أبو طاهر القرمطي الجنابي سليمان بن الحسن بن بهرام أبو طاهر القرمطي -بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم وبعدها طاء مهملة- الجنابي- وقد تقدم ضبطه، رئيس القرامطة.
ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين قال: في هذه السنة تحرك قوم بسواد الكوفة يعرفون بالقرامطة، ثم بسط القول في ابتداء أمرهم، وحاصله أن رجلا أظهر العبادة والزهد والتقشف وكان يسف الخوص ويأكل من كسبه وكان يدعو الناس إلى إمام أهل البيت وأقام على ذلك مدة فاستجاب له خلق كثير وجرت له أحوال أوجبت حسن العقيدة فيه وانتشر بسواد الكوفة ذكره. ثم قال في سنة ست وثمانين ومائتين: وفي هذه السنة ظهر رجل يعرف بأبي سعيد الحسن الجنابي بالبحرين واجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة وقوي أمره وقتل من حوله -وقد تقدم ذكره في حرف الحاء في الحسن وأن غلامه الصقلبي قتله سنة إحدى وثلاث مائة، وقام بعده أبو طاهر ابنه. وفي سنة إحدى عشرة وثلاث مائة في شهر ربيع الآخر قصد أبو طاهر البصرة وملكها بغير قتال بل صعدوا إليها بسلالم شعر، فلما أحسوا بهم ثاروا إليهم فقتلوا والي البلد ووضعوا السيف في الناس فهربوا منهم. وأقام أبو طاهر سبعة عشر يوما تحمل إليه الأموال منهم، ثم عاد إلى بلده ولم يزل يعيث في البلاد ويكثر فيها الفساد من القتل والسبي والحريق والنهب إلى سنة سبع عشرة. فحج الناس وسلموا في طريقهم ثم إن أبا طاهر وافاهم بمكة يوم التروية فنهب أموال الحاج وقتلهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه وقلع الحجر الأسود وأنفذه إلى هجر. فخرج إليه أمير مكة في جماعة من الأشراف فقاتلوه فقتلهم أجمعين، وقلع باب الكعبة وأصعد رجلا ليقلع الميزاب فسقط فمات وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام من غير كفن ولا غسل ولا صلاة على أحدهم. وأخذ كسوة البيت وقسمها بين أصحابه ونهب دور أهل مكة. فلما بلغ ذلك المهدي عبيد الله صاحب إفريقية كتب إليه ينكر عليه ويلومه ويلعنه ويقول له: حققت علينا شيعتنا ودعاة دولتنا الكفر واسم الإلحاد بما فعلت وإن لم ترد على أهل مكة والحجاج وغيرهم ما أخذت منهم وترد الحجر الأسود إلى مكانه وترد الكسوة وإلا فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة! فلما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر وما أمكنه من أموال أهل مكة وقال: أخذناه بأمر ورددناه بأمر. وكان بجكم التركي أمير بغداد والعراق قد بذل لهم في ردة خمسين ألف دينار فلم يردوه. قال ابن الأثير: ردوه إلى الكعبة المعظمة لخمس خلون من ذي القعدة وقيل من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة في خلافة المطيع وإنه لما أخذوه تفسخ تحته ثلاث جمال قوية من ثقله ولما ردوه أعادوه على جمل واحد فوصل به سالما. قال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان: وهذا الذي ذكره شيخنا من كتاب المهدي القرمطي لا يستقيم لأن المهدي توفي سنة اثنتين وعشرين وثلاث مائة وكان رد الحجر الأسود سنة تسع وثلاثين فقد ردوه بعد موته بتسع عشرة سنة والله أعلم. ثم قال شيخنا عقيب هذا: ولما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة، قال ابن خلكان: وذكر غير شيخنا أن الذي رده هو ابن شنبر وكان من خواص أبي سعيد. قلت، قال ابن أبي الدم في كتاب الفرق الإسلامية: أن الخليفة راسل أبا طاهر في ابتياعه فأجابه إلى ذلك فباعه من المسلمين بخمسين ألف دينار وقيل بثلاثين، وجهز الخليفة إليهم عبد الله بن عكيم المحدث وجماعة معه. فأحضر أبو طاهر شهودا ليشهدوا على نواب الخليفة بتسليمه ثم أخرج لهم أحد الحجرين المصنوعين فقال له عبد الله بن عكيم: إن لنا في حجرنا علامتين: لا يسخن بالنار ولا يغوص في الماء، فأحضر ماء ونارا وألقى الحجر في الماء فغاص ثم ألقاه في النار فحمي وكاد يتشقق، فقال: ليس هذا بحجرنا ثم أحضر الحجر الآخر المصنوع وقد ضمخهما بالطيب وغشاهما بالديباج إظهارا لكرامته، ففعل به عبد الله بن عكيم كذلك ثم قال: ليس هذا بحجرنا فأحضر الحجر الأسود بعينه فوضعه في الماء فطفا ولم يغص ثم وضعه في النار فلم يسخن، فقال: هذا حجرنا! فعجب أبو طاهر وسأله عن معرفة طريقه، فقال عبد الله بن عكيم: حدثنا فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحجر الأسود يمين الله في أرضه خلقه الله تعالى من درة بيضاء من الجنة وإنما اسود من ذنوب الناس، يحشر يوم القيامة وله عينان ينظر بهما وله لسان يتكلم به يشهد لكل من استلمه أو قبله بالإيمان وأنه حجر يطفو على الماء ولا يسخن بالنار إذا أوقدت عليه! فقال أبو طاهر: هذا دين مضبوط بالنقل.
قلت: وقال بعضهم: إن القرامطة أخذوا الحجر مرتين، فيحتمل أن المرة الأولى رده بكتاب المهدي والثانية رده لما اشتري منه أو بالعكس والله أعلم.
وقصد القرامطة أطراف الشأم وفتحوا سلمية وبعلبك وقتلوا غالب من بهما من المسلمين، وخرج المكتفي بنفسه في جيش عظيم لما عزموا على حصار دمشق فكثر الضجيج بمدينة السلام وسار حتى نزل الرقة وبث الجيوش بين حلب وحماة وحمص. وعادت القرامطة تقصد حصار حلب فالتقى الجمعان بتمنع موضع بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا وكان ذلك سنة إحدى وتسعون ومائتين أيام والده أبي سعيد، فانهزم جمع القرامطة وتبعهم المسلمون وحملوهم إلى بغداد وقتلوا. ثم قام القرامطة أيضا وكثر حربهم ولم يزالوا إلى أن مات أبو سعيد كما ذكر في ترجمته.
وقال أبو طاهر ابنه، وقيل إنه ملك دمشق، وقتل جعفر بن فلاح نائب المصريين كما تقدم، ثم بلغ عسكر القرامطة إلى عين شمس، وهي على باب القاهرة، وظهروا عليهم ثم انتصر أهل مصر عليهم فرجعوا عنهم، ولم يزل الناس منهم في شدة وبلاء. وقتل أبو طاهر سليمان سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مائة.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 15- ص: 0