الشيخ تقي الدين ابن تمام عبد الله بن أحمد بن تمام، الشيخ الإمام الأديب، تقي الدين الصالحي الحنبلي. أخو الشيخ محمد بن تمام المقدم ذكره في المحمدين. ولد سنة خمس وثلاثين، وتوفي سنة ثمان عشرة وسبعمائة. سمع من يحيى بن قميرة، والمرسي والبلداني، وقرأ النحو على ابن مالك وعلى والده بدر الدين. وكان دينا خيرا نزها محببا إلى الفضلاء، مليح المحاضرة، حسن العشرة، حسن النظم، حسن البزة مع الزهد والقناعة. وكان بينه وبين العلامة شهاب الدين محمود أنس عظيم واتحاد كبير. أخبرني حفيده القاضي شرف الدين أبو بكر ابن شمس الدين محمد بن محمود قال: كان جدي قد أذن لغلامه الذي معه نفقته أنه مهما طلب منه الشيخ تقي الدين من الدراهم يعطيه بغير إذنه وما كان يأخذ منه إلا ما هو مضرور إليه. أنشدني إجازة لنفسه القاضي شهاب الدين محمود ما كتبه من الديار المصرية إلى الشيخ تقي الدين بن تمام:
هل عند من عندهم برئي وأسقامي | علم بأن نواهم أصل آلامي |
وأن جفني وقلبي بعد بعدهم | ذا دائم وجده فيهم وذا دام |
بانوا فبان رقادي يوم بينهم | فلست أطمع من طيف بإلمام |
كتمت شأن الهوى يوم النوى فنمى | بسره من دموعي أي نمام |
كانت ليالي بيضا في دنوهم | فلا تسل بعدهم ما حال أيامي |
ضنيت وجدا بهم الناس تحسب بي | سقما فأبهم حالي عند لوامي |
وليس أصل ضنى جسمي النحيل سوى | فرط اشتياقي إلى لقيا ابن تمام |
مولى متى أخل من برء برؤيته | خلوت فردا بأشجاني وأسقامي |
نأى ورؤيته عندي أحب إلى | قلبي من الماء عند الحائم الظامي |
وصد عني فلم يسأل لجفوته | عن هائم دمعه من بعده هام |
يا ليت شعري ألم يبلغه أن له | أخا بمصر حليف الضعف مذ عام |
ما كان ظني هذا في مودته | ولا الحديث كذا عن ساكني الشام |
يا ساكني مصر فيكم ساكن الشام | يكابد الشوق من عام إلى عام |
الله في رمق أودى السقام به | كم ذا يعلل فيكم نضو أسقام |
ما ظنكم ببعيد الدار منفرد | حليف هم وأحزان وآلام |
يا نازحين متى تدنو النوى بكم | حالت لبعدكم حالي وأيامي |
كم أسأل الطرف عن طيف يعاوده | وما لجفني من عهد بأحلام |
أستودع الله قلبا في رحالكم | عهدته منذ أزمان وأعوام |
وما قضى بكم في حبكم أربا | ولو قضى فهو من وجد بكم ظام |
من ذا يلوم أخا وجد بحبكم | فأبعد الله عذالي ولوامي |
في ذمة الله قوم ما ذكرتهم | إلا ونم بوجدي مدمعي الدامي |
قوم أذاب فؤادي فرط حبهم | وقد ألم بقلبي أي إلمام |
ولا اتخذت سواهم منهم بدلا | ولا نقضت لعهدي عقد إبرام |
ولا عرفت سوى حبي لهم أبدا | حبا يعبر عنه جفني الهامي |
يا أوحدا أعربت عنه فضائله | وسار في الكون سير الكواكب السامي |
في نعت فضلك حار الفكر من دهش | وكل ظام سقي من بحرك الطامي |
لا يرتقي نحوك الساري على فلك | فكيف من رام أن يسعى بأقدام |
منك استفاد بنو الآداب ما نظموا | وعنك ما حفظوا من رقم أقلام |
إن الشهاب الذي سامى السماك على | وفضل فضلك فينا فيض إلهام |
لما رأيت كتابا أنت كاتبه | وأضرم الشوق عندي أي إضرام |
أنشدت قلبي هذا منتهى أربي | أعاد عهد حياتي بعد إعدامي |
يا ناظري خذا من خده قبلا | فهو الجدير بتقبيل وإكرام |
ثم اسرحا في رياض من حدائقه | وقد زها زهرها الزاهي بأكمام |
من ذا يوفيه في رد الجواب له | عذرا إليه ولو كنت ابن بسام |
فكم جنحت ولي طرف يخالسه | وأنثني خجلا من بعد إحجام |
يا ساكنا بفؤادي وهو منزله | محل شخصك في سري وأوهامي |
حقا أراك بلا شك مشاهدة | ما حال دونك إنجادي وإتهامي |
ولذ عتبك لي يا منتهى أربي | وفي العتاب حياة بين أقوام |
حوشيت من عرض يشكي ومن ألم | لكن عبدك أضحى حلف آلام |
ولو شكا سمحت منه شكايته | إن الثمانين تستبطي يد الرام |
وحيد دار فريد في الأنام له | جيران عهد قديم بين آكام |
طالت بهم شقة الأسفار ويحهم | أغفوا وما نطقوا من تحت أرجام |
أبلى محاسنهم مر الجديد بهم | وأبعد العهد منهم بعد أيام |
فلا عداهم من الرحمان رحمته | فهي الرجاء الذي قدمت قدامي |
وكم رجوت إلهي وهو أرحم لي | وقل عند رجائي قبح آثامي |
فطال عمرك يا مولاي في دعة | ودام سعدك في عز وإنعام |
ولا خلت مصر يوما من سناك بها | ولا نأى نورك الضاحي عن الشام |
وقالوا تقول الشعر قلت أجيده | وأنظمه كالدر راقت عقوده |
وأبتدع المعنى البديع بصنعة | يحلى بها عطف الكلام وجيده |
ويحلو إذا كررت بيت قصيدة | وفي كل بيت منه يزهى قصيده |
ولكنني ما شمت بارق ديمة | ولا عارض فيه ندى أستفيده |
فحسبي إله لا عدمت نواله | وكل نوال يبتديه يعيده |
وقالو: صبا بعد المشيب تعللا | وفي الشيب ما ينهى عن اللهو والصبى |
نعم قد صبا لما رأى الظبي آنسا | يميل كغصن البان يعطفه الصبا |
أدار التفاتا عاطل الجيد حاليا | وفي لحظه معنى به الصب قد صبا |
ومزق أثواب الدجى وهو طالع | وأطلع بدرا بالجمال تحجبا |
جرى حبه في كل قلب كأنما | تصور من أرواحنا وتركبا |
أكاتبكم وأعلم أن قلبي | يذوب إذا ذكرتكم حريقا |
وأجفاني تسح الدمع سيلا | به أمسيت في دمعي غريقا |
أشاهد من محاسنكم محيا | يكاد البدر يشبهه شقيقا |
وأصحب من جمالكم خيالا | فأنى سرت يرشدني الطريقا |
ومن سلك السبيل إلى حماكم | بكم بلغ المنى وقضى الحقوقا |
طرقتك من أعلى زرود ودونها | عنقا زرود ومن تهامة نفنف |
تتعسف المرمى البعيد لقصدها | يا حبذا المرمى وما تتعسف |
معان كدت أشهدها عيانا | وإن لم تشهد المعنى العيون |
وألفاظ إذا فكرت فيها | ففيها من محاسنها فنون |
تبدى فهو أحسن من رأينا | وألطف من تهيم به العقول |
وأسفر وهو في فلك المعاني | وعنه الطرف ناظره كليل |
له قد يميل إذا تثنى | كذاك الغصن من هيف يميل |
وخد ورده الجوري غض | وطرف لحظه سيف صقيل |
وخال قد طفا في ماء حسن | فراق بحسنه الخد الأسيل |
تخال الخد من ماء وخمر | وفيه الخال نشوان يجول |
وكم لام العذول عليه جهلا | وآخر ما جرى: عشق العذول |
ما لنا كلنا جو يا رسول | أنا أهوى وقلبك المتبول |
ألح عذولي في هواه وزاد في | ملامي فقلت احتل على غير مسمعي |
فلم يدر من فرط الولوع بذكره | مصيبته حتى تعشقه معي |
بي غزال لما أطعت هواه | أخذ القلب والتصبر غصبا |
ما أفاق العذول من سكرة العذ | ل عليه حتى غدا فيه صبا |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 17- ص: 0