المحسن بن علي بن محمد بن داود بن الفهم التنوحى أبو علي القاضي، وقد مر ذكر أبيه علي بن محمد وابنه علي بن المحسن في مواضعهما. مات لحمس بقين من محرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ومولده سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة، وكانت وفاته ببغداد، وله من التصانيف. كتاب الفرح بعد الشدة ثلاث مجلدات. كتاب نشوار المحاضرة اشترط فيه انه لا يضمنه شيئا نقله من كتاب، احد عشر مجلدا، كل مجلد له فاتحة بخطبة.
قال غرس النعمة: صنف أبو علي المحسن «كتاب نشوار المحاضرة» في عشرين سنة أولها سنة ستين وثلاثمائة. وذيله غرس النعمة بكتاب سماه «كتاب الربيع» قال: ابتدأته في سنة ثمان وستين وأربعمائة.
ولي لقضاء بعدة نواح، حكى عن نفسه أنه في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة كان متولي القضاء بواسط، وقال في موضع آخر من كتابه: حضرت أنا مجلس أبي العباس ابن أبي الشوزب قاضي القضاة إذ ذاك، وكنت حينئذ أكتب له على الحكم ولوقوف بمدينة السلام مضافا إلى ما كنت أخلفه عليه بتكريت ودقوقاء وخانيحار وقصر ابن هبيرة والجامعين وسوراء وبابل والايغارين وخطرنيه؛ وذكر قصة، وذكر في موضع آخر أنه كان يتقلد القضاء بعسكر مكرم في أيام المطيع لله وعز الدولة ابن بويه وقد ذكر أبو الفرج الشلجي أنه تقلد القضاء بالأهواز نيابة عن القاضي أبي بكر بن قريعة، وقد ذكرت ذلك في خبر الشلحي.
قال أبو الفرج: وحدثني أبو علي التنوخي القاضي قال: لما قلدني القاضي أبو بكر ابن قريعة قصاء الأهواز خلافة له كتب إلى المعروف بابن سركر الشاهد، وكان
حليفته على القضاء قبلي، كتابا على يدى وعنونه. إلى المخالف الشاق، السيء الاخلاق، الظاهر النفاق، محمد بن إسحاق.
وذكره النعالبي فقال: هلال ذلك القمر، وغصن ذلك الشجر، الشاهد العدل لمحد أبيه وفصله، والفرع المشيد لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد وفاته، وفيه يقول أبو عبد الله الحسين بن الحجاج .
إذا ذكر القضاة وهم شهود | تخيرت الشباب على الشيوخ |
ومن لم يرض لم أصفعه الا | بحضرة سيدي القاضي التنوخي |
قال: وأخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان أنه رأي ديوان شعره ببغداد أكبر حجما من ديوان شعر أبيه، ومما علق بحفظ أبي نصر من شعره قوله في معنى ظريف لم يسبق إليه:
خرجنا لتسسقي بيمن دعائه | وقد كاد هدب العيم أن يبلغ الأرضا |
فلما ابتدا يدعو نقشعت السما | فما تم إلا والعمام قد انفضا |
قال: وأنشدني غيره له، وأنا مرتاب به لفرط جودته وارتفاعه عن طبقته .
أقول لها والحي قد فطنوا بنا | وما لي عن أيدي المنون براح |
لما ساءني أن وشحتني سيوفهم | وأنك لي دون الوشاح وشاح |
وأنشد لنفسه في «كتاب الفرج بعد الشدة»:
لئن أشمت الحساد صرفى ورحلتى | فما صرفوا فصلي ولا ارتحل المجد |
مقام وترحال وقبض وبسطة | كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد |
قرأت في «كتاب الوزراء» لهلال بن المحسن: حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس فقصدته للسلام عليه وتحديد العهد بخدمته، فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز، قلت: نعم، قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده، وأنت ولدي وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: إلا أن في الشهادة عنده مع الحداثة جمالا (وكانت سني يومئذ عشرين سنة)، قال: وجب أن تجيء إلى الحضرة لأتقدم إلى أبي السائب قاضي القضاة بتقليدك عملا تقبل أنت فيه شهودا، قلت: ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب، فضحك وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه كيف اغتنمها. ثم قال لي اخرج معي إلى بغداد، فقبلت يده ودعوت له، وسار من السوس إلى بغداد، ووردت إلى بغداد في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فتقدم إلى أبي السائب في أمري بما دعاه إلى أن قلدني عملا بسقي الفرات، وكنت ألازم الوزير أبا محمد وأحضر طعامه ومجالس أنسه، واتفق أن جلس يوما مجلسا عاما وأنا بحضرته، وقيل له: أبو السائب في الدار، قال. يدخل، ثم أومأ إلي بأن أتقدم إليه، فتقدمت ومد يده ليسارني فقبلتها فمد يدي وقال: ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب فيراك تسارني في مثل هذا المجلس الحافل، فلا يشك أنك معي في أمر من أمور الدولة، فيرهبك ويحشمك ويتوفر عليك ويكرمك، فإنه لا يحيء إلا بالرهبة، وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك، وأخذ يوصل معي في مثل هذا الفن من الحديث إلى أن دخل أبو السائب، فلما رآه في سرار وقف ولم يحب أن يجلس إلا بعد مشاهدة الوزير له تقربا إليه وتلطفا في استمالة قلبه، فإنه كان إذ ذاك فاسد الرأي فيه، فقال الحاجب لأبي السائب:
يجلس قاضي القضاة، وسمعه الوزير فرفع رأسه وقال له: اجلس يا سيدي، وعاد إلى سراري وقال لي: هذه أشد من تلك، فامض إليه في عد فسترى ما يعاملك به، وقطع السرار وقال لي ظاهرا: قم فامض فيما أنفذتك فيه وعد إلي الساعة بما تعمله فوهم أبا السائب بذاك أننا في مهم، فقمت ومضيت إلى بعض الحجر وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب، ثم عدت إليه وقد قام عن ذلك المجلس وجئت من غد إلى أبي السائب فكاد يحملني على رأسه، وأخذ يجاذبني بضروب من المحادثة والمباسطة، وكان على ذلك دهرا طويلا.
قال القاضي أبو علي في «نشوار المحاضرة»: حضر بين يدي رجلان بالأهواز فادعى أحدهما على الآخر حقا فأنكره، فسأل غريمه إحلافه فقال له:
أتحلف؟ فقال: ليس له علي شيء فكيف أحلف؟ لو كان له علي شيء حلفت له وأكرمته.
حدث أبو علي قال: كنت جالسا بحضرة عضد الدولة في مجلس أنسه بنهاوند فغناه محمد بن كالة الطنبوري (شيخ كان يخدمه في جملة المغنين باق إلى الآن):
ذد بماء المزن والعنب | طارقات الهم والكرب |
قهوة لو أنها نطقت | ذكرت قحطان في العرب |
وهي تكسو كف شاربها | دستبانات من الذهب |
فاستحسن الشعر والصنعة وسأل عنها فقال له ابن كالة: هذا شعر غنت به مولانا سلمة بنت حسينة، فاستعاده منها استحسانا له فسرقته منها. قال التنوخي: فقلت له أما الشعر فللخباز البلدي، وأظن أبا الحسن ابن طرخان قال لي إن الصنعة فيه لأبيه، والمعنى حسن ولكنه مسروق، فقال: من أين؟ فقلت: أما البيت الثاني فمن قول أبي نواس .
عتقت حتى لو انصلت | بلسان صادق وفم |
لا حتبت في القوم ماثلة | ثم قصت قصة الأمم |
ووصفها بالعتق والقدم كثير في القوم بأبلغ من هذا البيت، ولكن التشبيه في
البيت الثالث هو الحسن، وقد سرقه مما أنشدناه أبو سهل ابن زياد القطان، قال أنشدنا يعقوب بن السكيت ولم يسم قائلا:
أقري الهموم إذا ضافت معتقة | حمراء يحدث فيها الماء تفويفا |
تكسو أصابع ساقيها إذا مزجت | من الشعاع الذي فيها تطاريفا |
وقد كشف أطال الله بقاء مولاي هذا المعنى من قال:
كأن المدير لها باليمين | إذا قام للسقي أو باليسار |
تدرع ثوبا من الياسمين | له فرد كم من الجلنار |
وكان أبو علي أحمد بن علي المدائني المعروف بالهائم الرواية قائما في المجلس فقال: قد كشف معنى الأبيات الفائية سري الرفاء حيث يقول في صفة الدنان:
ومستسلمات هززنا لها | مداري القيان لسفك الدماء |
وقد نظم العلج أجسامها | مع الخدر نظم صفوف اللقاء |
تمد إليها أكف الرحال | فترجع مثل أكف النساء |
وكشف المعني الثاني في الأبيات بقوله:
ازدد من الراح ورد | فالغي في الراح رشد |
يديرها و غنة | أغيد يثنيه الغيد |
مد إليها يده | فالتهبت إلى العضد |
قال القاضي التنوخي: فقلت له فاين أنت عما هو خير من هذا، وهو قول ابن المعتز:
تحسب الظبي إذا طاف بها | قبل أن يسقيكها مختضبا |
قال الهائم فقد قال بكارة الرسعني:
وبكر شربناها على الورد بكرة | فكانت لنا وردا إلى صحوة الغد |
إذا قام مبيض اللباس يديرها | توهمته يسعى بكم مورد |
وقول أبي النضر النحوي:
فلو رآني إذا اتكأت وقد | مددت كفي للهو والطرب |
يخالني لابسا مشهرة | من لازورد يشف عن ذهب |
فبدأت أذكر شيئا فقال الهائم: اصبر اصبر فها هنا ما لا يلحقه شعر أحد كان في الدنيا قط حسنا وجودة، وهو قول مولانا الملك من أبيات:
وشرب الكأس من صهباء صرف | يفيض على الشروب يد النضار |
فقطعت المذاكرة، وأقبلت أعظم البيت وأفخم أمره وأفرط في استحسانه والاعتراف بأنني لا أحفظ ما يقاربه في الحسن والجودة فأذاكر به.
قال التنوخي: وكنت بحضرته في عشية من العشايا في مجلس الأنس، وكان هذا بعد خدمتي له في المؤانسة بشهور يسيرة، فغني له من وراء ستارته الخاصة صوت وهو:
نحن قوم من قريش | ما هممنا بالفرار |
وبعده أبيات بعضها ملحون وبعض جيد، فاستملح اللحن وقال: هو شعر ركيك جدا فتعلمون لمن هو ولمن اللحن؟ فقال له أبو عبد الله ابن المنجم: بلغني أن الشعر للمطيع لله وأن اللحن له أيضا: فقال لي: اعمل أبياتا تنقل هذا اللحن إليها في وزنها وقافيتها، فحلست ناحية وعملت:
أيهذا القمر الطا | لع من دار القمار |
رائحا من خيلاء ال | حسن في أبهى ازار |
والذي يجني ولا يت | بع ذنبا باعتذار |
أنا من هجرك في بع | د على قرب المزار |
أوضح العذر عذارا | ك على خلع العذار |
وعدت وأنشدته إياها في الحال فارتضاها وقال: لولا قد هجس في نفسي أن أعمل في معناها لأمرت بنقل اللحن إليها، ثم أنشدنا بعد أيام لنفسه:
نحن قوم نحفظ العه | د على بعد المزار |
ونمر السحب سحبا | من أكف كالبحار |
أبدا ننجز للضي | ف قدورا من نضار |
وأمر جواريه بالغناء فيه. وأما أبياتي فاني تممتها قصيدة ومدحته بها وهي مثبتة في ديوان شعري.
قال: وجلس عضد الدولة وقد تحولت له سنة شمسية من يوم مولده على عادة له في ذلك، وكان عادته أنه إذا علم أنه قد بقي بينه وبين دخول السنة الجديدة ساعة أو أقل أو أكثر أن يأكل ويتبخر ويخرج في حال التحويل إلى مجلس عظيم قد عبي فيه آلات الذهب والفضة ليس فيه غيرهما، وفيها أنواع الفاكهة والرياحين، ويجلس في دست عظيم القيمة، ويجيء المنجم فيقبل الأرض بين يديه ويهنئه بتحويل السنة، وقد حضر المغنون وأخذوا مواضعهم وجلسوا، وحضر الندماء وأخذوا مواقفهم قياما، ولم يكن أحد منهم يجلس بحضرته غيري وغير أبي على الفسوي وأبي الحسن الصوفي المنجم وأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف صاحب ديوان الرسائل فانه كان يجلس ليوقع بين يديه. ويستدعى له إذا نشط نبيذ فيجعل بين يديه ويشرب منه أقداحا، ومن قبل أن يشرب يوقع بمال الصدقات فيخرج، والغناء يمصي، ثم يجيء المهنئون من أهل المجلس مثل رؤساء دولته ووجوه الكتاب والعمال وكبار أهل البلد
من الأشراف وغيرهم فيدخلون إليه فيهنونه، والشعراء فيمدحونه. فلما جلس ذلك اليوم على هذه الصفة قيل له إن الناس قد اجتمعوا للخدمة، وفيهم أبو الحسن ابن أم شيبان وقد حضر، فعجب من هذا ثم قال: أبو الحسن رجل فاضل، وليس هذا من أيامه، وما حضر الا لفرط موالاته وانه ظن أنه يوم لا شرب فيه لنا، وإن حجبناه غضضنا منه، وان أوصلناه فلعله لا يحب ذلك لأجل العناء والنبيذ، ولكن اخرج إليه يا فلان (لبعض من كان قائما من الندماء) واشرح له صفة المجلس وما قلته من أمره، وأد الرسالة إليه ظاهرا ليسمعها الناس، فان أحب الدخول فأدخله قبلهم، وان أراد الانصراف فلينصرف، والناس يسمعون وقد علموا منزلته منا. فخرج الحاجب وأبلغ ذلك، فدعا وشكر وآثر الانصرف فانصرف وهم جلوس يسمعون، ثم قال لحاجب النوبة: اخرج وأدخل الناس، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس وأخوه أبو محمد علي بن العباس يتقدمون الناس جميعهم لرئاستهم القديمة، حتى دخلوا وقبلوا الأرض على الرسم في ذلك وأعطوه الدينار والدرهم، ووقفوا وابتدأ الشعراء، فكان أول من ينشده من الشعراء السلامي أبو الحسن محمد بن عبيد الله، إلا أنه يريد مني أن أنشده في الملأ شيئا، فانه كان يأمرني بذلك من الليل، فأحضر وابتدئ فأنشده، أو يحضر رجل علوي ينشد شعرا لنفسه، فيجعل عقيبي، ثم ينشد السلامي أبو الحسن، ثم أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي الشامي من أهل معرة النعمان يعرف بابن جلبات، ثم يتتابع الشعراء. فلما انصرف الناس وتوسط الشرب جاءه الحاجب فقال: قد حضر أبو بكر ابن عبد الرحيم الفسوي، وكان هذا شيخا قد أقام بالبصرة وشهد عند القاضي بها، وقد وفد إلى باب عضد الدولة قبل ذلك وأقام، وكان حادما له فيما يخدم فيه التجار، يختصه بعض الاختصاص، فأقبل وكان بين يدي الدست التمري الذى يوضع بين يدي في كل يوم وفيه من الأشربة المحللة ما جرت عادتي بشرب اليسير منه بين يدي عضد الدولة على سبيل المنادمة والمؤانسة والمباسطة، وكان قد وسمني وألزمني ذلك بعد امتناعي منه شهورا حتى قد ردني وأخافني، فقال لي: يا قاضي إن هذا الرجل الذي استؤذن له عامي جاهل بالعلم، وإنما استخدمته رعاية لحرمات له علي، ولأنه كان يخدم أمي في البز ويدخل إليها باذن ركن الدولة لتقاه وأمانته فلا نستتر عنه، وهذا قبل أن أولد، فلما ولدت كان يحملني على كتفه إلى
أن ترجلت، ثم صار يشتري البز ويبعه علي، واستمرت خدمته لحرمته، وهو قاطن بالبصرة، ولعله يدخل فيرى ما بين يديك فيظنه خمرا، فيرجع إلى البصرة فيخبر قاضيها وشهودها بذلك فيقدح فيك، ومحله يوجب أن يكشف لك عذرك، ولكن أزح الدست الذي بين يديك حتى يصير بين يدي أبي عبد الله ابن المنجم (وكان أبو عبد الله بن إسحاق بن المنجم يجلس دوني بفسحة في المجلس) فإذا دخل رأى الدست بين يديه دونك، فلم يقدر على حكاية يطعن بها عليك، فقبلت الأرض شكرا لهذا التطول في الإنعام، وباعدت الدست إلى أبي عبد الله، نم قال: أدخلوه، وشاهد المجلس وهنأ ودعا وأعطى دينارا ودرهما كبيرين فيهما عدة مناقيل وانصرف.
قال أبو على. ويقرب من هذا ما عاملني به الوزير أبو محمد المهلبي، وذكر الحكاية التي سبق ذكرها آنفا مع قاضي القضاة أبى السائب، وحديث تقريبه منه ومسارته إياه فى المحفل ليعظم بذلك قدره وتكبر منزلته في عين قاضي القضاة أبي السائب، ولله در القائل.
لولا ملاحظة الكبير صغيره | ما كان يعرف في الأنام كبير |
قال الرئيس أبو الحسن هلال وفي شهر ربيع الاول سخط عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن على التنوخي وألزم منزله وصرف عما كان يتقلده، وقسم ذلك على أبي بكر ابن أبي موسى وأبي بكر ابن المحاملي وأبي محمد ابن عقبة وأبي تمام بن أبي حصين وأبي بكر ابن الأرزق وأبي محمد ابن الجهرمي، وكان السبب في ذلك ما حدثني به أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال، حدثني القاضى أبو على والدى قال: كنت بهمذان مع الملك عضد الدولة، فاتفق أن مضيت يوما إلى أبي بكر ابن شاهويه رسول القرامطة والمتوسط بين عضد الدوله وبينهم، وكان له صديقا، ومعي أبو علي الهائم، وجلسنا نتحدث، وقعد أبو علي على
باب حركاه كنا فيه، وقدم إليه ما يأكله فقال: اجعل لي أيها القاضي في نفسك المقام في هذه الشتوة في هذا البلد، فقلت: لم؟ فقال: إن الملك مدبر في القبض على الصاحب أبي القاسم ابن عباد، وكان قد ورد إلى حضرته بهمذان، وإذا كان كذلك تشاغل بما تتطاول معه الأيام. وانصرفت من عنده فقال أبو علي الهائم: قد سمعت ما كنتما فيه، وهذا أمر ينبغي أن تطويه ولا تخرج به إلى أحد ولا سيما إلى أبي الفضل ابن أبي أحمد الشيرازي، فقلت: أفعل، ونزلت إلى خيمتي، وجاءني من كانت له عادة جارية بملازمتي ومواصلتي ومواكلتي ومشاربتي، وفيهم أبو الفضل ابن أبى أحمد الشيرازى، فقال لي أيها القاضي: أنت مشغول القلب فما الذي حدث؟ فاسترسلت على أنس كان بيننا وقلت: أما علمت أن الملك مقيم وقد عمل على كذا في أمر الصاحب، وهذا دليل على تطاول السنة؟ فلم يتمالك أن انصرف واستدعى ركابيا من ركابيتي وقال له: أين كنتم اليوم؟ فقال: عند أبي بكر ابن شاهويه، قال: وما صنعتم؟ قال: لا أدري إلا أن القاضي أطال عنده الحلوس، وانصرف إلى خيمته عنه ولم يمض إلى غيره، فكتب إلى عضد الدولة رقعة يقول فيها: كنت عند القاضي أبي علي التنوخي فقال كذا وكذا، وذكر أنه قد عرفه من حيث لا يشك فيه، وعرفت أنه كان عند أبي بكر ابن شاهويه، وربما كان لهذا الحديث أصل، وإذا شاع الخبر به وأظهر السر فيه فسد ما دبر في معناه؛ فلما وقف عضد الدولة على الرفعة وجم وجوما شديدا، وقام من سماط كان قد عمله فى ذلك اليوم على منابت الزعفران للديلم مغيظا، واستدعاني وقال لي: بلغني أنك قلت كذا وكذا حاكيا عن أبي بكر ابن شاهويه فما الذي جرى بينكما في ذلك؟ قلت: لم أقل من ذلك شيئا، فجمع بيني وبين أبي الفضل بن أبي أحمد، وواقفنى وأنكرته، وراجعني وكذبته، وأحضر أبو بكر ابن شاهويه وسئل عن الحكاية فقال: ما أعرفها ولا جرى بيني وبين القاضي قول في معناها، ونقل على أبي بكر هذه المواقفة، وقال: ما نعامل الأضياف بهذه المعاملة، وسئل أبو علي الهائم عما سمعه فقال: كنت خارج الخركاه، وكنت مشغولا بالأكل وما وقفت على ما كانا فيه، فمد وضرب مائتي
مفرعة، وأقيم فنفض ثيابه، وحرج أبو عبد الله ابن سعدان وكان لي محبا فقال لي: الملك يقول لك. ألم تكن صغيرا فكبرناك، ومتأخرا فقدمناك، وخاملا فنبهنا عليك، ومقترا فأحسنا إليك، فما بالك جحدت نعمتنا وسعيت في الفساد على دولتنا؟ قلت: أما اصطناع الملك لي فأنا معترف به، وأما الفساد على دولته فما علمت أنني فعلته، ومع ذلك فقد كنت مسورا فهتكني ومتصونا ففضحني وأدخلني من الشرب والمنادمة بما قدح في، فقال أبو عبد الله: هذا قول لا أرى الاجابة به لئلا يتضاعف ما نحن محتاجون إلى الاعتذار والتخلص منه، ولكنني أقول عنك كذا وكذا، بجواب لطيف، فاعرفه حتى إن سئلت عنه وافقتني فيه، وتركني وانصرف، وجلست مكاني طويلا وعندي أنني مقبوض علي، ثم حملت نفسي على أن أقوم وأسبر الأمر، وقمت وخرجت من الخيمة، فدعا البوابون دابتي على العاده، ورجعت إلى خيمتي منكسر النفس منكسف البال، فصار الوقت الذي أدعى فيه للخدمة، فجاءني رسول ابن الحلاج على الرسم، وحضرت المجلس، فلم يرفع الملك إلي طرفا ولا لوى إلى وجها، ولم يزل الحال على ذلك خمسة وأربعين يوما، ثم استدعاني وهو في خركاه، وبين يديه أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وعلى رأسه أبو الثناء شكر الخادم، فقال: ويلك اصدقني عما حكاه أبو الفضل ابن أبي أحمد، فقلت: كذب منه، ولو ذكرت لمولانا ما يقوله لما أقاله العثرة، فقال: أو من حقوقي عليكم أن تسيئوا غيبتي وتتشاغلوا بذكري؟ فقلت: أما حقوق النعمة فظاهرة، وأما حديثك فنحن نتفاوضه دائما، فالتفت إلى أبي القاسم وقال: اسمع ما يقول، فقال له بالفارسية- وعنده أنني لا أعرفها-: هؤلاء البغداديون مفتونون ومفسدون ومتسوقون، وقال شكر. الأمر كذلك، إلا أن التسوق على القاضي لا منه، ثم قال لي عضد الدولة. عرفنا ما قاله أبو الفضل، قلت: هو ما لا ينطلق لساني به، فقال:
هاته، وكان يحب أن تعاد الأحاديث والأقاويل على وجهها من غير كناية عنها ولا
احتشام فيها، فقلت: نعم انك عند وفاة والدك بشيراز أنفذت من كرمان وأخذت جاريته زرياب، وإن الخادم المخرج في ذاك وافى ليلة الشهر، فاجتهدت به أن يتركها تلك الليلة لتوفي أيام الحق فلم يفعل ولا رعى للماضي حقا ولا حرمة، فقال: والله لقد أنكرنا على الخادم إخراجه إياها على هذا الاعجال، ولو تركها يوما وأياما لجاز، وبعد فهذا ذنب الخادم ولا عمل لنا فيه ولا عيب علينا به، ثم ماذا؟ قلت: قال إن مولانا يعشق كنجك المغنية ويتهالك في أمرها، وربما نهض إلى الخلاء فاستدعاها إلى هناك وواقعها، فقال: إنا لله، لعنكما الله ولا بارك فيكما، ثم ماذا؟ فأوردت عليه أحاديث سمعتها من غير أبي الفضل ونسبتها إليه وقلت: لم أعلم أنني أقوم هذا المقام فأحفظ أقواله، وقد ذكر أيضا هذا الأستاذ- وأومأت إلى أبي القاسم وأبي الريان وجماعة الحواشي- فقال: ما قال في أبي القاسم؟ قلت: قال إنه ابتاع من ورثة ابن بقية ناحية الزاوية من راذان بأربعة آلاف درهم بعد أن استأذنك استئذانا سلك فيه سبيل السخرية والمغالطة، واستغلها في سنة واحدة نيفا على ثلاثين ألف درهم، وانه أعطى فلانا وفلانا ثمانية آلاف درهم على ظاهر البضاعة والتجارة فأعطاه نيفا وستين ألف درهم، فمات أبو القاسم عند سماعه ذلك، وأوردت ما أوردته منه مقابلة على ما ذكرني به. قلت: وقال في أبي الريان كذا وكذا، لأمور ذكرتها، وحضرت آخر النهار المجلس في ذلك اليوم على رسمي، فعاود التقريب لي والإقبال علي، واتفق أنه سكر في بعض الأيام وولع بكنجك ولعا قال لي فيه: وهذا من حديث أبي الفضل، وأشار إليه، فقلق أبو الفضل وقرب مني، وكنت أقعد ويقوم وقال لي: ما الذي أومأ إلي الملك فيه؟ قلت: لا أدري فسله أنت عنه، ثم رحلنا عائدين إلى بغداد، فرآني الملك في الطريق وعلي ثياب حسنة وتحتي بغلة بمركب وجناغ جواد فقال لي:
من أين لك هذه البغلة؟ قلت: حملني عليها الصاحب أبو القاسم بمركبها وجناغها، وأعطاني عشرين قطعة ثيابا وسبعة آلاف درهم، فقال: هذا قليل لك منه مع ما
تستحقه عليه، فعلمت أنه اتهمني به وبأن خرجت بذلك الحديث إليه وما كنت حدنته به، ووردنا إلى بغداد فحكى لي أن الطائع لله متجاف عن النية المنقولة إليه، وأنه لم يقربها إلى تلك الغاية، فثقل ذلك عليه وقال لي: تمضي إلى الخليفة وتقول له عن والدة الصبية إنها مسزيدة لإقبال مولانا عليها وإدنانه إياها ويعود الأمر إلى ما يستقيم به الحال ويزول معه الانقباض، فقد كنت وسيط هذه المصاهرة، فقلت: السمع والطاعة، وعدت إلى داري لألبس ثياب دار الخلافة فاتفق أن زلقت ووثئت رجلي فأنفذت إلى الملك أعرفه عذري في تاحرى عن أمره فلم يقبله، وأنفذ إلى من يستعلم خبري، فرأى الرسول لى علمانا روقة وفرشا جميلا، فعاد إليه وقال له: هو متعالل وليس بعليل، وشاهدته على صورة كذا وكذا والناس يغشونه ويعودونه، فاغتاط غيطا مجددا حرك ما في نفسه مني أولا، فراسلني بأن الزم بيتك ولا تخرج عنه ولا تأذن لأحد في الدخول عليك فيه، إلا نفر من أصدقاتي استأذنت فبهم فاستنبي بهم. ومضت الأيام، وأنفد إلي أبو الريان فطالبني بعشرة آلاف درهم وكنت استسلفها من إقطاعي فأديتها إليه، واستمر على السخط والصرف عن الأعمال إلى حين وفاة عصد الدولة.
وذكر غرس النعمة بن هلال، حدثني بعض السادة الأصدقاء وأنسيته وأظنه أبا طاهر محمد بن محمد الكرخي قال: كانت بنت عضد الدولة لما زفت إلى الطائع بقيت بحالها لا يقربها خوفا أن تحمل منه فستولي الديلم على الخلافة، وكان الطائع يحبها حبا شديدا زائدا موفيا، ويقفل عليها باب حجرتها إذا شرب، ويقول للخدم:
خذوا المفتاح ولا تعطونيه إذا سكرت ورمت الدخول ليها ولو فعلت مهما فعلت، فأقسم بالله لئن مكنت من ذلك لأقبلن الذي يمكنني منه، فإذا سكر منعه السكر من التماسك، وحمله الحب والهوى على المضي إليها والدخول عليها، فيجي إلى بابها ويأمر بفتحه ويتهدد ويتوعد ولا يقبل منه ولا يقر له أحد بمعرفة المفتاح أين هو ولا من هو معه إلى أن ينصرف أو ينام، فذاك كان دأبه ودأبها. وتقدم عضد الدولة إلى أبي علي التنوخي في أواخر أيامه بأن يمضي إلى الطائع ويطارحه عن والدة الصبية في المعنى بما يستزيده فيه لها ويبعثه به عليها بأسباب يتوصل إليها وأقوال يصفها ويومئ إلى الغرض فيها رتبها عضد الدولة ولقنه إياها وفهمه، فقال: السمع والطاعة ومصى إلى بيته ولم يقدم على الطائع، وخاف عضد الدولة إن خالف ما رسمه له، فأظهر مرضا وعاده أصدقاؤه منه، واعتذر به إلى عضد الدولة فوقع لعضد الدولة باطن الأمر وأمر بعض الخدم الخواص بالمضي إلى التنوخي لعيادته وتعرف حبره وأن يخرج من عنده ويركب إلى أن يخرج من الدرب ثم يعود فيدخل عليه هاجما، فإن كان على حاله في فراشه لم يتغير له أمر أعطاه مائتي دينار أصحبه إياها لنفسه وأظهر أنه عاد لأجلها لأنه أنسيها معه، وإن وجده فاعدا أو قائما عن الفراش قال له. الملك يقول لك لا تخرج عن دارك إلينا ولا إلى غيرنا وانصرف. قال الخادم. فدخلت إليه وهو في فراشه وعليه دثاره وخاطبته عن الملك، فشكر وأعاد جوابا صعيفا لم أكد أفهمه، وخرجت ثم عدت على ما رسم الملك، فهجمت عليه فوجدته قائما يمشي حول البستان، فلما رآني اضطرب وتحير فقلت له: الملك يقول لك لا تبرح دارك لا إلينا ولا إلى غيرنا، وخرجت، فبقي على ذلك إلى أن مات عضد الدولة.