مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يغترف نمير مائه غيره، وروض لم يرع نواره سواه، فأدل بذلك مديدة أجرته رسن الجهل فيها، فظل يمرح في ثنييه، حتى إذا تخيل أنه القريع الذي لا يقارع، والنزيع الذي لا يجارى ولا ينازع، وأنه رب الغلب ومالك القصب، وثقلت وطأته على أهل الأدب بمدينة السلام، فطأطأ كل منهم رأسه وخفض جناحه وطامن
على التسليم له جأشه، تخيل أبو محمد المهلبي أن أحدا لا يقدر على مساجلته ومجاراته، ولا يقوم لتتبعه بشيء من مطاعنه، وساء معز الدولة أن يرد عن حضرة عدوه رجل فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته ويساويه في منزلته، نهدت حينئذ متتبعا عواره، ومتعقبا آثاره، ومطفيا ناره، ومهتكا أستاره، ومقلما أظفاره، وناشرا مطاويه، وممزقا جلباب مساويه، متحينا أن نجتمع، وأجري وهو في مضمار يعرف فيه السابق من المسبوق، حتى إذا لم أجد ذلك قصدت موضعه الذي كان يحله في ربض حميد، فوافق مصيري إليه حضور جماعة تقرأ شيئا من شعره عليه، فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعا، ووارى شخصه عني مستخفيا، فنزلت عن بغلة كانت تحتي ناجية وهو يراني نازلا عنها لانتهائي بها إلى أن حاذيته، فجلست في موضعه، وإذا تحته قطعة من زيلوبة مخلقة قد أكلتها الأيام وتعاورتها السنون فهي رسوم خافية وسلوك بادية، حتى إذا خرج إلي نهضت إليه فوفيته حق السلام غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه ألا ينهض لي عند موافاتي، وإذا هو قد لبس سبعة أقبية: كل قباء منها لون، وكان الوقت أحر أيام الصيف وأخلقها بتخفيف اللبس، فجلست وجلس، وأعرض عني ساعة لا يعيرني فيها طرفه ولا يسألني ما قصدت له، وقد كدت أتميز غيظا، وأقبلت أسخف رأيي في قصده، وأفند نفسي في التوجه نحو مثله، ولوى عذاره عني مقبلا على تلك الزعنفة التي بين يديه: كل واحد يومئ إليه ويوحي بطرفه ويشير إلى مكاني بيده ويوقظه من سنة جهله، ويأبى إلا ازورارا ونفارا وجريا على شاكلة خلقه المشكلة، ثم رأى أن يثني رأسه إلي، فوالله ما زادني على أن قال: أيش خبرك؟ قلت: أنا بخير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك، وكلفت قدمي في المصير إلى مثلك. ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى القرار وقلت له: أبن لي عافاك الله مم تيهك وخيلاؤك وعجبك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبر والتنمر؟ هل هاهنا نسب في الأبطح تبحبحت في بحبوحة الشرف وفرعت سماء المجد به؟ أم علم أصبحت علما يقع الايماء إليك فيه؟
هل أنت إلا وتد بقاع في شر البقاع وجفاء سيل بدفاع؟ يا لله، استنت الفصال حتى القرعى، وإني لأسمع جعجعة ولا أرى طحنا. فامتقع لونه عند سماع كلامي وعصب ريقه وجحظت عيناه وسقط في يده، وجعل يلين في الاعتذار لينا كاد يعطف عليه
عطف صفحي عنه، ثم قلت: يا هذا إن جاءك رجل شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه لم تعرف موضعه، فهل العز تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، لكنك مددت الكبر سترا على نقصك، وضربته رواقا دون جهلك. فعاد إلى الاعتذار، وأخذت الجماعة في تليين جانبي والرغبة إلي في قبول عذره واعتماد مياسرته، وأنا آبى إلا استشراء واجتراء، وهو يؤكد الأقسام ويواصلها أنه لم يعرفني، فأقول: يا هذا ألم يستأذن لي عليك باسمي ونسبي؟ أما في هذه العصابة من يعرفك بي لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك، ألم ترني ممتطيا بغلة رائعة يعلوها مركب ثقيل، وبين يدي عدة من الغلمان؟ أما شاهدت لباسي؟ أما شممت نشر عطري؟ أما راعك شيء من أمري أتميز به في نفسك من غيري؟ وهو في أثناء ما أكلمه يقول: خفض عليك، ارفق، استأن، فأصحب جانبي بعض الإصحاب، ولان شماسي بعض الليان، وأقبل علي وأقبلت عليه ساعة ثم قلت:
أشياء تختلج في صدري من شعرك احب أن أراجعك فيها. قال: وما هي؟ قلت:
خبرني عن قولك:
فإن كان بعض الناس سيفا لدولة | ففي الناس بوقات لها وطبول |
أهكذا تمدح الملوك؟ وعن قولك:
ولا من في جنازتها تجار | يكون وداعهم نفض النعال |
أهكذا تؤبن أخوات الملوك والله لو كان هذا في أدنى عبيدها لكان قبيحا وأخبرني عن قولك:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع | فإن لحت حاضت في الخدور العواتق |
أهكذا تنسب بالمحبوبين؟ وعن قولك في هجاء ابن كيغلغ:
وإذا أشار محدثا فكأنه | قرد يقهقه أو عجوز تلطم |
أما كان لك في أفانين الهجاء التي تصرفت فيها الشعراء مندوحة عن هذا الكلام الرذل الذي ينفر عنه كل طبع ويمجه كل سمع؟ وعن قولك:
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم | إذا رأى غير شيء ظنه رجلا |
أفتعلم مرئيا يتناوله النظر لا يقع عليه اسم شيء؟ وما أراك نظرت إلا إلى قول جرير:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم | خيلا تكر عليهم ورجالا |
فأحلت المعنى عن جهته وعبرت عنه بغير عبارته، وعن قولك:
أليس عجيبا أن وصفك معجز | وأن ظنوني في معاليك تظلع |
فاستعرت الظلع لظنونك، وهي استعارة قبيحة، وتعجبت من غير متعجب لأن من أعجز وصفه لم يستنكر قصور الظنون وتحيرها في معاليه، وإنما نقلته- وأفسدته- من قول أبي تمام:
ترقت مناه طود عز لو ارتقت | به الريح فترا لانثنت وهي ظالع |
وعن قولك تمدح كافورا:
فإن نلت ما أملت منك فربما | شربت بماء يعجز الطير ورده |
إنها مدح أو ذم؟ قال: مدح، قلت: انك جعلته بخيلا لا يوصلك إلى خيره من جهته، وشبهت نفسك في وصولك إلى ما وصلت إليه منه بشربك من ماء يعجز الطير ورده لبعده وترامي موضعه.
وأخبرني أيضا عن قولك في صفة كلب وظبي:
فصار ما في جلده في المرجل | فلم يضرنا معه فقد الأجدل |
فأي شيء أعجبك من هذا الوصف: أعذوبة عبارته أم لطف معناه؟ أما قرأت رجز ابن هانئ وطرد ابن المعتز؟ أما كان هناك من المعاني التي ابتدعها هذان الشاعران وغرر المعاني التي اقتضباها ما تتشاغل به عن بنيات صدرك هذه؟ وألا اقتصرت على ما في أرجوزتك هذه من الكلام السليم ولم تسف إلى هذه الألفاظ القلقة والأوصاف المختلقة.
فأقبل علي ثم قال: أين أنت من قولي:
كأن الهام في الهيجا عيون | وقد طبعت سيوفك من رقاد |
وقد صغت الأسنة من هموم | فما يخطرن إلا في فؤاد |
وأين أنت من قولي في صفة جيش:
في فيلق من حديد لو رميت به | صرف الزمان لما دارت دوائره |
وأين أنت من قولي:
لو تعقل الشجر التي قابلتها | مدت محيية إليك الأغصنا |
وأين أنت من قولي:
أينفع في الخيمة العذل | ويشمل من دهره يشمل |
وما اعتمد الله تقويضها | ولكن أشار بما تفعل |
وفيها أصف كتيبة:
وملمومة زرد ثوبها | ولكنها بالقنا مخمل |
وأين أنت عن قولي:
الناس ما لم يروك أشباه | والدهر لفظ وأنت معناه |
والجود عين وأنت ناظرها | والبأس باع وفيك يمناه |
أما يلهيك إحساني في هذه عن إساءتي في تلك؟ قلت: ما أعرف لك إحسانا في جميع ما ذكرته، إنما أنت سارق متبع وآخذ مقصر، وفي ما تقدم من هذه المعاني التي ابتكرها أصحابها مندوحة عن التشاغل بقولك. فأما قولك:
#كأن الهام في الهيجا عيون....
(البيت) فهو منقول من بيت منصور النمري:
فكأنما وقع الحسام بهامه | خدر المنية أو نعاس الهاجع |
#وأما قولك «في فيلق»....
(البيت) فنقلته نقلا لم تحسن فيه، من قول الناجم:
ولي في حامد أمل بعيد | ومدح قد قدمت به طريف |
مديح لو مدحت به الليالي | لما دارت علي به صروف |
والناجم إنما نظمه من قول ارسطاطاليس «قد تكلمت بكلام لو مدحت به الدهر لما دارت علي صروفه». وأما قولك
#لو تعقل الشجر التي قابلتها ....
(البيت) فهذا معنى متداول تساجلته الشعراء وأكثرت فيه، فمن ذلك قول الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته | ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم |
ثم تكرر في أفواه الشعراء إلى أن قال أبو تمام:
لو سعت بقعة لإعظام أخرى | لسعى نحوها المكان الجديب |
وأخذه البحتري فقال:
لو أن مشتاقا تكلف غير ما | في وسعه لمشى إليك المنبر |
وأما قولك «وما اعتمد الله تقويضها» فقد نظرت فيه إلى قول رجل مدح بعض الأمراء بالموصل، وقد كان عزم على السير فاندق لواؤه فقال:
ما كان مندق اللواء لريبة | تخشى ولا أمر يكون مزيلا |
لكن لأن العود ضعف متنه | صغر الولاية فاستقل الموصلا |
وأما قولك «وملمومة زرد ثوبها» فمن قول أبي نواس:
أمام خميس أرجوان كأنه | قميص محوك من قنا وجياد |
وأما قولك «الناس ما لم يروك أشباه» فمن قول علي بن نصر بن بسام في عبيد الله بن سليمان يرثيه:
قد استوى الناس ومات الكمال | وصاح صرف الدهر أين الرجال |
هذا أبو القاسم في نعشه | قوموا انظروا كيف تزول الجبال |
فقوله «قد استوى الناس ومات الكمال» هو قولك «الناس ما لم يروك أشباه»، فقال بعض من حضر: ما أحسن قوله «قوموا انظروا كيف تزول الجبال» فقال أبو الطيب: اسكت ما فيه من حسن، ألم يسرقه من قول النابغة الذبياني:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم | وكيف بحصن والجبال جنوح |
فقال الحاتمي: فقلت قد سرقه النابغة من أوس حين قال:
ألم تكسف الشمس شمس النها | ر والبدر للقمر الواجب |
لفقد فضالة لا تستوي ال | فقود ولا خلة الذاهب |
قلت: والله لئن كان أخذه فقد أحسن وأخفى الأخذ. فقال الرجل: أجل، فقال المتنبي: يا محسد، خذ بيده وأخرجه- يريد بمحسد ابنه- فوقفت إلى ان تركه.
ثم قلت له: وأما قولك «والدهر لفط وأنت معناه» فمنقول من قول الأخطل إن كان البيت له في عبد الملك بن مروان:
وان أمير المؤمنين وفعله | لكالدهر لا عار بما فعل الدهر |
وقد قال جرير حين قال له الفرزدق:
فإني أنا الموت الذي هو نازل | بنفسك فانظر كيف أنت تجاوله |
وقال جرير:
أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد | فجئني بمثل الدهر شيئا يطاوله |
ثم قلت له: أترى أن جريرا أخذ قوله «يفني الموت» من أحد وان أحدا شركه في إفناء الموت؟ ففكر طويلا ثم قال: لا، قلت: بلى عمران بن حطان حيث يقول:
لن يعجز الموت شيء دون خالقه | والموت فان إذا ما ناله الأجل |
وكل كرب أمام الموت متضع | بالموت والموت فيما بعده جلل |
فأمات الموت وأحياه وما سبقه إلى ذلك أحد.
ثم قلت له: أترى أن البيت المتقدم الذي يقول فيه «لكالدهر لا عار بما فعل الدهر» مأخوذ من أحد؟ فأطرق هنيهة ثم قال: وما تصنع بهذا؟ قلت: يستدل على موضعك ومواضع أمثالك من سرقة الشعر. فقال: الله المستعان «أساء سمعا فأساء جابة» ما أردت ما ذهبت إليه، قلت: فانه أخذه من قول النابغة وهو أول من ابتكره:
وعيرتني بنو ذبيان خشيته | وما علي بأن أخشاك من عار |
ثم أخذه أبو تمام فأحسن بقوله:
خشعوا لصولتك التي هي فيهم | كالموت يأتي ليس فيه عار |
قال: ومن أبو تمام؟ قلت: الذي سرقت شعره فأنشدته، قال: هذه خلائق السفهاء لا خلائق العلماء، قلت: أجل أنت سفهت رأيي ولم يكن سفيها، ألست القائل:
ذي المعالي فليعلون من تعالى | هكذا هكذا وإلا فلا لا |
شرف ينطح الثريا بروقي | ه وفخر يقلقل الأجبالا |
قال: بلى، قلت: فإنك أخذت البيت الأول من بيت بكر بن النطاح:
يتلقى الندى بوجه حيي | وصدور القنا بوجه وقاح |
هكذا هكذا تكون المعالي | طرق الجد غير طرق المزاح |
وأخذت البيت الثاني فأفسدته من قول أبي تمام:
همة تنطح الثريا وجد | آلف للحضيض فهو حضيض |
قال: وبأي شيء أفسدته؟ قلت: بأن جعلت للشرف قرنا، قال: وأنى لك بذلك؟ قلت: ألم تقل «ينطح السماء بروقيه» والروقان القرنان. قال: أجل إنما هي استعارة، قلت: نعم هي استعارة خبيثة. قال: أقسمت غير محرج في قسمي أنني لم أقرأ شعرا قط لأبي تمامكم هذا، فقلت: هذه سوءة لو سترتها كان أولى، قال:
السوءة قراءة شعر مثله، أليس هو الذي يقول:
خشنت عليه أخت بني خشين | وأنجح فيك قول العاذلين |
والذي يقول:
لعمري لقد حررت يوم لقيته | لو أن القضاء وحده لم يبرد |
والذي يقول:
تكاد عطاياه يجن جنونها | إذا لم يعوذها بنغمة طالب |
والذي يقول:
تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت | أعمارهم قبل نضج التين والعنب |
والذي يقول:
ولى ولم يظلم وهل ظلم امرؤ | حث النجاء وخلفه التنين |
والذي يقول:
فضربت الشتاء في أخدعيه | ضربة غادرته عودا ركوبا |
والذي يقول:
كانوا رداء زمانهم فتصدعوا | فكأنما لبس الزمان الصوفا |
والذي يقول:
أقول لقرحان من البين لم يضف | رسيس الهوى بين الحشا والترائب |
ما «قرحان البين» أخرس الله لسانه؟ فأحفظني ذلك وقلت: يا هذا من أدل الدليل على أنك قرأت شعر هذا الرجل تتبعك مساويه، فهل في الدلالة على اختلاقك إنكاره أوضح مما ذكرته؟ وهل يصم أبا تمام أو يسمه بميسم النقيصة ما عددته من سقطاته وتخونته من أبياته؟ وهو الذي يقول في النونية:
نوالك رد حسادي فلولا | وأصلح بين أيامي وبيني |
فهلا اغتفرت الأول لهذا البيت الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، وأما قوله:
تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت | أعمارهم قبل نضج التين والعنب |
فلهذا البيت خبر لو استقريت صحفه لأقصرت عمن تناولته بالطعن فيه. ثم قصصت الخبر وقلت: في هذه القصيدة ما لا يستطيع أحد من متقدمي الشعراء وأمراء الكلام وأرباب الصناعة أن يأتي بمثله. قال: وما هو؟ قلت: لو قال قائل إن أحدا لم يبتدئ بأوجز ولا أحسن ولا أخصر من قوله:
السيف أصدق إنباء من الكتب | في حده الحد بين الجد واللعب |
لما عنف في ذلك. وفيها يقول:
رمى بك الله برجيها فهدمها | ولو رمى بك غير الله لم يصب |
وفيها يقول:
لما رأى الحرب رأي العين توفلس | والحرب مشتقة المعنى من الحرب |
وفيها يقول:
فتح تفتح أبواب السماء له | وتبرز الأرض في أبرادها القشب |
وفيها يقول:
بكر فما افترعتها كف حادثة | ولا ترقت إليها همة النوب |
وفيها يقول:
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى | يشله وسطها صبح من اللهب |
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت | عن لونها وكأن الشمس لم تغب |
وفيها يقول:
أجبته معلنا بالسيف منصلتا | ولو أجبت بغير السيف لم تجب |
وأما قوله «أقول لقرحان من البين» فانه يريد رجلا لم يقطعه أحبابه ولم يبينوا عنه قبل ذلك، وإذ كانت حاله كذلك كان موقع البين أشد عليه وأفت في عضده، والأصل في هذا أن القرحان الذي لم يجدر قط، وقد قال جرير:
وكنت من زفرات البين قرحانا
وفي هذه القصيدة من المعاني الرائعة والتشبيهات الواقعة والاستعارات البارعة ما يغتفر معه هذا البيت وأمثاله، على أنا أبنا عن صحة معناه وعن أمثاله، فمن ذلك:
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد | تقطع ما بيني وبين النوائب |
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل | كسته يد المأمول حلة خائب |
وأحسن من نور يفتحه الندى | بياض العطايا في سواد المطالب |
وقد علم الأفشين وهو الذي به | يصان رداء الملك عن كل جاذب |
بأنك لما استحنك النصر واكتسى | أهابي تسفى في وجوه التجارب |
تجللته بالرأي حتى رأيته | به ملء عينيه مكان العواقب |
بأرشق إذ سالت عليهم غمامة | جرت بالعوالي والعتاق الشوازب |
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت | حياضك منه في العصور الذواهب |
ولكنه فيض العقول إذا انجلت | سحائب جود أعقبت بسحائب |
فبهره مما أوردته ما قصر عنان عبارته، وحبس بنيات صدره، وعقل عن الإجابة لسانه، وكاد يشغب لولا ما تخوفه من عاقبة شغبه، وعرفه من مكاني في تلك الأيام، وأن ذلك لا يتم له، فما زاد على أن قال: قد أكثرت من أبي تمام لا قدس الله أبا تمام وذويه. قلت: ولا قدس السارق منه والواقع فيه.
ثم قلت له: ما الفرق في كلام العرب بين التقديس والقداس والقداس والقادس، فقال: وأيش غرضك في هذا؟ فقلت: المذاكرة، فقال: بل المهاترة ثم قال: التقديس التطهير في كلام العرب، ولذلك سمي القدس قدسا لأنه يشتمل على الذي به الطهور، وكل هذه الأحرف تؤول إليه، فقلت له: ما أحسبك أنعمت النظر في شيء من علوم العرب، ولو تقدمت منك مطالعة لها لما استجزت أن تجمع بين معاني هذه الكلمات مع تباينها، وذلك لأن القداس بتشديد الدال حجر يلقى في البئر ليعلم به غزارة مائها من قلته، حكى ذلك ابن الأعرابي، والقداس الجمان، حكى ذلك الخليل واستشهد بقوله كنظم جمان سلكه متقطع. والقادس السفينة، قال الشاعر بصف ناقة:
وتهفو بهاد لها متلع | كما اقتحم القادس الأردمونا |
فلما علوته بالكلام قال: يا هذا مسلمة إليك اللغة. قلت: وكيف تسلمها وأنت أبو عذرتها، ومن نصابها وسرها، وأولى الناس بالتحقق بها والتوسع في اشتقاقها والكلام على أفانينها، وما أحد أولى بأن يسأل عن لغته منك. فشرعت الجماعة الحاضرة في إعفائه وقبول عذره والتوطيء له، وقال كل منهم: أنت أولى بالمراجعة والمياسرة لمثل هذا الرجل من كل أحد. وكنت قد بلغت شفاء نفسي، وعلمت أن الزيادة على الحد الذي انتهيت إليه ضرب من البغي لا أراه في مذهبي، ورأيت له حق القدمة في صناعته، فطأطأت له كتفي، واستأنفت جميلا من وصفه، ونهضت فنهض لي مشيعا الى الباب حتى ركبت، وأقسمت عليه أن يعود إلى مكانه، وتشاغلت بقية يومي بشغل عن لي تأخرت معه عن حضرة المهلبي، وانتهى إليه الخبر وأتتني رسله ليلا فأتيته فأخبرته بالقصة على الحال، فكان من سروره وابتهاجه بما جرى ما بعثه على مباكرة معز الدولة، قال له: أعلمت ما كان من فلان والمتنبي؟ قال: نعم قد شفا منه صدورنا.