السيد محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل بن المنصور
ابن محمد بن العفيف بن مفضل بن الحجاج بن على بن يحيى بن القاسم ابن الإمام الداعي يوسف ابن الإمام المنصور بالله يحيى بن الناصر أحمد بن الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسمعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً وقد سردت نسبة ههنا وإن كان قد تقدم في ترجمه السيد عبد الله بن علي الوزير لكنني رأيت السخاوي ترجمة فغلط في نسبة وقال محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن الهادي بن يحيى بن الحسين بن القاسم وذكر النسب إلى علي كرم الله وجهه فجعل المرتضى بن الهادي وجعل الهادي بن يحيى بن الحسين وهذا غلط بين وصاحب الترجمة هو الإمام الكبير المجتهد المطلق المعروف بابن الوزير ولد في شهر رجب سنة 775 خمس وسبعين وسبعمائة بهجر الظهراوين من شطب وقال السخاوي إنه ولد تقريباً سنة 765 وهذا التقريب بعيد والصواب الأول قرأ في العربية على أخيه العلامة الهادي ابن إبراهيم وعلى القاضي العلامة محمد بن حمزة بن مظفر وقرأ علم الكلام على القاضي العلامة علي بن عبد الله بن أبي الخير كشرح الأصول والخلاصة والغياصة وتذكرة ابن متويه وقرأ علم أصول الفقه على السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم وقرأ عليه أيضا علم التفسير وقرأ الفروع على القاضي العلامة عبد الله بن الحسن الدواري وغيره من مشايخ صعدة ومن مشايخه السيد العلامة الناصر بن أحمد ابن أمير المؤمنين المطهر وقرأ الحديث بمكة على محمد بن عبد الله بن ظهيرة وفي غيرها على نفيس الدين العلوي وعلى جماعة عدة والحاصل أنه قرأ على أكابر مشايخ صنعاء وصعدة وسائر المداين اليمنية ومكة وتبحر في جميع العلوم وفاق الأقران واشتهر صيته وبعد ذكره وطار علمه في الأقطار
قال صاحب مطلع البدور وقد ترجم له الطوائف وأقر له المؤالف والمخالف ترجم له ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة وترجم له مصنف سيرة العراقي علامة وقته بمكة انتهى وما ذكره من أن ابن حجر ترجم له في الدرر فلا أصل له فإنه لم يترجم له فيها أصلاً بل هي مختصة بمن مات في القرن الثامن ولم يترجم لمن تأخر موته إلى القرن التاسع حتى أكابر مشايخه كالعراقي والبلقيني وابن الملقن مع أنهم ماتوا في أول القرن التاسع كما تقدم ذلك وأما صاحب الترجمة فهو تأخر موته إلى سنة 840 أربعين وثمان مائة فكيف يترجم له بل ترجم له الحافظ ابن حجر العسقلاني في أنبائه وترجم له السخاوي كما تقدمت الإشارة إلى ذلك وترجم له التقي ابن فهد في معجمه فقال السخاوي إنه تعاني النظم فبرع فيه وصنف في الرد على الزيدية العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم واختصره في الروض الباسم وروي عن التقي بن فهد أنه أنشد لصاحب الترجمة في معجمه قوله
العلم ميراث النبي كذا أتى | في النص والعلماء هم وراثه |
فإذا أردت حقيقة تدري لمن | وراثه وعرفت ما ميراثه |
ما ورث المختار غير حديثه | فينا فذاك متاعه وأثاثه |
فلنا الحديث وراثة نبوية | ولكل محدث بدعة أحداثه |
وإنما اقتصر على رواية هذا الشعر مع أن في شعر صاحب الترجمة ما هو أرفع منه بدرجات لأن لقائه له كان في سنة 816 وقد نظم بعد ذلك نظما كثيرا جدا وارتفعت طبقته في العلم وهكذا ابن حجر فإنه ذكره في أنبائه في ترجمة أخيه الهادي لأن صاحب الترجمة إذ ذاك كان صغيرا فقال وله أخ يقال له محمد مقبل على الاشتغال بالحديث شديد الميل إلى السنة بخلاف أهل بيته انتهى
ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم لأطال عنان قلمه في الثناء عليه فإنه يثني على من هو دونه بمراحل ولعلها لم تبلغ أخباره إليه وإلا فابن حجر قد عاش بعد صاحب الترجمة زيادة على اثني عشر سنة كما تقدم في ترجمته وكذلك السخاوي لو وقف على العواصم والقواصم لرأى فيها ما يملأ عينيه وقلبه ولطال عنان قلمه في ترجمته ولكن لعله بلغه الاسم دون المسمى ولا ريب أن علماء الطوائف لا يكثرون العناية بأهل هذه الديار لاعتقادهم في الزيدية ما لا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عددا يجاوز الوصف يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية وما يلتحق بها من دواوين الإسلام المشتملة على سنة سيد الأنام ولا يرفعون إلى التقليد رأسا لا يشوبون دينهم بشئ من البدع التي لا يخلو أهل مذهب من المذاهب من شيء منها بل هم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتاب الله وما صح من سنة رسول الله مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التي هي آلات علم الكتاب والسنة من نحو وصرف وبيان وأصول ولغة وعدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية ولو لم يكن لهم من المزية إلا التقيد بنصوص الكتاب والسنة وطرح التقليد فإن هذه خصيصة خص الله بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة ولا توجد في غيرهم إلا نادراً ولا ريب أن في سائر الديار المصرية والشامية من العلماء الكبار من لا يبلغ غالب أهل ديارنا هذه إلى رتبته ولكنهم لا يفارقون التقليد الذي هو دأب من لا يعقل حجج الله ورسوله ومن لم يفارق التقليد لم يكن لعلمه كثير فائدة وإن وجد منهم من يعمل بالأدلة ويدع التعويل على التقليد فهو القليل النادر كابن تيمية وأمثاله وإني لأكثر التعجب من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين الموجودين في القرن الرابع وما بعده كيف يقفون على تقليد عالم من العلماء ويقدمونه على كتاب الله وسنة رسوله مع كونهم قد عرفوا من علم اللسان ما يكفي في فهم الكتاب والسنة بعضه فإن الرجل إذا عرف من لغة العرب ما يكون به فاهما لما يسمعه منها صار كأحد الصحابة الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم وآله وسلم ومن صار كذلك وجب عليه التمسك بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم وترك التعويل على محض الآراء فكيف بمن وقف على دقائق اللغة وجلايلها إفرادا وتركيبا وإعرابا وبناء وصار في الدقائق النحوية والصرفية والأسرار البيانية والحقائق الأصولية بمقام لا يخفى عليه من لسان العرب خافية ولا يشذ عنه منها شاذة ولا فاذة وصار عارفاً بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم في تفسير كتاب الله وما صح عن علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى زمنه وأتعب نفسه في سماع دوادين السنة التي صنفتها أئمة هذا الشأن في قديم الأزمان وفيما بعده فمن كان بهذه المثابة كيف يسوغ له أن يعدل عن آية صريحة أو حديث صحيح إلى رأي رآه احد المجتهدين حتى كأنه أحد العوام الأعتام الذين لا يعرفون من رسوم الشريعة رسما فيالله العجب إذا كانت نهاية العالم كبدايته وآخر أمره كأوله فقل لي أي فائدة لتضييع الأوقات في المعارف العلمية فإن قول إمامه الذي يقلده هو كان يفهمه قبل أن يشتغل بشيء من العلوم سواه كما نشاهده في المقتصرين على علم الفقه فإنهم يفهمونه بل يصيرون فيه من التحقيق إلى غاية لا يخفي عليهم منه شيء ويدرسون فيه ويفتون به وهم لا يعرفون سواه بل لا يميزون بين الفاعل والمفعول والذى أدين الله به أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاع على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون وعمل بها المتقدمون والمتأخرون كالصحيحين وما يلتحق بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره مع البيان لما هو صحيح ولما هو حسن ولما هو ضعيف وجب العمل بما كان كذلك من السنة ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي سواء كان قايله واحداً أو جماعة أو الجمهور فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب أو السنة فكيف بما كان منها كذلك بل الذي جاءنا في كتاب الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة إلى غير ذلك وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد فالحاصل أن من بلغ في العلم إلى رتبة يفهم بها تراكيب كتاب الله ويرجح بها بين ما ورد مختلفا من تفسير السلف الصالح ويهتدى به إلى كتب السنة التي يعرف بها ما هو صحيح وما ليس بصحيح فهو مجتهد لا يحل له أن يقلد غيره كائنا من كان في مسئلة من مسائل الدين بل يستروي النصوص من أهل الرواية ويتمرن في علم الدراية بأهل الدراية ويقتصر من كل فن على مقدار الحاجة والمقدار الكافي من تلك الفنون هو ما يتصل به إلى الفهم والتمييز ولا شك أن التبحر في المعارف وتطويل الباع في أنواعها هو خير كله لا سيما الاستكثار من علم السنة وحفظ المتون ومعرفة أحوال رجال الإسناد والكشف عن كلام الأئمة في هذا الشأن فإن ذلك مما يوجب تفاوت المراتب بين المجتهدين لا أنه يتوقف الاجتهاد عليه فإن قلت ربما يقف على هذا الكلام من هو متهيء لطلب العلم فلا يدري بما ذاك يشتغل ولا يعرف ما هو الذي إذا اقتصر عليه في كل فن بلغ إلى رتبة الاجتهاد والذي يجب عليه عنده العمل بالكتاب والسنة قلت لا يخفي عليك أن القرايح مختلفة والفطن متفاوتة والأفهام متباينة فمن الناس من يرتفع بالقليل إلى رتبة علية ومن الناس من لا يرتفع من حضيض التقصير بالكثير وهذا معلوم بالوجدان ولكني ههنا أذكر ما يكفي به من كان متوسطاً بين الغايتين فأقول يكفيه من علم مفردات اللغة مثل القاموس وليس المراد إحاطته به حفظاً بل المراد الممارسة لمثل هذا الكتاب أو ما يشابهه على وجه يهتدي به إلى وجدان ما يطلبه منه عند الحاجة ويكفيه في النحو مثل الكافية لابن الحاجب والألفية وشرح مختصر من شروحها وفي الصرف مثل الشافية وشرح من شروحها المختصرة مع أن فيها ما لا تدعو إليه حاجة وفي أصول الفقه مثل جمع الجوامع والتنقيح لابن صدر الشريعة والمنار للنسفي أو مختصر المنتهى لابن الحاجب أو غاية السول لابن الإمام وشرح من شروح هذه المختصرات المذكورة مع أن فيها جميعها ما لا تدعو إليه حاجة بل غالبها كذلك ولا سيما تلك التدقيقات التي في شروحها وحواشيها فإنها عن علم الكتاب والسنة بمعزل ولكنه جاء في المتأخرين من اشتغل بعلوم أخرى خارجة عن العلوم الشرعية ثم استعملها في العلوم الشرعية فجاء من بعده فظن أنها من علوم الشريعة فبعدت عليه المسافة وطالت عليه الطرق فربما بات دون المنزل ولم يبلغ إلى مقصده فإن وصل بذهن كليل وفهم عليل لأنه قد استفرغ قوته في مقدماته وهذا مشاهد معلوم فإن غالب طلبة علوم الاجتهاد تنقضي أعمارهم في تحقيق الآلات وتدقيقها ومنهم من لا يفتح كتابا من كتب السنة ولا سفرا من أسفار التفسير فحال هذا كحال من حصل الكاغد والحبر وبرى أقلامه ولاك دواته ولم يكتب حرفا فلم يفعل المقصود إذ لا ريب أن المقصود من هذه الآلات هو الكتابة كذلك حال من قبله ومن عرف ما ذكرناه سابقاً لم يحتج إلى قراءة كتب التفسير على الشيوخ لأنه قد حصل ما يفهم به الكتاب العزيز وإذا أشكل عليه شيء من مفردات القرآن رجع إلى ما قدمنا من أنه يكفيه من علم اللغة وإذا أشكل عليه إعراب فعنده من علم النحو ما يكفيه وكذلك إذا كان الإشكال يرجع إلى علم الصرف وإذا وجد اختلافا في تفاسير السلف التي يقف عليها مطالعة فالقرآن عربي والمرجع لغة العرب فما كان أقرب إليها فهو أحق مما كان أبعد وما كان من تفاسير الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مع كونه شيئا يسيرا موجود في كتب السنة ثم هذا المقدار الذي قدمنا يكفي في معرفة معاني متون الحديث وأما ما يكفيه في معرفة كون الحديث صحيحا أو غير صحيح فقد قدمنا الإشارة إلى ذلك ونزيده إيضاحاً فنقول إذا قال إمام من أئمة الحديث المشهورين بالحفظ والعدالة وحسن المعرفة أنه لم يذكر في كتابه الأما كان صحيحا وكان ممن مارس هذا الشأن ممارسة كلية كصاحبي الصحيحين وبعدهما صحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة ونحوهما فهذا القول مسوغ للعمل بما وجد في تلك الكتب وموجب لتقديمه على التقليد وليس هذا من التقليد لأنه عمل برواية الثقة والتقليد عمل برأيه وهذا الفرق أوضح من الشمس وإن التبس على كثير من الناس، وأما ما يدندن حوله أرباب علم المعاني والبيان من اشتراط ذلك وعدم الوقوف على حقيقة معاني الكتاب والسنة بدونه فأقول ليس الأمر كما قالوا لأن ما تمس الحاجة إليه في معرفة الأحكام الشرعية قد أغنى عنه ما قدمنا ذكره من اللغة والنحو الصرف والأصول والزايد عليه وإن كان من دقايق العربية وأسرارها ومماله مزيد تأثير في معرفة بلاغة الكتاب العزيز لكن ذلك أمر وراء مانحن بصدده وربما يقول قايل بأن هذه المقالة مقالة من لم يعرف ذلك الفن حق معرفته وليس الأمر كما يقول فإني قد شغلت برهة من العمر في هذا الفن فمنه ما قعدت فيه بين أيدي الشيوخ كشرح التلخيص المختصر وحواشيه وشرحه المطول وحواشيه وشرحه الأطول ومنه ما طالعته مطالعة متعقب وهو ماعدا ما قدمته وقد كنت أظن في مبادئ طلب هذا الفن ما يظنه هذا القائل ثم قلت ما قلت عن خبرة وممارسة وتجريب والزمخشري وأمثاله وإن رغبوا في هذا الفن فذلك من حيث كون له مدخلاً في معرفة البلاغة كما قدمنا وهذا الجواب الذي ذكرته ههنا هو الجواب عن المعترض في سائر ما أهملته مما يظن أنه معتبر في الاجتهاد ومع ذلك كله فلسنا إلا بصدد بيان القدر الذي يجب عنده العمل بالكتاب والسنة وإلا فنحن ممن يرغب الطلبة في الأستكثار من المعارف العلمية على اختلاف أنواعها كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ومن رام الوقوف على ما يحتاج إليه طالب العلم من العلوم على التفصيل والتحقيق فليرجع إلى الكتاب الذي جمعته في هذا وسميته أدب الطلب ومنتهى الأرب فهو كتاب لا يستغنى عنه طالب الحق على أني أقول بعد هذا أن من كان عاطلا عن العلوم الواجب عليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه عن نصوص الكتاب والسنة في الأمور التي تجب عليه من عبادة أو معاملة وسائر ما يحدث له فيقول لمن يسأله علمني أصح ما ثبت في ذلك من الأدلة حتى أعمل به وليس هذا من التقليد في شيء لأنه لم يسأله عن رأيه بل عن روايته ولكنه لما كان لجهله لا يفطن ألفاظ الكتاب والسنة وجب عليه أن يسأل من يفطن ذلك فهو عامل بالكتاب والسنة بواسطة المسؤل ومن أحرز ما قدمنا من العلوم عمل بها بلا واسطة في التفهيم وهذا يقال له مجتهد والعامي المعتمد على السؤال ليس بمقلد ولا مجتهد بل عامل بدليل بواسطة مجتهد يفهمه معانيه وقد كان غالب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين هم خير القرون من هذه الطبقة ولا ريب أن العلماء بالنسبة إلى غير العلماء أقل قليل فمن قال أنه لا واسطة بين المقلد والمجتهد قلنا له قد كان غالب السلف الصالح ليسوا بمقلدين ولا مجتهدين أما كونهم ليسوا بمقلدين فلأنه لم يسمع عن أحد من مقصري الصحابة أنه قلد عالما من علماء الصحابة المشاهير بل كان جميع المقصرين منهم يستروون علمائهم نصوص الأدلة ويعملون بها وكذلك من بعدهم من التابعين وتابعيهم ومن قال إن جميع الصحابة مجتهدون وجميع التابعين وتابعيهم فقد أعظم الفرية وجاء بما لا يقبله عارف وهذه المذاهب والتقليدات التي معناها قبول قول الغير دون حجة لم تحدث إلا بعد انقراض خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
وخير الأمور السالفات على الهدى | وشر الأمور المحدثات البدائع |
وإذا لم يسع غير العالم في عصور الخلف ما وسعه في عصور السلف فلا وسع الله عليه وهذا عارض من القول اقتضاه ما قدمناه فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجمة هذا السيد الإمام فنقول وهو شاهد على ما قدمنا ذكره إن صاحب الترجمة لما ارتحل إلى مكة وقرأ علم الحديث على شيخه ابن ظهيرة قال للسيد ما أحسن يا مولانا لو انتسبت إلى إمام الشافعي أو أبي حنيفة فغضب وقال لو احتجت إلى هذا النسب والتقليدات ما اخترت غير الإمام القاسم بن إبراهيم أو حفيده الهادي وبالجملة فصاحب الترجمة ممن يقصر القلم عن التعريف بحاله وكيف يمكن شرح حال من يزاحم أئمة المذاهب الأربعة فمن بعدهم من الأئمة المجتهدين في اجتهاداتهم ويضايق أئمة الأشعرية والمعتزلة في مقالاتهم ويتكلم في الحديث بكلام أئمته المعتبرين مع إحاطته بحفظ غالب المتون ومعرفة رجال الأسانيد شخصا وحالا وزمانا ومكانا وتبحره في جميع العلوم العقلية والنقلية على حد يقصر عنه الوصف ومن رام أن يعرف حاله ومقدار علمه فعليه بمطالعة مصنفاته فإنها شاهد عدل على علو طبقته فإنه يسرد في المسئلة الواحدة من الوجوه ما يبهر لب مطالعه ويعرفه بقصر باعه بالنسبة إلى علم هذا الإمام كما يفعله في العواصم والقواصم فإنه يورد كلام شيخه السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم في رسالته التي اعترض بها عليه ثم ينسفه نسفا بإيراد ما يزيفه به من الحجج الكثيرة التي لا يجد العالم الكبير في قوته استخراج البعض منها وهو في أربعة مجلدات يشتمل على فوائد في أنواع من العلوم لا توجد في شيء من الكتب ولو خرج هذا الكتاب إلى غير الديار اليمنية لكان من مفاخر اليمن وأهله ولكن أبي ذلك لهم ما جبلوا عليه من غمط محاسن بعضهم لبعض ودفن مناقب أفاضلهم ومن مصنفاته ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان وهو كتاب في غاية الإفادة والإجادة على أسلوب مخترع لا يقدر على مثله إلا مثله ومنها كتاب الروض الباسم في مجلد اختصره من العواصم وكتاب إيثار الحق على الخلق، وهو غريب الأسلوب مفيد في بابه وله كتاب جمعه في التفسير النبوي
ومنها مؤلف في مدح العزبة والعزلة، ومؤلف في الرد على المعري سماه نصر الأعيان على شر العميان وله كتاب البرهان القاطع في معرفة الصانع وله كتاب التنقيح في علوم الحديث وله مؤلفات غير هذه ومسائل أفردها بالتصنيف وهو إذا تكلم في مسئلة لا يحتاج الناظر بعده إلى النظر في غيره من أي علم كانت وقد وقفت من مسائله التي أفردها بالتصنيف على عدد كثير تكون في مجلد وما لم أقف عليه أكثر مما وقفت عليه وكلامه لا يشبه كلام أهل عصره ولا كلام من بعده بل هو من نمط كلام ابن حزم وابن تيمية وقد يأتي في كثير من المباحث بفوائد لم يأت بها غيره كايناً من كان وديوان شعره مجلد وشعره غالبه في التوسلات والرقائق وتقييد الشوارد العلمية والمجاوبة لمن امتحن به من أهل عصره فإن له معهم قلاقل وزلازل وكانوا يثورون عليه ثورة بعد ثورة وينظمون في الاعتراض عليه القصائد وأفضى ذلك إلى أن اعترض عليه شيخه المتقدم ذكره برسالة مستلقة فأجابها بما تقدم وكان يجاوبهم ويصاولهم ويجاولهم فيقهرهم بالحجة ولم يكن في زمنه من يقوم له لكونه في طبقة ليس فيها أحد من شيوخه فضلا عن معارضيه والذي يغلب على الظن أن شيوخه لو جمعوا جميعاً في ذات واحدة لم يبلغ علمهم إلى مقدار علمه وناهيك بهذا ثم بعد هذا انجمع وأقبل على العبادة وتمشيخ وتوحش في الفلوات وانقطع عن الناس ولم يبق له شغله بغير ذلك وتأسف على ما مضى من عمره في تلك المعارك التي جرت بينه وبين معاصريه مع أنه في جميعها مشغول بالتصنيف والتدريس والذب عن السنة والرفع عن إعراض أكابر العلماء وأفاضل الأمة والمناضلة لأهل البدع ونشر علم الحديث وسائر العلوم الشرعية في أرض لم يألف أهلها ذلك لا سيما في تلك الأيام فله أجر العلماء العاملين وأجر المجاهدين المجتهدين ولكنه ذاق حلاوة العبادة وطعم لذة الانقطاع إلى جناب الحق فصغر في عينيه ما سوى ذلك.
وقد ترجمه بعض بني الوزير في كراريس واستوفى أحواله ولو ترجمه في مجلد لم يكن وافيا بحقه وترجمه أيضا جماعة من علماء الزيدية ومن غيرهم من قدمنا ذكره كالوجيه العطاب اليمني والشريف الفاسي المالكي في كتابه العقد الثمين الذي جعله تاريخا لمكة والبريهي ومدحه غير واحد من أعيان العلماء والحاصل أنه رجل عرفه الأكابر وجهله الأصاغر وليس ذلك مختصا بعصره بل هو كاين فيما بعده من العصور إلى عصرنا هذا ولو قلت أن اليمن لم ينجب مثله لم أبعد عن الصواب وفي هذا الوصف ما لا يحتاج معه إلى غيره وما أحسن قوله في معاتبة شيخه المتقدم ذكره
عرفت قدري ثم أنكرته | فما عدا بالله مما بدا |
وكل يوم لك بي موقف | أسرفت في القول بسوء البدا |
أمس الثنا واليوم سوء الأذى | يا ليت شعري كيف نضحي غدا |
يا شيبة العترة في وقته | ومنصب التعليم والاهتدا |
قد خلع العلم رداء الهدى | عليك والشيب رداء الردى |
فصن ردائيك وطهرهما | عن دنس الإسراف والاعتدا |
وكانت وفاته تغمده الله بغفرانه في سابع وعشرين شهر محرم سنة 840 أربعين وثمان مائة