ابن جبير محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، أبو الحسين: رحالة أديب. ولد في بلنسية (Valence) ونزل بشاطبة. وبرع في الأدب، ونظم الشعر الرقيق، وحذق الإقراء. وأولع بالترحل والتنقل، فزار المشرق ثلاث مرات إحداها سنة 578 – 581 هـ ، وهي التي ألف فيها كتابه ’’ رحلة ابن جبير –ط’’ ومات بالإسكندرية في رحلته الثالثة. ويقال: إنه لم يصنف كتاب ’’ رحلته’’ وإنما قيد معاني ما تضمنته فتولى ترتيبها بعض الآخذين عنه. ومن كتبه ’’نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان ’’ وهو ديوان شعره، على قدر ديوان أبي تمام، و’’ نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرن الصالح’’ مجموع ما رثي به زوجته ’’أم المجد’’.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 5- ص: 319
ابن جبير العلامة أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير بن محمد بن جبير الكناني، البلنسي، ثم الشاطبي، الكاتب البليغ.
ولد سنة أربعين.
وسمع من: أبيه الإمام الرئيس أبي جعفر، وأبي عبد الله الأصيلي، وأبي الحسن علي بن أبي العيش المقرئ صاحب أبي داود، وحمل عنه القراءات. وله إجازة أبي الوليد ابن الدباغ، ومحمد بن عبد الله التميمي.
نزل غرناطة مدة، ثم حج، وروى بالثغر وبالقدس.
قال الأبار: عني بالآداب، فبلغ فيها الغاية، وبرع في النظم والنثر، ودون شعره، ونال دنيا عريضة، وتقدم، ثم زهد، له ثلاث رحلات إلى المشرق، مات بالإسكندرية، في شعبان، سنة أربع عشرة وست مائة.
قلت: روى عنه: الزكي المنذري، والكمال الضرير، وأبو الطاهر إسماعيل الملنجي، وعبد العزيز الخليلي، وطائفة. وقد سمع بمكة من الميانجي، وببغداد من أبي أحمد بن سكينة.
ومن نظمه:
تأن في الأمر لا تكن عجلا | فمن تأنى أصاب أو كادا |
وكن بحبل الإله معتصما | تأمن من بغي كيد من كادا |
فكم رجاه فنال بغيته | عبد مسيء لنفسه كادا |
ومن تطل صحبة الزمان له | يلق خطوبا به وأنكادا |
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 16- ص: 81
محمد بن أحمد بن جبير الكناني
يكنى أبا الحسين، من أهل غرناطة. سكن مالقة وأقام بها مدة، ورحل إلى المشرق وأقام هنالك حتى توفي رحمه الله.
وجدت بخط بعض الشيوخ أن أبا الحسين هذا، كان أولا من العمال المشتغلين بأشغال السلطان، واكتسب مالا كثيرا. ثم نزع عن ذلك كله، وتصدق بجميع ماله، وزهد في الدنيا. ولم يزل على ذلك حتى لقي الله تعالى. فكان من أهل العلم والفضل والدين والأدب البارع والكلام الرائق والشعر الفائق. ويحدّث عن جماعة من شيوخ الأندلس. منهم أبو الحسن علي بن محمد بن أبي العشائر، قرأ عليه القرآن العظيم وحدثه بجميع الروايات. عن أبي الحسن بن الدش، عن أبي عمرو الداني. وحدث أيضا عن أبي عبد الله الأصيلي الطرطوشي، وعن أبي الحجاج بن يسعون. وحدث عن شيوخ المشرق، عن أبي أحمد عبد الوهاب بن علي بن سكينة الصوفي البغدادي، وعن أبي إبراهيم التونسي، وعن أبي حفص الميانشي، وعن أبي محمد القاسم بن عساكر، وعن غيرهم. وحدث عنه جماعة من أصحابنا.
وله كتاب جمع فيه رحلته، وعجائب ما رأى وشاهد، وأتقن فيه غاية الإتقان. وله شعر كثير في الزهد وغيره، وأدب جمّ. من كلامه رحمه الله: إن شرف الإنسان فبفضل وإحسان، وإن فاق فببذل وإنفاق.
ومن كتبه إلى بعض إخوانه: آن لعصا النّوى أن تنصدع، ولضوائق هذه النّوائب أن ترتدع، وللأيام أن تنشئ غير هذه المنازع وتبتدع، لشدّة ما لعبت بنا من حال إلى حال، وأرتنا الحقيقة في ملامح المحال. وكان يكفيها أن نثرت نظم ذلك الشّمل الذي كنت واسطة عقده، والرّسم الرّائق في برده، حتّى فجعتنا بفقد من بكت
الدّنيا وبنوها على فقده. إلى الله المشتكى من صروفها، وهو المسئول (عن) إزاحة منكرها ومعروفها. ولحين ما أشعرت بكونك على كثب من هذه الجهة، اختلست هذه الأحرف إليك (موجّهة)، من يد خاطر لا يعرّج على داعيه، ولا يكاد يسمع سرّا ولا يعيه. قد وله فلا يعرف دبيرا من قبيل، ولا يجد إلى العبارة عمّا يتلجلج في الصّدر من سبيل. لكن بحكم الشّوق إلى محاورتك بلسان القلم، رشحت لي صفاته بنبذة من الكلم، فأرسلت عنانه في ميدان الاختصار، وسلكت به في شعاب القول على غير استبصار. وأمّا شوقي إلى لقائك فلا أصفه، ولو خلت ما عسى (أن أقول) لا أنصفه. وحسبي ممّا يتحقّق من ذلك (.....)، معينا على تقدير أوكده، فيدخل مدخل الحديث المعاد، وأنت الأعلم به على القرب والبعاد. ولعلّ الزّمان ينبسط وجه إسعافه بلقية نغفر بها بعض ما جناه، ونقتطف الأنس على يديك حلوا جناه، إن شاء الله تعالى.
ولسيّدي الفضل في مراجعة تشفي عن مجتلى أحواله، لا برحت تتقلّب في قبضة آماله، بمنّ الله عزّ وجلّ والسلام.
ومن شعره يمدح أمير المؤمنين أبا يعقوب ابن أمير المؤمنين حين هجرته إلى الحضرة الإمامية مراكش وذلك في رمضان المعظم سنة أربع وستين وخمسمائة: [كامل]
بشراي قد (أبصرت) خير إمام | في حضرة التّقديس والإعظام |
أما وقد ألقت إليه (يد) النّوى | فلأعفونّ جناية الأيّام |
ولو انّني شئت انتصارا لم أكن | فيهنّ إلاّ فاقد الأحكام |
أنهضت عزمي فاستطار مصمّما | فكأنّني أنبتّ غرب حسام |
أهجعت نومي لابسا خلع الدّجى | وحدي، (فما) عرّجت بالنّوّام |
هي (هجعة) هجرت لها سنة الكرى | فالجفن لم يطعم لذيذ منام |
حمّ الرّدى فاخترت ريّا كأسه | والحرّ ريّاه بحرّ حمام |
لم أكترث لشتات شملي بالنّوى | فكأنّما للشّمل جمع نظام |
شوقا إلى دار الخلافة إنّها | دار الهدى ومعرّس الإسلام |
من كلّ معطية على علاّتها | وخدا، لها في الشّهر سير العام |
جبّ السّرى منها سنام فقارها | فكأنّها خلقت بغير سنام |
فأتت كأمثال القسيّ ضوامرا | ولربّما مرقت مروق سهام |
وافت أمير المؤمنين بنا على | شحط النّوى، فلها يد الإنعام |
لو أنعلت حرّ الخدود كرامة | لم نقض واجبها من الإكرام |
ولو استطعنا لم تكن تطأ (الثّرى) | إلاّ على الأرواح والأجسام |
كيما ترى ما دام إبضاع لها | لا تشتكي من وضع خفّ دام |
وبودّنا لو لم نكلّفها السّرى | ليكون هذا الحقّ للأقدام |
حتّى إذا رفع الحجاب بدا لنا | ملك، وقل إن شئت بدر تمام |
فتسكّن الجأش الطّموح عبابه | بطلاقة من وجهه البسّام |
ودنا الجميع للثم راحته التي | هي معدن الأرزاق والأقسام |
وانهلّ بعد تعلّل بسط المنى | فتلا وميض البرق صوب غمام |
عيد بما يهوى الإمام يعود | ما اخضرّ في وجه البسيطة عود |
لولا لزوم الشّرع لم نحفل به | إذ كلّ يوم في ذراه لعيد |
حيّا بما للعيد بدر خلافة | يهنيه إنّ قرانه لسعيد |
وأتى يجرّر بالمجرّة ذيله | ركضا وإنّ مزاره لبعيد |
وكأنّما أضناه شوق لقائه | أمن الأهلّة هائم وعميد |
لم تثنه الأشواق عن حسد له | إحدى العجائب وامق وحسود |
بشرى أمير المؤمنين فإنّه | عيد حدته للفتوح سعود |
طرب الجواد وقد علوت بمتنه | حتّى كأنّ صهيله تغريد |
يهفو بعطفيه المراح فيرتمي | لعبا وينقص تارة ويزيد |
ولربّما سالت عليه سكينة | حتّى تخال بعطفتيه خمود |
يزهى فيظهر نخوة لمّا رأى | بك أنّه في حسنه محمود |
كيف استقلّ بطود حلم راجح | والطّود يثقل حمله ويئود |
لو كنت ترضى نعّلته خدودها | مستشرفين به:؛ الملوك الصّيد |
ملك تودّ النّيّرات لو انّها | حلي على أعطافه وفريد |
أو ما كفاها أنّ شسع نعاله | بجبين أشرفها، سنا معقود |
يا من يروم بلوغ بعض صفاته | هيهات ليس لكنهها تحديد |
كم ذا تحاول عدّ زهر خصاله | أقصر فما لأقلّها تعديد |
ويوم تضوع الشّمس حليا بحسنه | تفضّضه طورا وطورا تذهّب |
تريه كحلي مشرق الوجه في الضّحى | وتضمر شجوا في الأصيل فينحب |
تبسّم عن ثغر العشيّة مثل ما | جلا صفرة المسواك ألعس أشنب |
تجلّى به غصن تطلّع بشره | فقلنا: أيبدو الصّبح، والشّمس تغرب |
وقد قابلتنا من سجاياه نفحة | أنمّ من المسك الفتيق وأطيب |
شمائله تزهى الشّمول بطيبها | وما خلت أنّ الرّاح بالرّاح تعجب |
تدار علينا بالكئوس كواكب | إذا غاب منها كوكب لاح كوكب |
فنشربها في ورده وهي عندنا | ألذّ من العيش الهنيّ وأعذب |
بمجلس أنس ودّت الشّمس لو ترى | كئوسا بها بين النّدامى فتشرب |
يذكّرنا دار النّعيم بحسنه | يعيد شباب المرء والمرء أشيب |
محبّتنا أضحت إليه وسيلة | فتدني إلى مرضاته وتقرّب |
أصبحت مثل الجنان في الصّدر | أصون ما أحتويه كالسّرّ |
في خير قصر تريك ساحته | في مطلع الشّمس مطلع البدر |
كأنّني في جدار مجلسه | عين وبابي جفن بلا شفر |
فلتدع يا مبصري لساكنه | بالسّعد والملك آخر الدّهر |
أنا للنّدامى نزهة المستمتع | تبدو نجوم سعودهم في مطلع |
ما بيّ موضع لحظة إلاّ احتوى | نقلا فلي في النّفس أكرم موضع |
أنا مستطيل الشّكل إلاّ أنّني | قسّمت بين مسدّس ومربّع |
فمتى أكن والأقحوان بمجلس | لم يؤثر النّدماء إلاّ موضعي |
الفضل لي وإن اشتبهنا منصبا | وكفى بأنّي من ذوات الأربع |
أبا حكم أين عهد الوفاء | فقدما عهدتك تعزى إليه |
وما العذر في أن أتاك الرّسول | فأصدرته ضاربا صدرتيه |
بعثت إليك بخلّ كريم | يمدّ إليك ذراع النّجاد |
فوشّح به معطفيك إذا ما | دفعت إلى جوب بيد البلاد |
وسر نافذا حاكيا مضربيه | ملقّى من السّعد فوق المراد |
وأب تحت عرض كثيف | كما آب في العمر يوم الجلاد |
لك الشّكر شفّعت بيض الأيادي | بأبيض صافحني بالنّجاد |
تهادى بأربعة مثله | حداد لبسن حداد المداد |
سيوف من النّظم مطبوعة | مقلّلة عرك كلّ انتقاد |
أتتني في الطّرس مسلولة | فأغمدتها في سواد الفؤاد |
فأعددت هذي ليوم الفخار | وأعددت هذا ليوم الجلاد |
لا، وأعطاف الغصون الميّس | والصّبا تزجي عليل النّفس |
وابتسام الرّوض للطّلّ، وقد | رقرق الدّمع بجفن النّرجس |
ما رأينا يوم أنس مثله | كان أسنى بغية الملتمس |
وتلته ليلة صفحتها | ألفت شمل انشراح الأنفس |
أضحك اللهو بنا ثغر المنى | فبدت سمرتها كاللّعس |
جمعت أطرافها من قصر | للفتى مغربها كالغلس |
وسمت زهر اللّيالي حلية | فتحلّت بنجوم الأكؤس |
وابنة الكرم عروس تجتلى | فتخيّل حسن ذاك المعرس |
نزهة قادت إليها زورة | فاغتنمها نظرة المختلس |
يا له من مجلس فزت به | من فتى شرّف صدر المجلس |
علق مجد جاد من خلّته | لي بالعلق الخطير الأنفس |
لأبي عمرو بن مرتين علىّ | أنطقت بالمدح أهل الخرس |
أروع يطلع من آدابه | شهبا تجلو دياجي الحندس |
ذو بنان مثل شؤبوب الحيا | وذكاء كاشتعال القبس |
من يسابقه إلى معلوة | رام بالعير سباق الفرس |
علّقته كالسّيف راع بهاؤه | لكن بغير جوانحي لم يغمد |
عافوا العذار بصفحتيه وما دروا | أنّ الفرند يزين كلّ مهنّد |
مولاي إنّي بحال شوق | كلّ اصطبار به يحول |
مرتقبا زورة عساها | تشفي جوى هاجه الغليل |
أرسلت فيها إليك قلبي | وما أرى يرجع الرّسول |
أبا يحيى أما في الرّيّ فضل | تجود به فقد طال الظّماء |
فأطلعها لنا حمراء نبصر | بها شفقا تضمّنه الإناء |
وليس بلونها لكن أغبّت | زيارتها فخامرها الحياء |
يا خير خلّ فدته نفسي | والنّفس في حقّه تهون |
حدّثت عن مجلس أنيق | في مثله يحسن المجون |
جال به فارس ظريف | تتبعه لحظها العيون |
في شكّة الحرب قد تبدّى | يرجمه وهمها الظّنون |
ذو حركات يخفّ فيها | من لم يزل دأبه السّكون |
رقّت فلو أنّها نسيم | ما شعرت مسّه الغصون |
لو أنّه جال في المآقي | لما أحسّت به الجفون |
فهل إلى مثله سبيل | ومثله قلّما يكون |
ألا ربّ عرض امرئ مسلم | بغير لسانك لم يستبح |
إذا كنت في النّاس ذا غيبة | تبيح بها منكرا لم يبح |
فلست بأوّل ذئب عوى | ولست بأوّل كلب نبح |
يقولون إنّ العين داعية الهوى | ولو صحّ ذا ما كانت العين تعشق |
فؤاد الفتى لا عينه يوجب الهوى | فرؤيته من رؤية العين أصدق |
وليس بكاء العين حبّا وإنّما | لإشفاقها للقلب تبكي وتشفق |
بأبي رشا سفكت دمي ألحاظه | وسبى برائق حسنه الألبابا |
من كان ينكر سفكه فليأته | يرمق دمي في راحتيه خضابا |
يا رشأ حظّي إبعاده | وحظّ غيري منه إسعاده |
خبت، وكلّ نال منك المنى | أسعد أهل الحبّ أوغاده |
بي ظمأ برح ولكنّه | زهّد في المورد ورّاده |
لو كنت تبصر منذ يوم قد نأى | تيسين ضمّهما، وظبيا مجلس |
لعجبت قبحا منهما، وملاحة | منه، وقلت: حظيرة أم مكنس |
أفقيهنا المستنّ دينا والذي | شهدت له بالفضل منه شواهد |
لو تبصر ابن سعادة ونديمه | قد حلّ بينهما الغزال الشّارد |
لرأيت من ثقل عليك وخفّة | جبلين بينهما نسيم راكد |
أقول وقد دعا للخير داع | حننت له حنين المستهام |
حرام أن يلمّ بي اغتماض | ولم أرحل إلى البيت الحرام |
ولا طافت بي الآمال إن لم | (أطف ما بين زمزم والمقام |
ولا طابت حياة لي إذا لم) | أزر من طيبة خير الأنام |
فأهديه السّلام وأقتضيه | رضى يدني إلى دار السّلام |
غريب تذكّر أوطانه | فهيّج بالذّكر أشجانه |
يحلّ عرى صبره بالأسى | ويعقد بالنّجم أجفانه |
طهّر بماء التّقى جنانك | واصحب على حاله زمانك |
ودار أبناءه عسى أن | تنال من بغيتهم أمانك |
واصمت إذا ما سمعت لغوا | ولا تحرّك به لسانك |
رأى الحزن ما عندي من الحزن والكرب | فروّع من حالي فلم يستطع قربي |
وأظهر عجزا عن مقاومة الأسى | وأيقن ألاّ خطب أعظم من خطبي |
وقال التمس غيري لنفسك صاحبا | وقل للرّدى حسبي، بلغت المدى، حسبي |
فقلت وهل يكفيني الوجد صاحبا | وكيف وما بي قد تعدّى إلى صحبي |
فلمّا انتهت بي شدّتي في مصيبتي | وبرّح بي يأسي رجعت إلى ربّي |
فأستنشقن روح الرّضى بقضائه | فناديت يا برد النّسيم على قلبي |
إلى الله أشكو بالرّزايا وفعلها | فقد كدّرت شربي وقد روّعت سربي |
سل اللّيل عنّي هل أمنت إلى الكرى | فكيف وأجفاني مع النّوم في حرب |
وقد رقّ لي حتّى تفرّى أديمه | وأقبل يبكيني بأنجمه الشّهب |
لحالي أبدى الرّعد أنّة موجع | ولي البرق شعّ في التّرامي مع السّحب |
ولي لبس الجوّ الحداد بدجنة | وأسبل دمع القطر سكبا على سكب |
ومن أجل ما بي أبدت الشّمس بالضّحى | شحوب ضنى قبل الجنوح إلى الحجب |
على واحد قد كان لي ففقدته | على غرّة فقد الجوانح للقلب |
فحزني عليه جاوز الحدّ قدره | ولا حزن يعقوب، ويوسف في الجبّ |
وأكثر إشفاقي لأمّ حزينة | مقسّمة بين الأسى فيه والحبّ |
وأذهلها عن حالها فرط وجدها | عليه وقد يستسهل الصّعب للصّعب |
بنيّ أجبها فهي تدعوك حسرة | وأدمعها تنهلّ غربا على غرب |
بنيّ أحقّا صرت رهن يد البلى | ونهب الثّرى أمسيت، يا لك من نهب |
بنيّ عساها نومة، فانتباهة | فكم ذا أنادي العين: طال الكرى تعبي |
بنيّ أعرني من منامك خلسة | لعلّي أن ألقى مناي من الغيب |
بنيّ أرحني بالإجابة مخبرا | فقد كنت ذا رأي، فما لك لا تنبي |
بنيّ وفي طيّ الحشا كنت ثاويا | فكيف سخت نفسي بدفنك في التّرب |
فلا غرو أن أضحى لك الغرب مدفنا | فإنّ مغيب الشّمس والبدر في الغرب |
لقد هصرت كفّ المنون إلى البلى | قضيب شباب كان من أنضر القضب |
فيا غصنا خفّت أزاهر حسنه | تحلّيك أجفاني بلؤلؤها الرّطب |
ويا أحمد المحمود قد كنت مشبها | بطيب الخلال الحلو والبارد العذب |
لآل جبير فيك أيّ فجيعة | فما منهم من يستفيق من الكرب |
وقد كنت وسطى العقد فيهم فربّما | نقصت، فصار العقد منتثر الحبّ |
وكم خالة أمست عليك بحالة | من الحزن ما تنفكّ ذاهلة اللّبّ |
وأبناء خالات تسقّيهم الأسى | كئوسا وهم حتّى إلى الآن في الشّرب |
وصاحبة قد كنت صبّا بذكرها | وكنت لها حبّا، وناهيك من حبّ |
فأنّت وهامت فيك بالوجد والأسى | وحقّ لها فالصّبّ يفجع بالصّبّ |
وراحت بأثواب الحداد وطالما | لها كنت تستخفي الحرير مع العصب |
وكم أجنبيّ فيك قد بات ساهرا | تقلّبه الأفكار جنبا إلى جنب |
رزقت قبولا ما سمعت بمثله | فهذا على هذا بإشفاقه يربي |
وكنت وصولا للقرابة جاريا | لمرضاتهم، برّا، بريئا من العجب |
مجدّا إذا كلّفت أمر ملمّة | مضيت مضاء السّهم والصّارم العضب |
جوادا كريم النّفس تلتذّ بالنّدى | فتسخو ولا تخفي، وتحيي ولا تجبي |
حريصا على نيل المعالي بهمّة | كسبت بها من ذخرها أفضل الكسب |
وكانت لك الآداب روضة نزهة | وكنت محبّا في مطالعة الكتب |
تفتّق زهر النّثر في الطّرس يانعا | وتنظم درّ الشّعر نظما بلا تعب |
وما زلت بالهدي الجميل وبالحجا | معزّا (لأهل) في البعاد وفي القرب |
وزاد على العشرين سنّك أربعا | فعاجلك الحين المقدّر بالذّنب |
شهيدا بطاعون أصابك بغتة | كمثل شهيد الطّعن في ساحة الضّرب |
وكنت غريبا فاستزدت شهادة | لأخرى كبشرى سيّد العجم والعرب |
أطلت مغيبا ثمّ جئت مودّعا | إلى سفر (يدنو) مدلاّ على الرّكب |
ولم أشف من لقياك قلبي فليتني | لبرح اشتياقي لو قضيت به نحبي |
وعقباك بعدي كنت أرجو بقاءها | زمانا ليبقى من بنيك بها عقبي |
رضيت بحكم الله فيك فإنّما | نقلت لحزب الله، بورك من حزب |
وإنّي لراض عنك، فابشر، فبالرّضى | أرجّي لك الزّلفى ومغفرة الذّنب |
فجادت على مثواك مزنة رحمة | وبوّأك الرّحمن في المنزل الرّحب |
دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان، دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط - المغرب-ط 1( 1999) , ج: 1- ص: 138