القاضي كريم الدين الكبير عبد الكريم بن هبة الله بن السديد المصري. القاضي النبيل، الجليل، المدبر، كريم الدين، أبو الفضائل الكبير، ابن العلم، وكيل السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وناظر خواصه، ومدبر دولته. بلغ فوق ما يبلغه الوزراء، ونال فوق ما يناله الكتاب من الوجاهة والحرمة والتقدم. أسلم كهلا أيام الجاشنكير وكان كاتبه، وكان لا يصرف على السلطان شيء يطلبه إلا بقلم القاضي كريم الدين؛ ويقال إنه طلب مرة إوزة ولم يكن حاضرا، فلم تصرف له. ولما هرب الجاشنكير على ما تقدم في ترجمته، وأخذ الخزائن معه، وورد السلطان من الكرك تطلبه كثيرا. حكى لي الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس؛ قال؛ جاء إلى الأمير علم الدين الجاولي، وقال له: قد جئت إليك! فقال: ما في يدي لك فرج، ولكن للسلطان اليوم خاصكي يقال له الأمير سيف الدين طغاي الكبير، وهو لا يخالفه فأريد أجتمع لك به وأعرفك ما يكون! ثم إنه اجتمع به فقال له: أحضره! ودخل الأمير سيف الدين طغاي إلى السلطان وهو يضحك؛ وقال له: إن حضر كريم الدين أيش تعطيني؟! ففرح وقال: أعندك هو؟ أحضره! فخرج وقال للأمير علم الدين أحضره، فأحضره، فقال له: مهما قال لك السلطان قل له نعم ولا تخالفه، ودعني أنا أدبر أمرك! فدخل به عليه؛ فلما رآه استشاط غضبا، وقال له: أخرج الساعة احمل ألف ألف دينار! فقال له: نعم! وخرج، فقال: لا كثير! إحمل خمس ماية ألف دينار! فقال: السمع والطاعة! فقال: لا كثير! إحمل ثلاث ماية ألف دينار! فقال: السمع والطاعة! فقال: لا كثير! إحمل الساعة ماية ألف دينار! فقال: السمع والطاعة! فخرج، فقال له الأمير سيف الدين طغاي: لا تسقع دقنك وتحضر الجميع الآن! ولكن هات لي الآن منها عشرة آلاف دينار، ودخل بها إلى السلطان فسكن غيظه، وبقي كل يومين وثلاثة يحمل خمسة آلاف دينار، ومرة ثلاثة آلاف دينار، ومرة ألفين، ولم يزل هو والقاضي فخر الدين ناظر الجيش يصلحان أمره عند السلطان إلى أن رضي عنه وسامحه بما بقي، واستخدمه ناظر الخاص. وهو أول من باشر هذه الوظيفة، ولم تكن تعرف أولا. ثم تقدم وأحبه محبة لم يحبها لآخر مثله. وكان يخلع عليه أطلس أبيض والفوقاني بطرز، والتحتاني بطرز، والقبع زركش على ما استفاض. وكانت الخزائن جميعها عنده في بيته، وإذا أراد السلطان شيئا نزل إليه مملوك إلى بيته واستدعى منه ما يريده فيجهزه إليه من بيته. وكان يخلع على أمراء الطبلخانات الكبار من عنده. وقيل إن السلطان نزل يوما من الصيد، فقال له: يا قاضي! إعرض أنت صيود الأمراء؛ فإن لي ضرورة! ودخل الدهليز، ووقف القاضي كريم الدين على باب الدهليز، وكان الأمراء يحضرون صيودهم على طبقاتهم بين يديه، وهو يخلع عليهم على طبقاتهم، واحدا بعد واحد. وحج هو والخونده طغاي امرأة السلطان، واحتفل بأمرها، وكان كل سماط في الغداء والعشاء يحضر لها أنواع البقل طرية، والجبن المقلي سخنا؛ أخذ معه الأبقار الحلابة، وحمل الخضر في مزارعها بالطين على الجمال. وكان يخدم كل أحد من الأمراء الكبار المشايخ، والخاصكية الكبار، والجمدارية الصغار، وكل أحد حتى الأوشاقية في الإسطبل، وأرباب الوظائف. وكان في أول الأمر ما يخرج القاضي فخر الدين لصلاة الصبح، إلا ويجد كريم الدين راكبا وهو ينتظره، ويطلع في خدمته إلى القلعة، ودام الأمر هكذا ستة أشهر أو ما هو حولها ثم إن فخر الدين كان يركب ويحضر إلى بابه وينتظره ليطلع معه إلى القلعة. وكان في كل يوم ثلاثاء يحضر إلى جار فخر الدين ويتغذى عنده، ويحضر مخفيتين لا يعود إليه شيء من ماعونهما الصيني أبدا. وكان يركب في عدة مماليك أتراك، يقال: سبعون مملوكا أو أقل بكنابيش عمل الدار، وطرز ذهب والأمراء تركب في خدمته. وبالجملة، فما رأى أحد من المتعممين ما رآه القاضي كريم الدين ولا غيره! وقيل إنه طلبه السلطان يوما إلى الدور فدخل وبقيت الخزندارة تروح وتجيء مرات فيما تطلبه الخونده طغاي، فقال له السلطان: يا قاضي، أيش حاجة لهذا التطويل بنتك ما تختبي منك، أدخل إليها أبصر ما تريده إفعله! فقال ودخل إليها وسير السلطان قال لها: أبوك هنا ابصري له ما ياكل! فأخرجت له طعاما وقام السلطان إلى كرمة في الدور وقطع منها عنبا، وأحضره وهو ينفخه من الغبار وقال: يا قاضي، كل من عنب دورنا! وكان إذا أراد أن يعمل سوءا ويراه قد أقبل يقول: جاء القاضي وما يدعنا نعمل ما نريد! فيحدثه في إبطال ما كان هم به من الشر. ومدة حياته لم يقع من السلطان إلا خير. وأما مكارمه، فلم أسمع من أحد عنه إلا مكرمة أو منقبة بديعة، حكى لي غير واحد بالقاهرة، أنه حضرت له امرأة رفعت قصة تطلب منه إزارا، فوقع في ظاهرها إلى الصيرفي بمبلغ ثمان ماية درهم فلما رأى الصيرفي أنكر ذلك وأوقفها وتوجه إليه، وقال: يا سيدي! هذه سألت إزارا، والإزار ما ثمنه هذا المبلغ! فقال له: صدقت! وأخذ القصة، وقال: هذا متاع الله تعالى، وهذه متاعي، وزاد الثمان ماية ثمانين! وقال: أنا ما أردت إلا ثمانين، ولكن الله أراد الثمان ماية، فوزن الصيرفي للمرأة ثمان ماية وثمانين. حكى لي هذه غير واحد. وقيل لي إنه كان له صيرفي يستدعي منه ما يريد صرفه لمن سأله شيئا، وإن الصيرفي أحضر إليه مرة وصولات عديدة ليست بخطه فأنكرها، فقال الصيرفي: هذا في كل وقت يحضر إلي مثل هذه الوصولات! فقال: إذا جاء أمسكه وأحضره! فلما جاءه على العادة أمسكه، وأحضره إلى بابه، فقيل له: إن الصيرفي وقع بالمزور! فقال: سيبوه ما لي وجه أراه. ثم قال: أحضروه! فلما مثل بين يديه، قال له: ما حملك على هذا؟ قال: الحاجة! فقال له: كلما احتجت إلى شيء اكتب به خطك على عادتك لهذا الصيرفي، ولكن ارفق فإن علينا كلفا كثيرة! وقال الصيرفي: كلما جاء إليك خطه بشيء فاصرفه ولا تشاور عليه. وحكي لي أنه قبل إمساكه ضيع بعض بابية مماليك بكتمر الساقي حياصة ذهب فقال صاحبها للأمير، فقال الأمير: إن لم يحضر الحياصة، وإلا روحوا به إلى الوالي ليقطع يده! فنزلوا بذلك البابي، فوجد القاضي كريم الدين آخر النهار طالع القلعة، فوقف له وشكا حاله، فقال: أخروا أمره إلى غد! ولما نزل إلى داره، قال لعبده: خذ معك غدا حياصة ذهب لنعطيها لذلك البابي المسكين، فلما أصبح وطلع القلعة، أمسك واشتغل الناس بأمره، ونسي أمر البابي، ولما تفرغ الناس طلب البابي، وجهز إلى الوالي، فقال له رفقاه: ما كان القاضي كريم الدين قد وعدك؟ روح إليه! فقال: يا قوم! إنسان قد أمسك وصودر أروح إليه! فقالوا له: روح إليه! وكان قد أمر له بالمقام في القرافة فلما دخل إليه شكا إليه حاله، فقال: يا ابني جئت إلي وأنا في هذه الحال! ثم رفع المقعد من تحته، وقال له: خذ هذه الدراهم استعن بها، وكانت قريب الألفين، فلما أخذها وخرج، قال لذلك العبد: ما كنت قد أعطيتك حياصة لهذا البابي؟ فقال: نعم! وهذه معي! فقال: هاتها! فأخذها وطلب البابي ودفعها إليه، وقال: هذه الحياصة أعطهم إياها، والدراهم أنفقها! فطلع بالحياصة، وأعطاها للمملوك، فدخل بها إلى الأمير سيف الدين بكتمر، فقال له: قل أمر هذه الحياصة، كيف؟ فحكى له ما جرى له مع كريم الدين، فقيل إن بكتمر الساقي لطم وجهه وقال: يا مسلمين! مثل هذا يمسك! لأنه ما أمسك إلا بغير رضاه!
حكى لي القاضي شهاب الدين ابن فضل الله أنه بلغه أن القاضي علاء الدين ابن عبد الظاهر، والقاضي نجم الدين ابن الأثير قعدا يوما على باب القلة وأجري ذكر كريم الدين ومكارمه فقال علاء الدين: ما مكارمه إلا لمن يخافه! فهو يصانع بذلك عن نفسه! فما كان بعد يومين أو ثلاث حتى احتاج نجم الدين ابن الأثير إلى رصاص يستعمله في قدور حمام، فكتب ورقة إلى كريم الدين يسأل بيع جملة من الرصاص بديوان الخاص، فحمل إليه جملة كبيرة فضل له عما احتاج إليه ثلاثون قنطارا، ولم يأخذ عن ذاك ثمنا. وأما علاء الدين فإنه تركه يوما وهو في بستانه وانحدر إليه في البحر، فلم يشعر به إلا وقد أرست حراقته على زريبة علاء الدين، فنزل إليه وتلقاه، واندهش لقدومه، فحلف أنه ما يأكل ما يحضره إليه من خارج البستان، وإلا مهما كان طعام ذلك النهار يحضره! فأحضر له ما اتفق حضوره! وقال: يا مولانا، أنا ما أعلمتك بمجيئي ولكن أنا مثل اليوم ضيفك! ولكن لا ألتقي هذه العمارة على هذه الصورة، وشرع رتبها على ما أراد، وراح من عنده فلم يشعر علاء الدين ذلك اليوم إلا بالمراكب قد أرست على زريبته بأنواع الأخشاب والطوب، وأفلاق النخل والجبس والمهندسين والصناع، والفعول، وكلما يحتاج إليه، وأخذوا في هدم ذلك المكان وشرعوا في بنائه على ما قاله لهم فلم يأت على ذلك خمسة أيام أو ستة إلا وقد تكامل ورخم وزخرف وفرغ منه. فلما كان قبل ذلك الميعاد بيوم جاء إليه مركب موسق بأنواع الغنم والإوز والدجاج الفايق وغيره، والسكر والأرز، وجميع ما يطبخ حتى المخافي والماعون الصيني والجبن ومن يقليه، وعمل الطعام الفايق المختلف، ومد السماط العظيم، ونزل القاضي كريم الدين ومعه من يختاره، وجاء إليه وجد الدار قد عمرت على ما أراد والطعام، قد مد سماطه، فأكل هو ومن معه، وأحضر أنواع الفاكهة والحلوى والمشروب. ولما فرغ من ذلك أحضر بقجة كبيرة أخرج منها ما يصلح للنساء من القماش الإسكندري وغيره، وما يصلح لملبوس علاء الدين، وقال: هذه خمسة آلاف درهم يكسو بها مولانا عبيده وجواريه على ما يراه، وهذا توقيع تصدق به مولانا السلطان على مولانا فيه زيادة معلوم دراهم وغلة وكسوة ولحم وجراية، ونزل يركب فنزل معه، فلما ركب وفارقه قال: يا مولانا علاء الدين، والله هذه الأشياء أنا أفعلها طبعا وأنا لا أرجوك ولا أخافك!
وعلى الجملة فما سمعت عنه بالديار المصرية إلا كل مكرمة غير الأخرى بيتدع فعلها ولم نسمعها عن غيره وهو الذي صدق أخبار البرامكة. ومن رياسته أنه كان إذا قال لك نعم كانت نعم، وإذا قال لك لا فهي لا! وهذه تمام الرياسة. قدم من الثغر نوبة حريق القاهرة، ونسب إليه ميل إلى النصارى فغوث به الغوغاء ورجموه، فغضب السلطان وقطع أيدي أربعة، وتزاحم الخلق، واختنق رجل وكان إذا دخل إلى البيمارستان المنصوري وقد ولي نظره يتصدق بعشرة آلاف درهم، فمات في مرة ثلاثة أنفس على ما قيل. وقيل إنه شرب مرة دواء فجمع كل ما دخل القاهرة ومصر من الورد، وحمل إلى داره، وبسط إلى كراسي بيت الماء، وداس الناس ما داسوه، وأخذ ما فضل وأباعه الغلمان للبيمارستان بمبلغ ثلاثة آلاف درهم.
وكان وقورا عاقلا داهية، جزل الرأي، بعيد الغور، عمر بالزربية جامعا وميضأة، وعمر في طرق الرمل البيارات، وأصلح الطرق، وعمر جامع القبيبات، والقابون ووقف عليهما. ثم انحرف عنه السلطان ونكبه، وأقام في بيت الأمير سيف الدين أرغون النائب ثلاثة أيام، وكان الأمير سيف الدين قجليس يروح ويجيء إليه في الرسائل عن السلطان. ثم رسم بنزوله إلى القرافة. ثم إنه أخرج إلى الشوبك ثم إلى القدس، ثم طلب إلى مصر وجهز إلى أسوان. وبعد قليل أصبح مشنوقا بعمامته. وكان يحترم العلماء، وسمع البخاري، وقيل إنه لما أحس بقتله صلى ركعتين، وقال: هاتوا! عشنا سعداء ومتنا شهداء! وكان الناس يقولون: ما عمل أحد مع أحد ما عمله السلطان مع كريم الدين أعطاه الدنيا والآخرة! رحمه الله تعالى.
وكانت واقعته سنة أربع وعشرين وسبع ماية. ومناقبه كثيرة إلى الغية، ومكارمه جزيلة لا تحصى، وهذا أنموذج منها.
ومن مدح شرف الدين القدسي فيه قوله:
إذا ما بار فضلك عند قوم | قصدتهم ولم تظفر بطائل |
فخلهم خلاك الذم واقصد | كريم الدين فهو أبو الفضائل |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 19- ص: 0