صاحب الخراج بمصر الخصيب بن عبد الحميد أبو نصر، صاحب ديوان الخراج بمصر. قصده أبو فراس من بغداد وامتدحه بقصيدته الرائية المشهورة التي أولها:
أجارة بيتينا أبوك غيور | وميسور ما يرجى لديك عسير |
منها:
ذريني أكثر حاسديك برحلة | إلى بلد فيه الخصيب أمير |
فما جازه جود ولا حل دونه | ولكن يصير الجود حيث يصير |
فتى يشتري حسن الثناء بماله | ويعلم أن الدائرات تدور |
فمن كان أمسى جاهلا بمقالتي | فإن أمير المؤمنين خبير |
وقد اشتهرت هذه الأبيات وهذه القصيدة، وأشار الناس إليها وعارضها الشعراء وضمنوا من أبياتها في أشعارهم. وممن عارضها ابن دراج القسطلي بقصيدة طائلة هائلة، وأولها:
دعي عزمات المستضام تنير | فتنجد في عرض الفلا وتغور |
وهي قصيدة بليغة فصيحة. وقد ذكرت بعضها في ترجمة ابن دراج في مكانه، واسمه أحمد بن محمد بن العاص. ولما قلد الرشيد هرون الخصيب خراج مصر وضياعها، توجه إلى مصر. ولما استقر بها كتب إلى أبي نواس يستزيره، وكان به خاصا. فخرج إليه، وخرج وقت خروجه جماعة من الشعراء ليمتدحوه ولم يعرفوا خروج أبي نواس. واجتمعوا بالرقة، فقال بعضهم لبعض: هذا أبو نواس يمضي إلى الخصيب ولا فضل فيه لأحد معه، فارجعوا من قريب. وبلغ ذلك أبا نواس، فصار إليهم مسلما وقال: بلغني ما عزمتم عليه، فلا تفعلوا وامضوا حتى نصطحب، فإني والله لا أبدأ إلا بكم. فشكروا له وسكنوا إلى قوله ومضوا. فلما قدموا مصر، وبلغ الخصيب خبر أبي نواس، جلس له جلوسا عاما في مجلس جليل. ودخل إليه الشعراء فسلم عليه وقال:
#قد استزرت عصبة قد أقبلوا
#وعصبة لم تستزرهم طفلوا
#رجوك في تطفيلهم وأملوا
#وللرجاء حرمة لا تجهل
#فافعل كما كنت قديما تفعل
فاستحسن الخصيب ذلك وكل من حضره. وقال الخصيب: من هؤلاء؟ فعرفه أبو نواس خبرهم، فقال له: اجلس وقدر لهم صلاتهم على حسب مقاديرهم في نفسك. فقدر لهم أبو نواس صلاتهم وعرضها عليه. فوقع بإطلاقها فأطلقت من وقتها وقال: اخرج ففرقها عليهم. وعاد إلى الخصيب فقال له: اجلس حتى أتفرغ لك وللأنس بك، وفيه يقول:
أنت الخصيب وهذه مصر | فتدفقا فكلاكما بحر |
لا تقعدا بي عن مدى أملي | شيئا فما لكما به عذر |
ويحق لي إذ صرت بينكما | أن لا يحل بساحتي فقر |
وزار الخصيب رجل - وهو يلي مصر- مستميحا، فحرمه وانصرف. فأخذه أبو الندى اللص، وكان يقطع الطريق فقال له: هات ما أعطاك الخصيب. فقال: لم يعطني شيئا. فضربه مائتي مقرعة يقرره على ما ظن أنه ستره عنه. ثم قدم على الخصيب آخر فحرمه فقال له: جعلت فداك، تكتب لي إلي أبي الندى اللص تعرفه فيها أنك لم تعطني شيئا لئلا يضربني. فضحك منه وبره. وكان يكتب للخصيب جابر بن داود البلاذري المؤلف لكتاب البلدان ولغيره من الكتب.