ابن جرير الطبري محمد بن جرير بن يزيد الطبري، ابو جعفر: المؤرخ المفسر الامام. ولد في آمل طبرستان، استوطن بغداد و توفي بها و عرض عليه القضاء فامتنع و المظالم فأبى. له (اخبار الرسل و الملوك-ط) يعرف بتاريخ الطبري في 11 جزءا و (جامع البيان في تفسير القران-ط) يعرف بتفسير الطبري في 30 جزءا و (اختلاف الفقهاء –ط) و (المسترشد) في علوم الدين و (القرا آت) و غير ذلك وهو من الثقات المؤرخين، قال ابن الاثير: ابو جعفر أوثق من نقل التاريخ و في تفسيره ما يدل على علم غزير و تحقيق و كان مجتهدا في احكام الدين لا يقلد احدا بل قلده بعض الناس و عملوا بقوله و ارائه و كان اسمر، أعين، نحيف الجسم، فصيحا.

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 6- ص: 69

ابن جرير الطبري رجلان سني وشيعي فالأول أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد وقيل يزيد بن كثير بن غالب صاحب التفسير والتاريخ

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 262

ابن جرير الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري وقيل يزيد بن كثير بن غالب صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير، كان إماما في فنون كثيرة منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك، وله مصنفات مليحة في فنون عديدة وكان من الأيمة المجتهدين لم يقلد أحدا وكان أبو الفرج المعافى بن زكرياء النهرواني الآتي ذكره إن شاء الله تعالى على مذهبه، وكان ابن جرير ثقة في نقله وتاريخ أصح التواريخ، ومن المنسوب إليه:

وأبو بكر الخوارزمي الشاعر ابن أخته، وكانت ولادة ابن جرير سنة أربع وعشرين وماتين بآمل طبرستان ووفاته يوم السبت سادس عشرين شوال سنة عشر وثلث ماية ودفن يوم الأحد في داره ببغداذ وزعم قوم أنه بالقرافة مدفون والصحيح الأول، وقد طوف الأقاليم وسمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب واسحق بن أبي اسرايل واسمعيل بن موسى الفزاري وأبا كريب وهناد بن السري والوليد بن شجاع وأحمد بن منيع ومحمد بن حميد الرازي ويونس بن عبد الأعلى وخلقا سواهم وقرأ القرآن على سليمان بن عبد الرحمن الطلحي صاحب خلاد وصنف كتابا حسنا في القراآت وروى عنه جماعة، قال الخطيب: كان أحد الأيمة يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظا لكتاب الله بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطريقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة والتابعين بصيرا بأيام الناس وأخبارهم له الكتاب المشهور في تاريخ الأمم وكتاب التفسير الذي لم ير مثله وتهذيب الآثار لم أر مثله في معناه ولم يتم وله في الأصول والفروع كتب كثيرة واختار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسايل حفظت عنه ومكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة، وقال الفرغاني حسب تلامذته آنه مذ بلغ الحلم إلى أن مات فصار له لكل يوم سبعة عشر ورقة، وقال أبو حامد الإسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير ابن جرير لم يكن كثيرا، وقال الإمام ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير ولقد ظلمته الحنابلة، قال لأصحابه هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا قالوا كم قدره فذكر نحو ثلثين ألف ورقة، فقالوا هذا شيء مما تفنى الأعمار دونه فقال إنا لله ماتت الهمم فأملاه في نحو ثلثة آلاف ورقة، ومن كتبه: القراآت، والعدد والتنزيل، واختلاف العلماء، تاريخ الرجال من الصحابة والتابعين إلى شيوخه، لطف القول في أحكام شرايع الإسلام وهو مذهبه الذي اختاره وجوده واحتج وهو ثلثة وثمانون كتابا، ولطايف القول وخفيفه في شرايع الإسلام، ومسند ابن عباس، واختلاف علماء الأمصار، كتاب اللباس، كتاب الشرب، كتاب أمهات الأولاد وأمثلة العدول في الشروط، تهذيب الآثار، بسيط القول، آداب النفوس، الرد على ذي الأسفار يرد فيه على داود، رسالة النصير في معالم الدين، صريح السنة، فضايل أبي بكر، مختصر الفرايض، الموجز في الأصول، مناسك الحج والتبصير في أصول الدين وابتدأ بكتاب البسيط فخرج كتاب الطهارة نحو ألف وخمس ماية ورقة، وقال الخطيب:
عاش خمسا وثمانين سنة ورثاه أبو بكر بن دريد بقصيدة أولها:
ورثاه أبو سعيد ابن الأعرابي بأبيات منها:
ولما قدم من طبرستان إلى بغداذ تعصب عليه أبو عبد الله ابن الجصاص وجعفر ابن عرفة والبياضي وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل يوم الجمعة في الجامع وعن حديث الجلوس على العرش فقال أبو جعفر أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافه فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته روي عنه ولا رأيت له أصحابا يعول عليهم وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ثم أنشد:
فلما سمعوا ذلك وثبوا ورموه بمحابرم وقد كانت ألوفا فقام بنفسه ودخل داره فردموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف على بابه إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه وكان قد كتب على بابه البيت المتقدم فأمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:
فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم وذكر مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك وقرأ الكتاب عليهم وفضل أحمد بن حنبل وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات فوجدوه مدفونا في التراب فأخرجوه ونسخوه.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 2- ص: 0

الطبري الإمام ابن جرير الطبري، اسمه: محمد بن جرير تقدم ذكره في المحمدين في مكانه.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 11- ص: 0

الطبري الإمام محمد بن جرير

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب أبو جعفر الطبري المحدث الفقيه المقرئ المؤرخ المعروف المشهور: مات فيما ذكره أبو بكر الخطيب يوم السبت لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة ودفن يوم الأحد بالغداة في دار برحبة يعقوب، ولم يغير شيبه، وكان السواد في شعر رأسه ولحيته كثيرا. ومولده سنة أربع أو أول سنة خمس وعشرين ومائتين، وكان أسمر الأدمة أعين نحيف الجسم مديد القامة فصيح اللسان.
قال غير الخطيب: ودفن ليلا خوفا من العامة لأنه يتهم بالتشيع، وأما الخطيب فإنه قال: ولم يؤذن به أحد، فاجتمع على جنازته من لا يحصي عددهم إلا الله، وصلي على قبره عدة شهور ليلا ونهارا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب.
قال: وسمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وأحمد بن منيع البغوي وأحمد بن حميد الرازي وأبا همام الوليد بن شجاع وأبا كريب محمد بن العلاء، وعدد خلقا كثيرا من أهل العراق والشام ومصر. وحدث عنه أحمد بن كامل القاضي وغيره، واستوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته.
قال: وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله عز وجل، عارفا بالقرآن بصيرا بالمعاني، فقيها بأحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه «تهذيب الآثار» لم أر سواه في معناه، لم يتممه.
وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه.
قال الخطيب: وسمعت علي بن عبيد الله اللغوي السمسمي يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة، قال: وقال أبو حامد الاسفرائني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا أو كلاما هذا معناه.
وحدث عن القاضي أبي عمر عبيد الله بن أحمد السمسار وأبي القاسم بن عقيل الوراق أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال: تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال:
إنا لله ماتت الهمم، فاختصره في نحو مما اختصر التفسير.
وحدث فيما أسنده الى أبي بكر ابن بالويه قال، قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق، يعني ابن خزيمة: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير، قلت:
نعم كتبنا التفسير عنه إملاء، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: في أي سنة؟ قلت من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين، قال: فاستعاره مني أبو بكر ورده بعد سنين، ثم
قال: نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة؛ قال: وكانت الحنابلة تمنع منه ولا تترك أحدا يسمع عليه.
وأنشد محمد بن جرير:

وأنشد أيضا:
وحدث فيما أسنده إلى محمد بن جرير قال: كتب إلي أحمد بن عيسى العلوي من بلد:
قال أبو جعفر فأجبته:
هذا آخر ما نقلته من تاريخ أبي بكر.
وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف «كتاب الصلة» وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير: أن قوما من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم الى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق. وفرغ من تصنيف كتاب التاريخ ومن عرضه عليه في يوم الأربعاء لثلاث بقين
من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثمائة، وقطعه على آخر سنة اثنتين وثلاثمائة.
وجدت على جزء من «كتاب التفسير» لابن جرير بخط الفرغاني ما ذكر فيه قطعة من تصانيف ابن جرير فنقلته على صورته لذلك وهو: قد أجزت لك يا علي بن عمران وإبراهيم بن محمد ما سمعته من أبي جعفر الطبري رحمه الله من كتاب التفسير المسمى بجامع البيان عن تأويل آي القرآن. وكتاب تاريخ الرسل والأنبياء والملوك والخلفاء، والقطعين من الكتاب ولم أسمعه وإنما أخذته إجازة، وكتاب تاريخ الرجال المسمى بذيل المذيل، وكتاب القراءات وتنزيل القرآن، وكتاب لطيف القول وخفيفه في شرائع الاسلام، وما سمعته من كتاب التهذيب من مسند العشرة ومسند ابن عباس إلى حديث المعراج. وكتاب آداب القضاة والمحاضر والسجلات. وكتاب اختلاف علماء الأمصار فليرويا ذلك عني، وكتب عبد الله بن أحمد الفرغاني بخطه في شعبان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.
وحدث أبو علي الحسن بن علي الأهوازي المقرئ في «كتاب الاقناع» في إحدى عشرة قراءة قال: كان أبو جعفر الطبري عالما بالفقه والحديث والتفاسير والنحو واللغة والعروض، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها على سائر المصنفين، وله في القراءات كتاب جليل كبير رأيته في ثماني عشرة مجلدة الا أنه كان بخطوط كبار ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ، وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور ولم يكن منتصبا للاقراء ولا قرأ عليه أحد إلا آحاد من الناس كالصفار شيخ كان ببغداد من الجانب الشرقي يروي عنه رواية عبد الحميد بن بكار عن ابن عامر. وأما القراءة عليه باختياره فإني ما رأيت أحدا أقرأ به غير أبي الحسين الجبي وكان ضنينا به، ولقد سألته زمانا حتى أخذ علي به وقال: ترددت إلى أبي جعفر نحوا من سنة أسأله ذلك زمانا حتى أجرمت عليه وسألته، وكنت قد سمعت منه صدرا من كتبه فأخذه علي على جهته وقال: لا تنسبها إلي وأنا حي، فما أقرأت بها أحدا حتى مات رحمه الله في شوال سنة عشر وثلاثمائة. وقال أبو الحسين الجبي: ما قرأ عليه به إلا اثنان وأنت ثالثهم، ولا قرأ عليه أحد إلى أن مات سنة ثمانين وثلاثمائة.
وقرأت بخط أبي سعد بإسناده رقعة إلى أبي العباس البكري من ولد أبي بكر
الصديق قال: جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني بمصر فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يمونهم وأضر بهم الحال، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه واتفقوا على أن يستهموا فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة، فاندفع بالصلاة فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق عليهم، فأجابوه وفتحوا له الباب، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل هذا، وأشاروا إليه، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا ودفعها إليه، وقال: أيكم محمد بن جرير؟ فأشاروا إليه فدفع إليه خمسين دينارا، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقيل هذا، فدفع إليه مثلها، ثم قال: وأيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة؟ فقيل هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرة فيها خمسون دينارا ثم قال: إن الأمير كان قائلا فرأى في النوم خيالا أو طيفا يقول له: إن المحامد طووا كشحهم، فبعث بهذه الصرر، وهو يقسم عليكم إذا نفدت أن تبعثوا إليه ليزيدكم.
قال المؤلف: وقد ذكر أبو بكر الخطيب هذه الحكاية في ترجمة محمد بن حرب إلا أنني نقلتها من كتاب السمعاني.
وسأله يوما سائل عن نسبه فقال: محمد بن جرير، فقال السائل: زدنا في النسب فأنشده لرؤبة:
قال القاضي ابن كامل: كان مولده في آخر سنة أربع وعشرين ومائتين أو أول سنة خمس وعشرين ومائتين. قال ابن كامل: فقلت له كيف وقع لك الشك في ذلك؟
فقال: لأن أهل بلدنا يؤرخون بالأحداث دون السنين، فأرخ مولدي بحدث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث فاختلف المخبرون لي فقال بعضهم: كان ذلك في آخر سنة أربع، وقال آخرون: بل كان في أول سنة خمس وعشرين ومائتين، وكان مولده بآمل طبرستان وهي قصبة طبرستان.
قال أبو جعفر: جئت إلى أبي حاتم السجستاني، وكان عنده حديث عن الأصمعي عن أبي زائدة عن الشعبي في القياس، فسألته عنه فحدثني به، وقال لي أبو حاتم: من أي بلد أنت؟ فقلت: من طبرستان، فقال: ولم سميت طبرستان؟
فقلت: لا أدري، فقال: لما افتتحت وابتدئ ببنائها كانت أرضا ذات شجر، فالتمسوا ما يقطعون به الشجر، فجاءهم بهذا الطبر الذي يقطع به الشجر فسمي الموضع به.
وقال أبو بكر ابن كامل: جئت الى أبي جعفر قبل المغرب ومعي ابني أبو رفاعة وهو شديد العلة، فوجدت تحت مصلاه «كتاب فردوس الحكمة» لعلي بن ربن الطبري سماعا له، فمددت يدي لأنظره، فأخذه ودفعه إلى الجارية وقال لي: هذا ابنك ؟ فقال قلت: نعم، قال: ما اسمه؟ قلت: عبد الغني، قال: أغناه الله، وبأي شيء كنيته؟ قلت: بأبي رفاعة، قال: رفعه الله، أفلك غيره؟ قلت: نعم أصغر منه، قال: وما اسمه؟ قلت: عبد الوهاب أبو يعلى، قال: أعلاه الله، لقد اخترت الكنى والأسماء. ثم قال لي: كم لهذا سنة؟ قلت: تسع سنين، قال: لم لم تسمعه مني شيئا؟ قلت: كرهت صغره وقلة أدبه، فقال لي: حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع سنين، ورأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معي مخلاة مملوءة حجارة وأنا أرمي بين يديه، فقال له المعبر: إنه إن كبر نصح في دينه وذب عن شريعته، فحرص أبي على معونتي على طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير.
قال ابن كامل: فأول ما كتب الحديث ببلده، ثم بالري وما جاورها، وأكثر من الشيوخ حتى حصل كثيرا من العلم، وأكثر من محمد بن حميد الرازي ومن المثنى بن إبراهيم الأبلي وغيرهما.
قال أبو جعفر: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج الينا في الليل مرات ويسأل عما كتبناه ويقرؤه علينا، قال: وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي، وكان في قرية من قرى الري بينها وبين الري قطعة، ثم نعدو كالمجانين حتى نصير الى ابن حميد فنلحق مجلسه. وكتب عن أحمد بن حماد «كتاب المبتدإ والمغازي» عن سلمة بن المفضل عن محمد بن إسحاق وعليه بنى تاريخه. ويقال إنه
كتب عن ابن حميد فوق مائة ألف حديث.
قال أبو جعفر: كان يقرأ علينا ابن حميد من التفسير، فإذا بلغ إلى قوله عز وجل: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك} قال: {أو يخرجوك} ثم دخل أبو جعفر إلى مدينة السلام وكان في نفسه أن يسمع من أبي عبد الله أحمد بن حنبل فلم يتفق له ذلك لموته قبيل دخوله الينا، وقد كان أبو عبد الله قطع الحديث قبل ذلك بسنين، فأقام أبو جعفر بمدينة السلام وكتب عن شيوخها فأكثر، ثم انحدر إلى البصرة فسمع من كان بقي من شيوخها في وقته: كمحمد بن موسى الحرشي وعماد بن موسى القزاز ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني وبشر بن معاذ وأبي الأشعث ومحمد بن بشار بندار ومحمد بن المثنى وغيرهم فأكثر، وكتب في طريقه عن شيوخه الواسطيين، ثم صار إلى الكوفة فكتب فيها عن أبي كريب محمد ابن العلاء الهمداني وهناد بن السري وإسماعيل بن موسى وغيرهم.
وكان أبو كريب شرس الخلق من كبار أصحاب الحديث، قال أبو جعفر: حضرت باب داره مع أصحاب الحديث، فاطلع من باب خوخة له، وأصحاب الحديث يلتمسون الدخول ويضجون، فقال: أيكم يحفظ ما كتب عني؟ فالتفت بعضهم إلى بعض ثم نظروا إلي وقالوا: أنت تحفظ ما كتبت عنه، قال قلت: نعم، فقالوا: هذا فسله، فقلت: حدثتنا في كذا بكذا وفي يوم كذا بكذا. قال: وأخذ أبو كريب في مسألة إلى أن عظم في نفسه فقال له: ادخل إلي، فدخل إليه وعرف قدره على حداثته، ومكنه من حديثه. وكان الناس يسمعون به فيقال إنه سمع من أبي كريب أكثر من مائة ألف حديث، ثم عاد إلى مدينة السلام فكتب بها ولزم المقام بها مدة وتفقه بها وأخذ في علوم القرآن.
وقال رجل لأبي جعفر: إن أصحاب الحديث يختارون، فقال: ما كنا نكتب هكذا، كتبت مسند يعقوب بن إبراهيم الدورقي وتركت شيئا منه، ولم أعلم ما كتبت عنه، ثم رجعت لأضع الحديث موضعه وأصنفه فبقي علي حديث كثير مما كتبته، وطال علي ما فاتني، وكتبت المسند كله ثانيا، والناس يختارون فربما فاتهم أكثر ما يحتاجون إليه، أو نحو هذا الكلام.
ثم غرب فخرج إلى مصر وكتب في طريقه من المشايخ بأجناد الشام والسواحل والثغور وأكثر منها. ثم صار إلى الفسطاط في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان بها بقية من الشيوخ وأهل العلم، فأكثر عنهم الكتبة من علوم مالك والشافعي وابن وهب وغيرهم، ثم عاد إلى الشام، ثم رجع إلى مصر، وكان بمصر وقت دخوله إليها أبو الحسن علي بن سراج المصري، وكان متأدبا فاضلا في معناه، وكان من دخل الفسطاط من أهل العلم إذا ورد لقيه وتعرض له، فوافى أبو جعفر إلى مصر وبان فضله عند وروده إليها في القرآن والفقه والحديث واللغة والنحو والشعر، فلقيه أبو الحسن ابن سراج فوجده فاضلا في كل ما يذاكره به من العلم، ويجيب في كل ما يسأله عنه، حتى سأله عن الشعر فرآه فاضلا بارعا فيه، فسأله عن شعر الطرماح وكان من يقوم به مفقودا في البلد، فإذا هو يحفظه، فسئل أن يمليه حفظا بغريبه فعهدي به وهو يمليه عند بيت المال في الجامع. وكان قد لقي بمصر أبا إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم المزني، فتكلما في أشياء منها الكلام في الاجماع، وكان أبو جعفر قد اختار من مذاهب الفقهاء قولا اجتهد فيه بعد أن كان ابتدأ بالفقه في مدينة السلام على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وكتب كتابه عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني عنه، ودرسه في العراق على جماعة منهم أبو سعيد الاصطخري وغيره، وهو حدث قبل خروجه إلى الفسطاط.
وقال أبو بكر ابن كامل: خرج إلينا ليلة أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ونحن نقرأ عليه كتاب قراءة أبي عمرو بن العلاء الكبير، فوجدنا نتناظر في بسم الله الرحمن الرحيم مع بعض إخواننا من الشافعيين، وهل هي من فاتحة الكتاب أم لا، وكان المجلس حفلا بجماعة من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابنا، وكان يسميني في بعض الأوقات لقراءتي عليه الكسائي، فقال لي:
كسائي فيم أنتم؟ فعرفته، فقال: وعلى مذهب من تتفقه؟ فقلت: على مذهب أبي جعفر الطبري، فقال: رحم الله أبا جعفر حدثنا بحديث نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة في بسم الله الرحمن الرحيم، ثم أخذ أبو بكر ابن مجاهد في مدح أبي جعفر الطبري وقال: بلغنا أنه التقى مع المزني فلا تسأل كيف استظهاره عليه والشافعيون حضور يسمعونه، ولم يذكر مما جرى بينهما شيئا.
قال أبو بكر ابن كامل: سألت أبا جعفر عن المسألة التي تناظر فيها هو والمزني فلم يذكرها لأنه كان أفضل من أن يرفع نفسه وأن يذكر علوه على خصم في مسألة. وكان أبو جعفر يفضل المزني فيطريه ويذكر دينه، وقال: جفا علي بعض أصحابه في مجلسه، فانقطعت عنه زمانا، ثم إنه لقيني فاعتذر إلي كأنه قد جنى جناية ولم يزل في ترفقه وكلامه حتى عدت إليه. وبلغنا أنه سئل بالفسطاط أن يرد على مالك في شيء فرد عليه في شيء كان الكلام فيه لابن عبد الحكم، وكانت أجزاء ولم تقع في أيدينا، ولعله مما منع الخصوم نشره.
وقال لنا أبو جعفر: لما وردت مصر في سنة ست وخمسين ومائتين نزلت على الربيع بن سليمان، فأمر من يأخذ لي دارا قريبة منه، وجاءني أصحابه فقالوا: تحتاج إلى قصرية وزير وحمارين وسدة، فقلت: أما القصرية فأنا لا ولد لي وما حللت سراويلي على حرام ولا حلال قط، وأما الزير فمن الملاهي وليس هذا من شأني، وأما الحماران فإن أبي وهب لي بضاعة أنا أستعين بها في طلب العلم، فإن صرفتها في ثمن حمارين فبأي شيء أطلب العلم؟ قال: فتبسموا فقلت: إلى كم يحتاج هذا؟
فقالوا: يحتاج إلى درهمين وثلثين، فأخذوا ذلك مني، وعلمت أنها أشياء متفقة، وجاءوني باجانة وحب للماء وأربع خشبات قد شدوا وسطها بشريط وقالوا: الزير للماء، والقصرية للخبز، والحماران والسدة تنام عليها من البراغيث، فنفعني ذلك، وكثرت البراغيث فكنت إذا جئت نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته واتزرت وصعدت إلى السدة خوفا منهم.
وقال هارون بن عبد العزيز، قال أبو جعفر: لما دخلت مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي يتحقق به، فجاءني يوما رجل فسألني عن شيء من العروض، ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: علي قول ألا أتكلم اليوم في شيء من العزوض، فإذا كان في غد فصر إلي، وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد فجاء به، فنظرت فيه ليلتي، فأمسيت غير عروضي وأصبحت عروضيا.
ثم رجع إلى مدينة السلام وكتب أيضا، ثم رجع إلى طبرستان وهي الدفعة الأولى ثم الثانية كانت في سنة تسعين ومائتين، ثم رجع إلى بغداد فنزل في قنطرة
البردان، واشتهر اسمه في العلم وشاع خبره بالفهم والتقدم.
قال عبد العزيز بن هارون: لما دخل أبو جعفر إلى الدينور ماضيا إلى طبرستان دعاه بعض أهل العلم بها، فلما اجتمعا قلت: يا أبا جعفر ما يحسن بنا أن نجتمع ولا نتذاكر، فقال عبد الله بن حمدان: قد ذاكرته فأغربت عليه خمسة وثمانين حديثا، وأغرب علي ثمانية عشر حديثا. قال عبد العزيز: ثم لقيت بعد ذلك أبا بكر ابن سهل الدينوري، وكان من العلماء والحفاظ للحديث، فحدثته بذلك فقال: كذب والله الذي لا إله إلا هو، لقد قدم إلينا أبو جعفر فدعاه المعروف بالكسائي، ودعا معه أهل العلم وكنت حاضرا ومعنا ابن حمدان، فقرأ على أبي جعفر كتاب الجنائز من «الاختلاف» فقال له أبو جعفر: ليس يصلح لنا أن نفترق من غير مذاكرة، وهذا كتاب الجنائز فنتذاكر بمسنده ومقطوعه وما اختلف فيه الصحابة والتابعون والعلماء، فقال ابن حمدان: أما المسند فأذاكر به وأما سواه فلا أذاكر به، فأغرب عليه ثلاثة وثمانين حديثا وأغرب عليه ابن حمدان ثمانية عشر حديثا. قال: وكان ابن حمدان فيما أغرب به على أبي جعفر أقبح مما أغرب به أبو جعفر لأنه كان إذا أغرب ابن حمدان بحديث قال له أبو جعفر هذا خطأ من جهة كذا ومثلي لا يذاكر به، فيخجل وينقطع. فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص وجعفر بن عرفة والبياضي، وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة، وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته روي عنه، ولا رأيت له أصحابا يعول عليهم، وأما حديث الجلوس على العرش فمحال، ثم أنشد:
فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم، وقيل كانت ألوفا، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة، ووقف على بابه يوما إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه، وكان قد كتب على بابه:
فأمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:
فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده، وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم، وفضل أحمد بن حنبل وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده، ولم يزل في ذكره إلى أن مات، ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات، فوجدوه مدفونا في التراب، فأخرجوه ونسخوه، أعني «اختلاف الفقهاء» هكذا سمعت من جماعة منهم أبي رحمه الله.
وقال أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له، وكان راجحا في علوم القرآن والقراءات، وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك، واختلاف الفقهاء مع الرواية كذلك على ما في كتابه «البسيط» و «التهذيب» و «أحكام القراءات» من غير تعويل على المناولات والاجازات ولا على ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة، وقد بان فضله في علم اللغة والنحو على ما ذكره في كتاب التفسير وكتاب التهذيب مخبرا عن حاله فيه، وقد كان له قدم في علم الجدل يدل على ذلك مناقضاته في كتبه على المعارضين لمعاني ما أتى به. وكان فيه من الزهد والورع والخشوع والأمانة وتصفية الأعمال وصدق النية وحقائق الأفعال ما دل عليه كتابه «في آداب النفوس» وكان يحفظ من الشعر للجاهلية والاسلام ما لا يجهله إلا جاهل به.
وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد سمعت ثعلبا يقول: قرأ علي أبو جعفر الطبري شعر الشعراء قبل أن يكثر الناس عندي بمدة طويلة.
وقال أبو بكر ابن المجاهد، قال أبو العباس يوما: من بقي عندكم- يعني في
الجانب الشرقي ببغداد- من النحويين؟ فقلت: ما بقي أحد، مات الشيوخ، فقال:
حتى خلا جانبكم؟ قلت: نعم إلا أن يكون الطبري الفقيه، فقال لي: ابن جرير؟
قلت: نعم، قال: ذاك من حذاق الكوفيين. قال أبو بكر: وهذا من أبي العباس كثير، لأنه كان شديد النفس شرس الأخلاق، وكان قليل الشهادة لأحد بالحذق في علمه.
وقال عبد العزيز بن محمد: قنطرة البردان محظوظة من العلماء النحويين، كان فيها أبو عبيد القاسم بن سلام ومسجده وراء سويقة جعفر معروف به، وكان فيها علان الأزدي ومسجده في هذا الموضع معروف به، وكان أبو بكر هشام بن معاوية الضرير النحوي وكان فاضلا مسجده عند مسجد أبي عبد الله الكسائي، وكان بها أبو عبيد الله محمد بن يحيى الكسائي وعنه انتشرت رواية أبي الحارث عن الكسائي وقرأ عليه كبار الناس، ونزلها أبو جعفر الطبري وكان أبو جعفر قد نظر في المنطق والحساب والجبر والمقابلة وكثير من فنون أبواب الحساب وفي الطب، وأخذ منه قسطا وافرا يدل عليه كلامه من الوصايا. وكان ظلفا عن الدنيا تاركا لها ولأهلها يرفع نفسه عن التماسها، وكان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب، وكان عاملا للعبادات جامعا للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلا على غيرها.
ومن كتبه: كتابه المسمى جامع البيان عن تأويل القرآن، قال أبو بكر ابن كامل: أملى علينا كتاب التفسير مائة وخمسين آية ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن فقرأه علينا وذلك في سنة سبعين ومائتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد يحييان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضا في الوقت غيرهما مثل أبي جعفر الرستمي وأبي الحسن ابن كيسان والمفضل بن سلمة والجعد وأبو إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويين من فرسان هذا اللسان، وحمل هذا الكتاب مشرقا ومغربا وقرأه كل من كان في وقته من العلماء وكل فضله وقدمه.
قال أبو جعفر: حدثتني به نفسي وأنا صبي.
قال عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو عمر الزاهد يعيش زمانا طويلا بمقابلة الكتب مع الناس، قال أبو عمر: فسألت أبا جعفر عن تفسير آية فقال: قابل بهذا الكتاب من أوله إلى آخره قلت: فقابلت فما وجدت فيه حرفا واحدا خطأ في نحو ولا لغة.
قال أبو جعفر: استخرت الله تعالى في عمل كتاب التفسير وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أخبرني شيخ من جسر ابن عفيف قال: رأيت في النوم كأني في مجلس أبي جعفر والناس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفا بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمع هذا الكتاب.
وقال أبو بكر محمد بن مجاهد: سمعت أبا جعفر يقول: إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته.
وكتاب التفسير كتاب ابتدأه بخطبة ورسالة في التفسير تدل على ما خص الله به القرآن العزيز من البلاغة والاعجاز والفصاحة التي نافى بها سائر الكلام، ثم ذكر من مقدمات الكلام في التفسير، وفي وجوه تأويل القرآن وما يعلم تأويله، وما ورد في جواز تفسيره، وما حظر من ذلك، والكلام في قول النبي صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف، وبأي الألسنة نزل، والرد على من قال إن فيه أشياء من غير الكلام العربي، وتفسير أسماء القرآن والسور، وغير ذلك مما قدمه، ثم تلاه بتأويل القرآن حرفا حرفا، فذكر أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من تابعي التابعين وكلام أهل الإعراب من الكوفيين والبصريين، وجملا من القراءات، واختلاف القراءة فيما فيه من المصادر واللغات والجمع والتثنية، والكلام في ناسخه ومنسوخه، واحكام القرآن والخلاف فيه والرد عليهم من كلام أهل النظر فيما تكلم فيه بعض أهل البدع، والرد عليهم على مذاهب أهل الإثبات ومبتغي السنن، إلى آخر القرآن، ثم اتبعه بتفسير أبي جاد وحروفها، وخلاف الناس فيها، وما اختاره من تأويلها بما لا يقدر أحد ان يزيد فيه، بل لا يراه مجموعا لا حد غيره، وذكر فيه من كتب التفاسير المصنفة عن ابن
عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة طرق، وربما كان عنه في مواضع أكثر من ذلك، وعن قتادة بن دعامة ثلاثة طرق، وعن الحسن البصري ثلاثة طرق، وعن عكرمة ثلاثة طرق، وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله بن مسعود طريقا، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتفسير ابن جريج وتفسير مقاتل بن حيان، سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به فانه لم يدخل في كتابه شيئا عن كتاب محمد بن السائب الكلبي ولا مقاتل بن سليمان ولا محمد بن عمر الواقدي لأنهم عنده أظناء والله أعلم. وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي وعن ابنه هشام وعن محمد بن عمر الواقدي وغيرهم فيما يفتقر إليه ولا يؤخذ إلا عنهم، وذكر فيه مجموع الكلام والمعاني من كتاب علي بن حمزة الكسائي ومن كتاب يحيى بن زياد الفراء ومن كتاب أبي الحسن الأخفش ومن كتاب أبي علي قطرب وغيرهم مما يقتضيه الكلام عند حاجته إليه، إذ كانوا هؤلاء هم المتكلمون في المعاني وعنهم يؤخذ معانيه واعرابه، وربما لم يسمهم إذا ذكر شيئا من كلامهم. وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه، قال عبد العزيز بن محمد الطبري:
وقد رأيت منه نسخة ببغداد تشتمل على أربعة آلاف ورقة.
ومن كتبه: كتاب الفصل بين القرأة، ذكر فيه اختلاف القراء في حروف القرآن، وهو من جيد الكتب، وفصل فيه أسماء القراء بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وغيرها، وفيه من الفصل بين كل قراءة، فيذكر وجهها وتأويلها والدلالة على ما ذهب إليه كل قارئ لها، واختياره الصواب منها، والبرهان على صحة ما اختاره، مستظهرا في ذلك بقوته على التفسير والاعراب الذي لم يشتمل على حفظ مثله أحد من القراء، وان كان لهم رحمهم الله من الفضل والسبق ما لا يدفع ذو بصيرة، بعد أن صدره بخطبة تليق به، وكذلك كان يعمل في كتبه: أن يأتي بخطبته على معنى كتابه، فيأتي الكتاب منظوما على ما تقتضيه الخطبة، وكان أبو جعفر مجودا في القراءة موصوفا
بذلك يقصده القراء البعداء ومن الناس للصلاة خلفه يسمعون قراءته وتجويده.
وقال أبو بكر ابن كامل، قال لنا أبو بكر ابن مجاهد، وقد كان لا يجري ذكره إلا فضله: ما صنف في معنى كتابه مثله. وقال لنا: ما سمعت في المحراب أقرأ من أبي جعفر، أو كلاما هذا معناه. قال ابن كامل: وكان أبو جعفر يقرأ قديما لحمزة قبل أن يختار قراءته.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني: قال لنا أبو جعفر: قرأت القرآن على سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي، وكان الطلحي قد قرأ على خلاد، وخلاد قرأ على سليم بن عيسى، وسليم قرأ على حمزة. ثم أخذها أبو جعفر عن يونس بن عبد الأعلى عن علي بن كيسة عن سليم عن حمزة.
وقال ابن كامل، قال لنا أبو بكر ابن مجاهد، وقد ذكر فضل كتابه في القراءات وقال: إلا أني وجدت فيه غلطا، وذكره لي وعجبت من ذلك مع قراءته لحمزة وتجويده له ثم قال: والعلة في ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام لأنه بنى كتابه على كتاب أبي عبيد، فأغفل أبو عبيد هذا الحرف فنقله أبو جعفر على ذلك.
وقال أبو بكر ابن كامل، قال لنا أبو جعفر: وصف لي قارئ بسوق يحيى فجئت إليه، فتقدمت فقرأت عليه من أول القرآن حتى بلغت إلى قوله {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا} فأعاد علي، فأعدته في كل قراءتي أبين فيه اليائين، وهو يرد علي، إلى أن قلت له: تريد أكثر من تبيين اليائين بكسر الأولى؟ فلم يدر ما أقول، فقمت ولم أعد إليه.
قال: وكان عند أبي جعفر رواية ورش عن نافع عن يونس بن عبد الأعلى عنه، وكان يقصد فيها، فحرص على ما بلغني أبو بكر ابن مجاهد مع موضعه في نفسه وعند أبي جعفر أن يسمع منه هذه القراءة منفردا، فأبى إلا أن يسمعها مع الناس، فما أثر ذلك في نفس أبي بكر، وكان ذلك كرها من أبي جعفر أن يخص أحدا بشيء من العلم، وكان في أخلاقه ذلك، لأنه كان إذا قرأ عليه جماعة كتابا ولم يحضره أحدهم لا يأذن لبعضهم أن يقرأ دون بعض، وإذا سأله إنسان في قراءة كتاب وغاب، لم يقرئه حتى يحضر، إلا كتاب الفتوى فانه كان أي وقت سئل عن شيء منه أجاب فيه. وكتابه في القراءات يشتمل على كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام لأنه كان عنده عن أحمد بن يوسف الثعلبي عنه وعليه بنى كتابه.
ومنها كتابه كتاب التاريخ الكبير المسمى بتاريخ الرسل والملوك وأخبارهم ومن كان في زمن كل واحد منهم، بدأ فيه بالخطبة المشتملة على معانيه، ثم ذكر الزمان ما هو، ثم مدة الزمان على اختلاف أهل العلم من الصحابة وغيرهم، والامم المخالفة لنا في ذلك، والسنن الدالة على ما اختاره من ذلك، وهذا باب لا يحدد بوجود إلا له.
قال أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه، وكان أفضل من رأيناه فهما وعناية بالعلم ودرسا له، ولقد كان لعنايته بدرس العلم تعبى كتبه في جانب حارته ثم يبتدئ فيدرس الأول فالأول منها إلى أن يفرغ منها، وهو ينقلها إلى الجانب الآخر، فإذا فرغ منها عاد في درسها ونقلها إلى حيث كانت، فقال يوما: ما عمل أحد في تاريخ الزمان وحصر الكلام فيه مثل ما عمله أبو جعفر؛ قال ولقد قال لي أبو الحسن ابن المغلس يوما وهو يذاكرنا شيئا من العلم وفضل العلماء فقال: والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره، وذكر رجلا كبيرا من أهل العلم.
ثم ذكر أبو جعفر في التاريخ الكلام في الدلالة على حدث الزمان: الأيام والليالي، وعلى أن محدثها الله عز وجل وحده، وذكر أول ما خلق وهو القلم وما بعد ذلك شيئا شيئا على ما وردت الآثار به واختلاف الناس في ذلك. ثم ذكر آدم وحواء واللعين ابليس وما كان من نزول آدم عليه السلام، وما كان بعده من أخبار نبي نبي ورسول رسول وملك وملك على اختصار منه لذلك إلى نبينا عليه السلام مع ملوك الطوائف وملوك الفرس والروم، ثم ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه وآباءه وأمهاته وأولاده وأزواجه ومبعثه ومغازيه وسراياه وحال أصحابه رضي الله عنهم، ثم ذكر الخلفاء الراشدين المهديين بعده، ثم ذكر ما كان من أخبار بني أمية وبني العباس في القطعين المنسوب أحدهما إلى قطع بني أمية والثاني إلى قطع بني العباس، وما شرحه
في كتاب التاريخ، وإنما خرج ذلك إلى الناس على سبيل الاجازة إلى سنة أربع وتسعين ومائتين، ووقف على الذي بعد ذلك لأنه كان في دولة المقتدر، وقد كان سئل شرح القطعين، فلما سئل ذلك شرحه وسماه القطعين، وهذا الكتاب من الأفراد في الدنيا فضلا ونباهة وهو يجمع كثيرا من علوم الدين والدنيا وهو في نحو خمسة آلاف ورقة.
ومنها كتابه المسمى بكتاب «ذيل المذيل» المشتمل على تاريخ من قتل أو مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعده على ترتيب الأقرب فالأقرب منه أو من قريش من القبائل، ثم ذكر موت من مات من التابعين والسلف بعدهم، ثم الخالفين إلى أن بلغ شيوخه الذين سمع منهم وجملا من أخبارهم ومذاهبهم، وتكلم في الذب عن ذوي الفضل منهم ممن رمي بمذهب هو بريء منه، كنحو الحسن البصري وقتادة وعكرمة وغيرهم، وذكر ضعف من نسب إلى ضعف من الناقلين ولينه، وفي آخره أبواب حسان من باب من حدث عنه الاخوة، أو الرجل وولده، ومن شهر بكنيته دون اسمه، أو باسمه دون كنيته، وهو من محاسن الكتب وأفاضلها يرغب فيه طلاب الحديث وأهل التواريخ وكان خرج إملاؤه بعد سنة ثلاثمائة وهو في نحو من ألف ورقة.
ومنها كتابه المشهور بالفضل شرقا وغربا المسمى بكتاب «اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام» قصد به إلى ذكر أقوال الفقهاء وهم: مالك بن أنس فقيه أهل المدينة بروايتين، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري بروايتين، ثم محمد بن إدريس الشافعي ما حدث به الربيع بن سليمان عنه، ثم من أهل الكوفة أبو حنيفة النعمان بن ثابت وأبو يوسف يعقوب بن محمد الأنصاري وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني مولى لهم ثم إبراهيم بن خالد أبو نصر الكلبي، وقد كان أولا ذكر في كتابه بعض أهل النظر وهو:
عبد الرحمن بن كيسان لأنه كان في الوقت الذي عمله ما كان يتفقه على مذهبه، فلما طال الزمان به وفقه أصحابه بسهو سقطه من كتابه، وكان أول ما عمل هذا الكتاب (على ما سمعته يقول وقد سأله عن ذلك أبو عبد الله أحمد بن عيسى الرازي) إنما عمله ليتذكر به أقوال من يناظره ثم انتشر وطلب منه، فقرأه على أصحابه. وقد كان محمد بن داود الأصبهاني لما صنف كتابه المعروف ب «كتاب الوصول إلى معرفة
الأصول» ذكر في باب الاجماع عن أبي جعفر الطبري أن الاجماع عنده إجماع هؤلاء المقدم ذكرهم الثمانية نفر دون غيرهم تقليدا منه لما قال أبو جعفر «اجمعوا وأجمعت الحجة على كذا» ثم قال في تصدير باب الخلاف «ثم اختلفوا فقال مالك وقال الاوزاعي كذا وقال فلان كذا» ان الذين حكى عنهم الاجماع هم الذين حكى عنهم الاختلاف، وهذا غلط من ابن داود ولو رجع إلى كتابه في «رسالة اللطيف» وفي «رسالة الاختلاف» وما أودعه كثيرا من كتبه من ان الاجماع هو نقل المتواترين لما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار دون أن يكون ذلك رأيا ومأخوذا جهة القياس لعلم ان ما ذهب إليه من ذلك غلط فاحش وخطأ بين.
وكان أبو جعفر يفضل «كتاب الاختلاف» وهو أول ما صنف من كتبه، وكان يقول كثيرا: لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف.
وكتاب الاختلاف نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولم يستقص فيه اختياره لأجل أنه قد جود ذلك في «كتاب اللطيف» ولئلا يتكرر كلامه في ذلك. وقد كان جعل لكتاب الاختلاف رسالة بدأ بها ثم قطعها، ذكر فيها لدى الكلام في الاجماع وأخبار الآحاد العدول زيادات ليست في كتاب اللطيف وشيئا من الكلام في المراسيل والناسخ والمنسوخ.
وله كتاب الشروط المسمى أمثلة العدول، وهو من جيد كتبه التي يعول عليها أهل مدينة السلام؛ وكان أبو جعفر مقدما في علم الشروط قيما به.
ومن جياد كتبه: كتابه المسمى ب «كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام» وهو مجموع مذهبه الذي يعول عليه جميع أصحابه، وهو من أنفس كتبه وكتب الفقهاء وأفضل أمهات المذاهب وأسدها تصنيفا، ومن قرأه وتدبره رأى ذلك إن شاء الله. وكان أبو بكر ابن راميك يقول: ما عمل كتاب في مذهب أجود من كتاب أبي جعفر «اللطيف» لمذهبه، وكان يعتذر في اختصاره كثيرا في أوله، وكتبه تزيد على كتاب الاختلاف في القدر، وثلاثة كتب: كتاب اللباس، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الشرب. وهو من جيد الكتب وأحسنها، وهو كالمنفرد فيه. ولا يظن ظان أن قوله «كتاب اللطيف» إنما أراد به صغره وخفة محمل وزنه، وإنما أراد بذلك لطيف القول كدقة معانيه وكثرة ما فيه من النظر والتعليلات، وهو يكون نحو ألفين وخمسمائة ورقة.
وفيه كتاب جيد في الشروط يسمى بأمثلة العدول من اللطيف، ولهذا الكتاب رسالة فيها الكلام في أصول الفقه، والكلام في الاجماع، وأخبار الآحاد، والمراسيل، والناسخ والمنسوخ في الأحكام، والمجمل والمفسر من الأخبار والأوامر والنواهي، والكلام في أفعال الرسل، والخصوص والعموم، والاجتهاد، وفي إبطال الاستحسان، إلى غير ذلك مما تكلم فيه.
ومن جياد كتبه كتابه المعروف ب «كتاب الخفيف في أحكام شرائع الإسلام» وهو مختصر من كتاب اللطيف، وقد كان أبو أحمد العباس بن الحسن العزيزي أراد النظر في شيء من الأحكام فراسله في اختصار كتاب له، فعمل هذا الكتاب ليقرب متناوله، وهو نحو من الأربعمائة ورقة، وهو كتاب قريب على الناظر فيه، كثير المسائل، يصلح لتذكر العالم والمبتدئ المتعلم.
ومنها كتاب «تهذيب الآثار وتفضيل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار» وهو كتاب يتعذر على العلماء عمل مثله ويصعب عليهم تتمته؛ قال أبو بكر ابن كامل: لم أر بعد أبي جعفر أجمع للعلم وكتب العلماء ومعرفة اختلاف الفقهاء وتمكنه من العلوم منه لأني أروض نفسي في عمل مسند عبد الله بن مسعود في حديث منه نظير ما عمله أبو جعفر فما أحسن عمله ولا يستوي لي.
ومن كتبه الفاضلة: كتابه المسمى ب «كتاب بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام» وهذا الكتاب قدم له كتابا سماه «كتاب مراتب العلماء» حسنا في معناه، ذكر فيه خطبة الكتاب وحض فيه على طلب العلم والتفقه، وغمز فيه على من اقتصر من أصحابه على نقله دون التفقه بما فيه، ثم ذكر فيه العلماء ممن تفقه على مذهبه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخذ عنهم ثم من أخذ عنهم ثم من أخذ عمن أخذ عنهم من فقهاء الأمصار: بدأ بالمدينة لأنها مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه أبو بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم، ثم بمكة لأنها الحرم الشريف، ثم العراقين: الكوفة والبصرة، ثم الشام وخراسان، ثم خرج إلى كتاب الصلاة بعد ذكر الطهارة، وذكر في هذا الكتاب اختلاف المختلفين واتفاقهم فيما تكلموا فيه على الاستقصاء والتبيين في ذلك، والدلالة لكل قائل منهم، والصواب من القول في ذلك، وخرج منه نحو ألفي ورقة، وأخرج من هذا الكتاب «كتاب آداب القضاء» وهو أحد الكتب المعدودة له المشهورة
بالتجويد والتفصيل لأنه ذكر فيه بعد خطبة الكتاب الكلام في مدح القضاة وكتابهم، وما ينبغي للقاضي إذا ولي أن يعمل به، وتسليمه له ونظره فيه، ثم ما ينقض فيه أحكام من تقدمه، والكلام في السجلات والشهادات والدعاوي والبينات، وسيأتي ذكر ما يحتاج إليه الحاكم من جميع الفقه إلى أن فرغ منه، وهو في ألف ورقة. وكان يجتهد بأصحابه أن يأخذوا البسيط والتهذيب ويجدوا في قراءتهما ويشتغلوا بهما دون غيرهما من الكتب.
ومن جياد كتبه كتابه المسمى ب «كتاب أدب النفوس الجيدة والأخلاق النفيسة» وربما سماه بأدب النفس الشريفة والأخلاق الحميدة، وربما زاد في ترجمته: المشتمل على علوم الدين والفضل والورع والاخلاص والشكر والكلام في الرياء والكبر والتخاضع والخشوع والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ فيه بالكلام في الوسوسة وأعمال القلوب، ثم ذكر شيئا كثيرا من الدعاء وفضل القرآن وأوقات الإجابة ودلائلها، وما روي من السنن وأقوال الصحابة والتابعين في ذلك، وقطع الاملاء

  • دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 6- ص: 2441

محمد بن جرير ابن يزيد بن كثير، الإمام العلم المجتهد، عالم العصر، أبو جعفر الطبري، صاحب التصانيف البديعة، من أهل آمل طبرستان.
مولده سنة أربع وعشرين ومائتين، وطلب العلم بعد الأربعين ومائتين وأكثر الترحال، ولقي نبلاء الرجال، وكان من أفراد الدهر علما، وذكاء، وكثرة تصانيف، قل أن ترى العيون مثله.
أخبرنا أحمد بن هبة الله، عن أبي روح الهروي، أخبرنا زاهر المستملي، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، أخبرنا أبو عمرو بن حمدان، حدثنا محمد بن جرير الفقيه، ومحمد بن إسحاق الثقفي، قالا: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي قال لضباعة: ’’حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني’’، حديث حسن غريب من أعلى ما عندي عن ابن جرير.
سمع: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وإسماعيل بن موسى السدي، وإسحاق بن أبي إسرائيل، ومحمد بن أبي معشر -حدثه بالمغازي عن أبيه- ومحمد بن حميد الرازي، وأحمد بن منيع، وأبا كريب محمد بن العلاء، وهناد بن السري، وأبا همام السكوني، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني، وبندارا، ومحمد بن المثنى، وسفيان بن وكيع، والفضل بن الصباح، وعبدة بن عبد الله الصفار، وسلم بن جنادة، ويونس بن عبد الأعلى، ويعقوب الدورقي، وأحمد بن المقدام العجلي، وبشر بن معاذ العقدي، وسوار بن عبد الله العنبري، وعمرو بن علي الفلاس، ومجاهد بن موسى، وتميم بن المنتصر، والحسن بن عرفة، ومهنى
ابن يحيى، وعلي بن سهل الرملي، وهارون بن إسحاق الهمداني، والعباس بن الوليد العذري، وسعيد بن عمرو السكوني، وأحمد ابن أخي ابن وهب، ومحمد بن معمر القيسي، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، ونصر بن علي الجهضمي، ومحمد بن عبد الله بن بزيع، وصالح بن مسمار المروزي، وسعيد بن يحيى الأموي، ونصر بن عبد الرحمن الأودي، وعبد الحميد بن بيان السكري، وأحمد بن أبي سريج الرازي، والحسن بن الصباح البزار، وأبا عمار الحسين بن حريث، وأمما سواهم.
واستقر في أواخر أمره ببغداد، وكان من كبار أئمة الاجتهاد.
حدث عنه: أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني -وهو أكبر منه- وأبو القاسم الطبراني، وأحمد بن كامل القاضي، وأبو بكر الشافعي، وأبو أحمد بن عدي، ومخلد بن جعفر الباقرحي، والقاضي أبو محمد بن زبر، وأحمد بن القاسم الخشاب، وأبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان، وأبو جعفر أحمد بن علي الكاتب، وعبد الغفار بن عبيد الله الحضيني، وأبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني، والمعلى بن سعيد وخلق كثير.
قال أبو أبو سعيد بن يونس: محمد بن جرير من أهل آمل، كتب بمصر، ورجع إلى بغداد، وصنف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه.
وقال الخطيب: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب: كان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في ’’أخبار الأمم وتاريخهم’’ وله كتاب ’’التفسير’’ لم يصنف مثله، وكتاب سماه ’’تهذيب الآثار’’ لم أر سواه في معناه، لكن لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه.
قلت: كان ثقة، صادقا، حافظا، رأسا في التفسير، إماما في الفقه، والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفا بالقراءات وباللغة، وغير ذلك.
قرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد.
ذكر أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أن مولده بآمل.
وقيل: إن المكتفي أراد أن يحبس وقفا تجتمع عليه أقاويل العلماء، فأحضر له ابن جرير، فأملى عليهم كتابا لذلك، فأخرجت له جائزة، فامتنع من قبولها، فقيل له: لا بد من قضاء حاجة، قال: أسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة، ففعل ذلك.
وكذا التمس منه الوزير أن يعمل له كتابا في الفقه، فألف له كتاب ’’الخفيف’’ فوجه إليه بألف دينار، فردها.
الخطيب: حدثني أبو الفرج محمد بن عبيد الله الشيرازي الخرجوشي: سمعت أحمد بن منصور الشيرازي، سمعت محمد ابن أحمد الصحاف السجستاني، سمعت أبا العباس البكري يقول: جمعت الرحلة بين ابن جرير، وابن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني بمصر، فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على ابن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي صلاة الخيرة، قال: فاندفع في الصلاة، فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا، فدفعها إليه، ثم قال: وأيكم محمد بن جرير؟ فأعطاه خمسين دينارا، وكذلك للروياني، وابن خزيمة، ثم قال: إن الأمير كان قائلا بالأمس، فرأى في المنام أن المحامد جياع قد طووا كشحهم، فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم: إذا نفذت، فابعثوا إلي أحدكم.
وقال أبو محمد الفرغاني في ’’ذيل تاريخه’’ على ’’تاريخ الطبري’’، قال: حدثني أبو علي هارون بن عبد العزيز، أن أبا جعفر لما دخل بغداد، وكانت معه بضاعة يتقوت منها، فسرقت فأفضى به الحال إلى بيع ثيابه وكمي قميصه، فقال له بعض أصدقائه: تنشط لتأديب بعض ولد الوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان؟ قال: نعم، فمضى الرجل، فأحكم له أمره، وعاد فأوصله إلى الوزير بعد أن أعاره ما يلبسه، فقربه الوزير ورفع مجلسه، وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر، فاشترط عليه أوقات طلبه للعلم والصلوات والراحة، وسأل إسلافه رزق شهر، ففعل، وأدخل في حجرة التأديب، وخرج إليه الصبي -وهو أبو يحيى- فلما كتبه أخذ الخادم اللوح، ودخلوا مستبشرين، فلم تبق جارية إلا أهدت إليه صينية فيها دراهم ودنانير، فرد الجميع وقال: قد شورطت على شيء، فلا آخذ سواه، فدرى الوزير ذلك، فأدخلته إليه وسأله، فقال: هؤلاء عبيد وهم لا يملكون فعظم ذلك في نفسه.
وكان ربما أهدى إليه بعض أصدقائه الشيء فيقبله، ويكافئه أضعافا لعظم مروءته.
قال الفرغاني: وكتب إلي المراغي يذكر أن المكتفي قال للوزير: أريد أن أقف وقفا، فذكر القصة وزاد: فرد الألف على الوزير ولم يقبلها، فقيل له: تصدق بها، فلم يفعل، وقال: أنتم أولى بأموالكم وأعرف بمن تصدقون عليه.
قال الخطيب: سمعت علي بن عبيد الله اللغوي يحكي: أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة.
قال الخطيب: وبلغني عن أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني الفقيه أنه، قال: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا.
قال الحاكم: سمعت حسينك بن علي يقول: أول ما سألني ابن خزيمة فقال لي: كتبت عن محمد بن جرير الطبري؟ قلت: لا، قال: ولم؟ قلت: لأنه كان لا يظهر، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه، قال: بئس ما فعلت، ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت من أبي جعفر.
قال الحاكم: وسمعت أبا بكر بن بالويه يقول: قال لي: أبو بكر بن خزيمة: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت: بلى، كتبته عنه إملاء، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: في أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ومائتين، قال: فاستعاره مني أبو بكر، ثم رده بعد سنين، ثم قال: لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة.
قال أبو محمد الفرغاني: تم من كتب محمد بن جرير كتاب ’’التفسير’’ الذي لو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب، كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل. وتم من كتبه كتاب ’’التاريخ’’ إلى عصره، وتم أيضا كتاب ’’تاريخ الرجال’’ من الصحابة والتابعين، وإلى شيوخه الذين لقيهم، وتم له كتاب ’’لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام’’ وهو مذهبه الذي اختاره، وجوده، واحتج له، وهو ثلاثة وثمانون كتابا، وتم له كتاب ’’القراءات والتنزيل والعدد’’، وتم له كتاب ’’اختلاف علماء الأمصار’’، وتم له كتاب ’’الخفيف في أحكام شرائع الإسلام’’ وهو مختصر لطيف، وتم له كتاب ’’التبصير’’ وهو رسالة إلى أهل طبرستان، يشرح فيها ما تقلده من أصول الدين، وابتدأ بتصنيف كتاب ’’تهذيب الآثار’’ وهو من عجائب كتبه، ابتداء بما أسنده الصديق مما صح عنده سنده، وتكلم على كل حديث منه بعلله وطرقه، ثم فقهه، واختلاف العلماء وحججهم، وما فيه من المعاني والغريب، والرد على الملحدين، فتم منه مسند العشرة وأهل البيت والموالي، وبعض ’’مسند ابن عباس’’، فمات قبل تمامه.
قلت: هذا لو تم لكان يجيء في مائة مجلد.
قال: وابتدأ بكتابه ’’البسيط’’ فخرج منه كتاب ’’الطهارة’’ فجاء في نحو من ألف وخمس مائة ورقة، لأنه ذكر في كل باب منه اختلاف الصحابة والتابعين، وحجة كل قول، وخرج منه أيضا أكثر كتاب الصلاة، وخرج منه آداب الحكام، وكتاب ’’المحاضر والسجلات’’، وكتاب ’’ترتيب العلماء’’ وهو من كتبه النفيسة، ابتدأه بآداب النفوس وأقوال الصوفية، ولم يتمه، وكتاب ’’المناسك’’، وكتاب ’’شرح السنة’’ وهو لطيف، بين فيه مذهبه واعتقاده، وكتابه ’’المسند’’ المخرج، يأتي فيه على جميع ما رواه الصحابي من صحيح وسقيم، ولم يتمه، ولما بلغه أن أبا بكر بن أبي داود تكلم في حديث غدير خم، عمل كتاب ’’الفضائل’’ فبدأ بفضل أبي بكر، ثم عمر، وتكلم على تصحيح حديث غدير خم، واحتج لتصحيحه، ولم يتم الكتاب.
وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات، من جاهل، وحاسد، وملحد، فأما أهل الدين والعلم، فغير منكرين علمه، وزهده في الدنيا، ورفضه لها، وقناعته -رحمه الله- بما كان يرد عليه من حصة من ضيعة خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة.
وحدثني هارون بن عبد العزيز، قال: قال أبو جعفر: استخرت الله وسألته العون على ما نويته من تصنيف التفسير قبل أن أعمله ثلاث سنين، فأعانني.
القاضي أبو عبد الله القضاعي: حدثنا علي بن نصر بن الصباح، حدثنا أبو عمر عبيد الله بن أحمد السمسار، وأبو القاسم ابن عقيل الوراق: أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فقال: إنا لله! ماتت الهمم، فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك، ثم أملاه على نحو من قدر ’’التاريخ’’.
قال أحمد بن كامل القاضي: أربعة كنت أحب بقاءهم: أبو جعفر بن جرير، والبربري، وأبو عبد الله بن أبي خيثمة، والمعمري، فما رأيت أفهم منهم ولا أحفظ.
قال الفرغاني: وحدثني هارون بن عبد العزيز: قال لي أبو جعفر الطبري: أظهرت مذهب الشافعي، واقتديت به ببغداد عشر سنين، وتلقاه مني ابن بشار الأحول أستاذ بن سريج. قال هارون: فلما اتسع علمه أداه اجتهاده وبحثه إلى ما اختاره في كتبه.
قال الفرغاني: وكتب إلي المراغي، قال: لما تقلد الخاقاني الوزارة وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير، فامتنع من قبوله، فعرض عليه القضاء فامتنع، فعرض عليه المظالم فأبى، فعاتبه أصحابه وقالوا: لك في هذا ثواب، وتحيي سنة قد درست. وطمعوا في قبوله المظالم، فباكروه ليركب معهم لقبول ذلك، فانتهرهم وقال: قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه. قال: فانصرفنا خجلين.
أبو الفتح بن أبي الفوارس: أخبرنا محمد بن علي بن سهل ابن الإمام -صاحب محمد بن جرير: سمعت محمد بن جرير وهو يكلم ابن صالح الأعلم، وجرى ذكر علي -رضي الله عنه- ثم قال: محمد بن جرير: من قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى، أيش هو؟ قال: مبتدع. فقال ابن جرير إنكارا عليه: مبتدع مبتدع! هذا يقتل.
وقال مخلد الباقرحي: أنشدنا محمد بن جرير لنفسه:

وله:
قال أبو محمد الفرغاني: حدثني أبو بكر الدينوري، قال: لما كان وقت صلاة الظهر من يوم الاثنين الذي توفي فيه -في آخره- ابن جرير طلب ماء ليجدد وضوءه، فقيل له: تؤخر الظهر تجمع بينها وبين العصر. فأبى وصلى الظهر مفردة، والعصر في وقتها أتم صلاة وأحسنها.
وحضر وقت موته جماعة منهم: أبو بكر بن كامل فقيل له قبل خروج روحه: يا أبا جعفر! أنت الحجة فيما بيننا وبين الله فيما ندين به، فهل من شيء توصينا به من أمر ديننا، وبينة لنا نرجو بها السلامة في معادنا؟ فقال: الذي أدين الله به وأوصيكم هو ما ثبت في كتبي، فاعملوا به وعليه. وكلاما هذا معناه، وأكثر من التشهد وذكر الله -عز وجل- ومسح يده على وجهه، وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت روحه الدنيا.
وكان مولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ورحل من آمل لما ترعرع وحفظ القرآن، وسمح له أبوه في أسفاره، وكان طول حياته يمده بالشيء بعد الشيء إلى البلدان، فيقتات به، ويقول فيما سمعته: أبطأت عني نفقة والدي، واضطررت إلى أن فتقت كمي قميصي فبعتهما.
قلت: جمع طرق حديث: غدير خم، في أربعة أجزاء، رأيت شطره، فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك.
قيل لابن جرير: إن أبا بكر بن أبي داود يملي في مناقب علي. فقال: تكبيرة من حارس. وقد وقع بين ابن جرير وبين ابن أبي داود. وكان كل منهما لا ينصف الآخر. وكانت الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود. فكثروا وشغبوا على ابن جرير. وناله أذى، ولزم بيته، نعوذ بالله من الهوى.
وكان ابن جرير من رجال الكمال، وشنع عليه بيسير تشيع، وما رأينا إلا الخير، وبعضهم ينقل عنه أنه كان يجيز مسح الرجلين في الوضوء، ولم نر ذلك في كتبه.
ولأبي جعفر في تآليفه عبارة وبلاغة، فمما قاله في كتاب ’’الآداب النفيسة والأخلاق الحميدة’’: القول في البيان عن الحال الذي يجب على العبد مراعاة حاله فيما يصدر من عمله لله عن نفسه، قال: إنه لا حالة من أحوال المؤمن يغفل عدوه الموكل به عن دعائه إلى سبيله، والقعود له رصدا بطرق ربه المستقيمة، صادا له عنها، كما قال لربه -عز ذكره- إذ جعله من المنظرين: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم} طمعا منه في تصديق ظنه عليه إذ قال: لربه: {لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا}، فحق على كل ذي حجى أن يجهد نفسه في تكذيب ظنه، وتخييبه منه أمله وسعيه فيما أرغمه، ولا شيء من فعل العبد أبلغ في مكروهه من طاعته ربه، وعصيانه أمره، ولا شيء أسر إليه من عصيانه ربه، واتباعه أمره.
فكلام أبي جعفر من هذا النمط، وهو كثير مفيد.
وقد حكى أبو علي التنوخي في ’’النشوار’’ له، عن عثمان بن محمد السلمي، قال: حدثني ابن منجو القائد قال: حدثني غلام لابن المزوق، قال: اشترى مولاي جارية، فزوجنيها فأحببتها وأبغضتني حتى ضجرت، فقلت لها: أنت طالق ثلاثا، لا تخاطبيني بشيء إلا قلت لك مثله، فكم أحتملك؟ فقالت في الحال: أنت طالق ثلاثا فأبلست، فدللت على محمد بن جرير، فقال لي: أقم معها بعد أن تقول لها: أنت طالق ثلاثا إن طلقتك. فاستحسن هذا الجواب. وذكر شيخ الحنابلة ابن عقيل، وقال: وله جواب آخر: أن يقولها كقولها سواء: أنت طالق ثلاثا -بفتح التاء- فلا يحنث. وقال أبو الفرج بن الجوزي: وما كان يلزمه أن يقول لها ذاك على الفور، فله التمادي إلى قبل الموت.
قلت: ولو قال: أنت طالق ثلاثا، وقصد الاستفهام أو عنى أنها طالق من وثاق، أو عنى الطلق لم يقع طلاق في باطن الأمر.
وله جواب آخر على قاعدة مراعاة سبب اليمين ونية الحالف، فما كان عليه أن يقول لها ما قالته، إذ من المعلوم بقرينة الحال استثناء ذلك قطعا، لأنه ما قصد إلا أنها إذا قالت له ما يؤذيه أن يؤذيها بمثله، ولو جاوبها بالطلاق لسرت هي، ولتأذى هو، كما استثني من عموم قوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء}، بقرينة الحال أنها لم تؤت لحية ولا إحليلا. ومن المعلوم استثناؤه بالضرورة التي لم يقصدها الحالف قط لو حلف: لا تقولي لي شيئا إلا قلت لك مثله، أنها لو كفرت وسبت الأنبياء فلم يجاوبها بمثل ذلك لأحسن.
ثم يقول طائفة من الفقهاء: إنه لم يحنث إلا أن يكون -والعياذ بالله- قصد دخول ذلك في يمينه.
وأما على مذهب داود بن علي، وابن حزم، والشيعة، وغيرهم، فلا شيء عليه، ورأوا الحلف والأيمان بالطلاق من أيمان اللغو، وأن اليمين لا تنعقد إلا بالله.
وذهب إمام في زماننا إلى أن من حلف على حض أو منع بالطلاق، أو العتاق، أو الحج ونحو ذلك فكفارته كفارة يمين، ولا طلاق عليه.
قال ابن جرير في كتاب ’’التبصير في معالم الدين’’: القول فيما أدرك علمه من الصفات خبرا، وذلك نحو إخباره تعالى أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله: {بل يداه مبسوطتان}، وأن له وجها بقوله: {ويبقى وجه ربك}، وأنه يضحك بقوله في الحديث: ’’لقي الله وهو يضحك إليه’’، و ’’أنه ينزل إلى سماء الدنيا’’ لخبر رسوله بذلك، وقال عليه السلام: ’’ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن’’ .... إلى أن قال: فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله نفسه ورسوله ما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، لا نكفر بالجهل بها أحدا إلا بعد انتهائها إليه.
أخبرنا أحمد بن هبة الله: أخبرنا زين الأمناء الحسن بن محمد، أخبرنا أبو القاسم الأسدي، أخبرنا أبو القاسم بن أبي العلاء، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر التميمي، أخبرنا أبو سعيد الدينوري مستملي ابن جرير، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بعقيدته، فمن ذلك: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر. وهذا ’’تفسير’’ هذا الإمام مشحون في آيات الصفات بأقوال السلف على الإثبات لها، لا على النفي والتأويل، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين أبدا.
أخبرنا أبو الفضل أحمد بن هبة الله، أخبرنا المسلم بن أحمد المازني، أخبرنا علي بن الحسن الحافظ ببعلبك سنة إحدى وخمسين وخمس مائة، أخبرنا علي بن إبراهيم الحسيني، أخبرنا أبو بكر الحافظ، قال: قرأت على أبي الحسن هبة الله بن الحسن الأديب لابن دريد. قلت: يرثي ابن جرير:
قال أحمد بن كامل: توفي ابن جرير عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاث مائة، ودفن في داره برحبة يعقوب -يعني: ببغداد. قال: ولم يغير شيبه، وكان السواد فيه كثيرا، وكان أسمر إلى الأدمة، أعين، نحيف الجسم، طويلا، فصيحا، وشيعه من لا يحصيهم إلا الله تعالى، وصلى على قبره عدة شهور ليلا ونهارا إلى أن قال: ورثاه خلق من الأدباء وأهل الدين، ومن ذلك قول أبي سعيد بن الأعرابي:
محمد بن جرير بن رستم وعلى بن سراج:

  • دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 11- ص: 165

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام الجليل المجتهد المطلق أبو جعفر الطبري من أهل آمل طبرستان أحد أئمة الدنيا علما ودينا
ومولده سنة أربع أو خمس وعشرين ومائتين
طوف الأقاليم في طلب العلم
وسمع من محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وإسحاق بن أبي إسرائيل وإسماعيل ابن موسى الفزارى وأبى كريب وهناد بن السرى والوليد بن شجاع وأحمد بن منيع ومحمد بن حميد الرازي ويونس بن عبد الأعلى وخلق سواهم
روى عنه أبو شعيب الحرانى وهو أكبر منه سنا وسندا ومخلد الباقرحى والطبرانى وعبد الغفار الحضينى وأبو عمرو بن حمدان وأحمد بن كامل وطائفة سواهم
وقرأ القرآن على سليمان بن عبد الرحمن الطلحى صاحب خلاد
ومن تصانيفه كتاب التفسير وكتاب التاريخ وكتاب القراءات والعدد والتنزيل وكتاب اختلاف العلماء وتاريخ الرجال من الصحابة والتابعين وكتاب أحكام شرائع الإسلام ألفه على ما أداه إليه اجتهاده وكتاب الخفيف وهو مختصر في الفقه وكتاب التبصير في أصول الدين
وابتدأ تصنيف كتاب تهذيب الآثار وهو من عجائب كتبه ابتدأ بما رواه أبو بكر الصديق رضى الله عنه كما صح عنده بسنده وتكلم على ل حديث منه بعلله وطرقه وما فيه من الفقه والسنن واختلاف العلماء وحججهم وما فيه من المعانى والغريب فتم منه مسند العشرة وأهل البيت والموالى ومن مسند ابن عباس قطعة كثيرة ومات قبل تمامه
وابتدأ بكتاب البسيط فخرج منه كتاب الطهارة في نحو ألف وخمسمائة ورقة وخرج منه أكثر كتاب الصلاة وخرج منه آداب الحكام وكتاب المحاضر والسجلات وغير ذلك
قال الخطيب كان ابن جرير أحد الأئمة يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظا لكتاب الله بصيرا بالمعانى فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام عارفا بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة
قال وسمعت على بن عبد الله عبد الغفار اللغوى المعروف بالسمسمانى يحكى أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة
قال وبلغنى عن الشيخ أبى حامد الإسفراينى أنه قال لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا أو كلاما هذا معناه انتهى
وذكر أبو محمد الفرغانى في صلة التاريخ أن قوما من تلامذة محمد بن جرير حسبوا لأبى جعفر منذ بلغ الحلم إلى أن مات ثم قسموا على تلك المدة أوراق مصنفاته فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة
قلت وهذا لا ينافى كلام السمسمانى لأنه منذ بلغ لابد أن يكون مضت له سنون في الطلب لا يصنف فيها
وذكر أن أبا العباس ابن سريج كان يقول محمد بن جرير الطبري فقيه العالم
وذكر أن محمد بن جرير قال أظهرت فقه الشافعي وأفتيت به ببغداد عشر سنين وتلقنه منى ابن بشار الأحول أستاذ أبى العباس بن سريج
وروى أن أبا جعفر قال لأصحابه أتنشطون لتفسير القرآن قالوا كم يكون قدره فقال ثلاثون ألف ورقة فقالوا هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه
فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة
ثم قال هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا قالوا كم قدره فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجوبوه بمثل ذلك فقال إنا لله ماتت الهمم فاختصره في نحو ما اختصر التفسير
قال الحاكم سمعت أبا بكر بن بالويه يقول قال لى ابن خزيمة بلغنى أنك كتبت التفسير عن ابن جرير قلت نعم إملاء قال كله قلت نعم قال في كم سنة قلت من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين قال فاستعاره منى ابن خزيمة ثم رده بعد سنين ثم قال نظرت فيه من أوله إلى آخره وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير ولقد ظلمته الحنابلة
وقال أبو على الطومارى كنت أحمل القنديل في شهر رمضان بين يدى أبى بكر بن مجاهد لصلاة التراويح فخرج ليلة من ليالى العشر الأواخر من داره واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه وسار حتى انتهى فوقف على باب مسجد محمد بن جرير وابن جرير يقرأ سورة الرحمن فاستمع قراءته طويلا ثم انصرف فقلت له يا أستاذ تركت الناس ينتظرونك وجئت تستمع قراءة هذا فقال يا أبا على دع هذا عنك ما ظننت أن الله خلق بشرا يحسن أن يقرأ هذه القراءة
وذكر أن المكتفى الخليفة قال للحسن بن العباس أريد أن أوقف وقفا تجتمع أقاويل العلماء على صحته ويسلم من الخلاف قال فأحضر ابن جرير فأملى عليهم كتابا لذلك فأخرجت له جائزة سنية فأبى أن يقبلها فقيل له لابد من جائزة أو قضاء حاجة فقال نعم الحاجة أسأل أمير المؤمنين أن يتقدم إلى الشرط أن يمنعوا السؤال من دخول المقصورة يوم الجمعة فتقدم بذلك وعظم في نفوسهم
قال أبو محمد الفرغانى صاحب ابن جرير أرسل العباس بن الحسن الوزير إلى ابن جرير قد أحببت أن أنظر في الفقه وسأله أن يعمل له مختصرا فعمل له كتاب الخفيف وأنفذه فوجه إليه ألف دينار فلم يقبلها فقيل له تصدق بها فلم يفعل
وقال حسينك بن على النيسابورى أول ما سألنى ابن خزيمة قال كتبت عن
محمد بن جرير قلت لا قال ولم قلت لأنه كان لا يظهر وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه فقال بئس ما فعلت ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت منه
قلت لم يكن عدم ظهوره ناشئا من أنه منع ولا كانت للحنابلة شوكة تقتضى ذلك وكان مقدار ابن جرير أرفع من أن يقدروا على منعه وإنما ابن جرير نفسه كان قد جمع نفسه عن مثل الأراذل المتعرضين إلى عرضه فلم يكن يأذن في الاجتماع به إلا لمن يختاره ويعرف أنه على السنة وكان الوارد من البلاد مثل حسينك وغيره لا يدرى حقيقة حاله فربما أصغى إلى كلام من يتكلم فيه لجهله بأمره فامتنع عن الاجتماع به
ومما يدلك على أنه لم يمنع قول ابن خزيمة لحسينك ليتك سمعت منه فإن فيه دلالة أن سماعه منه كان ممكنا ولو كان ممنوعا لم يقل له ذلك وهذا أوضح من أن ننبه عليه وأمر الحنابلة في ذلك العصر كان أقل من ذلك
قال الفرغانى كان محمد بن جرير ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد فأما أهل العلم والدين فغير منكرين علمه وزهده في الدنيا ورفضه لها وقناعته بما كان يرد عليه من حصة خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة ولما تقلد الخاقانى الوزارة وجه إليه بمال كثير فأبى أن يقبله فعرض عليه القضاء فامتنع فعاتبه أصحابه وقالوا له لك في هذا ثواب وتحيى سنة قد درست وطمعوا في أن يقبل ولاية المظالم فانتهرهم وقال قد كنت أظن أنى لو رغبت في ذلك لنهيتمونى عنه
وقال الفرغانى رحل ابن جرير من مدينة آمل لما ترعرع وسمح له أبوه بالسفر وكان طول حياته ينفذ إليه بالشئ بعد الشئ إلى البلدان فسمعته يقول أبطأت عنى نفقة والدى واضطررت إلى أن فتقت كمى القميص فبعتهما
وقال ابن كامل توفى عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة ودفن في داره برحبة يعقوب ولم يغير شيبه وكان السواد في رأسه ولحيته كثيرا وكان أسمر إلى الأدمة أعين نحيف الجسم مديد القامة فصيحا واجتمع عليه من لا يحصيه إلى الله تعالى وصلى على قبره عدة شهور ليلا ونهارا ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب
من ذلك قول أبى سعيد بن الأعرابى

وقول ابن دريد
عجيبة تتضمن مسألة
إذا ادعى المقضى عليه أن القاضى حكم عليه بشهادة فاسقين قال ابن الرفعة في المطلب في باب الشهادة على الشهادة يجب على شاهد الفرع تسمية شهود الأصل خلافا لمحمد بن جرير الطبري الذى أفهم كلام صاحب الإشراف عند الكلام في دعوى المقضى عليه أن القاضى قضى عليه بشهادة فاسقين أنه من أصحابنا انتهى
وهذا كلام عجيب يوهم أن ابن جرير هذا غير ابن جرير الإمام المشهور صاحب الترجمة فإن في هذا اللفظ تجهيلا عظيما للمسمى بهذا الاسم وابن جرير إمام شهير
لا يخفى حاله على ابن الرفعة ولا من دونه وإنما قصد ابن الرفعة بهذا الكلام الإشارة إلى أنه وإن كان مجتهدا مطلقا معدود من أصحابنا بشهادة صاحب الإشراف فليلتحق قوله بهذا بالمذهب ويعد وجها فيه وهذا أيضا غير لائق بعلو قدر ابن الرفعة فابن جرير معدود من أصحابنا لا يمترى أحد في ذلك ولو عد عاد ذكر ابن الرفعة له ولأقواله من أصحابنا لأكثر المعدود فلا طائل تحت كلامه هذا بل هو كلام موهم كان السكوت عنه أجمل بقائله وما حمله عليه إلا كثرة استحضاره لما بعد وما قرب وحيث ذكره في المظنة فاستحضره من غير المظنة ولو أنه قال الذى اقتضى كلام صاحب الإشراف موافقة غيره من أصحابنا له على مقالته في عدم سماع الدعوى على القاضى بأنه حكم بشهادة فاسقين لكان أحسن فإن موافقة غير ابن جرير من أصحابنا له تؤكد عد قوله من المذهب بخلاف ما إذا لم يوجد له موافق فإن النظر إذ ذاك قد يتوقف في إلحاق أقواله بالمذهب لأن المحمدين الأربعة ابن جرير وابن خزيمة وابن نصر وابن المنذر وإن كانوا من أصحابنا فربما ذهبوا باجتهادهم المطلق إلى مذاهب خارجة عن المذهب فلا نعد تلك المذاهب من مذهبنا بل سبيلها سبيل من خالف إمامه في شئ من المتأخرين أو المتقدمين
وإنما قلت إن صاحب الإشراف ذكر موافقة غير ابن جرير له على عدم الدعوى بأنه حكم بشهادة فاسقين لأن عبارة الإشراف
فصل
إذا ادعى المقضى عليه أن القاضى قضى عليه بشهادة فاسقين
قال محمد بن جرير وغيره من أصحابنا لا ينبغى أن يفوق سهم هذه الدعوى نحو القاضى لأن فيه تشنيعا عليه وهو مستغن عن هذا التشنيع عليه بأن يقيم البينة على فسق الشهود ويفارق إذا ادعى على القاضى أنه أخذ منه الرشوة وفسرها وهى مال
مبذول ليصير الحق باطلا والباطل حقا لأنه أمر خفى لا يمكنه إقامة البينة عليه دون الادعاء على القاضى فلما لم يكن مستغنيا عن الادعاء عليه جاز له الادعاء ليصون القاضى ماء وجهه فيرد المال عليه
وقال بعض أصحابنا دعوى الطعن على الشهود مسموعة على القاضي لأنه ربما يتعذر عليه إقامة البينة على فسق الشهود انتهى
وحكى بعده الوجهين المشهورين في تحليفه إذا أنكر
فإن قلت الوجهان في الدعوى عليه بشهادة فاسقين مشهوران
قلت كلا إنما المشهور الوجهان في إحضاره إذا ادعى عليه هكذا أما أصل الدعوى فقال الرافعى إنهم متفقون على سماعها على الجملة وأنكر على الغزالى جعله الوجهين في أصل الدعوى وكلام ابن جرير هذا صريح في أن الدعوى لا تسمع ففيه تأييد عظيم للغزالى لا سيما مع اعتضاده بموافقة بعض الأصحاب بل غالبهم كما أشار إليه القاضى أبو سعد فإن في قوله قال ابن جرير وغيره من أصحابنا مع قوله في مقابله وقال بعض أصحابنا ما يعطى أن الجادة على قول ابن جرير على خلاف دعوى الرافعى الاتفاق نعم محل ذلك فصل الدعوى على القاضى المعزول من كتاب الأقضية لا باب الشهادة على الشهادة وقول ابن جرير لا يشترط تسمية شهود الأصل هو المختص بباب الشهادة على الشهادة فكان طريق ابن الرفعة إن لم يجد له من خلص الأصحاب متابعا أن يقول ولا متابع له لكنه من أصحابنا

  • دار هجر - القاهرة-ط 2( 1992) , ج: 3- ص: 120

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الآملي الطبري أبو جعفر. الإمام، صاحب التصانيف المشهورة.
استوطن بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته.
وكان قد رحل في طلب الحديث، وسمع بالعراق والشام ومصر من خلق كثير وحدث بأكثر مصنفاته.
وقرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد بن يزيد، وسمع بمصر من يونس بن عبد الأعلى، وغيره. وحدث عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإسماعيل بن موسى الفزاري، وهناد بن السري التميمي، وأبي همام الوليد بن شجاع السكوني، وأبي كريب محمد بن العلاء الهمذاني، وأبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشج، وأحمد بن منيع البغوي، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، وعمرو بن علي الفلاس، ومحمد بن بشار بندار وأبي موسى محمد بن المثنى الزمن. وعبد الأعلى بن واصل، وسليمان بن عبد الجبار، والحسن بن قزعة، والزبير بن بكار، وغيرهم من العراقيين والشاميين والمصريين.
روى عنه أبو شعيب عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، وهو أقدم منه سماعا ووفاة، وأبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان النيسابوري، وأبو الحسن علي بن علان الحافظ الحراني، وأبو الطيب عبد الغفار بن عبيد الله بن السري الحصيبي المقرئ الواسطي، وأبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في آخرين.
واتفق أنه جمعت الرحلة إلى مصر بين محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأتون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق- ابن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة، واندفع في الصلاة فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا فنزل عن دابته وقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو، ذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، وقال: أيكم محمد بن هارون؟ فقالوا: هو ذا. فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، وقال: أيكم محمد بن جرير؟ فقيل: هو، ذا. فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق ابن خزيمة؟ فقالوا: هو، ذا يصلي، فلما فرغ دفع إليه صرة فيها خمسون دينارا، ثم قال: إن الأمير كان قائلا فرأى في المنام خيالا. قال: إن المحامد طووا كشحهم جياعا، فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفدت فابعثوا إلي أمدكم.
قال أبو سعيد بن يونس: كان فقيها، قدم إلى مصر قديما سنة ثلاث وستين ومائتين. وكتب بها، ورجع إلى بغداد، وصنف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه.
وقال الخطيب أبو بكر: أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في «تاريخ الأمم والملوك» وكتاب «التفسير» الذي لم يصنف أحد مثله، وكتاب «تهذيب الآثار» لم أر سواه في معناه، إلا أنه لم يتمه، وكتاب حسن في القراءات سماه «الجامع» وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه.
وبلغني عن أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الأسفرايني قال: لو سافر رجل إلى الصين، حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير، لم يكن ذلك كثيرا.
وسمعت علي بن عبيد الله بن عبد الغفار اللغوي، يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة، يكتب في كل منها أربعين ورقة.
وذكر بسنده عن أبي علي الطوماري. قال كنت أصلح القنديل في شهر رمضان، بين يدي أبي بكر بن مجاهد في المسجد، لصلاة التراويح، فخرج ليلة من ليالي العشر الأواخر من داره، واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه وسار حتى انتهى إلى آخر سوق العطش، فوقف بباب مسجد محمد ابن جرير، ومحمد يقرأ سورة الرحمن، فاستمع قراءته طويلا، ثم انصرف، فقلت له: يا أستاذ، تركت الناس ينتظرونك، وجئت لتسمع قراءة هذا! فقال: يا أبا علي دع هذا عنك. ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا يحسن يقرأ هذه القراءة.
وقال أبو عمرو الداني في «طبقات القراء» أخذ القراءة عرضا عن سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي، عن خلاد بن خالد الشيباني الصيرفي الكوفي، عن سليم بن عيسى الكوفي، عن حمزة.
وروى الحروف سماعا عن العباس بن الوليد، ويونس بن عبد الأعلى الصدفي وأبي كريب محمد بن العلاء، وأحمد بن يوسف التغلبي، وصنف كتابا حسنا في القراءات.
روى عنه الحروف محمد بن أحمد الداجوني، وعبد الواحد بن عمر، وعبد الله بن أحمد الفراغاني، وقد روى عنه ابن مجاهد غير أنه داس اسمه فقال: حدثني محمد بن عبد الله.
وقال أبو عبد الله الحاكم في «تاريخ» نيسابور: سمعت أبا أحمد الحسين ابن علي التميمي يقول: أول ما سألني محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: كتبت عن محمد بن جرير الطبري؟ قلت: لا. قال: لم؟ قلت: كان لا يظهر، وكانت الحنابلة تمنع الدخول عليه. فقال: بئس ما فعلت، ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت من أبي جعفر.
وقال ابن خزيمة وقد نظر تفسير محمد بن جرير: قد نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني في «تاريخه» فتم من كتب يعني محمد بن جرير كتاب «تفسير القرآن» وجوده، وبين فيه أحكامه، وناسخه ومنسوخه، ومشكله وغريبه، ومعانيه، واختلاف أهل التأويل والعلماء في أحكامه وتأويله، والصحيح لديه من ذلك، وإعراب حروفه، والكلام على الملحدين فيه، والقصص وأخبار الأمة، والقيامة، وغير ذلك مما حواه من الحكم والعجائب، كلمة كلمة، وآية آية، من الاستعاذة وإلى أبي جاد، فلو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد عجيب مستقصى لفعل.
وتم من كتبه أيضا كتاب «الغرائب» و «التنزيل» و «العدد».
وتم أيضا كتاب «اختلاف علماء الأمصار»، وتم أيضا «التاريخ» إلى عصره، وتم أيضا «تاريخ الرجال» في الصحابة والتابعين والخالفين إلى رجاله الذين كتب عنهم، وتم أيضا «لطيف القول» في أحكام شرائع الإسلام، وهو مذهبه الذي اختاره وجرده واحتج له وهو ثلاثة وثلاثون كتابا منها كتاب «البيان عن أصول الأحكام» وهو «رسالة اللطيف».
وتم أيضا كتاب «الخفيف» في أحكام شرائع الإسلام، وهو مختصر لطيف.
وتم أيضا كتابه المسمى «بالتبصير» وهي رسالته إلى أهل آمل طبرستان، يشرح فيها ما يتقلده من أصول الدين.
وابتدأ بتصنيف «تهذيب الآثار» وهو من عجائب كتبه، فابتدأ بما رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه مما صح عنده بسنده، وتكلم على كل حديث منه، فابتدأ بعلله، وطرقه، وما فيه من الفقه والسنن، واختلاف العلماء، وحججهم، وما فيه من المعاني، وما يطعن فيه الملحدون، والرد عليهم، وبيان فساد ما يطعنون به، فخرج منه مسند العشرة، وأهل البيت، والموالي، ومن مسند ابن عباس قطعة، وكان قصده فيه أن يأتي بكل ما يصح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آخره ويتكلم على جميعه حسب ما ابتدأ به، فلا يكون لطاعن في شيء من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مطعن، ويأتي بجميع ما يحتاج إليه أهل العلم كما فعل في التفسير، فيكون قد أتى على علم الشريعة من القرآن والسنن، فمات قبل تمامه.
وابتدأ «بكتاب البسيط» فخرج منه «كتاب الطهارة» في ألف وخمسمائة ورقة، لأنه ذكر في كل باب منه اختلاف الصحابة والتابعين وغيرهم من طرقها وحجة كل من اختار منهم لمذهبه واختياره رحمه الله في آخر كل باب منه واحتجاجه لذلك.
وخرج من البسيط أكثر «كتاب الصلاة» وخرج منه «آداب الحكام» تاما وكتاب «المحاضر والسجلات» و «كتاب ترتيب العلماء» وابتدأ «بآداب النفوس»، وهو أيضا من كتبه النفيسة لأنه عمله على ما ينوب الإنسان من الفرائض في جميع أعضاء جسده، فبدأ بما ينوب القلب، واللسان، والسمع، والبصر، على أن يأتي بجميع الأعضاء، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وعن الصحابة والتابعين، وما حكي من أفعالهم، وإيضاح الصواب في جميع ذلك، فلم يتم الكتاب.
وكتاب «آداب المناسك» وهو ما يحتاج إليه الحاج من يوم خروجه، وما يختاره له من الأيام لابتداء سفره، وما يقوله ويدعو به عند ركوبه ونزوله، ومعاينة المنازل والمساجد وإلى انقضاء حجه.
و «كتاب شرح السنة» لطيف، بين فيه مذهبه وما يدين الله به على ما مضى عليه الصحابة والتابعون وفقهاء الأمصار.
وكتابه «المسند المخرج» يأتي على جميع ما رواه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحيح وسقيم، ولم يتمه.
ولما بلغه أن أبا بكر بن أبي داود السجستاني تكلم في حديث غدير خم عمل «كتاب الفضائل». فبدأ بفضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم، وتكلم على تصحيح غدير خم، واحتج لتصحيحه، وأتى من فضائل علي بن أبي طالب بما انتهى إليه، ولم يتم الكتاب.
وكان ممن لا تأخذه في دين الله لومة لائم، وحكي أنه استخار الله وسأله الإعانة على تصنيف التفسير ثلاث سنين فأعانه، وروى القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي قال: أنبأنا علي بن نصر بن الصباح التغلبي، أنبأنا القاضي أبو عمر عبيد الله بن أحمد السمسار، وأبو القاسم بن عقيل الوراق، أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه. فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة.
ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم، إلى وقتنا هذا؟ قالوا كم قدره؟
فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوا بمثل ذلك، فقال: إنا لله، ماتت الهمم. فاختصره في نحو ما اختصر التفسير وقال أبو بكر الخطيب: عن القاضي ابن كامل: أربعة كنت أحب بقاءهم، أبو جعفر الطبري، والبربري، وأبو عبد الله بن أبي خيثمة، والمعمري، فما رأيت أفهم منهم ولا أحفظ.
ومولد أبي جعفر بآمل في سنة أربع وعشرين ومائتين، ووفاته ببغداد في يوم السبت، ودفن يوم الأحد بالغداة في داره لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة، وقيل توفي في عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال ودفن يوم الاثنين، واجتمع في جنازته خلق لا يحصون، وصلي على قبره عدة شهور ليلا ونهارا، وكان السواد في رأسه ولحيته كثيرا، وكان أسمر إلى الأدمة، أعين، نحيف الجسم، مديد القامة، فصيح اللسان، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب. وقيل إنه دفن في سفح المقطم من القرافة، وليس بصحيح.
قال الفرغاني: وكان عالما زاهدا ورعا فاضلا متقنا لقراءة حمزة الزيات، ومن فتاويه أن رجلا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا بتاتا لا خاطبتني بشيء إلا خاطبتك مثله، فقالت له في الحال: أنت طالق ثلاثا بتاتا، فأفتاه فقهاء بغداد بأنها لا بد أن تطلق وأنه عليه أن يجيبها بمثل ما قالت فتصير بذلك طالقا، فدله شخص على أبي جعفر فجاءه وأخبره بما جرى عليه، فقال له: امض ولا تعاود الأيمان، وأقم على زوجك بعد أن تقول لها: أنت طالق ثلاثا بتاتا إن طلقتك؛ فتكون قد خاطبتها بمثل ما خاطبتك به، فوفيت يمينك ولم تطلقها.
وعمل ابن دريد قصيدة طنانة يرثي بها ابن جرير يقول فيها:

  • دار الكتب العلمية - بيروت-ط 0( 0000) , ج: 2- ص: 110

محمد بن جرير بن يزيد الطبري نزل بغداد ومات سنة عشر وثلاثمائة، وهو صاحب التاريخ والمصنفات الكثيرة؛ وكان القاضي أبو الفرج المعافي بن زكريا النهرواني - ويعرف بابن طرارا - على مذهبه.
وكان أبو الفرج هذا فقيها أديبا شاعرا عالما وأنشدني قاضي بلدنا أبو علي الداودي رحمه الله قال: أنشدني أبو الفرج لنفسه:

  • دار الرائد العربي - بيروت-ط 1( 1970) , ج: 1- ص: 93

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري الإمام أبو جعفر رأس المفسرين على الإطلاق أحد الأئمة جمع من العلوم ما لم
يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظا لكتاب الله بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عالما بأحوال الصحابة والتابعين بصيرا بأيام الناس وأخبارهم
أصله من آمل طبرستان طوف الأقاليم وسمع من أحمد بن منيع وأبي كريب وهناد بن السري ويونس بن عبد الأعلى وخلائق
وروى عنه الطبراني وأحمد بن كامل وطائفة
وله التصانيف العظيمة منها تفسير القرآن وهو أجل التفاسير لم يؤلف مثله كما ذكره العلماء قاطبة منهم النووي في تهذيبه
وذلك لأنه جمع فيه بين الرواية والدراية ولم يشاركه في ذلك أحد لا قبله ولا بعده
ومنها تهذيب الآثار قال الخطيب لم أر مثله في معناه
ومنها تاريخ الأمم وكتاب اختلاف العلماء وكتاب القراءات وكتاب أحكام شرائع الإسلام وهو مذهبه الذي اختاره وجوده واحتج له وكان أولا شافعيا ثم انفرد بمذهب مستقل وأقاويل واختيارات وله أتباع ومقلدون وله في الأصول والفروع كتب كثيرة ويقال أن المكتفي أرد أن يوقف وقفا تجتمع أقاويل العلماء على صحته ويسلم من الخلاف فأجمع علما عصره على أنه لا يقدر على ذلك إلا ابن جرير فأحضر فأملى عليهم كتابا لذلك فأخرجت له جائزة سنية فأبى أن يقبلها يقبلها
قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني شيخ الشافعية لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير ابن جرير لم يكن كثيرا
وقال قد من الله علي بإدامة مطالعته والإستفادة منه وأرجو أن أصرف العناية إلى اختصاره وتهذيبه ليسهل على كل أحد تناوله
وقال ابن خزيمة ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير
وقال غيره مكث ابن جرير أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة
وقال أبو محمد بالفرغاني كان ابن جرير ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد فأما أهل العلم والدين فغير منكرين علمه وزهده في الدنيا ورفضه لها وقناعته باليسير وعرض عليه القضاء فأبى
وقد ولد بآمل سنة أربع وعشرين ومائتين
ومات عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شهر شوال سنة عشرون وثلاثمائة واجتمع في جنازته خلق لا يحصون وصلي على قبره عدة شهور
كذا في تاريخ مرآة الجنان

  • مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة-ط 1( 1997) , ج: 1- ص: 48

محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الامام [الجليل المفسر]، أبو جعفر صاحب التصانيف الباهرة.
مات سنة عشر وثلثمائة.
ثقة صادق فيه تشيع
[يسير] وموالاة لا تضر.
أقذع أحمد بن علي السليماني الحافظ، فقال: كان يضع للروافض، كذا قال السليماني: وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندعى عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى، فإن كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغي أن يتأنى فيه، ولا سيما في مثل إمام كبير،
[فلعل السليماني أراد الآتى].

  • دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان-ط 1( 1963) , ج: 3- ص: 498

نسبه الخطيب كذلك، وقد مر بي خلافه.

صاحب “التاريخ“ المشهور.

أخذ فقه الشافعي عن الربيع المرادي، والحسن الزعفراني.

وذكره العبادي في “الشافعية”، وقال: هو من أفراد علمائنا، وما رأيناه من ذكره في هذا القسم متعين، فإن له مذهبا ينفرد به، معروفا به.

قال الخطيب: استوطن الطبري بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته، وكان أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله.

وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره.

كان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في “تاريخ الأمم والملوك”، وكتاب في “التفسير”، لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه: “تهذيب الآثار“ لم أر سواه في معناه، إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه.

قال علي بن عبيد الله بن عبد الغفار اللغوي المعروف بالسمسماني: يحكى أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة.

قلت: وعلى نفاذه في الكتابة، قد يحمل فقه العلم من قول ابن سريج.

قال الخطيب: بلغني عن أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الإسفراييني أنه قال: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب “تفسير“ محمد بن جرير، لم يكن ذلك كثيرا، أو كلاما هذا معناه.

وقال الخطيب: سمعت أبا حازم العبدويي بنيسابور يقول: سمعت حسينك - واسمه: الحسين بن علي التميمي - يقول: لما رجعت من بغداد إلى نيسابور سألني محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لي: ممن سمعت ببغداد؟ فذكرت له جماعة ممن سمعت منهم، فقال لي: هل سمعت من محمد بن جرير شيئا؟ فقلت: لا، إنه ببغداد، لا يدخل عليه لأجل الحنابلة، وكانت تمنع منه، فقال: لو سمعت منه لكان خيرا لك من جميع من سمعت منه سواه.

وقال القاضي أبو عمرو عبيد الله بن أحمد السمسار، وأبو القاسم ابن عقيل الوراق: إن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فذكر نحو ما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله، ماتت الهمم، فاختصره في نحو مما اختصر “التفسير’’.

قال أبو الحسن ابن رزقويه، عن أبي علي الطوماري قال: كنت أحمل القنديل في شهر رمضان بين يدي أبي بكر ابن مجاهد إلى المسجد لصلاة التراويح، فخرج ليلة من ليالي العشر الأواخر من داره، واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه، وسار حتى انتهى إلى آخر سوق العطش، فوقف بباب مسجد محمد بن جرير، ومحمد يقرأ سورة الرحمن، فاستمع قراءته طويلا، ثم انصرف، فقلت له: يا أستاذ {تركت الناس ينتظرونك، وجئت تسمع قراءة هذا؟} فقال: يا أبا علي! دع هذا عنك، ما ظننت أن الله تعالى خلق بشراً يحسن يقرأ هذه القراءة، أو كما قال.

مات ابن جرير رحمه الله - فيما حكاه ابن كامل القاضي - في شوال سنة عشر وثلاث مئة، ودفن في داره، ولم يغير شيبه

قال: وأخبرني أن مولده في آخر سنة أربع، أو أول سنة خمس وعشرين مئتين.

قال: ولم يؤذن به أحد، واجتمع عليه من لا يحصيهم عددا إلا الله، وصلي على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً، وثاره خلق كثير من أهل الدين والأدب.

وأنبئت عن القاضي أبي بكر الأنصاري، أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه قال: حدثني عثمان بن محمد السلمي قال: حدثني بلطون بن منجو أحد القواد قال: حدثني غلام لابن المزوق البغدادي قال: كان مولاي مكرما لي، فاشترى جارية وزوجنيها، فأحببتها حبا شديدا، وأبغضتني بغضا عظيما، وكانت تنافرني دائما، وأحتملها إلى أن أضجرتني يوماً، فقلت لها: أنت طالق ثلاثاً بتاتا، لا خاطبتيني بشيء إلا خاطبتك بمثله، فقد أفسدك احتمالي لك، فقالت لي في الحال: أنت طالق ثلاثاً بتاتا، قال: فأبلست، ولم أدر ما أجيبها به خوفاً من أن أقول لها مثل ما قالت، فتصير بذلك طالقا مني، فأرشدت إلى أبي جعفر الطبري، فأخبرته بما جرى، فقال: أقم معها بعد أن تقول لها: أنت طالق ثلاثاً إن أنا طلقتك، فتكون قد خاطبتها به، فوفيت بيمينك ولم تطلقها، ولا تعاود اليمين.

  • دار البشائر الإسلامية - بيروت-ط 1( 1992) , ج: 1- ص: 106

محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبري.
قال الخليلي: أشهر من أن يذكر، جامع في العلوم، إمام، سمع بالري محمد بن حميد وأقرانه، وبالعراق أحمد بن عبدة الضبي، ونصر بن علي الجهضمي، وارتحل إلى الشام، ومصر، ولا يعد شيوخه، سمع منه الأئمة، والذين أكثروا عنه علي بن موسى الدقيقي الحلواني، روى عنه «التفسير» و «التاريخ» ومخلد بن جعفر الباقرحي، روى عنه كتاب «الذيل» والباقون رووا عنه اليسير، وآخر من روى عنه ببغداد ابن المظفر الحافظ، وقد كتب إلي، وشيخ آخر بعد الثمانين روى عنه جزءاً صغيراً، مات سنة تسع وثلاثمائة.
وقال مسلمة: كان حصوراً لا يقرب النساء، ورحل من بلده في طلب العلم ابن اثنتي عشرة سنة سنة ست وثلاثين ومائتين، فلم يزل طالباً للعلم مؤلفاً له إلى أن توفي ببغداد لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة.
وقال الخطيب: كان ابن جرير أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في الأحكام، عالماً بالسنن وبطرقها، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله تصانيف كثيرة، وتفرد بمسائل حفظت عنه.
بلغني عن أبي حامد الفقيه أنه قال: لو سافر رجل إلى أقصى الصين حتى يحصل تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيراً.
وقال ابن خزيمة: نظرت في تفسيره من أوله إلى آخره فما أعلم على أديم
الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد طلبته الحنابلة.
وقال حسينك التميمي: قال لي ابن خزيمة لما رجعت من الرحلة: سمعت من ابن جرير؟ فقلت لا، وكانت الحنابلة منعت الناس من الدخول إليه، فقال: لو سمعت منه لكان خيراً لك من جميع من سمعت منه سواه.
وقال أبو علي الطوماري: كنت مع أبي بكر بن مجاهد في رمضان فسمع قراءة ابن جرير فقال: ما ظننت أن الله تعالى خلق بشراً يحسن يقرأ هذه القراءة.
قال أحمد بن كامل: توفي ابن جرير في شوال سنة عشر وثلاثمائة، وأخبرني أن مولده كان في أول سنة خمس أو أواخر سنة سبع وعشرين ومائتين، ولما مات لم يؤذن به أحد واجتمع عليه من لا يحصيهم عدداً إلا الله وصلى على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً.
وقال ابن يونس: كان فقيهاً وصنف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه.
وقال الذهبي: ثقة صادق فيه تشيع يسير وموالاة لا تضر، أقذع أحمد بن علي السليماني الحافظ فقال: كان يضع للروافض - ثم برأه بلا مستند - فقال: وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين وما ندعي عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى؛ فإن كلام العلماء بعضهم في بعض يبتغي أن نتأنى فيه، ولا سيما في مثل إمام كبير.
قلت: أنت الذي غلظت على السليماني فإنه إنما أراد محمد بن جرير بن رستم أبو جعفر الطبري فإنه رافضي مشهور له تواليف منها كتاب «الرواية عن أهل البيت» وأما التشيع فهو رجم بالظن أخذ من تصحيحه حديث غدير خم، والله أعلم.

  • مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلامية وتحقيق التراث والترجمة صنعاء، اليمن-ط 1( 2011) , ج: 8- ص: 1

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الإمام العلم الحافظ أبو جعفر الطبري
أحد الأعلام وصاحب التصانيف الطواف
قال الخطيب كان أحد الأئمة يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظًا لكتاب الله بصيرًا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين بصيرًا بأيام الناس وأخباهم له تاريخ الإسلام والتفسير الذي لم يصنف مثله
قال أبو حامد الإسفرايني لو رحل رجل إلى الصين في تحصيله لم يكن
كثيرا وتهذيب الآثار لم أر في معناه مثله وله في الأصول والفروع كتب كثيرة
ولد سنة أربع وعشرين ومائتين
وقال ابن خزيمة ما أعلم على أديم الأرض أعلم منه
وقال الفرغاني بث مذهب الشافعي ببغداد ثم اتسع علمه وأداة اجتهاده إلى ما اختار في كتبه وعرض عليه القضاء فأبى
قال الذهبي ابن جرير وبن صاعد وابن خزيمة وابن أبي حاتم رجال هذه الطبقة وهم الطبقة السادسة في الأربعين لابن المفضل
توفي ابن جرير عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة

  • دار الكتب العلمية - بيروت-ط 1( 1403) , ج: 1- ص: 310

والإمام شيخ العصر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب الكتب

  • دار الفرقان، عمان - الأردن-ط 1( 1984) , ج: 1- ص: 108

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، أبو جعفر الطبريّ، الإمام.
كان علاّمة وقته، وإمام عصره، وفقيه زمانه، صاحب التصانيف المشهورة في الفقه وغيره.
ولد بآمل طبرستان سنة أربع وعشرين ومائتين، وحفظ القرآن، وسمع الحديث عن محمد بن حميد الرازي، وابن جريج، وهنّاد بن السّري، وغيرهم، وقرأ فقه الشافعيّ على الربيع بن سليمان بمصر، وعلى الحسن بن محمد الزّعفرانيّ ببغداد، وأخذ علم القرآن عن ابن مقاتل، وأدرك الأسانيد العالية بمصر، والشام، والعراق، والكوفة، والبصرة، والرّيّ، وكان قيّما بعلم القرآن، والنّحو، والشّعر، واللّغة، والفقه، كثير الحفظ، وله مذهب في الفقه اختاره لنفسه، وصار أحد رؤساء الأئمة حشمة ونعمة، تخرّج بكلامه جماعة من أهل العلم، وانتشر علمه في الآفاق، واستمرّ على حشمته ونعمته العظيمة إلى آخر عمره.
صنّف كتاب تفسير القرآن الكريم في مائة مجلّد، ذكر فيه أحكام القرآن، وناسخه ومنسوخه، ومشكله، وغريبه، ومعانيه، واختلاف أهل التأويل والعلماء في أحكامه وتأويله، وإعراب حروفه، والكلام على الملحدين فيه، والقصص، وأخبار الأمم، وغير ذلك ممّا حواه من الحكم والرأي كلمة كلمة، وأبان حتّى لو تصدّى عالم أن يصنّف عنه عشرة كتب كلّ كتاب منها يحتوي على علم مفرد عجيب: لفعل. وذكر الخطيب في تاريخه، أنّ الإمام أبا حامد الأسفرايينيّ، قال: لو سافر رجل إلى الصّين حتى يحصل له تفسير محمد بن جرير الطبريّ لم يكن ذلك كثيرا.
ومن كتبه أيضا: كتاب القرآن والتنزيل والعدد، وكتاب اختلاف علماء الأمصار، وكتاب تاريخ الرّجال والصحابة والتابعين، والخالفين إلى رجاله الذين كتب عنهم، وكتاب تاريخ الأمم والملوك، وكتاب تهذيب الآثار لم ير مثله في معناه، وكتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، وهو مذهبه الذي اختاره وجرّده واحتجّ له، وكتاب اللّطيف في الفقه، ويحتوي على عدّة كتب، وكتاب البسيط في الفقه، لم يتمّه، والذي خرج منه كتاب الشروط، وكتاب المحاضر والسّجلاّت، وكتاب الوصايا، وكتاب أدب القاضي، وكتاب الطهارة، وكتاب الصّلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب القراءات، وكتاب الخفيف في الفقه، وكتاب المسترشد، والذي خرج منه كتاب اختلاف الفقهاء. وله تصانيف حسان في أصول الفقه وفروعه.
ولما بلغه أنّ أبا بكر بن أبي داود السّجستانيّ تكلّم في حديث غدير خمّ عمل أبو جعفر الطبريّ كتاب الفضائل، فبدأ بذكر أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، رضي الله عنهم، وتكلّم عن تصحيح غدير خمّ، واحتجّ لتصحيحه، وأتى من فضائل عليّ بما انتهى إليه، وكان ممّن لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يعدل عن حق. وكان أبو العباس بن سريج يسمّيه فقيه العالم.
كانت وفاته ببغداد في ثامن عشر شوّال من سنة عشر وثلاث مائة، عن سبع وثمانين سنة، وكان السواد في شعر رأسه ولحيته كثيرا، وكان نحيف الجسم، مديد القامة، دفن في داره برحبة يعقوب.

  • دار الغرب الإسلامي - تونس-ط 1( 2009) , ج: 1- ص: 91

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب أبو جعفر الطبري
الإمام العالم العلامة، أوحد الدهر، وفريد كل عصر، مؤلف “التاريخ” و “التفسير” المشهورين الكبيرين المذكورين، إلى ما انضاف إليهما من تصانيفه العزيزة الوجود، الغريبة بين أمثالها في الجودة والموجود. وأخباره كثيرة قد استوفيتها في تصنيفي الذي سمّيته “التحرير لأخبار ابن جرير” وهو كتاب مقنع في نوعه وقد كان له - رحمه الله - شعر فوق شعر العلماء أنبأنا الكندي، أخبرنا القزّاز، حدثنا الخطيب أحمد بن علي في تاريخه، أنشدنا علي بن عزيز الطاهري ومحمد بن جعفر ابن علاّن الشّروطي قالا: أنشدنا مخلد بن جعفر الدّقاق قال: أنشدنا محمد بن جرير: وافر:

وبالإسناد قال الخطيب: وأنشدنا الطاهري والشروطي قالا: أنشدنا مخلد بن جعفر قال: أنشدنا محمد بن جرير: كامل:
وبالإسناد قال الخطيب: أخبرنا القاضي أبو العلاء محمد بن علي الواسطي، حدثنا سهل بن أحمد الديباجي، قال لنا أبو جعفر محمد في جرير الطبري: كتب إلي أحمد بن عيسى العلوي من البلد: طويل:
قال أبو جعفر: فأجبته: طويل:
مات - رحمه الله - يوم السبت بالعشيّ، ودفن يوم الأحد بالغداة في داره لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة، وذكره أحمد ابن كامل القاضي قال: توفي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في وقت المغرب من عشية الأحد ليومين بقيا مهن شوّال سنة عشر وثلاثمائة ودفن وقد أضحى النهار من يوم الاثنين غد ذلك اليوم، في داره برحبة يعقوب، ولم يغير شيبه وكان السواد في شعر رأسه ولحيته كثيراً، وأخبرني أن مولده في أخر سنة أربع أو أوّل سنة خمس وعشرين ومئتين. وكان أسمر اللون إلى الأدمة، أعين نحيف الجسم مديد القامة، فصيح اللسان، لم يؤذن به أحد واجتمع عليه من لا يحصيهم عدداً إلا الله، وصلّي على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب.

  • دار اليمامة-ط 1( 1970) , ج: 1- ص: 187

محمد بن جرير
ابن يزيد بن كثير، الإمام الفرد الحافظ، أبو جعفر الطبري، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف، من أهل آمل طبرستان.
أكثر التطواف، وسمع: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، وأبا همام السكوني، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإسماعيل بن موسى الفزاري بن بنت السدي، ومحمد بن حميد الرازي، وأحمد بن منيع، وأبا كريب، وهناد بن السري، وخلائق. وأخذ القراءات عن جماعة.
روى عنه مخلد الباقرحي، وأحمد بن كامل، وأبو القاسم الطبراني، وعبد الغفار الحضيني، وأبو عمرو بن حمدان، وخلق.
قال الخطيب: كان ابن جرير أحد الأئمة، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله. جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحدٌ من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، بصيراً بأيام الناس وأخبارهم، له الكتاب الكبير المشهور في ’’تاريخ الأمم’’ وله كتاب ’’التفسير’’ الذي لم يصنف مثله، وكتاب ’’تهذيب الآثار’’ لم أر مثله في معناه لكن لم يتمه، وله في الأصول والفروع كتبٌ كثيرة، وله اختيارٌ من أقاويل الفقهاء، وقد تفرد بمسائل حفظت عنه.
وقيل: إن ابن جرير مكث أربعين سنةً يكتب كل يومٍ أربعين ورقة.
وقال تلميذه أبو محمد الفرغاني: حسب تلامذة أبي جعفر منذ احتلم إلى أن مات، فقسموا على المدة مصنفاته، فصار لكل يومٍ أربع عشرة ورقة.
وقال أبو حامد الإسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين في تحصيل ’’تفسير’’ ابن جرير لم يكن كثيراً.
وقال حسينك الحافظ: سألني ابن خزيمة: أكتبت عن ابن جرير؟ قلت: لا، لأنه لا يظهر، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه، فقال: بئس ما صنعت.
وقال أبو بكر بن بالوية: سمعت إمام الأئمة ابن خزيمة يقول: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة.
وقال أبو محمد الفرغاني: كان ابن جرير لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظم ما يؤذى، فأما أهل الدين والعلم فغير منكرين علمه وزهده
ورفضه لدنيا وقناعته بما يجيئه من حصةٍ خلفها له أبوه بطبرستان. بث مذهب الشافعي ببغداد سنين، واقتدى به، ثم اتسع علمه، وأداه اجتهاده إلى ما اختار في كتبه. وعرض عليه القضاء، فأبى. وله ’’التفسير’’ و ’’التاريخ’’ وكتاب ’’القراءات’’ وكتاب ’’العدد والتنزيل’’ وكتاب ’’اختلاف العلماء’’ وكتاب ’’تاريخ الرجال’’ وكتاب ’’لطيف القول’’ في الفقه، وهو ما اختاره وجوده، وكتاب ’’الخفيف’’ وكتاب ’’التبصير’’ في الأصول، وابتدأ بتصنيف كتاب ’’تهذيب الآثار’’ وهو من عجائب كتبه، ابتدأ بما رواه أبو بكر الصديق مما صح، وتكلم على كل حديثٍ وعلته وطرقه وما فيه من الفقه واختلاف العلماء وحججهم واللغة، فتم مسند العشرة وأهل البيت والموالي، ومن مسند ابن عباس قطعة، ومات. وابتدأ بكتاب ’’البسيط’’ فعمل منه كتاب الطهارة في نحو ألفٍ وخمس مئة ورقة، وخرج منه أكثر الصلاة، وخرج منه كتاب الحكام، والمحاضر، والسجلات. ولما بلغه أن ابن أبي داود تكلم في حديث ’’غدير خم’’
عمل كتاب ’’الفضائل’’ وتكلم على تصحيح هذا الحديث.
قال: ورحل محمدٌ لما ترعرع من آمل، وسمح له أبوه، وكان طول حياته يوجه إليه بالشيء إلى البلدان. قال لي: أبطأت عني نفقة أبي حتى بعت كمي قميصي.
وذكر عبيد الله بن أحمد السمسار: أن ابن جرير قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم؟ قالوا: كم يجيء؟ فذكر نحواً من ثلاثين ألف ورقة، قالوا: هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه، فقال: إنا لله، ماتت الهمم، فأملاه في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ولما أراد أن يملي ’’التفسير’’ قال لهم كذلك، ثم أملاه على نحوٍ من ’’التاريخ’’.
ولد ابن جرير سنة أربعٍ وعشرين ومئتين.
وقال ابن كامل: توفي عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشرٍ وثلاث مئة، ودفن في داره برحبة يعقوب، ولم يغير شيبة، وكان السواد فيه كثيراً، وكان أسمر إلى الأدمة، أعين، نحيف الجسم، طويلاً، فصيحاً، شيعه من لا يحصيهم إلا الله، وصلي على قبره عدة شهورٍ ليلاً ونهاراً. ورثاه خلق من أهل الأدب والدين، ومن ذلك قول أبي سعيد بن الأعرابي:

وعمل ابن دريدٍ قصيدةً يقول فيها:

  • مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان-ط 2( 1996) , ج: 2- ص: 1

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري الإمام أبو جعفر
رأس المفسرين على الإطلاق، أحد الأئمة، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عالماً بأحوال الصحابة والتابعين، بصيراً بأيام الناس وأخبارهم.
أصله من آمل طبرستان، طوف الأقاليم، وسمع من أحمد بن منيع، وأبي كريب، وهناد بن السرى، ويونس بن عبد الأعلى وخلائق.
روى عنه الطبراني وأحمد بن كامل، وطائفة وله التصانيف العظيمة منها تفسير القرآن وهو أجل التفاسير،
لم يؤلف مثله كما ذكره العلماء قاطبة، منهم النووي في تهذيبه وذلك لأنه جمع فيه بين الرواية والدراية ولم يشاركه في ذلك أحد لا قبله ولا بعده، ومنها تهذيب الآثار، قال الخطيب: لم أر مثله في معناه.
ومنها تاريخ الأمم وكتاب اختلاف العلماء وكتاب القراءات وكتاب أحكام شرائع الإسلام وهو مذهبه الذي اختاره وجوده واحتج له، وكان أولاً شافعياً، ثم انفرد بمذهب مستقل وأقاويل واختيارات، وله أتباع ومقلدون، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة.
ويقال إن المكتفي أراد أن يوقف وقفاً تجتمع أقاويل العلماء على صحته ويسلم من الخلاف، فأجمع علماء عصره على أنه لا يقدر على ذلك إلا ابن جرير، فأحضر فأملى عليهم كتاباً لذلك، فأخرجت له جائزة سنية فأبى أن يقبلها.
قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني شيخ الشافعية: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير ابن جرير، لم يكن كثيراً
قلت قد من الله على بإدامة مطالعته والاستفادة منه، وأرجو أن أصرف العناية إلى اختصاره وتهذيبه ليسهل على كل أحد تناوله إن شاء الله تعالى.
وقال ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير.
وقال غيره: مكث ابن جرير أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة.
وقال أبو محمد الفرغاني: كان ابن جرير ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات، من جاهل، وحاسد، وملحد، فأما أهل العلم والدين فغير منكرين علمه، وزهده في الدنيا، ورفضه لها، وقناعته باليسير، وعرض عليه القضاء فأبى.
مولده بآمل سنة أربع وعشرين ومائتين ومات عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة.
واجتمع في جنازته خلق لا يحصون، وصلي على قبره عدة شهور، ورثاه خلق.
فمن ذلك قول أبي سعيد بن الأعرابي:

  • مكتبة وهبة - القاهرة-ط 1( 1976) , ج: 1- ص: 95

محمد بن جرير الطبري البغدادي أبو جعفر الإمام.
صاحب التصانيف العظيمة في الأصول والفروع و’’التفسير الكبير’’ وله كتاب في القراءات و’’تاريخ الأمم’’ و’’تهذيب الآثار’’ ولم يتمه، وله أتباع منهم المعافى أبو زكريا النهروانى، قال الخطب: سمعت علي بن عبد اللَّه اللغوى يقول: مكث ابن جرير أربعين سنة يكتب كلّ يوم أربعين ورقة. قال الفرغانى: حسبت تلامِذتُه تصانيفه وبسطوها على عمره منذ احتلم إلى أن مات فصار لكلِّ يوم أربع عشرة ورقة. أخذ الفقه عن الزعفراني والربيع المرادى، ونظر ابن خزيمة تفسيره وقال: ما أعلم تحت أديم الأرض أعلم منه، ولقد طلبته الحنابلة، ومناقبه جمة. مات سنة عشر وثلثمائة عن ست وثمانين سنة، ومن غرائبه: أنه لا يجوز الفرض ولا النفل في الكعبة. قلت: ولهم آخر اسمه محمد ابن جرير الطبري شيعى له مصنفات فاجتنبه.

  • دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان-ط 1( 1997) , ج: 1- ص: 1