محسن الأمين محسن بن عبد الكريم بن علي بن محمد الأمين، الحسيني العاملي ثم الدمشقي: آخر مجتهدي الشيعة الإمامية في بلاد الشام. له شعر واشتغال بالتراجم. ولد في قرية شقراء (من أعمال مرجعيون، بجبل عامل) وتعلم بها ثم في النجف (بالعراق) وعاد إلى سورية، فاستقر في دمشق (سنة 1319) وعمل في التدريس والوعظ ثم الإفتاء. وتوفي في دمشق. كان مكثرا من التأليف: يجمع ما تفرق من آثار الإمامية وسيرهم، ويؤلف في فقههم، ويذب عنهم، ويناقش، وقد يهاجم. من كتبه’’أعيان الشيعة –ط’’ نشر منه 35 مجلدا، ولم يتم، و’’الرحيق المختوم –ط’’ ديوان شعره، مما نظمه قبل سنة 1331 هـ ، و’’ الحصون المنيعة –ط’’ رسالة في الرد على صاحب المنار، و’’تحفة الأحباب في آداب الطعام والشراب-ط’’ رسالة، و’’أبو نواس، الحسن بن هانئ –ط’’ و’’دعبل الخزاعي-ط) و (كشف الارتياب –ط’’ تحامل فيه على حنابلة نجد، و’’معادن الجواهر –ط’’ثلاثة أجزاء، و’’لواعج الأشجان –ط’’في مقتل الحسين ومراثيه والأخذ بثأره، و’’الدر الثمين –ط’’ سلسلة مدرسية في ستة أجزاء صغيرة، و’’مفتاح الجنات –ط’’ في الأدعية والصلوات والزيارات، و’’نقض الوشيعة في نقض عقائد الشيعة، لموسى جار الله –ط’’ وهو آخر ما نشر من كتبه.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 5- ص: 287
مؤلف الكتاب السيد محسن الأمين
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين ورضي الله عن التابعين لهم بإحسان وتابعي التابعين وعن العلماء والزهاد والعباد إلى يوم الدين وسلم تسليما.
(وبعد) فيقول العبد الفقير إلى عفو ربه الغني محسن ابن المرحوم السيد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي الشقرائي نزيل دمشق عفا الله عن جرائمه: هذا هو الجزء الأخير من كتابنا أعيان الشيعة وفق الله تعالى لإكماله وهو خاص بترجمة المؤلف وحده وضعناه اتباعا لما صنعه المؤلفون في الرجال كالعلامة في الخلاصة وغيره من ترجمة أنفسهم في كتبهم وذكرنا أكثر ما اتفق لنا في هذه الحياة الدنيا وإن كان بعضه ليس بذي بال عسى أن يكون فيه تذكرة وعبرة لمن تذكر واعتبر، وإمتاعا لمن قرأ ونظر، وأن لا يكون خاليا من بعض الفائدة فإن لم يجد القارئ في بعضه شيئا عن ذلك فالكريم من عفا وعذر، وحشرنا نفسنا بين أهل العلم عسى أن تنالنا بركاتهم وأن يكتبنا الله مع صالحيهم، نسأل الله تعالى من منه وكرمه أن يؤخر أجلنا إلى إتمام هذا الكتاب وليس ذلك على فضله وكرمه بعسير كما نسأله العصمة والتوفيق أنه سميع مجيب وعليه نتوكل وبه نستعين.
نسب المؤلف
هو أبو محمد الباقر محسن ابن الصالح العابد الزاهد التقي النقي الورع السيد عبد الكريم ابن العلامة الفقيه الرئيس الجليل السيد علي ابن الرئيس السيد محمد الأمين ابن العالم العلامة الفقيه الرئيس الجليل السيد أبي الحسن موسى ابن العالم الفاضل الرئيس السيد حيدر ابن العالم الفاضل السيد أحمد ابن الفاضل السيد إبراهيم المنتهي نسبه إلى الحسين ذي الدمعة بن زيد الشهيد ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين الشهيد ابن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، العلوي الفاطمي الهاشمي الحلي العاملي الشقرائي مؤلف هذا الكتاب غفر الله ذنوبه وستر عيوبه.
ووجدنا نسبا لجدنا السيد أبي الحسن موسى مع بعض الفلسطينيين بخط غاية في الجودة وعليه خطوط العلماء من الفريقين وشهاداتهم وفيه ذكر أبناء السيد أبي الحسن المذكور وغيرهم من متفرعات العشيرة وقد ادعاه هذا الفلسطيني وادعى أنه من ذرية صاحب النسب ولا ندري كيف وصل إليه ولعله مما نهب في حادثة الجزار من ذخائر جبل عامل ومنها الكتب التي أوقدت في أفران عكا برهة من الزمن واختار علماء عكا منها جملة من نفائس مخطوطاتها فأخذوها وكان هذا النسب منها والله أعلم ونحن ننقله هنا وهذه صورته.
السيد موسى المعروف بأبي الحسن الحسيني ابن حيدر بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن قاسم بن علي بن علاء الدين بن علي الأعرج بن إبراهيم بن محمد بن علي بن مظفر بن محمد بن علي بن حمزة بن الحسين بن محمد بن عبيد الله بن علي بن عيسى ووصفه بالحسني من قبل أمه فإنها حسنية ففي النسب المذكور أن السيد أبا الحسن موسى أمه فاطمة بنت خليل بن محمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن جعفر بن يوسف بن محمد بن الحسن بن عيسى بن فاضل بن يحيى بن جوبان بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن داود بن إدريس بن داود بن أحمد بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وعلى النسب شهادة جماعة من المفتين ونقباء الأشراف والقضاة والخطباء وغيرهم من أهل السنة فعليه شهادة إسماعيل بن أحمد العاني المفتي بدمشق وشهادة محمد أسعد الصديقي وشهادة عبد الرحمن البزري المفتي بصيدا وشهادة أحمد خطيب الجمعة بأسكلة صور وشهادة السيد حمزة العجلاني النقيب بدمشق وشهادة أحمد الحسيني اليافي وفيها أبيات منها:
كموسى شريف الذات والوصف إذ غدا | له نسب قد زاد فخرا ومعتلى |
أبو حسن يعزى لحيدر أصله | فلا زال محميا به ومكملا |
وشهادة محمد النائب بمدينة صور وشهادة السيد حسين قائم مقام نقيب الأشراف بمدينة صفد وشهادة إبراهيم المولى خلافة في دمشق والسيد محمد العلمي نقيب الأشراف في مدينة صيدا. وعليه شهادة جماعة من علماء الشيعة في ذلك العصر فعليه شهادة بخط الشيخ سليمان معتوق وعليه بخط الشيخ إبراهيم بن يحيى العاملي ما صورته: ليس يخفى على أحد من العقلاء أمر شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء فكيف يحتاج هذا الأمر إلى شهادة الشاهدين وقد صرح بصحته بقية العارفين في الأمة المحمدية وطراز العصابة العلوية الغني بذاته عن زكي أسمائه وصفاته سنام مجد العلماء وواسطة عقد الفضلاء طاهر السر والعلن سيدنا وشيخنا أبو الحسن لا زال بدر سعده في بروج الكمال وشمس مجده في أمن من الزوال وقد خدمت جيد هذا النسب العالي بعقد من النظام الغالي كما هو شأن العبيد والموالي فقلت:
لقد عظمت أنساب آل محمد | فليس لهم في العالمين مناسب |
ومن مثلهم والشمس بعض جدودهم | وبدر الدجى والنيرات الثواقب |
إذا ما رياض الحزن طابت فروعها | فلا يمترى أن الأصول أطايب |
إذا ما انتمى منهم حسيب تهللت | له الأرض وانثالت عليه المناقب |
بنى كل فياض اليدين تراثه | إدا ما قضى طرف رمح وقاضب |
غطارفة شم الأنوف نصيبهم | من المجد مقسوم سنام وغارب |
المولد
ولدت في قرية شقراء من بلاد جبل عامل سنة 1284 هذا هو الصواب في تاريخ مولدي وما ذكرته في غير هذا الموضع من أن ولادتي سنة 1282 أو غير ذلك فهو خطأ ولم يكن مولدي مؤرخا لكن والدي أخبرني أن ولادتي كانت سنة بناء جسر القاقعية الجديد وقد قرأت تاريخ بنائه على الصخرة التي كانت موضوعة عليه وسقطت فإذا هو سنة 1284 وأخبرت أيضا أن ولادتي سنة ولادة السيد يوسف ابن السيد حسن بن إبراهيم خلف وقد أرخها عمنا السيد عبد الله بقوله (حسن يوسف بازغ) وهو يبلغ 1284 فتحققت من ذلك ومن إمارات أخر أن مولدي في ذلك العام وقد بلغت إلى حين تحرير هذه الكلمات وهو غرة شوال سنة 1370 ستة وثمانين عاما فقد وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا وضعفت القوى وتواردت على الجسم العلل والأسقام وجاء نذير الأجل وعزفت النفس عن الدنيا وكل ما فيها وماتت الشهوات وضاق من نفسنا ما كان متسعا حتى الرجاء وحتى الخوف والأمل مع ما تراكم وتتابع من الهموم واعتور من نوائب الدهر لكن الهمة والحمد لله والعزم والجد باقية كما كانت أيام الشباب وأن كانت القدرة على العمل أضعف، والحواس بحمده تعالى صحيحة سالمة والمواظبة على المطالعة والتصنيف والتأليف ليلي ونهاري وعشيي وأبكاري باقية كما كانت لا أشتغل بشيء سوى ذلك إلا ما تدعو الضرورة القاهرة إليه ولست أدري متى يوافيني الأجل المحتوم فقد أصبح مني قريبا أسأله تعالى أن يختم أعمالي بالصالحات وأن يجعل ما بقي من عمري مصروفا في طاعته وأن يوفقني لإكمال هذا الكتاب تأليفا وطبعا وغيره مما شرعت به وأن يجعل مستقبل عمري خيرا من ماضيه وأن يجعل ما ألفته من حديث وقديم سترا بيني وبين نار الجحيم أنه رؤوف رحيم وعجلت بهذه الترجمة قبل الوصول إلى محلها من الكتاب خوفا من مفاجأة الأجل وبالله التوفيق.
أصل العشيرة
الذي سمعناه متواترا من شيوخ العشيرة أن الأصل من الحلة جاء أحد الأجداد منها إلى جبل عامل بطلب من أهلها ليكون مرجعا دينيا ومرشدا. ولسنا نعلم من هو على التحقيق بل هو مردد بين السيد إبراهيم وابنه السيد أحمد وابنه السيد حيدر. والسيد حيدر سكن شقراء وتوفي بها سنة 1175 كما هو مرسوم على لوح قبره في مقبرتها الشرقية القديمة وولد له في شقرا عدة أولاد ذكور وإناث نبغ منهم السيد أبو الحسن موسى. وصاحب مفتاح الكرامة هو ابن ابنه وابن أخي السيد أبي الحسن ويظهر من آثاره أنه كان واسع الحال عريض الجاه وأفراد العشيرة البارعون تجد تراجمهم في مواضعها من هذا الكتاب.
النسبة
كانت العشيرة قبل هذا الوقت تعرف بقشاقش أو قشاقيش ولا يعرف أن ذلك نسبة إلى أي شيء. واحتمل بعض العلماء أن يكون ذلك تصحيف الأقساسي نسبة إلى أقساس مالك قرية قرب الكوفة والأقساسيون طائفة كبيرة هم من ذرية جدنا الحسين ذي العبرة ينسبون إلى هذه القرية. ثم عرفت العشيرة بآل الأمين نسبة إلى السيد محمد الأمين ابن السيد أبي الحسن موسى ووالد جدنا السيد علي الأمين فصار يقال لذريته آل الأمين.
والد المؤلف
وأما السيد عبد الكريم ابن السيد علي والد المؤلف فكان تقيا نقيا صالحا صواما قواما طيب السريرة بكاء من خشية الله تعالى حج بيت الله الحرام وزار بيت المقدس وزار المشاهد المقدسة في العراق وكان عازما على زيارة مشهد الرضا عليه السلام فأشار عليه ابن عمه السيد كاظم أن ينفق ما يريد إنفاقه في ذلك السفر على طلبة العلم من أبناء إخوته فقبل إشارته وعاد من العراق وبعد هجرتنا إلى العراق لطلب العلم بمدة هاجر إليها مع باقي العائلة ودفن في النجف الأشرف في الصحن الشريف سنة 1315 وكان عند وفاة أبيه يتيما فكفله بعدما تزوجت أمه أخوه السيد محمد الأمين لكنه لم يلتفت إليه كما يجب وأساءت زوجته الحاجة خاتون بنت شيت معاملته حتى إنها لما توفيت بسقوط البيت عليها واحتراق جبينها بالموقد طلب إليه أن يسمح عنها فأبى مع ما كان عليه من طهارة النفس ورقة القلب مما دل على شدة إساءتها إليه أما باقي إخوته الصغار فكفلتهم أمهاتهم وكن من العائلة ولم يتزوجن فلم يجر عليهم ما جرى على الوالد وأخيه السيد أمين الذي تزوجت أمه أيضا ببعض أقاربها وكانت من حولا من آل الغنوي، وربما كان للقرابة بين الزوجين تأثير في ذلك. ولما ترعرع الوالد تسلم هو وأخوه السيد أمين ما خصهما من ميراث أبيهما بالشركة واستغلاه وانفردا لأنفسهما في الدار التي كانت نصيبهما من ميراث أبيهما.
والدة المؤلف
وتزوج الوالد ابنة العالم الصالح الشيخ محمد حسين فلحة الميسي وهي والدة المؤلف وكانت من فضليات النساء عاقلة صالحة ذكية مدبرة عابدة مواظبة على الأوراد والأدعية توفيت في حدود سنة 1300 وكان لها وللوالد الفضل العظيم في تربية المؤلف وتفريغه لطلب العلم وحثه على ذلك ومراقبته في سنة الطفولة ولما توفيت قال في رثائها من أبيات:
حويت يا قبر لو تدري مطهرة | من العيوب اكتست ثوبا من الشرف |
من معدن طاب أصلا في العلى فزكت | منه الفروع ونور الشمس غير خفي |
يا ديمة من سحاب العفو مثقلة | إذا مررت بجنبي قبرها فقفي |
روي جوانب قبر طاب ساكنه | ولا أقول إذا رويته انصرفي |
ويا سحاب الغوادي رو تربتها | حتى تعود كمثل الروضة الأنف |
يا خير والدة برا ومرحمة | بنجلها هو حلف الوجد والأسف |
لينعمنك عينا بالفعال فقد | علمت من ذا الذي أبقيت من خلف |
والدهر يعلم من نابت نوائبه | فتى لغير إله العرش لم يخف |
أن تصبحي من حلول الموت في تلف | فإنما خلق الإنسان للتلف |
قد كان يمنعها بعدي القرار ولو | دنا المزار لفرط الحب والشغف |
فكيف واليوم عاد الحشر موعدنا | والشمل منا شتيت غير مؤتلف |
جد المؤلف لأبيه
أما جد المؤلف لأبيه السيد علي فكان فقيها رئيسا ذا شهرة واسعة وتأتي ترجمته وترجمة باقي الأجداد في محالها وبعضها تقدم في محله.
جده لأمه
أما جده لأمه الشيخ محمد حسين فلحة العاملي الميسي من آل رزق فكان عالما فاضلا صالحا ورعا تقيا شاعرا قرأ في مدرسة جبع ثم سافر إلى النجف الأشرف لطلب العلم مع ولده خالنا الشيخ حسين فلحة فأقام في النجف مدة ثم توفي.
خال المؤلف
وكان ولده خالنا المذكور غاية في الفهم والذكاء وحدة الخاطر شهما كريما سخيا أبي النفس عالي الهمة بقي في النجف مدة بعد وفاة والده ثم عاد إلى جبل عامل وتوفي في قرية ميس قبل عودتنا من العراق للمرة الأولى بمدة يسيرة وكان له أخ يسمى الشيخ أحمد مرت ترجمته.
جدة المؤلف لأبيه
هي بنت السيد إبراهيم خلف الحسيني من شقراء تزوجت بعد وفاة زوجها جدنا السيد علي بالحاج ظاهر عجمي من أرنون الشقيف.
تعلم القرآن الكريم
بعد ما بلغت سن التمييز وأظن أن سني لم يتجاوز يومئذ السبع وذلك بين سنة 1291 و 1292 وكنت وحيد أبوي ذهبت بي الوالدة إلى معلم القرآن في القرية فلما دخلت مكان التعليم ضاق صدري ضيقا شديدا وجزعت جزعا مفرطا (أولا) لأن ذلك طبيعة الأطفال (ثانيا) لما كان في التعليم من القساوة فالفلقة معلقة في الحائط فوق رأس المعلم وهي خشبة بطول ثلاثة أشبار تقريبا مثقوب طرفاها وفيها حبل دقيق يوضع فيها الساقان وتشد عليهما وعنده عصوان طويلة وقصيرة والأطفال جلوس إلى جانبه فإذا غضب المعلم على واحد لذنب هو من الصغائر وهو قريب منه تناوله ضربا على رجليه بالعصا القصيرة فإن كان بعيدا عنه ضربه عليها بالعصا الطويلة وإذا غضب على الجميع تناولهم بالضرب على أرجلهم بالعصا الطويلة وهم جلوس صابرون على هذا البلاء خوفا من الأشد منه وهو الفلقة. وإذا غضب المعلم على واحد لذنب هو عنده من الكبائر كأن يهرب فرارا مما يلاقيه، أرسل المعلم الأطفال الكبار ليأتوا به كما يرسل رئيس الشرطة أو الدرك جنوده لإحضار من يريد عقابه فإن حضر معهم مشيا على الأقدام وإلا حملوه مشهرا بين الناس وهو يبكي ويصيح ولا من مجيب وهم في أثناء ذلك ينشدون الأناشيد في ذمه فيضعونه أمام المعلم معتزين فرحين فيأمرهم أن يلقوه على ظهره ويرفعوا رجليه ثم يتناول الفلقة ويضع رجليه بين الحبل والخشبة ويفتل الخشبة حتى يقبض الحبل على رجليه قبضا شديدا ويمسك بأحد طرفي الخشبة واحد قوي من التلاميذ وبالطرف الآخر مثله ثم ينهال المعلم ضربا على رجليه بعصا دقيقة أو قضيب وهو يبكي ويصيح ويستغيث فلا يغاث والمعلم يقول له تهرب بعد يا خبيث فيقول له والله يا شيخي ما عدت أهرب أبدا أما عدد الجلدات فليس له حد في شرع المعلمين وليس هو كحد الزنا وشرب الخمر له مقدار معين بل هو من نوع التعزير الموكول أمره في الشرع إلى نظر الإمام وهذا موكول أمره إلى نظر المعلم فيختلف بحسب اختلاف ذنب الطفل وتكرره منه ومقدار درجة عقل المعلم وتفاوت حاله في الغضب وحظ الطفل في السعادة والتعاسة ثم يأمر الشيخ بفك الفلقة عن رجليه ويقوم الطفل يمسح دموعه ويجلس في مكانه والأطفال ينفرون إليه شزرا متبسمين تبسما خفيا ولا يقل ألمه من ذلك عن ألمه من الضرب ثم يعلق الشيخ الفلقة في الوتد المثبت في الحائط وهذه الفلقة لا تزال معلقة هناك يراها الصبيان رمزا إلى أن من أتى بذنب فهذه معدة له ولا يتكلم أهل الطفل في شأنه بشيء بل يقولون للمعلم لك اللحم ولنا الجلد والعظم اعتقادا منهم أن ذلك في مصلحته وأنه محتاج إلى التأديب لذلك لا يجسر الطفل إذا هرب أن يأتي إلى بيت أهله ولا يتوقف المعلم عن تأديبه بأي نوع من أنواع التأديب.
فبقيت ذلك اليوم عند المعلم وما أظن أني أكملته وما تعلمت شيئا وفي اليوم الثاني أبيت الذهاب إلى المعلم، ولم يشاؤوا أن يجبروني على ذلك لكوني وحيد أبوي وشدة شفقتهما علي فتولت الوالدة تعليمي القرآن أما الوالد فهو وإن كان لا يقصر عنها اهتماما بتعليمي لكنه لا يراقبني كمراقبتها. أما الخط فكان شيوخ العائلة الجيدو الخط يكتبون لي قاعدة على لوح من التنك بمداد من تراب أبيض ثم على الورق إلى أن ختمت القرآن وتعلمت الخط في مدة يسيرة ثم لما أخذت في طلب العلم كنت أكتب في وقت العطلة على بعض الخطاطين.
ولم يكن لي في حال الصغر رغبة فيما يعتاده الصبيان من اللعب وإن كنت أتعاطاه قليلا.
وقد تعلمت السباحة وركوب الخيل والمطاردة لتعارف ذلك في المحيط الذي نحن فيه لكن ما تعلمت الصيد بالنبدقية لأن ذلك يعاب على من طلب العلم ولا أطلقت يوما بندقية ولا مسدسا إلا مرة واحدة كانت عندنا بندقية صيد يأخذها فلاحنا معه إلى الحقل يصطاد بها فاستعصت مرة الدكة التي فيها ولم تثر فتناولتها وأنا صغير السن وحركت الزناد فثارت.
وكنت يوما مع جماعة في بعض متنزهات دمشق ومعهم مسدس فصوبته إلى شجرة وغمضت عيني وأطلقته فأصاب المرمى.
ويظهر أن هذه الطريقة وهي الشدة في التأديب على الصبيان كانت متبعة في القديم من المعلمين حتى مع أولاد الخلفاء والملوك والأمراء. فقد رووا أن المأمون أبطأ على المعلم فلما حضر ضربه المعلم فبكى فبينا هو يبكي إذ قيل جاء الوزير البرمكي فمسح المأمون دموعه وسوى عليه ثيابه وجلس كما ينبغي لابن الخليفة أن يجلس مع الوزير ثم قال ليدخل فدخل وحادثه ساعة ثم انصرف ونظر المأمون إلى المعلم وقد تغير فسأله عن سبب تغيره فقال خفت أن تخبره بما جرى فينالني منه سوء فقال سامحك الله عن هذا وخذ في وردك ولا تفكر في شيء مما جرى وكيف يمكن أن أخبره به وبعد فأنا محتاج إلى التأديب وهذا يدل على رجاحة عقل المأمون.
وضرب يوما المعلم بعض أولاد الكبراء على غير ذنب وهو يعلمه فسئل عن ذلك فقال أردت أن يعرف مرارة الظلم فلا يظلم أحدا. وكان المعتصم بن الرشيد شبه أمي يقرأ ولا يكتب لأنه كان له عبد صغير يتعلم معه في الكتاب فمات العبد فقال له الرشيد مات غلامك قال نعم واستراح من الكتاب فقال له بلغ بك الحال من كراهة الكتاب أن تغبط غلامك على الموت لأنه استراح من الكتاب وأعفاه من الذهاب إلى المعلم فخرج يقرأ ولا يكتب فلهذا لما كتب بعض العمال إلى المعتصم كتابا فيه لفظ الكلأ لم يفهم معناه فسأل الوزير فلم يعرفه فقال المعتصم خليفة أمي ووزير عامي كيف تصلح على هذا حال فسأل بعض الكتاب عنه ففسره فعزل الوزير واستوزر الكاتب وهذا يدلنا على مكانة العلم ومكانة الجهل فهذا بعلمه صار وزيرا وهذا بجهله عزل عن الوزارة. وكان الخلفاء والملوك يعتنون كثيرا بتعليم أبنائهم والأبناء يعظمون مشايخهم.
كان الأمين والمأمون يتعلمان النحو والأدب عند الكسائي وكان للرشيد عين عليه فقام الكسائي يوما ليخرج فتسابقا إلى تقديم نعليه فأصلح بينهما أن يقدم كل واحد فردا فأخبر العين الرشيد بذلك فأرسل إلى الكسائي وقال له من أعز الناس قال أمير المؤمنين قال لا بل أعز الناس من يتسابق أولاد أمير المؤمنين إلى تقديم نعليه فاعتذر إليه الكسائي فقال له الرشيد هذا يدل على حسن تأديبك إياهما. وهذا يدلنا على أن شرف العلم من شرف السلطان.
ومهما قلنا بقساوة التعليم في تلك الأعصار ولينها اليوم لا نستطيع أن نقول أن نتائج التعليم اليوم الأخلاقية والدينية تعادل نتائجه في تلك الأعصار.
نموذج من طريقة التعليم
في العصر السابق
يبدأ الطفل بقراءة الحروف الهجائية حتى يحفظها ثم يأخذ في تعلم المنقوط وغير المنقوط وعدد نقط الحروف فيقول (أ) لاشيء عليه (ب) نقطة من تحت (ت) نقطتان من فوق (ث) ثلاث نقط من فوق وهكذا ثم في معرفة الحركات والسكون فيقول ألف أ نصب ألف اخفض ألف أ جزم وهكذا إلى الآخر ثم الباء وباقي الحروف بهذا الترتيب ثم الفتحتان والكسرتان والرفعتان بهذا الترتيب لكنهم لا ينطقون بما يدل على ذلك بلفظ صحيح ويسمون الكسر خفضا والضم رفعا والسكون جزما.
ومن العادة التي كانت متبعة أحيانا أنه إذا وصل الطفل إلى سورة الضحى فعليه أن يأتي إلى الشيخ بشيء من بيض الدجاج أقله خمس أو ست وأكثره عشر ليقلى بمناسبة قوله تعالى في هذه السورة {ما ودعك ربك وما قلى}. وإذا وصل إلى عم عليه أن يأتي بغمة إن كان موسرا وهي عبارة عن الكرش والرأس والأكارع من الذبيحة بمناسبة قرب لفظة عم من غمة وكل ذلك كقرب زياد من آل حرب. فإذا ختم القرآن زفه الأطفال إلى بيت أهله فأطعموهم الحلوى وسقوهم الماء والسكر.
الحرب بين روسية والدولة العثمانية
وفي حوالي سنة 1290 كانت الحرب بين روسية والدولة العثمانية وأنا في سن الطفولة ووقع الناس في شدة وضيق وأخيرا غلبت الدولة العثمانية ودخل الروس بحر استانبول فردهم أسطول الإنكليز وأخذ الإنكليز مقابل ذلك جزيرة قبرص وأعلنت الدولة العثمانية إفلاسها وطبعت ورقا للمعاملة كان يسمى قوائم.
تعلم علمي النحو والصرف
بعدما ختمت القرآن وتعلمت الكتابة شرعت في قراءة علم النحو وتعلم إجادة الخط فابتدأت بحفظ متن الأجرومية وإعراب أمثلتها غيبا كما هو المألوف فأول ما يبدأ به إعراب البسملة ويقال عنه إعراب لفظ الجلالة وعلامة جره كسر الهاء تأدبا وفي غيره يقال وعلامة جره كسر آخره ثم بإعراب الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع وعند تعداد حروف الجر يذكر لكل واحدة مثال ويعرب وعند ذكر النواصب كذلك وعند ذكر الجوازم كذلك والمثال قد يكون جملة مختصرة مثل سرت من البصرة وقد يكون آية قرآنية مثل {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} وقد يكون بيتا من الشعر أو شطر بيت مثل (وإذا تصبك خصاصة فتجمل) عند عد إذا من الجوازم في الشعر خاصة وأول البيت (استغن ما أغناك ربك بالغنى) ويعد صاحب الأجرومية من النواصب كي ولام كي مع أن اللام إذا دخلت على كي فالناصب كي واللام جارة ويعد من الجوازم لم ولما وألم وألما وفيه خطأ ظاهر.
وكان شيوخ العشيرة أمثال السيد عباس مرتضى والسيد محمد حسين أحمد والسيد محمد حسين عبد الله وغيرهم يكتبون لي الدروس وإعراب أمثلتها فأحفظ ما أمكنني حفظه درسا أو درسين غيبا وأتلوه على مستمع وأشتغل بعض الوقت بتعلم حسن الخط وعند العصر لا بد لي كل يوم من قراءة الماضي من الدروس غيبا لتبقى ثابتة في الذهن لكن بدون مستمع وكنت اقرأ الماضي كل يوم في دارنا وفيه محلان للسكنى الوالدة مع الأخوات في محل وأنا في محل وحدي أتلو فيه الماضي من الدروس كما أنزل حتى إذا وصلت إلى النواصب وهي عشرة والجوازم وهي ثمانية عشر يأخذني الملل من إعراب أمثلتها الكثيرة الطويلة وقد سبقها حروف الجر وحروف القسم وإعراب أمثلتها الطويلة فأقتصر من النواصب والجوازم على سرد أسمائها دون ذكر أمثلتها وإعرابها وأجعل كل مضارع منها كأنه قد مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم على حد قول المتنبي. فينقص من المدة أكثر من نصفها وكنت أعلم أني إذا خرجت من البيت قبل انتهاء المدة المعتادة لقراءة الماضي تعلم والدتي أني لم أتم قراءته فأبقى في البيت ساكتا فأسمع والدتي تقول لإحدى أخواتي أن تنظرني أأقرأ الماضي أم لا فإذا قاربت البيت رفعت صوتي بالقراءة فإذا عادت سكت حتى ينقضي الوقت فأخرج.
وفي بعض الأيام ضاعت مني الأجرومية الوحيدة النسخة فكانت المصيبة بها جلى ولا كمصيبة صاحب المغني بالمغني حين سقط منه في البحر في سفره إلى الحج لكن صاحب المغني أعاد كتابته من حفظ أما أنا فلم يكن ذلك باستطاعتي ولا أتذكر الآن ما صنعته لتدارك ذلك أوجدتها بعد ضياعها أم استغنيت عنها وكتب لي ما بقي منها وكيف كان فقد طويت مرحلتها وانتقلت إلى مرحلة ثانية:
وهي الشروع في قراءة قطر الندا وبل الصدا لابن هشام الأنصاري في النحو وفي قراءة شرح سعد الدين التفتازاني على متن عزي في التصريف وذلك بين سنة 1295 و 1296 فشرعت في قراءة ذينك الكتابين على السيد محمد حسين ابن عمنا السيد عبد الله وكان فاضلا حسن الأخلاق فحضرت عنده القراءة أنا ورفيقان لي من بني عمنا هما أكبر مني سنا بكثير فجلسنا أمامه في المسجد على ركبنا متأدبين كما هي العادة وشرع أحدنا يقرأ العبارة كما هي العادة أيضا بأن يقرأ أحد التلاميذ عبارة الكتاب والباقون يضبطون عليه ثم يفسرها لهم الأستاذ ثم يقومون فيعيد الذي قرأ العبارة ما قاله الأستاذ في تفسيرها والباقون يراقبونه هل أصاب أو أخطأ وفي اليوم الثاني يقرأ العبارة تلميذ آخر ويعيد ما كرره الأستاذ حتى ينتهي الدور ويعود إلى الذي قرأ أولا. فلما قرأ: أصل، (الكلمة قول مفرد) قال له الأستاذ قف فوقف فقال الأستاذ كلما مر في أول الدرس (ص) فمعناه أصل وكلما مر (ش) فمعناه شرح فليكن ذلك على علم منكم فقلنا نعم ثم قال أعلم أنه لا بد لكل طالب علم قبل الشروع فيه من معرفة ثلاثة أشياء حد العلم وموضوعه وغايته أما حده فلئلا يدخل فيه ما ليس منه وأما موضوعه فلأن تمايز العلوم بتمايز الموضوع وأما غايته فلئلا يكون طلبه عبثا ولئلا يكون كمن ركب متن عميا وخبط عشوا (ولكنه قال وخبط خبطة عشوا) فلا يزيده كثرة السير إلا بعدا. أما حد علم النحو فهو علم بأصول يعرف به أحوال أواخر الكلم من حيث الإعراب والبناء وموضوعه الكلمات العربية وغايته صون اللسان عن خطأ في المقال فلما سمعت هذا الكلام أظلمت الدنيا في وجهي، وسني يومئذ نحو العشر سنين وقلت في نفسي هذا علم لا يمكن أن أتعلم منه شيئا إن كان كله من هذا القبيل متن عميا خبطة عشوا ما هو هذا الكلام. لكن هذا الدرس أفادني درسا في التعليم وكيف ينبغي أن يكون. ثم قال الشيخ احفظوا هذا الذي ألقيته عليكم غيبا لتعيدوه علي غدا ولست أتذكر ما جرى لنا في حل هذه المشكلة أضربنا صفحا عن حفظه أم كتبه لنا وحفظناه ثم ابتدأ أحد رفيقي يقرأ درس التصريف وكانا أكبر مني سنا - كما مر - لكنهما في منتهى البلادة. فقال أعلم أن التصريف في اللغة التغيير وفي الاصطلاح تحويل الأصل إلى أمثلة متعددة لمعان مختلفة لا تحصل تلك المعاني إلا بها. وشدد اللام من تحصل فضربه الشيخ على هذه الغلطة القبيحة وأدركت أنا حينئذ تقدمه في البلادة لأن كلمة تحصل مبذولة معروفة لا يمكن أن يقرأها عامي بتشديد اللام فقال له ذلك التلميذ لما ضربه والله لو ضربتني بخشب البيت ما نزل من عيني دمعة.
أول ديوان شعر قرأته
كان لوالدي صديق اسمه الحاج محمود مروة من الزرارية ينزل عندنا في طريقه إلى بنت جبيل فأوصيته أن يشتري لي ديوان شعر من بيروت فاشترى لي ديوان أبي فراس الحمداني فجعلت أقرأ فيه وحفظت كثيرا منه لا يزال في حفظي إلى اليوم وكنت أفهم أكثر معانيه والبعض لا أفهمه والبعض أفهمه على غير وجهه لأنني كنت صغير السن جدا وهو أول ديوان شعر قرأته.
زيارتنا لعمنا السيد محمد
الأمين ابن السيد علي الأمين
كان له منصب مفتي بلاد بشارة كما كان لأبيه من قبله مع أنه لم يكن في عداد العلماء بل في عداد الرؤساء لذلك كان أهل النفوذ في البلاد تارة يسالمونه وتارة يعادونه ويخاصمونه وكان يوسف آغا المملوك من أهل صور من ألد أعدائه لأنه اعتاد ظلم الفلاحين من أهل جبل عامل فكان عمنا المذكور يعارضه وقدر يوسف آغا بدهائه وأساليبه الشيطانية أن يستميل إليه رؤساء البلاد فيكونوا معه على السيد محمد الأمين.
حدثني الحاج إبراهيم عبد الله قال اجتمع في منزلنا بالخيام جماعة وكتبوا مضبطة في الشكاية من السيد محمد الأمين ختم فيها أبو سويد من زبدين وختمت فيها أنا وأخي الحاج محمد ومختار النصارى في الخيام وأعطيناها للشيخ صادق من أهل الخيام من أقارب آل صادق فيها ليمضيها من القرى أما مختار النصارى فتوفي فجأة تلك الليلة وأما أبو سويد فكان في حجرته التي نام فيها كانون فحم أشرف منه على الموت وأما الشيخ صادق فركب فرسا وذهب فلما تجاوز عقبة الخيام ووصل إلى السهل عثرت به الفرس فسقط عنها فكسرت رجله فحمل في نعش إلى الخيام فجاء الحاج حسن عبد الله إلى أولاده وقال لهم كفوا عن هذا الرجل قبل أن تصيبكم المصائب بسببه فكفوا.
انتهى ما حدثني به الحاج إبراهيم وهذه الواقعة اشتهرت في جبل عامل يومئذ حتى تحدث بها الخاص والعام وسمعتها وأنا طفل صغير لا أظنني أتجاوز السبع وزاد الناس فيها حواشي كعادتهم في أمثال هذا المقام مثل أن السيد محمد الأمين أزاد صلاة الصبح في ذلك اليوم وليس معه ماء فنبعت له عين ماء فتوضأ والحقيقة التي لا شك فيها هي ما حدثني به الحاج إبراهيم لأنه شاهد عيان وبعض أمورها قد جرت معه ومع أخيه. وكان السيد محمد الأمين مرة في خصام مع خليل بن الأسعد ويوسف آغا المملوك فهدده الوالي المكلف بالتحقيق في هذا النزاع في بيروت بأنه يحبسه فقال له إن حبستني لم تقدر على حبس لساني وقلمي وكثر الكلام فيما بينهما فأرسل الوالي إلى خصومه وألزمهم بصلحه فاستاؤوا لذلك كثيرا وقالوا بعد هذه المشاق والنفقات الكثيرة والأموال الجزيلة نلزم بالصلح. حدثني بذلك الحاج حسن ملحم خال أولاد الحاج حسن عبد الله وكان له ميل شديد لعشيرتنا قال فجئت إلى السيد محمد الأمين أبشره بذلك فلم يهتم به وقال لي هم يعتمدون على الحكام وعلى أموالهم وأعوانهم وأنا اعتمادي على الله وحده. وبعد أن رجع من بيروت إلى قرية الصوانة ظافرا على أخصامه الذين أرادوا به الغوائل ذهبنا للسلام عليه مع شبان بني عمنا ولم أكن رأيته قبل ذلك إلا مرة واحدة جاء فيها مع ولده السيد حسن ليلا إلى دارنا بشقرا وكنت يومئذ صغير السن جدا فلم تبق بذاكرتي صورته ولا صورة ولده السيد حسن وكانت دارنا ضيقة وفيها بعير مناخ فلم يستطع المرور إلا بصعوبة فقال لوالدي يا أخي دارك ضيقة فقالت له والدتي ماذا نصنع لك، في جوارنا خيرات كثيرة ولا تعطينا منها شيئا ببيع أو هبة لنوسع دارنا فسكت أما هذه المرة فكان عمري حوالي عشر سنين وذلك حوالي سنة 1294 فرأيته رجلا صبيح الوجه أشم الأنف جهوري الصوت بطينا شجاع القلب يلبس على رأسه شالا من الترم الأخضر ويلبس جبة وثيابا ليست بالفاخرة ويبسط له سجادة صغيرة فيجلس عليها خارج داره فسأل عني ولم يك يعرفني وفي الليل أتى بخرج فيه كتب من دواوين شعرية وغيرها من مطبوع ومخطوط وأعطى كل واحد منا كتابا وكتب عليه أنه وقف عليه وشرط شروطا منها أن يعيره ولا يمنعه كأنه قد وقف عليه ضيعة أو خانا ولما ودعناه جعل يوصي ابن ابنه السيد حسين بطلب العلم ورأيته مرة ثالثة حين وفاتة فكان بطلعته البهية وهو ميت يبهج النفس كما كان في حياته ولا يوحشها وكانت وفاته بعد رؤيته الثانية بمدة قصيرة لعلها تبلغ السنة أو السنتين.
وبقيت أقرأ مدة يسيرة عند شيخنا وابن عمنا المذكور لكن بفائدة قليلة لأنني لم أبلغ سنا يمكنني فيه أن أعرف كيف ينبغي أن يكون التعلم وليس من يرشدني أما هو فرجل فاضل.
في عيثا الزط
ثم حضر من العراق السيد جواد مرتضى إلى قريته المسماة عيثا الزط قرب تبنين وذلك حوالي سنة 1297 وتنسب إلى الزط وهم الذي ينزون ذكور الخيل والحمير على إناثها وليس بها منهم اليوم أحد ولعلهم كانوا في الأعصار السالفة كذلك تمييزا لها عن عيثا الشعب التي هي في منطقة تسمى الشعب فأرسلت إليها حوالي سنة 1297 وشرعت جماعة في قراءة القطر عليه ولكوني في سن الطفولة كنت إذا فتحت الكتاب ليلا للمطالعة حسب العادة، لا اهتدي إلى فهم شيء من العبارة وإذا حضرت الدرس نهارا لا أفكر في الدرس بل فكري مشتت فمضى علي على هذه الحال مدة قليلة وأترابي جلهم مشتغلون باللعب ثم رأيتني أخاطب نفسي فأقول أنت حضرت إلى هنا لتستفيد لا لتتعاطى ما يتعاطاه الصبيان من اللعب فصممت على الجد والكد فلما كان الليل فتحت الكتاب وأمامي السراج والطلاب محيطون به كل في فراشه يطالعون وجعلت أنظر في العبارة فكأنني كنت في ظلام ثم لاح لي في أثناء ذلك الظلام ضياء يسير فرحت به وتنبهت وجعلت أعرف جيدا كيف ينبغي أن تكون المطالعة وأن يكون تفهم الكلام ولم أزل من ذلك الحين إلى اليوم أشتغل بطلب العلم قراءة وتدريسا ومذاكرة وتأليفا بهمة لا تعرف الكلال في الصرف والنحو والمنطق والبيان والفقه والأصول في مدارس جبل عامل بكل جد وإتقان وفي النجف على مشاهير علمائها تاركا معاشرة كل من لا أستفيد منه علما مقبلا على خويصة نفسي صابرا على محن الزمان.
ومن الله علي في جبل عامل برفيق يسمى الشيخ محمد دبوق وهو أكبر مني سنا فهو ملتح وأنا طفل وكان تقيا ورعا زاهدا فطنا مجدا في طلب العلم متجنبا للغيبة وسماعها وإذا أراد أحد أن يستغيب في مجلسه صرف الكلام عن جهته بدون أن ينهي المستغيب صريحا بل بأسلوب جميل قل أن يقدر عليه أحد ولا تمر به حادثة إلا ويستشهد عليها بشعر أو ذكر حكاية فكنا نقرأ معا عند السيد جواد المذكور فإذا قرر مسألة لا يمكن أن يتجاوزها حتى يفهمها جيدا فإذا لم يفهمها يقول له هذه لم تدخل في فكري فيعيدها ثم يقول له هل دخلت فيقول لا لم تدخل فيعيدها ثانيا حتى يقول فهمتها. أما أنا فكنت أضجر من ذلك ولكنني أسكت ثم نذهب للمباحثة فيجلس أمامي على ركبتيه لا يتكئ ولا يميل إلى يمين أو يسار ولا يلتفت فإذا رأيته كذلك استحييت من نفسي وجلست جلوسه ثم تغلبني طبيعة الصبا فأنسى وأجلس متربعا واعتمد على يميني أو شمالي ثم أتذكر فأعود فأتممت معه قراءة شرح القطر بكل إتقان وقراءة علم الصرف وشرح ابن الناظم على ألفية والده إلى نعم وبئس.
وحضر في سنة 1298 من العراق الشيخ موسى شرارة إلى بلدة بنت جبيل فذهب والدي لزيارته وعاد فأخبرني عنه وقال إن الناس تتوافد لزيارته وذهب شيخنا أيضا لزيارته وكانت عادتي أن أحضر إلى شقراء في أغلب الأسابيع يوم الخميس بعد الظهر إذ أكون قد أكملت دروسي فأبيت فيها ليلة الجمعة وأرجع عصر يوم الجمعة.
رجعت مرة فوجدت الشيخ موسى قد جاء ليرد الزيارة لشيخنا المذكور وهو جالس أمام الدار على مصطبة فسلمت عليه وجلست وكنت متلفعا بملفع من الصوف ولي وفرة كما يكون للشبان فسأل عني فأخبروه فقال لي لم تلفعت بهذا الملفع، وهذه الوفرة لا تليق بطالب العلم فقلت أما الملفع فأتقي به البرد وأما الوفرة فأحلقها فقال لي بأي كتاب تقرأ قلت في شرح القطر وكان إلى جانبي رفيق لي هو أسن مني فسأله أيضا فقال في شرح القطر فقال له ما تعريف الكلمة فلم يحر جوابا فسألني فقلت قول مفرد فقال أيهما الجنس وأيهما الفصل قلت هذا لم أقرأه فسكت فلما كان الليل وأحضر العشاء افتقدني ولم يرض أن يتعشى حتى حضرت وتعشيت معه فلما فرغنا قال أسألك أيضا قلت نعم قال كيف تعرب:
إذا قالت حذام فصدقوها | فإن القول ما قالت حذام |
قلت إذا ظرف متضمن معنى الشرط قال بماذا يتعلق قلت – خطأ - بقالت قال إذا مضافة إلى الجملة التي بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف فلم يكن عندي جواب لأن ذلك لم يطرق سمعي من قبل لكنني سررت بالتفاته إلي وبسؤاله لي ونشطت لطلب العلم ورغبت فيه.
وكان معنا في عيثا الشيخ أحمد بري وكنا نستأجر امرأة لنقل الماء من العين الفوقا التي تبعد نحوا من ربع ساعة عن القرية ونلاقي من ذلك مشقة لعدم وجود من نستأجرها في كل وقت فاخترع الشيخ أحمد بذلك أن صنع لصفيحة من صفائح الكاز خشبتين وشدهما بها شدا وثيقا فيحملها أربعة من التلاميذ وينشدون شعر ألفية ابن مالك ذهابا وإيابا فيكون في ذلك عدة فوائد والماء يستخرج من هذه العين (بالنادوف) فيوضع عامودان من خشب بجانبي العين التي يبلغ عمقها نحو أربعة أو خمسة أمتار وبينهما خشبة معترضة من أحداهما إلى الأخرى ويدخل في الخشبة المعترضة خشبة أخرى طويلة طرفها الدقيق من جهة العين وطرفها الآخر بحيث إذا ترك يصل إلى الأرض وفي طرفها الذي يلي الأرض حجر ثقيل وفي الذي يلي الماء الحبل والسطل فيجذبها المستقي حتى يصل السطل إلى الماء ويمتلئ ثم يرسلها فترفع السطل إلى فم العين فيتناوله ويفرغه وهكذا.
ووقع في بعض السنين ثلج وليس عند الطلاب حطب وقريب من القرية شجرة قديمة عادية يحترمها أهل القرية ويتحرجون من قطع غصن منها خوفا من المجازاة في الدنيا، وأمثال ذلك في جبل عامل وغيرها كثير فذهب التلاميذ وجعلوا يربطون فروع تلك الشجرة بالحبال فتنكسر وتسقط فيجرونها إلى أماكنهم للوقود وأهل القرية يستنكرون ذلك ويخافون على التلاميذ عاقبة ذلك وينهونهم فلا ينتهون وفي الصباح جاؤوا ينظرون إليهم هل ماتوا من عاقبة هذا العمل فوجدوهم أحياء ولم يمت منهم أحد وبطل ما كانوا يظنون.
وسرق لواحد من التلاميذ دراهما فقال الشيخ أحمد بري أنا أستخرجها فكتب على قطع من الخبز حروفا وقال هذه لقمة الزقوم من كان سارقا وأراد بلعها يختنق فابتلعها جماعة ولما وصلت النوبة إلى السارق اصفر لونه وخاف من بلعها وأقر ودفع الدراهم.
وكتب رفيقنا الشيخ محمد دبوق إلى الشيخ أحمد بري يوما بهذه الأبيات:
يا شيخنا مسألة مفيدة | لا برحت أوقاتكم سعيدة |
لم منع العطف على الضمير | وهل هنا مانع ضروري |
إن لم يعد في العطف حرف الجر | أرجو الجواب عاجلا يا بري |
وكان معنا رجل من الطلبة هو أكبرهم سنا يتعاطى كتابة الحجب والهياكل وعنده كتاب مطبوع في مصر اسمه شمس المعارف الكبرى لرجل مغربي وفيه الأعاجيب:
(منها) طاقية الإخفاء تذبح عددا من الضفادع الخضر وتسلخ جلودها وتجففها في الظل ثم تصنع منها طاقية (قلنسوة) وتكتب عليها حروفا ذكرها ثم تلبسها فلا يراك أحد وعلامة ذلك أنه لا يظهر لك ظل في الشمس.
(ومنها) لطي الأرض تصوم أياما وتقرأ وردا وتعمل وتخرج إلى الصحراء في ليلة مظلمة فيأتيك عبد بيده عصا فاخطفها منه واذهب فإنه لا يتبعك فإذا أردت أن تطوي لك الأرض فأمسك تلك العصا بيدك وغمض عينيك وامش وانو المكان الذي تريد فترى نفسك فيه عن قليل.
(ومنها) رياضة وعمل لأمر من الأمور أراد صاحبنا أن يعمله وهو أن يصوم ثلاثة أيام ثم يختلي ليلا في مكان ليس فيه أحد ويعمل أعمالا تلك الليلة ويقرأ أورادا فيحصل له مقصوده فصام ثلاثا ثم اختلى ليلا في مسجد القرية لأنه لا مكان أخلى منه وفي المسجد قبر ونعش للجنائز فلما ذهب المصلون وانقطعت المارة استوحش فتجلد ثم زاد استيحاشه فتجلد ثم خيل إليه أن الميت خرج من القبر وجاء إليه فولى هاربا وفسد العمل وفاته المطلوب. وأراد مرة عمل ختم فصام ثلاثة أيام وبعدها شرع في قراءة أورد منها يا قدوس مئات المرات. وقراءة تلك الأوراد يجب أن تكون ليلا فغلبه النعاس وهو يقول يا قدوس فجعل يقول يا قدوم يا قدوم ثم نام وفسد العمل وبطل المرام وأمثال هذه المخرقات كثيرة رائجة بين الناس.
حكي أن اثنين من شطار بغداد ضاق بهما الحال فجلسا في مقهى وخلفهما يهودي ظهره إليهما فقال أحدهما للآخر عندي عمل للإخفاء فقال له الآخر اخفض صوتك ألا يسمعك أحد فأصغى إليهما اليهودي فلما قاما تبعهما وطلب منهما أن يعلماه ذلك العمل ويعطيهما ما يشاءان فأبيا وأنكرا ذلك فقال إني سمعت كلامكما فقال أحدهما للآخر حيث أنه سمع كلامنا فلا بأس أن نعلمه فذهبا إلى داره وكتبا له أسماء أشياء للتبخير وإنجاز العمل فأحضرها من السوق ونزلا إلى السرداب وعملا فيه دائرة وقالا لليهودي إياك أن تقترب من هذه الدائرة فإن في القرب منها خطر الموت ونزعا ثيابهما واتزرا وجعلا يحرقان البخور ويقرآن ويعزمان وأمراه أن يخرج عياله من الدار إلى السطح خوفا عليهم من الخطر ثم صنعا له قلنسوة من الورق ونقشاها بأنواع الألوان وأمراه بلبسها وقال أحدهما للآخر هل تراه قال لا فأمراه بنزعها فنزعها فقالا ها هو ذا ثم أعادا هذا العمل مرارا فكلما لبسها اختفى عن نظرهما وكلما نزعها نظراه فقالا له قد تم العمل فاذهب فإنه لا يراك أحد فذهب إلى السوق ومد يده إلى بعض البضائع وأراد حمله فانتهره صاحب الدكان فقال أأنت تراني فسخر منه فعاد إلى البيت فرأى أن الرجلين قد حملا كل ما يمكن حمله وذهبا آمنين.
وكان عند الشيخ أحمد بري كتاب فيه عمل المندل فأراد يوما أن يعمله فأحضر غلاما صبيح الوجه وبخورا وفنجانا فيه زيت ومداد أسود وكل لوازم المندل وقال للغلام إذا جاء الخادم فقل له يكنس ويفرش وإذا جاء الملوك فقل لهم كذا وجعل يقرأ ويعزم ويبخر ويقول للغلام هل رأيت شيئا فيقول لا ثم يعيد التعزيم والتبخير ويسأله فيقول لا وفي أثناء ذلك انقلب النفجان وأريق الزيت والمداد.
وجاء مرة إلى عيثا رجل فارسي كان قد تعاطى طلب العلم ولم يتقنه فكان ينشد قول الشاعر:
هي الشمس مسكنها في السماء | فعز الفؤاد عزاء جميلا |
فلا تستطيع إليها الصعود | ولا تستطيع إليك النزولا |
فيغلط فيه غلطا إذ يبدل عزاء بقوله غراء. فاتفق أن نزل مطر كثير وأعقبه نزول ثلج منعنا من الذهاب إلى بلادنا ومنعه من الخروج فبقي عندنا في المدرسة أياما فسألته يوما عن الحطب ما اسمه بالفارسية فقال هيزم فقلت له والحطب الأخضر فقال (هيمان) وقال يوما قرأ أعجمي وعصى آدم ربه. وخر موسى صعقا فقال العصا كان للموسى وما كان للآدم والخر كان للعيسى وما كان للموسى، وخر بالفارسية الحمار، وقال يوما إن كلمات إذا تليت على الحديد لم يتألم به الجسم وهي (سين سين أول دان بحرور بسرور بكاس كال كاي) وتلاها على إبرة وأدخلها في داخل شدقه وأبقاها مدة وأخرجها من خارجه ولم يخرج منه دم وفعل ذلك مرارا وفعل ذلك بعض الطلبة فكان كذلك. والحقيقة أن ذلك الموضع ليس فيه عروق فإذا شكت فيه إبرة لم يخرج منه دم لا لخاصية في هذه الكلمات وفطن لذلك الطلبة ففعلوا بدون الورد.
وكان عند الشيخ أحمد بري كتاب أدبي تاريخي طبع أوروبة وهو كتاب نفيس فيه ذكر حروب العرب وأشعارهم وقصائدهم المشهورة فقرأته كله وعلق بذهني من أشعاره الشيء الكثير وجمعت منه الأشعار التي يستشهد بها على مسائل من العربية عددا وافرا وفيه ذكر حرب البسوس التي دامت أربعين سنة والبسوس الناقة التي كانت الحرب بسببها وضرب بها المثل فقيل أشأم من البسوس وقيل البسوس اسم صاحبة الناقة وكانت لامرأة نازلة على جساس وكان لكليب حمى وبه يضرب المثل وكان يجعل فيه كلبا فمن سمع صوته لم يقرب الحمى فيقال كليب وائل ثم غلب عليه اسم كليب بعدما كان اسمه وائل وكان هذا الحمى لا يقرب غير إبل كليب وجساس وكان كليب متزوجا أخت جساس واسمها جليلة وكانت البسوس ترعى مع إبل جساس فرآها كليب مع إبله فانتظم ضرعها فجاءت الناقة فبركت أمام البيت وضرعها يشخب دما فلما رأتها قالت:
ولو أنني أصبحت في دار منعة | لما ضيم زيد وهو جار لأبياتي |
ولكنني أصبحت في دار غربة | متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي |
فحمي جساس لذلك وحلف ليقتلن بها الفحل الأكبر فظن كليب أنه يريد فحلا له اسمه عليان ورأى جساس كليبا فطعنه بالرمح فقتله وطلب أن يسقيه ماء فقال عداك شبيث والأحص وهما ماءان وجاء جساس فقال لأبيه من أبيات:
وإني قد جنيت عليك حربا | تغص الشيخ بالماء القراح |
فلامه أبوه ثم خاف عليه الانكسار فقال:
لئن تك قد جنيت علي حربا | فلا وكل ولا رث السلاح |
وفيه من شعر مهلهل قصائده كلها منها القصيدة التي يقال أن العرب كانت تغتسل إذا أرادت قراءتها:
ومنها القصيدة التي يقول فيها:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها | إن أنت خليتها فيمن يخليها |
كليب أي فتى عز ومكرمة | تحت الصفاة التي يعلوك وساميها |
والقصيدة التي يقول فيها:
نبئت أن النار بعدك أضرمت | واستب بعدك يا كليب المجلس |
وتحدثوا في أمر كل عظيمة | لو كنت شاهدهم بها لم ينسبوا |
وكان فيهم رجل يسمى همام بن مرة من عقلاء الرجال فاعتزل الحرب وقال لا ناقة لي في هذا ولا جمل فأرسلها مثلا وكان له ابن يسمى بجيرا فخرج في طلب إبل له فقتله مهلهل وقال بؤ بشسع نعل كليب فبلغ أباه قتله فقال نعم القتيل قتيل أصلح به بين عشيرتين إن كان مهلهل قتله بأخيه كليب فلا أطلب بدمه فقيل له إنما قتله بشسع نعل كليب فقال قد يأتي الحديث عن غير أهله فلما علم ذلك قال:
قربا مربط النعامة مني | قرباه وقربا سربالي |
قربا مربط النعامة مني | وأسألاني ولا تطيلا سؤالي |
قربا مربط النعامة مني | طال ليلي على الليالي الطوال |
قربا مربط النعامة مني | لبجير فداه عمي وخالي |
قتلوه بشسع نعل كليب | إن قتل الكريم بالشسع غالي |
ولما قتل همام قال فيه مهلهل:
وهمام بن مرة قد تركنا | عليه القشعمان من النسور |
ومهلهل لقب بذلك لأنه أول من هلهل الشعر.
وكان من جملة الطلبة طالب يسكن في دار جماعة غير البيت الذي يسكن فيه جمهور الطلبة وأنا معهم فكان يأتي نهارا إلى البيت الذي نحن فيه فيجلس ناحية يكتب ويقرأ ولا يلتفت إلى ما فيه الآخرون من لعب وبطالة وهو حسن الخلق هادئ فكانت تعجبني حاله فأجلس إليه وأتحدث معه إلى أن ذهبنا إلى العراق فرأيته قد تغير وانقلب عما كان عليه فعلمت أن لطلبة جبل عامل ثلاثة أدوار (الدور الأول) في جبل عامل فقد يكون صالحا فإذا ذهب الطالب للعراق فقد يزداد صلاحا وقد يتغير إلى غير ما كان عليه وإذا كان فاسدا ازداد فسادا في الدور الثاني والثالث.. (الدور الثاني) في العراق وهذا يعلم حاله مما مر في الدور الأول. (الدور الثالث) بعد الرجوع من العراق فصاحبه أما أن يزداد صلاحا أو فسادا.
وكان معنا في هذه الحجرة لفيف من الناس يجري بينهم أشكال من اللعب واللطائف فكان للحجرة طاقة على السطح يدخل منها هر فيأكل زاد الطلاب فكان أحدهم يذهب إلى السطح ويصرخ بصوت كصوت الهررة فيتبادر الجماعة من الطلبة إلى العصي وإلى الطاقة ليسدوها. ومطرت السماء مرة فتساقط الدلف فبات بعضهم على المكان الخالي منه وبعضهم على "المحمل" وبعضهم أسفل من "المحمل" وكان معنا في تلك الحجرة رجل هو أكبر الطلبة سنا وأقلهم عقلا وأكثرهم جهلا وأفسدهم أخلاقا فكان يحكم على الطلبة إذا أراد النوم أن يناموا ويطفئوا السراج ولا يدعهم يكملون مطالعة دروسهم وإذا أراد أحدهم أن ينام وهو يطالع يحكم عليه أن يبقى ساهرا ومن الذي يجسر على معارضته وهو إذا عارضه أحد تناوله بالسب والشتم القبيح وإذا رأى أن أحدا منهم يمدحه الناس لحسن صفاته بادر إلى ذمه وكان الطلبة يسبحون مرة في عين تسمى عين بطيطة في أيام الربيع فحكم عليهم أن يخرجوا ومن لم يخرج ألقى ثيابه في العين فألقى بثياب جماعة منهم فغرقت من جملتها عباءة لم يمكن إخراجها لأن العين بعيدة القعر واقتضى نظره أن يهجم هو وجماعة من الطلبة على رجل من أهل القرية ففعلوا وأوسعوه وزوجته ضربا ثم اقتضى نظره أن يذهب مع الطلبة إلى تبنين يشكون ذلك الرجل المضروب إلى المدير فقال لهم كاتب المدير كيف يعقل أن يكون رجل واحد ينتصر على جماعة كثيري العدد فيضربهم ولا يضربونه وكان السيد جواد غائبا مع الشيخ موسى شرارة في ساحل صور فرأى أن يذهب إليهما فتلقاهما مع الطلبة إلى وادي عاشور فقال له الشيخ موسى الظاهر أنكم ما تركتم الرجل حتى أمتموه. ثم إني انتقلت من تلك الحجرة إلى مكان آخر.
وبعد إكمال شرح القطر شرعنا في قراءة شرح ابن الناظم على الألفية بكل إتقان وجعلنا نراجع بكل دقة في أثناء ذلك شرح الشيخ الرضي على كافية ابن الحاجب الذي هو من أجل كتب النحو ويحوي فلسفة علم النحو واللغة العربية بطرز عجيب لا يوجد في غيره ونراجع أيضا عدة من كتب النحو المشهورة كشرح الجامي. وأعوزنا كتاب التصريح تأليف خالد الأزهري فلم نجده لا شراء ولا عارية حتى وجدنا نسخة مخطوطة عند بعض أقربائنا ضخمة الحجم جدا قد أفنى كثيرا من سطورها الزاج الذي مزج بمدادها وهم يضنون بها وهي لا تساوي شيئا فاستعرناها بعد جهد شديد وامتناع من أصحابها حتى كأنهم أعارونا جوهرة يتيمة وذكرنا هذا ليعلم ما قاسيناه من المشاق في طلبنا العلم، ثم تهيأ لنا عارية نسخة مطبوعة فسررنا بها كثيرا وكنا نحضر غالبا يوم الخميس بعد الظهر من عيثا إلى شقرا ونعود عصر الجمعة واتفق مرة إن مطرت السماء وتعذر علينا الذهاب يوم الجمعة فذهبت الوالدة تفتش لنا ليلة السبت على شرح الألفية لئلا تفوتنا مطالعة الدرس ليلة السبت فما زالت حتى وجدته وأحضرته إلينا وقرأنا مع شرح الألفية شرح الجاربردي في التصريف على كافية ابن الحاجب حتى وصلنا في شرح الألفية إلى بحث نعم وبئس وعندها سافر رفيقي الشيخ محمد دبوق إلى العراق للزيارة مع رفيق له راجلين بزي الدراويش ثم عاد فأكملت في غيابه شرح الألفية ولما عاد راجع معي قراءة ما فاته وكان قد أودع كتبه حين سافر عند السيد جواد مرتضى شيخنا وصاحب مدرسة عيثا وفيها شرح القطر مجلدا تجليدا متينا بجلد سختيان جديد وكان الرجل المشار إليه آنفا أنه أكبر الطلبة سنا وأقلهم عقلا وأكثرهم جهلا وأفسدهم أخلاقا يدخل إلى دار السيد جواد وكان يتعاطى كتابة الحجب والهياكل فأتى يوما بذلك الكتاب وقص الجلد منه وجعله جلودا للحجب والهياكل التي كان يكتبها للنساء والأطفال وألصق مكانه كاغدا وأبقى السختيان على أطراف الجلد ومن ذا الذي يجسر من الطلبة على معارضته أو منعه ثم خاف أن يظهر الأمر فأخفى الكتاب بالكلية والله أعلم ماذا صنع به فلما حضر الشيخ محمد من العراق افتقد شرح القطر فلم يجده فأخبرته بما صنع به فلم يزد على إنشاد هذا البيت:
وقد يهلك الإنسان كثرة ماله | كما يذبح الطاووس من أجل ريشه |
وحصل ونحن في عيثا عرس في حاريص واتفق وجودنا هناك فرأينا العريس راكبا على فرس يطاف به على البيوت لأخذ "النقوط" وهو من العادات القديمة التي لم يبق لها أثر اليوم. ثم شرعنا بعد إكمال شرح الألفية في قراءة مغني اللبيب ولما وصلنا إلى كلمة (أجل) وقع لي تصحيف غريب فصاحب المغني يقول إن أجل تكون تصديقا للمخبر وإعلاما للمستخبر ووعدا للطالب. ثم يقول: وقيد المالقي الخبر بالمثبت والطلب بغير النهي (والمالقي) عالم منسوب إلى مالقة بفتح اللام بلدة من بلاد الأندلس وإليها ينسب المالقي، نوع من الأواني الخزفية في لسان أهل دمشق وأهل العراق يسمونه (فرفوري) وقرأت هذه الكلمة لما طالعتها (وقيدا لمالقي) بنصب قيدا وتنوينها وكسر اللام من لما ولقي بصيغة الماضي وبقيت أفتش عليها حتى عرفت صوابها. والتصحيف يقع كثيرا ويوقع في الاشتباه.
قرأ بعض الشيوخ في كتاب الحج ويستحب الحج لأهل (الجدة) في كل عام وظنها البلد الذي على الساحل الحجازي فتحير في تفسيرها وإنما الصواب لأهل الجدة أي الغنى وقرأ بعضهم في عبارة المعالم الحجية بفتح الحاء والصواب ضمها فلما وصل إلى قوله وقال الشيخ عقيب ذلك قرأها وقال الشيخ عقيب بضم العين وتشديد الياء وسأل أستاذه من هو هذا الشيخ عقيب فقال له هذا زوج الحجية التى مر ذكرها وقرأ بعض طلاب العجم: في المسألة أقوال أسدها بضم الدال مخففة وسأل رفيقه ما معنى أسدها فقال معناه أنه أصحها تشبيها بالأسد المفترس وصحف صاحب المغني وهو من أئمة النحاة بيتا للفرزدق من جملة أبيات في وصف الذئب يقول فيها:
تعش فإن عاهدتني لا تخونني | نكن مثل من يا ذئب يصطحبان |
فأنت امرؤ يا ذنب والغدر كنتما | أخيين كانا أرضعا بلبان |
وكل رفيقي كل رحل وإن هما | تعاطى القنا قوما هما إخوان |
فقرأ قوما بالتنوين وإنما ألفها الف التثنية فوقع من تأويل البيت في حيص وبيص. وبقينا نقرأ في المغني إلى مبحث أم فلما وصلنا إلى قول الشاعر:
أنى جزوا عامرا سوءا بفعلهم | أم كيف يجزونني السوءى من الحسن |
أم كيف ينفع ما تعطى العلوق به | رئمان أنف إذا ما ضن باللبن |
استعصى علينا الأمر في هذين البيتين ثم نظرت بعد ذلك فلم أتذكر ما وجه الاستشكال فيهما ورأيت أمرهما واضحا. وألفت حين قراءتي في علم النحو كتابا في النحو ونظمت أرجوزة في علم التصريف من جملتها:
وبعده الصرف في الكلام | كالنحو مثل الملح في الطعام |
تراهما للعلم أما وأبا | فيا له من ولد قد نجبا |
وما لحرف أو لشبه الحرف | عندهم من علقة بالصرف |
ومن جملتها:
واحكم لأشياء بقلب تصب | لمنعها الصرف ولا من سبب |
وابتدأت وأنا في عيثا بقول الشعر فأجبت الشيخ محمد دبوق عن أبيات عينية بأبيات على رويها وقافيتها موجودة في الرحيق المختوم.
ثم إن شيخنا السيد جواد عاد إلى العراق وخرجت مع رفيقي الشيخ محمد إلى بلدة أخرى كنا نظن فيها علما فخاب الظن.
في بلدة أخرى
ويحق لها أن تسمى بلدة البراغيث كقريتنا شقرا، كنا نسكن في حجرة فتركناها أياما ثم عدنا فدخل الشيخ صالح مزيد ليكنسها وألقى ثيابه عدا القميص ثم خرج ورجلاه كعنقود السماق، وشرعنا في هذه البلدة في قراءة علمي البيان والمنطق في المطول وحاشية ملا عبد الله الزنجاني على تهذيب سعد الدين التفتزاني وكان ذلك حوالي سنة 1300 وكان شيخنا ذا حالة غريبة فهو لا ينظر في عبارة الكتاب ولا يفسرها ويشرع في البحث ويذكر مطالب لا نفهم منها ساعة البحث إلا خيالات فإذا أردنا المباحثة نجد أنه لم يعلق بذهننا منها شيء فنتباحث فيما فهمناه بالمطالعة ومراجعة الحواشي وكان في الغالب لا يضيع عنا شيء من المطالب وكان حسن ظننا بالأستاذ يحملنا على الاعتقاد بأنه يأتي بمطالب عالية ليس لنا قابلية فهمها، فنقول له نحن لا نريد منك إلا تفسير عبارة الكتاب ولا نريد فوق هذا، فيقول قيدوني كتفوني أنا لا أستطيع إلا هكذا وقد صدق، وحقا أن قدرته على هذه الطريقة كانت من العجائب.
ولما ابتدأنا بقراءة المطول كان أول درس لنا في كلمة (مقدمة) فقط فلما جئنا للمباحثة وجدنا أنه لم يعلق بذهننا مما قرره شيء وبقينا على هذه الحال مدة لا نستفيد مما يقرره شيئا وإنما فائدتنا من المطالعة فنفهم أكثر ما نطالعه فإذا استعصى على فهمنا شيء راجعناه في الحواشي وتأملنا فيه فنهتدي إليه وإذا حضرنا الدرس نقوم كما جلسنا ثم نتباحث فيما فهمناه من المطالعة وإذا بقي شيء لم نفهمه حال المطالعة فهمناه حال المباحثة ولم تزل هذه حالنا حتى وصلنا في الحاشية إلى دليل الافتراض فطالعناه فلم نفهمه فراحعنا الحواشي فلم نفهمه فأتينا اللدرس فلم نفهمه فجئنا للمباحثة فلم يتضح لنا فطالعناه في الليلة الثانية فكانت كالأولى فأعدنا الدرس عند الشيخ والمباحثة بلا جدوى وكان قد سبق لنا الظن بأننا لسنا في هذا التدويس على صواب وأنه لو كان فاهما له لفهمناه منه، ودليل الافتراض جعل هذا الظن قريبا من اليقين. وكان قد لوح لنا بذلك بعض الفضلاء فقلت للافيقى الشيخ محمد دبوق أرى أننا في هذا التدريس لسنا على صواب ونريد الانتقال من هذا البلد فعزمنا على الاستخارة بالقرآن الكريم على الانتقال لبنت جبيل وفيها الشيخ موسى شرارة المار ذكره وله مدرسة وعنده طلاب قتفألت بالقرآن فخرجت الآية {قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا} فذهبنا من فورنا إلى بنت جبيل وأستأجرنا فيها مسكنا وكان ذلك حوالي سنة 1301.
في بنت جبيل
وكان قد جاء إليها الشيخ موسى شرارة من العراق ولكن بدون أبهة ولا فخفخة ولا دعاية إلى الاستقبال وتهيئة الأسباب لإظهار الجلالة والنبالة كما يجري في هذا الزمان المنحوس، فقد جاءني وأنا في جبل عامل في بعض السنين كتاب كما جاء غيري مثله يدعوني مرسله إلى استقبال شخص مدرج في أهل العلم يريد المجيء من مكان قد استوطنه إلى بلده الأصلي يقول فيه يتحرك فلان من وطنه الثاني الساعة كذا والدقيقة كذا فيصل إلى موضع كذا الساعة كذا والدقيقة كذا ويجري استقباله على الجسر الساعة كذا، والدقيقة كذا وهكذا تحدد المنازل والساعات والدقائق للحل والترحال كما تحدد أسفار الملوك. أما الشيخ موسى فجاء من العراق إلى دمشق راكبا على بغل المكاري حتى نزل بباب الشيخ محمد حسين مروة في دمشق، لم تبث الدعايات لاستقباله ولم يشعر به أحد ولم يحضر لاستقباله أحد من أهل البلاد إلا أن يكون بعض ذوي رحمه الأقربين فلما حضر ورآه الناس وسمعوا أقواله ورأوا أفعاله كان له المقام الأسمى.
الشيخ موسى شرارة وإصلاحاته
سعى الشيخ موسى رحمه الله سعيا حثيثا في الإصلاحات الدينية فأنشأ مدرسة تدرس فيها علوم العربية من النحو والصرف والبيان وعلم المنطق وعلمي الأصول والفقه واجتمع فيها عدة من الطلاب واستفادوا وأفادوا وأحيا إقامة العزاء لسيد الشهداء ورتب لذلك مجالس على طريقة العراق وسن للشعر العاملي طريقة جديدة وعقد لقراءته المجالس على غرار مجالس العراق وسن لأهل بنت جبيل عمل الطعام عن روح الميت ثلاثة أيام ولم يكن ذلك معهودا ومنع النساء عن إتباع الجنازة. واتفق موت أحد الوجهاء فعمل أهله طعاما ودعوا الشيخ ووجوه تلاميذه فاتفق إن سمع بعض التلاميذ كلمة استخفاف بهم من أحد الجالسين في سوق البلدة الصغير تعود إلى ذهابهم للولائم فامتنعوا من الحضور وغابوا عن الأبصار وافتقدهم الشيخ وأبى تناول الطعام حتى يحضروا ففتش عليهم أصحاب الدعوة فلم يجدوهم وما زالوا يفتشون عليهم حتى وجدوهم وتوسلوا إليهم في الحضور واعتذروا فأبوا أن يحضروا فما زالوا بهم حتى حضروا. وجرى من الذاكرين للعزاء بعض الأمور الموجبة لإعراضه عنهم فطلب إلي القراءة في ذلك المجلس فقرأت، وكان يعظ في المجالس ويقرأ في نهج البلاغة فقال لي أن أقرأ بدله في النهج ففعلت، وقال لي مرة كل صفاتك حسنة إلا شدة الحياء. وأنشأ مجالس الفاتحة وقراءة الشعر فيها على طرز العراق وعلم الأدباء طريقة النقد في الشعر وشجعني على النظم، ولما توفي الشيخ عبد الله نعمة عقد له مجلس الفاتحة ونظم الشعراء في رثائه وأنا منهم ونظم هو قصيدة قال من جملتها في حق ولده الشيخ حسن:
وذا حسن الأخلاق من خير دوحة | وخير بطون أنتجته عقامها |
وقال إن وصف البطون بالعقام مستحسن ألا ترى إلى قول الشريف الرضي (وكانوا نتاجا للبطون العقائم) وهو اشتباه لم يتفطن له أحد من الأدباء الجالسين وتفطنت أنا له فإن الرضي رضي الله عنه يقول:
إذا نزلوا بالماحل استنبتوا الربى | وكانوا نتاجا للبطون العقائم |
ومعناه أن البطون العقيمة بسبب المحل والقحط تعود منتجة ببذلهم وجودهم لا أنهم نتجوا من بطون عقائم.
ومن تلك المجالس التي أنشأها أربعة مجالس أحدهما ليلة الجمعة عنده واثنان يوم الجمعة صباحا واحد بعد الآخر وكان يعظ في الأول منهما ويجتمع الطلبة ويتذاكرون في المسائل العلمية ويقرأ في نهج البلاغة وواحد يوم الجمعة عصرا وكان يسأل الطلبة ليلة الجمعة مسائل في العلوم التي يقرأونها عند غيره من النحو والصرف والبيان والمنطق فيثني على المصيب ويلوم المقصر وكان يطلب مني أن أنوب عنه في السؤال في بعض الليالي فأفعل، وكان يقول للمقصر الحق في هذا على شيخك وشيخه حاضر واتفق ليلة حضور الرجل الظريف الشيخ محمد مغنية فلما تكرر من الشيخ هذا القول التفت إليه فقال وشيخه حقه على من؟ فقال عليكم لأنها على الأصول تنبت الفروع، واتفق أن الشخص الذي كان عنده المجلس الثاني يوم الجمعة غضب لأمر ما وأغلق بابه وقت المجلس وحضر في المجلس الذي يقام عصر الجمعة فجعل الشيخ يسأله عن سبب إغلاقه بابه ويستعطفه فلمته في نفسي على ذلك على مقتضى نزق الشباب فما كان من الرجل إلا أن اعتذر وقال إنه يعود إلى فتح المجلس في الجمعة القادمة فعلمت حينئذ خطأي وإصابته. وهذه المجالس التي أنشأها وإن لم تكن كاملة من جميع النواحي لأنها كانت على غرار مجالس العراق فكتب له بعض الذاكرين سفينة ضمنها ما يقرأ في مجالس العراق وفيها جملة من الأكاذيب وتغييرات للتاريخ الصحيح إلا أنها على ما فيها من عيوب أصلح مما كان قبلها فقد كان يقرأ في جبل عامل في عشر المحرم ليلا فقط في كتاب يسمى المجالس مخطوط من تأليف بعض أهل البحرين فيه عشرة مجالس مطولة جدا يجتمع منها كتاب ضخم، والسعادة العظمى لمن يحظى بهذا الكتاب ويملكه وفي أوله هكذا: المجلس الأول في الليلة الأولى من العشر المحرم أيها المؤمنون المجتمعون، ثم يشرع في مقدمة طويلة ثم يبتدئ في ذكر حديث مكذوب أشبه بالقصص المخترعة في هذا الزمان أو صحيح لكن زيد عليه أضعافه من الأكاذيب في أثنائه وفي آخره، وهذا الكتاب قد رأيته وأنا صغير السن وعلق بذهني منه حديث عن فاطمة بنت الحسين (ع) أنها رأت طيورا بيضاء تمرغت بدم الحسين (ع) وجاءت حتى وقفت على حائط دارها بالمدينة.
ثم يبتدئ بالمجلس الثاني فيقول المجلس الثاني في الليلة الثانية من عشر المحرم أيها الأخوان المجتمعون ثم يشرع في مقدمة نظير مقدمة المجلس الأول وحديث شبيه بحديثه. وهكذا حتى ينتهي إلى الليلة العاشرة، وهذه المجالس ليس من شرطها ترك التدخين في أثنائها ولا ترك الكلام أحيانا بل هي أشبه بالقصص التي تتلى في المقاهي في هذا العصر، وفي اليوم العاشر تعطل الأعمال إلى ما بعد الظهر ويقرأ مقتل أبي مخنف ثم تزار زيارة عاشوراء ثم يؤتى بالطعام إلى المساجد وفي الغالب يكون من الهريسة فيأتي كل إنسان بقدر استطاعته فيأكل منه الفقراء ويأكل منه قليلا الأغنياء للبركة ويفرق منه على البيوت كل ذلك تقربا إلى الله تعالى عن روح الشهيد أبي عبد الله الحسين (ع). أما القرى التي ليس فيها نسخة المجالس فيقتصر على قراءة المقتل يوم العاشر ويقرأ منه في ليلتين أو ثلاث قبل ليلة العاشر كل ليلة شيئا حتى يكون الباقي إلى يوم العاشر خاصا بالمقتل وحده، وكانت المجالس التي أنشأها الشيخ موسى على ما فيها من عيوب كما قدمنا أصلح بكثير مما تقدمها وكانت مبدأ الإصلاح لمجالس العزاء ولما ألفنا لواعج الأشجان والمجالس السنية وجدنا أن جملة مما يقرأه الذاكرون في العراق مكذوب لا أصل له وبعضه قد زيد فيه أشياء لا أصل لها منها المنسوب إلى حبيب بن عمرو أنه قال لأمير المؤمنين لما دخل عليه بعدما ضربه ابن ملجم أن البرد لا يزلزل الجبل الأصم ولفحة الهجير لا تجفف البحر الخضم والليث يضرى إذا خدش والصل يقوى إذا ارتعش، فهذا الكلام المزوق لم يذكره مؤرخ ولا محدث وإنما هو من تزويق بعض الناس ويقرأه كل ذاكر في العراق واشتملت عليه سفينة الشيخ موسى شرارة.
وحضرت يوما في النجف مجلسا أقامه الشيخ ميرزا حسين النوري في داره لذكرى مقتل أمير المؤمنين علي (ع) وهو محدث متتبع وحيد عصره في ذلك فقرأ المقتل بنفسه ونبه على هذا الكلام المنسوب إلى حبيب بن عمرو أنه لا أصل له، وسمعت مرة وأنا في سن الطفولة من يقرأ المقتل يوم العاشر وفيه حديث عن درة الصدف وأنها حضرت يوم العاشرإلى كربلاء لتنصر الحسين (ع) في قصة طويلة لم تبق في ذاكرتي وكنت أستنكر ذلك وأكذبه في نفسي ومما غيره الشيخ موسى شرارة أن جعل قراءة المقتل في مقتل ابن طاووس. ولما ألفنا لواعج الأشجان صارت قراءة المقتل فيه وصارت قراءة الذاكرين في المجالس السنية فخلصت الأحاديث وصفت من تلك العيوب والأكاذيب وكان الشيخ موسى يميل إلى أهل العراق كثيرا ويتأنق في العبارات فإذا ذكر بعض عادتهم قال هذا سبك العراق، وافتخر عليه بعض أهل البيوتات يوما فقال له الشيخ موسى ما أكثر الدعوى وأقل المعنى. وشرعنا في بنت جبيل في القراءة على السيد نجيب فضل الله الحسني العيناثي فأتممنا عنده قراءة المطول وحاشية مالا عبد الله في المنطق وقرأنا عليه شرح الشمسية في المنطق أيضا بكل دقة واتقان ونراجع مع ذلك شرح المطالع في المنطق ثم ابتدأنا في قراءة المعالم في الأصول مع مراجعة حاشيتي سلطان والشيرواني عليها وغيرهما بكل اتقان وكان الفضل في ذلك لمزيد الجد والاجتهاد.
وحاولنا أن نقرأ في الفقه في الشرائع فقرأنا درسا أو درسين عند بعض الناس فلم نجد فيه كفاءة فتركناه ولم نجد سواه، وكتبت على المطول حاشية عند قراءتي إياه وحاشية على المعالم وكتابا في النحو، وكان السيد نجيب ربما ذهب يوم الخميس إلى عيناثا ولم يعرج علينا فكنا نذهب إلى عيناثا كي لا يفوتنا الدرس في مدة وجودي في بنت جبيل سافر والدي إلى العراق بقصد زيارة قبور الأئمة عليهم السلام في العراق وزيارة الرضا (ع) في خراسان ولما وصل إلى العراق أشار عليه ابن عمه العلامة الحافظ السيد كاظم ابن السيد أحمد بدفع ما يريد صرفه في زيارة الرضا (ع) إلى أولاد أخيه المشغولين بطلب العلم في النجف وقال له إن صرف ذلك عليهم مع اشتغالهم بطلب العلم أفضل من صرفه في سبيل الزيارة ففعل وعاد من العراق ولم يذهب إلى خراسان. وطلب وهو في العراق إرسال عشر ليرات عثمانية ذهبا فذهبت مع عمي السيد أمين يوم الخميس إلى سوف بنت جبيل وأخذنا من الدراهم ما قيمته عشر ليرات عثمانية واستبدلناه بها واتفق أن غببنا بعض من وثقنا به فقال عمي: الثقة بكل أحد عجز، ولم أكن سمعت هذا الحديث فحفظته وأعجبت بما فيه من حكمة ولأجله ذكرت هذه الحكاية ولكنني مع ذلك قد أثق بمن لا يوثق به. ولما كان والدي في العراق أوصاه أبناء عمي بإرسالي إلى النجف فلما عاد إلى الوطن زاره الشيخ موسى شرارة في جملة من زاره فأخبره والدي بوصية أبناء أخيه له بإرسالي للنجف فلم يشر عليه بذلك وقال له إن أبناء عمه ليسوا بأفضل منه.
ومن السوانح المستطرفة التي جرت معنا أيام وجودنا في بنت جبيل أنه جاءني يوما الشيخ طالب سليمان البياضي وقال أنذر لي إذا بلغك الله رتبة الاجتهاد أن تكسوني عباءة فنذرت له ذلك فقال أكتب لي به صكا فكتبت له ومضت الأيام والليالي وأنسيت ذلك ولما عدت من العراق جاءني فأراني الصك فسلمته العباءة.
ومنها أنه لما كنا نسكن في بنت جبيل في وسط البلدة كان يسهل علينا الاستقاء من الآبار القريبة منا فلما سكنا في دار حسن أيوب في آخر البلدة من الشمال احتجنا إلى من يستقي لنا الماء من عيناثا لأن بها عينا ماؤها غزير، أما عيون بنت جبيل فينضب ماؤها في الصيف حتى يقل جدا ولا يكفي لحاجة أهلها فقيل لنا أن رجلا اسمه موسى قليط حلاق يسكن قريبا منا عنده بنت يمكن أن تستقي لكم من عيناثا بمشاهرة فطلبنا من السيد نجيب أن يتوسط لنا في هذا الأمر عند والد البنت باعتبار أنه من عيناثا القريبة من بنت جبيل ولأهلها معرفة به وهو سيد شريف فاضل من عائلة علمية فوساطته قريبة من النجاج فذهبنا نمشي معه حتى ورد منزل المذكور وهو شيخ قد وخطه الشيب فوجدناه متكئا على الأرض أمام حجرته الضيقة التي بابها على الطريق وليس لها دار وتسمى في عرف تلك البلاد "خشة" فسلمنا عليه ولا بد أن يكون رد علينا السلام أما أنه جلس بعدما كان متكئا أو قام قائما فلا أتذكره غالب ظني أنه لم يفعل فوقف السيد ونحن وقوف إلى جانبه وبدأ يخاطبه بلسانه الذلق وعبارته البليغة الفصيحة وافتتح الكلام بالثناء على الرجل فقال يا شيخ موسى أنت والحمد لله من أهل الشهامة والغيرة والمروءة ومن محبي الخير لا سيما معونة طلاب العلم وأخذ يثني عليه بمثل هذه العبارات حتى لم يبق في القوس منزع والسيد أديب شاعر إذا أخذ في الخطابة أجاد، والمطلب وإن كان تافها وهو طلب بنت موسى قليط الحلاق لتحضر كل يوم جرة من الماء بأجرتها، إلا أن ذلك لما كان يتعلق بطلاب العلم لا سيما أنهم تلاميذ السيد لزم عليه أن يهتم به غاية الاهتمام ولما فرغ السيد من الثناء على الرجل قال له ونحن نريد منك البنت أن تستقي كل يوم جرة من الماء بأجرتها لهؤلاء الجماعة طلبة العلم الذين من أعانهم ولو بمدة قلم كان له على الله الجنة وأطال السيد في الترغيب حتى لم يدع شاردة ولا واردة، فلما فرغ من خطابه أجابه الرجل بجواب مختصر فقال انظر ما أنا بطبل حتى تنفخني ليس عندي بنات لجلب الماء، فلم يستحسن السيد أن يقطع الكلام معه لعله يجيب إلى ما سئل منه فعاوده الكلام مرغبا، فقال قد أخبرتك أنه ليس عندي بنات فلا لزوم لإطالة الكلام فعدنا نسحب أذيال الخيبة. رحمك الله يا موسى قليط لست أنسى وقوفنا بين يديك ولا كوقوف الأسرى بين يدي كسرى أبرويز ونحن نستعطفك وأنت تقسو علينا سامحك الله وعفا عنك، ولما يئسنا من وجود من يستقي لنا الماء ذهب الشيخ محمد دبوق يوم الخميس واشترى جرة متوسطة وقال أنا أذهب واملؤها من العين في عيناثا، فقلت ذلك إليك وكانت له عباءة مؤلفة من عباءتين إحداهما تسمى بوزية لا تفترق عن البساط شيئا والأخرى سوداء تسمى صدية قد أخنى عليها الذي أخنى على لبد وقد خاط إحداهما فوق الأخرى فصارتا عباءة واحدة فكان يفترشها على الأرض ويجلس عليها عند المباحثة وهي لحافه إذا نام ويلبسها إذا خرج وإذا جلس أمام الشيخ في الدرس وهي للجمعة والجماعة، وعنده مخدة زرقاء ينام عليها وفيها يقول شعرا:
ورب مخدة زرقاء أضحى | لها حشو يفوق الشوك لينا |
جعلت رباطها (البابير) كيما | تزيد ملاحة وتقل شينا |
وهذا منتهى الزهد والاستهانة بالدنيا يفعل ذلك بدون كلفة وبكل سهولة وطيب نفس أمام جميع الخلق، فوضع العباءة على كتفه والجرة فوقها وأمسكها بإحدى عروتيها وتوجه على اسم الله إلى عيناثا والمسافة نحو ربع ساعة فوجد على العين ثلة من النساء مجتمعات للاستقاء، والنساء رقيقات القلوب بالطبع لا سيما أنهن رأين طالب علم ذا لحية سوداء وعمامة بيضاء جاء بجرته من بنت جبيل إلى عيناثا ليحمل بها الماء وما دعاه إلى ذلك إلا الضرورة، منظر يرق له الجلمود، فأخذتهن الرقة، ولم يكن عندهن قساوة موسى قليط فملأت إحداهن له الجرة برفع الماء بالسطل من العين ووضعه في الجرة وهو لا يخلو من مشقة فشكرها الشيخ على ذلك وتناول الجرة بإحدى عروتيها ليضعها على كتفه فانفلقت فلقتين، والعادة أن تحمل الجرة بكلتا عروتيها فحمل نصفها بيده وأتى، وحينئذ لم يبق من حيلة إلا عرض الأمر على المرجع الأعلى الشيخ موسى فأخبرناه بذلك فقال خذوا من بئر الجامع فاشترينا جرة وحملها الشيخ محمد إلى الجامع عند العصر في وقت اجتماع نساء آل البزي على البئر للاستقاء فطلب من إحداهن أن تملأها له فأجابت وملأتها فطلب منها نقلها إلى المنزل فقالت له يا روحي أنا تركت عدسي على النار وأريد أن أطبخ لأولادي وحملت جرتها وانصرفت وطلب إلى الثانية فقالت تركت ولدي يبكي وأريد أن أذهب وإلى الثالثة فاعتذرت بما يشبه أعذار رفيقاتها وهكذا حتى بقيت واحدة فاعتذرت وحملت جرتها لتنصرف فلما رأى ذلك الشيخ محمد وضح العباءة الجليلة المقدم ذكرها على عاتقه وحمل الجرة ووضعها فوقها لكنه تناول الجرة هذه المرة بكلتا عروتيها وعلمته الجرة المكسورة في عيناثا كيف يجب أن يتناول الجرة المملوءة وكان الشيخ موسى والحاج سليمان البزي جالسين قريبا من ذلك الموضع فأشار الشيخ موسى إلى جليسه أن يأمر من يحمل الجرة عن الشيخ وكانت المرأة الأخيرة قد وصلت إلى باب دار المسجد فصاح فيها الحاج ويلك احملي الجرة عن الشيخ فوضعت جرتها وأخذت الجرة من الشيخ وحملتها إلى المنزل راغمة وأمرها أن تحملها كل يوم فكانت تفعل كذلك ووقع البلاء عليها وحدها، وفعل الشيخ محمد هذا الذي كان يفعله بدون مبالاة يدل على زهد عظيم وخلق كريم وطبع مستقيم. وكانت عادته في بنت جبيل وغيرها إذا التقى بامرأة في الطريق أن يقف ويدير وجهه إلى الحائط حتى تتجاوز المرأة عنه مع أن النساء هناك وإن كن سافرات إلا أنه لا يبين منهن إلا الوجه الوضوئي. وكنا نقرأ عند السيد نجيب في بيت رجل يسمى محمود أيوب وعنده أم تشبه أم الحليس قد تجاوزت السبعين وكانت تخبز يوما في زاوية البيت ونحن جلوس أمام شيخنا وهي على يميننا فرأيت الشيخ محمد يتلوى ويتضور لوجودها عن يمينه فاضطررنا لجعلها خلف ظهره حتى يسكن والنظر إليها إن لم يوجب القيء فهو يوجب الإشراف عليه.
ثم أن الشيخ محمد المذكور طلب إلى الخدمة العسكرية في الرديف وأخذ إلى سالونيك وجرت بيني وبينه مراسلات شعرية مذكورة في الرحيق المختوم وأسف الشيخ موسى لذلك كثيرا وكان يقول هذا الرجل ذهب مهاونة.
ومن السوانح التي جرت معنا في بنت جبيل أننا كنا نسكن في دار غربي الجامع الكبير وفيها بيوت كثيرة كل واحد منها ملك لشخص وتسمى تلك الدار بيت إبليس وهذا الاسم كان لها قبل أن نسكنها وهب أن فينا إبليسا أو أبالسة فلسنا نحن السبب في تسميتها بذلك وكان فيها جيران لنا لصقاء ليس بيننا وبينهم إلا كواير لوضع الحبوب والدقيق لا تصل إلى السقف ولا تمنع سماع الصوت فاتفق ليلة من الليالي إن أرادوا جرش البرغل فجمعوا بذلك البنات الشابات حسب العادة وشرعن في الجرش وفي الأغاني المعروفة عندهن فمنعننا بذلك عن المطالعة فنهيناهن فلم ينتهين لأنهن إنما ينشطن للعمل بسبب تلك الأغاني فإذا تركنها فترن عن العمل ويبقين كذلك إلى نحو من نصف الليل فتقدم لهن صاحبة البيت سليق الحنطة مع الدبس فيأكلن ثم ينصرفن إلى بيوتهن مشكورات مدعو لهن بعافية الأبدان من صاحبة البيت ومن يؤول إلها من بناتها وذوات قرابتها ولم يزل الجدال بيننا وبينهن قائما مدة طويلة بدون جدوى فأشار جارنا الآخر وهو إسكاف وعنده حمار قد خزن له تبنا أن نشعل النار في التبن ليصل الدخان إليهن فيضطرهن إلى السكوت فأتى بكمية من التبن إلى محل سكنانا وأشعل فيه النار فتصاعد الدخان وأصابنا منه أضعاف ما أصابهن قبل أن يصيبهن منه شيء ومع ذلك تغلبن علينا ولم يتركن ما كن فيه وكان هذا من الأعمال الصبيانية التي كان الأولى بنا تركها والصبر على ما حصل.
ومن السوانح إنا كنا نسكن في مسكن قريب من الحوارة وهي مجمع للمياه تجمع في الشتاء لينتفع بها في الصيف وبقربها الجبانة فخرجت يوما والفصل شتاء لأتوضأ لصلاة الصبح فشاهدت رجلا موسوسا في الطهارة يصب الماء على يديه ورجليه وينتقل من قبر إلى في ويعيد صب الماء وقد صار جلد يديه ورجليه كإنما صبغ بالنيل لشدة البرد فتوضأت وذهبت إلى المنزل وصليت ثم عدت لأنظر ما انتهى إليه أمره فوجدته على حاله الأولى يصب الماء وينتقل من قبر إلى قبر فعجبت من ذلك ولم يزل كذلك حتى طلعت الشمس وفاتته الصلاة وهو رجل عاقل متدين ليس فيه ما يعاب إلا هذا الوسواس الذي اتبع فيه أمر الشيطان.
وفاة الشيخ موسى شرارة
وبقينا في بنت جبيل إلى سنة 1304 وقد وصلنا في المعالم إلى مبحث الاستصحاب وفي شعبان توفي الشيخ موسى بمرض السل الذي كان متمكنا فيه من العراق. ورثيته بقصيدة مذكورة في الرحيق المختوم. وتفرقت الطلبة أيدي سبا وذهب كل منهم إلى بلده على العادة المتبعة في جبل عامل أن عمر المدرسة ينتهي بعمر صاحبها وربما ماتت في حياته، وذهبت أنا إلى بعض العلماء الذي أتوا من العراق بغية إن أتم عنده ما بقي من المعالم وأشرع في غيرها، فوجدت أن غاية ما يقدر عليه فهم ما تحت اللفظ من العبارة الذي لا يصعب علي فهمه بل ربما كنت أفهمه أجود مما يفهمه، وطلبت منه أن يذكر لي ما تنطوي عليه حاشيتا سلطان والشيرواني فلم يكن ذلك باستطاعته فوجدت أن بقائي عنده نوع من العبث فتركته ولم تكن نفسي تميل إلى معاشرة العوام وكنت أقضي أوقاتي في التدريس والمطالعة والعزلة عن الناس ونفسي تتوق إلى الهجرة للعراق فلا أستطيع ذلك.
الطلب للعسكرية أولا
وفي هذه الأثناء طلبت إلى العسكرية فاقتضى الحال السفر فسافرت إلى بلاد بعلبك مجتازا بالبقاع ومنها إلى بلاد حمص حتى انتهينا إلى قرية تسمى الغور بضم الغين تيعد عن حمص إلى جهة الغرب أربع ساعات ثم عدنا إلى الوطن ثم توفيت الوالدة ثم أصيب الوالد بنزول الماء على عينيه فكيف بصره ولي شقيقتان لا كافل لهما غيري مع ضيق ذات اليد فيئست من طلب العلم لانحصاره في الذهاب للعراق وهو غير ممكن واضطررت إلى تعاطي بعض الأمور الدنيوية التي لم يسبق لي تعاطيها.
في الجولان
فذهبت إلى الجولان مرتين لأنه كان لنا شريك على فرس أصيلة فبعته النصف الباقي لنا وأخذت بثمنه بقرا أناثا وذكورا والعادة عندهم أن ثمن البقرة الفتية خمسمائة قرش والثور الفتي ويسمى عالولا ألف قرش ثم عدت وتحتي فرس دهماء رفلاء هي لخالي وعليها خرج فيه خروف وعلبة سمن فوصلت إلى نهر وأردت أن أعبر بها النهر وبأسرع من البرق وجدت نفسي فوقها في الجانب الآخر بغير انزعاج والخيل الدهم الرفل معروفة بالقوة والنشاط نذكر هذا وأشباهه مستميحين العذر ممن يقرأونه فإن الحديث شجون ولعله يكون من باب الأحماض.
ومن شجون الحديث أنه في إحدى سفراتي إلى الجولان اضطررت إلى المبيت في الحولة في بيت من الشعر ويسمونه ربعة ومعي رجل من أهل ميس وبدوي من عرب الجولان ووجدنا في الربعة بدورا ضيفا يقولون إنه شاعر وهو ينتاب الأماكن يطلب بر الناس ومعه فرس فأخذوا عليقة فرسي وعليقة فرسه وأثوابهما مملوءتين فرفعت العليقة بيدي فوجدتها ثقيلة فمددت يدي فوجدت فيها شعرا وبعد مدة قليلة رأيت الفرس تركت الأكل منها فإذا فيها شلب وهو قشور الأرز العليا فوقه قليل من الشعير فقلت لمن معي اشتر لها شعيرا أما فرس البدوي فهي معتادة على أكل الشلب فأكلته كله وجيء بالعشاء فإذا هو بربورة ويسير من اللبن فقلت لكم دعوا لي هذا اللبن اليسير وأنتم في حل من البربورة وهي ذرة بيضاء تطبخ بالمخيض فجيء بها في باطية كبيرة مملوءة وصاحب البيت لم يحضر لا أولا ولا آخرا مما دل على خسة طبعه فأكلوا ما فيها كله مع الخبز وصاحوا بأهل البيت ليأتوا بغيرها فجاؤوهم بباطية مثلها مملوءة فأكلوا منها ما استطاعوا وجهدوا في إكمالها فلم يستطيعوا فحفروا في جانب البيت وأفرغوا ما بقي في الحفرة حنقا على صاحب البيت ونهيتهم فلم ينتهوا وضفت مرة شريكنا على الفرس فذبح لي شاة وبت أنا وإياه وصاحبة بيته في بيت وأحد من الشعر وكان معي في إحدى السفرات بدوي ومعنا عالول فهرب فلحقه ففاته فجعل يسب الذي نبت فيه الشعر تصديقا لقوله تعالى: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا}.
في الخيط
وسرق لنا مرة ثور فاضطررت إلى التفتيش عليه فذهبت إلى مارون الرأس فقال لي بعض أهلها أنا رأيته اليوم على عين البيضاء فذهب معي ثلاثة من أهل مارون اثنان ذهبا لأجلي خاصة وواحد كان له شغل جزاهم الله خير الجزاء فمررنا في قرية (ديشوم) وأهلها مغاربة فلم نر امرأة قط إلا عجوزا ووجدنا الرجال تستقي الماء من العين وتحمله في الجرار على عواتقها وهذه عادتهم في صون النساء ثم هبطنا وادي عوبا ومحو واد فيه ماء جار وعليه رحى ثم خرجنا منه إلى سهل في آخره عين البيضا ومعنا الفلاح فذهب ورآى الثور بين البقر وعرف رفقائي عند من هو ثم صعدنا في عقبة من أرض الخيط حتى انتهينا إلى بيت من الشعر فيه رجل كهل يقرأ القرآن وذلك في شهر رمضان وقد جيء إليه ببدوي من عرب تلك الجهات فوبخه وتناوله ضلربا بعصا غليظة في يده فهرب فحذفه بالعصا فوقعت بين أكتافه وولى هاربا وكان الذي عنده الثور هناك فقالوا له نحن ضيوفك فقام معنا وركبنا مصعدين حتى انتهينا إلى الظهر فإذا سرب من بيوت الشعر ممتد الجنوب إلى الشمال ولم نر خارجه امرأة فانتهينا إلى آخر بيت من الجنوب فنزلنا عن الخيل وابتدر أحد الرفاق فعقد طرف منديل المغربي الذي على رأسه وهي عند العرب علامة أن له عنده حاجة يلزمه قضاؤها وغربت الشمس فجاؤوا بالفطور مغربية وخبز على الطابون وطلبت الماء لأتوضأ فقال لي صاحب البيت تريد الوضوء فقط أم تريد معه قضاء الحاجة فقلت بل أريد الوضوء فقط فقال توضأ هنا داخل البيت فتوضأت وصليت وسألت رفيقي عن معنى ذلك فقال هذا محافظة على ستر النساء فإن كنت تريد الوضوء فقط فيمكنك أن تتوضأ داخل البيت ولا مقتضى للخروج لئلا تكون امرأة خارج البيت فتراها أما إن كنت تريد قضاء الحاجة فلا مناص من الخروج فيحتاطون أن لا تكون امرأة خارج البيوت ثم طلبوا مني ريالا مجيديا ليدفعوه إلى الراعي لم يكلفوني غيره وكنت أحتاج لولاهم إلى عدد من الليرات الذهبية لو أمكن لي الحصول على الثور فلا أزال أشكرهم ووأسأل منه تعالى حسن جزائهم، وفي الصباح رجع معي أحدهم ومررنا على الراعي فأخذنا الثور وعدنا.
الطلب للعسكرية ثانيا
ثم طلبت إلى العسكرية بعد الطلب الأول ولم تكن طلبة العلم في بلادنا معفاة فأشار بعض الناس بعمل مضبطة وتقديمها إلى الحكومة فلم تجد شيئا ولعل من أخذها وهو من أهل بلادنا لم يقدمها لأنه غضب من كونه لم يبق في الصدر مكان لإمضائه وضاق الخناق بأهل العلم من جراء ذلك وانقطعوا إلى الله بعد ما كان انقطاعهم إلى الخلق فهيأ الله لهم الشيخ أبا الخير الخطيب الدمشقي قاضي صور فأشار بأن تعين مدرسة في عيثا الزط تسمى المدرسة الحيدرية باسم رئيسها السيد حيدر مرتضى ويعمل معروض يقدم إلى المشيرية بدمشق بطلب اعتبارها مدرسة رسمية تقبل طلابها في الامتحان فعمل المعروض بنفسه بأسماء الطلبة المطلوبين وكتبه بخطه وكنت غائبا في شقراء فقال بعض الطلبة الحاضرين لا تكتبوا اسمه لأنه غائب فقال له آخر إن لم تكتبوا اسمه لا يتم أسر هذا المعروض فكتبوا اسمي فأخذ المعروض الشيخ جواد مروة والشيخ عبد المطلب مروة رجلان صالحان لا حول لهما ولا طول وركب كل منهما أتانه وأخذا معهما من النفقة ما لا يتجاوز ثلاثة مجيديات لكل واحد وسارا على اسم الله وبركاته إلى دمشق وقدما المعروض إلى المشير واسمه رجب باشا وهو رجل حازم منصف لا تعصب عنده فقال لهما يحققون ويدققون فإن كان ذلك كذلك فنعم وإلا فمحال فعادا إلى جبل عامل فأخبرا بذلك وطالت المدة فجعل الناس يهزأون منهما فبعض يقول لم يصلا إلى دمشق وبعض يقول مثل هذين نريد أن نقضي بهما المهمات والحاصل كل أحد يجيء بعبارة من عبارات الهزء وهما يحلفان لقد جرى معنا ما قلناه بدون زيادة ولا نقصان وكانا صادقين في قولهما فصدر الأمر من المشير إلى الملازم الأول في صيدا أن يحضر إلى عيثا ويرى المدرسة الحيدرية ألها حقيقة أم لا وكان من توفيقه تعالى وثمرة التوكل عليه إن كان هذا الملازم من خيرة الرجال ولو كان من أقرب الناس إلينا وكنا من أعزهم عليه لما فعل خيرا مما فعل فاكترى برذونا من صيدا وامتطاه وجاء إلى عيثا فوصلها عند الغروب فوجد السيد حيدر يصلي جماعة في حجرة خارج داره فنزل عن برذونه وأبى أن يدخل حتى يتم السيد حيدر صلاته فجلس خارجا وانتظر حتى فرغوا من الصلاة فدخل وسأل عن المدرسة فقيل له هي هذه فقال أين الطلبة فقالوا متفرقون بسبب طلب الحكومة لهم وتشديدها عليهم وأرسلوا فأحضروا من أماكن حضورهم وحشروا معهم بعض المعممين من غيرهم تكثيرا للسواد فكتب إلى المشيرية بأنني حضرت إلى المدرسة فوجدتها مدرسة معمورة ووجدت الطلبة المطلوبين جميعا فيها ولم يقبل أن يأخذ من المال شيئا فحينئذ صدر أمر المشيرية باعتبار المدرسة مدرسة رسمية وإن الطلبة الذين فيها مقبولون في الامتحان المطلوبون منهم وغير المطلوبين وكان ذلك فتحا جديدا في جبل عامل أن تقبل طلبته في الامتحانات الرسمية ولم يكن ذلك سابقا وبقي هذا إلى زوال حكم الدولة العثمانية. وكان من ثمرات التوكل على الله تعالى وتسليم الأمر إليه أمور خارقة للعادة.
(الأول) ما أشار به الشيخ أبو الخير الخطيب وهو رجل دمشقي لا تربطنا به علاقة وإنما عمل ما عمل لوجهه تعالى وكان وجوه أهل بلادنا إذا جئناهم لأمر من هذه الأمور ينفرون ويجيبوننا بما تشمئز منه النفوس وهم لا حول لهم ولا قوة ولا طول ولا معرفة وكلهم جهلاء وبعضهم قد يفسدون الأمر لأن فلانا قدم اسمه في المعروض على فلان.
(الثاني) وجود المشير رجب باشا الذي كان من صفاته ما سمعت.
(الثالث) صدور الأمر إلى الملازم الأول في صيدا أن يتولى تحقيق هذه القضية ولا يمكن أن يوجد في الدنيا من يعمل فيها بإخلاص كما عمله معنا.
ومن الغريب أنه يوجد دائرتان للرديف في صيدا ليس فيهما مخلص غير هذا الرجل فضلا عن أنه يوجد أحسن منه أو مثله أو أقل بدرجات وكان ذلك ثمرة الانقطاع إليه تعالى والتوكل عليه كما أن تعويلنا على الخلق في أول الأمر كانت ثمرته إيكالنا إليهم فتجهمونا وعدنا بالخيبة وشددت الحكومة علينا بالطلب قبل مجيء أمر المشيرية فطلبنا أن نحضر إلى الخيام للنظر في أمرنا ومعنا أحد أبناء عمنا والشيخ موسى مروة بدلا عن أخيه الشيخ محمد حسن مروة فقال لهما الحاج إبراهيم عبد الله أرجعا من حيث جئتما وحضر في اليوم الثاني الموكل بطلبنا فأنكر الحاج إبراهيم أن نكون جئنا للخيام وفعل معنا ما استحق به جزيل الشكر جزاه الله عنا خيرا ولم تطل المدة كثيرا حتى جاءتنا البشارة بصدور الأمر بقبولنا في الامتحان.
في دار الحاج حسن عسيران
فلما جاء وقت الامتحان حضرنا إلى صيدا ونزلنا في دار الحاج حسن عسيران مدة إقامتنا هناك وكانت داره معدة لنزول كل غريب وفيها مكانان أحدهما لنزول الفلاحين والآخر لنزول العلماء والوجهاء والأشراف وكان يقريهم جميعا أيام كانت حالته المالية متسعة فلما ضاقت كان يقتصر في القرى على بعض الطبقات العالية وكان يدعونا نحن الطلبة إلى تناول الطعام على مائدته أحيانا، وكان من حديثه أن أهل جبل عامل يوصون على صلاة وصيام فهلا أوصوا للطلبة في النجف فذلك أفضل وأجدى.
وكان في صيدا بيكباشي تركي اسمه محيي الدين شديد التعصب على طلبة العلم فكتب معنا إلى بيروت أن هؤلاء ليسوا بطلبة علم وأنهم زراعون صنعتهم الحرث والحصاد وأرسل معنا دركيا كالذين يساقون للخدمة العسكرية فلما وصلنا بيروت أخذنا للقشلة العسكرية فأرجعوه إلى دائرة الرديف فدخلنا على "ميرالاي" يبدو من كلامه أنه دمشقي ذو لحية شقراء قد وخطها الشيب ذو أنصاف ومعدلة فقال لي أنتم طلبة قلت نعم قال ومن أين تعيشون قلت إن الله تعالى رازق جميع العباد متكفل برزقنا ومع ذلك لنا أهل ينفقون علينا فقال لي إن لباسك لباس تجار وكنت لابسا عباءة عراقية مخيطة حساوي وكان الفصل شتاء فقلت إن العلم ليس باللباس وهذه العباءة لبستها في الطريق للوقاية من البرد وسيصير الامتحان قريبا وتحضر فيه فتعلم أننا طلبة أم لا فقال أتدري ما كتب في حقكم محيي الدين إنه كتب كذا وكذا ونحن قد كتبنا له تكديرا لأننا علمنا أنكم طلبة حقيقيون بموجب الأمر الوارد من المشيرية وأمر من يقرأ كتاب المشيرية ففهمنا مضمونه وإن كان بالتركية وهو أن المدرسة الحيدرية مدرسة معترف بها وطلابها مقبولون في الامتحان وهؤلاء من طلابها فأذهبوا في حفظ الله وأخبرونا عن منزلكم لندعوكم عند الامتحان فذهبنا إلى المنزل واشتغلنا بالمذاكرة والمباحثة ليلا ونهارا سوى وقت الصلاة والأكل فكنا نصلي الصبح ونشتغل بالمذاكرة والمباحثة إلى الظهر فنتغدى ونصلي الظهرين ثم نشتغل بذلك إلى المغرب فنصلي العشاءين ونتعشى ونشتغل بذلك إلى أن يغلبنا النعاس وذلك نحو الساعة الرابعة ثم ننام وهكذا وكان صدى أصواتنا يصل إلى السوق حتى أن الشرطة جاءت يوما ظانة وقوع نزاع ومقاتلة بين فريقين وكان أهل بيروت إذا رأونا في السوق يقولون هؤلاء إخواننا الشيعيون أخي متى الفحص؟.
الاجتماع بالمميز
واجتمعنا بالمميز في دار محمد أفندي اللبابيدي مأمور الإجراء حيث دعانا وإياه لتناول طعام العشاء عنده، والمميز اسمه سليم البخاري وهو مميز قرعة ومفتي ألاي فقال المميز إني أقول بالاجتهاد وأقول بالتجزي فاعترضت على القول بالتجزي بأنه ربما كان بالمسائل التي لم يجتهد فيها المتجزي ما ينافي أدلة ما اجتهد فيه فلا يكون قد استفرغ الوسع فلم يكن عنده جواب. وسألنا المميز في أي كتاب تقرأون علم النحو قلنا في شرح القطر وشرح ألفية ابن مالك لابن الناظم فكان ذلك سبب طبع شرح الألفية في بيروت ولم يكونوا يعرفونه، وجمعنا للمميز أربعة آلاف قرش من الطلبة وأنا كواحد منهم وكان اللبابيدي واسطتنا في إيصالها للمميز فلم يقبل أن يأخذها إلا أن يكون معه أحدنا فلم يأتمن الرفقاء على ذلك غيري فجئت أنا واللبابيدي والدراهم معي إلى لوكندة طرابلس التي كان المميز نازلا فيها فقال له اللبابيدي الجماعة مقدمون لهم أربعة آلاف قرش لا على سبيل الرشوة بل معونة لما عليكم من المصاريف فقال له المميز أنت تعلم يا محمد أفندي أنني لست من أهل هذا فأشار إلي اللبابيدي بالقيام فقمت وبقيا منفردين والله يعلم ما جرى بينهما.
الحضور للامتحان
كان الامتحان الرسمي في ست سنوات سنتان في النحو في شرح الجامي على الكافية وشرح الإظهار وأربع سنوات في المنطق سنتان في شرح أيساغوجي للفناري وسنتان في شرح الشمسية وكنت مقيدا في دفاتر الحكومة من مواليد 1280 مع أن توالدي سنة 1284 كما مر وذلك لسوء نية من مختار القرية فلما طلبت للقرعة أول سنة وجدوا أني صغير السن فجعلوا تاريخ ولادتي سنة 1282 فلما كان بعد ذلك طلبت للقرعة بمقتضى أن ولادتي سنة 1282 وأصابتني القرعة وعند السحب كانت الورقة بيضاء فتخلصت تلك السنة. وحصل هنا اشتباه في دفاتر الحكومة فبقي المولد سنة 1280 وبقيت المعاملة على مقتضى 1282 فأسقط سنتان لصغر السن والورقة البيضاء فيكون أول سنة الامتحان في النحو في شرح الإظهار أما إذا كان المولد 1282 وسقط سنتان يكون أول سنة الامتحان في المنطق سنتان في شرح أيساغوجي وسنتان في شرح الشمسية فيكون قد توفر علينا السنتان الأخيرتان من شرح الشمسية ففتحت الدفتر الذي كان معنا ضمن غلاف ملصق مختوم فوجدت أن التاريخ قد كتب 1280 فوضعت بدل الصفر رقم اثنين ثم ألصقتة وهكذا في باقي السنين وحضرت الامتحان أربع سنين وتوفر علي سنتان وأعطيت شهادة بانتهاء الامتحان لكنهم تفطنوا بعد ذلك لهذا الغلط فطلبت وأديت الامتحان عن سنتين في سنة واحدة فتوفر علي سنة واحدة فقط. وحضرنا للامتحان في السراي فأعطونا محل الامتحان في شرح أيساغوجي وقالوا تذاكروا
فيه فدخلنا المسجد الذي في السراي التي هدمت أخيرا فجلس البيروتيون ناحية وجلسنا ناحية فدخل اللبابيدي وقال للبيروتيين قوموا واجلسوا مع إخوانكم واستفيدوا منهم فقاموا وجلسوا إلينا رجلا منا ورجلا منهم وكانوا أضعف منا بمرحل ودخل واحد منهم حليق اللحية وخرج فقال له آخر ما سألوك عن هذه فقال حذفناها حزفا قياسيا وكان المجلس مؤلفا من المميز والقاضي والمفتي والنقيب وبعض العلماء وجماعة عسكريين لكن القاضي لم يحضر ولما دخلت قال لي المميز اقرأ، فقرات القضية قول يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب فيه فقال لي من أي القضايا هذه قلت موجبة كلية فقبل جوابي ثم تأملت بعد ذلك فرأيت أنها طبيعية وسألني أسئلة أخرى فأجبته ثم قمت لأكتب حسب الطريقة المرسومة فكتبت كما أعجب به الحاضرون وجاء محرر الجريدة فأخبر أن طلاب صيدا وصور ومرجعيون نجحوا جميعا وجاءت الجريدة إلى البلاد فكانت بشرى عظيمة ولما وصلت الشهادات إلى المير ألاي ليمضيها طلب حضورنا لديه من بين جميع الطلاب فقال لنا إنما طلبتكم لأوصيكم بأمرين:
(الأول) إنكم إذا سئلتم في إستانبول أو في الشام أو في بيروت أو في أي مكان تجيبون لأني حضرت امتحانكم وسمعت أجوبتكم فإياكم أن تدفعوا لأحد شيئا.
(والثاني) لا تقولوا قد سئلنا فأجبنا وتتركوا طلب العلم.
فقلت له نحن لا نطلب العلم لأجل التخلص من العسكرية بل لأنه ليس لنا مهنة ولا صنعة غير طلب العلم أبا عم جد وشكرناه على نصائحه وأمضى لنا الشهادات وخرجنا وعدنا إلى بلادنا سالمين غانمين ببركة التوكل على الله تعالى واليأس من الناس وصرنا نأتي إلى الامتحان كل سنة حتى مضت سنوه.
جعفر المحمد
ابن الشيخ محمد حسين المحمد من نسل الشيخ محمد بن محمود العاملي المشغري الشاعر المشهور وقد ينسبون إلى الحر للمصاهرة بينهم حتى كأنهم عائلة واحدة والمتدينون منهم لا يرضون أن ينسبوا أو ينتسبوا إلى الحر وكان جعفر هذا مجنونا في ثياب عاقل متعمدا للأذى وكان هو في العراق يؤذي العامليين لا سيما ابن عمه العالم الفاضل البر الصالح الشيخ حسين بأنواع الأذى ويشكوهم إلى الحكام وكانوا معه دائما في عناء وسافر مرة إلى إيران فكلف من يكتب له كتابا إلى النجف بان جعفرا توفي فلما وصل الكتاب إلى النجف جعل ابن عمه الشيخ حسين يبكي فقال له ابن عمنا السيد علي محمود أتبكي عليه أبعده الله أنسيت ما كان يصنعه معك ومعنا فقال إنما أبكي عليه لقلة توفيقه وفي أثناء ذلك حضر جعفر للعراق فقيل له ما الذي حملك على هذا الكتاب فقال أردت أن أعرف من يحبني ممن يبغضني ويشمت بموتي. وكان معنا في بيروت جماعة من أل الحر الكرام حضروا مع أولادهم المطلوبين للامتحان فيهم الشيخ عبد السلام الحر ومعهم الشيخ محمد المعروف بالخجا من آل مروة حضر مع ولده أيضا وكان قارئا للقرآن عارفا بالتجويد فقرأت عليه صلاتي فقال جيدة سوى أن الدال من سورة التوحيد في أحد وغيرها تحتاج إلى قلقلة وهي إلحاق شيء بالدال شبه الهمزة، وحضر في هذه المدة إلى بيروت الحج محمد ابن الحاج حسن عبد الله لإجل رجل من الخيام أخذ للخدمة العسكرية ووضع بالقشلة فهربه ليلا وصرف ما جاء به من الدراهم لتخليصه فامتزج معه جعفر وجعل لا يفارقه وهو يكرمه وكنا جلوسا مرة فمد الحاج محمد يده إلى ربطة رقبته ليصلحها فقال جعفر لرجل إلى جنبه ألست ذكيا فأنه يقول لك اذبحه أما تراه مد يده إلى رقبته مشيرا إلى ذلك وعزم آل الحر ليلة على قتل جعفر ليتخلصوا من أذاياه الكثيرة وما يشنع به على الشيعة من الأكاذيب مع أنه كان نازلا مع آل الحر يأكل زادهم ويؤذيهم ولا يجدون إلى التخلص منه سبيلا فعزموا على قتله ودعونا للاشتراك معهم فأبينا مستنكرين ذلك وكنا نازلين وهم في فندق واحد فلما مضى شطر من الليل بدأوا بتنفيذ خطتهم فقال لهم اخنقوني خنقا لا تذبحوني ذبحا فمزقوا ثيابه وأكثروا الجراح في وجهه ثم جبنوا عن إتمام خطتهم فقال لهم قد تبت إلى الله وإليكم فاستأجروا لي غدا دابة لأذهب عنكم إلى جبع فلما كان الصباح غسلوا وجهه وأتوه بثياب وأرسلوا معه من يستأجر له دابة فجعل الذي معه يمشي به إلى محل استئجار الدواب وهو يجره نحو السراي فلما رأى منه ذلك عاد عنه وعلم أنه يريد الشكوى فذهب إلى السراي وشكاهم وأخبر بما جرى له فألقي عليهم القبض وما تخلصوا ذلك اليوم إلا بجهد عظيم ومشقة شديدة وواسطة قوية.
طلب عالم من العراق
بعد وفاة المرحوم الشيخ موسى شرارة وتفرق طلبة مدرسته اعتزم الحاج سليمان البزي وجيه بنت جبيل ومثريها وجماعة من وجوه البلاد بتشويق جماعة من أهل الفضل طلب عالم من العراق بتوسط الشيخ محمد حسين الكاظمي أشهر علماء العرب في العراق، فأرسلوا له برقية بطلب أحد اثنين: السيد إسماعيل الصدر أو السيد مهدي الحكيم وكثر إرسال البرقيات بهذا الصدد، وكانت البرقيات ترسل إلى بغداد بواسطة حسن رضا الشامي ومنها إلى النجف لعدم وجود مركز برقي في النجف. فقبل السيد الحكيم بالمجيء على أن يرسل له مائتا ليرة عثمانية ذهبا، فأرسل له مائة مقدما وأرجئت مائة إلى حين حضوره، ولما حضر استقبله القوم إلى دمشق فأخذ بالحزم ولم يبرح دمشق حتى أمنت المائة الثانية، وكنا أشوق إلى حضوره من الظمآن إلى بارد الماء، فهرعنا مع من هرع للسلام عليه، واستبشر الناس بحضوره، وحسنت من أشدهم استبشارا واجتمع طلاب مدرسة الشيخ موسى، وأنا معهم للقراءة عليه سوى السيد نجيب فضل الله، الذي كان قد هاجر إلى العراق، واكتريت دارا وذهبت مع عيالي إلى بنت جبيل. وتوافد الطلاب إليها وكنت قد وصلت في المعالم إلى الاستصحاب كما مر، وكان المتقدمون من بقية الجماعة قد فرغوا من قراءة القوانين وشرح اللمعة وشيء من الرسائل. وتذاكرنا معه في أمر ترتيب الدروس، فقال للجماعة: إن لي شرطا على منظومة الشيخ موسى شرارة في الأصول، فاقرأوا فيه بدل الرسائل وهو شرح على شيء من أول المنظومة، فقبلوا لما لم يجدوا بدا من ذلك. وقال لي: الأولى أن تقرأ معهم، فأبيت وقلت لا بد لي من إكمال المعالم فقال لي أنت ذو فهم ويمكنك أن تقرأ معهم ولا يفوقونك فهما. فقلت: أنا أعرف بنفسي، ولا أستعمل الطفرة. نعم يمكن أن أقرأ معهم ولا أترك درس المعالم، فقر الرأي على هذا بعد إصرار مني. وحضرت في اليوم الثاني ومعي المعالم، فقرأ الجماعة درسهم وسمعته معهم وفهمته كما فهموه، ثم قرأت عبارة درسي في المعالم، فلما فرغت قال: أليست هذه العبارة مفهومة قلت بلى وأطبقت الكتاب وانصرفت، وفي اليوم الثاني لم أحضر معي المعالم، فسألني، فقلت: حيث أن الغرض من إحضارها هو قراءة العبارة فقط، فأنا أقرأها لوحدي.
وكان همه مصروفا إلى الوعظ والإرشاد وإصلاح المجتمع، أكثر من انصرافه إلى التدريس، وهذا أمر مرغوب فيه فلا غرو أن اتبعه، ولكل مصلح في هذه الحياة رأي فيتبع ما يراه أصلح، وقد يكون غيره أصلح منه. وبعد قليل طلب وجوه البلاد لأمر لو تم لكان فيه من الحزم وجودة الرأي وبعد النظر في عواقب الأمور ما لا يخفى لكنه لم يتم، وهم خليل بك الأسعد والحاج حسين فرحات وأخوه الحاج حسن والحاج علي أبو خليل والحاج سليمان البزي، فقال لهم قوللا معقولا: وهو أني حضرت إلى هذه البلاد لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وهذا لا يتم إلا بأن أكون مستغنيا عن الناس وذلك يتوقف على أن تجمعوا لي من البلاد ما أشتري به مزرعة تقوم بكفايتي. وهذا الكلام لو قيل في مثل إيران أو العراق لكان له وجه. أما في جبل عامل التي يغلب على أهلها الفقر ولم يسبق لأحد من علمائها أن طلب مثل هذا الطلب، وكك علمائها قانع بالقليل من عهد الشهيد الثاني الذي كان يحرس كرمه ليلا بنفسه وبنى دارد بيده، فلم يكن من المحتمل أن يجيبوا إلى مثل هذا الطلب لذلك أجابه الحاج حسين فرحات من بينهم، بأنه لا لزوم للجمع من أهل البلاد، بل نحن الموجودين، نقوم بثمن مزرعة لأن ثمنها لا يزيد عن ألفي ليرة ذهبية. فخليل بك يدفع خمسمائة والحاج سليمان خمسمائة، والحاج علي أبو خليل خمسماية وأنا وأخي خمسمائة ولكننا نجعلها وقفا على العالم القائم بوظيفة العلم في جبل عامل. وبقي الناس ينتظرون أن يعلموا لماذا كان هذا الاجتماع، وماذا كنت نتيجته، فسألوا الحاج حسين فأخبرهم، وقال نحن فقراء، وعالمنا يعيش كما نعيش، وقد اعتدنا أن يجيء العالم، فواحد منا يقدم له فرسا، وواحد شيئا من المال وهكذا... أما إذا كنا نريد أن نشتري لكل عالم مزرعة فلا يمضي زمن قليل حتى يصبح جبل عامل كله ملكا للعلماء. فأين نذهب نحن.
وانفض ذلك الاجتماع عن غير جدوى. وكان من فتواه أن الضدين الواجبين وأحدهما موسع والآخر مضيق إذا فعل الموسع دون المضيق أثم وصح الموسع - وهو الأصح - وأن من عنده عقار لا يكفيه نماؤه لا يجوز له تناول الحق الذي للفقراء بل عليه أن يبيع العقار ويصرف ثمنه ثم يتناول من الحق. ومن الطرائف أننا جلسنا مرة في أرض ومعنا خالي الشيخ حسين فلحة وسيد فقير اسمه السيد إسماعيل دقة فقال السيد هذه الأرض لي فقال له خالي اسكت الآن يسمع بك فلان فيمنعك من أخذ الخمس فضحك الحاضرون. ولما لم نجد فائدة في البقاء رجعنا إلى وطننا وكذلك باقي الطلاب تفرقوا وعادوا إلى أوطانهم وانصرف السيد إلى ما هو بنظره أهم من الدرس من إصلاح المجتمع بالوعظ والإرشاد وإلى الأسفار لا سيما في شهر رمضان لتعميم المنفعة وتخليص الناس مما عليهم من الحقوق المالية.
ولما وجدت أن لا فائدة لي من البقاء في بنت جبيل خرجت منها وعدت إلى وطني في شقرا وعظم الأمر على والدي فطلب إلى صديق له في بنت جبيل يسمى السيد أحمد بوصي أن يقنعني بالعودة إليها فقلت له أنا لو علمت بدرس في رأس جبل الثلج لذهبت إليه، ولكنني آيس من وجود الدرس في بلدكم وبقيت مثابرا على المطالعة والتدريس المتيسر حسب عادتي واجتمع عندي عدة من الطلاب في علم العربية من النحو والصرف والبيان فيستفيدون مني ولا أستفيد منهم، وقرأت في هذه المدة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بكلا جزئيه وكان والدي أحضره معه من العراق وبقيت معطلا من الاستفادة لعدم وجود الشيوخ.
سفرنا إلى العراق سنة 1308
وبقينا على هذه الحال نتشاغل بالتعليم والمطالعة أربع سنين من سنة 1303 التي توفي فيها الشيخ موسى إلى سنة 1308 فحضر إلينا الشيخ حسين مغنية فقال لي قد صح عزمنا على السفر إلى العراق لطلب العلم فلتكن معنا فقلت له ما أشوقني إلى ذلك ولكن قد ترى حالة والدي فكلمه في ذلك، وكان الوالد راغبا في ذلك كرغبتي فيه لكن عجزه وذهاب بصره وفقد المعين يمنعه عن ذلك، فقال لي الوالد استخر بذات الرقاع فإن خرجت جيدة فالله يتولى تدبير أموري وإلا فأكون قد أعذرت فتوضأت وذهبت إلى المسجد بنية خالصة وتضرع واستخرت بذات الرقاع فخرجت جيدة فأخبرت والدي وتهيأت للسفر مع العيال ولم يكن معي من النفقة درهم واحد فهيأ الله تعالى في مدة قصيرة من بيع بعض الحبوب وغيره نحوا من 25 ليرة فرنسية ذهبا.
وسرنا على اسم الله تعالى من شقرا في آخر يوم من شهر رمضان المبارك وبتنا في قرية دير قانون النهر وفي الصباح سرنا قاصدين صيدا فبتنا فيها ثم رحلنا قاصدين بيروت فوصلناها مساء، ودعانا فيها صديقنا القديم من أيام الامتحان محمد أفندي اللبابيدي مأمور الإجراء لتناول العشاء في داره، وحضرنا يوما إلى مكتبة الشيخ أحمد عباس بجانب الجامع العمري الكبير وكان هو واللبابيدي يطبعون ديوان الشريف الرضي عن نسخة المرحوم الشيخ عبد الله نعمة فجيء بملزمة إلى المكتبة فإذا فيها هذا البيت:
وموقف صافحت أيدي الرجال به | طلى الرجال على الخرصان من كثب |
فوجدتهم فسروا كلمة الخرصان بقولهم: "الخرص شيء يوضع في الإذن" فقلت لهم هذا خطأ فالخرص هنا ليس له محل وإلا لكان المعنى أنهم يطعنونهم في آذانهم، بل الخرصان هنا أطراف الرماح، فسألوني حينئذ عن معنى قسيم النار في قول الشريف: (قسيم النار جدي يوم تلقى) فقلت لهم هذا إشارة إلى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: يا علي أنت قسيم النار تقول هذا لي وهذا لك وكان الشيخ أبو الحسن الكستي شاعر ببيروت حاضرا فلم يعجبه هذا التفسير فقال الشيخ أحمد عباس هاتوا تاج العروس ولم أكن رأيته قبل ذلك ولا سمعت باسمه لأنه طبع حديثا فجيء به فإذا فيه في مادة قسم قال رسول الله يا علي أنت قسيم النار تقول هذا لي وهذا لك. وسألوني عن معنى قول الشريف الرضي.
أما في يوم خيبر معجزات | تخبر أو مناجاة الحباب |
أرادت كيده والله يأبى | فجاء النصر من قبل الغراب |
فقلت هذا إشارة إلى قصة لم أطلع عليها. وبقي ذلك يحوك في نفسي حتى وردت النجف وكان هناك رجل يسمى:
الشيخ محمد اللايذ
له اطلاع واسع على تواريخ أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم وعلى تواريخ العلماء وأخبارهم لأنه يكثر المطالعة في الكتب المتضمنة لذلك فهو دائما في حجر بائعي الكتب يطالع فيها لا شغل له سوى ذلك وقد تلقى أخبار العلماء المتأخرين من أفواه الناس وإذا حضر مجلسا جعل يلقي من ذلك على أهل المجلس فيكون هو لا سواه محدثهم وكان فقيرا وعند صديقنا السيد حسين الصائغ مجلس ليلة الأربعاء
تقام فيه ذكرى سيد الشهداء ويدعو فيه جماعة لتناول العشاء هو أحدهم على الدوام قد أوعز إليه صاحب المجلس بذلك فلا يحتاج إلى دعوة خاصة فسألته عن معنى البيتين فقال نعم وقف السيد الحميري بالمربد بالبصرة وهو محل اجتماع الناس وهو راكب على جواد ونادى من جاءني بمنقبة لعلي ابن أبي طالب لم أنظم فيها شعرا فله جوادي هذا فقال له رجل ماذا نظمت في خبر الحية والغراب وروى له قصتهما فنزل السيد الحميري عن الجواد وأعطاه إياه وقد أشار الشريف الرضي في شعره إلى ذلك.
الخروج من بيروت
ثم ركبنا البحر من بيروت في مركب تركي اسمه قيصري قاصدين إسكندرونة فاجتزنا بطرابلس واللاذقية وبقينا في البحر يومين وليلة وهاجت بنا المرة الصفراء هيجانا شديدا حتى أننا خرجنا من البحر ونحن كالأموات وبسبب ذلك تأخرنا عن صلاة المغرب أول الوقت فتعصب علينا (قبودان) المركب لظنه أننا شيعة وجاء يسألني عن سبب تأخير الصلاة عن أول وقتها فأخبرته بالعذر فلم يقنع بذلك وجعل يتجسس علينا وكانت معي رسالة للشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت وهي على مذهب الإمام الشافعي وكنت أقرأ فيها مرة فوقف من خلفي ينظر فيها خلسة لعله يجد فيها ما يوافق غرضه فلما رأى أنها مذهب الإمام الشافعي انصرف لكنه بقي على تعصبه واشتط علينا في أخذ الأجرة حين إنزال ما معنا إلى الزورق ليوصله إلى إسكندرونة هذه حالة المسلمين في تعصبهم الأعمى الذي أدى إلى ضعفهم وصيرورتهم غرباء في أوطانهم.
في إسكندرونة
وهي فرضة على البحر المتوسط ولها خليج جعل لها موقعا حربيا جيدا، وأصل اسمها الإسكندرية نسبة إلى بانيها الإسكندر باني إسكندرية مصر فدخلناها بعد خروجنا من البحر ونزلنا في بعض خاناتها وأهلها سنيون وعلوية واشترينا اللحم وكنا إليه جد قرمين لما أصابنا في البحر من القيء المتواصل بسبب هيجان الصفراء فكنا كأننا لم نأكله من سنين. وفي اليوم الثاني ذهبنا إلى منبع مائها وهو غزير يفور من أرض سهلة وكان قد بني عليه بناء فتهدم وبقي بعض جدرانه واجتزنا في طريقنا إليه بحدائق وبساتين كثيرة تسقى من ذلك الماء فاغتسلنا وغسل النساء ثيابنا ثم عدنا إلى المنزل وأخذنا في اليوم الثالث نسعى في تهيئة أسباب السفر.
إلى حلب
ومن حيث أن معنا عدة نساء لم يعتدن ركوب الدواب ولا سافرن قبل هذا السفر صرنا نسأل عن (كجاوات) فلم نجد وطلبنا إلى النجارين عملها فلم يهتدوا إلى معرفتها لأنهم لم يروها ولا سمعوا باسمها قبل ذلك وقالوا لنا هل تريدون سمرا والسمر بالفتح قتب رحل البغل والبرذون وشبههما. وانحصر الأمر في ركوب الدواب على السروج والجلالات ولو كان ذلك شاقا مشقة شديدة على النساء. فذهبنا لاستئجار الدواب فطلبوا منا أربع مجيديات لكل دابة، وبينما نحن في غم من هذا الأمر إذ جاءنا وجل يعرض علينا الركوب في العربات فكأنما نشطنا من عقال وكان ذلك الرجل يهوديا وهو مالك العربات ومعه سائق كردي فجعل اليهودي - على عادتهم في المكر - نفسه واسطة وادعى أن مالك العربات هو الكردي فاستأجرنا منه بنصف ما كنا نريد أن نستأجر به الدواب وسرنا على اسم الله أحسن مسير وكان ذلك بتوفيق الله وتيسيره وبعدما قطعنا سهل إسكندرونة سرنا صعودا فاجتزنا ببلدة (بيلان) والماء يجري في جانبها ثم بتنا في خان يسمى (قرق خان) أي الخان الأربعون ثم بتنا في مكان على ماء جار فوق (تخوت) والماء يجري من تحتنا ومررنا بمكان فيه جاموس وأظنه سهل العمق.
في حلب ثم السفر إلى العراق
ثم دخلنا حلب من باب الفرج وسألنا رجل على عادتهم في فضول الكلام من أين أقبلتم فقال له أحدنا من إسكندرونة فقال وإلى أين تذهبون فقال إلى الخان وتلقانا في باب الفرج المكارية العراقيون الذين حملوا الحجاج من العراق إلى حلب وكانوا يريدون العودة وليس لديهم ما يحملون على دوابهم وعرضوا علينا السفر معهم فقلنا لهم أن يأتوا إلينا لنتفق معهم فكان دخولنا من باب الفرج فألا طيبا وفرجا قريبا وذهبنا إلى خان يسمى خان موسى وهو خان نظيف ذو طابقين مبني من الحجر لا يدخله الدواب وسقوف طابقيه مقبية بالحجر أيضا فنزلنا في الطابق الثاني الأعلى. وذهبنا إلى مسجد زكريا وصلينا فيه وإلى الثكنة العسكرية مع بعض الجنود من أهل بلادنا وصعدنا إلى القلعة وهي على ربوة وفيها مسجد فيه مأذنة عالية فصعدنا عليها ورأينا حلبا كلها وبساتينها من الفستق وفي القلعة بئر بعيدة المدى يستقى منها على دابة وفيها أكوام من القنابل القديمة. وحضر إلينا المكارية فاكترينا منهم دابة "الكجاوة" بخمسة عشر مجيديا مع تحميل أربعين أقة بلا أجرة ودابة الركوب بعشر مجيديات مع تحميل ثمانين أقة بلا أجرة ومعهم "عكامون" كانوا مغتبطين أن يعودوا معنا بمؤنة بطونهم بدون أجرة (والعكام) هو من يقود الدابة التي عليها الكجاوة وأظنه مأخوذ من العكم وهو القبض بشدة على زمام الدابة أو لجامها، ومع العكامين جل لوازم السفر من خيام وقرب ومبارز وسوبيات ومناصب وفؤس وغيرها فأخذناها بدون أجرة ولم يعوزنا غير المطرات والكجاوات اشترينا المطرات وذهبنا إلى الخانات نفتش عن "الكجاوات" فوجدنا في خان ثلاث كجاوات اثنتان جديدتان وواحدة عتيقة قد غمرها الزبل وتكسر أعلاها فسبق بعض رفقائي إلى الجديدتين فاشتروا إحداهما بليرة فرنسية ذهبا والأخرى بأربع مجيديات وبقيت الثالثة لم يقبلها أحد فاشتريتها بمجيديين وأصلح النجار أعلاها بزهراوي "نحو ربع مجيدي" فظهر أنها خير الثلاثة لأنها عمل بلاد العجم متينة واسعة والأخريان عمل الكاظمية ضيقتان غير قويتين وجاء دور العكامين فاختار رفاقي منهم الشبان وبقي واحد يسمى الحاج فليح بتشديد الياء وهو شيخ كبير السن أعور أعرج لا يستطيع المشي لكن معه حمار صغير يركبه فكان هو نصيبنا فقبلنا به إذ لم نجد سواه متوكلين على الله فظهر أن الحاج فليح سلمه الله تعالى رجل صليب العود قوي البنية قد عركته الأسفار وعلمته تجنب الأخطار والأمن من العثار وخرجنا من حلب على اسم الله تعالى قاصدين العراق وركب الحاج فليح حماره الصغير وقاد بغلة الكجاوة وفيها عيالنا وإحدى بنات عمنا وجعل يقول تأخروا عن درب الخشابات ويكرر ذلك حتى صار أمام الجميع ومشى على متن حماره الصغير وكأنه قائد جيش على متن جواد مطهم. ومررنا بمكان قد غمره الماء ولا مناص لنا عن عبوره وفيه حفر كثيرة فجعلت البغال تعثر في تلك الحفر وتقع عنها الأحمال والكجاوات إلا من نجى الله أما الحاج فليح فعبر ببغلته من مكان بحيث لم تبتل حوافرها وتخطى بها كما يتخطى العصفور ووقف في ذلك الجانب مستقبلا ببغلته القوم ونزل عن حماره وجلس ينتظر عبورهم وهم يعجبون منه كيف استطاع العبور ولها تبتل حوافر بغلته وسرنا حتى وردنا قرية تسمى جبرين وهي على مسافة أربع ساعات من حلب فنزلنا خارجها وضربنا خيامنا وذهبنا إلى القرية لنشتري خبزا وبيضا فقيل لنا إن ذلك يوجد عند شيخ القرية فوجدناه جالسا في ديوانه وحوله أهل القرية فطلبنا منه أن يبيعنا خبزا وبيضا فقال أنتم مسافرون للعراق قلنا نعم، وتزورون الشيخ عبد القادر الجيلاني الباز الأشهب قلنا نعم قال ها هنا ابن أخته وقد اشتهى يوما لبنية فقذف له خاله إناء فيه لبنية من بغداد وأشار إلى جبرين فوصله حارا وكان هنا رجلى أعمى فاستشفى بقبره فعاد مبصرا وهو هذا وأشار إلى شاب جالس أليس كذلك يا فلان فقال له الشاب بلى فقلنا له قد طال علينا المجال فقم وائتنا بالخبز والبيض فقام وأتى بهما واشتط في ثمنهما.
ومرض أحد رفقائنا وهو الشيخ نعمة الغول بالحمى التيفوئيد وكان الوقت في حمارة القيظ وكنا نسير الليل كله وننزل النهار كله وما حال محموم محصور في كجاوة لا تسع غير مقعده محبوس فيها طول الليل فبينما نحن نسير في جوف الليل في فلاة ليس فيها إنسان ولا حيوان ولا نسمع فيها غير أصوات الأجراس المعلقة في أعناق البغال إذا بصائح يصيح يا زوار هذا رفيقكم قد ألقى نفسه من الكجاوة، والقوم كما قال الشريف الرضي:
وقيذين قد مال النعاس بهامهم | كما أرعشت أيدي المعاطين قرقف |
فناديت رفيقي الشيخ موسى قبلان أين أنت قال ها أنذا قلت انزل فنزلنا ورجعنا إلى الوراء وإذا بالمحموم ملقى على الصعيد وزوجته إلى ناحيته تبكي وعلى يدها ولدها الرضيع والعكام يمسك بزمام البغلة وهي تجاذبه الزمام تريد اللحاق بالقافلة فقلنا للمريض قم واركب فأبى فحملناه بيننا وألقيناه في الكجاوة وأركبنا المرأة وابنها وقاد العكام البغلة وسار غير بعيد فألقى المريض نفسه من الكجاوة وهنا أسقط في أيدينا ولم ندر ما نصنع فقلت للعكام هل عندك حبل دقيق قال نعم فأخذته منه وشبكت به باب الكجاوة بعدما أركبناه وزوجته فرام أن يلقي نفسه فلم يستطع. وسرنا حتى وردنا دير الشعار بفتح الشين وتشديد العين وتسمى أيضا دير الزور بفتح الزاي. والزور المكان الذي فيه شجر ملتف وبقربه زور يسمى زور شمر فلعله منسوب إليه وهي بلدة على الفرات نزهة ذات خيرات يزرع فيها البطيخ الأخضر فيكبر حتى تكون الواحد كالجرة العظيمة وأكبر، يحكمها متصرف كان يرجع في ذلك الوقت إلى إستانبول رأسا كمتصرفية القدس وهي الآن تتبع سورية فأقمنا بها يوما وأردنا الرحيل في اليوم الثاني فأبى صاحبنا المريض فتعهدنا للمكارية بعليق دوابهم فأقاموا ذلك اليوم حتى أقنعناه بالسفر.
والتقينا في بعض المنازل وأظنه الحديثة بالشيخ محمد دبوق شريكنا في الدرس وكان قد سافر إلى العراق لطلب العلم فبقي مدة في النجف وعاد لانحراف مزاجه ومعه الحاج محمد علي رضا الدمشقي فأنسنا بهما وكانا قدما مع ركب الحاج الإيراني. والحديثة مدينة قديمة وهي اليوم قرية حقيرة من جانب الفرات الشرقي ومنزل القوافل في الجانب الغربي فيجيء النساء باللبن والزبد يبعنه على القوافل ويعبرن الفرات على الظروف المنفوخة أو القرع الكبار كما يمشي أحدنا في الطريق وسرنا حتى وردنا عانة أو عانات وهي ممتدة على الفرات مسافة ثلاث ساعات ويوازيها جبل ممتد والمسافة بينه وبين الفرات قليلة لذلك كانت بهذا الطول ويقابلها راوة في الجانب الآخر من الفرات، وطلبنا في عانة باذنجان وغيره عند العصر فلم نجد فقال رجل أنا آتيكم بذلك من راوة فأخذ منا ربع مجيدي وعبر على الظرف المنفوخ أو القرعة وجاءنا بما طلبنا. ولا أزال أتذكر "نجمة" الخبازة التي جئنا إلى منزلها وهي تخبز على التنور ضاحكة مسرورة فاشترينا منها خبزا وشربنا الماء في آنية مصنوعة من القش مطلية بالقار من "حب" مصنوع ومطلي به.
وكان معنا رجل يسمى الحاج عباس هو شيخ العكامين فكان إذا سأله الأعراب عن القافلة يقول هؤلاء حرم المشير وكان المشير قد سافر من الشام إلى العراق قبلنا بأيام وكان على أغطية الكجاوات مرسوما الشعار العثماني (الهلال والنجمة) فجاءنا في بعض المنازل بدوي يشتكي على آخر أنه سلب منه نعجة ويطلب إلينا تخليص حقه فقال له الحاج عباس: الباشا نائم فلا ترفع صوتك وكان معنا نصراني يلبس اللباس الفرنجي ومعنا رجل معه بندقية مزدوجة فحملها وركب بغلا وذهب مع البدوي وأرجع له نعجته وعاد.
ونزلنا في منزل يسمى القائم وفيه مدير ودرك فقيل لنا إن عرب عنزة تمر في طريقنا وهي راحلة ويخشى منها فلو طلبتم إلى المدير أن يرسل معكم بعض الدرك لكان أوفق ورغب الدرك في ذلك وحثونا عليه طمعا في الجائزة فطلبنا ذلك من المدير فأبى لأنه ليس معنا أمر بذلك وفي اليوم الثاني التقينا بالأعراب راحلين كأنهم الجراد المنتشر فلم يتعرضوا لنا بسوء وشاهدنا نساء الشيوخ بالهوادج كل واحدة في هودج عليه غطاء من الصوف المنسوج المصبوغ بالحمرة وفي ذلك أقول من أرجوزة في وصف هذه الرحلة:
يحملن فوق الضمر الهوادجا | من أحمر الصوف اكتست نسائجا |
كأنما الأظعان والحدوج | كواكب تضمها بروج |
وكانت النساء البدويات يأتين فيرفعن غطاء الكجاوات وينظرن إلى النساء الحضريات ويعجبن منهن. وكنا نبيت في ذلك البر الأقفر والصحراء الخالية بكل أمان واطمننان حتى نزلنا منزلا بينه وبين بغداد نحو ثلاث ساعات فقال لنا المكارية هذا منزل مخوف فاحترسوا هذه الليلة من اللصوص فقلنا يا سبحان الله لا نأمن قرب مدينة بغداد ونأمن في الصحراء المقفرة فبتنا في ذلك المكان ولم نر مكروها.
في الكاظمية وبغداد
وفي اليوم الثاني عند الأضحى لاحت لنا قباب مشهد الكاظمين يلمع فيها الذهب الأبريز وشملنا الفرح والسرور ثم دخلنا الكاظمية فجاءنا رجل يسمى السيد حمادي يطلب تذاكر المرور فأعطيناه إياها فلما لم يجد فيها مغمزا أخذ يتعنت فيقول صاحب هذه التذكرة عمره فيها ثلاثون ويلوح من رؤيته أنه ابن أكثر أو أقل فعلمنا مراده ودفعنا له شيئا من الدراهم وانصرف.
ودخلنا الحضرة الشريفة في الكاظمية فاجتمع علينا الخدمة وبعد الفراغ من الزيارة أكرمناهم بريال مجيدي فأحضروا شمعدانا ووضعوا المجيدي عليه وقالوا لي ما اسمك ظنا منهم أن كل واحد منا سيعطيهم مجيديا فقلت له هذا عن الجميع. وبعدما ذهبنا إلى الحمام توجهت أنا وبعض الرفاق إلى بغداد لنشتري بعض اللوازم وبين بغداد والكاظمية عربات تجرها الخيل تذهب كل ساعة عربة من بغداد وأخرى من الكاظمية فيلتقيان في منتصف الطريق ويوجد دواب أيضا فوجدنا العربة قد ذهبت فاكترينا دوابا وركبناها إلى بغداد وجاء أصحابها ليتسلموها على العادة فقال لهم رفيقي هاتوا من يشهد أنكم أصحابها فقالوا له وهل من الممكن أن يتعرض لها غير أصحابها فقال اذهبوا معنا إلى أحمد صندوق لنسلمكم إياها عن يده فسبوه وسبوا أحمد صندوق فنزل حينئذ فلما انصرفوا لمته على ما فعل وقلت له هل من الممكن أنه كلما ركب أحد دابة لهم يأتونه ببينة على أن الدابة لهم فقال أنا أعلم ذلك ولكن أردت أن يدلونا على أحمد صندوق وذهبنا إلى متجر أحمد صندوق الشامي فرأينا في طريقنا قطعة على باب كتب كليها بنك شاهنشاهي بنك إيران وأمامه اثنان من الهنود فسألنا عنه فقيل لنا إنه بنك إنكليزي باسم إيران ومررنا في يوم آخر صباحا فلم نجد القطعة فقلت لرجل هل تقلوا البنك من هنا قال لا قلت وما فعلت القطعة قال يرفعونها بالليل لئلا تسرق ويضعونها في النهار فتعجبت من وقوع ذلك في بلد فيه وال ومشير وهو عاصمة البلاد وذهبنا إلى سوق الصفارين لنشتري بعض الأواني النحاسية فرأينا سوقا طويلة فيها دكاكين من الجانبين وليس فيها غير صفارين فجئنا إلى أول دكان وسمنا النحاس فقلت لصاحبي لنشتر فقال لا حتى نسوم في دكان آخر فقلت في نفسي هذا معقول فسمنا في الدكان الآخر فكان السعر واحدا فقلت له اشتر فلم يفعل وانتقل إلى الثالثة فسكت وصبرت ولم أقل له أني لا أستطيع معك صبرا ولم يقل لي هو إن فعلت مثل هذا فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا لكنني عزمت على عدم مصاحبته بعد هذا واستمر على الانتتهال من دكان إلى آخر حتى أتم الصف الأول وانتقل منه إلى الصف الثاني فأتمه إلى آخره ثم إلى الصف الثالث فأتمه إلى آخر دكان منه وكان السعر في الجميع واحدا ثم تقدمنا إلى الدكان الذي جئناه أولا فاشترينا منه حاجتنا بالسعر الذي وجدناه في باقي الدكاكين وكان لهذا الرجل آراء غريبة وأفعال عجيبة أعرضنا عن ذكرها وإن كنا لم نذكر اسمه لأننا لا نريد أن ينسب مثلها إلى رجل من جبل عامل.
وكان صاحب الدار التي نزلناها إيرانيا وزوجته كذلك فكنت أسألها عن بعض الأسماء بالفارسية وأكتبها وقبل ذلك كنت قد حفظت بعض الألفاظ الفارسية في جبل عامل وكان في تمرية ميس رجل عراقي يتكلم بالفارسية مع خالي فأردت أن أتعلم منه فقلت له هنا فقال أينجا فقلت هناك فقال كذلك أينجا فقلت هذا لا يمكن ومزقت الورقة.
في سامراء
ثم ذهبنا لزيارة مشهد سامراء، وسامراء بناها المعتصم انتقل إليها من بغداد وهي مخفف سر من رأى فركبنا الحمير البيضاء والكجاوات للنساء فبينما نحن نسير إذ قال لي المكاري الزم فلم أدر ما يريد بذلك وما كان بأسرع من أن وجدت نفسي على الأرض وعلمني ذلك معنى ألزم أي امسك نفسك جيدا لأنه يريد أن يصيح بالحمير فتطير وقبل وصولنا إلى سامراء مررنا بجانب جسر قديم يسمى جسر حربي بناه بعض ملوك العباسيين وعليه تاريخ بالأجر وعبرنا دجلة من غربيها في القفف فكان النوتية السامرائيون يوقفونها في وسط الشط وهي تدور فيأخذون من الأجرة ما شاؤوا إلى أن بنى الميرزا الشيرازي جسرا للعبور فوجدناها تعج عجيجا بالعلماء والطلاب والزائرين وأرباب الحوائج والميرزا الشيرازي متحجب في داره لا يراه أحد إلا بإذن ويحضر درسه فحول العلماء وخادمه الشيخ عبد الكريم محيي الدين يمشي ذاهبا وجائيا والناس تناديه من كل مكان وأرباب الحوائج يكلمونه من هنا ومن هنا وهو لا يغضب ولا ينتهر أحدا وجلس الميرزا يوما في دهليز داره على كرسي وأذن للناس بالدخول عليه فيدخلون ويسلمون ويسألونه عما يريدون ويخرجون ودخلنا عليه فيمن دخل فسألته عن شيء لا أتذكر الآن ما هو فقال يستعمل فيه القرعة وعن نذر الأئمة فقال فيما أظن نحن لا نجيزه إلا للزائرين ثم عدنا من سامراء إلى كربلاء.
في كربلاء
فدخلناها في ذي الحجة وأدركنا بها زيارة عرفة ووجدنا فيها طائفة من العامليين من بني عمنا وغيرهم وسمعت كلامنا بنت عمنا السيد محسن النجفية فوجدته لا يفترق شيئا عن كلام أهل العراق فعجبت من ذلك ثم ذهبنا إلى النجف بطريق الماء.
في النجف
ونزلنا في دار بعض بني عمنا وفي يوم وصولنا قال لي أن لي صديقا كان في بلاد إيران وحضر فأذهب معي للسلام عليه فذهبنا نحو الساعة التاسعة نهارا وسلمنا عليه وجاؤوا لنا بالسكاير والشاي والقهوة فشربنا وبقينا إلى نحو الساعة العاشرة فأشرت إليه بالذهاب فلم يفعل وقام ناس وجاء آخرون فأشرت إليه بالقيام فلم يفعل ولا يناسب أن أخرج وأدعه ومع ذلك فلست أهتدي الطريق إلى الدار إلى أن بلغت الساعة نحو الحادية عشرة فأشرت إليه بالقيام فلم يقم وقرب وقت المغرب فذهب الناس جميعا وأشرت إليه بالقيام فلم يفعل إلى أن صارت الساعة نحو الواحدة فكان الحال كذلك وإلى الساعة الثانية ونحن جلوس فلما صارت الساعة الثالثة جيء بالعشاء فتعشينا معهم وما قمنا حتى قاربت الساعة الرابعة فقلت له هذا فراق بيني وبينك لن أصحبك بعدها أبدا ثم اكترينا دارا في محلة الحويش وانتقلنا إليها وشرعنا في الدرس والتدريس وكان جارنا الشيخ ملا حسين قلي الهمذاني الفقيه العارف الأخلاقي المشهور فحضرت يومين في درسه الأخلاقي ثم تركت وعكفت على دروس الأصول والفقه ثم ندمت على أن لا أكون حضرت درسه الأخلاقي إلى خر حياته وقد توفي ونحن في النجف الأشرف وكان جل تلاميذه العرفاء الصالحون وفيهم بعكس ذلك لأن الحكمة كماء المطر إذا نزد على ما ثمره مر ازداد مرارة وإذا نزل على ما ثمره حلو إزداد حلاوة.
وبعد الاستقرار في تلك الدار شرعنا في القراءة على المشايخ وشرع الطلاب في القراءة علينا. وكانت صاحبة الدار تسكن فيها معنا لأنها كانت متزوجة برجل من بيت الخرسان ولها ابن منه توفي فورثت الدار منهما وكانت تسكن معها ملا نائحة على الحسين (ع) ذاكرة لمصيبته وهي طرشاء واسم إحداهما عزيزية بالتصغير فلم نأتلف مع صاحبة البيت وخرجنا قبل إكمال السنة فسكنا في محلة العمارة.
أقسام التدريس في النجف
التدريس هناك قسمان (الأول) تدريس السطوح وهو القراءة من الكتاب ولكل علم من العلوم كتب مخصوصة يدرس فيها ذلك العلم فيقرأ المدرس عبارة الكتاب ويفسرها للطلاب وإن كان له نظر خاص واعتراض بينه ومن كان له من الطلاب قابلية الرد عليه ومباحثته رد عليه وباحثه فيقرأون أولا النحو والصرف ثم البيان والمنطق ثم الأصول والفقه في كتب مخصوصة لهذه ومنهم من يقرأ علم الكلام الإلهي وحده أو الطبيعي والإلهي.
(الثاني) تدريس الخارج أي الخارج عن الكتاب وهو إلقاء الدرس بدون كتاب وهذا يكون في علمي الأصول والفقه لنيل درجة الاجتهاد لمن وفقه الله لذلك فيلقي الشيخ مسائل أصول الفقه واحدة بعد الأخرى ويذكر أقوال العلماء فيها وحججهم ويفندها ويختار أحدها ويصحح دليله ويحتج عليه ويناقشه الطلاب ويجيبهم ويردون عليه ويرد عليهم وكذلك الفقه يذكر الفرع الفقهي وأقوال العلماء فيه وأدلتهم من الأخبار وغيرها وإجماعهم ويناقشه الطلاب على نحو ما مر في علم الأصول وهكذا حتى تنتهي مسائل الباب الذي شرع فيه فينتقل إلى باب آخر وهذا القسم يكون التدريس فيه بعد الفراغ من القسم الأول وهو تدريس السطوح.
تنظيم الدروس
الدروس منظمة تنظيما طبيعيا بحسب الكتب وبحسب السطح والخارج ففي النحو والصرف مثلا يبدأ بقراءة كتب مخصوصة وبعد إتمامها ينتقل إلى غيرها وهكذا باقي العلوم ويبدأ بالنحو والصرف وبعد إكمالها ينتقل إلى البيان والمنطق وبعد إكمالهما ينتقل إلى الأصول والفقه سطحا وبعد الفراغ منهما ينتقل إلى الأصول والفقه خارجا.
وهذا ترتيب جيد نافع إلا أن تطبيقه راجع إلى الطلبة أنفسهم فمنهم من يوفق إلى تطبيقه تطبيقا تاما فلا يقرأ في كتاب حتى يتم ما قبله ويتتنه ولا في علم حتى يفرغ من الذي قبله ويتقنه ولا يقرأ درس الخارج حتى يفرغ من السطوح وكثير منهم لا يطبق هذا البرنامج فيشرع في الكتاب المتأخر قبل إكمال المتقدم وفي درس الخارج قبل اتقان السطوح فلا يستفيد شيئا أو يستفيد فائدة قليلة في مدة طويلة.
وهناك خلل آخر يحصل من اختيار الشيوخ فلا يكون الشيخ صالحا لتدريس هذا الفن أو لا يكون صالحا للتدريس أصلا ويغتر به الطلاب لكن هذا قليل والخلل السابق أكثرمنه.
وليس هناك من يجبر على تطبيق هذا البرنامج ولا على اختيار الشيوخ الصالحين للتدريس ولا يمنع شيخ أحدا من درسه إن لم يكن من أهله هذا إن لم يرغبه فيه حبا بتكثير السواد وليس هناك امتحان ترتب الدروس على حسبه.
وهناك خلل ثالث في الدروس الخارجية وهو أن المتأخرين من أهل عصرنا وما قاربه اشتغلوا في تحرير محل النزاع فصرفوا في تدريسه شهورا وأياما وفي التعريفات فقالوا إنها غير جامعة أو غير مانعة فزادوا عليها فجاء الاعتراض من جهات أخرى وأول من انتبه لذلك شيخنا الشيخ ملا كاظم الخراساني فقال في تحرير محل النزاع إن كان النزاع في كذا فالحق كذا وإن كان في كذا فالحق كذا وقال في التعريفات إنها لفظية كقول اللغويين سعدانة نبت فلا يلزم كونها جامعة مانعة.
وخلل رابع وهو إدخال مسائل الكلام في علم أصول الفقه.
(وخامس) وهو التطويل في مسائل من علم الأصول فرضية لا فائدة فيها كدليل الانسداد وتعارض الأحوال وغيرها بل في جميع مسائل الأصول.
(وسادس) وهو إهمال علم الحديث وتصحيح الأسانيد والاكتفاء بتصحيح من سبقهم.
(وسابع) وهو عدم إتقان اللغة العربية ومعرفة خصوصياتها ودقائقها لا سيما من الأعاجم.
أيام التعطيل
تعطل الدروس في النجف في يوم الخميس والجمعة بل في الحقيقة يوم الخميس فقط لأن يوم الجمعة يشتغل فيه بعد الظهر بمطالعة دروس يوم السبت وتعطل الدروس في شهر رمضان وأكثر شهري رجب وشعبان ولا تعطل في الصيف ومن الشائع أن التحصيل بين تعطيلين غير مستحب ولهذا قال بعض الظرفاء لما سئل عن كيفية تحصيله: يوم أنا في الحمام ويوم شيخي في الحمام ويوم خلقي ضيق ويوم شيخي خلقه ضيق ويوم خميس ويوم جمعة ويوم تحصيل بين تعطيلين وتم الأسبوع.
الإجازة
(منها) إجازة الرواية وهذه لا يشترط في المجاز بها إلا يكون مجتهدا (ومنها) إجازة الاجتهاد وهي شهادة بأن المجاز صار له ملكة استنباط الفروع من الأصول وأنه ثقة عدل يصح أخذ الأحكام عنه ويعرف ذلك بالممارسة لا سيما إن كان من تلاميذ المجيز.
مشاهير العلماء في العراق أيام كنا في النجف
فمن العجم الشيخ ملا كاظم الخراساني والشيخ آقا رضا الهمذاني والشيخ عبد الله المازندراني والسيد كاظم اليزدي والميرزا حبيب الله الرشتي والميرزا حسن ابن الميرزا خليل الطهراني ومن الترك الشيخ حسن المامقاني والملا محمد الشرابياني وكلهم مدرسون وغيرهم كثيرون يعسر أحصاؤهم وقد يكون فيهم من لا يقصر عن بعض من ذكرناه أو يساويه. ومن العرب الشيخ محمد طه نجف النجفي وهو وإن كان أصله من تبريز إلا أن آل نجف استعربوا وهو رئيس المدرسين من العرب والشيخ علي رفيش وهو مدرس والسيد محمد ابن السيد محمد تقي الطباطبائي آل بحر العلوم وبيده المال المعروف بفلوس الهند وهو مدرس والشيخ عباس الشيخ علي والشيخ عباس الشيخ حسن كلاهما من أحفاد الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء والسيد حسين القزويني والشيخ محمود الذهب وغيرهم كثيرون لا يتسع المقام لاستقصائهم ولعل فيهم من يفوق بعض من ذكرناه أو يساويهم.
هذا في النجف أما في غيرها ففي سامراء رئيس الكل الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي وفي ى بلا الشيخ زين العابدين المازندراني وفي الكاظمية الشيخ محمد تقي ابن الشيخ حسن ابن الشيخ أسد الله التستري والشيخ محمد ابن الحاج كاظم والسيد مهدي الحيدري والسيد إسماعيل الصدر والسيد حسن الصدر والشيخ مهدي الخالصي وغيرهم كثيرون.
الشيخ حسن المامقاني
هذا الرجل من علماء الترك كان حسن الأخلاق جدا صاحب نكتة وظرافة لكنه يظهر الغضب والشدة والعنف لمصلحة. اجتمعت به عدة مرات (منها) في مسجد الشيخ جعفر وكان يدرس فيه فتكلم رجل من ضعفاء العرب بعيد عن العلم فقال الشيخ (خدابيا مرزد صاحب شمسية را) رحم الله صاحب الشمسية. وقال في ذلك المجلس (خطيب أصوليين وشاهزاده شيرين صاحب المعالم فرمود) قال وأمر خطيب الأصوليين والأسد بن الأسود وكان يدرس مرة وتكلم بعض الطلب واتفق أن سقاء ضاع له حمار فكان ينادي في الزقاق (يا من شاف مطي أبيض) فقال الشيخ للطالب اسكت لئلا يظنك أنت فيأخذك (ومنها) أنه كنا في مجلس فيه الشيخ فقال أنا كنت فقيرا وإذا حصل بيدي خبز وجبن أعدها نعمة كبرى فلما تزوجت عربية - وكان متزوجا بعلوية عربية - درت علي الأرزاق فصرت آكل شلة الماش (ومنها) أنه جاء لوداع رجل تركي يريد السفر لنا به علاقة نسائية يسمى الشيخ عبد النبي فجرى ذكر ابن أبي الحديد فقال يقولون إنه شيعي وكان يتستر بالاعتزال فقلت هذا ما لا يصح لأنه صرح بالاعتزال في شعره فقال:
ورأيت دين الاعتزال وأنني | أهوى لأجلك كل من يتشيع |
وفي مؤلفه شرح النهج. ولم يسمع أن أحدا من علماء الشيعة أظهر خلاف معتقده في كتاب أو شعر قد يظهر ذلك في كلامه فقال نعم الأمر كما قلت.
وكان يصل بعض العلويات الفقيرات من أرحامنا بواسطة الشيخ عبد النبي المقدم ذكره فلما أراد الشيخ عبد النبي السفر قال له دلني على من أوصل ذلك بواسطته فدله علي وكان لا يعرفني لأنني لا أتعرف إلى من لا أستفيد منه علما فقال أريد أن أراه فقال آتي أنا وهو إلى داركم فقال هذا ما لا يكون لأن فيه حزازة على السيد فقال نأتي بعد الصلاة قال وهذا أيضا فيه حزازة عليه قال فما الحيلة في ذلك قال نذهب إليه نحن قال متى يكون ذلك لأخبره فلا يخرج من الدار قال هذا فيه مشقة عليه ولكن متى كنت ذاهبا إلى مكان وحاذيت داره فأخبرني لنأتي إليه بدون خبر فاتفق أنه كان ذاهبا مرة وحاذى دارنا فأخبره فمنعه ولده من المجيء إلينا لعذر خلقه ثم لما حضرنا لوداعه أخبره عني بالتركية.
جملة مما اتفق لنا ونحن
بالنجف من النوادر والحوادث
في أول يوم انتقلنا فيه إلى محلة الحويش ذهبت للسوق فاشتريت لحما وجئت لأشتري باذنجان وكنت أعلم أنه رخيص فأعطيت بائعه أقل ما يتمول وهو فلس نحاسي سكة إيران يسمى نصف بول يعادل خمس المتليك العثماني تقريبا وكانت السكة الإيرانية شائعة في العراق فملأ الميزان من الباذنجان فقلت له أنا أريد بهذا الفلس فظن أني استقللته فقال لي إنه لا يساوي أكثر من هذا. وذكرتني هذه القصة بما جرى لرجل دمشقي كان ذاهبا لزيارة الرضا (ع) ومعه فرسه فمر بكرمانشاه فرأى بائع بطيخ فأعطاه نصف قران وظن إنما يعطيه به بطيخة واحدة فأعطاه أربع عشرة بطيخة فقال له أنا أريد بنصف قران فقال لا يكون لك به أكثر من هذا فحمل البطيخ على الفرس وذهب ماشيا.
وفي اليوم الثاني جاءني رجل عاملي عند الظهر من أرحامنا وكنت أعرف من عادته أنه يزور في غير وقت الزيارة ويطيل الجلوس بغير فائدة فتناولت المدارك لأنه لم يكن عندي ساعتئذ غيرها وطلبت منه تفسير عبارة فيها فقال ليس هذا وقت تفسير قلت له ليس للتفسير وقت وشرعت في قراءة العبارة فلم يجد بدا من تفسيرها ففسرها فقرأت له عبارة ثانية وطلبت تفسيرها وهكذا فضجر وقام وبعد يومين أو أكثر جاءني في مثل ذلك الوقت فعرفت الدواء فقام ولم يعد.
الحاج أحمد الخباز
وبعدما دفعنا أجرة الدار واشترينا بعض الأثاث والمؤونة نفد ما معنا من الدراهم وكان الوالد قال لنا إنه عند وصولنا للنجف ستلد الفرس بمشيئته تعالى ويبيع فلوها ويرسله لنا فكان الأمر كذلك ولدت فلوا من البغال باعه بست ليرات ذهبية أو أكثر وسلمها للخال ليرسلها إلينا لأنه لم يجد أقرب منه ولا أشفق منه علينا والظاهر أن الخال احتاجها ونسي أننا في غربة وأننا في مسيس الحاجة إليها فصرفها ولم يرسل لنا منها شيئا وجاءنا كتاب الوالد يخبرنا بإرسالها وجاء البريد فلم نجد لها أثرا وانتظرنا مدة فلم تحضر وطولب الخال بها فلم يجد ولم تحصل منه إلا بعد سنين عديدة وضاق بنا الأمر ولم نتعود أن نخبر أحدا بحاجتنا فضلا عن أن نطلب منه ولو قرضا ولكن الله تعالى أبى أن يحوجنا لغير وجهه الكريم وجعل يفتح لنا أبواب الرزق الكفاف من حيث لا نحتسب ومن حيث لا يكون لأحد علينا منة. فقيل لنا أن هنا خبازا إيرانيا يسمى الحاج أحمد دكانه في الزاوية التي هي في الفسحة أمام باب القبلة للصحن الشريف فجئنا إليه فوزن لنا خبزا وطلب الثمن فقلنا أجعله دينا فتناول عودا من خشب الصفصاف من حزمة بجنبه وبرى طرفها كبري القلم ورسم عليه علامة بالمداد لئلا يتبدل وكان يفرض للوقية التي هي خمس أواق إستانبول فرضا واحدا ولنصف الأوقية نصف فرض فإذا جاء نصف أوقية آخر أكمل الفرض والخبز عنده قسمان عادي وأعلى يسمى خبز مهدي والطلبة مزدحمون عليه ودفتره عيدان الصفصاف بيد كل واحد عود كالذي أعطاني إياه وعليها علامات كمثل علامته كي لا تبدل واستمر بنا الحال على هذا المنوال وكنت أضع ذلك العود في جيبي فانخزق الجيب وسقط العود منها ولم أشعر به وعظم الخطب لأني لم أعلم ما يكون موقف الحاج أحمد مني إذا علم بضياع العود الذي هو الدفتر الوحيد ولكن الحاج أحمد كان حسن الأخلاق رضي الطبع قد سخره الله تعالى لمعونة الطلاب المعوزين أمثالي بإمهالهم بثمن الخبز الذي هو عمدة القوت فتوجهت إليه متكلا على الله مفوضا إليه أمري مشجعا نفسي على الإقدام حاسبا لغضب الحاج أحمد ألف حساب فوزن الخبز وطلب مني العود فقلت له - والخوف أخذ مني مأخذه - قد ضاع فلم يتأثر وقال لي كم فيه من الخطوط قلت لا أدري قال كم تحدس أن فيه قلت كذا فأخذ عودا وخط فيه كما قلت له وأعطاني إياه، وأوصاني أن لا أضيعه. فرحمك الله يا حاج أحمد وأسكنك جنته بما صنعته معي.
هذا ما كان من أمر الخبز ولكن الخبز وحده غير كاف وما حال باقي الأشياء. وجاءني يوما السيد مصطفى مرتضى ابن عمنا وقال يوجد عبادة عن تاجر بغدادي أجرة السنة ست ليرات عثمانية مشروط فيها الأذان لكل ورد والإقامة لكل فرض والقصر والتمام فهل تأخذ منها سنة قلت يكفيني نصف سنة فأحضر لي أجرتها ثلاث ليرات عثمانية وطال المدى بإكمالها ولعله استغرق سنة.
واشتريت خاشية (عباءة رقيقة) باثني عشر قرانا إيرانيا وخيطتها بقران واحد واشترى أحد رفقائنا خاشية رقيقة جدا بليرة فرنسية ذهبا فكان إذا أراد الجلوس في الصحن يضعها على ركبتيه ويجلس القرفصاء أما أنا فأجلس عليها وأحمل بها ما أشاء وحالتي المالية أحسن منه وبعد ورودنا النجف بمدة قليلة سافر السيد حسن يوسف العاملي الحبوشي إلى جبل عامل وسكن النبطية التحتا وبعده بمدة يسيرة سافر السيد جواد مرتضى العاملي والشيخ حسين المحمد العاملي الجبعي وكل هؤلاء مترجمون في كتابنا أعيان الشيعة.
ومن طريف ما اتفق لي بالنجف أنني كنت أمشي وأمامي اثنان من العجم من طلبة العلم وبائع العنب ينادي (صاير كباب العنب) فقال أحدهما للآخر صاير كباب العنب (يعني جه) يقول متعجبا كيف يصير العنب كبابا والعنب ثمر الكرم والكباب شواء من اللحم. وإنما أراد البائع أن العنب ناضح فشبهه بالكباب.
وكان عاملي يدور على العامليين يوم مجيء البريد فيسألهم عن الأخبار ويسألني فيمن يسأل فأقول له أن كتبي كلها إنشاء وليس فيها أخبار وأتعجب من حماقته واتفق لهذا الرجل أن مرضت زوجته فذهب بها إلى مرزا باقر الطبيب فكتب لها صفة دواء في ورقة وقال أغلها وأسقها إياها فتوهم أن مراده غلي الورقة فغلاها وسقاها ماءها فبقيت على حالها وأخبره أن دواءه لم ينفع فقال مرادي أن تغلي الدواء المكتوب فيها لا الورقة. وذهب يوما إلى الحمام ونسي الوزرة تحت ثيابه ولم يشعر بها حتى خرج وجعلت تعوقه عن المشي فخجل من إرجاعها وأبقاها إلى مرة أخرى.
وجاءني في النجف عاملي يقول فلان من العجم يباحث ليلا في الأصول ويرغبني في حضور درسه فحضرت فلم يعجبني بحثه إلى أن قال مرة العلة متقدمة على المعلول قلت في الرتبة فقال بل في الزمان قلت العلة المركبة فقال والبسيطة فتركت درسه.
وجاءني آخر فقال فلان من العرب يباحث في الفقه وهو جد فقيه فوجدت أنه لا يحضر درسه إلا هو واثنان من العامليين من نوعه وبعض الشروقيين. فقلت له إن أعمى تزوج بمبصرة فقالت له وددت أنك كنت بصيرا لترى جمالي وصباحة وجهي فقال لها لو كنت كما تقولين لما تركك البصراء تصلين إلي ولو كان هذا الشيخ كما تقولون لما انحصر تلاميذه في هؤلاء.
وجاءني نجفي يطلب إلي حضور درس بيد صاحبه الأموال المسماة فلوس الهند فقلت لا أحضره قال أليس صاحبه من أفاضل العلماء قلت بلى ولكن بيده فلوس الهند ولا أرضى لنفسي حضور درس فيه طمع بالمال قال إن فلانا وفلانا من العامليين يحضرونه قلت لهم شأنهم.
وعمل السيد حسن عبد العزيز وليمة لختان أولاده الذين هم من ابنة السيد كاظم ابن عم والدي فدعانا إليها فجلست في إيوان ومقابلي بعض علماء النجف من العرب من أبناء العلماء وفي الإيوان الشيخ محمد اللايذ فقال له ذلك العالم لماذا سموكم بيت الصيقل فغضب وشتمه شتما قبيحا وقال له يا رذيل.
وفي اليوم الثاني تعرض للشيخ محمد جماعة من أتباع العالم فأهانوه ولم أعرف سبب غضبه من ذلك. وكان الشيخ محمد اللايذ هذا لا يزال في حوانيت الكتبية يطالع وإذا حضر في مجلس يذكر من أخبار الأئمة وكان عنده اطلاع على أخبار العراقيين والأمراء فسمعته يوما يقول كان لملا حسين الحلي شاعر وادي شيخ زبيد صديق من عرب زبيد يسمى حمزة وكان ملا حسين يزوره فيكرمه حمزة فجاء مرة فلم يجده ووجد زوجته واسمها منصورة فأكرمته وقامت بضيافته فقال يمدحها بالزجل العامي المسمى في العراق ميمر:
قلبي يحب زبيد أنا من صوره | والهم جيوش عالعدى منصورة |
وإن غاب حمزة خلفته منصورة | تعيض عن كل الرجال وتستر |
فقالت له منصورة يا ملا حسين الرجال ما يسد ثناياها غيرها ولكن قل عن بعض الرجال.
السيد حسين الصائغ
كان السيد حسين من أهل العلم والتقوى والصلاح وكان صائغا لا يصوغ إلا الذهب ولا يأتمن الناس سواه ومن يأتمنه هو وكان عنده من جميع النقود القديمة لا سيما الإسلامية وكان أعرف الناس بقراءة الخط الكوفي. وكان عنده الدينار الذي هو الذهب الصيني العتيق المسمى في العراق أبو لعيبة الذي هو مثقال شرعي وأخبرني أنه يوازن نصف ليرة عثمانية ذهبية. وكان عنده مجلس ليلة الأربعاء يقرأ فيه خبر المأتم الحسيني ويدعى فيه جماعة للعشاء ويكون اللحم كثيرا والطعام جيدا على عادة العراقيين في الكرم وكان كثيرا ما يدعو ابن عمنا السيد جواد حفيد صاحب مفتاح الكرامة وللسيد حسين ولد اسمه السيد هادي كان يومئذ صغير السن يشتغل بعلم النحو وهو اليوم من أفاضل العلماء وكان السيد جواد كثيرا ما يقول للسيد حسين من باب المطايبة ما بال اللحم قليلا كأنك اشتريت العظام من صانع الكباب وأمثال هذا الكلام فحلف السيد أنه إن تكلم بمثل هذا الكلام لا يدعوه أبدا فدعاه ليلة على هذا الشرط وكان يطلب منه أن يسأل ولده في النحو فطلب منه ذلك تلك الليلة فقال له كيف تعرب لنا لحمنا قليل فوثب السيد حسين وقال له ارفع يدك من الطعام فقد أخللت بالشرط.
وكنت يوما عنده في دكانه فجاء أخوه وهو كفيف البصر فقال لي هذا أخي وله نادرة طريفة. كانت لنا أخت مزوجة بابن عم لنا وكان يؤذيها ونحن في جواره فنسمع ذلك ونسكت لأن للنجفيين عادة جميلة في أمر النساء لا يتدخلون بين المرأة من أقربائهم وزوجها بل لم أسمع مدة وجودي في النجف أن امرأة لرجل هي من أهله طلقت قال واتفق أنها ماتت فجعلت أبكي فقال لي أخي هذا وهو أكبر مني حسين أتبكي أنسيت ما كان يجري على أختنا والله أن عزرائيل ما له "دقة" مثل هذه "الدقة" أي ما صنع جميلا مثل ما صنع هذه المرة قال وجاءني رجل بفص خاتم من الفيروزج عليه كتابة كوفية وطلب مني قراءته وقلت له مكتوب عليه (سبحان خالق الثور) بالثاء المثلثة فقال لي لا يمكن هذا فإن الثور ليس من مخلوقات الله العجيبة ويوجد أعجب منه فقلت هكذا مكتوب فأخذه إلى شخص هو دوني في قراءة الخط الكوفي بمراتب فقال له مكتوب عليه سبحان خالق النور بالنون فعاد إلي وأخبرني بذلك فقلت له أنا أخبرتك بأني أقرأ الخط الكوفي ولم أخبرك بأني حاد الفهم وهذا أمر يرجع إلى الفهم لا إلى المعرفة بالخطوط. وطلبت منه وأنا بالشام أن يرسل لي وزن الدينار الشرعي الذي هو مثقال شرعي ويوازن الذهب الصيني المسمى في العراق أبو لعيبة، فأرسل لي أنه يوازن نصف ليرة عثمانية ذهبية وأرسل لي قطعة قال إنه وزنها عليه فوجدتها كذلك.
ومن نوادره قال لقيني رجل في الصحن الشريف فقال لي سلام عليكم فنسيت جوابها وقلت في نفسي جوابها صبحكم الله بالخير لا. هنأكم الله لا. فوضعت يدي على صدري وذهبت.
الشيخ محمد الحكاك
وكنا ندرس يوما في إيوان في الصحن الشريف وفي جانب الإيوان رجل يسمى الشيخ محمد الحكاك تمتام يفسر الأحلام ويحفر الأختام وتعبير الحلم يكون بربع إستانبولية سكر نبات فجاءه معيدي وأعطاه متليكا ليحفر له ختما فسأله عن اسمه فقال له حنتوش بن عنكوش والظاهر أنه نسي الاسم فحفر له اسم منتوش بن مكنوش وجاء المعيدي وأخذ الختم وأعطاه لمن طبعه له على الكاغد وقرأه له فإذا فيه غير اسمه واسم أبيه فرجع على الشيخ محمد وقال لماذا حفرت لي غير اسمي واسم أبي فقال أنت قلت لي هكذا قال لا لم أقل. وبالطبع كان المعيدي أعرف باسم نفسه واسم أبيه من الشيخ وطال الجدال بينهما إلى أن قال المعيدي أنت يا شيخنا ما أدري كيف تتكلم لأنه تمتام فقال له الشيخ ويلك أنا أسمع بأذني لا بفمي وأخيرا أذعن الشيخ للأمر الواقع ومسح الكتابة الأولى بالمبرد وحفر ثانيا حنتوش بن عنكوش وكفى الله المؤمنين الجدال.
الشيخ جواد البلاغي
وكان الشيخ جواد البلاغي الفاضل المشهور يجلس إلي كثيرا فقال لي يوما أنا أريد أن أصحبكم وكنا جماعة من العامليين إخوان الصفا نجتمع سفرا وحضرا ولا نخالط أحدا لا من بقية العامليين ولا من غيرهم فقلت حتى أعرض ذلك على أصحابي فعرضته عليهم فأبوا وقالوا لا نريد أن نخالط غيرنا فقلت لهم زهدكم في راغب فيكم كرغبتكم في زاهد فيكم فقبلوا وأردنا السفر لزيارة كربلا فسافر معنا وكان الفصل شتاء فشربنا الشاي مساء وقمنا أول الفجر فصلينا وتهيأنا للسفر فقال لي ما تريدون شرب الشاي قلت لا وكان معتادا على شرب الشاي صباحا ومساء وأنا حملت سؤاله على الاستفهام الحقيقي قياسا على نفسي فسكت وسرنا فلما كان عند العصر دنا مني وقال أتدري ما صنعت بي أنني لم أعد أنظر ببصري فقلت أنت صنعت بنفسك هذا فلما كان اليوم الثاني سألني فقلت نعم وعجبت كيف يدع الإنسان العادة تملكه وتحكم عليه ولا يدع نفسه حرا طليقا لا يحكم عليه أحد باختياره.
وكنت يوما في السفينة في طريق كربلا مع جماعة من طلبة الإيرانيين فقال أحدهم العامليون يأكلون اللحم الني فقلت أكله خير من أكل السمك المقدد المتروك أياما حتى ينتن وذلك أنهم يأتون بصغار السمك فيملحونه ويضعونه في "خب" حتى ينتن فإذا وضعت المائدة أتوا بيسير منه في إناء صغير ووضعوه على المائدة وتناولوا منه أثناء الأكل والمائدة التي ليس عليها منه تعد ناقصة وفي الحب خشبة إذا أرادوا الأخذ منه حركوا ما فيه بتلك الخشبة حتى يختلط ثم أخذوا منه واتفق أن ضافهم رجل فقام ليلا لقضاء الحاجة فلم يهتد إلى بيت الخلاء ودنا من حجرة صغيرة فشم منها رائحة نتنة فظنها بيت الخلاء فدخلها فلم يجد محلا للتخلي ورأى حبا صغيرا والرائحة الكريهة تتصاعد منه فظنه محل التخلي فتخلى فيه وفي الغد جيء بالسفرة وذهب رجل إلى ذلك الحب وضرب فيه بتلك الخشبة حتى اختلط وجاء بشيء منه ووضعه إلى السفرة كالعادة وتناول منه الحاضرون أثناء الأكل فلما قلت ذلك ضحك الجميع إلا واحدا اصفر وجهه فقالوا لي هذا جرى في رشت وهذا الشيخ رشتي.
الزكرت والشمرت
طائفتان في النجف بينهما عداوة قديمة سببها أن سيدا كان يسكن الرحبة بضم الراء مكان خارج النجف فيه عيون وله أخت اسمها أم السعد خطبها خاطب فلم يزوجها فشكا أمره إلى الشيخ جعفر الفقيه النجفي الشهير فأرسل جماعة ليأتوه بالسيد فنهاه صاحب مفتاح الكرامة وقال إن أرسلتهم لتقعن فتنة يطول أمدها فلم يقبل وأتوا إلى السيد فامتنع عن الحضور معهم وأرادوا أخذه قهرا فانتهى الأمر إلى قتله وبقيت هذه الفتنة إلى دخول الإنكليز العراق وخربت الدار التي كانت تسكنها أم السعد وبقيت خرابا إلى عصرنا وأهل النجف يسمونها خرابة أم السعد وبلغني أنها عمرت في هذه الأيام.
والنجف فيها أربع محلات محلتان يقطنهما الزكرت العمارة والحويش ومحلتان يقطنهما الشمرت البراق والمشراق. ولا تزال تقع بينهما ثورات وحروب ووقع بينهما حرب أوائل مجيئنا للنجف ولا أتذكر الآن في أي سنة كان وسببها أن الشمرت أكثرهم يسكنون خارج النجف والزكرت جلهم يسكن النجف فجاء الشمرت ليلة يدفنون ميتا لهم في وادي السلام (مقبرة النجف) فعلم بهم الزكرت فخرجوا لمنعهم وكان شاب من الزكرت أراد الخروج فتعلقت به أمه فأفلت منها وخرج مع القوم فقتل وذلك قبيل الفجر وعاد الزكرت حينئذ ودفن الشمرت ميتهم وعادوا في اليوم الثاني عاد الشمرت وهجموا على السوق وكان السيد محمد علي الملقب بطبار الهوى رئيس زكرت العمارة جالسا في المقهى فولى هاربا والتقيت به وهو يركض حافي القدمين نحو محلته وثارت من الشمرت بعض الطلقات فخاف الناس وأغلقوا دكاكينهم وحوانيتهم بسرعة واستولى عليهم الخوف والذعر وتجمع الفريقان وتحصنوا وأغلق الكليتدار أبواب الصحن الشريف لئلا يدخله أحد الفريقين ويصعدوا إلى المآذن ويطلقوا الرصاص منها فإنها أعلى مكان في البلد ومن صعد إليها تكون له الغلبة وبقي الحال على ذلك أياما وبتنا في بعض الليالي والرصاص يمر فوق رؤوسنا وكان الفصل صيفا وكنا أولا على السطح فلما سمعنا أزيز الرصاص يمر فوق رؤوسنا نزلنا إلى صحن الدار وجعل الرصاص يمر فوق رؤوسنا فانتقلنا إلى الإيوان أما الحكومة فغاية عملها أن تغلق السراي ويدخل العسكر القشلة وتغلق أبوابها وأرسل القائمقام تلغرافا إلى بغداد بواقعة الحال فحضر ميرالاي اسمه شعبان باشا ومعه طابور عسكر وكان الشمرت قد انسحبوا قبل حضوره لكن الصحن بقي مغلقا فلم يفتح إلا بعد حضوره وجعلت الدورية تدور في الصحن وكنا نجلس في جهة باب الطوسي مساء نتذاكر فجاء جندي وجلس إلينا لما رآنا نتكلم بالعربية وقال رئي غراب وحمامة يطيران معا ويقعان معا فنظرا فإذا هما أعرجان وأنا يجمع بيني وبينكم رابطة أنا طالب علم من أهل الموصل سقطت في الامتحان فدخلت الجندية ولما سمعتكم تتكلمون العربية جلست إليكم وجعل في كل عشية يجلس إلينا وجاء القائمقام ورئيس الزكرت طبار الهوى إلى الميرالاي واعتذر القائمقام عن الزكرت بأن الشمرت هم المعتدون وكان ميله إليهم فسكت الميرالاي ولم يبد قبولا ولا ردا.
السيد محمد علي الملقب طبار الهوى
ثم طاف طبار الهوى مع بعض الجند على محال الشمرت يفتشون عليهم مع أنه ليس في البلدة منهم أحد وجعل نساؤهم يشتمون طبار الهوى ثم أن الأميرالاي قال لطبار الهوى أريد منك جميع الشبان الأنجاد ليذهبوا بقيادتك مسلحين بالمطبق (الجفت) فتفتشوا على الشمرت خارج النجف وكان ذلك حيلة للقبض عليه وعلى شبابه بحيث لا يفلت منهم أحد فاختار من شبانه كل ذي نجدة وسلحهم بالمطبق وركب فرسه وخرج أمامهم ومعهم العسكر حتى توغلوا في أرض السواد بحجة التفتيش عن الشمرت وأين هم الشمرت ولما توسطوا أرض السواد وذلك عند العصر على شاطئ الفرات صدرت الإشارة إلى العسكر فأمسك بكل واحد أربعة من الجند فكتفوهم وكتفوا رئيسهم وعمدوا إلى بنادقهم فأطلقوها في الفضاء دفعة واحدة فارتجت لها الأرض وسمع دويها جل أهل السواد وعرفوا الخبر وساقوا طبار الهوى ومن معه إلى بغداد وعزل القائمقام واسمه خير الله أفندي وهو من نواحي حلب وكان رجلا حازما شهما وكان يدعو بعض الطلبة من نبل بنواحي حلب في شهر رمضان لضيافته وعمل لهم مضبطة لدخولهم في سلك الطلبة والتخلص من الجندية ولم يكلفهم بفلس واحد وبقي الميرالاي وجنده في النجف أياما ثم عادوا إلى بغداد ولم تمض مدة حتى جاء الخبر بتعيين طبار الهوى وكيلا لمديرية الكوفة فجاء وتسلم المديرية فتعجب الناس من ذلك ثم عين مأمورا لتعداد النخل في شفاثا بمعاش ثلاث عشرة ليرة عثمانية ذهبا في الشهر فذهب إليها وما عتم أن حم فمات وشفاثا هذه وبيئة رديئة الهواء وأهل العراق يضربون بها المثل فيقولون لمن يحاول أمرا لا يكون هذا كطالب العافية من شفاثا وأوصى أن يدفن بباب الصحن الغربي المسمى بباب الفرج ليكون تحت أقدام الزائرين لأمير المؤمنين (ع) وأما رؤساء الشمرت من أهل محلة الحويش فأبعدوا إلى الشام وبقوا مدة ثم أفرج عنهم فسئلوا عن سبب الإفراج عنهم فقالوا (عز مالك عز مالك ذل مالك ذل مالك).
عطية أبو كلل
وتولى مشيخة الزكرت بعده عطية أبو كلل وهو شاب شجاع من أهل محلة العمارة وأول ما ظهر من شجاعته أن قومه كانوا يهربون الملح والمملحة العظيمة غربي النجف على نحو ست ساعات منها وهو في القانون للحكومة ليس لأحد أخذه إلا منها لكن أهل النجف يحملونه ويمرون من الثلمة التي في السور من جهة الغرب ويبيعونه ولا تستطيع الحكومة منعهم فتذهب به النساء إلى الدور وتبيعه وغاية ما في وسع الحكومة أن تفرض على البقالين والخبازين شراء مقدار في كل شهر وبينما كان أصحاب عطية يحملونه على دوابهم ويريدون إدخاله من الثلمة إذ قبض عليهم الجلاوزة وساقوهم إلى السراي فبلغ الخبر الشيخ عطية فركب فرسه الحمراء وتوجه إلى السراي بين السور والبيوت حتى دخل بفرسه السراي وأخرج الدواب والملح بمرأى ومسمع من القائمقام والدرك ولم ينبس واحد منهم ببنت شفة وأغلق الجلاوزة الذين في باب البلد المقابل للسراي الباب خوفا من دخول أحد منه من أصحاب الشيخ عطية ولم يفتحوه حتى غاب عنهم وله وقائع مع الحكومة أظهر فيها بسالة وشجاعة فائقة يطول الكلام بشرحها وبنى دارا خارج النجف سماها الدرعية وله ولد سماه تركي وابنته اسمها تركية فقال في ذلك بعض الشمرت:
لا بد ما نصلي الدرعية | وانصبغ بشماغ ابن عطية |
فأجابه آخر من الزكرت:
هذي الدرعية المعروفة | واليصليها يلقى حتوفه |
الشيخ هادي الطهراني
كان أيام إقامتنا في النجف رجل من العلماء له شهرة يسمى الشيخ هادي الطهراني وقبل حضورنا للنجف كان له درس كبير يحضره فضلاء العرب والعجم وله فضل وحذق ومهارة إلا أنه كان يطيل لسانه على العلماء السالفين وكان يقول للشيخ حسن ابن صاحب الجواهر حينما يذكر بعض أنظاره في الدرس أن أباك حينما كتب هذا المطلب كان قد تعشى بطبيخ الماش فتبخر دماغه وكانت له جرأة على مخالفة الإجماع وله مؤلفات في الفقه وغيره طبعت بعد وفاته فقرأت فيها في المواريث إنكاره أن يكون ابن العم للأبوين مقدما في الأرث على العم للأب وهي المسألة المعروفة بالإجماعية فنسب إليه قبل حضورنا أمور كفره جماعة من علماء عصره لأجلها الله أعلم بصحتها حتى خيف عليه القتل وحماه الفقيه الشيخ محمد حسين الكاظمي وتفرق عنه الطلاب لا لثبوت ذلك عليه بل خوفا من الانتقاد حتى لم يبق عنده في أيامنا إلا نحو اثني عشر طالبا من الإيرانيين وسألت ابن عمي السيد علي ابن السيد محمود عنه وكان يحضر درسه قبل الذي نسب إليه فقال لي ليس هو في الفضيلة كما يبالغ بعض الناس ولا في عدم الفضيلة كما يقول البعض الآخر وفي العصر الذي كنا فيه في النجف أثيرت مسألته أيضا من جملة من مشاهير العلماء وصارت حديث الناس في النوادي والمجالس بين العلماء والطلاب. أما شيخنا الشيخ آقا رضا الهمذاني فلم يكن يسمح بذكرها في مجلسه وكان يقول التكفير أمر عظيم ولا يثبت عندي بمثل هذه النسب.
سفر بني عمنا
وفي حوالي سنة 1310 سافر ابنا عمنا السيد محمود السيد محمد والسيد علي إلى جبل عامل فخرجت معهم إلى كربلا فالكاظمية فسامراء وعدت إلى النجف. ولما خرجنا من كربلا نريد بغداد كان الفرات قد طغى فقطع الطريق فأخذنا دليلا وسار بنا من المحمودية مشرقا على غير الطريق ثم ضل عن القصد فركض طويلا ثم عاد وقال رأيت طاق كسرى وسار بنا حتى عبرنا دجلة في السفن يجرها "بابور" يسير بالنار وبتنا في مشهد سلمان الفارسي رضي الله عنه وبات بجانبنا جنديان مقيمان هناك لحفظ الأمن وبعد ما تعشيا معنا وضعا بندقيتهما تحت رأسيهما وناما قريبا منا وعند الساعة الرابعة تقريبا سمعنا الصياح خارج الباب فقيل إن اللصوص سرقوا "قونية" صفر من أحد المسافرين فنبهنا الجنديين فقاما يفركان عيونهما من أثر النوم ويمشيان رويدا بكل وقار حتى وصالا إلى قريب الباب ثم عادا يقولان الحرامي راح.
مرض الحمى في النجف
ومن الحوادث التي وقعت في النجف أيام وجودنا فيها انتشار الحمى حتى بلغت الوفيات نجها إلى الأربعين وكانت تخرج في العليل أسفل معدته حبة كبيرة صلبة وكل من خرجت فيه هذه الحبة مات إلا الشيخ محمد حزر فقد خرجت فيه وسلم ومرض بها جماعة من العامليين منهم من مات ومنهم من سلم وكان بعضهم لا أهل لهم ولا عيال ولا أحد يمرضهم فاستعنت بالشيخ موسى قبلان على الطواف عليهم كل يوم لتمريضهم فأجاب مسرعا فبدأنا بالشيخ مصطفى البعلبكي فوجدناه في حجرة في دار ملقى على فراشه كأنه خشبة ومعه في الدار رجل عاملي لا يدنو منه ويتباعد عنه ولا يدخل الدار خوفا من العدوى فقلت للشيخ موسى أنا أشتغل بالأمور الداخلية وأنت بالأمور الخارجية فذهب ليحضر الطبيب ثم يأتي بالدواء وقمت أنا بدوري فغسلت الأواني وأشعلت النار وكنست الحجرة وهيأت كل ما يلزم بكل سرور وإقبال متمثلا في نفسي قول القائل:
إن الكريم وأبيك يعتمل | إن لم يجد يوما على من يتكل |
وقول من قال (الحر معوان) وما عتم الشيخ موسى أن جاء بالطبيب فوصف للمريض الحقنة وللغذاء ماء اللحم فذهب الشيخ للسوق وأحضر اللحم وهيأت أنا لوازم الحقنة بعد طبخها وتصفيتها وتبريدها وأحضر الشيخ المحقان معه وهو أنبوب من الزجاج طويل يصب فيه الدواء فقلت للشيخ هل تحقنه أنت قال إني أستطيع كل شيء عدا أمر هذه فليس في استطاعتي أبدأ وهنا حصلت المشكلة فأنا وإن كنت موطنا نفسي على كل عمل لكن أمر هذه الحقنة صعب علي لأني لم أباشرها قبل هذا لا سيما بهذا المحقان الطويل الذي يبلغ طوله نحو ذراع ولا سيما أن العليل يأبى ذلك وهو رجل جسيم ولما كان لا مناص لي من ذلك أقدمت عليه وقاسيت فيه كل صعوبة ثم انتقلنا إلى غيره ممن لا ممرض لهم وكان إذا توفي أحد العامليين تولينا أنا والشيخ موسى المذكور تجهيزه وتشييعه إلى مقره الأخير.
ابن عمنا السيد جواد
وبهذه الحمى توفي قريبنا السيد جواد حفيد صاحب مفتاح الكرامة وكان شهما فاضلا فكانت المصيبة به عظيمة وأقيم مجلس فاتحة حضره علماء النجف وأدباؤه ووجهاؤه ورثته الشعراء من رثاه هذا الفقير بقصيدة مذكورة بالرحيق المختوم.
مجيء الوالد للعراق
بعد سفري للعراق بمدة ضاقت نفس والدي وهو في جبل عامل شيخ كبير السن مكفوف البصر يسكن بين أهل الغلظة والجفاء مع ابنتين وكانت له زوجة توفيت وليس له معين إلا الله فكتب إلي أنه لا يرخصني في البقاء وأنه لا يستطيع البقاء هكذا فإما أن تحضر إلى هنا وتترك النجف أو تحضر وتحضرني إلى النجف. فاسودت الدنيا في وجهي وخيرت بين أمرين ليس لي في أحدهما خيرة. تركي النجف يضيع علي كل ما عملته وإحضاري له إلى النجف يستدعي نفقات كثيرة فعزمت على الأمر الثاني مع ما فيه من المشقات فدخلت الحضرة الشريفة وتضرعت إلى الله تعالى ودعوته في كشف هذه الغمة عني وإرضاء والدي عني فلما دارت الجمعة جاءني منه كتاب يخبرني فيه أن ما كتب به أولا كان ناشئا عن ضيق صدره لقلة المعين وقد سلم أمره لله وصبر فلا عليك أن تبقى مواظبا على درسك ولا تهتم من أمري بشيء فحمدت الله على ذلك ولكن نفسي بقيت مضطربة مغتمة فسلمت أمري إلى الله وتوكلت عليه وصبرت فترت نفسي بعض القرار لكنني بقيت في غم واضطراب مشتغل البال في هذه الحال الذي عليها والدي حتى مضى على ذلك سنوات فكان من فضل الله ونعمه المتتابعة علي أن يسر لوالدي السفر إلى العراق مع ما هو عليه من الضعف والعجز مخدوما مرفها مكرما مع جماعة من أهل جبل عامل من خيرة الناس حتى أنه قال لي لو كنت معي مع عدة أولاد لي لما خدمت هذه الخدمة فجاءتني يوما برقية ولكنها مغلوطة لكنه يفهم منها أن الوالد متوجه إلينا أو سيتوجه وكان في غلطها رحمة ومصلحة لنا وذلك لأنه لولا غلطها لذهبنا إلى بغداد لاستقباله والحال أنه جاء لكربلاء ولم يمر ببغداد لكون فيضان الفرات قد قطع الطريق إلى بغداد فجئنا إلى كربلاء في زيارة عرفة بين الشك واليقين وفي اليوم الثاني ورد كربلاء ففرحنا بقدومه.
وجاءنا في كربلاء الشيخ محمد طه نجف زائرا لوالدي وهنأني بقدومه وقال لي إن قدومه صار يبشرنا بطول إقامتك عندنا. وأقام الوالد في العراق عدة سنين كان مشغولا في خلالها بالعبادة والدعاء وزار كربلاء مرارا عديدة وقال لي بعض الإخوان حينما أراك تأخذ والدك إلى الحضرة الشريفة أغبطك على هذه النعمة.
الغلاء في العراق
وحصل غلاء في العراق ثلاث سنين وبلغت العائلة سبعة أنفس وصادف حصول قحط في جبل عامل فكان يأتينا في كل سنة خمس ليرات عثمانية وماذا تصنع خمس ليرات مع سبعة أنفس وما كان مورد سواها. ولا يصلني من أحد شيء ولا عودت نفسي على التوسل إلى أحد شفي السنة الأولى بعنا بعض الأثاث الذي يمكن الاستغناء عنه لا المستغنى عنه واقتصدنا في النفقة فاكتفينا بالأرز الحويزاوي عن الشنبة والنعيمة ومضت تلك السنة والغلاء في العراق والقحط في جبل عامل مستمران حتى بلغت وزنة الأرز وهي ثمانون آقة إستانبولية ليرة عثمانية وقرانين إيرانيين ومثلها وزنة الحنطة وكذلك باقي الحاجيات ونحن كما كنا سابقا في ملازمة الدرس والتعفف عن الناس وعدم المبالاة بالغلاء كأنه لم يكن فبعنا في السنة الثانية بعض الكتب التي يمكن الاستغناء عنها لا المستغنى عنها ومضت تلك السنة كالتي قبلها وجاءت السنة الثالثة كسابقتيها أو أشد فبعنا حلي العيال وجاءت السنة الرابعة وليس عندنا ما يباع لا من أثاث ولا كتب ولا حلى والغلاء والقحط مستمران ونحن على الحالة التي كنا عليها لم نغير شيئا ولم يتغير علينا شيء وزادت العائلة ونحن لا نبالي بشيء من ذلك مواظبون على مطالعتنا ودروسنا كأن لم يكن من ذلك شيء وقد علم الله تعالى ما نحن فيه وما انطوت عليه النفس فلم يدعنا وتفضل وأنعم كجاري عادته معنا ومن لم يغير عادته مع الله تعالى فحاش لله أن يغير عادته معه فبينا أنا جالس للمطالعة عند العصر فإذا برجل يطرق الباب فخرجت فإذا هو الشيخ عبد اللطيف شبلي العاملي الحداثي رحمه الله فناولني كتابا فإذا هو من رجل يسمى الشيخ محمد سلامة العاملي فيه أنه أعطاه الحاج حسين مقداد عشر ليرات عثمانية ذهبا أو أكثر ليرسلها لنا ولم أكن أعرف هذا الرجل ولا سمعت به ولا سبق للشيخ محمد سلامة شيء من هذا القبيل مع كثرة تردده إلينا في النجف ونزوله عندنا فعلمت أن ذلك بتيسيره تعالى وبقيت مترقبا لأن أعرف الحاج حسين مقداد من هو وتيقنت أن لله به عناية حيث أجرى فرجنا على يده ولما حضرت إلى جبل عامل وكنت في النبطية جاء جماعة فقالوا عن أحدهم إنه الحاج حسين مقداد فأجلسته إلى جانبي وقلت له ألا تكلفني بحاجة أقضيها لك قال أريد أن تشتري لي صحيفة سجادية وكانت معي صحيفة طبع تبريز وهي أحسن طبعة وأصحها فأعطيته إياها.
ثم توفي الوالد في النجف سنة 1315 كما مر وأوصى أن يدفن في الصحن الشريف فدفناه فيه في الجهة الشرقية الجنوبية وكان له في نفسي حزن عميق.
في الكوفة
ذهبت مرة إلى الكوفة لترويح النفس أياما ومعي رجل من أفاضل العامليين فلما وصلنا المسجد قلت له أنت اعط المكاري أجرته لأذهب أنا وأهيئ حجرة نبيت فيها فذهبت وهيأت الحجرة فوجدت المكاري وصاحبي واقفين فقلت لم لم تعطه أجرته ليذهب فقال المكاري يا أغاتي هذا السيد "يحشي" - أي يحكي - بالنحوي وأنا بالنحوي ما أفهم. وإنما الأجرة أربعة متاليك.
في بساتين السهلة
وفي بعض السنين مرضت العيال مرضا عجز عن مداواته الأطباء وكان ابنها الكبير رضيعا واستمر بها المرض وصار العزم أن نذهب بها إلى خارج النجف لتغيير الهواء فذهبنا إلى بعض بساتين السهلة وهو لرجل اسمه عبود وزوجته اسمها سكينة وهي صديقة عيالنا المخلصة فرحمك الله يا سكينة ورضي عنك ورحمك الله يا عبود وجزاكما الله عنا خيرا وذلك في فصل الصيف وأنا لا يمكنني ترك الدرس ولا ترك العيال وكيف الجمع بينهما فتركت عندها بعض بني عمنا في النهار ليأتي بلوازمها من الكوفة وعندها أيضا سكينة ونساء صاحب البستان وكنت أصلي الفجر ثم أذهب راجلا إلى النجف لأنه لا يوجد في ذلك الوقت دواب فاصل النجف عند طلوع الشمس والمسافة تزيد عن ساعة ونصف فأحضر الدرس الذي هو في ذلك الوقت عند الشيخ آقا رضا الهمذاني في صلاة الجماعة ثم يقرأ عندي تلاميذي دروسهم وإذا كان لي حاجة في البيت أو السوق أتيت بها وعدت عند العصر راكبا لأن الدواب في ذلك الوقت موجودة وبقيت على هذه الحال أياما عديدة وجئت يوما إلى المسجد لحضور الدرس وعلي آثار التعب فسألني الشيخ فأخبرته أنني كل يوم أحضر صباحا من بساتين السهلة إلى هنا فقال لكل شيء آفة ولطلب العلم آفات.
في مسجد السهلة
وذهبنا إلى مسجد السهلة ونحن جماعة في فصل الشتاء للترويح عن النفس أياما فوصلنا عند المغرب ولم نجد حجرة خالية وعلمنا أنه يوجد حجرة أقفلها خادم أعجمي وهي خالية فسأله السيد علي ابن عمنا السيد محمود عنها فأنكر فهدده وتناوله بالضرب ففتحها ودخلناها ودخل معنا فأكل وشرب الشاي ومما قاله لي تلك الليلة أن العربي والعجمي لو طبخا في قدر واحدة لم يختلط دهن أحدهما بدهن الآخر فعجبت من تغلل العداوة إلى هذا الحد.
وكنا نجلس ليلا نتسامر فأقرأ لهم بعض الأشعار التي أوردها صاحب أمل الآمل في كتابه مثل قول بعضهم في رثاء عالم: "وبالرغم مني قدس الله روحه" فيضحكون ويأنسون.
وجئنا يوما بسمن من الكوفة على ورقة مطبوعة باللاتيني فامتنع بعض الرفاق من الأكل مما طبخ بذلك السمن فقلت له كيف تأكل السكر ولا تأكل هذا فقال ذلك لم تره عيني وهذا رأيته ثم أخرج من القدر شيئا من اللحم وغسله وأكله وهكذا يكون الجمود.
الزاعم أنه لا حاجة إلى علم الأصول
وكنا يوما في مسجد السهلة وفيه بعض العامليين ممن يدعي الفقاهة وهو بعيد عنها فبال صبي في المسجد فأخذ ذلك الرجل ماء وصبه فوق البول فقلت له زدت في نجاسة المسجد فقال في بعض الروايات إن النبي فعل هكذا فقلت له هذه رواية شاذة لا عامل بها ودعوت من أخذ ذلك فطهره في الحوض وأعاده إلى المسجد.
وهذا الرجل كان يزعم أنه لا حاجة إلى علم الأصول ويكفي مراجعة الأخبار لأن الأخبار عربية ونحن عرب. وأراني مرة تأليفا له في الفقه وقال مثل هذا القول فقلت له إذا وصلت إلى خبر فيه صيغة أفعل وقد اختلف فيها الأصوليون على أقوال وأنت لم تحققها في الأصول فعلى أي شيء تحملها فقال أحققها حين وصولي إليها فعلمت أنه يهرف بما لا يعرف وأنه لما فاته تحقيق علم الأصول أراد أن يتملص من عيب ذلك فادعى عدم الحاجة إليه وهكذا يفعل الجهل بأهله.
ونظير هذا الرجل عاملي آخر هو رفيقه وعلى مشربه كان يقول أيضا بعدم الحاجة إلى علم الأصول فرآني يوما أريد أن أشتري حاشية ميرزا موسى على الرسائل فجعك يقلب يديه متعجبا ويعقد وجهه ويقول أي حاجة لهذا فقلت له لكل امرئ رأيه ثم غبرت سنون فجاءني يوما يريد أن يستعير مني حاشية ميرزا موسى فقلت له ما تصنع بها قال احتجتها فذكرته ما جرى له معي يوم أردت شراءها فقال دعنا من هذا فقلت أخبرني ما هي حاجتك منها فامتنع فقلت لا بد من إخباري فقال جاءني رجل شروقي يريد أن يقرأ عندي في الرسائل. فقلت لا أعيرها لك بعد الذي صدر منك ثم أعطيته إياها وكان صديقي.
الفرائض والمواريث
لما قرأت مبحث الفرائض والمواريث في شرح اللمعة وجدت أن مسائله متشعبة فأحببت أن أكتب مسائله وحساب الفرائض فكتبت ثم عن لي أن أكتب فيه كتابا مبسوطا مستوفيا للفروع والدلائل فكتبت فيه كتابا إلى مجلدين ضخمين سميته كشف الغامض في أحكام الفرائض ثم اختصرته في دمشق مقتصرا على ذكر الفروع مجردة عن الدلائل في كتاب سميته سفينة الخائض في بحر الفرائض ثم نظمت فيه أرجوزة سميتها جناح الناهض إلى تعلم الفرائض مطبوعة وحينما شرعت في تأليف كشف الغامض كنت في دار ضيقة ليس فيها إلا حجرتان يسكن إحداهما ابن محمي السيد حسن مع عياله وأنا أسكن الأخرى مع عيالي وأولادي فاضطررت إلى سكنى حجرة في مدرسة القطب كان يسكنها إيراني له صلة بالمتولي وكان لا يأتي إليها إلا قليلا فنقلت كتبي إليها وكنت لا أنام فيها إلا الغرار واصل في المطالعة والكتابة الليلة بالنهار حتى أكملت المجلدين تسويدا ثم تبييضا وطلبت من ابن عمنا حفيد صاحب مفتاح الكرامة جزء المواريث منه فأخبرني أنه عند بعض بني عمنا فجئت إليه وطلبت الجزء منه فقال لي إنه في السرداب فقلت له إما أن تأتيني به أو تأخذ لي طريقا إلى السرداب لآتي به ولا يمكن أن أذهب إلا وهو معي فنزل إلى السرداب وأتاني به وقال لي أنا أحتاجه فمتى تفرغ منه وأنا أعلم أنه لا يقرأ فيه ولا يستفيد لمنه حرفا وفي كل يوم يطالبني به ويشوش أفكاري فأخذته وجعلت أفكر في نسخه فطورا أراه عسيرا وتارة أقول العزم يسهل العسير إلى أن محزم رأي على نسخه فدخل علي بعض الأصحاب فرآني مفكرا فقال فيم تفكر قلت في نسخ هذا الكتاب فقال وما الذي استقر عليه رأيك قلت قد نسخته قال ما معنى هذا قلت قد عزمت محلى نسخه ومتى عزمت على ذلك فقد نسخته بمشيئته تعالى وذهبت فأحضرت الكاغاد الخمايسي وعملت مسطرا للكتابة وشرعت في النسخ وصرت كلما وجدت فراغا نسخت منه شيئا حتى أكملته. ونسخت أيضا بخطي رسالة الشيخ يوسف البحراني في الحوادث.
معاملات مفتاح الكرامة
دخلت يوما بالنجف على بائع الكتب في حجرته بالصحن الشريف واسمه الحاج علي محمد فوجدت عنده معاملات مفتاح الكرامة في عدة أجزاء بخط واحد وورق واحد وقطع واحد وتجليد واحد مصححة فقال إنها لرجل بحراني يريد بيعها ويطلب بها خمس ليرات عثمانية وقد سامها إمام جمعة تبريز بأربع ليرات فقلت له أنا قد اشتريتها بخمس ليرات فقال اليوم أذهب إليه فإن اشتراها بخمس ليرات وإلا دفعتها إليك فذهب إليه فلم يزد على أربع ظنا منه أنه لا يمكن أن يبذل فيها طالب علم هذه القيمة وأنه بما عنده من ثروة عظيمة لا يمكن أن يشتريها سواه فأخذتها ودفعت للبائع شيئا من ثمنها وأنظرني بالباقي ولما علم إمام الجمعة أنني اشتريتها تأثر كثيرا فأرسل إلي ميم الشيخ كاظم الحكيم يسألني بيعها بمهما شئت من ربح فأبيت وأرسل إلي أخاه فقال إن عندنا العبادات بمثل هذا الخط وهذا القطع ونريد أن يكون عندنا نسخة كاملة بخط واحد وقطع واحد ومهما طلبت من الثمن ندفع فقلت وأنا أريد مثل ذلك ومهما طلبتم من الثمن أدفع وتأثر كثيرا فلما أيسر قال إن المجلدات التي عندك مسروقة فقلت بل التي عندكم مسروقة.
زيارة الحسين عليه السلام
لم تفتني زيارته – والحمد لله - مدة وجودي في النجف وهي نحو عشر سنوات ونصف السنة في الزيارات المخصوصة: عاشوراء والعيدين وعرفة والأربعين إلا نادرا وكنت قبل السفر أذهب إلى من لهم علي دين في السوق فاستحل منهم وكنت أشتهي أن أزوره راجلا وأتهيب ذلك فجريته فهان علي واتبعني على ذلك جماعة من العامليين والنجفيين وغيرهم فزرت راجلا غير مرة.
تدبير المعاش
أقمنا في النجف نحوا من عشر سنين ونصف ألسنة نعيش عيش الأغنياء وننفق نفقة الفقراء وذلك بفضل تدبير المعاش فلا نستدين من السوق بل نشتري نقدا أحسن جنس وأرخصه وإذا لم يكن معف الثمن نستدين نقودا ونشتري بها ونشتري كل صنف في موسمه فيكون أرخص قيمة.
الشيخ إبراهيم الكاشي
كان هذا الرجل يحضر درس الشيخ ميرزا حسين خليل ويقرأ موعظة مختصرة قبل شروع الشيخ في الدرس ثم تغيرت حاله وظهر فيه شبه الجنون الذي هو فنون. كان السلطان عبد الحميد طلب إعانة اختيارية لإكمال السكة الحديدية الحجازية ثم إعانة إجبارية فلجأ فقراء النجف إلى العلماء ليدفعوا ذلك عنهم من أمواد الحقوق التي تصلهم فأنكر الكاشي ذلك. وجعل يدور على مجالس الدروس ويصعد المنابر قبل مجيء المشايخ ويخطب في هذا الموضوع ولا شك أن هذا نوع من الجنون أو من سوء النية فيجيء الشيخ فيراه على المنبر فيعود ويتعطل الدرس ذلك اليوم. فأول ما جاء إلى درس الشيخ ميرزا حسين الذي كان يعظ قبله فجاء الشيخ فرآه ورجع وفي اليوم الثاني جاء وصعد المنبر فأنزلوه ثم ذهب إلى مجلس درس الشيخ حسن المامقاني وصعد المنبر وأخذ يتكلم فجاء الشيخ فرآه فصاح (بكشيد) أي جروه فجروه وأخرجوه من المسجد وكان عمنا السيد علي قد توفي في جبل عامل فعملنا له ترحيما عند العصر في الصحن الشريف وجاء الشيخ محمد طه نجف فجلس وإذا بالكاشي قد جاء وتقدم نحو الشيخ وكنت أنظره
إلى أن وصل إلى أمام الشيخ ثم لم أعد أراه لكثرة ما اجتمع حوله من الناس ثم احتمله الخدمة وأدخلوه بعض الحجر خوفا عليه من القتل لأن الناس زعموا أنه تناول ثوب الشيخ ولما انصرف الناس حملوه إلى داره وجئنا للدرس فأخبرنا بذلك فرجعنا وفي اليوم الثاني جاء وفعل كالأول وفعل الشيخ وفعلنا كذلك وبقي الكاشي يتكلم ويصيح إلى قرب الظهر ولم يخرج من الدار فأخرجوه محمولا وأرسلته الحكومة إلى إيران ففعل كأفعاله في العراق. وبعد مجيئنا إلى دمشق جاء إليها وفعل كذلك.
بعض عادات النجفيين
النجف بلدة حدثت بعد خراب الكوفة وزاد عمرانها في عهد البويهيين. والنجفيون أهل شهامة وغيرة وسخاء وقناعة واقتصاد. ونساؤهم يلبسن عباءتين إحداهما على الرأس والأخرى على الكتفين ويلبسن الثوب الهاشمي أيام كنا في النجف والآن يلبسن عباءة واحدة طويلة على الرأس تقوم مقام العباءتين. والنساء يشترين ملابسهن بأنفسهن على أنه قل أن تكلم المرأة رجلا حتى قريبها وابن عمها إن لم يكن محرما ولهم في الزواج عوائد جلها مستحسن فهم يزوجون القرابة ولا يتكبرون عليه وإن كان فقيرا وهم أغنياء، وإذا خطب القرابة لا يعدلون عنه إلى غيره وإذا خطبت الفتاة لا تحضر أمام أبيها أو أخيها وتجهد أن لا يرياها حتى تتزوج وإذا زفت إلى غريب غاب الرجال من أهلها عن البلد ويحضر الوجوه والعلماء العظام لنقلها إلى بيت زوجها فلا يستقبلهم أحد ويجلسون في الطريق حتى تخرج العروس فتمشي مع النساء، والرجال وراءهن بعيدا عنهم ويولمون للعرس والختان ويجب أن يجلس المدعوون دفعة واحدة ولا يجوز أن يقوم فريق ثم يجلس فريق فمن عمل دعوة عليه أن يكون عنده أمكنة تسع جميع المدعوين عند جلوسهم للطعام وأوان بعددهم فيوضع الطعام للجميع أمامهم في مكان جلوسهم والنجفيون لا يتدخلون بين ابنتهم وزوجها في خلاف أو نزاع مهما أمكن ويندر وقوع الطلاق عندهم أو لعله لا يقع ولا يذكرون النساء في مجالسهم إلا قليلا وإذا اضطر الرجل إلى ذكر زوجته قال أهلنا لا يقول زوجتي ولا يقولون صهري بلى إذا ذكروا الصهر قالوا نسيبنا ولا يذكرون الطعام في مجالسهم بأن يقولوا أكلنا كذا وصنعنا الطعام الفلاني بل قد يتحدثون عن كرم الكرماء فيقولون فلان عمل دعوة عظيمة أو شبه ذلك وهم أهل وفاء وويل لمن أخطأ معهم.
وفي مجالس العزاء يجلسون ثلاثة أيام تقرأ فيها قصائد الرثاء وكذلك في التهانى والأعراس ومن حضر من سفر يجلس ثلاثة أيام فتجيء الناس وتسلم عليه صباحا ومساء والزيارة في كل الأيام إنما تكون نهارا والنساء أيضا يجلسن للعزاء منفردات عن الرجال ولهن نوائح صناعتهن النياحة على الأموات وعلى الحسين (ع) في أيام عاشوراء وغيرها ومنهن من تنشد الشعر الزجلي ارتجالا ومجالسهن منفردة عن مجالس الرجال وكانت رئيستهن نائحة تسمى ملا وحيدة بتشديد الياء وكانت تنشد الشعر الزجلي للنياحة ارتجالا ولها مجموعة كبيرة من إنشائها في الحسين (ع) وفي غيره فمن شعرها الزجلي في غير الحسين (ع) قولها في قتيل في معركة:
منين إجتك هذه الطرقاعة | يا صخر مرمر صعب مشلاعه |
يا صخر مرمر صعب ما ينشلع | ما حلالي علتفك مثلك جرع |
صواب ابن كيوان هلحدر الضلع | وأنت بو جاسم يسم الساعة |
ومن شعر العراقيين الزجلي ما سمعته من ملاح في سفينة:
مدكدكة وحلوى ورفيعة | وشايلا الكيمر تبيعه |
حيف بيها هالطبيعة | بالدرب تمشى وحدها |
ومنه قول آخر:
يا ليتني صفصاف | وأنبت علجراف |
وحبي بذاك الصوب | ومنين أنا خاف |
الخروج من العراق إلى الشام
كتب إلينا شيعة دمشق يطلبون حضورنا إليهم والسكنى عندهم. فخرجنا من النجف في أواخر جمادى الثانية سنة 1319 بعدما أقمنا فيها عشر سنين ونصف السنة.
في الكاظمية
ووصلنا الكاظمية فأصابنى فيها رمد شديد حتى كنت لا أستطيع النوم ليلا ولا نهارا فأشار علي بعضهم بتدخين الترياك (الأفيون) فجررت من دخانه مرة واحدة بالآلة المسماة "بالبابور" فوجدت له رائحة خبيثة وسكن ما بعيني من الوجع ونمت تلك الليلة.
وأودع رفقاؤنا أمتعتهم في بيت من بيوت أجلاء الكاظمية فلما عزمنا على المسير افتقدوا دراهم اعتقدوا أنها كانت في تلك الأمتعة فضاقوا بذلك ذرعا. ثم تبين أنها لم تكن في الأمتعة وهذا أمر يجب التحرز منه فمن أراد أن يودع شخصا أمانة فليعدها عند تسليمه إياها ويسلمها إياه ظاهرة حتى لا يقع في مثل هذا.
ثم اكترينا بغالا وتهيأنا للسفر وطلبنا (تذاكر مرور) فجاء السيد حمادي صاحبنا قبل عشر سنوات ونصف الذي تعنتنا في أمر تذاكر المرور كما سبق فأعطيناه تذاكر النفوس والرسم المعين لها وهو ثلاثة أرباع المجيدي وربع مجيدي له عن كل تذكرة، ومعنا رجل عاملي من ناحية الشقيف عسكري هرب من اليمن وجاء مشيا على أقدامه إلى العراق فقلنا له وهذا أيضا تذكرة نفوسه ضائعة فجيء اله بتذكرة مرور فقال له أنت اسمك الحاج محمد الأصفهاني إيراني التبعية وذهب ليأتي بتذاكر المرور، وفي ليلة سفرنا عاد ومعه الدراهم وتذاكر النفوس وقال إنه ما تمكن من أخذ تذاكر مرور لنا إلا العسكري الفار فأحضر له تذكرة مرور باسم الحاج محمد الأصفهاني فعجبنا من ذلك.
السفر إلى الشام
وفي الصباح سرنا على اسم الله تعالى وإذا بالسيد حمادي يقف أمام الكجاوات ويطلب تذاكر المرور فقلنا له على يدك دار الحديث ونقدناه روبية فرجع.
في الرمادي
ولما وردنا الرمادي جاء مأمور النفوس يطلب تذاكر المرور فذكرنا له القصة فقال نعطيكم تذاكر من هنا وكنا نسينا تذاكر النفوس في الكاظمية فقال لا يضر ولكنا نريد كفيلا فقلنا وأنى لنا ذلك ونحن غرباء قال هذا صاحب الخان يكفل فقال لا يا أفندي أنا لا أقع تحت المسؤولية فقال اعطوه ربع مجيدي فأعطيناه فارتفعت المسؤولية وأخرج الختم المبارك وختم سند الكفالة وانتهت المشكلة وأتى مأمور النفوس بالتذاكر كاملة وقال لنا لا تواخذوني فإن دولتنا ترسل المأمور وتقول له ارتش وخذ أموال الناس وافعل ما تشاء، أنا رجل بغدادي وإن قلت لكم إنني من أهل البيوتات المحترمة فربما لا تصدقونني ولكن افرضوني كما تشاؤون فهل عيش بغداد كعيش الرمادي ففي أكثر الأيام أرسل إلى السوق عند الضحى فلا أجد الخضر ومعاشي في الشهر خمس مجيديات فهل تكفيني ثمن التتن فإن لم أتعلق بكم وبسواكم ما أصنع قلنا له لا نؤاخذك.
في القائم
وسرنا حتى وردنا مكانا يسمى القائم وهناك قلعة فيها مدير ناحية وعسكر فضربنا خيامنا بجنبها وقريب منها أعراب نازلون فجاؤونا ليلا ونهبوا بعض أمتعتنا متمثلين بقول القائل:
إذا هو ألهى الناس جل أمورهم | فندلا زريق المال ندل الثعالب |
ولحقناهم فاستخلصنا البعض منهم وفروا بالباقي هذا وحضرة المدير وعسكره الموظفون لحفظ الأمن إلى جانبنا قد أغلقوا عليهم باب القلعة وناموا.
في دير الزور
ثم وردنا دير الزور ذات الخيرات والنعم ثم تزودنا منها وخرجنا فوردنا قباقب.
في قباقب
وهناك قلعة فيها جند وبئر بعيدة المدى يستقى منها بالناضح وهناك الأعراب يستقون بناضحهم فيجر البعير الدلو العظيمة ويذهب بعيدا حتى تصل إلى فم البئر ثم يعود، وماء البئر في نفسه مالح مر وقد جاء الجراد فوقع فيه فاصفر وانتن وانضاف إلى ذلك الزبل والأوساخ التي تقع فيه فأتينا بماء منه فعملنا به شايا وطبخنا منه فلم نستطع أن نسيغ الشاي ولا الطعام فأعطينا الطعام للدركي الذي كان يصحبنا.
البئر الجديدة
ووردنا البئر الجديدة وهي بئر حفرتها الحكومة بين منزلين متباعدين لتنزلها القوافل وماؤها مر مالح فلم نستطع أن نشرب منه وبينما نحن نزول في ذلك المكان إذ ورده "فرما نفر ما" ومعناه أمير الأمراء وهو ابن الشاه ناصر الدين القاجاري قادما من لبنان ومعه العسكر على البغال وجمال تحمل قرب الماء العذب فذهب ونزل في القلعة وجاءت الجنود إلى البئر تستقي منه فذهبت وجعلت أنظر إلى البئر، وخرج من القلعة فاستدعاني وجلست فسألني من أين فأجبته بالفارسية أنني قادم من النجف إلى دمشق فقال ما أعجب هذا في هذه البرية قادم من النجف يتكلم بالفارسية وأمر فجاؤوني بالشاي وقال في أثناء حديثه (تميد أنيد أين ملاها جه بجه بازي ميكنند) ما تعلم هؤلاء العلماء في إيران كيف يعملون أعمالا صبيانية. وجاء عكامنا معه (المطرة) فأمر أن تملأ ماء عذبا فملئت ثم ودعته وانصرفت.
في تدمر
لما أقبلنا على تدمر رأينا قطارا في البر من بعيد فظنناه قطار جمال ولما سألنا عنه أخبرنا بأنه صف من الأعمدة العظيمة نضدت فوقها الصخور العظيمة في أطلال تدمر القديمة وكان فوقها البناء نظير الأعمدة التي في قلعة بعلبك ورأينا نظيرها قريبا من بلدة تدمر الحالية وبعضها قطعة واحدة وبعضها أكثر وقد نحتت بالآلة وكان العرب يعتقدون أن تدمر من بناء الجان قال شاعرهم:
واستعمل الجن أني قد أذنت لهم | يبنون تدمر بالصفاح والعمد |
وذهبنا إلى السراي فرأينا حجرا صور عليه إنسان وبجانبه طفلان وعلى رأسه شيد التاج وهو يلبس شبه التنورة التي لها كشكش كما هو المتعارف الآن وفوق البلد قلعة على جبل لها خندق قد حفر في الصخر وبناؤها ليس من بناء تدمر القديمة بل حادث بعد ذلك بحجر صغير دخلناها فوجدنا حجرها متداخلة يتيه الإنسان فيها لأن باب كل حجرة من ضمن الأخرى مكلسة كأنما فرغ منها الصانع الآن.
في السخنة
وجئنا إلى قرية تسمى السخنة وبها ماء حار تفوح منه رائحة الكبريت لكنه عذب فإذا وضع في الآنية برد وأرسلنا لنشتري الخبز من القرية فأبوا أن يبيعونا لظنهم أننا حجاج عجم ولم نستطعمهم كما استطعم موسى والخضر عليهما السلام أهل تلك القرية فأبوا أن يضيفوهما ولو وجدنا جدارا منقضا أو يريد أن ينقض لم نقمه وإنما طلبنا منهم خبزا بثمن فأرسلنا معمما بعمامة بيضاء وقال لهم نحن آتون من بغداد وكنا في زيارة الشيخ عبد القادر ونحن عرب فسمحوا حينئذ بالبيع واعتذروا.
في دمشق
وردنا دمشق في أواخر شعبان من سنة 1319 في أواخر الخريف فوجدنا أمامنا أمورا هي علة العلل ولا بد في إصلاح المجتمع من النظر في إصلاحها:
(1) الأمية والجهل المطبق فقد وجدنا معظم الأطفال يبقون أميين بدون تعليم وبعضهم يتعلمون القراءة والكتابة في بعض الكتاتيب على الطراز القديم.
(2) وجدنا إخواننا في دمشق متشاكسين منقسمين إلى حزبين بل إلى أحزاب وقد أخذت منهم هذه الحزبية مأخذها.
(3) مجالس العزاء وما يتلى فيها من أحاديث غير صحيحة وما يصنع في المشهد المنسوب إلى زينب الصغرى المكناة بأم كلثوم في قرية راوية من ضرب الرؤوس بالسيوف والقامات وبعض الأفعال المستنكرة وقد صار ذلك كالعادة التي يعسر استئصالها لا سيما أنها ملبسة بلباس الدين.
فوجهنا اهتمامنا إلى إصلاح هذه الأمور الثلاثة أما الأمر الأول وهو أمر التعليم فبذلنا غاية الإمكان في تعليم العلوم العربية لمن يمكن تعليمهم فصاروا بفضل ذلك أهلا لأن يتكلموا في مجالس العلماء ويناظروا الفضلاء، وجاء مرة رجل عراقي من أهل العلم فرآني أدرسهم في علم النحو فقال من هوان الدنيا على الله أن يدرس مثلك في علم النحو، وأخذنا في إلقاء المواعظ في المجتمعات والمجالس والتفقيه في الدين بقراءة درس فقهي في التبصرة كل ليلة بعد صلاة العشاءين، واتجهنا لإنشاء مدرسة لتعليم الناشئة فأخذنا دارا عارية بدون أجرة ونقلنا إليها (الكتاب) الموجود في المحلة وجعلناها مدرسة باسم المدرسة العلوية وابتدأنا بإدخال العلوم الحديثة إليها بشكل ضعيف كما هو الشأن في ابتداء كل عمل، وكذلك استأجرنا دارا لتعليم البنات إلى جانب تعليم البنين.
وفي سنة 1320 عزمنا إلى الذهاب إلى حج بيت الله الحرام، وقبل السفر أرادني الحاج محمد حسن بيضون على أن أكلم تجار الحي في أن يشتروا دار أخيه الحاج يوسف لتكون مدرسة وكانت لهم ليلة يجتمعون فيها في الأسبوع يتذاكرون أمور تجارتهم ويدعونني فأجلس معهم وذهب معي وحثني على الكلام معهم في ذلك فترددت لاعتقادي أنه من الأطماع الأشعبية وما زال يشير إلي أن أكلمهم وأنا متوقف حتى قرب أوان انصرافهم فقلت في نفسي إن لم ينفع الكلام فلا يضر فقلت لهم إننا نحتاج إلى دار نجعلها مدرسة وهذه دار الحاج يوسف بيضون يريد بيعها وأنا أشتريها لكم مقسطا ثمنها إلى أربع سنين القسط الأول يدفع بعد سنة وهكذا، وأردت بذلك أن يهون عليهم الأمر بعدم الدفع في الحاضر وقلت إنني أنا أتعهد بدفع قسم لست ثمنها كأحدهم فقال زعيم القوم: الآن عندكم مدرسة عارية ولا داعي لشراء هذه فقال أخر دونه في المنزلة نعم الرأي شراؤها وكل منا إذا حضر الموت لا بد أن يوصي فلنصرف وصيتنا في حياتنا فلم يشأ الزعيم أن يرد ذلك وقد قبل به من هو دونه فقبل وقبل باقي الجماعة وسافرنا إلى بيروت وكلمنا الحاج يوسف في ذلك وطلبنا منه أن يترك قسما من الثمن بقدر ما على أحدهم واتفقنا معه على الثمن أن يكون ثمانمائة ليرة افرنسية ذهبا موزعة على خمسة أسهم ونصف على الوجه التالي على: الفقير كاتب هذه السطور والحاج يوسف والحاج عباس رضا والحاج سليم العضل كل واحد سهم والحاج مصطفى اصوان وابن أخته كل بنصف سهم والحاج عبد الله والحاج حمزة الروماني كل بنصف سهم مقسطة على أربع سنين وكتبنا بذلك سندات على هذا النحو.
ثم توجهنا إلى الحجاز عن طريق مصر وجاءنا كتابهم إلى الحجاز باستلامهم الدار ونقل الأولاد إليها وكان بصحبتنا في الحج إيراني من أهل أرومية فأعطانا عشرين ليرة عثمانية ذهبا المدرسة وحج في تلك السنة ميرزا علي أصغر خان أتابك الصدر الأعظم في إيران لكنه كان معزولا بسبب قضية المشروطة وعاد مع الحاج الشامي إلى دمشق واجتمعنا به في الطريق ولما وردنا الشام دعوناه إلى المدرسة وأقمنا له حفلة فأرسل لنا في اليوم الثاني كتابا مع ترجمان القنصل ومعه سبعون ليرة عثمانية ودعونا والي سورية عارف بك المارديني فسر كثيرا وخطب خطبة أعرب فيها عن سروره بما رأى وشكرنا وخاطبنا بأجمل خطاب ودفع لنا إعانة للمدرسة عشرين ليرة عثمانية ذهبا فأصلحنا المدرسة من ذلك بنحو ثلاثين ليرة ودفعنا الباقي مما علينا من الأقساط ثم وقفناها مدرسة واستثنينا دارا صغيرة منها لم ندخلها في الوقف لقاء ما بذمتنا من الثمن ويسر الله تعالى دفع جميع الأقساط إلا القسط الأخير فطلبه منا الحاج يوسف فأرسلنا له إن شئت أن تمهلنا به وإن شئت بعنا الدار الصغيرة وأديناه فقال لا تبع الدار وسأحضر للشام ونعمل حفلة لتدارك العجز فكان الأمر كذلك وتبرع الحاضرون في الحفلة وهو منهم بما دفعنا منه الدين وزاد معنا ما صرفناه على المدرسة. وما زال أمر المدرسة ينتظم شيئا فشيئا وقد بقيت مدة غير قليلة لم يتم انتظامها إلا أننا نقابا ذلك بالصبر ولا نمل والأعمال لا يضرها مرور زمن عليها ولم تنتظم فلا بد أن تصل إلى المداومة والصبر إلى الانتظام وإنما يضرها الملل وقلة الصبر فصبرنا وجاهدنا فظفرنا.
ثم وفق الله لشراء دار ثانية هي أحسن من الأولى بمراحل ومن أفخم دور دمشق شريت بقيمة ألف وخمسمائة ليرة عثمانية ذهبا وأصلحت بخمسمائة وهي تساوي أضعاف ذلك بذل ثمنها كل من المحسنين الكرام السيد علي والسيد كامل نظام والحاج رضا النحاس والحاج مهدي اللحام والحاج حسن الحلباوي جزاهم الله ي الجزاء ونقلت إليها التلاميذ، والدار الأولى تستغل ويصرف ريعها على المدرسة وقد أصبحت المدرسة اليوم حين تحرير هذه الكلمات وهو السابع من شهر شوال سنة 1370 على أتم نظام وأحسن انتظام ذات صفوف ثانوية وقسم داخلي تفوق جميع المدارس دمشق التي من نوعها بحسن تنظيمها والمحافظة فيها على التحلي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة ونجاح طلابها في الامتحانات مائة بالمائة وأصبحت الطلاب تتهافت عليها من جميع الأحياء لما يرى أولياؤهم من تهذيب أخلاق أولادهم ونجاحهم حتى صار يضطرنا الحال أحيانا إلى رد طلبهم لضيق المكان فيلحون علينا ويصرون ووضعنا لكل صف فيها كتابا للمحفوظات وكتبا تسعة للعقائد والأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات والمواريث والحدود والديات وتفسير عدة من الآيات القرآنية وقسم من الأخلاقيات وطبعت هذه الكتب وانتشرت في باقي المدارس وعم نفعها وترجمت إلى الفارسية.
وقد وفق الله تعالى لإيجاد أوقاف لها من جماعة من أهل الخير وفي سنة 1367 اشتري لهاث كان في سوق الحميدية بألف ليرة عثمانية ذهبية. وستزيد أوقافها بعون الله تعالى عاما فعاما بفضل الإخلاص وحسن النية.
وكانت مدرسة البنات قد ضاقت بالطالبات فتبرع المرحوم الحاج يوسف بيضون بشراء دار دفع ثمنها ثلاثة آلاف وثمانمائة ليرة عثمانية ذهبا وعين لها من ماله ألف ليرة عثمانية ذهبا يصرف ريعها على نفقاتها فبقيت مدة يتجر بها أحد أولاده ويقوم بنفقات المدرسة ثم اشترى بها عقارا في بيروت ووقف عليها واعترافا بفضل الحاج يوسف بيضون أطلقنا اسمه على المدرسة وسميناها المدرسة اليوسفية.
هذا ما وفق الله لعمله نشأن إصلاح الأمر الأول من الأمور الأربعة المتقدم إليها الإشارة وأما الأمر الثاني وهو أمر الحزبية بين أبناء الطائفة والتشاكس الواقع بينهم فرفعه أمر واحد لم نكن نعرفه ولا نعرف أن له هذا الأثر وهو المساواة بين الناس وعدم التحيز لفريق دون آخر وهذا أمر طبعنا عليه ولم نتكلفه تكلفا.
"أما الأمر الثالث"
وهو إصلاح إقامة العزاء لسيد الشهداء (ع) فكان فيه خلل من عدة جهات (منها) ما يتلوه الذاكرون من الأخبار المكذوبة والأغلاط الشائنة وبعض الأعمال التي تجري في المجالس. ذكر مرة رجل وقعة الجمل فقال كان اسم الجمل عسكر بن مردية فقلت في نفسي الجمل كثيرا ما يعرف باسم أما أن يقال ابن فلان أو ابن فلانة فلم يسمع به فسألته فقال هذا موجود في البحار فراجعت البحار فإذا فيه وكان اسم الجمل عسكرا، ثم ابتدأ بكلام جديد فقال: ابن مردويه.
وقرأ قارئ يوما في الكاظمية فلم يذكر في ذلك المجلس حرفا واحدا صادق وكان إلى جانبي السيد مهدي آل السيد حيدر فقلت له أقسمت عليك بالله هل فيما ذكره هذا الرجل حرف صادق قال لا قلت فلماذا لا تنهون قال لا نستطيع ولما حضر الشيخ موسى شرارة إلى جبل عامل أحضر معه مجموعة كتبها له بعض الذاكرين فيها الصحيح والسقيم مما يتلى في مجالس النجف وكان فيها خبر مقتل أمير المؤمنين (ع). وفيه كلام للأصبغ بن نباتة يخاطب به أمير المؤمنين (ع) وقد زيد فيه كلام مسجع منمق منه أن البرد لا يزلزل الجبل الأصم ولفحة الهجير لا تجفف البحر الخضم والليث يضرى إذا خدش والصل يقوى إذا ارتعش ونحو ذلك وكان الشيخ موسى يتلوه ويعجب من بلاغته. ولما كتبت مقتل أمير المؤمنين في المجالس السنية لم أجد له أثرا في كتاب وسمعت الميرزا حسين النوري مرة في داره ينكره على المنبر ويقول إنه لا أصل له وفي تلك المجموعة عدة أحاديث موضوعة وبعض الذاكرين يزيد عبارات وجملا محزنة ليهيج بها السامعين. وهؤلاء القراء ليس لديهم ذرة من علم ولا معرفة وأكثرهم من العوام ومن كان ذا معرفة لا يتحرى إلا الصحيح ومثل هذه الأمور تجري في كل فرقة وكل طائفة فجهدت في تنزيه هذه الذكرى المباركة عن مثل ذلك ونهيت القراء عن قراءة مثلها وآلفت كتاب لواعج الأشجان في مقتل الحسين (ع) وانتقيته من الكتب المعتمدة ورتبته بأحسن ترتيب وأردفته بكتاب أصدق الأخبار في قصة الأخذ بالثأر وبكتاب الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد وبالنعي للشيخ محمد بن نصار وطبعته فراج ذلك رواجا تاما.
ورأينا أن تدريب القراء على قراءة الصحيح لا يتم إلا بوضع كتاب فألفنا كتاب المجالس السنية في مناقب ومصائب النبي والعترة النبوية في خمسة أجزاء الأربعة الأولى خاصة بالحسين (ع) وبعضها يزيد على مائة مجلس وطبعناها مرارا والخامس خاص بالنبي والزهراء وباقي الأئمة الأحد عشر وقد نقدت نسخه كلها.
ومن جهات الخلل في إقامة العزاء جرح الرؤوس بالمدى والسيوف ولبس الأكفان وضرب الطبول والنفخ في البوقات وغير ذلك من الأعمال وكل هذا محرم بنص الشرع وحكم العقل فجرح الرؤوس إيذاء للنفس محرم عقلا وشرعا لا يترتب عليه فائدة دينية ولا دنيوية بل يترتب عليه زيادة على أنه إيذاء للنفس الضرر الديني وهو إبراز شيعة أهل البيت بصورة الوحشية والسخرية وكل ذلك كلبس الأكفان وباقي الأعمار مزر بفاعله وبطائفته لا يرضاه الله ولا رسوله ولا أهل بيته فهو من عمل الشيطان وتسويل النفس الأمارة بالسوء سواء اسمي بالمواكب الحسينية أم بإقامة الشعائر أم بأي اسم كان فالأسماء لا تغير حقائق الأشياء وعادات الطغام من العوام لا تكون دليلا للأحكام. وكانت هذه الأعمار تعمل في المشهد المنسوب إلى السيدة زينب بقرب دمشق أحدثه بعض قناصل إيران ولم أحضره أبدا ونهيت عنه حتى بطل، وقد عملت في ذلك رسالة (التنزيه) طبعت وترجمت إلى الفارسية وقام لها بعض الناس وقعدوا وأبرقوا وأرعدوا وجاشوا وأزبدوا وهيجوا طغام العوام والقشريين ممن ينسب للدين فذهب زبدهم جفاء ومكث ما ينفع الناس في الأرض.
لقد أشاعوا في العوام أن فلانا حرم إقامة العزاء بل زادوا على ذلك أن نسبونا إلى الخروج من الدين واستغلوا بذلك بعض الجامدين من المعممين فقيل لهم إن فلانا هو الذي شيد المجالس في دمشق فقالوا قد كان هذا في أول أمره لكنه بعد ذلك خرج من دين الإسلام وعمدوا إلى شخص من الذاكرين يسمى السيد صالح الحلي بذلوا له مالا على أن يقرأ في مجلس أنشؤوه كمسجد الضرار ليقرأ فيه السيد صالح ويقدح فينا ورهن بعضهم لذلك داره وأنفق المال الذي رهنها به في ذلك السبيل.
السفر للحج
في سنة 1321 عزمنا على الذهاب إلى حج بيت الله الحرام من دمشق الشام ومعنا العيال وليس معنا من النفقة غير خمس ليرات ذهبية فاستدنا لإكمالها ووفق الله بمنه وفضله لذلك وكان ذلك في إمارة الشريف عون.
في مصر
ذهبنا من طريق مصر بحرا من بيروت إلى بور سعيد فالإسماعيلية فالقاهرة وزرنا مشهد رأس الحسين (ع) فخلنا أنفسنا في كربلا لأن ما يفعله المصريون في ذلك المشهد لا ينقص عما يفعله العراقيون الشيعة في كربلا. وهو مشهد مبني بناء متقنا ورأينا فيه مدرسا معمما جالسا على منبر صغير وحوله تلاميذ يستمعون إلى درسه وزرنا مشهد السيدة زينب وهو مشهد معظم مبني بناء غاية في الإتقان وقد ذكر في حرف الزاي من أعيان الشيعة من هي صاحبة هذا المشهد وزرنا قبر محمد بن أبي بكر والإمام الشافعي أما مشهد السيدة نفيسة فلم نوفق لزيارته ومشهد مالك الأشتر هو خارج القاهرة لذلك لم نوفق لزيارته وذهبنا إلى القناطر الخيرية وهي على النيل وقضينا نهارا كاملا هناك بضيافة بعض الدمشقيين الأكارم وذهبنا إلى جنينة الحيوانات وفيها من كل حيوان يمشي على أربع أو يطير بجناحيه منها الأسد ولبوته وهو في مكان منفرد لا يدنو إليه أحد رابض على سرير من الخشب كجلوس الملك على سرير الملك والزرافة والقنغر وحمار الوحش وبقر الوحش والفيل وغيرها من الطيور وحيوانات البر والبحر وإلى الأهرام وأبو الهول والكنيسة وغيرها وهذه الأسماء والأمور التي مرت مذكورة مفصلة في الرحلة الحجازية الأولى في الجزء الثاني من معادن الجواهر المطبوع.
زيارة الأزهر
وكان ذلك أيام تعطيل الدروس الرسمية فذهبنا إلى الجامع فوجدنا شيخا يلقي درسا على الحاضرين كان قد فرغ منه فجلست أنا ورفاقي الشاميين فالتمس أحد التلاميذ من الشيخ أن يعيد لهم الدرس وهو في قصة الحكمين وكان قصده تبكيتنا - ونحن بزي أهل الشام - بما كان يتلاعب به معاوية وعمرو بن العاص بأهل الشام فقال له الشيخ لعل بعض الجالسين لا يروق لهم ما اشتمل عليه الدرس – يعنينا - فأصر عليه فأعاده وكلما وصل الشيخ إلى شيء يعاب على الشاميين التفت ذلك التلميذ إلينا حتى وصل إلى تلاعب عمرو بأبي موسى فقال التلميذ تشرفنا بأبي موسى.
إلى الحجاز
ثم ركبنا القطار إلى بور توفيق ومنها ركبنا في سفينة مصرية ونذرنا الإحرام قبل الركوب وأحرمنا ولما حاذينا الجحفة صفرت السفينة صفيرا عاليا إعلاما بالمحاذاة لأنه وضعت في البحر علامات تدل على ذلك فجددنا نية الإحرام والتلبية ولم نزل سائرين حتى وردنا جدة ومنها إلى مكة المكرمة فأكملنا أعمال عمرة التمتع وذهبنا إلى منى وعرفات وأتممنا فروض الحج ثم توجهنا إلى المدينة المنورة على ظهور الجمال.
العودة
فاستأجرنا من مكة المكرمة إلى الشام الخشب بأربعين ليرة عثمانية وهو مركب طويل له شقتان يركب فيه اثنان على بعير واحد والجمال قطاران تحيط بهما العساكر السلطانية يمينا وشمالا ففي أحد الجانبين كسكر شاهاني على بغال وفي الجانب الآخر (جندرمة) على خيل ذكور وبين كل واحد وآخر مرمى حجر وأمام الكل قائد معه مدفع على جمل فإذا وصل الحاج إلى المنزل أقام قسم من هذا العسكر بالتناوب حول الحاج ببنادقهم وبين الواحد والآخر مرمى حجر فيصيح الأول (كركون) فيجيبه الآخر (حازرون) ويصيح للذي بجانبه كركون فيجيبه حازرون حتى ينتهي الدور ويبدأ غيره فلا يزالون كذلك إلى الصبح ولما وصلنا إلى مكان يدعى المضيق وهو طريق ضيق بين جبلين جاء الخبر إلى أمير الحاج عبد الرحمن باشا اليوسف الكردي بأن الأعراب وقفوا ببنادقهم على أعلى الجبلين فإذا مر الحاج تناولوه بالرصاص فلا يفلت منهم أحد وكان لشيوخهم "خاوة" على السلطان فكان يبعث بها من إستانبول فكان يأكلها من يتولى إمارة الحاج مع مشاركة غيره فأرسل أمير الحاج تلك الليلة إلى شيوخهم فأرضاهم وجمع البيارق التي توضع عادة فوق الحجاج ونصبها حوله ليوهم الأعراب أن معه عسكرا كثيرا وسار الحاج في اليوم الثاني في ذلك المضيق بسلام ولم نزل نسير حتى وردنا المدينة المنورة وبعد قضاء الزيارة وأداء المستحبات خرجنا منها قاصدين الشام ولم نزل نطوي المنازل حتى وردنا القطرانة وكانت السكة الحديدية الحجازية التي ابتدئ بمدها من دمشق وصلت إلى القطرانة فركبنا فيها حتى وردنا دمشق وكان معنا في هذا الطريق ميرزا علي أصغر خان الصدر الأعظم في إيران الذي نفي من إيران وذهب إلى الحج وجاء إلى دمشق ثم إلى أوروبة ثم عين صدرا أعظم في إيران فذهب إليها ثم قتل غيلة وكان رجلا سخيا محبا للخير اجتمعنا به في طريق الحج ثم في دمشق ودعوناه إلى المدرسة العلوية التي كنا اشتريناها من الحاج يوسف بيضون حين سفرنا لهذه الحجة كما قدمنا ذكره فجلس فيها وطفنا به على حجراتها ثم أرسل في اليوم الثاني مبلغا للمدرسة كما مر وبنى في دمشق باب المشهد المنسوب للسيدة رقية وعملنا تاريخا هو منقوش على المرمر فوق الباب موجود للآن وأصلح مشهد رأس الحسين (ع) بجانب جامع دمشق وكتب على جدران القبة أسماء الأئمة الاثني عشر.
زيارة المدينة المنورة ثانيا وثالثا
تشرفنا بزيارة المدينة المنورة من دمشق ثلاث مرات (المرة الأولى) في الحجة الأولى سنة 1321 وقد مر ذكرها والمرتان الأخريان في عهد إمارة الشريف حسين بن علي على مكة المكرمة فذهبنا من دمشق إلى المدينة المنورة في السكة الحديدية الحجازية وذلك أيام "الرخصة" إذ كانت إدارة السكة تعطي "رخصة" في أثناء كل سنة لمن يريد زيارة المدينة بنصف الأجرة المعتاد أخذها فكانت الأجرة أيام "الرخصة" ثلاث ليرات عثمانية ذهبا ذهابا وإيابا في حين أن الأجرة في غير أيام "الرخصة" ثلاث ذهابا وثلاثا إيابا وذلك قبل الحرب العامة الأولى فوصلنا المدينة المنورة وكان الإعلام عن سير القطار فيها يحصل بالنفخ في البوق بدلا عن قرع الجرس وذهبنا في إحدى المرتين إلى العوالي ولم يكن أحد ممن ينسب إلى الدولة العثمانية يجسر على الدخول إلى تلك الأماكن خوفا من أهلها وكان الزائرون يصلون إلى مسجد قبا ويرجعون وقد نصبوا قرب مسجد قبا مدفعا فوق بناء عال ووجهوا فوهته إلى نحو طريق المدينة حتى إن عم خديوي مصر لما زار المدينة استأذن حاكم المدينة أهل العوالي في أن يسمحوا له في دخول العوالي للتبرك بالأماكن المشرفة والصلاة في مسجد الفضيخ فقالوا ليدخل على الرحب والسعة لكن لا يدخل معه عسكر فقال لهم الحاكم هذا عم الخديوي ولا يمكن أن يدخل بدون عسكر تعظيما له وإجلالا وأخيرا قر القرار على أن يدخل معه عسكر من عرب عقيل لأنهم عرب مثلهم فقبلوا بذلك ولما وصلوا إلى باب المسجد منعوهم من دخوله وقالوا لهم حدكم إلى هنا، وإنما سمي هذا المسجد مسجد الفضيخ لأنه كان في محله تمر فضيخ ليعمل خمرا فأراق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الفضيخ ورأينا في جانب المسجد حجرة فيها أطفال يتعلمون القراءة والكتابة وتحتهم حصير بال فأخذتنا الرقة الشديدة عليهم والذين في تلك البقعة كلهم من الشيعة فلما دخلنا تلك الحجرة نفر الأطفال منا نفار الغنم من الذئب وابتعدوا عنا وكلمناهم فلم يجيبونا بحرف واحد وطلبنا منهم أن يقرأ أحدهم شيئا من القرآن مما تعلمه فأبوا فسألناهم عن معلمهم فقالوا غائب فأخرجنا القطع الصغيرة من النقود المسماة بالمتاليك فلما رأوها تهافتوا علينا ففرقنا عليهم كل واحد قطعة وأعطى رفيقنا كمال أفندي الحلباوي الدمشقي خليفة المعلم ريالا مجيديا ليشتروا به حصيرا بدل حصيرهم البالي. وكان عندهم رجل من أهل العلم كنا نعرفه من النجف حين كان يتعلم فيها العلم فقلنا لهم نريد زيارته فقالوا هو يأتي لهنا فقلنا لا نحن نزوره في منزله فذهبنا فوجدناه في بهو متسع قد بناه جديدا وقد عاد هو كأنه شيخ هرم من شيوخ العرب فشربنا عنده القهوة وخرجنا إلى مشربة أم إبراهيم وهي علية كانت تسكنها مارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم ويبيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها ولا تزال قائمة حتى اليوم فأما أنها كانت تصلح وترمم حتى بقيت إلى اليوم أو أنها بني مكانها علية مثلها ولا بد أن يكون الوهابية هدموها فيما هدموه من آثار الأنبياء والصالحين وصلينا في دارها ودعونا الله بما شئنا وخرجنا فوجدنا جماعة ينتظروننا لكي نصلي على جنازة عندهم فقالوا أنا حفرنا أول قبر فانهدم قبل مجيئكم ثم حفرنا الثاني فتفضل وصل لنا على الجنازة فإن حظها كبير حيث انهدم القبر الذي حفرناه لها أولا وتأخر دفنها لتصلوا عليها فقلنا لو لم نحضر ما كنتم تصنعون قالوا كنا ندفنها بغير صلاة قلنا ولم لا تدعون فلانا العالم ليصلي على جنائزكم قالوا هو يقول لنا جيئوا بالجنازة إلى هنا، فعجبنا من ذلك ثم خرجنا إلى خارج المشربة وكان معي منظار فجعلت انظر به إلى جهة المشرق فرأيت رجلا مقبلا فلما نحيت المنظار عن عيني لم أره وكانت الأرض التي إلى جهة المشرق ذات حجارة سوداء وهم يسمون مثل تلك الأرض الحرة وكذلك هي لغة ومنها حرة وأقم لمكان جرت فيه وقعة مشهورة ثم وصل ذلك الرجل فإذا هو من شيوخ العوالي السنيين وعلى جنبه خنجر معكوف الرأس قرابه فضة وذلك علامة أنه شيخ فلما نظر إلينا وأنا لابس عمامة على طربوش ومعنا من يلبس طربوشا بدون عمامة ومن يلبسون عمائم على طرابيش ومعنا المنظار اعتقد أننا من أجزاء العثمانيين فقال للذي معنا من عرب العوالي "ويش هذول" قال زوار قال بل هذول دولة والله لو لم يكونوا معك لكان لي معهم شأن، وأصحابي لم يفهموا كثيرا مما قاله وتهدد به أما أنا ففهمت ذلك كله ثم انصرف فلما عدنا أخبر رفيقنا أصحابه نجما برى فأرسلوا إليه يعاتبونه ويقولون أتهدد ضيوفنا فاعتذر وقال ظننتهم دولة.
وفي المرة الأخرى كان قد حضر من النجف عالم من أهل العوالي اسمه الشيخ محمد علي الهاجوج فأردنا زيارته والصلاة في مسجدي قبا والفضيخ ومشربة أم إبراهيم وخرج معنا من المدينة الشريف علي بن بديري الحسيني وهو شاب يجيد اللغة الفارسية وكان حضر إلى دمشق وبقي في دارنا مدة طويلة، وكان يحدثنا يوما بالمدينة فقال يمكنني أن أقول هذا زبن علي كما زبن عليك أي استجار بي ولزم بيتي من قولهم زبن بالمكان أي أقام ومنه المزابنة عند الفقهاء فأخذناه معنا دليلا فذهب واعتقل بندقيته ونزع نعليه ووضعهما تحت حزامه وخرج يمشي معنا راجلا ونحن ورفقاؤنا الشاميون أيضا راجلون لأننا لم نجد دوابا نكتريها والفصل شتاء والأرض دهسة لا يصعب المشي عليها والمسافة قريبة وصادف أن الشيخ محمد علي الهاجوج الذي جئنا لزيارته جاء في ذلك اليوم لزيارتنا إلى المدينة واختلفنا في الطريق فجئنا إلى محله وجلسنا في ظل شجرة على حصير فسألنا عنه فأخبرنا أنه ذهب للمدينة لزيارتنا وقد قرب وقت الظهر فجاؤوا لنا بتمر ولبن حليب وقد مسنا الجوع فأكلنا حتى شبعنا بعض الشبع ورفعنا أيدينا وسأل هو عنا في المدينة فأخبر بمجيئنا إليه فعاد ووصل إلينا ثم دعا أباه وناجاه فقام وعلمت أنه قال له يصنع لنا طعاما فقلت له أننا مدعوون على العشاء الليلة عند السيد عمران الحبوبي ولا يمكننا التأخر فقال كيف يمكن أن تزورونا ولا تأكلوا زادنا فأقسمت عليه أن يرسل إلى أبيه أن لا يصنع شيئا فأرسل إليه فعاد الرسول قائلا قد ذبح خروفا وحضر أبوه فقال بعض رفقائنا الشاميين دعوا الذبيحة إلى غد واصنعوا لنا منها غداء فصاح به أبو الشيخ محمد غاضبا "اخمجها" فقلت للشامي أعطنا سكوتك ودعني أنا أكلمه فهذا ليس من شغلك وقلت لهم ذبيحتكم مأكولة فاصنعوا لنا منها غداء اليوم فقالوا هذا لا يمكن حتى نطبخ الأرز وتتعشوا عندنا الليلة فقلت للشيخ محمد علي أنت عربي وقد سكنت النجف أليس من كان مدعوا عند أحد ولم يحضر فعليه حشم أي أن يعمل دعوة لصاحب الدعوة والمدعوين معه وقد أخبرتكم أننا مدعوون الليلة على العشاء عند السيد عمران الحبوبي فرضوا بعد جهد أن يقتصروا على الغداء. وهم عندما يرحبون بالضيف يقولون يا هلا ومرحبا زارنا الغيث زرانا الغيث.
ومما حدثنا به والد الشيخ محمد علي الهاجوج – وهو شيخ كبير لكن عينيه كالسراجين وكذلك جميع أولئك الأعراب - أنه في سنة من السنين طلب المغاربة والبخارية المجاورين بالمدينة وأهل المدينة وغيرهم إلى حاكم المدينة العثماني واسمه سعيد باشا أن يجرد حملة على أهل العوالي ويعطي المغاربة والبخارية والمدنيين أسلحة ليكونوا مجاهدين مع الجيش فوافقهم على ذلك وخرجوا لضرب العوالي وقتل أهلها واستئصالهم وأخرجوا معهم مدفعا وأول ما فعلوه قبل الخروج للحرب إن قطعوا الميرة على أهل العوالي ووكلوا بالأبواب جنودا كلما وجدوا شيئا مع أهل العوالي من مأكل وملبوس سلبوهم إياه قال الهاجوج وكنت اشتريت من المدينة شيئا من الأرز لطبخه فأخذه مني ضابط في بعض الأبواب فقلت له هذا شريته لغذائنا فقال كلوا برسيم وهو الذي يسمى في العراق "قت" وفي سورية "فصة" يستعمل لعلف الدواب حال كونه اخضر ثم توجهت الحملة إلى العوالي فجعلت تقطع النخيل الذي في طريقها لأهل العوالي لئلا يعوقها عن الحرب ونصبوا المدفع على ربوة وبلغ الخبر أهل العوالي ولم يكن لهم سابق علم بذلك وكانوا متفرقين في أعمالهم فلم يجتمع منهم سوى ثلاثين رجلا منهم والد الشيخ محمد علي الهاجوج وبينهم عبد فهجموا ببنادقهم على المدفع وهو يقذف بقنابله وصعدوا الربوة فقتل العبد وسلم الباقون فأسروا المدفعي وهو الذي أخذ الأرز بباب المدينة وقال كلوا برسيم فخاف كثيرا لما كان سلف منه من الإساءة فقالوا له كن مطمئنا فأنا لا نقتل الأسير بل نكرمه وانهزم العدو وجعل يلقي سلاحه في الأرض وهم وراءه يقتلون منه ولم يزالوا يتبعونهم حتى دخلوا المدينة وأغلقوا أبوابها ولم يجسروا على الخروج لدفن قتلاهم فكانوا يعطون النخاولة عن كل قتيل خمس ليرات عثمانية ذهبية لينقلوه لهم إلى المدينة فيدفنوه.
والنخاولة حلف مع حرب الممتدة من مكة إلى المدينة وفي كل عشرين سنة يكتبون بينهم كتابا بهذا الحلف تبقى نسخة منه عند النخاولة وأخرى عد حرب ويتضمن هذا الكتاب المتضمن لهذا الحلف أن على حرب أن ينصروا النخاولة إذا تعدى عليهم عدو وليس على النخاولة أن يحاربوا مع حرب فكان الركب عن النخاولة وفيه ستة أشخاص أو أقل يأتي للحج ويعود آمنا مطمئنا لأنه حلف مع حرب في حين لا يقدر الحاج الشامي ولا غيره ومعه عسكر الدولة أن يسافر بين مكة والمدينة إلا بخاوة يدفعها لرؤساء القبائل. وفي حجتنا الثانية سافر ركب الحاج من مكة للمدينة فما زالوا يدفعون الخاوة حتى قاربوا المدينة ورأوا القبة الشريفة وكان هناك رئيس يلقب بالأحمدي فطلب منهم خاوة وكان قد نفد ما معهم فمنعهم من دخول المدينة وعادوا إلى مكة لذلك لم نتمكن نحن في تلك السنة من زيارة المدينة المنورة. أما أهل العوالي فبينهم وبين حرب محالفة الند للند وحرب يعدونهم فرقة منهم فلما وقعت هذه الواقعة أركب أهل العوالي رجلا - على قاعدة أعراب تلك البلاد - ناقة قد "شحروها" أي طلوها بالسواد ووجهه إلى مؤخرها وقد شق قميصه وأرسلوه إلى أحياء حرب والعادة أنه متى رآه الأعراب بتلك الحالة علموا أنه مستنجد فهبت حرب حينئذ إلى سلاحها وذهبوا سراعا إلى الطريق التي بين ينبع والمدينة التي تأتي منها البضائع بحرا وتنقل على ظهور الجمال إلى المدينة فاستولوا على ما وجدوه منها في الطريق وكلما خرجت بضاعة من البحر استولوا عليها فضاق الخناق بسعيد باشا. وبأهل المدينة فطلبوا الصلح فاصطلحوا على أن يكون ما قتله أهل العوالي هدرا وما أخذوه من السلاح وما أخذته حرب من البضائع لأخذيه لا يطالبون بشيء منه وانتهى الأمر على ذلك وقال بعض أهل العوالي شعرا زجليا يذكر فيه هذه الوقعة علق بذاكرتي هذان البيتان:
عينيك يا من صاح في قصور العوالي | حنا حمى راسك الياجاك الدهوم |
سعيد باشا ما فيه لا صلح وموالي | واللوم يغشى شارب المايتوم |
ثم إن الشريف علي بن بديري عاد بنا من طريق من جهة الشرف غير الطريق التي جئنا منها وكانت من جهة الغرب لأن هذه أقرب فثان يمر على أهل العوالي وهم مضطجعون على السطوح فيسلم عليهم فيردون محليه السلام ويقولون يا علي تفضلوا تقهووا فيقول لا بالله متقهوين حتى دخلنا المدينة من شرقها فلما قربنا منها قال لنا أسرعوا فالطريق منا غير مأمون والسكان هنا ليسوا من أهل العوالي. ورأينا هناك الحنظل وفسيل النخل.
زيارة بيت المقدس
وفي هذه السنة أي سنة 1321 ذهبنا من دمشق لزيارة بيت المقدس ومشاهد الأنبياء فيه على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسلام ونزلنا في تكية النبي داود (ع) وهذه التكية أنشأها السلطان سليم العثماني ووقف لها أوقافا ينزلها الزائرون ويؤتى بالطعام وزارنا فيها الشيخ حسن متولي التكية ومعه رجل مثر من أهل يافا قيل لنا أن عنده 14 بيارة لزرع البرتقال والليمون والحمضيات وغيرها في يافا من عنده بيارة واحدة يعد غنيا ودعانا اليافي إلى ضيافته عند الرجوع لكنا لم نتمكن من ذلك وقال لنا الشيخ حسن في حديثه إنني ذهبت مرة لدمشق فاستخرت الله أن أنزل عند فلان أو فلان وعدد أشخاصا فلم تكن الاستخارة جيدة فاستخرت الله أن أنزل عند الشيخ عطا الكسم فجاءت جيدة فنزلت عنده، وأمر الشيخ حسن ابن أخته الشاب الشيخ أحمد أن يصحبنا طيلة إقامتنا في القدس ففعل، ولما دخلنا مسجد الصخرة ونزلنا إلى أسفلها رأينا عمودين صغيرين فوقهما قوس صغير مقرنص فسألنا الخادم عنه فقال إنا نقول للعامة هذا لسان الصخرة الذي كلمت به النبي صلى الله عليه وسلم أما أنتم من أهل المعرفة فلا نقول لكم هذا. ثم ذهبنا لزيارة المشهد المنسوب إلى موسى (ع) وهذا المشهد المنسوب إليه غير محقق واليهود لا يزورونه بل ينكرون أن يكون قبره هناك ويقولون أنه توفي في التيه ومحل قبره غير معلوم على التعيين إنما المعلوم أنه في التيه (أقول) وإنما ظهر هذا القبر في عهد صلاح الدين الأيوبي فجعل المسلمون يزورونه في يوم عيد الصليب فلا يفتح في السنة إلا مرة واحدة ويوم زرناه كان مقفلا وذهبنا إليه في العربة وكانت الطريق معبدة من القدس إلى الشريعة في مكان ما يقولون أنه غسل عيسى (ع) حين ولادته فشق فرع للطريق من محاذاة مشهد النبي موسى ورأينا النصارى الروس يلثمون الصخور في الطريق الذي يقولون أنه مر فيها بعيسى حين ولد وذلك قرب القدس وبعد الزيارة سألنا الشيخ أحمد هل بقي مزار غير هذا فقال نعم مزار الشيخ حسن الراعي فقلنا ومن هو الشيخ حسن الراعي؟ فقال هو راعي سيدتنا عائشة فذهبنا وزرناه مع علمنا بأن السيدة عائشة لم تأت فلسطين ولم يكن لها راع يسمى الشيخ حسن.
الزيارة الثانية
وتشرفنا أيضا بزيارة بيت المقدس بعد ذلك من جبل عامل بعد الحرب العامة الأولى والاحتلال الإنكليزي مرة ثانية فلما دخلنا مسجد الصخرة جاء الخادم فنظر إلينا ونحن جماعة وفال لابنه هات الكبة (أي الجبة) فجاء بها ووضع يده على الصخرة وطلب إلينا وضع أيدينا عليها وابتدأ يقول السلام عليك يا صخرة الله فقلت له لا يلزم هنا خلط هذا مسجد ليس فيه إلا الصلاة والدعاء. فقال لي يا سيدي لم أسمع هذه الكلمة من غيرك نعم هذا مسجد ليس فيه إلا الصلاة والدعاء. فصلينا ودعونا وحضر وقت صلاة العصر فجاء بنا إلى زاوية من المسجد وأجلسنا هنا فقلت له لم أجلستنا هنا نحن نريد أن نصلي جماعة فقال يا سيدي أنتم تصلون معنا فقلت ولم لا نصلي معكم ألسنا وأنتم مسلمين فقال تفضلوا فقمنا وصلينا العصر مع الإمام وبعد الفراغ تصافحنا، وشاهدنا اليهود في المبكى وهو بجانب حائط المسجد الغربي من خارجه وجندي إنكليزي يمنع الناس من الدخول إلى محل المبكى فنظرنا المبكى من خارج واليهود مجتمعون فيه، واجتمع المشايخ في مكان تحت المسجد بقرب المبكى وأقاموا حلقة ذكر وبالغوا في الضرب على الدفوف وعلو الأصوات ليشوشوا على من في المبكى. وذهبنا إلى كنيسة القيامة فرأينا شيخا مسلما يلبس العمامة البيضاء جالسا على دكة في الدهليز فسألنا عنه فقيل لنا حيث إن النصارى فرق عديدة فكل فرقة تطلب أن يكون القيم منها جعلت الحكومة قيما مسلما ثم صعدنا إلى الأعلى فوجدنا الزائرين منهم من كهيئة الراكع مدة طويلة ومنهم على هيئات أخرى تعبدا لله تعالى ثم نزلنا إلى الأسفل فرأينا المكان الذي يزعمون أنه دفن فيه عيسى (ع) وذهبنا إلى بلدة الخليل (ع)، ومشهده مبني بالصخور العظام العادية فابتدأ الخادم يتلو علينا زيارة أول قبر فلما فرغ أنشأنا زيارة فلما جئنا إلى القبر الثاني قال يا سيدي زر أنت فأنا لا أقدر على مثل زيارتك ويظهر أن القبور هناك هي تحت الطابق الفوقاني من الأرض، وهناك بئر يسمونه بئر الأرواح لم نعرج عليه لظننا أنه من نوع المخرقة. وفي سنة 1341 تشرفنا بالحج مرة ثانية في عهد الملك حسين بن علي بعد انتهاء الحرب العامة الأولى من طريق مصر وكنا يومئذ في جبل عامل فدعانا جماعة من أهل دمشق للذهاب معهم إلى الحج وتعهدوا لنا بالزاد والراحلة وعملنا في ذلك رحلة تذكر في الرحلات "انش" بعنوان الرحلة الحجازية الثانية.
في الحرب العامة الأولى
لما وقعت الحرب العامة الأولى التي ابتدأت سنة 1332 وانتهت سنة 1336 كنت في جبل عامل فخطر لي نقل العيال والأولاد إلى دمشق ومنهم من هو في سن العسكرية ظنا مني أن ذلك أبعدهم عن الخطر فنقلتهم وبعت جميع ما عندي من الحبوب المتنوعة في شقراء ومبلغه سبعمائة مد بعتها جميعها بأبخس ثمن كل مد بسبعة قروش وبلغ ثمن المد بعد ذلك 14 ريالا مجيديا.
في جبل عامل
ثم رأيت وجودنا في شقرا أبعد عن الخطر فعدت إليها مع العيال والأولاد. ولاقينا في ذلك شدة ورخاء وعسرا ويسرا ووصل الحال إلى أن لم يبق عندنا من القوت شيء لأنا كنا قد بعناه جميعه بأبخس ثمن ثم وقع الغلاء المفرط فيسر الله تعالى ما اقتنينا به بقرا وماعزا وغنما وفرسا وإتانا واستعملنا الفلاحة فدرت علينا ما نمون به العيال والأطفال.
ووقع الوباء في جبل عامل المسمى بالهواء الأصفر "الكوليرا" حتى إنه مات في يوم واحد في قريتنا شقرا وهي قرية صغيرة اثنا عشر نفسا وكان الوقت صيفا ودخل في أثناء ذلك شهر رمضان وامتنع الناس من تغسيل أمواتهم ودفنهم حتى الأخ من تغسيل أخيه وحمله إلى قبره ودفنه خوفا من العدوى وزاد في الطين بلة أن "الجندرمة" كانت تجول في القرى تطلب الفارين من الخدمة العسكرية فأغلق الناس بيوتهم وأقفلوها واختبأوا فيها فوظفنا لتغسيل الرجال رجلا فقيرا يسمى علي زين ولتغسيل النساء امرأة تسمى عمشا بنت الذيب فكان كلما توفي واحد يغسله علي الزين أو عمشا ونذهب إلى البيوت ندق عليهم الأبواب ونقول لهم أخرجوا ولا تخافوا من "الجندرمة" فأنا معكم فيخرجون ويحملون الجنازة وأنا خلفهم ومع ذلك إذا وصلوا إلى منعطف يتسلل بعضهم فلا أزال معهم حتى نصلي على الجنازة وندفنها ونعود إلى البيت فما نكاد نصل حتى يأتينا خبر جنازة أخرى فنذهب إلى أن ندفنها وهكذا طول النهار. وتوفيت امرأة فقيرة فأبى كل أحد أن تغسل قرب بيته وكان هناك خربة فقلت غسلوها فيها فأبى ذلك الجيران فقلت غسلوها في المعصرة ففعلوا ولم نجد من يحملها فصادفنا رجلين وامرأة فألزمتهم بحملها فحملوا جوانب النعش الثلاث وحملت أنا الربع إلى أن صادفنا رجلا فحمل مكاني ثم صادفوا مني غفلة فانسلوا وتركوا الجنازة في الزقاق إلى أن فاجأنا جماعة فألزمتهم بحملها فحملوها، وأما أقرباؤنا فخرجوا من القرية إلا قليلا منهم فبعضهم ذهب إلى الصوانة وبعضهم إلى صديق (مكان قرب تبنين) وفي ذلك أقول:
قل للذين إلى (الصوانة) ارتحلوا | ومن أناخوا المطى في أرض صديق |
لو تعلمون الذي قد حل بعدكم | بنا من الدهر من كرب ومن ضيق |
ترى الأنام سكارى من جواه وما | ذاقوا السلافة من دن وراووق |
ضيف جديد به الأرواح أضيع من | كتاب ربك في أبيات زنديق |
ضيف جديد به القراء قد نفقت | أسواق من كان منهم كاسد السوق |
لا مرحبا بك يا ضيف الهموم ولا | أهلا بوجهك فارحل غير موموق |
(وأم ملدم) مع ما بالورى فعلت | أقل منك أذى يا شر مخلوق |
ولست تلقى لركعات الهدية من | شخص يصلي ولو صوت في البوق |
"عمشا" كذاك "علي الزين" أنفق من | شاي ومن سكر في وسط إبريق |
أما أنا فخرجت من البيت وبنيت خيمة بالقرب منه تحت شجرة زيتون فكان أهل القرية يأتي أحدهم فيقف وراء الحائط ويخبرني أن عنده مريضا بهذا المرض فأقول له اسقه الشاي ولولا قيامي بدفن الأموات لدفنوا بغير غسل ولا كفن وأهيل عليهم التراب أو أكلتهم الجرذان والكلاب. ثم أمرت أهل القرية أن يخرجوا من البيوت إلى الكروم ونحوها ويتفرقوا ففعلوا فخفت وطأة المرض عنهم وكان لنا جار من أقربائنا فتوفي بهذا المرض فقال أهل البيت نريد أن نذهب من هنا إلى بعض الأماكن التي ليس فيها وباء قلت ذلك إليكم أما أنا فباقي هنا حتى يرتفع هذا الوباء قالوا إنما نريد الذهاب لأجلك فقلت أنا غير ذاهب، وكان هذا المرض قد أصاب أهل القرية قبل ذلك بمدة ومات به جماعة لكن أهل القرية لم يعرفوه ولم يعرفه أحد غيري فكتمت ذلك عنهم حتى لا يدب فيهم الذعر إلى أن جاءني يوما بعض بني عمنا يقول إن زوجتي أصابها شيء كأنه الهواء الأصفر فقلت بلى هو هو فاصفر وجهه وسمعني آخر من بني عمنا فاصفر وجهه وخرج صباحا بأهله من القرية. أما أنا فسلمت من هذا المرض ولم يصبني وقال لي أهل بيتنا لا شك أنه سيدفع الله عنا لما نسمعه من أهل القرية من الدعاء لك، وضاقت بنا أمور المعيشة فكنا نشتري الذرة البيضاء المد النباطي بثلاثين إلى اثنين وثلاثين قرشا فنقتات به ونشتري لأخت لنا في مجدل سلم ما يكفيها وبناتها الثلاث فكنا نطبخه مع اللحم كما نطبخ الأرز ونجرشه ونعمل منه مع اللحم كبة بالصينية ونطبخه مع الحليب كالأرز بالحليب ودعينا مرة لتشييع جنازة في بنت جبيل فوضعوا طعاما فاخرا كالذي كان يصنع قبل الحرب لأن أهل بنت جبيل كانوا يبيعون ويشترون أبان الحرب فأثروا من ذلك وكان معنا جماعة من العلماء فلما وضع الطعام تهاووا عليه بنهم زائد أما أنا فرفعت يدي من الطعام ولم أستطع أن أسيغه - وإن كنت مثلهم – تألما من حالتهم.
وفي هذه الأثناء طلب أهل العلم للخدمة العسكرية ولم يكن لهم من مخلص منها إلا إمامة الجوامع وكان القانون العثماني لا يقبل لإمامة الجامع إلا من كان عنده براءة سلطانية أو مراسلة شرعية والشيعة ليس عندهم شيء من ذلك فبقوا حائرين وحضروا إلى صيدا يتداولون في الأمر وأرسلوا إلى الوالي يسترحمون إعفاءهم من البراءة السلطانية والمراسلة الشرعية إذ لا يوجد عند واحد منهم ذلك واتفق إن حضر إلى بيروت عدد كثير من شيعة جبل عامل طلبوا للخدمة العسكرية وساروا بمظاهرة حماسية نحو سراي الوالي وانضم إليهم أضعافهم من المتفرجين فلما رأى الوالي هذا الجمع سأل عنه فأخبر أنهم أهل جبل عامل جاؤوا متطوعين في الجيش فأبرق الوالي حالا إلى استانبول يخبر بذلك ويطلب إعفاء أئمة الجماعة من البراءة والمراسلة فجاءه الجواب بأن أئمة الجوامع من الشيعة معفوون من الخدمة العسكرية ولا يشترط أن يكون معهم براءة ولا مراسلة وجاءت البشارة بذلك إلى صيدا وغيرها. واتفق أن بعض من ليس معه براءة ولا مراسلة من إخواننا السنيين جاء يطلب إمامة جامع مدعيا أنه شيعي فرد طلبه لأنه معروف بغير ذلك.
وكنت أخذت وثيقة بإمامة جامع فاضطررت إلى الذهاب لصيدا للتأشير عليها وكان رئيس الدائرة بكباشيا اسمه إسحاق أفندي وتحت يده أحد المنتسبين إلى العلم من جبل عاما سمسارا لأخذ الرشوة فأخذ منا أربعة مجيديات لقاء التأشير وذهبنا إلى (اللوكنده) لنبيت فيها فقال لنا صاحبها أعطوني أسماءكم ووثائقكم لأريها لمن يحضر ليلا من العسكر فلا يزعجوكم فأبى صاحبي فلما كانت الساعة الرابعة تقريبا جاء اثنان من العسكر ببنادقهما وطلبوا الوثيقة من صاحبي وجعلا يعتلان ويزعجانه وكان معنا في الحجرة شيخ شائب فجعلا يزعجانه وهو يقول لهما في جملة كلامه أنا كنت اليوم عند البكباشي فيقول له أحدهما هب إنك كنت عند المشير فأنا أريد منك وثيقة فما انصرفا إلا بشق الأنفس وكان سبب ذاك حماقة صاحبي أما أنا فلم يتعرضا لي بشيء. وكنت هيأت قبل الذهاب إلى صيدا ثمن عدلين من الذرة وكان عندنا دابة واحدة فطلبنا من جيراننا عارية دابة لنأتي بالذرة من برعشيد وعهدنا إلى من يأتي بذلك فصادف أنه في اليوم الثاني شغلت دابتهم وفي اليوم الثالث صار سعر المد 14 ريالا مجيديا فلما عدنا من صيدا وجدنا أن ما معنا لا يكفي لشراء مد واحد ونحن نصرف في كل يوم ما يقارب ثلاثة أمداد فصرنا نقتات من الحلبة بعد أن نحليها بالماء ونطبخها ونشتريها بالمثاقيل أو نقتات من نبات الأرض بعد أن نطبخه ونضع له شيئا من الملح والزيت إن وجد. وإن كان عندنا شيء من شعير أو حنطة مخلوطة بالتراب وغيره جهد العيال في تنقيته وخبزوا منه أرغفة ووضعوها في الصندوق وأقفلوه وأعطوا كل واحد من الأولاد كل يوم قطعة رغيف وكان الناس يأكلون البلوط ويطبخون الباقية المعدة لعلف الدواب ويخبزونها ويأكلونها فسمع باسمها أحد أولادنا الصغار فظنها خيرا من الشعير فقال اصنعوا منها خبزا لا من الشعير فلما ذاقها عافها ورجع إلى الشعير، وكثر الشحاذون فجعل أهل البيت يتبرمون بهم فقلت لا ترجعوا أحدا خائبا وأعطوا أحدهم ولو بقدر البشلك ثم حلينا الترمس وجعلنا نعطي السائل حبات منه. وجاءني يوما الحاج محمد مبارك وكان من أهل النعمة عند خليل بك الأسعد وأسلافه وأبوه مبارك كان عبدا أسود تزوج بامرأة بيضاء فخرج أولاده مثلها فقال لي أنا جوعان فقلت له من ساواك بنفسه ما ظلمك ليس عندنا غير الحلبة وأحضرت إناءين أحدهما له والآخر لي فقال ألا يوجد لبن فقلت بلى وجئت بإناء من اللبن وتغدينا من الحلبة واللبن بغير خبز وقال معي كتب وأريد بيعها فهل تشتريها فوجدت جلها طبع إيران وعندي منها ووجدت بينها شرح الحماسة للخطيب البغدادي فأعطيته أربع مجيديات وأخذته وهو لو أعطيته ربع مجيدي لقبل لكني لم أحب أن أشتريه إلا بزيادة عن قيمته. ثم جاء موسم الفول فكان فيه الفرج وجعل الناس يطبخونه أو يضعون عليه الملح ويأكلونه أو يضعون عليه المخيض ويأكلونه والزيت كان معدوما. ثم دخل موسم الحنطة والشعير والعدس وغيرها والثمار ففرج الله عن الناس وانقضت تلك السنون العسرة كما قال الشاعر:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها | فكأنها وكأنهم أحلام |
وانتهت الحرب العامة الأولى ونحن في جبل عامل كل مدة الحرب.
في الهرمل
حضر أثناء الحرب إلى شقراء اثنان من أهل الهرمل وطلبا إلينا أن نذهب إلى الهرمل لتدارك أمر فيه إصلاح بين فئتين متنازعتين على ميراث خطير ويخشى من بقاء النزاع وجود مفاسد كثيرة عظيمة ويتوقف تدارك ذلك على حضورنا فسافرنا معهما ولما وردنا بيروت وجرنا السفر صعبا جدا فطلبنا إلى بعض الأصحاب تسهيل أمر سفرنا فقال لا يمكن ذلك إلا بحضوركم لدائرة البوليس وأخذ رخصة للسفر فأصر علينا الرجلان والتمسا حضورنا للدائرة ولو كان في ذلك حزازة ومشقة علينا رغبة في الإصلاح بين المؤمنين فحضرنا ووجدنا الدائرة ملأى من الناس والجلاوزة تطردهم طرد الغنم فهممنا بالرجوع، فرجا منا الرجلان إتمام السعي فلما وصلنا إلى باب الدائرة ورآنا الرئيس وهو تركي أوعز إلى الحاجب أن لا يمنعنا من الدخول فدخلنا إلى الشرطي المكلف بكتابة الجوازات وهو بيروتي فلم يلتفت كثيرا وبقي مشتغلا بعمله فلما رأى ذلك الرئيس أشار إلينا بالحضور إليه وأخذ في كتابة الجواز لنا مع أن ذلك ليس من شغله واندس بيننا رجل ذو هيئة وهندام وثياب فاخرة ووضع ورقته بين أوراقنا خلسة فنظر إليه الرئيس شزرا ولما أتم كتابة جوازاتنا قال في أمان الله خجا أفندي ونفخ ورقة الذي اندس بيننا فأطارها ووقعت على الأرض وأخذها صاحبها وعاد من حيث أتى.
وكانت المسألة التي طلبنا للهرمل لأجل فصلها أن رجالا مثريا يسمى الحاج محمد علي المقهور تزوج امرأة من آل بليبل وتوفي وهي حامل فولدت ذكرا وادعى أهل زوجها أنها ولدته ميتا فلا ميراث له وادعت هي أنها ولدته حيا ثم مات فورث أباه ثم ورثته هي.
ولما دخلنا الهرمل وجدنا المسألة قد وصلت إلى الحاكم وقد سيق أخو الزوجة مخفورا إلى بعبدا فقلنا لهم إذا كان مرادكم مراجعة الحاكم فلماذا أزعجتمونا وأحضرتمونا لهنا - وظننا أن الحالة عندهم كما هي الحالة في بلادنا متى وصلت المسألة للحاكم لم يمكن حلها حتى يعجز الطرفان أو أحدهما - فقالوا الآن نرسل للمدير ويرجع أخا الزوجة ويفرج عنه ولا يكون إلا ما تأمر به وتحكم.
وفي الصباح حضر المدير وهو تركي ابن أخت علي رضا باشا قائد عموم جبل لبنان واسمه نوري أفندي وقائد الدرك وهو درزي وحاكم الصلح المكلف بفصل الدعاوى وهو مسيحي. جاء الثلاثة لينظروا من هو هذا الذي جاء لفصل هذه الدعوى المهمة وبعد ما تحدثنا معهم مدة خرجوا وقال المدير أنا أرسل إليك أوراق الدعوى لأجل فحصها لكنه جعل الحاء المهملة خاء معجمة وقال لمن معه (أنا هذا السيد عجبتو) أي أعجبني ثم أرسل إلي أوراق الدعوى وفي اليوم الثاني صباحا حضر المتداعيان وكيل الزوجة ووكيل آل المقهور وحضر المدير والقائد وحاكم الصلح ليروا كيف تكون هذه المحاكمة التي لم يروا مثلها فطلب المدير افتتاح المحاكمة بقراءة القرآن فجاء سيد يحفظ القرآن فلم يرض المدير أن يقرأ لأنه كان يستثقله وبالحقيقة كان ثقيلا وكان معنا شيخ فقلنا له أن يقرأ حزبا من القرآن فلم يكن يحفظ ولم يتيسر إحضار قرآن.
وافتتحت المحاكمة فقال وكيل الزوجة إن الولد ولد حيا ثم مات وقال وكيل آل المقهور إنه ولد ميتا وكان الظاهر أن القول قول الزوجة لموافقته استصحاب الحياة وأن أولئك مدعون فطلبنا حضور القابلة والنساء اللواتي حضرن الولادة فذهب من يحضر القابلة وعاد قائلا أنه لم يجدها وذهب من يحضر باقي النساء فكان جوابه كذلك فعلمت أنه ما دام الحاكم له يد في المحاكمة يصعب حضورهن ولاح لي أن الولد ولد حيا واستهل ثم مات فصعب عليهم أن ترث أمه سهمه البالغ على الأقل ألف ليرة عثمانية ذهبا ثم تذهب تتزوج وتعطي أموال زوجها الأول لزوجها الثاني، وأن الأوفق فصل الدعوى بوجه الصلح فقلت للمدير دع هذه القضية وأنا أنهيها لك في وقت قريب فذهب ومن معه وقلت للجماعة اختاروا رجلا من آل بليبل ذا عقل ودين يرضى به آل المقهور واختاروا آخر ذا عقل ودين يرضى به آل بليبل ففعلوا وخلوت بهما ومعنا كاتب فقلت لهما قوما ما يملكه الزوج بقيمة تقطعان أنه لا يساوي أقل منها ففعلا فكان ما ترثه الزوجة من ولدها لو كان حيا ثمانون ألفا من القروش أي ما يعادل ثمانمائة ليرة عثمانية ذهبا فقلت لهم قد حكمت بأن تعطى الزوجة نصف هذه القيمة صلحا فقال الفريقان قبلنا ورضينا وأحضروا المبلغ أكثره نقود وبعض من الذرة الصفراء وأعطي للزوجة وكتبنا لهم وثيقة وأعطيناهم إياها وأحضرنا كاتب العدل فسجل ذلك.
ومما قاله لنا المدير في حديثه نحن الأتراك ابتلينا بخازوقين خازوق الامتيازات وخازوق الدين. فقلت له أما خازوق الامتيازات فنعم وأما خازوق الدين فالذي ابتليتم به خازوقا ترك الدين لا خازوق الدين ولو مشيتم على ما أمركم الله به من قوله: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة لما وصلتم إليه.
وكان في ذلك الوقت المشايخ آل حمادة الكرام منفيين من قبل الأتراك إلى الأناضول وحضر منهم شخص ونحن في الهرمل يدعى أبو نزهة قد أفرج عنه الأتراك فلم ينزل في داره ونزل في دار أخرى وقال ما دامت ديار أهلي منهم خالية فلا أنزل في داري فكان ذلك منه غاية الشهامة وعلو النفس وكرم الطبع وحضر معنا بعض الدعوات فأنشد في غضون الحديث شيئا من ركبانية ابن الخلفة وكنت أحفظ أكثرها فأنشدت له ما غاب عنه منها.
ثم خرجنا من الهرمل وأرسل المدير كتابا إلى الضابط الذي في محطة الراس وهو تركي من بلده يوصيه بتسهيل سفرنا وكان السفر في تلك الأوقات عسيرا بسبب الحرب فقال الضابط أنا لا أحتاج إلى توصية وإذا كان رجل مثلكم من العلماء ومن الذرية الطاهرة لا يمكن أن أقصر في خدمته فأكرمنا وأجلسنا على فراشه وجلس هو ناحية وصنع لنا طعاما وأنامنا في فراشه وبقي هو ساهرا ينتظر القطار وكان الركوب فيه محظورا لغير العسكريين فأركبنا فيه وأوصى المتولي أمور القطار بنا وقال له هؤلاء من أقاربي فأوصلنا إلى رياق.
ومن السوانح التي اتفقت لنا في تلك المدة (والحديث شجون) إننا كنا في تشييع جنازة في بعض القرى فشرع بعض من ينسب إلى العلم في قراءة خطبة لأمير المؤمنين (ع) وقرأ منها (والنفس بينهما متجاذبة) بكسر الذال فقال له رجل من صغار أهل العلم متجاذبة وفتح الذال فغضب المنسوب إلى العلم من ذلك وبلغني أن بعض ذويه أرادوا ضرب من غلطه لكنهم خافوا عاقبة ذلك لأن أهل قريته أشداء، فقلت يا سبحان الله أن من ردني عن غلط يجب أن يكون له منة علي لا أن أغضب منه فهو كمن يرى ثوبي ملطخا بالطين أو ببعض الأقذار وينبهني عليه فهو يستوجب مني المدح والامتنان لا أن أغضب منه لكن هذا يصدق ما ورد (ما تكبر امرؤ إلا لنقص يراه في نفسه).
ذهبنا لدمشق بعد الحرب العالمية
الأولى للسلام على الأمير فيصل
لما انقضت الحرب العالمية الأولى ودخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق وذلك حوالي سنة 1339 بقي الجيش الإنكليزي والأمير فيصل فيها سنة كاملة ثم خرج الإنكليز منها وبقي الفرنسيون في الساحل فقال الإنكليز لفيصل قد صارت المسألة عربية افرنسية.
فذهبنا مع لفيف من العلماء والزعماء وبتنا في طريقنا مع اثنين من العلماء ورجل من الوجهاء في جباثا الزيت عند الوجيه سعيد العاص هو رجل مضياف ذو كرم وإكرام للضيف يندر وجود مثله. ثم دخلنا دمشق وهنأنا الأمير فيصل. واجتمع جماعة من شبان محلة الخراب وطلبوا مني أن ادعوا فيصلا إلى وليمة يقيمونها له فذهبت إليه وقلت له إن أهل محلة الخراب يرغبون في أن تتنازلوا وتشرفوا محلتهم لوليمة غداء أو عشاء فقال أنا عاتب على أهل الخراب قلت لماذا قال لأنهم ما جاؤوا للسلام علي فدهشت لمفاجأته لي بهذا الجواب ولم أكن أعرف أنهم لم يجيئوا إليه قلت له على الفور قد جاؤوا ولم يخبرك أحد بمجيئهم وقلت هؤلاء شيعة جدك فيلزم أن يكون لهم التفات خاص منك فقال شيعة جدي ولكن ما جاؤوا لعندي فقلت له قد أخبرتك أنهم جاؤوا ولكن لم يخبرك أحد بمجيئهم. فأجاب إلى وليمة عشاء مع علمه بأنهم لم يجيئوا وإن ما قلته مجرد عذر ولما كان قريب الغروب حضر بعربته وقد اصطف طلاب المدرسة له على الطريق صفين ورددوا النشيد وارتفعت (السواريخ) إلى عنان السماء فلما وصل إلى قريب المدرسة ترجل وقد زين الزقاق وفرش بأنواع الطنافس وخرجت لاستقباله وقد جيء بكبش فذبح فقلت له أن يمر فوقه ففعل ودخل المدرسة وقد زينت بأنواع الرياش والضياء فسر كثير وحضر وقت صلاة المغرب فطلب مكانا يصلي فيه ودعاني وائتم بي وأراد رضا باشا الركابي أن يقوم فيصلي معه فقال له مكانك ونصبت المائدة وتعشى وتعشينا معه ولما أراد الانصراف قال لي من هو القائم بشؤون المدرسة فأخبرته م أنني القائم بشؤونها، وقال حقا لقد برهن أهل محلة الخواب على إخلاصهم في التشيع وأرسل في اليوم الثاني سبعين ليرد مصرية إعانة للمدرسة.
العودة إلى جبل عامل
وبعد ما انقضت مراسم الملاقاة للأمير فيصل والسلام عليه التي حضرنا لدمشق لأجلها عدنا إلى جبل عامل ومعنا الشيخ شحاذة الغساني فبتنا في الليلة الأولى في خان ميسلون فوجدناه يعج عجيجا باللبنانيين العائدين إلى أوطانهم رجالا ونساء وأطفالا وبعد الجهد تمكنا من أخذ لحاف وفراش بالأجرة من صاحب الخان وبتنا بين تلك الجموع وفي الصباح توجهنا قاصدين أرض البقاع وقبل الوصول إلى قلابات عين فجور وجدنا الشمس قد مالت إلى الغروب وليس أمامنا قرية يمكن الوصول إليها قبل الغروب ورأينا عن يمين الطريق بناء بين كرم العنب فسألنا عنه فأخبرنا أنه خمارة يعصر فيها العنب ليعمل خمرا فأبينا المبيت فيها وأخبرنا أن عن يسار الطريق قرية تسمى الذنيبة تبعد عن الطريق مسافة ساعة ونصف ساعة فعرجنا عليها لنبيت بها في الليلة الثانية من خروجنا من دمشق وصلينا المغرب والعشاء على عين لها خارج البلدة ثم دخلنا البلدة فأبوا أن يضيفونا مع أننا لم نستطعمهم لأن طعامنا كان معنا فقصدنا أولا إلى دار شيخ البلد وهي أحسن دار فيها محكمة عالية الباب فقلنا لهم نريد المبيت عندكم فقط ولا نكلفكم عليق الدابة فقالوا عندنا مرضى فخرجنا إلى ساحة البلد وحل أهل القرية هناك فقلنا لهم كما قلنا لأهل دار الشيخ فلم ينبسوا ببنت شفة وأخذوا يتفرقون فأغلظنا لهم في القول وقلنا لهم تذهبون إلى بلادنا بمواشيكم فنضيفكم ونحمل أثقالكم وأنتم الآن تأبون أن تعطونا مكانا نبيت فيه فلم يؤثر فيهم ذلك وتفرقوا وتركونا فجاءت امرأة ودعتنا إلى منزلها وقالت عندي مكان لمبيتكم ولمبيت الدابة وهي أرملة ذات أيتام فعجبنا من كرم أخلاق هذه المرأة المسكينة ومن لؤم أهل القرية فحضرنا إلى بيتها وأوقدت لنا نارا وجلسنا في ناحية من البيت وتعشينا وأعطيناها شيئا من الخبز والأدام الذي معنا وجاءت لنا بشيء من الدبس الجامد الذي يصنع بتلك البلاد وأرسلنا إلى الحواط فاشترى شعيرا لعلف الدابة واتفقنا معه أن يذهب معنا صباحا إلى عديسة وقال إنه يعرف طريقا قريبا جدا يوصلنا إلى عديسة وكان لصاحبة المنزل جار كأنه أنف مبيتنا عندها فجاء وأخذنا إلى بيته وكان فيه قريبا منا بعض البقر، وفي الصباح جاء الحواط فسار بنا على غير الجادة حتى أوصلنا عديسة في وقت قريب ووفيناه كراه وعاد إلى بلده وذهبنا نحن إلى شقرا وبقينا هناك ولا هم لنا ولا شغل في جميع أيامنا سوى المطالعة والتأليف والقضاء بين الخصوم وجوابات المستفتين ثم عدنا إلى دمشق.
تتويج فيصل ملكا على سورية
في أثناء وجودي بدمشق توج الأمير فيصل ملكا على سورية فحضرت وهنأته بالملك.
وفد جبل عامل لدمشق
وبعدما توج فيصل ملكا على سورية حضر اثنان من علماء جبل عامل ومعهما توكيل لي ولهما عن أهل البلاد في القيام بما يلزم لدى الملك فيصل.
ودخلنا على الملك فيصل فقال لي كيف الحالة عندكم فقلت أنا قاطن هنا والجماعة عندهم الخبر وهم موفدون من قبل أهل جبل عامل لأخذ رأي جلالتكم فيما يصنعونه لأن أهل المنطقة الشرقية يقولون لهم إما أن تكونوا معنا أو علينا فقال بعد الغداء يأتيكم رأيي وكان قد دعانا إلى الغداء عنده فلما تغدينا خرج ثم دعانا إليه فقال إنكم سألتموني عن رأيي فأقول: إن أهل جبل عامل يعزون علي ولا أريد أن يصيبهم بسببي سوء فليلزموا السكون.
سفرنا من جبل عامل إلى العراق فإيران
في سنة 1352 عزمنا على السفر إلى العراق من جبل عامل لتجديد العهد لزيارة مشاهد الأئمة الأطهار عليهم السلام وزيارة مشهد الإمام الرضا (ع) في خراسان ولم نكن زرناه من قبل فخرجنا من جبل عامل في شهر شعبان المعظم من السنة المذكورة إلى دمشق وخرجنا منها أول يوم من شهر رمضان المبارك عند الضحى وفي مثل ذلك الوقت من اليوم الثاني وصلنا بغداد وصحبنا معنا مسودات أعيان الشيعة وهي ملء صندوق وكنا نقدر أن تكون أبرش أجزاؤه عشرة ثم ظننا أنها ستكون عشرين ثم اعتقدنا أنها ستبلغ الخمسين ثم ظهر لنا أنها ربما تبلغ مائة مجلد قد طبعنا منها 27 جزءا لا يقل الواحد منها عن 500 صفحة إذا ضم بعضها إلى بعض نسأله تعالى التوفيق لإكماله وطبعه. وكانت هذه الرحلة رحلة ميمونة مباركة استمرت نحوا من أحد عشر شهرا نصفها في العراق ونصفها في إيران وكنا لا نفتر فيها عن المطالعة والكتابة أينما حللنا واستفدنا فيها فوائد جليلة وجدناها في المخطوطات النفيسة في المكتبات ولئن بخل عنا البعض بما لديه فقد جاد علينا الكثيرون (ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه) والله مغن عنه ووفقنا في هذا السفر لاقتناء نسخة من رياض العلماء بعضها بالاستنساخ وبعضها بالشراء ولشراء واستنساخ كتب أخرى خطية نفيسة. وجرى لنا في العراق وإيران ما نشكر الله عليه.
بعض ما جرى لنا مع الفرنسيين
أصدر الفرنسيون قانون الطوائف بما لا يوافق مصلحة المسلمين ويخالف نص الشرع الإسلامي فعارض في ذلك جملة من علماء دمشق وبالغوا في المعارضة فأوقف القانون وأصدر الفرنسيون بلاغا بأن وقفه يشمل السنيين من المسلمين فقدمت بذلك احتجاجا للمفوضية الفرنسية باللغتين العربية والفرنسية قام الفرنسيون له وقعدوا ونشرته الصحف.
وعزم الفرنسيون على إحداث منصب (رئيس علماء) للشيعة في سورية والبنان معا وقرروا تعييني لهذا المنصب وأصدروا له مرسوما اعتقادا منهم بأنني أقبله بكل امتنان فالناس تتوسط للحصول عليه فكيف بمن يأتيه فقلت للرسول الذي جاء بالكتاب قل لصاحبه أن هذا الأمر لا أسير إليه بقدم ولا أخط فيه بقلم ولا أنطق فيه بفم وقلت للوفاد:
أيها السائل عنهم وعني | لست من قيس ولا قيس مني |
فعادوا أدراجهم، وبلغ ذالك الفرنسيين فأرسل لي من بيده شؤون الأوقاف والأمور الدينية منهم سكرتيره يقنعني بالقبول ويرغبني بأنه سيكون لي أمر الأوقاف وغيرها فأبيت وجاءني إلى دمشق اثنان من زعماء الطائفة في لبنان يدعوانني إلى القبول ويقولان المسألة تحتاج إلى شيء من التضحية فقلت لهما لا يصعب على المرء أن يضحي بدمه في سبيل المصلحة العامة ولكنه لا يضحي بكرامته.
واختلفت شركة الجر والتنوير الأجنبية مع الأهالي في دمشق وكان عندي ليلة فريق من زعماء الكتلة الوطنية فقلت فما بالنا لا نقاطع هذه الشركة الأجنبية؟ لقد أماتت الدولة العثمانية عواطف الشهامة والشمم في كبرائنا فكان الوالي إذا جاء إلى هذه البلدة ومر بأحد الأكابر وسلم عليه يأتي إلى أصحابه فيقول لهم مفتخرا: الوالي اليوم "ضرب لي تمني" وأغنياؤنا وكبراؤنا اليوم دخلهم الشهري مئات الليرات الذهبية فإذا دفعوا منها في الشهر عشر ليرات سورية لا يرونها شيئا فيدخلون الدار ليلا ويجلسون على الأسرة والأرائك ويفتلون زر الكهرباء فتضيء الدار كأنهم في النهار ويرون ذلك هو اللذة والسعادة ولا يبالون بتحكم شركة الكهرباء الأجنبية بهم ذلك لأنها قد ماتت منهم عاطفة الشمم والأباء ولو كان فيهم شمم وأباء لآثروا "النواصة" على ضياء الكهرباء ولم يرضوا بأن تتحكم بهم هذه الشركة الأجنبية بل يجب أن نسير من هذا الأمر إلى ثورة على الفرنسيين فقال لي بعض الجالسين لو ألقيت هذا الكلام في مجتمع من الناس قلت أنا ما تعودت أن ألقي كلاما في المجتمعات ولكن أنتم بلغوه عني وفي اليوم الثاني قاطع الناس الشركة مقاطعة تامة وأحرقوا بعض عرباتها ولم يعد يركب فيها أحد. ثم تحول الأمر إلى قيام عام على الانتداب الفرنسي.
مع الحكومة السورية
أصدرت الحكومة السورية في عهد الاستقلال قرارا في الانتخابات النيابية بأن للمسلمين السنيين كذا من المقاعد في المجلس النيابي ولسائر الطوائف كذا وللأقليات كذا وبموجب ذلك دخلت الشيعة في الأقليات فقدمت للحكومة كتابا بأن الشيعة تعتبر المسلمين طائفة واحدة ولا تريد الافتراق عن إخوانها السنيين فكان لذلك الوقع الحسن عند الوطنيين وقررت الحكومة بأن المسلمين طائفة واحدة لا فرق بين سنيهم وشيعيهم وأن هذه المقاعد المعينة للمسلمين في جميع أنحاء الدولة السورية هي للسنيين وللشيعيين على السواء.
وفي إحدى السنين أمرت الحكومة السورية بتغيير اسم محلة الخراب التي نقطنها وتسميتها محلة الأمين إكراما لنا فشكرناها على ذلك.
صلاة الاستسقاء
مما اتفق لنا من العناية الربانية والألطاف الإلهية أنه بعد نزوحي من دمشق وعودي إلى الوطن في جبل عامل قحط الناس وانقطع المطر، فدعونا الناس إلى موافاتنا إلى سهل الخان قرب تبنين، وصمنا الأربعاء والخميس والجمعة وخرجنا يوم الجمعة من شقراء إلى السهل حافين مشمرين ثيابنا بالخضوع والاستكانة وذكره تعالى فوجدنا الناس مجتمعة هناك من القرى المجاورة فأخذنا في الدعاء والتضرع، ولما زالت الشمس صلينا الجمعة والظهر احتياطا ثم العصر ثم صلاة الاستسقاء وخطبنا وأمرنا الناس بالتوبة ودعونا وتضرعنا ومعنا المشائخ والأطفال، وبقينا مشتغلين بالدعاء والتضرع والبكاء إلى آخر النهار طلبا لاستجابة الدعاء في آخر ساعة من يوم الجمعة ثم أفطرنا وصلينا العشاءين، وكان ذلك اليوم صاحيا ليس في السماء شيء من الغيم وقد أذانا الحر في النهار، فما عدنا إلا وقد انتشر الغمام في السماء ومطر الناس تلك الليلة مطرا أحيا الزرع والضرع، وبعده بأعوام انقطع المطر وقحط الناس أيضا فاستسقينا في ذلك المكان وفعلنا كفعلنا أولا فسقي الناس ومطروا مطرا كافيا والحمد لله.
مشايخنا في التدريس
أما في جبل عامل (1) السيد محمد حسين ابن عمنا السيد عبد الله قرأت عليه شيئا من شرح القطر في النحو وشيئا من شرح السعد على متن عزي في التصريف وهو أول مشايخي (2) السيد جواد مرتضى قرأنا عليه في قرية عيث شرح قطر الندى وشرح ألفية ابن مالك لابن الناظم وشيئا من المغني ومرت ترجمته في بابها (3) السيد نجيب الدين فضل الله العاملي العيناثي قرأنا عليه في بنت جبيل المطول وحاشية ملا عبد الله وشرح الشمسية كلاهما في المنطق والمعالم إلى الاستصحاب.
أما في النجف فهم (4) السيد علي ابن عمنا السيد محمود قرأت عليه شرح اللمعة (5) السيد أحمد الكربلائي ومرت ترجمته (6) الشيخ محمد باقر النجمابادي قرأت عليهما في القوانين وشرح اللمعة والرسائل (7) الشيخ ملا فتح الله الأصفهاني المعروف بالشيخ شريعة قرأت عليه أكثر الرسائل هذا في السطوح (8) الشيخ ملا كاظم الخراساني صاحب الكفاية في الأصول وحاشية الرسائل وشرح التبصرة مختصر طريقة التدريس ومر بي العلماء قرأت عليه دورة الأصول خارجا (9) الشيخ آقا رضا الهمذاني صاحب مصباح الفقيه وحاشية الرسائل وغيرهما قرأت عليه في الفقه خارجا في كتابه مصباح الفقيه إلى الزكاة ومرت ترجمته (15) الشيخ محمد طه نجف قرأت عليه في الفقه خارجا.
بعض تلاميذنا
(1) السيد حسن ابن عمنا السيد محمود (2) السيد مهدي ابن السيد حسن آل إبراهيم الحسيني العاملي (3) الشيخ منير عسيران (4) السيد أمين ابن السيد علي أحمد الحسيني العاملي (5) الشيخ علي ابن الشيخ محمد مروة العاملي الحداثي (6) الشيخ عبد اللطيف شبلي ناصر العاملي الحداثي (7) الأستاذ أديب التقي الدمشقي (8) الشيخ مصطفى خليل الصوري توفي في ريعان شبابه (9) الشيخ خليل الصوري (10) الشيخ علي الصوري (11) الشيخ حسين سمرو الحمصي الغوري (12) الشيخ علي شميع الحمصي الغوري (13) الشيخ علي الجمال الدمشقي وغيرهم.
مؤلفاته
له مؤلفات كثيرة وبعضها قد طبع مرتين أو مرارا وبعضها قد ترجم إلى غير العربية وطبع وأكثرها يزيد عن 500 صفحة إلى 800 صفحة وحسبك أن يكون أعيان الشيعة يبلغ مائة مجلد كبار تقريبا ولو قسم ما كتبناه تسويدا وتبييضا ونسخا وغيرها على عمرنا لما نقص كل يوم عن كراس مع عدم المساعد والمعين غير الله تعالى.
ولم نزل وقد بلغنا السادسة والثمانين من سني عمرنا ودق العظم وخارت القوى وتوالت الهموم والأمراض مواظبين على التأليف والتصنيف ليلا ونهارا وعشية وإبكارا سفرا وحضرا وقد قيل إن المجلسي لو قسمت مؤلفاته على عمره لكان نصيب كل يوم كراس وعد ذلك مبالغة مع أنه كان له من المساعدين والثروة ما ليس لنا منه شيء وعند إرادة تصحيح ما يطبع لا نجد غالبا من يقابله معنا فنتولى ذلك وحدنا فنحتاج إلى مدة طويلة لكننا ألفنا العزلة والتباعد عن الناس مهما أمكن مع اشتغالنا بالمرافعات وفصل النزاعات وتدبير أمر المعاش وغيرها وهذه أسماء مؤلفاتنا:
(أعيان الشيعة) وهو أهمها نجز منه عشرات المجلدات وطبعت وستبلغ مجلداته مائة مجلد أو تزيد وجلها يبلغ خمسمائة صفحة أو قريبا منها أو تزيد إلى ثمانمائة صفحة. ونحن جادون في إكمالها تأليفا وطبعا مستمدين منه المعونة على ذلك. وقد أصبح جل مواده جاهزا إلى حرف الياء لكن أكثرها يحتاج إلى بذل جهود عظيمة لإخراجه كاملا. وفقنا الله لذلك قبل مفاجأة الأجل إنه سميع مجيب.
(نقض الوشيعة) وهو في الرد على كتاب الوشيعة لموسى جار الله "مطبوع".
التاريخ
تاريخ جبل عامل، لواعج الأشجان "مطبوع" أصدق الأخبار في قصة الأخذ بالثأر "مطبوع".
الحديث
البحر الزخار في شرح أحاديث الأئمة الأطهار. خرج منه ثلاثة مجلدات وفق الله لإكماله.
المنطق
شرح أيساغوجي.
أصول الدين
إرشاد الجهال يتضمن أصول الدين بطريق الاستدلال بوجه سهل قريب الأفهام، الدر الثمين الأول مطبوع عدة مرات، التقليد آفة العقول.
أصول الفقه
حذف الفضول عن علم الأصول، حواشي المعالم كتبها أيام قراءته لها، حاشية القوانين، الدر المنظم في مسألة تقليد الأعلم.
الفقه
أساس الشريعة خرج منه مجلد واحد، أرجوزة في النكاح، تحفة الأحباب في آداب الطعام والشراب "مطبوع" التنزيه لأعمال الشبيه "مطبوع" جوابات المسائل الدمشقية جوابات المسائل الصافيتية، جوابات المسائل العراقية جناح الناهض إلى تعلم الفرائض، أرجوزة أولها:
الحمد لله القديم الوارث | المنشئ الخلق المميت الباعث |
"مطبوعة" كشف الغامض في أحكام الفرائض في مجلدين كبيرين. سفينة الخائض في بحر الفرائض مختصر منه بذكر الفروع مجردة عن الدليل، حواشي العروة الوثقى لعمل المقلدين، الروض الأريض في أحكام تصرفات المريض "مطبوع" الدروس الدينية تسعة أجزاء "مطبوع"، شرح التبصرة "مطبوع" درر العقود في حكم زوجة الغائب والمفقود، دروس الحيض والاستحاضة والنفاس "مطبوع"، الدرر الثمين في أهم ما يجب معرفته على المسلمين في الطهارة والصلاة والزكاة والخمس والصوم وأحكام الأموات لعمل المقلدين "مطبوع مرارا"، الدرة البهية في تطبيق الموازين الشرعية على العرفية "مطبوع" كاشفة القناع في أحكام الرضاع منظومة "مطبوع".
النحو
صفوة الصفو في علم النحو، الأجرومية الجديدة "مطبوعة مرارا".
الصرف
المنيف في علم التصريف "مطبوع مرتين"، أرجوزة في الصرف يقول في أولها:
وبعده فالصرف في الكلام | كالنحو مثل الملح في الطعام |
تراهما للعلم أما وأبا | فيا له من ولد قد نجبا |
الصرف علم بأصول قد علم | بها سوى الأعراب أحوال الكلم |
وما لحرف أو لشبه الحرف | عندهم من علقة بالصرف |
البيان
حاشية المطول كتبها أيام اشتغاله به، أرجوزة في علاقات المجاز وشرحها.
الردود والنقود
الرد الأول على صاحب المنار يأتي بعنوان الشيعة والمنار.
الرد الثاني على صاحب المنار مطبوع في مجلة العرفان.
الرد الثالث على صاحب المنار يأتي بعنوان الحصون المنيعة.
الرد الرابع على مجلة المنار جوابا على رده على كشف الارتياب يأتي بعنوان دعاة التفريق وإثارة الفتن والفساد بين المسلمين من هو موقد نارها. وهو رد مطول كثير الفوائد مطبوع في العرفان.
الرد على ما كتب في جريدة التقدم الحلبية من مراسلها في بغداد ونقلته جريدة المقتبس الدمشقية والأحوال البيروتية والهدى الأمريكية وغيرها بشأن كربلا والعجم والشيعيين مطبوع في مجلة العرفان بعنوان هل كربلا مدينة الأموات.
الرد على ما جاء في مجلة الشرطة الدمشقية في شأن المتعة نشر في العرفان.
الرد على ما جاء في جريدة الاتحاد العثماني لأحد علماء حلب من تسمية يوم عاشوراء عيدا.
الرد على مجلة الحقائق الدمشقية لردها على الحصون المنيعة.
الرد على ما جاء في مجلة المقتبس بعنوان الدستور ومعاوية من تفسير بعضهم بيت شوقي:
أودى معاوية به | وبعثته قبل النشور |
ففسره أن معاوية ملك بسبب الدستور والحال أن مراده أن الدستور أهلكه معاوية.
الرد على جولة في ربوع الشرق لمحمد ثابت المصري مطبوع في ج1 ق 2 من الأعيان.
الرد على جاهل دمشقي في تفسيره الكر مطبوع في العرفان بعنوان فضائح الجهل.
الرد على من زعم أن بعض نهج البلاغة منحول مطبوع في العرفان ورد آخر مطول مطبوع في ج3 من الأعيان.
رفع الاشتباه عن أسئلة موسى جار الله.
الرد على الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي في مقاله المنشور في العرفان ج3 م10 ونشر الرد في العرفان أيضا.
الرد على ما جاء في العرفان في شأن الحصون المنيعة وتفسير بيت الحبوبي.
الرد على المحاضرة التي ألقاها الأستاذ محمد كرد علي في المجمع العلمي بدمشق نشر في العرفان.
الرد على الأستاذ محمد كرد علي فيما كتبه في مجلة المجمع العلمي عن كتاب عصر المأمون نشر أكثره في العرفان ج10 م15.
الرد على جميل الزهاوي في استهزائه بالشرع الشريف نشر بعضه في جريدة أبابيل.
الرد على مروان بن أبي حفصة في تفضيله العباسيين على العلويين في قصيدة أولها:
سلام على جمل وهيهات من جمل | ويا حبذ ذا جمل وإن صرمت حبلي |
بقصيدة مثلها وزنا وقافية مطبوعة في القسم الثاني من الرحيق المختوم.
الرد على الوهابية بقصيدة تبلغ 406 بيتا تأتي باسم العقود الدرية مطبوعة.
الرد على الأخرس البغدادي في أبيات له بأبيات على وزنها وقافيتها.
الرد على الحكيم بن العباس الكلبي في بيتين له بقصيدة على وزنها وقافيتها مطبوعة في القسم الأول من الرحيق.
الرحلات
الرحلة الحمصية منظومة مطبوعة ضمن الرحيق المختوم.
الرحلة العراقية منظومة مطبوعة ضمن الرحيق المختوم.
الرحلة الحجازية الأولى مطبوعة ضمن الجزء الثاني من معادن الجواهر.
الرحلة الحجازية الثانية مطبوعة ضمن الثاني منه.
الرحلة العراقية الإيرانية.
مؤلفات شتى
كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب مطبوع، أبو تمام الطائي مطبوع، أبو فراس الحمداني مطبوع، أبو نواس مطبوع، حق اليقين في التأليف بين المسلمين رسالة مطبوعة، حاشية الغرر والدرر، حاشية مفتاح الفلاح، حاشية الصحيفة الثانية السجادية مطبوعة، معادن الجواهر ثلاثة أجزاء مطبوع، مفتاح الجنات ثلاثة أجزاء مطبوع، العلويات العشرون مطبوع، عجائب أحكام أمير المؤمنين في المفاخرة بين الراحة والتعب، الأمالي، الصحيفة الخامسة السجادية مطبوعة، القول السديد في الاجتهاد والتقليد، حواشي أمالي المرتضى، الحصون المنيعة في رد ما أورده صاحب المنار في حق الشيعة مطبوع، الشيعة والمنار مطبوع، إقناع اللائم على إقامة المآتم مطبوع، الدرر المنتقاة لأجل المحفوظات ستة أجزاء مطبوع، دعبل الخزاعي مطبوع، الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد مطبوع، شرح غريب الصحيفة الثانية السجادية، فوائد في مسائل متفرقة، المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية خمسة أجزاء مطبوع: ملحق الدر النضيد مطبوع، العقود الدرية قصيدة 400 بيت مطبوعة مع كشف الارتياب، مناسك الحج مطبوع، المسائل الدمشقية في الفروع الفقهية، المولد النبوي الشريف مطبوع.
المفاخرات
المفاخرة بين الغنى والفقر، المفاخرة بين السيف والقلم، المفاخرة بين العلم والمال، المفاخرة بين الراحة والتعب مرت باسم أعجب العجب.
القصص
ثلاث روايات تمثيلية مثلها طلاب المدرسة العلوية على مسرح المدرسة.
من شعره
أبعد الله أناسا | قولهم كذب ومين |
ألصقوا بالدين مما | قد أتوه كل شين |
أظهروا للدين حبا | وهو حب الدرهمين |
قط ما سالت عليه | منهم دمعة عين |
قد أعادوا عصر عمرو | يوم نصب الحكمين |
ولكن سب علي المر | تضى في الخافقين |
أسد الله ببدر | وبأحد وحنين |
بعلي لبنيه | شبه في الحالتين |
ولعثمان قميص | لم يزل في الزمنين |
أنا لا أطلب فيهم | أثرا من بعد عين |
كل عصر في الورى | فيه يزيد والحسين |
الحركة الإصلاحية الكبرى
"أشار رحمه الله خلال سرده لتاريخ حياته إلى منعه ما كان يجري يوم عاشوراء من البدع وإلى تأليفه رسالة في هذا الموضوع أثارت ثائرة الخرافيين والمتاجرين بالدين، ولقد كان لهذه الرسالة دوي بعيد واعتبرت بحق ثورة إصلاحية كبرى تقرن بأعظم حركات الإصلاح العالمية، وإننا لنأخذ – للتاريخ - بعض ما جاء في تلك الرسالة التي سماها "التنزيه" ثم ننشر بعدها كلمة عن صدى تلك الدعوة الإصلاحية العاصفة وما كان لها من تجاوب واستنفار في العالم الإسلامي".
قال رحمه الله في مفتتح الرسالة:
إن الله سبحانه وتعالى أوجب إنكار المنكر بقدر الإمكان بالقلب أو اليد أو اللسان ومن أعظم المنكرات اتخاذ البدعة سنة والسنة بدعة والدعاية إليها وترويجها.
ثم يشير بعد ذلك إلى ما ينكره من الأمور التي دخلت في مجالس ذكرى الحسين فيقول:
(فمنها الكذب) بذكر الأمور المكذوبة المعلوم كذبها وعدم وجودها في خبر ولا نقلها في كتاب وهي تتلى على المنابر وفي المحافل بكرة وعشيا ولا من منكر ولا رادع وسنذكر طرفا من ذلك في كلماتنا الآتية إن شاء الله، وهو من الكبائر بالاتفاق لاسيما إذا كانا كذبا على الله أو رسوله أو أحد الأئمة عليهم السلام.
(ومنها إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها) بضرب الرؤوس وجرحها بالمدى والسيوف حتى يسيل دمها وبضرب الظهور بسلاسل الحديد وغير ذلك. وتحري ذلك ثابت بالعقل والنقل وما هو معلوم من سهولة الشريعة وسماحتها الذي تمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "جئتكم بالشريعة السهلة السمحاء" ومن رفع الحرج والمشقة في الدين بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
(ومنها الصياح والزعيق بالأصوات المنكرة القبيحة).
(ومنها كل ما يوجب الهتك والشنعة) مما لا يدخل تحت الحصر ويختلف الحال فيه بالنسبة إلى الأقطار والأصقاع إلى غير ذلك.
فإدخال هذه الأشياء في إقامة شعائر الحزن على الحسين (ع) من المنكرات التي تغضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتغضب الحسين (ع) فإنما قتل في أحياء دين جده صلى الله عليه وسلم ورفع المنكرات فكيف يرضى بفعلها لاسيما إذا فعلت بعنوان أنها طاعة وعبادة.
وقد رأينا في هذه الأيام أوراقا مطبوعة ذكر فيها صاحبها أنه يرد على ناشئة عصرية من صفتها كذا وكذا فطائفة منها ازدلفت إلى مشاهدهم المقدسة ببقيع الفرقد فهدمتها وطائفة منهم قد تألبت لإبطال إقامة العزاء للنبي وآله وعترته أيام وفياتهم المعلومة لاسيما يوم عاشوراء.
وحسن فيها ما يفعله بعض الناس أيام عاشوراء من لبس الأكفان وكشف الرؤوس وجرحها بالمدى والسيوف حتى تسيل منها الدماء وتلطخ بها تلك الأكفان ودق الطبول وضرب الصنوج والنفخ في البوقات و(الدمام) وغير ذلك والسير في الأزقة والأسواق والشوارع بتلك الحالة.
وعرض بنا بسوء القول لنهينا عن قراءة الأحاديث المكذوبة وعن هذا الفعل الشائن للمذهب وأهله والمنفر عنه والملحق به العار عند الأغيار والذي يفتح باب القدح فيه وفي أهله ونسبتهم إلى الجهل والجنون وسخافة العقول والبعد عن محاسن الشرع الإسلامي واستحلال ما حكم الشرع والعقل بتحريمه من إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها حتى أدى الحال إلى أن صارت صورهم الفوتغرافية تعرض في المسارح وعلى صفحات الجرائد. وقد قال لنا أئمتنا عليهم السلام "كونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا" وأمرونا بأن نفعل ما يقال لأجله "رحم الله جعفر بن محمد ما أحسن ما أدب به أصحابه". ولم ينقل عنهم أنهم رخصوا أحدا من شيعتهم في ذلك ولا أمروهم به ولا فعل شيء من ذلك في عصرهم لا سرا ولا جهرا حتى في أيام ارتفاع الخوف والتقية كأوائل دولة بني العباس وعصر المأمون وغير ذلك.
وقد كتب على ظهرها أنها للمصلح الكبير أفهذا هو الإصلاح الذي يوصف صاحبه بالمصلح الكبير بالحث على أمر لو فرض محالا أنه ليس محرما فهو يلصق العار بالمذهب وأهله وينفر الناس منه ويفتح باب القدح فيه أليس من الورع في الدين والاحتياط فيه التحاشي عنه أما يقتضي الإصلاح لو كان القصد الإصلاح تركه والتجافي عنه صيانة للمذهب وأهله من الصاق العيب بهم والتنفير عنهم فلو فرض إباحته فهو ليس من واجبات الدين التي يضر تركها.
وقد أفاض صاحبها في ذكر خرافات العرب قبل الإسلام مما لا مساس له بالموضوع وفي أمور أخرى كثيرة من هذا القبيل بعبارات مطولة ولسنا بصدد استقصاء جميع ما فيها مما يوجب الانتقاد لأن ذلك يطول به الكلام ولا يتعلق لنا به غرض بل نقتصر على شق الرؤوس واستعمال الطبول والزمور ونحوها ونذكر نموذجا من كلامه في غيرها مما وقع نظرنا عليه اتفاقا ليكون مثالا لغيره.
كقوله "ومن فواجع الدهور وفظائع الأمور وقاصمات الظهور وموغرات الصدور ما نقلته بعض جرائد بيروت في هذا العام عمن نحترم أشخاصهم من المعاصرين الوطنيين من تحبيذ ترك المواكب الحسينية والاجتماعات العزائية بصورها المجسمة في النبطية وغيرها فما أدري أصدق الناقل أم كذب فإن كان صادقا فالمصيبة على الدين جسيمة عظيمة لا ينوء بها ولا ينهض بعبئها عاتق المدينين (إلى آخر ما هنالك).
ونقول: هذا التهويل وتكثير الأسجاع لا يفيد شيئا ولو أضيف إليه أضعافه من قاطعات النحور ومجففات البحور ومفطرات الصخور ومبعثرات القبور ومهدمات القصور ومسقطات الطيور. بل أن من فجائع الدهور وفظائع الأمور وقاصمات الظهور وموغرات الصدور اتخاذ الطبول والزمور وشق الرؤوس على الوجه المشهور وإبراز شيعة أهل البيت وأتباعهم بمظهر الوحشية والسخرية أمام الجمهور مما لا يرضى به عاقل غيور وعد ذلك عبادة ونسبته إلى أهل البيت الطهور. والمواكب الحسينية والاجتماعات العزائية لا تستحسن ولا تحل إلا بتنزيهها عما حرمه الله تعالى وعما يشين ويعيب وينسب فاعله إلى الجهل والهمجية وقد بينا أن الطبل والزمر وإيذاء النفس والبروز بالهيئة المستبشعة مما حرمه الله ولم يرضه لأوليائه سواء وقع في النبطية أو القرشية أو مكة المكرمة.
وجاء فيها "قالوا إنا نجد قراء التعزية كثيرا ما يسردون على مسامع الجالسين أحاديثا (كذا) مكذوبة وأجاب بما لفظه: وكثير من أساطين العلماء يعملون بضعاف الأخبار من السنن ومن المعلوم أن روايات التعزية من سنخ الرخص لا العزائم والله يحب أن يأخذ برخصه كما يحب أن يأخذ بعزائمه".
وإنا نسأله ما ربط عمل العلماء بالخبر الضعيف في السنن بأخبار التعزية التي هي أمور تاريخية لا أحكام شرعية وما ربط الخبر الضعيف بالمقام والقائل الموهوم إنما قال إنهم يوردون أحاديث مكذوبة ولم يقل ضعيفة الإسناد وما معنى أن روايات التعزية من سنخ الرخص لا العزائم فالرخصة خاصة بالمباح والمستحب والمكروه والعزيمة بالحرام والواجب فما معنى أن روايات التعزية من الرخص فهل تلك الروايات نفسها مباحة أو مكروهة أو مستحبة فإن كان المراد نفس الرواية فلا تتصف بشيء من ذلك وإن كان المراد نقلها فأي معنى لقول نقلها رخصة لا عزيمة مع أنها إن كانت كذبا كان نقلها محرما وإن كان المراد مضمونها فهو قصة تاريخية لا تتصف برخصة ولا عزيمة ولو فرض أن مضمونها حكم شرعي فلا بد أن يكون أحد الأحكام الخمسة التكليفية فكيف جعل رخصة فقط (وقوله) أن الله يحب أن يؤخذ برخصه الخ لا ربط له بالمقام إذ معناه أن الله يحب أن يخفف على عبده بترك المستحب مثالا كما يحب أن يلتزم بفعل الواجب وترك المحرم فما ربط ذلك بإيراد الرواية المكذوبة في التعزية.
وجاء فيها "قالوا وجلهم أي قراء التعزية يتلو الحديث ملحونا (وأجاب) بما ملخصه على طوله أن المستمعين أمم عديدة ألسنتها شتى منهم عربي وفارسي وتركي وهندي و. و. الخ. ومنهم عوام فينقل لهم معنى الأحاديث بألفاظهم العامية (إلى أن قال) وأي حاجة ماسة للعربية الفصحى في قراءة التعزية على أمة أمية كمعدان العراق وقروية الشام وسكان بادية نجد والحجاز واليمن المصطلحين فيما بينهم على وضع ألفاظ معلومة".
وأنت ترى أن الجواب غير منطبق على هذا المقال الموهوم فالقائل يقول الأحسن رفع اللحن من قراءة التعزية وهو يقول في جوابه أن المستمعين منهم عربي وفارسي وتركي وهندي فما ربط الفارسي والتركي والهندي والجاوي بالمقام فلم يقل القائل أنه لا ينبغي قراءة التعزية بالتركية للأتراك وبالفارسية للفرس وبالهندية للهنود بل يقول ينبغي لقراء التعزية بالعربية للعرب عدم اللحن ولم يقل أنه لا ينبغي أن يقرأ الحديث بالمعنى حتى يجيبه بأن منهم عواما فينقل لهم الحديث بألفاظهم العامية على أن ذلك أمر غير واقع فليس في قراء التعزية من يقرأ بالألفاظ العامية بل كلهم يقرأون الفصحى ولكن مع اللحن من البعض والقائل لم يأب عن قراءة التعزية بالألفاظ العامية كالنعي المتعارف بل يقول إذا قرئ الشعر لا يحسن أن يكون ملحونا وإذا نقل حديث أو خطبة ينبغي أن لا يكون فيه لحن. والقائل يقول لا ينبغي اللحن في قراءة التعزية وهو يقول في جوابه لا يلزم قراءتها بالعربية الفصحى ولو فرضنا أنه أراد من العربية الفصحى عدم اللحن فيقال له إذا أي حاجة إلى ترك اللحن في جميع الكلام ولماذا وضع النحو وكتب العربية وهل قراءة الفاعل مخفوضا والمفعول مرفوعا تزيد في فهم المعاني لمعدان العراق وقروية الشام وسكان بادية نجد واليمن والنازلين بأرياف مصر والحالين في نواحي حضرموت والمتبوئين صحراء أفريقية وبلاد المغرب وما الذي يدعوه إلى كل هذه المدافعة عن اللحن في قراءة التعزية وما القارئ إلا خطيب. وما الذي يدعوه إلى كل هذه المدافعة عن اللحن في القراءة أهو حب الإصلاح أم أمر آخر وهل إذا تلونا الحديث والشعر بدون لحن فاستجلبنا به قلب ذي المعرفة ولم ننفره بسماع الغلط وصنا الحديث عن اللحن والغلط وعن الخطأ في فهم المعنى بسبب اللحن ولم نجعل تفاوتا على غير المعرفة الذي لا يضره رفع الفاعل ولا يزيد في فهمه خفضه يكون عملنا هذا مضرا وعكسه نافعا والمستمعون كما يوجد فيهم المعدان يوجد فيهم أهل العلم والمعرفة.
قال: "وممن طعن على القراء للتعزية بعض المعاصرين زعم أن الكثيرين منهم بين مخلق (كذا) للأخبار وبين ماسخ لها وعنده هذا الطعن عليه - انتهى".
ومراده كاتب هذه السطور الذي ذكره في مقدمة المجالس السنية ما لفظه: هذا ولكن كثيرا من الذاكرين لمصابهم (ع) قد اختلقوا أحاديث في المصائب وغيرها لم يذكرها مؤرخ ولا مؤلف ومسخوا بعض الأحاديث الصحيحة وزادوا ونقصوا فيها لما يرونه من تأثيرها في نفوس المستمعين الجاهلين بصحة الأخبار وسقمها إلى آخر ما ذكرناه. والمجالس السنية إنما ألفناها لتهذيب قراءة التعزية وإصلاحها من العيوب الشائنة والمحرمات الموبقة من الكذب وغيره وانتقاء الأحاديث الصحيحة الجامعة لكل فائدة فقام هذا الرجل يرمينا بأن هذا الطعن علينا بأننا نختلق الأحاديث ونمسخها وجاء بعبارته هذه التي جمجم فيها وبترها وأبت نفسه إلا أن يذكرها والله تعالى يعلم وعباده يعلمون وهو نفسه يعلم أننا لسنا كذلك وأننا نسعى جهدنا ونصرف نفيس أوقاتنا وعزيز أموالنا في تأليف الكتب وطبعها ونشرها لا نستجدي أحدا ولا نطلب معونة مخلوق قصد لتهذيب الأحاديث التي تقرأ في إقامة العزاء من كل كذب وعيب وشين ليكون الذاكرون من الخطباء الذين تستجلب قراءتهم الأنظار وتستهوي إليها الأفئدة والأسماع وتستميل الطباع وليكون أثرها في النفوس بقدر ميلها إليها ولتكون مفخرا للشيعة لا عارا عليهم ولتكون قراءتهم عبادة خالصة من شوب الكذب الموجب لانقلابها معصية فإن إقامة شعائر الحزن بذكر صفات الحسين (ع) ومناقبه ومآثره ووصف لشجاعته وإبائه للضيم وفظاعة ما جرى عليه وذكر المواعظ والخطب والآداب ومستحسن أخبار السلف وغير ذلك والتخلص إلى فاجعة كربلا على النهج المألوف مع تهذيبها عن المنافيات والمنكرات من أنفع المدارس وأقوى أسباب التبشير بالدين الإسلامي وطريقة أهل البيت عليهم السلام وجلب القلوب إلى حبهم والسير على طريقتهم والاتصاف بتكريم صفاتهم كما أن إقامتها على غير هذه الطريقة من أقوى أسباب التنفير عن دين الإسلام وطريقة أهل البيت عليهم السلام يعرف ذلك كل منصف ونحن نذكر لك واقعة واحدة تكون نموذجا لما نقوله وهي أنه اتفق وجودنا في مدينة بعلبك في وفاة بعض أجلاء السادة من آل مرتضى فقرأ لي رجل من القراء الذين عودناهم على عدم اللحن في القراءة خطبة من النهج في صفة الأموات وكان بعض عرفاء المسيحيين حاضرا فقال لجلسائه أنني لم أعجب من بلاغة هذا الكلام الذي هو غاية في البلاغة ولا من جري القارئ في قراءته كالسيل ولا من مضامين هذا الكلام الفائقة وإن كان ذلك كله موضع العجب وإنما عجبت من عدم لحن هذا القارئ فيما قرأه على طوله.
يقول هذا الرجل إننا نزعم أن الكثير منهم بين مختلق للأخبار ثم يشتمنا بهذا القول وما ندري ما الذي يزعمه هو أيزعم أنهم كلهم ليسوا كذلك كيف وغالبهم عوام يخلطون الحابل بالنابل ولا ننكر أن فيهم الفضلاء الكاملين الذين يفتخر بأمثالهم ولكن الكثير منهم ليسوا كذلك كما هو مشاهد بالعيان ويجهل أو يتجاهل قراءتهم حديث أين ضلت راحلتك يا حسان الذي اختلقه بعض الناس على سطح مسجد الكوفة كما هو مشهور عند فضلاء النجف وغيرهم. أم حديث خرجت أتفقد هذه التلاع مخافة أن تكون مظنا لهجوم الخيل على مخيمنا يوم يحملون وتحملون وإلا فليدلنا في أي كتاب هذا الحديث وأي رواية جاءت به ضعيفة أو صحيحة. أم حديث أن البرد لا يزال الجبل الأصم ولفحة الهجير لا تجفف البحر الخضم أم حديث قول شمر للحسين (ع) (بعدك حيا يا ابن الخارجي) أم حديث أي جرح تشده لك زينب. أم حديث مخاطبة زينب للعباس حين عرض شمر عليه وعلى إخوته الأمان. أم حديث مجيء زين العابدين لدفن أبيه مع بني أسد. أم حديث درة الصدف التي حاربت مع الحسين (ع) أم حديث مجيء الطيور التي تمرغت بدم الحسين (ع) إلى المدينة ومعرفة فاطمة الصغرى بقتل أبيها من تلك الطيور: أم غير هذه الأحاديث الكثيرة التي تقرأ على المنابر وهي من الكذب الصراح والتي يطول الكلام بالإشارة إليها في هذه العجالة. أم يزعم أن قراءة الأحاديث المختلقة خير من قراءة الأحاديث الصحيحة المروية قصدا للإصلاح.
وحاصل مقصود هذا المصلح الكبير أن لا ينبه أحد من قراءة التعزية على ترك قراءة الأحاديث المكذوبة وعلى ترك اللحن ولا على قراءة بعض ما ينفر السامعين بل يريد أن تبقى الأحاديث ممزوجا صحيحها بسقيمها وغثها بسمينها وصدقها بكذبها وخطأها بصوابها وقشرها بلبابها ولحنها بأعرابها فحبذا هذا الإصلاح. وما ندري ما الذي يسوءه من حمل القراء على قراءة الأحاديث الصحيحة وما الذي يعجبه من قراءة الأحاديث المكذوبة والملحونة وليس هو بقارئ تعزية ولا إقامة القراء محاميا ووكيلا عنهم.
ومما قاله في تحسين لبس الأكفان وكشف الرؤوس وشقها بالمدى والسيوف يوم عاشورا: "ما الذي نقموه على هذه الفئة وسفهوا لأجله أحلامها وأخرجوها به عن دائرة الإنسانية ألبسها لبس الموتى فهذا عمل غير معيب عقلا وهو مشروع دينا في إحرام الحج ومندوب في كل آن للآخرة وتأهبا للموت وكفى واعظا ومن الغرور بالدنيا محذرا ومنذرا أكشفها عن رؤوسها وهذا أيضا مستحسن طبا مشروع بالإحرام دينا أم شقها أرؤسها بآلة جارحة وهذا أيضا مسنون شرعا إذ هو ضرب من الحجامة تلحقها الأحكام الخمسة التكليفية مباحة بالأصل والراجح منها مستحب والمرجوح مكروه والمضر محرم والحافظ للصحة واجب فقد تمس الحاجة إلى عملية جراحية تفضي إلى بتر عضو أو أعضاء رئيسية حفظا لبقية البدن وسدا لرمق الحياة الدنيوية والحياة الدنيا بأسرها وشيكة الزوال والاضمحلال أتباح هذه الجراحة الخطرة لفائدة ما دنيوية ولا تباح جراحة ما في أهاب الرأس لأعظمها فائدة وأجلها سعادة أخروية وحياة أبدية وفوز بمرافقة الأبرار في جنة الخلد - انتهى".
قوله الحجامة مباحة بالأصل بل هي محرمة بالأصل لأنها ضرر وإيذاء للنفس ولا تحل إلا مع الضرورة لدفع مرض أو ألم أعظم منها وإلا لكانت كفعل حجام ساباط الذي ضرب به المثل فقيل: أفرغ من حجام ساباط. وكان إذا لم يجد من يحجمه حجم زوجته وأولاده (قوله) والمرجوح مستحب فيه أنه يشمل الواجب والمستحب (قوله) والحافظ للصحة واجب فيه أنه لا يجب دائما فمع الخوف على النفس يجب وبدونه يستحب. وحيث جعل شق الرؤوس نوعا من الحجامة فهو أما واجب وذلك حينما يخشى الضارب على نفسه الهلاك لو لم يضرب نفسه بأن يخبره الطبيب الحاذق أن في رأسه مرضا مهلكا لا يشفيه إلا جرح رأسه وشقه أو مستحب بأن يكون الضارب محموما حمى شديدة ويخبره الطبيب الحاذق أن دواءه في شق رأسه وإخراج الدم منه ويشترط في هذين عدم التعرض للشمس وشدة الحركة ألذي قد يوجب شدة مرضه أو هلاكه وأما محرم وذلك حيث يكون إيذاء صرفا وضررا بحتا. وحيث إن الذين يضربون رؤوسهم ليس في رؤوسهم داء ولا في أبدانهم حمى فانحصر فعلهم في الحرام وإذا كان محرما لم يكن مقربا إلى الله ولا موجبا لثوابه بل موجبا لعقابه ومغضبا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللحسين (ع) الذي قتل لإحياء شرع جده صلى الله عليه وسلم (قوله) قد تمس الحاجة إلى عملية جراحية الخ فيه أن العملية الجراحية المفضية إلى بتر العضو أو الأعضاء تباح بل تجب لأنها مقدمة لحفظ النفس الواجب وتباح لأجل الضرورة فإن الضرورات تبيح المحظورات فيقدم الأهم وهو حفظ النفس على المهم وهو عدم الإيذاء والإضرار ويرتكب أخف الضررين ولكن الحرام لا يباح لإدراك المستحب فالاستحباب لا يعارض الحرمة ولا يطاع الله من حيث يعصى ولا يتقبل الله إلا من المتقين. ومن ذلك تعلم أن قوله أتباح هذه الجراحة الخطرة لفائدة ما دنيوية ولا تباح جراحة ما في إهاب الرأس لأعظمها فائدة وأجلها سعادة أخروية كلام شعري فإن الفائدة الأخروية وهي الثواب لا تترتب على فعل المحرم فلا يكون في هذا الفعل إلا الضرر الدنيوي والأخروي.
وما أشبه هذا الكلام الشعري بما يحكى أن رجلا صوفيا سرق تفاحة وتصدق بها فسأله الإمام الصادق (ع) عن سبب فعله ذلك فقال إنه لما سرقها كتبت عليه سيئة فلما تصدق بها كتب له عشر حسنات لأن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فإذا أسقطنا سيئة من عشر حسنات بقي تسع حسنات فقال له الصادق (ع) أدت هذا جهل أو ما سمعت قوله تعالى {إنما يتقبل الله من المتقين} إنك لما سرقت التفاحة كتبت عليك سيئة فلما تصدقت بها كتبت عليك سيئة أخرى لأنك تصدقت بغير مالك أو ما هذا معناه.
ثم قال: "لا يقال أن السعادة والفوز غدا لا يترتبان على عمل ضرري غير مجعول في دين الله لأنا نقول أولا الغير مشروع (كذا) في الإسلام من الأمور الضررية هو ما خرج عن وسع المكلف ونطاق طاقته لقبح التكليف حينئذ بغير مقدور أما ما كان مقدورا فلم يقم برهان عقلي ولا نقلي على منع جعله وكونه شاقا ومؤذيا لا ينهض دليلا على عدم جعله إذ التكاليف كلها مشتقة من الكلفة وهي المشقة وبعضها أشد من بعض وأفضلها أحمزها وعلى قدر نشاط المرء يكون تكليفه وبزنة رياضة المرء نفسه وقوة صبره وعظمة معرفته يكلف بالأشق فالأشق زيادة للأجر وعلوا للرتبة ومزيدا للكرامة ومن ها هنا كانت تكاليف الأنبياء أشق من غيرها ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل وفي الخبر أن عظيم البلاء يكافؤه عظيم الجزاء وفي آخر أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل من المؤمنين وعباد ألله الصالحين وهكذا إلى الطبقة السفلى وهي طبقة المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا فهم أخف تكليفا من سائر الطبقات - انتهى".
قوله لا يترتبان على عمل ضرري غير مجعول في دين الله (فيه) أن الجعل للأحكام لا للأعمال فيقال هذا الحكم مجعول في دين الله أو غير مجعول ولا معنى لقولنا هذا العمل مجعول في دين الله أو غير مجعول بل يقال جائز أو غير جائز أو نحو ذلك (قوله) لأنا نقول أولا الغير مشروع (كذا) في الإسلام الخ فيه (أولا) أن قوله الغير مشروع لحن غير مسموع تكرر وقوعه منه كما نبهنا عليه إذ لا يجوز دخول إلا على المضاف إلا إذا دخلت على المضاف إليه كالجعد الشعر (ثانيا) أنه ذكر أولا ولم يذكر ثانيا (قوله) أما ما كان مقدورا فلم يقم برهان عقلي ولا نقلي على منع جعله فيه (أولا) أن الكلام في العمل الذي فيه ضرر كما صرح به في قوله لا يترتبان على عمل ضرري والجعل للحكم لا للعمل كما مر فكأنه اشتبه عليه ما سمعه من أن الله لم يجعل حكما ضرريا بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار وما يريد أن يثبته من أن الله يجوز أن يكلف بما فيه ضرر كشق الرؤوس فخلط أحدهما بالآخر (ثانيا) قوله لم يقم برهان عقلي ولا نقلي على منع جعله أن أراد به أنه لم يقم برهان على جواز أن يكلف الله بما فيه ضرر فأين قول الفقهاء دفع الضرر المظنون واجب وأين اكتفاؤهم باحتمال الضرر الموجب لصدق خوف الضرر في إسقاط التكليف وأين قولهم بوجوب الإفطار لخائف الضرر من الصوم وببطلان غسل من يخاف الضرر لحرمة الغسل واقتضاء النهي الفساد في العبادة ووجوب التيمم حينئذ وأين قولهم بوجوب الصيام وإتمام الصلاة على المسافر الذي يخاف الضرر على نفسه بالسفر لكون سفره معصية وقولهم بسقوط الحج عمن يكون عليه عسر وحرج في الركوب والسفر أو يخاف الضرر بسفره إلى غير ذلك من الأحكام المنتشرة في أبواب الفقه (قوله) وكونه شاقا ومؤذيا لا ينهض دليلا على عدم جعله - فيه أنه أعاد لفظ الجعل وقد عرفت أنه ليس له هنا محل وجمع بين الشاق والمؤذي وهما غيران حكما وموضوعا فالمؤذي وهو الضار يحرم فعله ولم يكلف الله به والشاق الذي فيه عسر وحرج لم يكلف الله به لقوله تعالى: { وما جعل عليكم في الدين من حرج} إلا في موارد مخصوصة لكن ربما يجوز فعله إذا لم يكن مضرا.
ومن الطريف قوله التكاليف كلها مشتقة من الكلفة فإن الكلفة إذا بلغت حد العسر والحرج أسقطت التكليف كما عرفت وإذا بلغت إلى حد الضرر أوجبت حرمة الفعل. وأفضل الأعمال أحزمها إذا لم تصل إلى حد الضرر وإلا حرمت فضلا عن أن تكون أفضل أو غير أفضل (قوله) على قدر نشاط المرء يكون تكليفه إلخ فيه أن تكاليف الله لعباده واحدة لا تتفاوت بالنشاط والكسل وقوة الصبر وعظمة المعرفة فالواجبات يكلف بها الجميع لا يسقط واجب عن أحد بكسله وضعف صبره وحقارة معرفته ولا يباح محرم لأحد بشيء من ذلك ولا يجب مباح ولا يحرم على أحد بقوة صبره ونشاطه وعظمة معرفته وكذا المستحبات والمكروهات نعم الكسلان كثيرا ما يترك المستحب وقليل الصبر كثيرا ما يفعل المكروه والتكليف في الكل واحد وليس في الشريعة تكليف لشخص بغير الشاق ولآخر بالشاق ولشخص بالشاق ولآخر بالأشق بحسب تفاوت درجاتهم ومراتبهم في النشاط والرياضة والصبر والمعرفة (ومن هنا) تعلم فساد قوله: ومن ها هنا كانت تكاليف الأنبياء أشق من غيرها ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل. نعم كلف نبينا صلى الله عليه وسلم دون غيره بأشياء خاصة مثل صلاة الليل فكانت واجبة عليه كما أبيح له أشياء خاصة دون غيره مثل الزيادة على أربع أزواج وباقي التكاليف يتساوى فيها مع غيره وأين هذا مما نحن فيه.
قوله وفي الخبر أن عظيم البلاء يكافؤه عظيم الجزاء. هذا أجنبي عن المقام إذ المراد بالبلاء هو المصائب الدنيوية من موت الأولاد وذهاب الأموال والقتل وتسلط الظالم وأمثال ذلك وأي ربط لهذا بما نحن فيه من التكليف بالشاق أو ما فيه ضرر. وهكذا خبر أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل:
ليس معناه أشد الناس تكليفا بل المراد بذلك المصائب والبلايا الدنيوية التي تصدر عليهم كما صدر على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليهم السلام وأوليائهم. وفي أي لغة يصح تفسير البلاء بالتكليف. وهل الذين يشقون رؤوسهم من أمثل الطبقات حتى كلفوا بذلك والعلماء وخيار المؤمنين ليسوا كذلك فلم يكلفوا به ولم يفعلوه.
(وأما المستضعفون) فهم القاصرون في الإدراك الذين رفع الله عنهم بعض التكاليف التي لا يمكنهم معرفتها لقصور إدراكهم كما رفع التكاليف عن المجانين لحكم العقل بقبح تكليف الجميع فأين هذا مما نحن فيه.
قال: "ولو كان الشاق وإن دخل تحت القدرة والطوق غير مشروع ما فعلته الأنبياء والأولياء ألم يقم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة حتى تورمت قدماه ألم يضع حجره المجاعة على بطنه مع اقتداره على الشبع ألم تحج الأئمة مشاة حتى تورمت أقدامهم مع تمكنهم من الركوب ألم يتخذ علي بن الحسين البكاء على أبيه دأبا والامتناع من تناول الطعام والشراب حتى يمزجها بدموع عينيه ويغمى عليه في كل يوم مرة أو مرتين أيجوز للنبي وآله صلى الله عليه وسلم إدخال المشقة على أنفسهم طمعا بمزيد الثواب ولا يجوز لغيرهم أيباح لزين العابدين أن ينزل بنفسه ما ينزله من الآلام تأثرا وانفعالا من مصيبة أبيه ولا يباح لوليه أن يؤلم نفسه لمصيبة إمامه أينفض العباس الماء من يده وهو على ما هو عليه من شدة الظمأ تأسيا بعطش أخيه ولا نقتص أثره أيقرح الرضا جفون عينيه من البكاء والعين أعظم جارحة نفيسة ولا نتأسى به فنقرح على الأقل صدورنا ونجرح بعض رؤوسنا أتبكي السماء والأرض تلك بالحمرة وتلك بالدم العبيط ولا يبكي الشيعي بالدم المهراق من جميع أعضائه وجوارحه ولعل الأذن من الله لسمائه وأرضه أن ينزف (كذا) على الحسين ما تشعر بترخيص الإنسان الشاعر لتلك المصيبة الراتبة أن ينزف من دمه ما استطاع نزفه إجلالا وإعظاما وهب أنه لا دليل على الندب فلا دليل على الحرمة مع أن الشيعي الجارح نفسه لا يعتقد بذلك الضرر ومن كان بهذه المثابة لا يلزم بالمنع من الجرح وإن حصل له منه الضرر اتفاقا - انتهى".
وقد عرفت أن المشقة إذا وصلت لحد العسر والحرج أوجبت رفع التكليف بالإجماع لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ولم توجب تحريم الفعل وإذا وصلت إلى حد الضرر أوجبت رفع التكليف وحرمة الفعل (أما) استشهاده بقيام النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة حتى تورمت قدماه فإن صح فلا بد أن يكون من باب الاتفاق أي ترتب الورم على القيام اتفاقا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بترتبه وإلا لم يجز القيام المعلوم أو المظنون أنه يؤدي إلى ذلك لأنه ضرر يدفع التكليف ويوجب حرمة الفعل المؤدي إليه وإلا فأين ما اتفق عليه الفقهاء من أنه أذا خاف المكلف حصول الخشونة في الجلد وتشققه من استعمال الماء في الوضوء انتقل فرضه إلى التيمم ولم يجز له الوضوء مع أنه أقل ضررا وإيذاء من شق الرؤوس بالمدى والسيوف إلى غير ذلك، وأما وضعه حجر المجاعة على بطنه مع اقتداره على الشبع فلو صح لحمل على صورة عدم خوف الضرر الموجب لحرمة ذلك لكن من أين ثبت أنه كان يتحمل الجوع المفرط الموجب لخوف الضرر اختيارا مع القدرة على الشبع وكذا استشهاده بحج الأئمة مشاة هو من هذا القبيل، أما بكاء علي بن الحسين (ع) على أبيه المؤدي إلى الإغماء وامتناعه عن الطعام والشراب فإن صح فهو أجنبي عن المقام فإن هذه أمور قهرية لا يتعلق بها تكليف وما كان منها اختياريا فحاله حال ما مر، وأما نفض العباس الماء من يده تأسيا بعطش أخيه فلو صح لم يكن حجة لعدم العصمة، وأما استشهاده بتقريح الرضا (ع) جفون عينيه من البكاء فإن صح فلا بد أن يكون حصل ذلك قهرا واضطرارا لا قصدا واختيارا وإلا لحرم ومن يعلم أو يظن أن البكاء يقرح عينيه فلا يجوز له البكاء إن قدر على تركه لوجوب دفع الضرر بالإجماع وحكم العقل، أما قوله: "أتبكي السماء إلخ...." فكلام شعري صرف لا يكون دليلا ولا مؤيدا لحكم شرعي وأما قوله: وهب أنه لا دليل على الندب فلا دليل على الحرمة فطريف لأن الأصل في المؤذي والمضر الحرمة ودفع الضرر واجب عقلا ونقلا، ومثله قوله مع أن الشيعي الجارح ألا يعتقد بذلك الضرر، فإن الجرح نفسه ضرر أولا وذلك لا يتفاوت فيه الشيعي وغيره فالكل ذو لحم ودم لا دخل فيه للمذهب.
ثم نقول عطفا على قوله "أيقرح الرضا جفون عينيه ولا نتأسى به فنقرح على الأقل صدورنا ونجرح بعض رؤوسنا: إننا لم نركم جرحتم مرة بعض رؤوسكم ولا كلها ولا قرحتم صدوركم من اللطم ولا فعل ذلك أحد من العلماء وإنما يفعله العوام والجهلة. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم. يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.
ونقول عطفا على قوله: أتبكي السماء والأرض بالحمرة والدم ولا يبكي الشيعي بالدم المهراق من جميع أعضائه": إننا ما رأيناكم أهرقتم دما طول عمركم للحزن من بعض أعضائكم ولا من جميعها فلماذا تركتم هذا المستحب المؤكد تركا أبديا وهجرتموه هجرا سرمديا ولم يفعله أحد من العلماء في عمره ولو بجرح صغير كبضعة الحجام ولماذا لم يلبسوا الأكفان ويحملوا الطبول والأبواق وتركوا هذه المستحبات تفوز بها العوام والجهلة دونهم.
السيد محسن الأمين
يقود معركة الإصلاح بشجاعة وتضحية
بقلم الأستاذ جعفر الخليلي
صاحب جريدة الهاتف العراقية
المفروض أن يكون العالم الروحاني رجلا جافا خشنا تدل على ذلك مآكله وملابسه وأفكاره، وسواء أكان هذا المفروض حقا أم باطلا فقد وجد أن أكثر العلماء الروحانيين عاشوا على هذه الوتيرة يتهيبهم الناس لجفافهم وعدم فهم أفكارهم وترفعهم عما يحوط الناس ويكتنفهم، أما الذين انطبق عليه تعريف المؤمن بأن يكون (هشا بشا) فقد كانوا قليلين ومن هذا القليل كان السيد محسن الأمين، فقد وعيت أول ما وعيت وأنا أسمع باسمه عالما متجددا ينزع إلى اللباب ويدعو للتبسط فمالت نفسي له وقرأت بعض عظاته وأفكاره فدلني المقروء على روحانية من صنف آخر غير ما ألفت أن أرى في النجف على الغالب فهفت نفسي إليه، وكلما ازددت قراءة لأفكاره ازداد إيماني به كعالم أفهم ما يقول وأعرف ماذا يريد، وكم كنت وأنا صبي أمر على المسجد الهندي والمسجد الطوسي وأخيرا الصحن الشريف في النجف فأسمع العلماء يتدارسون ويتباحثون فكان ذلك عندي كالرطينة، وإذا كان ذلك حقا باعتباره درسا من الفقه أو الأصول الذي هو فوق مستوى الرجال فضلا عن الأطفال فأين الحق في هذا الكلام الذي يتداولون به في مجالسهم ويرسلونه تعبيرا عن أغراضهم، أنه لا يزال رطينة من الرطائن لا يستطيع أن يتفهمها كثير من الكبار وجميع الصغار على الإطلاق، ولكن بين هذه الرطائن التي ينطق بها العلماء قد ينطلق من أفواه بعضهم كلام مفهوم لجميع الكبار وكثير من الصغار فترتاح إليه النفوس وينفذ إلى القلوب ولم نعرف سبب هذا الاختلاف حتى قيل لنا أن هذه اللغة المفهومة كلها أو بعضها والروحية التي تدفع بها إنما هي روحية المتجددين من العلماء، وكان السيد محسن الأمين في طليعة دعاة التجدد وعنوانا لروحيتهم.
ومن الحق أيضا أن نقول أن هذا الذي سمي بالتجدد لم يكن جديدا وإنما كان هو القديم بل هو اللب والأساس من الدين ومن العلوم الاجتماعية ولكن الذي أخرج العلماء على قواعد الإيمان التي تتطلب أن يكون العالم هشا بشا هو الذي أخرجهم على مغزى التشريع وقواعد الدين وانتحى بهم ناحية هي وأصول الدين الصحيح على طرفي نقيض فإذا بنا لا نعرف منطوقهم ولا محمولهم ولا ما يهدفون إليه.
وما لنا وهذا الآن وكلما أريد أن أقول بأن أول ما جذبني من السيد محسن كان هذا الذي يقوله السيد محسن فيفهمه الناس ويتحسسون بخطره وقيمته، وازددت معرفة به من أبي فقد كان أبي زميله في الدرس مدة طويلة وصديقه مدة إقامة السيد محسن في النجف طالبا للعلم ثم علمت أن للسيد محسن أندادا من العلماء هم الآخرون كانوا ينفذون إلى النفوس بدعواتهم الإصلاحية وأحاديثهم الشهية والفرق بين السيد محسن وغيره هو أن السيد محسن لم يكتف بالكتابة والوعظ والإرشاد بل راح يعمل على قدر الطاقة لتنزيه الدين من الشوائب والقضاء على كل تعقيد يوسع الخرق والعمل على تنشئة جيل صالح منذ أن ذهب إلى دمشق هاديا ومرشدا فتوجه إلى تأليف كتب أدبية وأخلاقية مدرسية وتأليف كتب خاصة بتأريخ سيرة الحسين (ع) وعرضها عرضا مجردا من الشوائب والأكاذيب لاتخاذها مصدرا لخطباء المنابر الحسينية ثم عمل لقيام المدرسة المحسنية في دمشق وإلزام الخطباء بمراعاة خطته في المآتم الحسينية وأول عمل قام به هو تحريم الضرب بالسيوف والسلاسل في يوم عاشوراء ومقاومة الذين يستعملون الطبول والصنوج والأبواق وغيرها في تسيير مواكب العزاء بيوم عاشوراء، فكان هذا أول عمل اتخذ منه مخالفوه ذريعة لمهاجمته وقد أيدهم في نشاط الحملة كونها جاءت متفقة ورغبة العوام و(السواد) كل الاتفاق واتسعت الحملة وكان الشيخ عبد الحسين صادق في النبطية والسيد عبد الحسين شرف الدين في صور ممن خالف السيد محسن الأمين فبعثت هذه المخالفة في نفس السيد محسن روحا جديدة زادته حماسة وثورة في وجه القائلين بجواز الضرب بالسيف على الرؤوس في يوم عاشوراء فأصدر (رسالة التنزيه).
واتجه الجميع إلى كبار العلماء يستفتونهم في أمر الضرب بالسيف كمظهر من مظاهر الحزن على أبي عبد الله الحسين فأفتى المرحوم (السيد أبو الحسن الأصفهاني) بحرمة الضرب بالسيف، وقال ما مضمونه "إن استعمال السيوف والسلاسل والطبول والأبواق وما يجري اليوم أمثاله في مواكب العزاء بيوم عاشوراء إنما هو محرم وهو غير شرعي".
وكان المرحوم السيد أبو الحسن لم ينفرد بعد بالزعامة الروحية بل كان في طريق انفراده بها وكان له منافسون من العلماء فكادت تجمع فتاوى منافسيه على خلافه وتبعهم في ذلك كل الشيعة إلا القليل، ودوت هذه الفتاوى المخالفة للسيد (أبو الحسن) الذي أيد السيد محسن في جميع الأندية والمجالس، وتبناها الخطيب الشهير السيد صالح الحلي وقد كان من مشاهير الخطباء الذين قلما تجود الطبيعة بأمثالهم من حيث القدرة والخبرة والجرأة فصرخ بالناس وهاجهم ضد السيد محسن الأمين، وانقسم الناس إلى طائفتين على ما اصطلح عليه العوام: (علويين) و(أمويين) وكان الأمويون هم أتباع السيد محسن الأمين وقد كانوا أقلية لا يعتد بها وأكثرهم كانوا متسترين خوفا من الأذى.
واتخذها البعض حجة لمهاجمة أعدائهم واتهامهم بالأموية وكثر الاعتداء على الأشخاص وأهين عدد كبير من الناس، وضرب البعض منهم ضربا مبرحا وبلغت جرأة السيد صالح أن تطاول على السيد أبو الحسن وتناول السيد محسن.
وبدافع إعجابي بالسيد محسن وانطباعاتي عنه منذ الصغر وإيماني بصحة دعوته أصبحت (أمويا) وأمويا قحا في عرف الذين قسموا الناس إلى أمويين وعلويين، وكنت شابا فائر الدم كثير الحرارة فصببت حرارتي كلها في مقالات هاجمت بها العلماء الذين خالفوا فتوى السيد أبو الحسن والذين هاجموا السيد محسن الأمين ولما كنت يومذاك موظفا فقد نشرت مقالاتي في الجرائد بتواقيع مستعارة وتبعني في عملي هذا عدد من (الأمويين) ثم ما لبثنا أن تعارفنا نحن (الأمويين) وكان المرحوم الشيخ محسن شرارة في الطليعة، ولست أذكر مما مر إلا أنني أحسنت الدفاع عن السيد محسن بقلمي ولساني حتى هددت بالقتل والاعتداء.
وكنت أجد في كثير من الأحيان رسالتين وأكثر قد ألقي بها تحت الباب تتضمن إلى جانب التهديد بالقتل شتائم عجيبة غريبة فكنت أسعى لالتقاطها قبل أن يعرف أحد عنها شيئا ذلك لأن لي أما ملتهبة العاطفة أخشى أن يصل إليها خبر التهديد فتجن وتنغص علي حياتي، وكان لي من حسن الحظ من يدفع عني الشر رغم كونه من العلويين، ومن الحق أن أشير إلى المجتهد الكبير الشيخ عبد الكريم الجزائري فقد كان ممن ذب يوم ذاك هو والزاهد التقي المرحوم الشيخ علي القمي والعالم المعروف الشيخ جعفر البديري عن السيد محسن، ولكن التيار كان جارفا والقوة كلها في جانب (العلويين) وكانوا يتفننون في التشهير بالذين سموهم (بالأمويين)! ولا تسل عن عدد الذين شتموا وضربوا وأهينوا بسبب تلك الضجة، وكان السبب الأكبر في كل ذلك هم (العامليون) الذين كانوا يسكنون النجف طلبا للعلم وكان معظمهم من مخالفي السيد محسن.
وممن دافع عن السيد محسن خارج النجف كان المرحوم السيد مهدي القزويني في البصرة وكان السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني في بغداد الذي ساعدنا نحن الذين تولينا الكتابة والدفاع عن السيد كثيرا، على أن دفاع هؤلاء لم يكن مستغربا يوم ذاك كما كان دفاع المرحوم الشيخ علي القمي ودفاع المرحوم الشيخ جعفر البديري لبعدهما عن روح التجدد، وقد أثار هذان الأخيران في ذبهما عن السيد محسن دهشة الأوساط.
وقد استطاع السيد محسن أن يوجه مساعيه توجيها عمليا فيحول بين أرباب المآتم الحسينية والمواكب وبين القيام بأية حركة تتنافى والشريعة الإسلامية حتى الخطباء فقد استطاع أن يسيطر عليهم ويحصر خطبهم ضمن دوائر معينة من الموعظة والإرشاد وقراءة سيرة الحسين وتاريخ شهادته بعد أن كانت الفوضى عملت عملها حتى بلغ من تصرف الخطباء أن يرووا على منابر الحسين أخبارا وروايات هي أقرب للكفر منها إلى الإسلام عند علماء الشيعة.
أما النجف وسائر المدن الأخرى فقد قابلت دعوة السيد محسن برد فعل قوي شديد ظهر أثره في أول شهر محرم جاء بعد الفتوى فقد ازداد عدد الضاربين بالسيوف والسلاسل وازداد استعمال الطبول والصنوج والأبواق وكثرت الأهازيج والأناشيد التي تتضمن النقمة والتحدي لتلك الحركة الإصلاحية وخاف (الأمويون) على حد تعبير الناس وأنسحب الكثير منهم من الميدان.
وبلغ السيد محسن خبر هذه الضجة كما بلغه خبر الذين ذبوا عن رأيه ودافعوا عن حركته وظهر لي من شكره لي وثنائه علي في أول التقائي إياه أنه كان يعرف كل شيء عن الحركة.
وأصدرت جريدة (الفجر الصادق) وكنت فيها جريئا على قدر ما تستدعيه حرارة الشباب واندفاعه وكانت لي مع السيد صالح الحلي مواقف مشهودة استطعت أن أنتقم منه للإصلاح ولم أبال بالتهديد والوعيد وكان المرحوم الحاج عطية أبو كلل يؤيدني في موقفي لعدة أسباب أهمها كونه من مقلدي السيد (أبو الحسن) ثم ارتباط أسرته بأسرتي ارتباطا قديما، هذا إضافة إلى اتفاقي والحاج عطية ببث الدعوة لحمل اتجاه مواكب (الأنصار) إلى النجف في يوم وفاة النبي صلى اله عليه وسلم تلك الحركة التي كان هو وحده بطلها وقد نجحت ومنذ ذلك اليوم والمواكب تقصد النجف في يوم وفاة النبي من كل سنة.
فكان كل هذا سببا لوقوف جريدة الفجر الصادق في وجه السيد صالح الحلي وقوف من لا يخشى شيئا ولا يخاف أمرا ولكي تتم الحملة بالنجاح ويتم الانتقام لدعوة السيد محسن الإصلاحية قامت جريدة الفجر الصادق بالدعوة للخطيب الأستاذ الشيخ محمد علي اليعقوبي وكان يومذاك يسكن في الجعارة (الحيرة) ولاقت الدعوة لليعقوبي إقبالا بالنظر لما كان يتمتع به من مواهب أدبية وملكات ممتازة وكثر على مرور الزمن التلذذ بمنبر اليعقوبي وبان أثر الانكسار على السيد صالح جليا وتشجع أنصار الحركة الإصلاحية بالظهور ولم يعد يتردد اسم (الأمويين) كثيرا كما كان يتردد من قبل.
وزرت دمشق مصطافا لأول مرة وكان أول عمل عملته هو زيارة السيد محسن وكان يسكن بيتا إلى جوار المدرسة المحسنية وجاء ذكر الحركة الإصلاحية فأفاض كثيرا في وصف العلل والفوضى التي تعم الناس وقال إن الأمر بحاجة إلى أيد فعالة تنشل هؤلاء الجهلاء من جهالتهم وأذكر فيما أذكر أنه قال لي ما مضمونه: (إن السيد صالح الحلي هو أحسن خطيب عرفته المنابر الحسينية وأنا أود أن نعد الخطباء على غراره إذا ما أردنا أن ننبه الناس ونوجههم توجيها صحيحا أما موقفه ضد الحركة الإصلاحية وضدي أنا فله تفاسير أخرى لا يجوز أن تصدنا عن قول الحقيقة).
إلى أن قال الأستاذ الخليلي:
وجاءت الأخبار تنبئ أن السيد محسن قادم إلى العراق فاختلف أنصاره في أمره فمنهم من رجح مجيئه ومنهم من لم يرجح ذلك لأن الفتنة لم تكن قد خمدت بعد تماما وإن الفعل وإن بدا أخف من السابق ولكنه كان لا يزال غير مستهان به وكتب البعض إلى السيد محسن بتأجيل قدومه ولكن السيد محسن كان جريئا وغير هياب فتحرك من دمشق وتحركت الجماهير لاستقباله ودعا السيد (أبو الحسن) إلى تبجيله وتكريمه فتضاعف الغرض وإذا به استقبال لم تشهد النجف نظيرا له أشترك فيه العلماء والفضلاء والتجار ومختلف الأصناف ودنا منه (الشيخ كلو الحبيب) وهو من وجوه الطبقات المسماة (بالمشاهدة) وهي الطبقات التي تمثل النجف بقوة السلاح - دنا منه الشيخ كلو الحبيب وترامى على قدميه ثم أخذ يقبل يديه ويقول: لعن الله من غشني، ها هو ذا وجهك النوراني يشع بالإيمان فأغفر لي سوء ظني فإنما الذنب ذنب أولئك المارقين المغرضين الذين قالوا عنك ما قالوا.
وكان وجه السيد محسن يشع بالإيمان حقا فقد كانت له جاذبيته وسحره وكان ينم عن نفس وادعة بعيدة عن التعقيد لا غموض فيها ولا إبهام فلا يلبث أن يراه أحد حتى يحبه.
ونزل في النجف ضيفا على السيد (أبو الحسن) المرجع الديني الأكبر في النجف ثم انتقل بعد ذلك إلى بيت الشيخ خليل مغنية وقد زرت سماحته هناك وكان محله غاصا بطبقة كبيرة ممن كان قد تألب وألب الناس عليه ولكنه ما كاد يراه حتى ذاب أمامه كما يذوب الثلج أمام صيف الشمس الحارة، وبالغ الحاضرون في استقبالي والعناية بي في مجلسه سترا لمواقفهم النابية وخوفا من أن أشير - وأنا العارف بفعلتهم - إلى ما بذلوا من جهود ومساعي للنيل من السيد والحط من شأنه وكان معظمهم من العامليين.
وبولغ في إكرام السيد محسن والحفاوة به وكثرت الولائم والدعوات التي أقيمت له وفرضت شخصيته المحترمة نفسها حتى على خصومه فبالغوا هم الآخرون في تكريمه وتبجيله ولم يخرج من النجف حتى سقط اسم (العلويين والأمويين) من الأفواه فلم يعد أحد يقسم الناس إلى قسمين.
واستعرض الكاتب بعد ذلك مقدمات جمع المعلومات لكتاب أعيان الشيعة وذكر شيئا عن تجوال السيد بين العراق وإيران وعدد النواحي الإصلاحية الأخرى التي برز فيها السيد حتى قال: ولقد بلغ من اتجاه السيد محسن العملي أنه حمل عددا ممن عثر بهن الحظ حتى أبحن عفتهن وتجردن من عصمتهن للرجوع إلى حظيرة العفة والتزام التوبة ثم دفع بهن إلى من هيأ لهن زواجا فعشن شريفات ورزقن بأولاد صالحين ببركة مساعيه.
ثم استعرض الكاتب بعض مزاياه التي تعرف بها شخصيا إلى أن قال: وكان آخر رؤيتي له سنة 1939 حينما تفضل فشملني بألطافه برد الزيارة ولم أدر أنني ألقي عليه نظرة لن تتكرر وأنني أفارق وجها لن أسعد برؤيته ورؤية أمثاله مدى العمر.
في صميم معركة الإصلاح
تجاوبت بثورة (التنزيه) أنحاء العالم الإسلامي، وعمت دعوتها المسلمين في كل مكان، وترجمت إلى أكثر من لغة، ووجد فيها المخلصون فرصة ثمينة للتخلص من الشوائب والأباطيل، فأرادوها نقطة انطلاق نحو نهضة إصلاحية شاملة، كما وجد فيها الآخرون خطرا يهدد بعضهم بما هم فيه من جمود ورجعية، وبعضهم بما لهم من مصالح ومآرب، وأصبحت البلاد الإسلامية تغلي غليانا بها، فكثرت الردود عليها وانهالت الهجمات على صاحبها، وصاحبها صامد كالطود مؤمن بانتصاره في النهاية، ونذكر أن فريقا من محبيه المخلصين هالهم أن يتعرض شخصه لمثل ما تعرض له فكتبوا إليه يرجونه بسحب الرسالة من المكتبات، وإخفائها عن العيون إلى أن تهدأ الضجة، وتخمد العاصفة فكان جوابه أن ضاعف الكميات المطروحة وزود المكتبات بأكثر ما يستطيع تزويدها من النسخ، وقال لمن حوله: إذا كان لا بد من التضحية فإني لمغتبط أن يكون شخصي هو الضحية.
وإننا – للتاريخ - لنورد هنا مثالا مما كان يدلي به خصوم الدعوة وأنصارها على السواء من حجج وبيانات مستشهدين بأقوال من حاولوا أن يناقشوا الموضوع ويردوا على الرسالة دون أن يوغلوا في الشتائم والسباب، ودون أن يعتمدوا على البذاءة وحدها......
فكان ممن أيد الدعوة بحماسة الكاتب الهندي (محمد علي سالمين) صاحب جريدة (ديوائن ميسج) التي تصدر في بومباي باللغة الإنكليزية، فكتب مقالا نشر باللغة العربية قال فيه:
...... وكتب العلامة المجتهد الأكبر آية الله السيد محسن الأمين أيده الله كتابا رد به على من يضربون الصدور. والكتاب بصورة رسالة جمع فيها من الشارد والوارد إلى ما شاء الله على أن هذا العمل لم يأتنا من إمام أو وصي بل هو بدعاية الجهلة بدعة ابتدعوها وكما قال النبي الكريم: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار فبأي حديث بعده يؤمنون؟
ظنوا حب آل محمد بهذه الأعمال فهذا لعمري ليس حبا لأن من أحب شيئا أعزه واحترمه وهل اللطم والضرب والتشبيهات في الشوارع أمام المجوس والوثنيين يدل على حبكم يا محبي آل محمد اليوم؟ "انتهى".
ولم ينم أعداء الدعوة فتناوله منهم السيد نور الدين شرف الدين فرد عليه بمقال قال فيه:
"لم يكن في الحسبان أن الشعائر الحسينية التي اتخذتها الشيعة سنة من عهد آل بويه إلى يومنا هذا تجعك مسألة نظرية تتضارب فيها الأفكار وتختلف الأنظار إذ لا شك في فوائدها التي تعود بالنفع العميم على هذه الطائفة وليت لمن ناقش في ذلك أدلى بحجة واضحة وبرهان قاطع لنتبعه فإن الحق أحق أن يتبع".
وبعد أن يمضي الكاتب على هذا المنوال يعدد أسماء بعض المخاصمين لدعوة الإصلاح ويعدد أسماء كتبهم التي تخالف الدعوة وهم: عمه السيد عبد الحسين شرف الدين، وصهر عمه الشيخ عبد الله سبيتي، وابن عمه السيد محمد علي شرف الدين وقريب عمه الشيخ مرتضى آل ياسين. ثم الشيخ عبد الحسين الحلي والشيخ محمد حسين المظفر، يذكر هؤلاء ليدعم قوله بهم ثم يستشهد ببعض الأقوال إلى أن يصل إلى الرد الصريح على خصمه فيقول:
ومما عجبت له جدا - بل أسفت - أن محمد علي سالمين اقتفى أثر المهووسين فغدا يضرب على ذلك الوتر الذي تغلق المسامع دون ألحانه ونغماته. ثم يقول:
والأستاذ أنكر على الشيعة تمام الإنكار ما يقومون به من لطم الصدور والتمثيل والنياحة على الحسين وزعم أن ذلك محرم بل بدعة وضلالة، إنها حملات شديدة ولهجات غريبة ظهرت بمظهر الإصلاح. ثم يقول مريدا أن يبرهن أن لا ضرر جسديا من الضرب: نحن نلتمس من الأستاذ سالمين أن يلدم صدره لزمن ساعة أو ساعتين فإن حصل له شيء، من ذلك (أي الأذى) فأنا ضمن له كل ما يقترح.
ثم يختم كلامه بقوله. لم أقصد بكلمتي هذه إلا الذود عن الحقيقة.
كما أن أنصار الدعوة كانوا يقظين فتناول (نور الدين) منهم كاتبان وقع أحدهما مقاله بتوقيع (حبيب بن مظاهر) ووقعه الثاني بتوقيع (أبو فراس) وقد جاء في مقال الأول:
نكتب هذه الكلمة الموجزة ليعلم أن الطائفة الإسلامية الشيعية قد ابتليت كغيرها من الطوائف بفئة خاصة من الخلق دأبها قلب الحقائق والمكابرة لدى الدليل - حينما يؤب إليها رشدها - إن تلك الأعمال قد اتخذها أمراء الشيعة سنة من عهد القرن الرابع إلى يومنا هذا فإذا قيل لها أن عمل الأمراء وأتباعهم من الرعاع لا يصلح أن يكون حجة شرعية: قامت وأعادت تمثيل تلك الرواية وزادت عليها قول: (واسنة نبياه) وإذا اعترضت عليها بأن الشيء لا يكون سنة نبوية إلا إذا صحت روايته عن النبي صلى اله عليه وسلم كما أن عمل غير واجب العصمة لمصلحة اقتضته لا تبرر العمل المضر: جابهتك بالسباب والتفسيق والتكفير فيخيل إليك أنها من بقايا رؤساء الكنيسة في القرون الوسطى ولا تحسبن أن هذه الفئة اكتفت بالقول السيء بل اجتهدت في أضرام نار الفتنة حتى بين الأخ وأخيه والولد وأبيه فكانت العائلة وهي في مسكن واحد منقسمة إلى قسمين قسم يحبذ تلك الأعمال البربرية وقسم ينكرها.
ثم بعد هذا كله إذا جاءها أحد المصلحين الغيورين وأثبت لها بالحجة الراهنة الدامغة حرمة الكذب في المأتم الحسيني وحرمة إضرار النفس بضرب الزنجير وشج الرأس واللطم الدامي وإدخال الإقفال في الأبدان وتشبه الرجال بالنساء إلى غير ذلك من الأعمال الهمجية - قامت عليه وأعادت تمثيل رواية القذف والسب.
إلى أن يقول: هذا مجمل ما أحدثته هذه الفئة وقد طبعت في ذلك وريقات كلها سباب وشتائم شأن صبيان الأزقة. وجاء في مقال الثاني:
كنا نحسب أن كلمة الداعية الإسلامي المفضال الأستاذ محمد علي سالمين ستكون الأخيرة من نوعها في موضوع المأتم الحسيني وأنها سيكون منها مقنع لجماعة التهويش فيفهمون أن الأمة قد اقتفت أثر مصلحيها وأصبحت عالمة خيرها من شرها، وإن هذا الذي يستندون إليه من الضوضاء والضجيج لا يحسدون عليه.
ولكن كلمات جاءت بتوقيع (نور الدين شرف الدين) جعلتنا نعلم أنهم لا يزالون يحسبون أن التهويل يوصلهم إلى ما يأملون!.
إنني لا أريد هنا أن آتي بادلة جديدة أقدمها بين يدي القارئ الكريم، ولكن الذي أريده هو أن أفهم صاحب تلك الكلمات ومن لف لفه ونفخ في بوقه ومن حرضه ودفعه أننا بعد اليوم لن نعير كل ما يصدر من هذا القبيل أقل اهتمام وأننا نضن بأوقاتنا وأوقات القراء أن تشغل بهذه الأمور التي أصبح مفروغا منها، فلينضحوا كل ما في نفوسهم ويسودوا ما يشاؤون من الصحف، وسيرون أن هذه البذور الإصلاحية التي تعهدها أفاضل الأمة وساداتها بالرعاية ستنمو وتأتي أكلها في وقت قريب.
ولن يضير هؤلاء الكرام أن يقول عنهم (نور الدين) إنهم مهوسون.
وهاجم الدعوة وصاحبها الشيخ عبد المهدي المظفر في البصرة فأصدر رسالة سماها إرشاد الأمة للتمسك بالأئمة قال فيها:
وهذا السيد - يعني مؤلف رسالة التنزيه - قد كنا نسمع عنه أنه من أهل المآثر الحسان، وذوي المكانة السامية في العلم ولكن لما اطلعنا على هذه الرسالة وقعنا في حيرة الشك لما اشتملت عليه من التهجمات على الشيعة والتهويلات الفارغة على مظاهر الشريعة، والاستدلال على مقصوده بما لا يليق آن ينسب إلى مثله، وليته اكتفى بذلك وكف عن قدس صاحب الشريعة وأهل بيته المعصومين (ع) ولم ينسب إليهم عدم العصمة عن فعل المحرمات جهلا بمواقعها، أو سلب الاختيار منهم عند وقوعها، وهذا مما يخالف إجماع الإماميين لأنهم عندنا معصومون عن المعاصي عمدا وخطأ، إذ لو وقعت منهم جهلا بها أو لغلبة الطباع البشرية عليهم لم تكن أفعالهم حجة بل ولا أقوالهم ولم يثبت بهم اللطف الكامل علينا فإن من لا يملك نفسه عن فعل المعاصي لا يكون مقربا في كثير من الأحوال إلى الطاعات بل مبعدا عنها وأني لا أريد الرد عليه في مقاصده وإثبات رجحان تلك المظاهر الشريفة أو وجوبها الكفائي لكفاية ما كتبه للرد عليه جملة من إخواننا الأفاضل ولكن أتعرض لبعض ما كتبه استغرابا له وإن كان كل ما فيها غريبا فمن غرائبها:
نفي العصمة عن حجج الله وهداة دينه كما سلف و"منها" نفي العصمة عن شبل أمير المؤمنين العباس (ع) مريدا به إثبات المعصية له في حال الوفود على ربه فالسيد يثبت له المعصية والإلقاء بالنفس إلى التهلكة بلا وجه شرعي والإمام (ع) يصفه بصلابة الإيمان، والسيد ينقم عليه رمي الماء من يده والإمام يمدحه بالمواساة و"منها" استدلاله على حرمة تلك الشعائر المحترمة بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} فإني لا أعرف كيف يكون الحكم الغير الإلزامي حرجا وتكون الحرمة ليست بحرج "ومنها استدلاله على الحرمة بقوله" (لا يطاع الله من حيث يعصى) فإنه جعل محل النزاع مفروغا عن حرمته حتى صيره من مصاديق الحديث فيا عجبا أهذه المظاهر التي مضت عليها القرون الكثيرة وهي شعار للشيعة حتى أن بعضها مضى عليه ألف سنة تكون بنظر السيد محرمات مفروغا عن حرمتها والشيعة بأجمعهم في جميع الأزمنة بين مرتكب للمحرم وبين تارك للنهي عن المنكر راض به فيحق لنا أن نستسعد بدعائه ودعاء جماعة المصلحين بالغفران لإخواننا المؤمنين ونستشفع بهم إلى الله في خلاص رقابهم من النار و"منها" جعله التذكار الحسيني بأطواره وشؤونه مجلبة للنقص والعار ومحاذ للاستهزاء عند الأغيار، بربك أيها المنصف البصير هل تصلح أمثال هذه التلفيقات دليلا على حكم شرعي، "ومنها" إنكاره مجيء زين العابدين (ع) من الحبس لدفن أبيه (ع) فإنه ما أنكر إلا أمرا مسلما وقد بلغني أن جماعة انتصروا للسيد محسن وأيدوه في إنكار دفن زين العابدين لأبيه بدعوى أنه مخالف لمقدورات البشر، ولعمر الحق هذا هو الأمر الموجب للخروج عن الإسلام "انتهى" وتتابعت الرسائل في الهجوم على رسالة التنزيه وقد عدد بعض أسماء أصحابها نور الدين فيما تقدم من كلامه وكل الرسائل لا تخرج عن هذا المنطق ومنطق نور الدين المتقدم، وإن كان بعض الرسائل تعمد البذاءة والإيغال في الشتائم وسيء القول، ومثل ذلك القصائد والمقاطيع وقد اكتفى أنصار الدعوة بإخراج رسالة واحدة للرد على الجميع هي رسالة (كشف التمويه عن رسالة التنزيه) لمؤلفها الشيخ محمد الكنجي ولكنهم اتخذوا من الصحافة الحرة ميدانا رحيبا لأقلامهم المتوثبة وكان ممن أبدع في ذلك الشيخ محسن شرارة والأستاذ سلمان الصفواني وغيرهما.
الشيخ محمد عبده والسيد محسن الأمين
بقلم الدكتور علي الوردي
في كتابه "مهزلة العقل البشري".
يعجبني من المصلحين في هذا العصر رجلان هما: الشيخ محمد عبده في مصر والسيد محسن الأمين في الشام. فالشيخ محمد عبده قد نال في بدء دعوته الإصلاحية من الشتيمة قسطا كبيرا حتى اعتبروه "الدجال" الذي يظهر في آخر الزمان. ولكنه الآن خالد لا يدانيه في مجده أرباب العمائم مجتمعين.
وإني لا أزال أذكر تلك الضجة التي أثيرت حول الدعوة الإصلاحية التي قام بها السيد محسن قبل ربع قرن. ولكنه صمد لها وقاومها باسلا فلم يلن ولم يتردد. وقد مات السيد أخيرا ولكن ذكراه لم تمت ولن تموت وستبقى دهرا طويلا حتى تهدم هاتيك السخافات التي شوهت الدين وجعلت منه أضحوكة الضاحكين.
الثائر
قال الأستاذ منح الصلح من مقال له في مجلة الديار البيروتية بعد أن ذكر عبد الحميد بن باديس وأثره في تحضير الجزائر للثورة:...... والنموذج الثاني بين رجال الدين، على العلاقة الخلاقة بين العمل الوطني والإسلام: هو المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين الذي كان في دمشق إمام العمل الوطني السوري ومرجع المذهب الشيعي الأعلى، فهو على الصعيد الديني لم يقل أثرا وسعة أفق عن محمد عبده. وعلى الصعيد الوطني كان رأس الوطنيين السوريين، وفي بيته أعلنت الحركة الوطنية في سوريا سنة 1936 إضراب الستة أشهر الشهير.
التقدمي المجدد
بقلم: الشيخ محمد رضا الشبيبي رئيس مجلس الأعيان ورئيس مجلس النواب ورئيس المجمع العلمي ووزير المعارف العراقية الأسبق.
يموت بين الحين والحين قوم لهم أزياء أهل العلم ومظاهرهم فلا يشعر بموتهم أحد، ولا يتركون فراغا يعتد به. ثم يموت أحدهم فيروع موته أمة بأسرها. ويترك بعده ثلمة من الصعب سدها ويفجع لفقده عالم بأسره إلى غير ذلك مما يعد دليلا بالغا على أن الفقيد من هذا الطراز كان معنيا بالعمل قبل العلم، وبالحركة قبل السكون، وبالجد والاجتهاد، وبالغيرة على مصالح الناس.
هكذا كان فقيد الشعب العربي (السيد المحسن الأمين) فما كان اضطراب من اضطرب من العرب والمسلمين لفقده عبثا، وإنما كان ذلك لأنه ترك ثلمة في بناء المروءة والفضيلة والعلم والخلق الكريم.
لا نبالغ إذا قلنا أنه حفظ للعلم كرامته ولم يجعل منه سلما للأغراض والمطامع فكان على جانب عظيم من التصون وإباء الضيم وقد مرت به شدائد، ولحقه ما لحقه في بعض أدوار حياته من العسر فصبر صبر الكرام. وترفع عن الإسفاف ولم تنل منه السياسة الماكرة، ولم ينخدع بها، ولا خدم رجالها، بل كانوا يخدمونه ويخطبون وده دائما كأنما عناه الأستاذ العالم الشاعر عبد القادر الجرجاني بأبياته السائرة:
يقولون لي فيك انقباض وإنما | رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما |
إذا قيل: هذا مورد قلت: قد أرى | ولكن نفس الحر تحتمل الظما |
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم | ولو عظموه في النفوس لعظما |
ولم أقض حق العلم إن كان كلما | بدا طمع صيرته لي سلما |
أجل!!...... يخيل لك أن الجرجاني عنى بأبياته هذه شخصا كالإمام الفقيد فقد كان مثالا للعالم المنزه عن الأطماع والدخول فيما لا يعنيه والترخص أو المساومة في الأحكام.
كان السيد محسن الأمين رحمه الله مجددا في طريقته التعليمية أنشأ مدارس عدة ناجحة للجنسين في دمشق وقد تخرج منها إلى الآن عدد قليل من رجال سوريا ولبنان وشبابه المثقف. ولاحظ ما يكابد شداة العلم من الغموض والتعقيد الملحوظ في كتب الدراسة القديمة المجردة في الفقه والأصول وفي غير ذلك من العلوم فتركها وشأنها. ووضع بنفسه وبمفرده كتبا حديثة سهلة التناول يعول عليها طلاب مدارسه في دمشق وغيرها إلى اليوم.
ثار مرة أمامي على أحد الأساتذة الجامدين الذين يقدسون طريقة القدامى ويحرصون على أن لا تمس، وأن تبقى كتبهم على ما هي قائلا: "لماذا نحذو حذو الأقدمين هم رجال ونحن رجال". وكان ذلك في سنة 1920 في مجلسنا بدمشق الشام، أي قبل أكثر من ثلاثين سنة.
شن حربا شعواء على الخرافات والأوهام الشائعة وعلى العادات التي اعتبرت دينا عند بعض الطبقات، وما هي من الدين ولا من الشرع الشريف في شيء فهو في طليعة المنادين في الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي في الشرق العربي وفي غيره من الأقطار. وكان جل معوله في رزقه خصوصا في فترة حياته الأخيرة على شق قلمه، وما يدخل إليه من حاصل مبيع كتبه وتأليفه ومطبوعاته وهي كتب ومطبوعات كتب لها الرواج كأنما كوفئ بذلك على إخلاصه وطيب سريرته وحسن نيته في العلم والعمل.
ثابر على التأليف والكتابة إلى أواخر أيام حياته وقد ناهز التسعين، ورحل عدة مرات في طلب العلم والكتب والآثار وزار العراق آخر مرة قبل نحو من عشر سنوات وفتش في خزانة كتبي ببغداد عما يعنيه من هذا القبيل. وأقام لهذا الغرض وقتا غير قصير وحمل ما راق له من المكتبة المذكورة معه إلى الشام. ثم وجدته وقد عدها من مراجعه في بعض مؤلفاته.
أصيب رحمه الله ببعض العلل الناشئة عن الإجهاد في هذه السنوات الثلاث الأخيرة ولازمه الأطباء، وعولج قبل وفاته في مستشفيات بيروت إلى أن وافاه الأجل في هذا الأسبوع فخسرت به محافل الإسلام خسارة يصعب تعويضها طيب الله ثرى الفقيد وتغمده برحمته الواسعة.
تاريخ وفاته
قال الشيخ علي البازي مؤرخا وفاته:
نعي لنا بالبرق كهف الحجى | الحجة الجهبذ والمحسن |
في رجب الفرد قضى "الفرد" قل | أرخ وغاب العالم المحسن |
إمام في الوطنية
بقلم: الأستاذ لطفي الحفار
رئيس الوزارة السورية الأسبق.
كان الوطنيون منذ احتلال فرنسة للبلاد السورية يعملون في مختلف الظروف والمناسبات وفي شتى الاجتماعات والمؤتمرات لمقاومة هذا الأجنبي الغاصب الذي سلبهم حق الحرية والاستقلال وقضى على عرش فيصل الأول في سورية بأساليب القوة والبطش والمخاتلة والخداع وضروب المصاولة والمطاولة وترك الناس قلقين على مستقبل بلادهم خائفين وجلين ينشدون حقهم في الحياة الحرة الكريمة.
وبدأت الجهود المتفرقة تتلاقى في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية لمقاومة هذا الأجنبي وأعوانه ومنذ أن جاءت لجنة (كراين) الأميركية أيام الرئيس ولسن لاستفتاء البلاد السورية برأيها السياسي وفي تقرير مصيرها بدأت الحركات الوطنية تظهر شيئا فشيئا وبدأت المقاومة السلبية في شتى المناسبات ولجأ الأجنبي للقضاء على هذه الروح الوطنية الوثابة بالاعتقالات وسوق الوطنيين العاملين إلى المنافي والسجون ثم نشبت الثورة السورية عام (1925 إلى عام 1928) حينما اضطرت فرنسة لدعوة البلاد لانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستورها وتقرر أوضاعها السياسية والإدارية والمالية بعد أن شعرت بشدة المعارضة الوطنية وقوة مراسها وإجماع كلمتها. ثم تألفت وقتئذ الكتلة الوطنية على أعقاب انتخابات الجمعية التأسيسية التي فاز بمعظم مقاعدها الوطنيون العاملون رغم ما بذله الأجنبي مع حكوماته وأعوانه من مقاومة واضطهاد وكانت البلاد السورية كلها صفا واحدا وكلمة جامعة تعمل وتجاهد وراء قادتها العاملين المخلصين، وكنا في هذه الظروف الحرجة التي نبذل فيها ما عز وهان من جهد وتضحية وبذل ونضال نعاني الأمرين من بعض الذين اتخذوا الدين مطية لأهوائهم ومطامعهم والوصول إلى غاياتهم في الحكم والسلطان ومقاومة إجماع البلاد لعدم التعاون مع الأجنبي المحتل وكنا نلاقي الألاقي من هذه التيارات الخطرة على الناس والعامة. وفي هذه الحقبة من أيام النضال والنزال على اختلاف ظروفه وأحواله كنا نستمد قوة روحية ورعاية واسعة ودعوة صالحة من الإمام المجتهد السيد محسن الأمين على عكس ما نراه من بعض الأدعياء الجهلاء وما عدنا مرة من منفى أو سجن والمعارك سجال بيننا وبين هؤلاء أذناب المستعمر الذين يخدعون الناس ويضللونهم بالباطل إلا وكان الإمام السيد يدعو للثبات والتضحية والإخلاص في العمل ويبارك جهود العاملين ويدعو لهم بالقوة والتأييد وكم كنا نأنس بزيارته من حين إلى آخر لما نلاقي في أحاديثه الممتعة ودعاياته الوطنية المخلصة من التشجيع والتنشيط والحث على متابعة الجهاد في سبيل الله والوطن وتحقيق غايات البلاد في الحرية والاستقلال والدفاع عن كرامة الإسلام والمسلمين والتضامن مع مختلف الطوائف والمذاهب والتسامح والاتحاد ونبذ الضغائن والأحقاد. وإن لنا نبراسا يضيء في المدلهمات والملمات وقبسا يشع نوره في مختلف الحادثات ولا أنكر أننا كنا نلاقي مثل هذا التأييد والتشجيع من بعض رجال الدين الآخرين على اختلاف المذاهب والطوائف الذين يستشعرون واجباتهم الدينية والدنيوية. غير أن ما كان يتمتع به الإمام العلامة السيد محسن من الزعامة والقوة والحب العميق من جميع من عرفه واجتمع إليه من إخوانه ورجاله وأبناء عشيرته وغيرهم، كانت هذه الزعامة والحب قوة لنا لمتابعة الجهاد والنضال دون تردد أو ضعف وكانت مجالسه كلها التي نغشاها من حين إلى آخر مجالا للدعوة الصالحة في وجوب التضامن والائتلاف ونبذ الصغائر والخلافات والترفع عن الدنايا والإسفاف. وكان بهذه القوة التي يعمرها الإيمان يحارب الكثير من الصغائر والسخافات داعيا لترك العادات التي ما أنزل الله بها من سلطان وهي تصد المسلمين
عن إصلاح دينهم ودنياهم. هذه الأعمال والخرافات التي لا تتفق مع ما دعا إليه الدين الحنيف من العمل الصالح والبذل والتضحية لخدمة المجتمع بالنية الصالحة والقدوة الحسنة وكان يقول لنا أنتم المسؤولون أمام الله عن هؤلاء الذين وثقوا بكم فكونوا عند حسن ضنهم في القول والعمل وما أتى امرؤ عملا صالحا إلا وأثابه الله في دنياه وآخرته. وكان لدعوته هذه الأثر البالغ في النفوس لأنها صادرة عن قلب ملؤه الإيمان والإخلاص. كان أسبع الله عليه رحمته ورضوانه زاهدا في مباهج الدنيا وزخارفها عزوفا عن المظاهر الفارغة والدعايات الباطلة وإني لأذكر أن الإفرنسيين حاولوا كثيرا استمالته إليهم بشتى الوسائل المغرية وعرضوا عليه دارا فخمة يقيم بها وراتبا ضخما يتقاضاه منهم فردهم ردا عنيفا وأعرض عنهم ولم يبال بهم وبقوتهم وكان لهذا كله أعظم تأثير لدى الذين يتصلون به ويعرفون مناقبه وفضائله ويستمعون إلى أحاديثه النافعة ونصائحه الغالية مع ما يتخللها من الأبحاث العلمية النافعة والمواضيع الدينية الثمينة فقد كنت كما يعلم الله أستشعر راحة ولذة لا تعدلها لذة حينما أرى هذا الوجه النير والتواضع الجم والحديث الممتع والنصائح الغالية والأبحاث الدينية والعلمية الواسعة في داره المتواضعة بين الكتب والمحابر.
لقد ترك فقده رضوان الله عليه فراغا واسعا يصعب إملاؤه لأنه كان نادرة الدهر ومفخرة العصر أسكنه الله فسيح جناته وأثابه عدد حسناته وعوض المسلمين من أمثاله العاملين الصالحين خيرا وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المؤلف
بقلم: الدكتور حكمت هاشم
اعتذر من الاعتراف لكم، سادتي، أن قد شاع في سري غرور عذب، ولكن أمنية الطامع لم تبلغ بي - وأنا من هذا على أتم الوثوق - حد التشوف إلى مقعد كان يتبوؤه قبلي إمام جهبذ ومجتهد فحل مثل رصيفكم الراحل السيد محسن الأمين رضي الله عنه وطيب ثراه. فلما شئتم، باقتراعكم المفضل، أن تحلوا الخلف محل السلف - على ما يبدو لديهما من فارق النزعة وتباين القدر - لم أتبين سائقا يحدو بكم على ما صنعتم غير الاستمساك برمز أرجو ألا أكون مخطئا في استخراج مغزاه: وهو تكريم الأمانة للفكرة، وتمجيد الوفاء للعقيدة مذ تستهويان قلب من آمن بهما عن إخلاص ووعي وبصيرة. فلا يصرفه عن "التزامهما" صارف ولا يجد عن الصدع بهما محيدا، وأحسب سادتي، من نافلة القول أن أقرر لكم أن حب آل محمد صلى الله عليه وسلم هو - فيما يتصل بتلك الحياة الغنية الخصبة الفياضة الصالحة التي قضاها زميلكم العظيم - نقطة البداية وغاية الغاية. فائذنوا لي ما دام علي أن أستثير أمامكم ذكراها، أن أقف أمامكم أجيل الطرف في بعض حناياها، واغفروا لي إن عشيت العين الكليلة عن إدراك السنى اللألاء الذي تشع به مزاياها.
يشاء القدر أن يولد زميلكم منذ نحو قرن بشقرا (من أعمال مرجعيون) في جبل عامل ذلك الذي يقال إن المتشيع الأول أبا ذر الغفاري اتخذه ملجأ بعد أن أخرجه معاوية إلى القرى. ويشاء البخت السعيد أن يتصل نسبه بالحسين "السبط الشهيد ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبضعته" فكيف، والعرق دساس، لا يفعل الدم النبيل الذي تمور به شرايين نابغة كمثله في صوغ وجوده على النحو الذي صيغ فيه؟ ولم لا يهيب به هذا الدم إلى موالاة ما اتصل ولم يتراخ من سلسلة الشرف والمعرفة والرياسة؟
لقد سمع من ذويه، وهو في غضارة السن، أن مما من الله به على العشيرة عدم انقطاع العلماء والفضلاء منها في القديم والحديث. أليس فيما رووا أنه منحدر من صلب "ذي الدمعة" (المدفون بالحلة السيفية) الذي لم تجف عبرته من خشية الله؟ أوليس ذلك الزاهد التقي هو ابن زيد الشهيد؟ أوليس زيد هذا بولد الإمام زين العابدين الذي بلغ من جلالته أن مسلم بن عقبة، بعد وقعة الحرة، نكص عن أخذ بيعته ليزيد إلا على أنه "أخوه وابن عمه" على حين بايع فيها أهل المدينة على أنهم "عبيد رق ليزيد"؟ أوليس هو الذي تهيبه خمسة من خلفاء بني أمية فلم يجسروا على التعرض لمدرسته التي أقامها في داره لتكون خلال خمس وثلاثين سنة ينبوع الحديث والعلم والرواية لأمثال الزهري وسفيان بن عيينة ونافع والأوزاعي ومقاتل والواقدي ومحمد بن إسحاق وكثير من الصحابة والتابعين؟ ثم ألم يكن أجداد مترجمنا الأقربون بعد نزوحهم من العراق موضع التقديم والتجلة في قومهم حتى لكانوا أصحاب المنزلة الرفيعة عند أمراء بلاد بشارة الممتدة من الليطاني إلى تخم صفد والمترامية بين شاطئ البحر الشامي إلى الأردن وطرف البقاع؟ هذا مسجد قريته الجامع يعيد عليه رسم بانيه جد جده الوجيه الفقيه المتقن السيد موسى بن حيدر المكنى بأبي الحسن فيؤخذ بمرآه وهو يؤم الأمير الجليل ناصيف بن نصار في صلاة الجمعة ووراءه خلق لا يحصى من أهل الأصقاع المجاورة. وهذا أبو جده الأدنى عمدة الرؤساء السيد محمد الأمين يروى له عنه أن والي عكا أحمد الجزار لم يجد أحدا سواه يفاوضه على عودة أهل البلاد الذين فروا في وجهه لما نهب مالهم واستصفى عقارهم وأحرق خزائن كتبهم. لكأني بالصبي وهو يستمع إلى خبر الشيخ الصافي النحيزة (الذي وضع ابنه رهينة على وعد قطعه ومع ذلك لم يسلم من آذى الطاغية بالذي ما نكث له بعهد، ولكنه لا يلبث أن تشرق أساريره بشرا ويشمخ عرنينه فخرا مذ يعلم حسن تلطف الفتى الطليق للوالي ونجاحه في فك أسار والده الذي جزي بنفيه إلى دمشق جزاء سنمار...... أن هذا الفتى النبيه الجريء هو السيد علي جد السيد محسن. ولعل الحفيد الصغير كان يداخله زهو بالغ من سيرة الشاب الهمام المقدام. ألم يتلمح من ثنايا تلك السيرة وجه صاحبها الرائع ويتعرف فيما يطالعه منه ما ورثه من مخايل النجابة وبعد النظر والحزم؟ أو لا يراه - في دامس المحنة - يضرب بحديد بصره في حاشية الجزار فيتخير لصداقته أميرا مصريا يعقد به أواصر المودة ويتساقى معه في مكتبه رحيق المعرفة، حتى إذا دار بالجزار وبخليفته سليمان الدهر ألفاه - في شخص عبد الله باشا - مقتعدا سرير عكا فيفد عليه ويجد عنده الحظوة والرعاية؟ أما الحظوة فأعظم بها بادرة يوم أعلى الصديق كعب صديقه في الفقهاء، إن كان له الفلج عليهم في إيجاد مخرج ليمين كادت تحرم على الأمير زوجة حبيبة! وأما الرعاية فناهيك "بالصوانة" ضيعة وافرة الغلة زهيدة الخراج يقطعها الصديق صديقه، وليس من ذنبه بعد ذلك إن جاء الحساد على وغر في الصدر مكنون - يدسون السم للمنعم عليه في قهوة البن، وأكبادهم تتلظى موجدة وكيدا!.
في ذلك الجو المليء بالمآسي والمفاخر والمحامد دينا ودنيا، تتفتح مخيلة السيد محسن ابن السيد عبد الكريم: أنى تلفت ذهن الغلام اليافع لم يبصر إلا مواكب "الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا"! فيم أذن لا يجتذبه نداء مناديهم وقد قرع سمعه من أغوار التاريخ؟ وعلام لا يتخذ عدته فيغذ السير للحاق بركبهم والوقوف في صفهم؟ إلا ليهرع إلى مدارس ناحيته فلينكب على كتاب الله وحديث رسوله، وليجهز نفسه بعلوم الآلة التي قيل له أنها لهما بمثابة المفاتيح. هذا هو يتأبط ابن الناظم والرضي والجاربردي والملا جامي والدسوقي والدماميني والشيرواني وأمثال تلك المتون والشروح الصارمة فيمضي فيها نظرا وتعليقا واستخلاصا. وها هو ذا يجود الذكر الحكيم فيرتل خاشعا قوله تعالى:{قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} ويقف طويلا عند قوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} ثم ها هو ذا يفتح تفسير الطبري فينال من نفسه ما رواه من قول إمام الهدى في علي كرم الله وجهه: "إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم"، وينظر في مستدرك الحاكم فتهتز جوانحه لما خوطبت به فاطمة: "ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين فداك أبي وأمي؟" فإذا قرأ في خطبة الوداع: "إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي"، استبان له الدرب ونذر حياته للسلوك فيه على هدى الكتاب العزيز وهوى العترة الطاهرة:
حبي لآل المصطفى | خالط لحمي ودمي |
هذا لساني دائب | في نصرهم وقلمي |
حتى توارى في ضريحـ | ـي بعد موتي أعظمي |
ولكن آفاق شقرا وتبنين وهونين ومجدل سلم أضيق من أن تتسع لمطامح الشاب النابه وهذه نسائم سر من رأى والكاظمية وكربلاء والنجف الغروي تمر رخاء بقلبه فتهيج الشوق فيه وتبثه أمل ساكنيها الأبرار في حلوله بين ظهرانيهم. ما بال الرجل الشخيص الأيد لا يهجم إذن على شد الرحال إليهم، ولو فت في عضده أب هرم أضر بعينيه الزمان، ما دام قد استخار الله بذات الرقاع، إليكم السيد ينحدر إلى صيدا فبيروت، ويركب البحر منها إلى الإسكندرون ليلوي على حلب ويضج عنها إلى البادية فالفرات فبغداد، ويلقي العصا أخيرا في النجف الأشرف. لكأني به - وقد بلغ الحمى إذ ذاك - يستخفه وجد شديد وهو يصغي إلى هاتف يحمل إليه نشيد السيد الحميري:
أمرر على جدث الحسـ | ـين فقل لأعظمه الزكيه |
آ أعظما لا زلت من | وطفاء ساكبة رويه |
وإذا أنخت بقبره | فأطل به وقف المطيه |
وأبك المطهر للمطهـ | ـر والمطهرة التقيه |
كبكاء ثاكلة أتت | يوما لواحدها المنيه |
نعم أنه ليستجيب فيبكي طويلا إذ يذكر فاجعة العطش، وينظم من المراثي المشجية (في الحسين وأمه وأبيه وبنيه) ما يملأ ديوانا كاملا. ثم أنه ليطيل وقف مطيته عشر سنوات ونيفا كي يكرع ويعب وينهل ويعل من سلاف المعرفة "موجها إلى تحصيل العلم - كما يقول - همة أعلى من الضراح وعزمة أمضى من بيض الصفاح"!......
في هذا الطور من حياة زميلكم تغنى بضاعته ما شاء الله أن تغنى، وتطول باعه في الدراية والنظر. أنه لا يكتفي أن يقرأ المنطق والفرائض والأصول - سطحا وخارجا.. على أيدي مشيخة أعلام كالهمذاني والخراساني والأصفهاني ومحمد طه نجف وغيرهم من أئمة العرب والعجم. بل هو يشرع في التأليف - على كثرة الهموم والعيال - فيحبر مجلدات في الفقه والتوحيد والأخلاق، ويجمع كتبا في التاريخ والحديث والجدل حتى يطبق أساتذته على أنه "ترقى من حضيض التقليد إلى أوج الاجتهاد".
بيد أن لواعج الشوق إلى الديار تبرح بزميلكم قبل أن يهدف إلى الأربعين، فلا ضير عليه وقد نال بغيته من دار هجرته، أن يرجع إلى الوطن حاملا معه مشعل دعوته. ولأمر ما يعزم أن تكون عاصمة تلك الدعوة دمشق. مذ ذاك يتخذها سكنا لا يبرحه اللهم إلا لحج أو منسك أو إقامة يسيرة في مسقط رأسه. ومذ ذاك تستعد هذه المدينة السمحة لشهود نشاط شيعي منقطع النظير. فكأن الزمان شاء لبني
هاشم - خلال خمسين سنة كاملة - أن يعيدوا مع بني عمهم من ولد مروان حساب التقاص في دار أموية!..
لست أقوى، سادتي، على تناول هذا النشاط الهائل في تفصيله ولا مجمله. وبحسبكم لتصور الحرج الذي داخلني من هذا الشأن أن تعلموا أن مجمعكم - زاده الله بسطة في العلم - بعث إلي من أجل إعداد هذه الكلمة بسبعة وخمسين مؤلفا من مؤلفات الشيخ، أذكر أن قد ورد يومئذ على البال موقف جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي المعاصر إذ أحجم عن تلخيص مذهبه "الوجودي" لمجلة "لايف" في مقال مقتضب طلبته إليه ولكن هل من سبيل للأحجام عن تلبية طلبتكم؟
تسمحون لي إذن، أيها السادة ألا أخوض في جزء كبير من ذلك التراث، وأن أكتفي فأقول فيه ما قيل في كتب حجة الإسلام الغزالي من أنها: لو وزعت على أيام عمره، لأصاب كل يوم منها عدة كراريس! بيد أني إن اضطررت للمرور سريعا بتلك المجاميع اللطيفة التي ضم فيها المؤلف طرفا إلى طرف بعض الأخبار المتصلة بعلم مذكور أو حادثة شهيرة - مهما تحتمل تلك الأخبار من نقد - فما يليق بي أن أتجاوز عن كتب ثلاثة تعكس إلى حد كبير لمعة من طراز تفكيره.
وأحب أن أقدم الكلام على آخر هذه الكتب عهدا في تاريخ حياته أعني كتاب "نقض الوشيعة"، لما خاض موسى جار الله التركستاني في "نقد عقائد الشيعة"، برز له زميلكم - رحمه الله - يدرأ مطاعنه الجارحة. وكان لا بد، لدفع ما ألصق بالمذهب من تهم ووصمات أن يجيء الكتاب على الأسلوب الجدلي. وأنتم تعرفون ما ربما انطوى عليه هذا الأسلوب من "منطق العواطف " الذي يجعله الميزانيون مرادفا لتمويهات الغرض والهوى" (أرجو أن تعفوا عن هذه الإشارة، فالتعبير لمناطقة "بوررويال"). والحق أن ذلك الكتاب على الرغم من هذا التحفظ - ليروع قارئه بإيمان المجتهد الكبير وسعة إحاطته وقوة حجته ودامغ برهانه. حتى إنه ربما قاده لإعادة النظر في مواقف كان في نفسه منها شيء كأمر "التلاعن والتطاعن" و"عصمة الإمام" و"التقية" و"نكاح المتعة" وما إلى ذلك. وأشهد أن المرء، في كثير من المواضع التي يبدو عليها أن ظاهر الحق في جانب الخصم، لا يلبث أن يخرج ميالا إلى العكس بعد سماع الرد.
فأما الكتاب الثاني فهو "كشف الارتياب في أشياع محمد بن عبد الوهاب"، وهو كما يتجلى من عنوانه مخصص لمناقشة المسائل التي يقوم عليها مذهب السلفية الوهابية كتحريم البدعة، وهدم القبور، وإنكار الشفاعة والاستغاثة والتوسل والحلف بغير الله والنذر والتبرك والتدخين والاجتهاد وغير ذلك من الأمور المشهورة. ولقد يعجب الناظر في هذا الكتاب لكبرى البوائق يرمي بها السيد خصومه مذ ينقل له عن مصادر - موثوقة أو غير موثوقة - مثل قول إمام مذهبهم: "الربابة في بيت الخاطئة أقل إثما ممن ينادي بالصلاة على النبي في المنائر!". ولقد يداخله الدهش لتشبيه الوهابيين بالخوارج "من ثلاثة عشر وجها"! ولكنه لن يحتاج إلى عناء كبير في كشف السر، إن هو التفت إلى المقدمة فطالعته بالمقطع التالي: "الحمد لله...... وبعد، فلما ضعفت شوكة ملوك الإسلام، وكن من ذلك استيلاء الوهابيين من أعراب نجد على...... الحرمين الشريفين وهدم مزارات المسلمين ومنها قبة أهل البيت عليهم السلام. وقباب مواليد النبي صلى الله عليه وسلم. وجعل قبور عظماء المسلمين. معرضة لدوس الأقدام ووقوع القذارات وروث الدواب والكلام فأحرقوا بذلك قلوب المؤمنين جئت بهذه الرسالة".
وأما الكتاب الذي يعد واسطة العقد في تآليفه والذي اعتقد أنه من الأوابد الخوالد الشوارد في تراثنا الإسلامي فهو "أعيان الشيعة" لقد كان في مشيئة السيد أن يجعل من معلمته تلك مرجعا تاريخيا لفرق الشيعة في الدول الإسلامية، ولعقائدها في الأصول والفروع، غير أنه آثر أن يجتزئ باستقصاء أخبار الإمامية الاثني عشرية: علمائها، ومتكلميها، وأصولييها، وفقهائها، ومؤرخيها، ونسابيها، وجغرافييها، ومنطقييها، ومنجميها، وأطبائها، ونحوييها، وصرفييها، وبيانييها، وشعرائها، وعروضييها، وأدبائها، وكتابها، ومصنفيها في فنون الإسلام في كل عصر. على أنه لم ير أن يحشد بين أولئك من لم يقل في حقه إلا عبارة مختصرة كقولهم: ثقة، أو عين، أو صدوق، أو له كتاب، أو لا بأس به، أو ضعيف، أو من رجال أحدهم عليهم السلام، أو عالم فاضل معاصر، أو عالم صالح، أو يروي عن فلان أو يروي فلان عنه، أو نحو ذلك.
ليس من المبالغة هاهنا أن يقال عن السيد محسن - رضوان الله عليه - أنه ارتفع بهذا المؤلف إلى مصاف أكابر الرجاليين في تاريخنا كابن عبد البر، وابن حجر العسقلاني، وابن سعد وإضرابهم من أمثال الخطيب البغدادي وابن عساكر وياقوت الحموي وابن خلكان والصفدي ومن إليهم. ولئن كان فيه مستقصيا متتبعا محققا إلى الغاية التي تنوء بالوسع فإن إصالته وميزته - على حسب ما أظن - في انتصاره الوفي لفضلاء أهل البيت، وإشارته المنصفة إلى ما نالهم من ظلم ونسبة باطلة، ثم في حملته الجريئة على من عرض لهم بالوقيعة أو التحامل.
تراه إذا ذكر قوم أن أبا العيناء ادعى خطبة الزهراء هراء بعد أن منعها الصديق فدكا، أو أن نهج "البلاغة" هو للشريف الرضي، لم يحجم أن يحتج على النقيض ثم يقرر: "هذا باطل لا يلتفت إليه بعد رواية الثقاة له وتصحيحهم إياه"...... إذا جرى للرافعي في "إعجاز القرآن" لغو غير مهذب في حق "الرافضة"، لامه السيد لوما عنيفا على (اتقاد نار العدواة والعصبية في قلبه الذي أنطق لسانه بالفحش وأخرجه إلى سوء القول)، وكذلك فعل بالدكتور أحمد أمين وبالأستاذ محمد ثابت المصري طوال مائة وثلاثين صفحة مرصوصة من كتابه. ومن الطريف أنه لما عتب على أستاذنا المغربي لأنه لم يقرظ كتبه غير المتصلة بالأدب والشعر، لم يجد بدا من أن ينهي كلامه بالمفافحة الشديدة عن الشيعة والتعريض الساخر - على طريقة إياك أعني - بمذهب الحشوية قال: (ولم يدخلوا في معتقداتهم أن الله ينزل كل ليلة جمعة إلى سطوح المساجد، ولا أن النبي رآه في ليلة المعراج بعيني رأسه، ولا أن العبد مجبور على أفعاله ومثاب ومعاقب على ما أجبر عليه). ولعلكم، سادتي، أغضبتم زميلكم ذات مرة إغضابا شديدا حتى دفعتموه لأن يقول عن مجلتكم ما ليس من الأناقة في هذا المقام إعادة روايته بمسمع منكم وحسبي في الاعتذار لسلفي أن أقول: لم يكن في حياته - غفر الله له - من دم مسفوح ولكن في إهاب هذا الشيخ الجبار ذي الهامة الهرقلية نفسا كنفوس أولئك (التوابين) بعين الوردة الذين استماتوا في صفوف سليمان بن صرد والمسيب الفزاري ثأرا لدم الحسين!
وبعد، أيها السادة، فإن أسفي شديد لأني لم أسعد بلقاء زميلكم والتعرف عليه عن قرب حتى أجلو لكم خصائص خلقه وشخصيته، ولكن أصدقاءه وتلامذته يرسمون له صورة تستهوى الأفئدة في بساطتها وسموها على السواء.
لقد أشادوا بما عرفوا فيه من تواضع وزهد بالجاه وعزوف عن المنزلة واحتقار للمظاهر الباطلة الغرارة. ذكروا أنه ما بالى قط متاع الحياة فاجتزأ بما يسد البلغة ويقوم بالأود: كان يسعى لشأنه بنفسه، ويباشر بيده تهيئة طعامه غير حافل برفاهية مأكل أو مشرب، ولا ملتفت إلى زينة في شارة أو كسوة...... كذلك شأن العظماء ينكرون ما أسماه نيتشه "فلسفة الخياطين" فلا يؤمنون أن الثوب يخلق الراهب، ولا أن الزنار المفضفض خير من الذكر الحسن!..
ولقد صوروا ما رأوا فيه من ورع وتقوى وعفة يد ولسان، وشهدوا أن "الآلاف ذهبا. كانت ترد عليه فما يمسها ويحولها للحال إلى وجوه الخير" بل ربما أنفق ماله على تأسيس المدارس ووقفها في عصر أذل فيه الحرص أعناق الرجال.. كذلك شأن الزاهدين الأصفياء أزكياء النفوس يحقرون الاستكثار ويأنفون من التكالب على الرزق، لأنهم لا يقيسون الفضل بذلك المقياس العجيب الذي حدثنا عنه يوما أحد عمداء العلم وأسماه "مقياس عدد الأصفار"!
ثم هم أطبقوا على جودة رأيه وشجاعة قلبه وثبات جنانه وتحرره من العصبية والجمود ونهوضه بما يعتقد أنه حق.. كذلك شأن الروحانيين المخلصين لا يدارون في فكرتهم ولا يداجون ولا يصانعون ولا يتلمسون مجدا رخيصا قائما على تملق العامة واسترضاء الدهماء، ذلك بأنهما أدركوا سر تلك الحكمة العسجدية المنقوشة في صدر تريستان وأيزولت والتي تصلح شعارا للمثاليين جميعا من كل جلدة: "ما لا يقدر عليه السحرة، فباستطاعة القلب أن يأتي به بقوة الحب والبطولة"!
سادتي،
رحم الله زميلكم ما أروع سحر الانسجام في علمه وعمله! ألم يكن ذا قلب كبير يفيض بالبطولة وبالمحبة؟
من مراثيه
للشيخ راغب العثماني في رثائه:
ترك الجفون تسح بالعبرات | عظم الأسى وتراكم الحسرات |
رزء على الإسلام جل مصابة | وهوت سماء نجومه النضرات |
يا خادم العلم الشريف وصاحب الـ | ـعقل الحصيف وجامع الحسنات |
من كان بعدك للشريعة واقفا | بالحزم بين زواجر وعفات |
من كان بعدك في الإله مجاهدا | أهل الهوى والزيغ والشبهات |
الزعيم الديني الأوحد الذي
لم يعرف دار المفوض السامي
بقلم: الأستاذ حسين مروه
ميزتان امتاز بهما الفقيد الكبير تغنيان الباحث عن كل ميزة له سواهما، وتغنيان ذكراه نفسها عن كل مجد يذكره له الناس فيما سيذكرون من أمجاد.
ميزتان هما: أولا، أن السيد محسن الأمين هو الزعيم الديني الأوحد الذي لم يعرف، قط دار "المفوض السامي" الفرنسي في بيروت، ولا دار "المندوبية الفرنسية" بدمشق طوال عهد الانتداب الداثر، وهو الزعيم الديني الأوحد الذي لم يعرف، قط، وجه فرنسي واحد معرفة غيره لهاتيك الوجوه التي كانت تعنو لها وجوه القوم هنا وهناك من كل لون......
وهل كان السيد محسن الأمين، غني اليد يكفيه ماله وغناه عن الوقوف على أعتاب الحاكمين المسيطرين؟
لا، ولكن كان السيد محسن الأمين غني النفس من وطنية وعزة وكرامة، وإباء، وكان غني العقل من نور وسعة وشمول وانفتاح للحياة، وكان غني القلب من تسامح وثقة بالله وحق الوطن بالاستقلال والسيادة والانعتاق.
كان السيد محسن الأمين غنيا بهذا كله، فلم يعرف دارا ولا وجها للحاكمين المسيطرين، ولكن عرف وجوه جميع الوطنيين الذين كانوا يناهضون الانتداب ويجاهدونه ويثيرون بوجهه العواصف والأعاصير عرف تلك الوجوه جميعا في سوريا ولبنان، وما يزال منهم ذاكرون يذكرون حصيف كانت تعقد الحلقات الوطنية في دمشق برعايته وتوجيهه كلما اشتدت أزمة أو هاج أعصار.
وثانية الميزتين أن السيد محسن الأمين كان حربا دائمة على البدع والأوهام والشعوذات والخرافات أن تدخل عقول الناس في الدين أو في العلم أو في الوطنية جميعا.
وكانت حربه للبدع والأوهام والشعوذات والخرافات كلها، حربا جريئة صريحة عنيفة، لا يعوزها عنصر البطولة والمغامرة، وهل نسي الناس، بعد، قصة الحرب الشديدة التي أعلنها، منذ سنوات، على ما أضيف من بدع وأضاليل إلى ذكرى الإمام الشهيد الحسين بن علي؟ وهل نسي الناس كيف وقف في المعركة هذه، جريئا صريحا عنيفا لا يبرح مكانه، ولا يرهب صولة الصائلين وتهاويل المهولين، حتى أوتي النصر المبين، فكانت حربه هذه خطوة إصلاحية هلل لها الأحرار الوطنيون المخلصون، وأنبروا يناصرونه فيها بالأقلام والألسنة بحرارة وإيمان واستبسال؟
ترى، هل تنبثق الأحداث عن زعيم ديني يسد فراغ هذا الزعيم الراحل، بميزتين كميزتيه العظيمتين: الوطنية المنيعة الرفيعة، والفكر التقدمي المستنير.
المصلح
بقلم: الدكتور أسعد الحكيم
لقد اجتمعنا الآن في هذه الروضة العلمية الزاهرة، التي تؤتي أكلها إسلاما صحيحا ووطنية صادقة، وعلما نافعا، وأخلاقا فاضلة. وكل نبت من نباتها وكل حجر من أحجارها، شاهد حي على الدهر ينطق بفضل مؤسسها، المحسن الأمين. ويشترك معنا في هذا الحفلة التذكارية التي اجتمعنا فيها لنوفي نفسا عزيزة علينا أجر عملها، (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان) لا لعلم جم وعاه صدره فقط ففوق كل ذي علم عليم وكم يطوي الموت كل يوم من عالم علامة فلا يكاد يوارى التراب جسمه، حتى يمحى من الأذهان اسمه ولا لمال وثروة طائلة هو صاحبها، فقد قدم دمشق خلو اليدين، بعمته وعباءته، وخرج منها بعد أن أقام فيها نيفا وخمسين سنة، خلو اليدين، بعمته وعباءته وهما أشد بلى وإخلاقا قدم دمشق يافعا يقطر ماء الشباب من وجهه، وخرج منها شيخا كبيرا أثقل جلال الشيخوخة كاهليه، ليعود إليها بعد حين جسدا ساكنا محمولا على الأكف والأعناق في موكب جحفل حافل، تلاقى فيه لبنان وسوريا ومشت فيه بيروت ودمشق، حكومة وشعبا، مما لم يعرف له مثيل من قبل. فليت شعري، ما هذه العظمة والأبهة. لمن كان يجفو العظمة والأبهة وهذا الإجلال والتكريم وهذه الحفاوة الكبرى بعد الموت، بمن لم يكن ذا مال ولا سلطان ولا بأس ولا قوة في الحياة؟ والناس هم الناس كما نعلم. {تلك عقبى الذين اتقوا} عقبى الخلق الحسن، والعمل الصالح.
قدم المحسن الأمين دمشق، في عهد حجبت فيه نور الإسلام ظلمات المسلمين، فتقطعت فيما بينهما أواصر المودة، وتشعبت بهم الطرق، فتفرقت بهم عن السبيل المستقيم، وباتوا وقد عمت الأمية فيهم، يتخبطون في ليل أليل من الجهل والضلالة يحرمون العلوم الكونية والعقلية، والاجتماعية ويرمون بالزندقة والكفر كل داعية للإصلاح، ويجبهون بالقوة والعنف، كل حركة ترمي إلى التجدد والنهوض والتحرر، فمشى، وهو الفقير المستضعف مع الركب حينا، يستمد من ضعفه قوة، ومن ضلاله هدى، ومن جهله علما. يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويدعو إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظه الحسنة، ولا يجادل إلا بالتي هي أحسن. لا يسألهم أجرا على عمله، ولا يضن على ما فيه نفعهم بشيء من كل ما تصل إليه يداه، حتى إذا وثق في قلوبهم من حبه. وفي نفوسهم من احترامه والثقة بعلمه دعا إلى الإصلاح عن طريق العلم والتعليم، وأن العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، فأنشأ جيلا جديدا كان معه حربا على ما أورثته الأجيال والسياسات المضللة الغاشمة من بدع وخرافات وأساطير، شوهت محاسن الإسلام، وقوضت سلطان المسلمين، ولا يسعني إلا أن أذكر في طليعة هذا الفوج المجهز بالعلم الصحيح، والخلق السامي، فقيدنا الأديب الكبير المرحوم أديب التقي الذي كان له في معركة الإصلاح الأولى قصب السبق والحظ الأوفر.
وما إن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها حتى بدأن مرحلة جهاده الأكبر، التي أسفرت عن انتصاره الباهر، بعد حرب ضروس، أبلى فيها بلاء حسنا، على تقويض دعائم كثير من البدع الدخيلة، والمعتقدات الضالة الموروثة المتأصلة في النفوس. وعن فوزه الكبير، في صراعه مع حكومات الانتداب الفرنسي التي كانت تدعوه إلى قبول مبدأ الطائفية في سوريا وفيها شق عصا المسلمين إلى شطرين، مهددة تارة، وملوحة بالمال والمناصب الرفيعة تارة أخرى، فلم تلن له قناة، وكانت كلمته في جميع مواقفه "إنما المؤمنون أخوة".
أما المرحلة الثالثة من هذا النضال الجبار، فهي سعيه لإنشاء هذه الروضة العلمية التي يزينها اسمه، حيث تقوم تلك الشجرة المباركة التي غرست حبتها يداه، فثبت أصلها في تربتها الصالحة، وسما فرعها إلى السماء، فأخذت تؤتي أكلها كل حين يساقط هذا على من تفيأ ظلها، وهز بجذعها وهو على الأرض، فتحيا به نفسه "ومن أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا" ويصعد ذاك إلى السماء، واليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه فتنعم به روحه، حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة، ذلك هو الخلود، ذلك الفوز المبين.
هذا ولا يسعني بالختام، إلا أن أنوه بإنتاجه العلمي والفكري والأدبي، الذي لا يقل روعة وعظمة عن إنتاجه الإصلاحي العملي والأمر الذي يدعو للإعجاب والإكبار في هذا الإنتاج ظهوره على غزارته وصعوبته في سني الشيخوخة المتأخرة التي يندر في رجالات هذا الشرق العربي من العلماء أن ينتجوا فيها.
ذلكم المحسن الأمين. الذي نحتفل الآن بذكراه: كما هو بصورته الحقيقية. إسلام صحيح وإيمان قوي، وخلق كريم، وعلم نافع وعمل صالح، وتقوى وخشوع وتواضع وإباء، وجهاد في سبيل الحق لا تأخذ فيه لومة لائم، وصبر أولي العزم: الذين لهم أن يكونوا في الدنيا قادة، وفي الآخرة قدوة، (وكذلك نجزي المحسنين).
الكبير المتواضع
بقلم الشيخ أحمد رضا
أربعون يوما مضت على الثلمة الكبرى والفاجعة العظمى التي حلت بالدين وعم مصابها الإسلام والمسلمين بفقد مجتهدنا الأكبر المحسن الأمين.
أربعون يوما مرت لا تخمد فيها لوعة ولا تسكن حسرة، ففي عاملة مناحات ومآتم وقلوب أخذ الأسى بمجامعها فهي واهية وفي دمشق صراخات هاجها الحزن وانطلقت داوية وعيون قرحها البكاء فسالت دامية، وفي العراق نفوس سلبها المصاب رشدها فهي حيرى وفي فارس لواعج وأشجان وفي الهند وباكستان نواح وأرنان وفي الجاوا وسنغافورا ذكريات وحسرات، بلاد عرفت قدر الفقيد فألقت إليه أزمة تقليدها واسترشدت بفتاويه فهي عاملة عليها.
سادتي،
إن جبلنا العاملي المسمى سياسيا اليوم لبنان الجنوبي ما زال منذ القرون الخالية يطلع على العالم الإسلامي بنوابغ العلماء ومجتهدي الفقهاء الذين أشرقت في أفق الكيان الإسلامي آثارهم الساطعة بنور العلم وأشعة الهدى فخلدت أسماءهم في هذه الدنيا ورفعت منزلتهم في الآخرة.
ففي أواسط القرن الثامن طلع نجم الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني وتلاه في القرن العاشر الشهيد الثاني الشيخ زين الدين العاملي الجبعي وانتشرت في القرن الحادي عشر مؤلفات الشيخ الحر العاملي وأشرق القرن الرابع عشر بآثار فقيدنا العظيم فكانت مصابيح يشع سناها بمختلف العلوم في أقطار الإسلام والمسلمين.
صحبت كثيرا من الفقهاء وطالعت أخبار كثير من العلماء فما رأيت ولا سمعت بأكثر جامعية لفضائل العلم وأخلاق العالم وزهد العالم وتواضع العالم وعفة العالم من فقيدنا العظيم تلك الصفات التي يجب أن يتحلى بها أو ببعضها العلماء.
كان يأخذ بلب محدثه بأخلاقه السهلة وحديثه العذب لا يعرف عنجهية ولا يستمسك بكبر مع أصيل نسبه وسعة علمه وعلو منزلته.
كان فينا كأحدنا لا يفسح لنا المجال لخدمته حتى يكون السابق إليها.
كان يتجنب مركب النقص فلا تسمع منه كلمة أنا أنا لأن ذلك قول من يشعر بالنقص فيجبر بالتمدح لنفسه.
أما سيدنا العظيم فقد كان بعيدا عن هذا المركب لأن فضائله تحدث عن نفسها:
كنا إذا تذاكرنا أمامه بالأدب أو باللغة أو بالعلوم العربية فجئنا بما فات نظره من هذه المفردات لم يحجم عن أن يقول: هذه فائدة استفدناها فتكبر بقوله هذا عظمته في أعيينا.
كان عف اللسان لم يسمع منه لأحد شتيمة ولو كان عدوا، صادق اللهجة فلم ينقل عنه غير الصدق مهما تقلبت الأحوال، أبيا للضيم ولكن حلمه يسبق ثورة أبائه فيكف عن ظالمه ما استطاع أو يصفح عنه إن كان آهلا للصفح.
كان عف اليد لا يطمع فيما ليس له ولا يتصرف لنفسه في الأموال العامة التي تقع في يده.
هذه جمعياته في دمشق ومدارسه فيها التي ازدهرت بإحسان المحسنين فهل سمع عنه إنه دنس يده بقرش واحد من أموالها معاذ الله بل كان يمدها بفضلة ماله جهد المستطاع على قلة ذات يده، كان ذا صبر وجلد على البحث العلمي وكنت تراه وهو يطوف الفيافي بين الشام والعراق وبين العراق وفارس وخراسان طالبا في زوايا خزائنها ما يزود به مؤلفاته العديدة وبما يستريح إليه من الحقائق الراهنة يفعل ذلك وهو في العقد الثامن من عمره وقد وهب شباب ناصيته إلى شباب همته فزادت ضعفين.
فما أعظم النائي
الأبيات التي ألقاها الشاعر الشيخ يوسف بري في الحفلة التي أقامتها الجالية العربية في دوترويت ميشغن "أميركا الشمالية":
فديتك من أبقيت للعلم والهدى | أبا الطلعة السمحاء والطهر والندى |
حفيد رسول الله يا غوث أمة | إذا استنجدت من كان غيرك منجدا |
لقد كنت للإسلام فخرا وعزة | كما كنت للأجيال مجدا وسؤددا |
إذا سرت سار الحق خلفك شاهرا | حساما على هام الضلال مجردا |
وتسعى لك الأقوام من كل بلدة | لتلمس منك الثوب أو تلثم اليدا |
نشرت لواء العلم في أرض عامل | وأنشأت للتهذيب في الشام معهدا |
نأيت وقد أبقيت للموت روعة | فما أعظم النائي وما أروع الردى |
كأن وقوع الخطب في كل مهجة | دوي من الأعماق يحمله الصدى |
وتبكي بك الأوطان طهرا وعفة | وذكرا على مر الزمان مخلدا |
أعزي بك الإسلام والعلم والحجى | فقد كنت للإسلام والعلم سيدا |
تنوح على مثواك في الغرب أمة | وتفديك بالأرواح لو يقبل الفدا |
من أخباره الخاصة
قال لمندوب المفوض السامي:
إنني موظف عند الله فلا يمكن أن أكون موظفا عند المفوض السامي.
بقلم: الأستاذ وجيه بيضون
أخبار المرء في مآتيه وأحاديثه، وفي نوازعه وميوله، تحسر عن حقيقته في شخصيته بما لا تكشف أحيانا طوال الفصول تبحث هذه الشخصية وتحقق فيها، أو بما لا تستوفي حق جلائها على حقها.
ذلك بأن هذه الأخبار المتنوعة من الواقع والصميم تترجم عن خلائق صاحبها وطبائعه ترجمة صحيحة ما تفتأ تنجلي بتعددها وتنوعها في أوقات متباينة لا تكون النفسية فيها واحدة بحسب ملابساتها إلى أن تؤدي المعنى الخفي المستبهم والغاية الخالصة الناصحة، وتنشر نافذة النور على الصورة بألوانها المتداخلة المتشابكة.
هذا فضلا عن أن أخبار المرء تختصر الطريق على الباحث فتجعله وجها لوجه تلقاء الحقيقة، وبخاصة حين يلم بهاتيك الأخبار من شتى وجوهها ويعرضها على المقارنة ويربط ما بينها بأسبابها المغيبة.
وهذا هو الذي قصدنا إليه في هذا الحديث عن المغفور له العلامة المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين.
قصدنا إلى سرد جملة من أخباره الخاصة المتفرقة كيما نوحي إلى القارئ بلسان الواقع بامتياز قدره وقدر امتيازه.
وقصدنا كذلك إلى أن يكون في أخباره المختلفة في ألوانها ما يحيط بالكلام عن حياته مجتمعة ليكون الحكم آخذا في منزلته من السداد والصواب.
إن صلتي بسماحة المترجم قريبة متصلة، قوية:
جاورته في مسكنه مذ كنت حدثا صغيرا فوقفت على الكثير من حياته. وكنت طالبا في المدرسة العلوية التي أنشأها فما كان يغيب عني شخصه، وأذكر أن سماحته حضر أحد الفحوص السنوية، وكنت ما أزال في العقد الأول، فاستكتبنا إملاء، عن اللغة وقيمتها، فكان في جملة ما أجبت أن للغة شأنها الخطير حتى أن الإنسان ليقوم بنسبة ما يتعلم من أنواعها، فكل لسان بإنسان. فاستحسن سماحته ما أنشأت ومنحني يومئذ العلامة الأولى.
وكثيرا ما كنت أجوز بعم زاهد كاسمه أتخذ العطارة معاشا، وهو من المصطفين عند سماحة المترجم يقصد إلى حانوته عصارى كل يوم ليقضي بعض الوقت أما استجماما من العناء أو ترقبا لحلول المساء كيما يقضي الصلاة الجامعة في المسجد القريب. فكان رحمه الله يستوقفني ليسألني عن حالي وأشغالي ولحظ مني ذات يوم أني أطالع بعض الأوراق، ولما علم أن بين يدي بعض الشعر من نظمي أكبر هذا السخف الذي أنتهي إليه، ثم تظاهر بالشك في أن يكون لي كأنما أراد أن يشجعني بذلك. وختم يشحذ همتي للاستمرار في الكتابة والمطالعة بلا انقطاع ومن غير أن يخامرني الوجل، فكان لهذا الموقف أثره الذي لا أزال أذكره، وقد أعانني على المضي في حياتي الأدبية ما يلويني عنها نقد أو تثبيط.
وترجع صلتي بسماحته عن طريق الطباعة إلى أوائل الحرب العالمية الأولى، إذ كان قد أسس مع طائفة من المساهمين مطبعة أطلق عليها عنوان "المطبعة الوطنية" واتخذ لها مكانا في شارع البزورية وخصها بتآليفه تعمل في طبعها، وأذكر منها ديوانه "الرحيق المختوم في المنثور والمنظوم" وكنت أسفر برواميز التصحيح متنقلا بين داره والمطبعة، وربما استعانني في مقابلة التصحيح، فتجوز بسمعي كلماته فأضبط عليها ما يكون منها على لساني ملتويا غير مستقيم.
ثم عملت في بعض المطابع اثنتي عشرة سنة، فكنت وسماحته كالمتلازمين تجمعنا شؤون التأليف والطباعة. وحدث أن عهد إلينا بكتاب مشكول، وكان تنضيده من نصيبي، فمرت بي كلمة "الوحدة" وقد ضبطها بالكسر فجعلتها منصوبة فلما إن مر بها تصحيحا أولا وثانيا وهي على حالها من النصب كتب إزاءها موبخا ومؤنبا بما يشير إلى إهمالنا وقلة انتباهنا. ولكنه عاد يبارك في عملي حين لفت نظره إلى حقيقة ضبطها في المعاجم.
ومن هناته التباس بعض الحروف المتشابهة عليه كالضاد والظاء، فيخلط بينها في كتابته لجريها الطويل على لسانه خطأ في العراق إذ كان طالبا، وفي جبل عامل بلاده حيث ينزلون هاتيك الحروف بعضها منزلة بعض على غير انتباه.
ولما أن عزمت على الاستقلال بالعمل، والانفراد بمطبعة خاصة مضيت أستنصحه على عادتي في معظم شؤوني، فلقيت منه غاية التشجيع والتأييد.
وما كاد يبلغه بعد حين خبر توفري على طباعة الكتب حتى حول إلي تآليفه التي لبثت من إخراج مطبعتي، مذيلة باسمها، إلى أواسط الحرب العالمية الثانية.
وزورته الأولى لمطبعتي كشفت لي عما زادني به تعلقا وإعجابا. دخل علي وأنا في مكتبي فسارعت إلى تحيته ولثم يده. ثم لم يرعني منه إلا وبصره يعلق بما عرض على الجدار من إعلانات للسينما ونماذج الرقص وهي تحمل رسوم الغيد الحسان في أوضاع من التخلع والتهتك تمجها الكرامة، فأسقط في يدي، ولم يخرجني من ذهولي إلا سؤاله رحمه الله عما أطبع، فأشرت إلى هاتيك المطبوعات معترفا أنني أحمل منها المأثمة ولكن على مرغمة. فنظر إلي طويلا ثم قال: لا بأس عليك يا بني فالعمل خير من البطالة، والعمل يقصد فيه وجه الكفاف غير العمل يقصد فيه إلى الرذيلة. وللضرورة أحكامها.
وحكمك في عملك أنك كالصيدلاني يؤلف وصفات الأطباء على ما فيها من سم أو ترياق فما تقع عليه التبعة. ولو كان لك عن عملك معدى ولم تفعل أو كنت تأخذ بغير مهنتك سبب عيشك وعيالك للحقتك التبعة. ثم لو كانت التبعة تقاس بنوع كل طبعة لكان لك أن تنفض يدك من كل عمل في مهنتك لأن في الصحف وفي الكتب مثل ما في هذه الإعلانات وهذه الرسوم العريانة من معان كافرة وأضاليل منكرة ودعوات لا ترضي إلا الشيطان فخذ بعملك إلى أن يتهيأ لك غيره وهجره. فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم.
وكنت في معيته إلى بعض الوراقين فسألته رأيه في إحدى الآيات القرآنية فذكر لي مثل ما عرفت من معناها. قلت: ولكنه المعنى الظاهر، قال: وهل لنا أن نأخذ بغير الظاهر ونحن أضعف من أن نغوص في المعاني العميقة التي انطوى عليها كتاب الله؟ ألا فخذ عني هذه الحقيقة: إن أكبر الأدمغة لأعجز عن الإحاطة بالمعاني القرآنية في مقاصدها البعيدة.
وجرى الحديث عن الذكاء العربي فسمعت سماحته يصنف هذا الذكاء فيجعله في مختلف الأقطار العربية متفاوت الدرجات يعلو فيبلغ حد الألمعية ويسفل فيتردى تفاهة وسخافة أما في بلاد الشام فيحتفظ بطابعه الخاص من العدل حيث لا سمو ولا إسفاف وهذا في رأيه خير الأنواع موافقة للحياة.
وسيادته معجب بالخلق الأوروبي العملي. قال لي ذات مرة: أتدري ما سر نجاح هؤلاء السكسونيين؟ إنهم أخذوا عن الإسلام ثلاث فضائل هي قوام ما بلغوا من قوة ومنعة: التفكير العميق والعزم المصمم والثبات الدائب. فهم يفكرون مليا ثم يعزمون عزما أكيدا ومتى جنحوا إلى العمل ثبتوا ثباتهم العجيب إلى أن يفوزوا بالغايات والمطاليب.
ومن أخبار وطنيته ونزاهته وسموه النفسي أن الفرنسيين عرضوا على سماحته منصب رئاسة العلماء والإفتاء بمعاش كبير مشفوعا بدار للسكنى وسيارة خاصة وأرسلوا أحد الضباط من بيروت إلى دمشق كي يعرض عليه الرأي، فلما أن مثل بين يديه في صومعته الصغيرة، وكنت ترجمانه، قال الضابط إنه قدم لزيارته ثلاث مرات حتى أسعده الحظ بلقياه. فما كان من سماحته إلا أن أمرني أن أكذبه لأنه لم يحاول الزيارة أكثر من مرتين، فتلطفت بنقل تكذيبه إلى الضابط الذي اعتذر للحال عن خطئه، ثم أدلى بالغاية التي قدم من أجلها، وكان يترقب كل جواب إلا الجواب السلبي الذي جابهه به سيدنا الأمين إذ قال: (إنني موظف عند الخالق العظيم وسيد الأكوان، ومن كان كذلك لا يمكن أن يكون موظفا عند المفوض السامي فاشكره بالنيابة عني على ثقته بي، واحمل إليه أن المعاش الكبير والمركز الخطير والدار المنيفة والسيارة الرفيهة، كل أولئك قد أغناني الله عنه بالقناعة). فبهت الضابط الفرنسي وقام متحاملا على نفسه منصرفا بين العجب والإعجاب.
وإجمال القول عن سماحة الأمين أنه علم من أعلام الثقافة في عصرنا علما وإصلاحا وصلاحا، بل أكبر مجتهد في زمنه بلا نزاع، ولكأنه في فضائله الجمة، وفي رأسها العزوف عن أباطيل الحياة الدنيا أحد الأئمة في القرن الأول الإسلامي لا القرن الرابع عشر الحالي.
حمل رسالة العلم وصنف، وأنشأ المعاهد وجمعيات التعليم قضاء على الجهالة وتنويرا للأفكار وتغذيتها، وتربية للطباع وترقيتها.
وحمل رسالة الدين، فهذب وهدى وطهر وزكى.
وحمل رسالة الإصلاح، فأسس جمعيات البر والإحسان، وحقق العدالة الاجتماعية بما أطاح من الأوهام التي أكسبتها قرون الظلم صفة القداسة.
ولو كان في الإسلام والعرب من مثله عدد الأنامل لكانت والله كلمتنا هي العليا، ورايتنا هي الخفاقة ومجدنا فوق الأمجاد جميعا.
الزاهد
بقلم: الشيخ محمد جواد مغنية
ربما يتساءل الناس إذا كان لم يعد للدين وزن ولا أثر في النفوس في هذا العصر فمن أين هذه العظمة للأمين المحسن، وهو رجل الدين الأول، ورئيس العلماء الأكبر! وما هذا الدوي الهائل الذي كنا نسمعه خلف جثمانه، وهذا السيل الجارف من الشعب والحكومة في سورية ولبنان حول الجثمان وخلفه وأمامه! هذا الحشد الذي ضم جميع الهيئات الدينية والسياسية والشعبية كبارها وصغارها من جميع الطوائف والأديان، ولماذا ملأت الصحف في الأقطار العربية أعمدتها على الصفحات الأولى تشيد بعظمة الفقيد تعدد فضائله ومناقبه! وما سبب هذه الهزة العنيفة التي زلزلت العالم العربي والإسلامي عندما سمع نبأ وفاته!
أجل لقد غيرت التطورات الأخيرة كثيرا من الأفكار والاتجاهات وكشفت الغطاء عن كل مموه زائف، ولكنها عجزت عن مقاومة الحق الذي يتمثل بشخصية الفقيد، فأرغمت على الاعتراف بسلطانه، والنزول على حكمه.
اعتمد الفقيد على العمل والإخلاص لا على الرياء والتضليل، ولا على الأنساب والألقاب وهل يفخر بأكفان الأموات وترابهم غير الحقير الأعزل من سلاح الحياة، انتسب الفقيد إلى حقيقة الدين وجوهره لا إلى اسمه ومظهره، فانتسب إليه العلم والدين، فهذي المدرسة المحسنية مضى على خدمتها للعلم والإنسانية نصف قرن، وهذي المؤلفات تعد بالعشرات، وهذا كتاب الأعيان من أعظم وأضخم ما تركت أمة من تراث خالد وهذا الجهاد المستمر التوحيد الكلمة، وجمع الصفوف، وهذا الكفاح لكل مستعمر ومستثمر، خلال اصطفى لها الله أمينه المحسن.
إن الكثير منا يملك العلم والذكاء ولكن ماذا يجدي العلم والذكاء إذا أديا إلى لغو لا خير فيه! وماذا يجدي الجاه والمال إذا كانا سببا للتحاسد والتباغض! بل ماذا تجدي الهجرة إلى النجف والأزهر وأكسفورد والسوربون إذا لم تكن لغايات إنسانية ولم تدفع بالحياة إلى التقدم وكيف تتقدم بنا الحياة أو نتقدم بها، إذا كنا نجهل الحياة، وتستعبدنا الشهوات!
لقد انبعثت نفس الفقيد من صميم العصر الذي عاش فيه، وتجرد عن ذاته وغاياته، فكان كفؤا لكل ما ألقي عليه من مسؤوليات، تسعين عاما من حياته قضاها مجاهدا في سبيل العلم والخير مدافعا عن الحق دفاع من لا يبغي حطاما، ولا يخشى سلطانا، فكان في جبل عامل والعراق ودمشق لا وزن عنده إلا للحق، ولا فضل إلا لعامل على خير الوطن والصالح العام كائنا من كان سنيا أم شيعيا. مسلما أم غير مسلم وهذه هي السبيل الواضحة التي يصل منها الإنسان إلى العظمة المطلقة التي تتخطى حدود الأمصار والأديان لأنها كالشمس فوق الحدود جميعا لقد كان الإنسان إنسانا قبل أن يكون شرقيا أو غربيا وقبل أن يكون مسلما أو نصرانيا وهكذا العظمة وحب الخير لا يجنسان جغرافيا ولا تاريخيا ولا دينيا ولا هوية لهما غير حقيقة الإنسان بمعناه الشامل، إن الزمان والمكان لا يغيران شيئا من حقيقة الإنسان، وإنما هما ظرفان لما يقوم به من أعمال، وأن معنى الدين هو الشعور بالمسؤولية تجاه أخيك الإنسان، ومعنى الإيمان هو إخضاع حياتك لهذا الشعور، إن المسيح لا يريد النصراني الماروني أو الرومي وإنما يريد النصراني الإنساني، ومحمد لا يريد المسلم السني أو الشيعي، وإنما يريد المسلم الإنساني، هكذا فهم الفقيد الإسلام والإيمان فأخضع حياته لهذا الشعور وبهذا كان عظيما عند المسيحيين كافة والمحمديين كافة.
وربما يتساءل المرء: كيف اجتمعت هذه العظمة مع تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها الفقيد والبساطة في مظاهره كلها في مأكله وملبسه ومسكنه، فلا بواب ولا حجاب، ولا سيارة فخمة، وبناية ضخمة، وقد رأيته، وأنا جار له في الشياح واقفا في دكان قصاب يشتري اللحم ويحمله بيده إلى أهله، ورأيته يمشي منفردا متثاقلا يدفع بجسمه المريض المتهدم يزور العمال البائسين في بيوتهم، فيجلس إليهم ويطايبهم، ويسمع منهم، ويستمعون إليه، قد يتساءل المرء: أهذا حقا هو الذي احتشدت الأمة بقضها وقضيضها خلف جثمانه! أهذا حقا هو الذي كان بالأمس يحمل اللحم بيده! أهذا حقا هو الذي كان يمشي وحيدا في الشارع ويجلس على الحصير مع البائس والفقير! نعم هو هو!.
وهذا الرسول الأعظم الذي قرن اسمه باسم الله في الصلاة، وعلى المنابر والمآذن ودانت بأقواله ملايين الملايين في مشارق الأرض ومغاربها هو الذي كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه بيده ويعقل البعير، ويقطع اللحم، ويحلب الشاة، ويطحن مع الخادم، ويجلس على الأرض مع الأسود والأبيض، هكذا كان الرسول الأعظم وهكذا اقتدى بلا سليله المحسن الكبير. وما هذا الاحتقار للمادة إلا مظهر الكمال والاعتداد بسلامة النفس، الاعتداد بالعلم والنزاهة والعمل والإخلاص وحيثما وجدت الترف والزينة وجدت الاستغلال والخيانة وحيثما وجدت التواضع وجدت الحق والصدق.
كان مسجد الرسول الأعظم في عهده وعهد الخلفاء الراشدين هو البرلمان والسراي الكبير وقصر العدل ولم يكن هذا الجامع سوى قليل من الطين وسعف النخل ولكن منه انبعثت القوة التي حطمت تاج كسرى وقيصر ومنه شع النور الذي ملأ الآفاق والأكوان وبه سادت الفضيلة على الرذيلة وتغلب الضعيف المحق على القوي المبطل. أما القصور الشامخة أما ناطحات السحاب فأساسها البغي والاستثمار. وحيطانها التحاسد والتباغض وسقفها الطمع والجشع. وأثاثها العجب والرياء، من سكنها أغوته ومن اغتر بها أردته، والسلام على أمير المؤمنين حيث وصف المخلصين "عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم" والعكس بالعكس.
أنكر أهل الجاهلية رسالة الرسول الأعظم لأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولا يملك كنزا ولا بستانا "أهذا الذي بعث الله رسولا - ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقي إليه كنزا أو تكون له جنة" ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر لقال له البعض: كيف تكون نبيا وأنت لا تملك سيارة!.
وما تجلت هيبة الحق في شيء كما تجلت في حياة متواضعة وزهد في زخرف الأرض وزينتها، كان للفقيد - الذي لا يملك سيارة - صور للهيبة والجلال تتعدد بتعدد من ارتدى عمة مثل عمته ولبس جبة وقفطانا كما لبس وقد أعار لكل واحد صورة أكسبته احتراما وتقديرا حتى إذا ذهبت تلك الصورة عن الدخيل واسترد المستعار برز الجميع عراة إلا من لبس ثوبه من غزله وحاكه على نوله.
من مراثيه
للأستاذ حامد يوسف في رثائه:
نبأ روع القلوب الخوالي | مذ تواريت يا قليل المثال |
نبأ راعنا وهد قوانا | ورمانا بحالكات الليالي |
فيئسنا لولا العزاء بصنع | لك يا خالدا على الأجيال |
يا أمينا بعهده لعلي | ووفيا بحبه للآل |
هات حدث عما رأيت من الدهر | وحدث عن أعظم الأهوال |
هات حدث فما عهدتك يوما | صامتا لا تجيد رد السؤال |
إيه لو صح يا جليل فداء | لفديناك بالنفوس الغوالي |
عدو الاستعمار
بقلم: الأستاذ علي بزي
إن الأخلاق التي صورها الخيال وعجز عن الأخذ بها الإنسان وحسب الكثيرون تحقيقها إعجازا، قد عرفناها في الفقيد العظيم واقعا محسوسا، فكانت لا تظهر عظمة شخصيته التي ملأت العالم الإسلامي بأجمعه إلا تواضعا ولطفا وإيناسا أرانا بأم العين ما قرأناه في بطون الكتب عن الأنبياء والمرسلين.
وكانت الفكرة مهما بعدت والأماني مهما عظمت وعزت حققها بكفاحه النادر وجهاده المتواصل عملا ناطقا وأثرا مدويا.
لقد نشأ المغفور له يافعا وتتلمذ في المدارس الدينية على أيدي كبار العلماء في عصره في جبل عامل وأتم دراساته في النجف الأشرف وكنا نحسب أن هذه المدارس لا تنتج سوى المتفقهين في الدين فإذا بنا نرى في الفقيد المتشرع الإسلامي الذي لا يبارى، والأديب والمؤرخ والمحدث والمصلح الاجتماعي.
وتلك كتبه في جميع هذه العلوم حجة ناطقة وهذه مدارسه التي أنشأها للبنين والبنات في دمشق تعلم إلى جانب الدين مختلف العلوم العصرية واللغات الأجنبية تشعرنا بتفهمه لحاجات عصره، وفهمه العميق لكلمة جده الإمام علي (ع):
"نشئوا أبناءكم على غير ما نشأتم، فإنهم مولودون لزمن غير زمانكم".
وكان إلى ذلك كله يمتاز عن كافة رجال الدين والمصلحين بخلق ما خص به سوى الأنبياء والأئمة من أجداده: صداعا في الحق جبارا في مجابهة الناس سواء كانوا من علية القوم أم سواده لا يثنيه ثان عن الجهر برأيه وعن نصرة الحق والحقيقة.
ولقد أسس مدرسة للبنات في وقت كان الكثيرون يتحرجون في تعليم الصبيان ولم ينس العالم الإسلامي بعد حينما جهر برأيه في تحريم البدع والطقوس التي أدخلت في صميم الدين فرجع بالناس إلى العقيدة الإسلامية الصافية وأرجع إلى الأذهان صور الأبطال الذين اقتفوا أثر محمد صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام بمثل هذه الروح حيث قال:
"والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما فعلت".
عرفنا الاستعمار أول ما يتملق رجال الدين فيستصنع من يستصنع ويسكت من لم يقو على استصناعه بمختلف الطرق وشتى الأساليب. أما فقيدنا الكبير فإن المستعمر لم يجرؤ حتى على الدنو منه بأي إغراء ذلك أنه كان يعرف أن المحسن الأمين لا يعتز إلا بجاه العلم وثقة إخوانه المؤمنين المسلمين فلو أعطي ملك الأرض لما عادله بجزء يسير من هذا العز الخالد والجاه الصحيح.
وأنى للمال أن يغري تلك النفس الكبيرة التي عرفت أن سر العظمة في العطاء لا في الأخذ، وأن من وقف نفسه وحياته وقلمه وفكره على الناس هيهات أن ينفذ إلى الظفر بملاينته ومسايرته وقد كان سيفا مصلتا في وجهه طيلة حياته.
ولم تزل دمشق تذكر مواقفه العديدة في أبان نضالها حيث لم يكن يكتفي بالتأييد ولم يسلك السبيل التي سلكها أقرانه من الإفتاء بالجهاد فحسب بل كان يجاهد كأي مواطن يجمع الصفوف وينظمها ويحضها ويقوي من عزائمها حتى أصبح بيته في الشام محجة لقادة الوطنيين بها.
ولم يزل يذكر الوطنيون كلمته الخالدة لأحد القادة الإفرنسيين حين زاره في منزله بدمشق وتعرض لجلالة المغفور له الملك فيصل فقال له:
"إنك ضيف في منزلي، وحرمة الضيافة وحدها تمسكني عن إهانتك ولكن تأكدوا أن التاريخ لم يسجل أن القوة استطاعت الانتصار على الحق انتصارا أبديا، ولا بد للعرب في سوريا أن ينتصروا في النهاية بحقهم على قوتكم".
يا سيدي:
لقد كنت في حياتك وستظل في مماتك منارة وهديا للعالم الإسلامي وللعرب ومفخرة لنا في جبل عامل.
إن جبل عامل الذي يفاخر بأنك منه يموت عطشا والليطاني ينساب في أراضيه، ويموت جوعا وفيه أخصب التربة، ويسام ذلا والسواعد سواعد بنيه المفتولة.
ولكن يوما سيأتي ينقلب فيه كل شيء ويزدهر هذا الجبل جبلك، ويسطع فيه نور اليقين وترتفع فيه الجباه بفضل البذور الصالحة التي بذرتها والزرع الطيب الذي زرعته.
مثلك لا يذهب من بين الناس إلا جسده، أما روحك فباقية.
وأبناؤك في جبل عامل متمسكون بعروتك يهتدون بهديك ويقتفون في الجهاد والصبر أثرك إلى أن تعلو كلمة الحق التي أفنيت عمرك في إعلائها.
للأستاذ أمين شرارة في رثائه:
قضيت عمرك بالإصلاح تقطعه | بين العباد فما زلت بك القدم |
ورب محتدم للشر في نفر | من الخصوم أتوك الأمس واحتكموا |
مشوا إليك وصوت الحق ينهرهم | فلا جدال ولا بغضاء بينهم |
هديتهم فتحدث كم صنعت لهم | من الجميل وكم شيدت ما هدموا |
عدو التعصب
بقلم: رئيس تحرير جريدة الجيل
فقدت الأمة مجتهدها الأكبر السيد محسن الأمين ليخلف نعيه رنة وجوم ولوعة اكتئاب في كل نفس وقلب.
وإذا كانت الأمة تبكي - كما ينبغي لها أن تبكي - في الراحل الكبير الخلق الرفيع والمناقب السامية والعلم الغزير والرجولة الكاملة، فإن جيل الأمة الجديد لينحني بخشوع وإجلال أمام الفقيد الكبير وقد مثل في فيض علمه ومعرفته ما تنطوي عليه الأمة من قوى التفوق والنبوغ والإبداع وعبر في جليل حياته وأعماله عما تزخر به نفسية الأمة من سمو ونبل ورفعة فإذا السيد محسن الأمين وإذا معنى وجوده درس يمكن أبناء الجيل الجديد الصاعد من إيمانهم بأمتهم ودفين قواها وكامن إبداعها وسمو نفسيتها ويوطد فيهم اليقين بطبيعة أمتهم وبما تؤهلها الحياة من تفوق ورفعة وانتصار.
إن الأمم تجعل من حياة رجالها الأفذاذ ذكرى تلقن أبناء الجيل الصاعد ما تستطيع نفوسهم إذا صفت كصفاء نفوس هؤلاء الرجال الأفذاذ أن تحقق في حقول البناء والإنشاء والخير والجمال، وأن لأمتنا أن تجعل من حياة السيد محسن الأمين ذكرى تفتح في الجيل الجديد مكامن الخير والعز ومطاوي الرجولة والنبالة.
فإذا لم تكن الذكرى حافزا للإيمان بمعانيها وقيمها وفضائلها ومناقبها ولتحقيق هذه المعاني والقيم والفضائل والمناقب خرجت عن مغزاها وحقيقتها لتعبر فقط عن مظاهر ومراسم وأشكال.
لقد كان العلامة الجليل والمجتهد الأكبر رجل الدين الصحيح السليم على أتم ما ينبغي أن يكون عليه رجل الدين الصحيح السليم في مجتمع قومي متفوق.
فقد حمل رسالة التطور في أمور الدين يجتهد في وسائله وطرقه وأساليبه ليحقق مراميه السامية ومغازيه الرفيعة واضعا حدا لكل ما هو دخيل على الدين مما يقيد العقل ويفسح المجال لمصطلح الخرافات والبدع فكان هذه القمة الشامخة في تفهم الدين على حقيقته وجوهره لرقي المجتمع وارتقاء نفسيته وتحسين سعادته.
لقد أبى عليه إيمانه العميق بجوهر الدين وحقيقته ومعناه أن يحجر المجتمع في قوالب جامدة تحت ستار الدين ومقتضياته ليجعل من الدين كما هو على حقيقته واسطة في المجتمع إلى التطور والارتقاء والنمو.
ولقد حال وعيه القومي وإيمانه الديني العميق أن تتغلب فيه العصبية الدينية المذهبية فتخرب وحدة المجتمع وتعرض وحدة مصيره للدمار والفناء فأبى حين أراد الانتداب الإمعان في تمزيق وحدة الأمة بتقسيم المحاكم الشرعية أبى أن يوافق الانتداب على إرادته المجرمة. وأعلن في قوة وجرأة ووعي قومي نبيل رفضه ذلك فضرب مثلا وأي مثل على سمو الإيمان القومي وعلى أن الأحوال الشخصية ليست على جلالها مما ينبغي هدر مصلحة المجتمع على مذبح شكلياتها وعلى أن الدين والمذهب لا يصح أن يتخذا سبيلا لتدمير مصير المجتمع تحت ستار الغيرة على أحكامهما وقواعدهما.
وبلغ الوعي القومي بالسيد محسن الأمين القمة حين ترفع وهو رجل الدين الخطير عن أن ينغمس في مزالق السياسة والأعمال السياسية معطيا الدرس البليغ عن رجل الدين ومهمته الحقيقية الصحيحة فقصر عمله على مضمار التوجيه النفسي الروحي وعلى بناء النفوس على سنن جوهر الدين وجوهر قواعده وأبى أن ينحدر بالدين إلى اتخاذه واسطة التجارة والاستغلال وبناء النفوذ السياسي ومزاحمة السياسيين على نفوذهم وسلطانهم.
ففصل في عمله وحياته وتصرفاته بين الدين، كظاهرة روحية في المجتمع وبين الدولة كمظهر حقوقي سياسي شامل للمجتمع ترتقي بارتقاء نفسية المجتمع التي تمثله.
هذا هو المجتهد الأكبر، والعلامة الجليل والرجل النبيل والوطني الواعي والمؤمن الحق الذي فقدته الأمة اليوم. فترك وراءه ذكرى عاطرة تفتح في الجيل الصاعد وفي رجال الدين الصحيح قيم الحياة ومعانيها ومغازيها ومعاني الدين على حقيقته وجوهره.
من مراثيه
للسيد أمين أحمد الحسيني في رثائه:
طأطئ يا أمة العرب أسى | واندبيه فعلى الدنيا العفا |
ذلك المحسن، والمولى الذي | مثله هيهات تلفي خلفا |
بصفات ومزايا لم يكن | غيره في بعضها متصفا |
الزعيم الوطني
بقلم: الأستاذ أديب الصفدي
رئيس تحرير جريدة الشعب الدمشقية
مربوع القامة يميل إلى الطول، صحيح البنية، متناسق الأعضاء حتى يخيل إليك أن الله صاغه على ما يشاء.
وجه أسمر، بعينين سوداوين، يعلوهما حاجبان أبيض شعرهما، بلحية بيضاء مرسلة، وشاربين أبيضين فيهما بعض السواد النادر، ركبا على رأس متوسطة، تناسقت أعضاء الوجه، فلا تحس فيها تنافرا، مهيب وقور، خلع الله عليه جلال العلم، وكرامة النسب، ووقار الشيخوخة، يعتمر بعمامة خضراء كبيرة، هي طراز السادة الأشراف، وكبار مجتهدي الشيعة.
هو بين مجتهدي الشيعة الفحول، في الرعيل الأول مكانة وزعامة، سما به إليهما علم، محيط، وعقل نير ونفس كبيرة، وأخلاق فاضلة.
كبير الشيعة ومجتهدهم الأعظم في البلاد الشامية غير منازع، وزعيمهم في البلاد السورية غير مدافع. هذا هو السيد محسن الأمين.
جلست إليه مرتين جئته فيهما مسلما مرحبا، إثر وفوده إلى دمشق وأصغيت إلى حديثه، فما والله
تركت المجلس إلا وأنا معجب شديد الإعجاب لا بانسجام الحديث وطلاوته وحبكته ولا بما يزين ذلك من إدراك وفهم وألمعية، ولا بلغته الصحيحة المنتقاة الألفاظ، فسماحته قد بلغ من ذلك كله المكانة التي يغبط عليها، وإنما بالروح السامية العالية التي تحبك بين مقاطع حديثه تحبك وتوفق بين معانيها وأغراضها والسمو الذي يتدفق في ألفاظه فيشعرك إنك في حضرة الرجل الذي أراده الله للهداية واختاره للزعامة، وزانه لذلك بما شاء من نفس فاضلة، وأخلاق سامية، وصفات عالية.
وأرادنا فريق من الإخوان على زيارة السيد محسن الأمين، مسلمين مرحبين، فأجبنا الدعوة، ورحبنا بها، جد فرحين، ذلك أنا سنكون في حضرة رجال، نفيد من اجتماعهم فوق قيامنا بواجب الترحب بسيد الشيعة وكبيرها.
وأخذنا طريقنا جماعة من رجال الكتلة الوطنية والشباب الوطني، وبعض زعماء الأحياء، إلى أن بلغنا الدار التي نزل بها السيد الأمين، فاستقبلنا رجاله، وقام السيد فرحب بنا من باب الغرفة إلى أن أخذنا مقاعدنا.
ودارت أحاديث المجاملات والترحيب وتفضل سماحته فقال موجها كلامه إلى رجال الكتلة الوطنية:
لا شك أنا معجبون بما تبذلون من جهد موفق لخدمة البلاد مقدرون لمساعيكم وليس من شك في أن العمل الذي انقطعتم له عمل عظيم جليل، ومن يعود إلى حالة البلاد العامة من وجهاتها الأخلاقية والاجتماعية والوطنية يدرك أي عناء هذا الذي تنهضون تحت عبئه الكبير بأداء الرسالة التي وقفتم عملكم وجهدكم وتفكيركم من أجلها وفي سبيلها.
وتناول في كلامه إثر الحكم التركي، في أخلاق البلاد وطبائعها وفساد الإدارة التركية، وما رافقها من شؤون وشجون وغرسها عادات وتقاليد في أخلاق العرب السوريين تنافي الأخلاق العربية القوية هذه التي لا نزال نشهد آثارها وبقاياها في أحوال العشائر البدوية، كالكرم والشجاعة والإباء وعزة النفس، واستقلال الرأي التي تكاد تنعدم، وحلول صفات وسجايا ليست في الأخلاق العربية المذكورة في شيء كالجبن. والذل. وصغار النفس، والتقليد الأعمى.
وعرض السيد الكريم، إلى ما تقوم به الكتلة الوطنية من مساع محمودة وأعمال مشكورة، ومضيها رغم كل ما تصادفه من عراقيل في السبيل الذي تطوعت له، واختيرت من أجله، فأشاد بذلك وأثنى عليه ثناء كبيرا.
وتكلم عن التضامن الوطني، وأثره في تكوين مزاج الأمم ونفسياتها، وفعله في نهضتها، وبلوغها حقوقها وأورد الأمثلة والشواهد على ذلك، وروى لنا سماحته المثل التالي:
حصلت شركة إنكليزية أيام الشاه ناصر الدين على امتياز بحصر الدخان بشروط مجحفة، وشاع بين الجمهور، أن أحد كبار مجتهدي الشيعة الإيرانيين، تكلم في وجوب الامتناع عن التدخين، وأن رجلا من كبار المجرمين، سمع بفتوى المجتهد الإيراني الكبير وكان جالسا في مقهى عام ليدخن نرجيلة، فما وسعه إلا أن كسر النرجيلة وأقسم أن لا يشرب الدخان أبدا، وأن الشاه أمر أحد خدمه بإحضار نرجيله فذهب ولم يعد، فكرر الطلب فلم يعد الخادم بها أيضا، وأعاد الكرة بطلب النرجيلة، ولكن الخادم لم يستطع إحضارها وسأله الشاه عن أسباب تأخره عن الصدوع بأمره، فأخبره بأن سيدات البلاط كسرن سائر النراجيل، ولم تبق واحدة منها في القصر. وإن إجماع الإيرانيين على ترك التدخين اضطر الشركة الإنكليزية هي نفسها إلى إلغاء الامتياز.
وكان سماحة السيد الأمين، يحدثنا هذا الحديث فيفهمنا منه قيمة التضامن الوطني، وأن الأمة التي لا سلاح لها، ولا قوة تدفع بها عن نفسها ومصالحها باستطاعتها بمثل هذه الوسائل الوصول إلى أغراضها الوطنية.
وكان درسا قيما جليلا، ترك في نفوس السامعين أجمل الأثر وأبلغ العظة.
وامتد الحديث فتناول وجوها شتى كنا نحب أن يشاركنا قراؤنا في الاطلاع عليها، ولقد غالبنا نزعتنا الصحفية في الإفضاء للقراء بكل ما سمعنا، وشهدنا، ورأينا، وواجبنا الأدبي في أن نحفظ سر المجلس، الذي تشرفنا بجلوسه، إلى أن تغلب الواجب الأدبي على الواجب الصحفي واكتفينا من الحديث بهذا الذي أجملناه في هذه السطور وأنا لنرجو أن لا نكون خرجنا فيما كتبنا على أدب المجلس وأن نكون وفقنا أيضا إلى أداء واجبنا من قراء الشعب.
من مراثيه
قال معروف أبو خليل في رثائه:
عظم المصاب على البعيـ | ـد من الأعارب والقريب |
لم يشهد الإسلام مثل اليـ | ـوم هولا في الخطوب |
العلم يبكي والقضاء السـ | ـمح بالدمع الصبيب |
ومكارم الأخلاق تشكو فقـ | ـد ذي الصدر الرحيب |
قدوة المصلحين
بقلم: الشيخ عبد الكريم الزنجاني
الراحل العظيم فقيد الإسلام والمسلمين السيد محسن الأمين مليء الصفحة بالآثار الناطقة الناصعة، وبريء الساحة عن التهاون بالقيام بالنهضة الإصلاحية الصالحة، وفي الاهتمام بشؤون العبء الديني الأقدس الذي حمله على كتفه، لقد كانت السلطات الدينية والزمنية تعتبر كل محاولة للإصلاح خروجا على الدين وجريمة لا تغتفر بل كفرا، وفي أوساط المذاهب المتخالفة والأديان المتباينة والعقائد المتحجرة والتقاليد المترسخة، وفي بلاد كان الأجنبي قد أوجد فيها باسم الدين حجبا كثيفة على الحق قد أحكم كثافتها ضيق الفكر والتعصب الذميم والجهل المطبق......
نهض الراحل العظيم (الأمين) بالإصلاح الديني والاجتماعي والثقافي عن طريق التأليف والتصنيف والإرشاد والدعوة إلى سبيل الرشد بالحكمة والموعظة الحسنة وجادل المضلين بالتي هي أحسن وأسس المعاهد والمدارس العصرية لتثقيف البنين والبنات ونشر الثقافتين الدينية والزمنية محاولا إزالة الجهل الذي هو أس الأمراض الاجتماعية، حينما كانت هذه الأعمال مسجلة في قائمة المنكرات عند مختلف الطبقات حتى طبقة رجال الدين، ولم يترك الفقيد العظيم مجالا لأية سلطة أن تتخذ أي حجة عليه للتدخل بشؤون إصلاحه والعمل على عرقلة مساعيه.
فنصره الله (جلت قدرته) وأيده برجال مخلصين وثبت الله تعالى قدمه حتى سجل للإصلاح أرقاما عالية، وأحدث انقلابا في الأفكار وانتباها للعقول وضجة مدوية، وترك للمسلمين كنوزا ثمينة من مؤلفاته وعلومه وآثارا جديرة بالبقاء ومستوجبة للخلود، وخلف من سيرته وتاريخ حياته ما يهيب بأعلام الدين للاقتداء به والتمشي على طريقته الواضحة الجريئة، ويحفز المصلحين إلى الأخذ بخطته والنسج على منواله، فأصبح قدوة للمصلحين في القرن العشرين.
مربي الأجيال
بقلم: الشيخ علي الجمال
أيها المولى الجليل.
باسم الحي الذي يعتز باسمك ويفاخر بتراثك والذي آثلته بأبوتك وحدبك مجاهدا حيا وشرفته برفاتك الطاهرة وقلمك المناضل ميتا خالدا جئناك يا أبانا وسيدنا ومهتدانا وزعيمنا وراعينا لا لنفيك دينا لك علينا وجميلا طوقت به أعناقنا فوالله ما نملك وفاء لهذا الدين بملك الدنيا كلها ولن نقوى على أداء هذا الجميل بكل ما في النفس الإنسانية من وفاء وعرفان للجميل.
ولكنا جئنا نبكيك بذوب قلوبنا ونعرب عن مدى فجيعتنا بك ومقدار ما هد فقدك في كياننا وأنه لكيان أنشأت أسسه وأقمت دعائمه وشيدت صرحه بيدك حجرا حجرا ولبنة لبنة فأخرجتنا به من الظلمات إلى النور ونقلتنا من الضلال إلى الهدى فكان اسمك الكريم يهيمن على حركاتنا وسكناتنا وكانت روحك الطاهرة تسدد خطواتنا وتنير سبلنا وكان أخلاصك الفريد الفذ يقيل من عثراتنا وينزع الغل من نفوسنا وكان قلبك الكبير يسع عظائم أمورنا وتوافهنا ويتسع لصغائرنا وكبائرنا وكانت يدك السمحة الكريمة تمسح جراحنا وتطهر نفوسنا من أدران الهوى وخبائث الأحقاد.
كنا أشتاتا فجمعتنا وكنا عدما فأوجدتنا وكنا نكرات فعرفتنا وكنا جهلاء فثقفتنا وكنا في ضلال فهديتنا وكنا مغمورين فأعززتنا فأصبحنا بنعمة الله وعطفك وحدبك وجهدك مضرب المثل بالتمسك بأهداب ديننا وصدق وطنيتنا وجمع شملنا واتحاد كلمتنا وقدرتنا على العمل الصالح المنتج في سبيل الخير العام وأصبحنا كما أراد أجدادك أئمتنا الأطهار زينا لهم لا شينا عليهم.
أيها الأب البار!.. باسم أبنائك الذين لا يحصون عدا والذين نشأوا على تعاليمك السامية واهتدوا بهديك جيلا بعد جيل والذين ستظل ذكراك نبراسا لأجيالهم الصاعدة يستلهمون منها الهدى ويقتبسون منها السداد جئنا خاشعين مهطعين أمام ذكرى رجل لا كالرجال وعالم لا كالعلماء وزعيم لا كالزعماء ومصلح لا كالمصلحين جئنا نقولها كلمة لله والحق والتاريخ والوفاء: ومن أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا فكيف بمن أحيا طائفة بأسرها وأخذ بيد أمة بكاملها.
مولاي! لن يتسع هذا المقام ولا أي مقام للإحاطة بجانب من جوانب عظمتك وسموك فكيف بشخصيتك الفذة النادرة التي عقمت أجيال عن الإتيان بمثلها فهي من هذا المعدن النادر والجوهر الفرد الذي صيغت منه شخصية جدك الإمام الأعظم علي بن أبي طالب (ع) وأنى لأمثالي من الخوض في هذا الخضم المتلاطم والتصعيد لمثل هذا الطود الشامخ لولا قبس من نورك وفيض من إلهامك ينعكس علينا فيهدينا إليك ولولا عاطفة جامحة تدفعني باسم إخواني أصحابك وحوارييك لنقول كلمتنا في يوم سموت عن دنيا الفناء إلى جنة الخلد.
أيها المحسن الأمين! أحسن الله إلى روحك بقدر ما أحسنت إلى هذه الأمة وأغدق على نفسك بقدر ما أغدقت عليها من فيض علمك وهدايتك وإخلاصك وتجردك وجنبها السوء بقدر ما جانب قلبك الضغينة والحقد وعففت عنها الأذى بقدر ما تعففت يدك ولسانك وأفسح لها في جناته بقدر ما أفسحت في قلبك الكبير من رعاية للعدو والصديق والقريب والبعيد وأفاض عليها من نعمائه بقدر ما أفاضت علينا من تسامح وخير ونبل ومثالية وآلف بينها وبين أرواح الشهداء والصديقين بقدر ما ألفت بين قلوب العرب والمسلمين.
في مجمل خصائصه وخلائقه
بقلم: الأستاذ وجيه بيضون
إذا ما تحدثت أنا عن المغفور له المجتهد الأكبر العلامة الأمين فحديثي عن مخالطة وملازمة وعن تجرد وتنزه وعن خبرة واختبار.
إن أبرز خصائص المجتهد الأكبر جده الدائب وعفته النزيهة وتراضعه الرصين ثم وطنيته الراقية.
وهي خصائص نادرة قلما توفرت إلى غيره توفرها إليه لأن إحداهن بمفردها لهي من الأخلاق الخليقة بأن تسلك صاحبها في مرتبة الأماثل فكيف بها إذا هي توافرت مجتمعة لتؤلف شخصية جامعة لا تعثر على مثلها في السمو العلمي والنفسي إلا حين ترجع بها إلى الندرة المختارة ممن انتهوا إلى ذروة العظمة والخلود.
والميزة درجات ولكن علامتنا الأمين بلغ منها الأوج السامق.
ففي دنيا الجد يكاد لا يضارع أو يبارى وله فيه من المجد ما يكلل بالإعجاب إلى أقصى حد.
وإلا فما قولك به وقد قارب التسعين ولم يكن له في توفير العيش معين ومع ذلك كان يصل الليل بالنهار دؤوبا على التأليف والتصنيف يجمع وينقب ويستقصي أو ينقل باحثا مفكرا أو يصحح رواميز الطبع منورا ومحورا ما يكاد يهدأ أو يقر بل لا يعطي جسده إلا حقه الأقل من الراحة والجمام!..
بل أنى يستقيم لنا الحساب، ولكأنه المعجزة، حين نعلم أن تواليفه نيفت على سني عمره وآخره "الأعيان" وهو وحد موسوعة في علم الرجال مجزأة إلى عشرات المجلدات، وفي المجلدة الأربعمئة أو الخمسمئة صفحة.. أتراه لو نقلها خاما لا أكثر ثم بوبها، ثم أعاد تلاوتها وتصحيح رواميز طبعها، فلكم تستغرق من الوقت، هذا فضلا عن عناء التأليف في المراجعة والمحاكمة والتقصي والتحقيق إلى آخر المتاعب في هذا الباب.
زد على ما تقدم أنه كان يتفرغ للقضاء بين الناس، ما يرد طالبا ولا يخذل قاصدا.
وفي كل عام كان يقصد إلى مسقط رأسه (شقراء) من أعمال جبل عامل ليتفقد أرضه ويراقب محصوله ويستصفي علاقاته بالناس وعلاقات الناس به.
وهو إلى هذا كله لا يطعم في الغالب إلا طبيخ يده، ولا يستكفي حاجة يومه إلا بنفسه.
ولقد نسيت أن أقدم لك أنه يقيم الصلاة بالناس جامعة في أوقاتها ما يخرمها، وقلما فاته مجلس من المجالس الليلية المستدعية القائمة على الذكريات التاريخية المألوفة عند الشيعة الإمامية ولا يبلغه نعي أحد إلا سار مشيعا معزيا.
وأخشى الإطالة فأسرع بالقول أن مترجمنا رئيس لجمعيات علمية وخيرية عدة، لا تقطع إحداهن أمرا بغير رأيه ولا تبرم حكما من دون حكمه، ولطالما نسق الاجتماعات وألقى فيها من آياته البينات ما يستدر الأكف ويوجه التوجيه السديد.
وهذا الطراز من الجد النادر المتضاعف لما يعز منه المثال، وبخاصة بين المسلمين والشرقيين وهم في ركودهم المعهود وقنوطهم المشهود وعجز الخاصة منهم عن الجمع بين العلم والعمل.
إن علماءنا كثير، ولكن العاملين المنتجين منهم قليل، لأنهم بين عالم لا يحمل من العلم إلا سمته الظاهرة، وآخر كالشجر يعقد ولا يثمر، وبين عالم أتخذ العلم سببا إلى كل غاية إلا غاية العلم، وآخر منتهى انتهاء فضله أنه نسخة متكررة من بعض الكتب الشاحبة.
أما الشذوذ عن هذا المفهوم فهو مظهر الفضل في أصحابه لأنهم يخرجون على أمثالهم مستكملين دورهم في حياتهم هداة بناة معا، ومثلا صالحة للاقتداء والترسم. ولهم نمطهم الخاص في الحياة العازفة يصرفون العناية كلها إلى الغاية العلمية والإصلاحية، متابعين السعي إلى أن يوفوا عليها ويصيبوها.
وجماع الخير عندهم أن يجودوا بما كسبوا ولا يحيدوا عما صمموا. والعلم للمكسبة في حدود الأنانية الضيقة غير العلم يتسع ليعم ويستفيض كالنهر يروي ويحيي. ذاك استثمار التجارة السالبة وهذا استثمار التجارة السابغة، وثمة العلم لشتى النوازع، وهنا العلم لغايته ولا يطيق الانتهاء إلى مثل هذا المستوى الرفيع إلا النفر المختار الذي تهيأ له من شرف النفس وسمو الفكر وصفاء الروح ما يمكنه من إيثار البساطة وارتضاء الحرمان في سبيل المرامي المجردة.
قلت إن العلامة الراحل الكريم كان يمتاز بالنزاهة والتواضع إلى جانب الجد.
وما الحديث عن نزاهته وتواضعه بأقل شأنا وخطرا. فله في هاتين المنقبتين ما يتوج والله بالفضل، ويضرب به المثل، ويؤلف خطة ناصعة في الإصلاح والتوجيه.
والنزاهة لا تستكمل حقيقتها إلا بالحقيقة تكون مدارها ومناطها، فتجمع بين نزاهة القلب والوجدان، والروح والجنان، واليد واللسان، أي حين تكون نزاهة اقتناع وإيمان لا نزاهة عجز وحرمان.
وليست تفتقد الثقة وتنحلى الأمانة ويستفحل خطر الشر، إلا حين تلتوي النزاهات التواءها منطوية على الزيف فتبدو كلاما معسولا، وعاطفة مشبوبة وسعيا باهرا، ورأيا ساحرا، ثم لا يكون قوامها إلا المقاصد الخادعة الخاتلة.
فكمال النفس إذن شرط في النزاهة الكاملة
والعلماء في دنيا العروبة والإسلام لبثوا محط الرحال، ومعقد الآمال ومنار التوجيه ومصدر الحكم والقيادة بل كانوا الملوك على الملوك إلى أن تحللت النزاهة من نفوسهم واستهانوا بالصدق والصراحة ومالوا إلى المظاهر وأحالوا علمهم وسيلة إلى المنافع القريبة والمطامع الضئيلة. والناجون من هذه العلة بين علمائنا المعاصرين أقل من القليل.
وفي طليعتهم الإمام الأمين.
فلقد سلخ عمره على مثال العفة والكرامة لم تعلق به مأثمه ولا محرجة ولم تختدعه المغريات عن نفسه على وفرتها من حوله لا ولم يتحول عن مهمته في تبليغ رسالته الإصلاحية شابا وكهلا وشيخا.
كانت تغدق عليه الآلاف ذهبا فما يمسها ويحولها للحال إلى وجوه البر مؤثرا منها العلم يشيد بنيانه ويدعم أركانه ليكفل حياة النور للنشء الجديد.
وكانت تسعى إليه المراتب الحكومية العليا في الرئاسة والقضاء فيتأبى عليها ما يرضى بدلا بالرئاسة الدينية العلمية التي انتدبه لها ربه لينهض بها حرة خالصة لوجهه.
وكان يقضي بين الناس، وربما اجتمع إليه الغني والفقير والقوي والضعيف والقريب والبعيد، فلا يصدر حكمه إلا منزها عن الهوى.
وكانت تبلغه الصيحات من حوله أو عن بعد، مدوية بالسخط واللوم والحقد وما إلى ذلك، ولا لسبب غير فتاواه في طلب الإصلاح ونبذ الجمود ومسايرة الزمن، فلا يقابلها بغير الرضا والسكينة يتخذ منها قوة جديدة لمضاعفة الجهاد وتوسيع مدى الاجتهاد.
وكان الأكثرون يعهدون إليه بالوصاة على أموالهم وعيالهم من بعدهم فينهض بالواجب على أتمه، ويؤدي الأمانة على حقها، محتملا من المشقة والكلفة ما لا طاقة لغيره بمثله.
ووالله لو كان ممن يطمعون بالمال وزينة الحياة الدنيا في ظل البحبوحة والإقبال، لكان له من مواده الغاية التي لا غاية وراءها، ولاقتنى الدور وشاد القصور وامتلك الضياع ومشى بين يديه الخدم والحشم، ولكنه عف واستقام، وترفع عن الحرام ورضي بالكفاف الحلال رضاء القناعة والكمال.
وهو في هذا شأنه في التواضع أيضا تواضع في المظهر على نحو أصحاب المطالب البعيدة ينصرفون بجميعهم إليها، فتصرفهم عن الاحتفال بغيرها، وتشغلهم عما عداها مما يقيم له الناس عادة أكبر وزن، بعدئذ غدا للمظاهر شأنها في الحياة الاجتماعية ومعناها في رفع معنى أصحابها على قدر العناية أو عدم العناية بها.
وتواضع في الأسلوب يقوم على البساطة في الحديث مع مختلف الطبقات، وفي استجابة الدعوات لدى الأغنياء والفقراء على السواء وفي الجلسات المطمئنة عند المصطفين من أرباب المتاجر، وفي الطعام يتناوله على الأرض العراء أو شبه العراء، وهو لملء المعدة فوق ما هو للغذاء، وفي تشييع الراحلين ما يتخلف إلا لعذر، وفي العطف على اليتامى والأيامى والمساكين.
لم ير يوما متأبها مزهوا على علمه وفضله وحسابته في أصله ونبله، وعلى رفعته عند الكبراء والعظماء من الملوك والزعماء بل لبث حياته أبدا كالشجرة الفينانة الوارفة المطمئنة بما أثقلها من رازح الحمل، يجوزها المارة لينعموا بوارف ظلها وفيئها، ويجتنوا من زهرها أو يطعموا من يانع ثمرها فهي الخير المشاع المباح.
وكثيرا ما بلغت به سهولة الخلق الحد الذي ينكر على مثله، كأن يأبى وهو بين جمع من مريديه يصحبونه إلى بستان أو يرافقونه في سفر، إلا أن يكون منهم مثل ما يكونون منه يشركهم في تهيئة الطعام ويضطلع بتبعته من مجمل العناء، ويتنزل في المباسطة والمفاكهة إلى حيث يكفل لهم الصفو والهناءة والتطلق حتى لا يكاد يلفت الغريب من أمره ما يميزه عن غيره.
وللأمين، أحسن الله إليه، في باب الوطنية ما يسجل بمدد الإكبار والإعظام، وكانت وطنيته من الطراز الراقي الناهض على التعقل والحكمة.
قاوم الاستعمار أشد مقاومة بوقوفه سدا منيعا تلقاء مطامعه الخاتلة ومراميه النادرة في تفريق الشمل وبذر الأحقاد والاستهواء بالمال والوظائف. وأشهد بين يدي الله أنني كنت ذات يوم ترجمانه إلى أحد الضباط الفرنسيين وقد أوفد من قبل المفوض السامي لعرض أكبر منصب ديني على الإمام الفقيد مع ما إلى هذا المنصب من امتياز في الحياة اليومية، فكان جوابه الرفض والاستنكار لأنه موظف عند ربه يؤدي رسالته كما أمر بها لوجهه فلا قبل له أن يكون موظفا عند المفوض الفرنسي يأتمر بأمره ويتحرك بإشارته. وأشهد كذلك أنه أدى خير ما يؤديه مثله لوطنه في إصدار الفتاوى لصالح العروبة في كل أزمة جازتها وخاصة في قضية فلسطين.
ولأضف إلى خلائقه وخصائصه ما اشتهر عنه من جودة الرأي وشجاعة القلب والصبر على الشدائد والعفو مع المقدرة وحسن المعاملة والتحرر من العصبية الذميمة والبر بالغريب والعطف على القريب وتنشيط العاملين والرجوع عن الخطأ حين يستبين، هذا فضلا عن إجادته السباحة وركوب الخيل وغيرها من الرياضات النافعة.
ولتلك فضائل يحجبها المعنى الواحد حين تذكر أنها ترسم للمثالية العربية الإسلامية في أيقظ أوقاتها وأروع آياتها.
فمترجمنا سليل البيت الطاهر وصاحب المحتد الأثيل.
وقد توفرت له العوامل التي تجعل من شخصيته فرعا زكيا من هاتيك الدوحة التي استنبتها صاحب الرسالة الكريمة.
إنه في أخصر وصف صورة مشرقة لمثل علي وأحفاده الميامين في خلائقهم السليمة القويمة.
أجل وأنه العالم العامل الذي عرف كيف ينفع الملايين بعلمه وعمله. وهل ثمرة العلم غير العمل. وهل عمل فقيدنا الكريم الراحل إلا عمل الشمعة تذوب لتنير، وعمل النحلة تشتار وتقضي كي تغذي، وهو العمل الأكبر الذي تباركه الإنسانية والحياة ولا ينهض بمثله إلا أصحاب النفوس الكبيرة.
عالم في فرد
بقلم: الشيخ محمد حسن المظفر
كان رجل العلم والفضيلة فقيدنا الغالي الحجة – الأمين - طاب ثراه من أولئك المهاجرين الذين تفقهوا في حاضرة النجف، ورجع إلى سوريا لإنذار قومه، وإرشادهم إلى ما يتطلبه الدين من تعاليم وأخلاق شأن ما أوحته الآية الشريفة، فما استقرت قدمه في عاصمة سورية إلا وكان وحده طائفة كبيرة في جهاد الإنذار إلى قومه الذين حل بين أظهرهم فحسب، بل كانت دعوته تسير بين الحواضر والعواصم وتعم الحاضر والباد وما كان عالما بين فرقة بل قام بما تقوم به عدة علماء بين فرق شتى تناءت بلادها واختلفت مذاهبها تحسبه وقد حضر مجامع الناس وجوامع الصلاة لا شغل له إلا هداية الأمة بأقواله وأعماله، وتراه وقد حمل اليراع بين أنامله فتخاله لا فراغ له لغير التأليف والبحث والتنقيب، فلله أنت كيف جمعت بين هذه التكاليف الجمة التي لا يقوى عليها إلا أمة، فلا بدع فقد وجدناك طائفة بين فرق لا فردا بين فرقة فأنت ممن لا يأتي به الدهر إلا صدفة ولا يسمح به الزمن إلا خلسة.
ليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
فلا نكران إذا افتقدنا بفقدك عصبة أولي قوة وعلماء أولي خشية.
المرتفع فوق الفوارق
بقلم: الأستاذ صلاح الأسير
كأني بك أيها الحاضر الغائب! وقد توارى وجهك النير عن هذه الدنيا، ما زلت حيا معنا بعملك الصالح وعلمك الصحيح واجتهادك الذي لا يعرف غير الحق وجهة وقبلة فمن أجل هذا تقاسم الفجيعة بك جناحا الإسلام: الشيعة، والسنة فما كنت - يشهد الله - لواحدة دون أختها، ذلك أنك أدركت سر الينبوع الواحد، فارتفعت فوق الفوارق لتخدم الإسلام كله في أهدافه ومراميه، لا فرق عندك بين مذهب ومذهب وشيعة وسنة، فكنت من الأئمة الأخيار الذين يؤلفون ما تنافر من القلوب. ويطفئون ما تعالى من لهيب الفتن فكان يومك في دمشق وأنت في الذروة من أهل الرأي في الشيعة يوما ذكرت فيه دمشق البلد السني يوم صلاح الدين بن أيوب فإذا بترابها الطيب يضمكما في حدب وحب وتكسب دمشق إلى أمجادها الخوالد مجدا جديدا فكلاكما القائد الفذ هو في المعارك والذود عن أرض العرب وأنت في بذر الحب والقضاء على الضغائن، وتتعادل في ميزان التاريخ الكفتان ليزدهي تاج دمشق برصيعتين تساوتا في الألق والجواهر واللمعان ولقد كنت عزوفا عن بهرج الدنيا فما استهوتك قط وكنت أسبر الناس لأغوارها وأعرف الناس بأنها متاع الغرور فلم تنهض لتكديس مال أو للاتجار بجاه واتخذت من العمل الباقي والمعرفة الخيرة طريقا إلى مرضاة الله فما همك التزلف لبشر مهما علا قدره في موازين الناس الخاسرة فربحت الدارين وأنت تبتغي الدار الواحدة الدار الأخرى فلقد أفاء الله عليك - بتقدير النخبة - من عباده الذين رأوا فيك مشعلا من مشاعل الهدى والنور ورأوا في أقوالك وآثارك آفاق اليقين الرحب وأجواء الإخلاص المنزه فكنت - أنى حللت - موضع تقدير الناس ومحط احترامهم هذا الاحترام الذي ارتفع إلى مراتب الإيمان والقداسة كنت وليا من أولياء الله في حب الله وحب الخير لعباده فأكرمك الله حيا وأكرمك ميتا.
أجمع العلماء لفضائل العلم
بقلم: الأستاذ يوسف أسعد داغر
هو المصلح المرشد والمجتهد الأكبر السيد محسن الأمين، عالم محقق ومصلح ديني واجتماعي شهير ومرب له على بعض النشء الحديث في سوريا أكبر الأثر، وشاعر مفلق ومؤلف جليل من أكابر الرجاليين، ألف في الفقه والأدب والنقد والتاريخ واللغة وفنونها والسير والطبقات. فقد كان في النصف الأول من القرن العشرين بين علماء الإمامية مشعلا من مشاعل الهدى والنور كما كان موضع تقدير الناس ومحط احترامهم.
عمل حياته مجاهدا في سبيل العلم والخير مدافعا عن الحق تغمره روح إنسانية، رائده الإخلاص في العمل والتنكب عن الرياء والتضليل، وهو أحد نوابغ العلماء ومجتهدي الفقهاء ممن أنجبهم جبل عامل ولعله بين علماء القرن الرابع عشر أجمعهم قاطبة لفضائل العلم وأخلاق العلماء وزهدهم وتواضعهم وعفتهم.
قام بوصفه مصلحا اجتماعيا بثورة على شوائب الدين وعلى الجهل والأمية فوضع في سبيل هدي أبناء ملته ما وضع من كتب ومؤلفات وأسس لهم في دمشق مدارس علمية حديثة فتح أبوابها للجميع على السواء.
وهو وطني كافح في سبيل تحرير سورية وتأمين استقلالها، فكان بيته بدمشق في عهد الانتداب مدار الحركة الوطنية. كذلك جاهد في سبيل فلسطين كما كافح في سبيل توحيد الأمة العربية وجمع الصفوف.
ولعل من أبرز صفاته دأبه المتواصل على العمل في خدمة العلم والتاريخ. كان ذا صبر وجلد على البحث العلمي، فقد طاف زوايا خزائن الكتب الخاصة والعامة في الشام والعراق وفارس وخراسان، يجمع مادة التاريخ الأصيلة في ترجمة من ترجم في كتابه (أعيان الشيعة) الذي أنفق في سبيل تحقيقه المال الكثير والوقت الوفير والعناء المرير فإذا بهذا الكتاب موسوعة لا مثيل لها في رجال الإمامية قديما وحديثا لا يشوبها سوى أنها لم تكتمل بعد وقد عدل به مشاهير الرجاليين كابن عبد البر وابن حجر العسقلاني وابن سعد والخطيب البغدادي وابن عساكر وياقوت الحموقي وابن خلكان والصفدي فيما وضعوا من تراجم الرجال والسير.
في صورته الماثلة
بقلم: الأستاذ وجيه بيضون
لن تحتاج كيما تعرف صورة الإمام المغفور له الذي افتقدناه أحوج ما نكون إلى مثله، أجل لن تحتاج لترسم صورة هذا الإمام الجليل والعلامة الكبير إلا أن تتمثل في الخاطر أحد الأئمة الأماثل في منبثق البعثة العربية في صدر الإسلام.
قامة ممشوقة انتظمت على جسم لا هو بالرهل البدين ولا الضاوي القضيف والا البائن الطويل أو القصير المتردد...... تعلوه هامة معمرة كهامات أمثاله العظماء بما ضمت من تلافيف وشعاب حتى كأنها هيئت لدورها تهيئة الآلة التي يطلب منها الجد الدائب والعمل الواصب. فإذا انحدرت قليلا قابلتك جبهة عريضة ناتئة المستهل، متضاعفة الأسارير، كأنما أثرت فيها شدة الإطراق والإمعان أو هي قد ثقلت بما احتملت فأطلت على عينين واسعتين سوداوين أنقى من بريق الأمواج في التماع الذكاء، وأقوى من تيار البحر في إيحاء الوداعة والمهابة معا...... تحميها أهداب مريشة من تحت حاجبين مزجج ما بينهما يدلان فيما يدلان على رجولة الإرادة وأصالة السيادة.
ثم يوثق هذه الأوصاف ويثبتها أنف مرسل أشم حلو القنا، وفم رقيق المبسم، وشارب جزل منطلق متصل بلحية هي الوقار عينه في بياضها وانسيالها.
وهو إلى هذا عريض المنكبين، متسع الصدر، منسجم الأطراف، شديد المتن، قوي البنية، يحمل من اللباس ما يفرضه زي العلماء، فإذا سار خلته الطود متحركا، من غير تلفت أو التواء، وإذا جلس فليعتدل ما يتحرك ولا يريم في غير حاجة، وإذا تحدث أجمل بين الخاصة، أو أطنب على قدر بين العامة.
ولئن كانت تلك أوصافه في صورته الماثلة التي غيبها عنا الموت القاسي، وهي هي في قرب الشبه بمن تقدموه من أسلافه وأجداده، فإن صفاته النفسية والخلقية لنبعة ثرة من ذياك السلسبيل البعيد الزكي المستفيض.
أجل، وأيم الحق، أن لفي علامتنا الأمين لقبسا وهاجا من الإسلامية النورانية، وروحا خالصة من التراث العربي العريق. وتحس ذلك بل تلمسه في هيئته الظاهرة، وفي تميز شمائله الطاهرة إن لم نقل في كافة عاداته وأحواله في حياته. ونحن إذ نوح حجتنا وإمامنا وعلامتنا العامل، وننفض الأيدي آخر نفضة منه، لنوء صورة ليس أحب منها إلى الأبصار والقلوب، وليس أبرع منها في توفيق الدلالة بين المظهر والمخبر.
إنها من الصور العزيزة على الزمن لأنه لا يجود بمثلها في عبقريتها إلا قليلا.
إنها الصورة الحية ما بين الجوانح والخواطر بما غيبت وراءها من امتيازات في المزايا الروحية والنفسية هي امتيازات العظمة في أوجها من استحقاق الإجلال والإعظام.
في خطه وتأليفه
بقلم: الأستاذ وجيه بيضون
فقد الإسلام والعروبة بفقد المجتهد الأكبر الإمام السيد محسن الأمين. مصلحا فذا وفقيها جليلا وعالما عاملا ومؤلفا دؤوبا مثمرا نيفت مؤلفاته على المئة عدا.
وليس يدري طريقته في الكتابة وفضله في مؤلفاته واتساع شخصيته التي انطوت على العلم انطواءها على الأدب ليس يدري ذلك على حقه إلا الأقلون.
إنك إذا أخذت خطه فأنت تلقاه حروف ممشوقة سهلة في القراءة لولا ازدحام التعاريج والملاحق والحواشي. ومبعثها العجلة ثم الاستدراك في الزيادة أو الحذف. إن بعض الصفحات من كتاباته أحسن الله إليه لتحكي المصورات الجغرافية في خطوطها الملتوية صعودا وهبوطا أو المتسربة يمنة ويسارا أو المعلمة برقم يرجع إلى مثله في ورقة مضافة ويختم الصفحة بكلمة مذيلة كأنها التوقيع وهي أول الكليات في الصفحة التالية على نحو خطة الأسلاف القدامى من المؤلفين كأنما يستغنون بذلك عن الأرقام استتباعا للصفحات بعضها آثر بعض.
وفي رواميز التصحيح لا يجري قلمه حينا إلا في الأخطاء وفي بعض الأحيان يثور فيها ويثور حتى ليدك الصفحة دكا جاعلا عاليها سافلها. فإذا لم الطباعون وراجعوا سماحته متشكين من العناء الذي يصيبهم، والوقت الذي يضيع عليهم وإذا رجوه إعادة النظر على المواد قبل دفعها للطبع كان جوابه الذي لا يتغير: إن العصمة لله وحده وإنه أعجز من أن يحيط بكل شيء حين يكتب وأن لا مناص من التبديل والتحوير. على أنه رحمه الله لم يكن ينسى التعويض على المطابع في كثير من الأحوال.
وكان لا يهمه إذ يكتب أن يصطنع أي نوع من الورق يكون تحت متناول يده. والغالب على مواده أنها مزق من الأوراق لا تراعى فيها الأحجام، منها ما هو بحجم الكف، ومنها ما يستطيل ويضيق، وبعضها قد سود من ظهره كتابة أو طبعا، أو انجمع عليه بعض الحبر.
فإذا استنتجت من هذا كله شيئا فهو ميله إلى البساطة، وانحصار وقته عن المراجعة وفقد المساعدين في أمور التبييض والتحسين والترقين.
ولطالما قصدت إلى سماحته في صومعته في مكتبته فرأيته مقتعدا الأرض ومن حوله أكداس الأسفار بعضها فوق بعض وبيده قلمه الجليل العريض من القصب الأشهب أو الأسود يستمد غذاءه من دواة متواضعة ملاقة بالحبر الأسود، وهي لا يقنع بمثلها اليوم أطفالنا الصغار في المدارس فضلا عن الكبار ممن يحمل أكثرهم القلم المحبر وقيمته ثلاثون أو أربعون من الليرات.
وربما أدركه الجوع وهو في عمله، فتناول طعامه في مكانه ما يتحلحل عنه ولا يريم. وقد يقصده بعضهم في حاجة فيقضي له ويصرفه ثم يعود إلى عمله.
أما تواليفه فتؤلف مكتبة كاملة في شتى الفنون، في النحو والصرف والفقه، وفي الأدب والشعر وفي التاريخ الإسلامي والاجتهاد الديني، وفي الاجتماعات، وفي تراجم الرجال، وغير ذلك.
وأعظمها خطرا مؤلفه الفريد من نوعه والذي يعد موسوعة في علم الرجال، ونقصد به "أعيان الشيعة" الذي ترجم فيه لآلاف من المشهورين مبتدئا بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.
وما تم من هذا المؤلف إلى وفاته خمس وثلاثون مجلدة، وكل مجلدة تتراوح بين الأربعمئة والخمسمئة صفحة.
وكأني بإمامنا الفقيد قد أستهدف في هذا المؤلف إبراز ناحية من التاريخ طمست عليها الأجيال المتعاقبة بسياساتها المغرضة، تلك هي ناحية الفضل المغموط، فضل الشيعة في خدمة العروبة والإسلام عن طريق الجهاد والاجتهاد والعلم والأدب والدين.
ومثل هذه الغاية لا يتوفر على مثلها الأمثل الإمام الفقيد ولا يوفيها حقها من التحقيق غيره، بما امتاز به من تجرد في البحث، وتبحر في علم الرجال، وجلد ومصابرة على المطالعة والمراجعة.
على أن الصفة الغالبة على آثار السيد الأمين هي الاستقصاء والتحقيق وليست هذه الصفة باليسيرة لأن في تراثنا الفكري كنوزا مغيبة وذخائر دفينة لم تمتد يد الكشف إلا إلى النزر القليل منها، والكشف عنها يتطلب الصبر الطويل في التتبع المتواصل والرجوع إلى المظان والمصادر في شتى المكتبات في مختلف الأقطار، ثم تنقيتها والحسر عن وجهها الحق.
وإذا نحن قابلنا هذه الطريقة بالطريقة التحليلية لاحت لنا وجوه الاختلاف المتباعدة لأن الأولى تقوم على الجمع بينما الأخرى لا تقوم إلا على التفكير. ولكن الطريقتين تعودان للتقارب حين نذكر أن إحداهما معوان للأخرى. والجامعون بين الطريقتين نوادر جدا. لأن من أوتوا موهبة التعمق في البحث والتحليل والمقارنة لا طاقة لهم على جهد الاستقصاء وعنت المراجعات المتفرقة. وكذلك من يجمعون الشتات ويؤلفون بينها ويصطادون الشوارد ويحققون لن يتخطوا هذه الحدود. وأنت غير واجد لعلامتنا المترجم شبيها بين المؤلفين المعاصرين في طول باعه بعلم التراجم والجلد الدائب. والتضحية بالوقت والمال. والتجرد في العقيدة العلمية. لقد سلخ في سبيل مؤلفه أعيان الشيعة وحده فوق الثلاثين عاما في التقصي والمراجعة حتى إنه رحل إلى العراق فإيران باحثا منقبا في مكتباتها وكان لا ينتهي إليه خبر كتاب يفيده في بعض شأنه إلا بذل بذل السخاء في اقتنائه أو استنساخه، حتى اجتمعت إليه مادة غنية لم تجتمع لسواه أعانته في الكشف الجديد كما وقع له في ديوان أبي فراس الحمداني إذ محض العربية بطائفة تبلغ الثلث من شعره لم تكن معروفة حتى من خاصة الخاصة.
هذا وله تصويبات في أمور التاريخ تدل على عبقرية الاطلاع ودقة الملاحظة التي تنزل صاحبها من سواه منزلة الناقد المتمكن المستبحر إن لم تكن منزلة الأستاذية القادرة.
وللمترجم من الشعر ما يسلكه بكبار الشعراء، وقد امتاز بالفخر والنسيب، زد على ذلك وجدانياته التي تخيل للقارئ أن قائلها قد برح به سقام الغرام، ووقف شعره على الهيام.
إن التاريخ العربي في عصرنا الأخير سيذكر الإمام الأمين في الطليعة المتقدمة إذ يذكر الشخصيات العلمية والفكرية والأدبية، وسيحيطه بهالة من الإجلال والإكبار لامتيازاته المتعددة التي لا يهبها الله إلا للمختارين النادرين.
من مراثيه
للسيد عبد الحسين فضل الله في رثائه:
يا عظيما أطفأ الموت به | شعلة الكون ومصباح الأمم |
منبر الإرشاد لو يدري بمن | فجع اليوم لأجرى الدمع دم |
والمصلى لو وعى مسمعه | صرخة أصمت الصخر الأصم |
المعلم الأول
بقلم: الأستاذ جان جبور
في كل نهار من دغدغة الأرض بالأنوار الفاترة حتى غفوتها على شذا الليل، وفي كل ليل، من غرة راحة الأرض حتى عودتها إلى معركة اللقمة، تخمد ألوف من الأنفاس وتنطفئ ألوف من العيون، فيلتاع المصابون على الجواهر التي تلاشت، فالربيع قد جف زهرا وطيبا، والبيت وقد أقلع عنه شراع الآمال، صحراء فسيحة قاحلة.
وفي كل نهار من ظهور الشمس تتغطرس في اليم الأزرق السابح فوق الرؤوس، حتى تذلها العتمة، وفي كل ليل، من انتشار الفرسان الشقر يتهادون عجبا في السماء، حتى يطلع عليهم الصباح، فيهربون من الميدان، يأتي إلى العالم ألوف من الخلائق فتتبلور شاهقات الأماني وتزغرد الأرض في مطاوي سرها، هي لن تجوع غدا، وهي إن جادت اليوم بسنبلة، وسمحت بجفنة، فسوف تهدم، قبالة هذا الإغداق في العطاء، والغلو في الكرم، هيكلا تغذى في السنبلة وقلبا ارتوى من الجفنة.
وبين هذا الانطفاء وهذا الاتقاد الاعتياديين، تفقد البشرية في يوم عصيب، عينا من أعيانها، ومعلما من معلميها، وجنديا من جنود الله. ففي كل جفن عدو وراء الثروة التي فقدت، وفي كل إذن شوق إلى الكلمة التي سكتت، وعلى كل شفة "لماذا" وبقاؤه ضرورة والخيال - هذه الطائرة الضاربة أطنابها فوق اللامحدود - وهو رفيق فراشة حول مصباح، وصمت جناح وقد ركد. والبشرية في وحدة، وترتسم علامات الرجاء على الأفق حتى كرم جديد من الخالق!
وعبر التاريخ في عب أثينا، تجمهر حول سقراط، تلامذته يضرعون إليه، أن يفر من السجن وينجو بنفسه وهو يرفض. قد حكم عليه باختصار حياته فأبى الإفلات من يد العدالة ومشى إلى اجتراع السم كأنه يمشي إلى مأدبة ويسير إلى وليمة.
ويقول عن سقراط تلامذته أنه في ثباته أمام القضاء ورباطة جأشه أمام نكبته، جرد الموت من رعبه ونزع عنه صلافته، وعراه من عظمته وأرسله مهيض الكرامة ذليل العنفوان يتماجن عليه الناس ويتلهون به عندما يصبحون أخوة لأوراق الشجر في أيام البرد وقد تركت أمهاتها علامات رجاء سمراء في الفضاء الرحب نحو مبدع الكائنات.
أما سقراط فكان - وقد قرر أن الإذعان للعدل هو العدل - يتعلم العزف على الكمان بانتظار ساعة تنفيذ العقوبة به ليضيف إلى معرفته معرفة جديدة.
وعبر المسافة بين يوم سقراط ويومنا، وقد تكون أقرب من المسافة بين العين المبصرة وما تبصر، وقد تكون أبعد من المسافة بين المؤمن بالله وبالخير، وبين الكافر بالله وبخيره يتوارى السيد محسن الأمين المجتهد الأكبر، وهو يكمل "أعيان الشيعة" ليزيد معرفة غيره معرفة.
أما الفيلسوف، وقد أسلم نفسه إلى عقله، فقد جعل الموت طعاما شهيا ولقن الناس أن يستفيدوا من أيامهم ما دامت تحت سلطانهم شرط أن يماثلوه في صفاء الضمير ونقاوة القلب.
وأما المجتهد الأكبر وقد أسلم أمره إلى ربه، فقد جعل الموت شيئا اعتياديا وعلم الناس، وهو على فراش الألم - والألم هو الفارق بين الآله والإنسان - أن يبذلوا كل قواهم وكل طاقاتهم من مهدهم حتى لحدهم في سبيل الناس لزيادة معرفتهم معرفة شرط أن يضارعوه في عفة السريرة وطهارة الصدر.
ضدان التقيا على صعيد الترادف في صيروة الإنسان ذاتا فعقلا وإيمانا فعملا لسعادة مخلوقات الله.
وإذ علامة الرجاء المرتسمة على الأفق في شواطئ الأجيال تنتصب فوق "شقرا" الضيعة اللبنانية الذاهبة في الهدوء مثلا وعلى القناعة دليلا فيشرق منها السيد محسن الأمين بينما كانت غاية القرن المنصرم في الغرب اكتشافات تذيب مفاهيم المسافة والبعد والشوق والحنين وفي الشرق ثورات استقلال وحرية وانعتاق.
وترعرع هذا الوجه النبيل في ضيعته يحقق ذاتيته، وما اشتد ساعده حتى قصد العراق يصرف فيه شبابه ويدرس الآداب العربية والفلسفة ويتعمق في الفقه والاجتهاد ويتعرف على أنسبائه النبلاء في مزاراتهم ويتزود من وقائع أعمالهم عددا يجذب بها النفوس نحو الهدف الذي خلقت له.
هذا هو - وقد ورث مالا وحطاما، وانتقل إليه مجد عالي ومكانة رفيعة يسير إلى مخاصمة "تنازع البقاء" فيعوم على سطح الأمواج بالقوة حين يهبط أترابه إلى الأغوار، ويطوف على اغتلامها حين يغطس أقرانه إلى الأعماق.
وذاك - وقد بزغ من الطبقة المنقادة ومن الصفوف التابعة المراتب يتقلب فيها حتى وصل إلى الطبقة القائدة فاحتل مركزا يضع كل شيء تحت تصرفه ويحكمه في مئات من النفوس ويسلطه على ألوف من الأرواح.
وذلك – نزل إلى ميدان الحياة همه الدرهم وشغله الدينار فطفق يغور وراء الفضة ويركض إثر الأصفر الرنان حتى صار يعرف "بكم يساوي" "وكم يحوي" كأنه سلعة تباع وتشرى أو كأنه متاع يعرض في واجهات المتاجر أو يبسط في المتاحف تسلية للعيون وفتنة للأنظار.
وأولئك - رعيل من البشرية يسيرون وراء كراز لا هم يدركون أين الغاية ولا هو يعرف أين المصير.
وهؤلاء قطيع من الآدميين شدوا إلى قاطرة تنتقل بهم على الخطوط لا يرتاحون في محطة حتى تسير بهم قاطرة جديدة إلى محطة جديدة فهم دوما على سفر لا يفهمون للراحة طعما ولا للسكون معنى.
وينظر السيد محسن الأمين إلى هذه الأشباح المتحركة فلا يجد مجدا يعلو على مجد العلم ولا شرفا يسمو على شرف الاجتهاد ويعود من العراق وقد عزم أن يعالج ذاتية الناس فيخلص القطيع من شروده والرعيل من ضلاله وهذا وذاك من الصلافة وذلك وهؤلاء من العيوب.
رأيته - وهو ابن القرية يحادث أبناء القرى.
رأيته يجلس إلى الأمي الضائعة ذاتيته في مجاهل نفسه والشاردة في ذاتية التقليد والاحتذاء فيحادثه ويسامره ويجامله ويلاطفه حتى يفتح عينيه إلى عظمة الخالق المنتشرة في الزهرة السائرة عطرا في سفح الجبل والمدوية في الشمس وقد انطلقت منذ الأزل في الدرب الذي رسم لها كأنه سلك الهاتف أو خط الكهرباء ويفتح له نفسه على حب الله وعبادته ويعلمه أن كل لحظة من حياتنا - ما كانت ولن تكون - لولا حب الله لنا وأن الله يحل ذاته في حبه إيانا ويلقنه أن وجودنا على البسيطة وهو انتظار موعد انحلال تركيبنا المعقد وعودتنا إلى من أحبنا وبه كنا ويبيت له واجب محبة القريب وحسن معاملته ويشرح له أن صانع الشر ومقترف الذنوب ومرتكب الآثام والمعاصي يطلب دائما أن يعامل خلاف ما عامل لأن الإنسان - ومصدره الخير - يدرك عندما يعود إلى قرارة نفسه، أن الخير وحده جدير أن يصنع وهنا الغرابة "والظلم من شيم النفوس" وهنا الغرابة في أن يحتمل المظلوم الظلم دون شكوى كأن دروس الأخلاق هي دروس لتعلم احتمال الشر والصبر عليه.
وإذا بالأمي الذي حرم كبرياء لصق الحرف بالحرث الخلق الكلمة وتوليد الفكر، يقبل على هذه الدنيا وقد عرف أنه فيها - وهو ذو خلق كريم، ولسان عفيف ويد طاهرة - أعظم قيمة من غني، في ثروته درهم اكتسبه حراما، وأرفع قدرا من ذي حول وطول أتى عملا ظالما أو ارتكب معصية. ورأيته - وهو العالم يحادث العلماء.
هو لطيف وقد وسم بالهدوء والإتزان وطبع حديثه على اللين والرقة، ناعم اللفظ حتى الخيال أنه جهل كلمة خشونة وغفل عن لفظة جفاف، مستمع حتى الظن أن وقته موقوف إلى محدثه، وأن عمله هو الإصغاء إليه والانتباه له، صبور حتى الاعتقاد أنه جمع الصبر وضربه وهو في لطفه ونعومته واستماعه وإصغائه وصبره ولينه، متحفز أبدا. يبتدر الضعف في مخاطبه حتى ينقض عليه: نسر علم وصقر ثقافة. ومتربص به الطريق يوازن بين كلامه ومنطقه حتى يهاجمه: حجة قاطعة وحكما مبرما ويجادله بالتي هي أحسن فيغادره وفي أركان نفسه أنه قد فاز عليه، وفي عمد معرفته أنه قد ظفر به وما هي إلا مدة وجيزة حتى تتصارع في تفكيره جيوش الوعي واللاوعي وتتزاحم في حقل خياله أعلام خميسه العرمرم ورايات كتيبته، فيشعر بأنه قد غلب على أمره، وهزم في سره ولكنه لم يقوض له كرامته ولم يعدم له شخصيته، بل أرسله يعرف منزلته ويفهم مكانته، فيرجع إليه ليغرف من ينبوعه المتدفق وليعب من بحره الزاخر.
هو الجادة الواسعة والصراط المستقيم. وذلك الشعب الضيق والمعبر القصير. هو المنجم ينثر الجواهر والتحف، ويجود بالماس والتبر، وذاك المحفظة تجري وراء كنوزه تلتقطها حبا بنفسها وتجمعها استزادة لثروة معرفتها.
رأيته- وهو المعلم - يقود مدرسة.
رأيته معلما يحترم الناشئ للذاتية الكامنة فيه ولصيرورته المستقبلة ويعتبر الطالب للدرب الذي قطع من ذاتيته وللدرب الذي عليه أن يقطع من كونيته ورأيته يقوي المواهب كل شخص ويغذي خصائص كل مخلوق وسمعته يقاوم كل تربية قالبية تخرج الناس على نمط واحد وتبدعهم على طراز واحد ويساعد كل ثقافة تخلق الحرية وتنشئ الاستقلالية وقد زرع في طلاب معهده الوطنية الصادقة ودفعهم إلى خدمة بلادهم دون السؤال متى الوصول ودون الاستفهام متى الراحة فباتت مدرسته مصنع رجال ومعمل أبطال.
أجل رأيته معلما يحلق طلابه فوق "الأنا" كلما دعت الموجبية إلى تضحية ويذوبون في "نحن" كلما مست الحاجة إلى ذبيحة هو في كلتا الحالتين في رأس الجبهة مثال عملي وفي طليعة الهجوم قدوة واقعية.
ورأيته - وهو القائد – جنديا من جنود الله.
في هذه الأيام المزدحمة بالأطماع والطافحة بالغيرة وقد أمست اللقمة عزيزة وصار فتات الخبز ثمينا واتخذ الناس المادة ربا وأقاموا الذهب إلها، وفي هذا الزمن وقد سيطر الشح وتسلط الجشع حتى غدت التضحية لا تبذل إلا بثمن ولا تعطى المشورة إلا ببدل قاوم السيد محسن الأمين أمراض الأيام وأوبئة الزمن وحارب في سبيل ربه وجاهد في سبيل المبادئ الإنسانية القويمة.
قضى حياته مثاليا فما التفت إلى درهم ولا اهتم بمؤونة وهو لو أراد اكتناز الأموال لبنى من الذهب قصورا، ومن النضار حصونا. قضى وهو يأكل خبزه بعرق جبينه يغذي ساعده وأما ثمار علمه فإلى أبناء الناس.
وقضى حياته بسيطا يرتدي من الثياب ناصعها ومن الألبسة أبيضها ويرفض أن تمر بها المكواة أو أن تظهر عليها الأناقة وقد عاتبه في عادته هذه ذو سلطان كانت في كلمة منه الحياة أو الموت فأجاب "نحن ننظف قلوبنا وأنتم تنظفون ثيابكم" فغاضت أمام بسالته حماسة بيدبا وأمام سطوته جسارة دبشليم. وقضى حياته جريئا. الهيبة تطفح منه والوقار يفيض عنه والرزانة تسير في ركابه والرصانة تسعى في أعتابه ولكنه ما تكبر يوما ولا تجبر. كان كبيرا في رحاب نفسه وعظيما في شخصيته وأني لأذكر يوم صادفته في (الكرك) يرد الزيارة لأحد أصدقائي وهو من كبار رجال القانون، وكنت عنده اتفاقا ولأذكر إني كنت أنتقد صديقي عندما أخبرني أنه قبل يدي السيد محسن الأمين المجتهد الأكبر تبركا به فأنزل على صديقي باللوم الشديد - وهو المتحرر من هذه العادات القديمة التي لا تزيد قدرا ولا ترفع منزلة - ولأذكر دخول جندي الله علينا وأنا في ثورتي تلك وما أن رأيت وقاره ونظرت هيبته حتى انحنيت على يديه أقبلهما.
وصرت صديقا لأسرته النبيلة وأنا أتباهى اليوم وأقول "عرفت السيد محسن الأمين المجتهد الأكبر".
ورأيته وهو جندي الله يدعو إلى السلام ويبشر بالوئام ويتمم واجباته الدينية والفروض المرسومة عليه إتماما فيه أكبر من الكمال فلقد كان كالنحلة وقد فطرت على صنع الخير وكالزنبقة وقد نشأت على العطر.
نحن نكرم الرجل
أن في التماثيل المرتفعة تمجيدا لفتح مدينة وتخليصا لشعب من عبودية، وفي المدائح المسكوبة على كل ذي بأس نحر ضعيفا واستأسد على مسكين، وفي الصور توزع ذات اليمين وذات اليسار وتنقل ذكرى المخترعين والفنانين والأدباء والموهوبين وغيرهم من أرباب القلم وحملة السيوف، إن في هذه الوسائل لتكريم الأبطال وفي هذه الطرق لتعظيم الكبار، أن في هذه وفي سواها من دلائل الإقرار بالجميل أشياء من الصوابية وأشياء من الموجبية ولكن الرجل الذي أن أقيم له تمثال فلا يجوز اعتراض وأن وزعت له صورة فلا يسوغ انتقاد، فهو تمثال جندي أدته وصورته راهبا كان أو إماما مجتهدا لأن جنود الله الذين يبتعدون عن أرزاق الأرض ويستغنون عن كنوزها برضى الخالق جديرون أكثر من غيرهم بأن تنصب لهم التماثيل وبأن تشيد لهم المزارات. نحن نكرم الرجل، فاجعلوا حياته قصة يتداولها الناس واجعلوا ضريحه مزارا يتبارك به الناس. واجعلوا أخلاقه مدرسة يتعلم منها الناس. فيعيش المجتهد الأكبر، أخلاقا في كل من يقتدي بسيرته، وعلما في كل من يقتبس من نوره. ورجلا في كل من يسلك طريقه وينهج نهجه.
الخالد
بقلم: الشيخ علي الخاقاني صاحب مجلة البيان
السيد محسن الأمين هو المصلح الكبير من أشهر مشاهير علماء عصره.
في خلال مكثه الطويل في الشام استطاع أن ينقذ هذا البلد ويقلب صفحة تفكيره ويفيض عليه بأدب وعلم فأسس مدرسته المعروفة باسمه ونظم منهاجا يتلاءم وذوق العصر وأخرى بجنبها لتثقيف البنات.
وحياة السيد الأمين صفحة مشرقة من الأعمال الصالحة، وسفر خالد تقرأ فيه الصلابة في المبدأ والاستقامة في السير، والصبر على استقصاء الأمور والظفر، وهو مخلوق عجيب فقد صحح لنا ما ينقل عن مشايخ السلف في صبرهم وانصرافهم وقوة الإنتاج عندهم وقد أنتج كتبا قيمة بعضها يتعلق بالعقيدة والبعض الآخر بالآداب، والمجموع لتهذيب النفوس وإيصالها إلى ما يلطف جوها وينحو بها إلى السعادة وهو في مجموع ما كتب ونظم إنسان يفرض على العصور البقاء لذكره. وعلى المؤرخ الإشادة بفضله، وعلى المؤلفين العناية بشخصه. والسيد الأمين شعلة وهاجة من العمل المثمر، ومثال بارز للجهاد العلمي الصحيح وكتابه (الأعيان) لم يعرف أهميته إلا الباحثون وأهل الفن، فالموضوع السماعي والبحث التاريخي يفرض على الباحث التتبع والتنقيب والمحاكمة للأقوال إلى ما يحتاج معه إلى زمن طويل لتحقيق بغيته، كما يحتاج إلى وقوف وصبر وجلد ليطمئن فيما يكتب ويؤتمن فيما يشاهد وليس بإمكان كل أحد أن يحيط بهذا الفن، والسيد الأمين في كتابه هذا وقي سائر كتبه الأخرى برهن أنه فهم الخلود، والعالم الذي وجب عليه أن يخدم أمته ومبدأه، والمرشد الذي يهدي الناس إلى طريق الهدى والصواب فقد خدم خلال عمره الشريف الدين والعروبة والإسلام وخدم لغة الضاد والمكتبة العربية بإتحافه لها بين حين وآخر بشتى الآثار وسائر النواحي الاجتماعية والدينية في بلاده.
ولم يقصر إصلاحه على بلده الذي أقام فيه بل صرخ في وجه الجهل والعادات السقيمة والصور الشاذة والسير المعوجة في البلاد الإسلامية وهدف إلى إصلاح المنبر الحسيني فلطف معظمه بإصداره بعض الكتب التاريخية وانعطف بالإصلاح حول المواكب وبما يدعونه بالشعائر من ضرب القامة على الهامة والسلاسل على الظهور مما ينفر من سماعها الشرع والعقل، وأصدر رسالته (التنزيه لأعمال الشبيه) طالبا فيها الابتعاد عن هذه الألوان المزرية بحقيقة الإمام الحسين والماحية لشرف دعوته ونهضته مثبتا أهم المصادر الدينية والفتاوى المذهبية للسلف والخلف ولكن في النجف فريقا ممن يصطاد في الماء العكر، وممن ضعف إدراكه، أبى عليه أن يسمع الصرخة الإصلاحية فقام في وجهه يعضدهم فريق من لبنان ممن خالف ضميره وابتعد عن قول الحق ومال إلى نداء الأغراض الشخصية. ثم ذكر الكاتب شيئا من رسالة التنزيه إلى أن يقول:
واستمر السيد يناقش شخصا كان قد نقده في رسالة طبعها، ويثبت نص أقواله الواهنة ويفهمه بأسلوب مشفوع بالبرهان والدليل، ويذكره بفتاوى المجتهدين والفقهاء وتحريمهم لذلك.
إن السيد الأمين قد مسك التاريخ بيده وفاز بالثناء والإكبار من قبل كل فاهم للإصلاح فعني بذكره وتقصد بسط سيرته المثلى التي هي العنوان الأول لرجال العقيدة والرأي الصحيح. رحم الله المصلحين الذين أذابوا أنفسهم لسعادة غيرهم ورحم الله السيد الأمين فقد كان منهم.
الموجه
بقلم: الشيخ عارف الزين صاحب مجلة العرفان
لم يكن السيد محسن أبا لخمسة فقط بل كان أبا لطائفة كبيرة من الناس اهتدوا بهديه وارتشفوا من علمه وتتلمذوا عليه تارة وعلى كتبه طورا فكان القدوة الصالحة لهم والمثل الأعلى لما فيه خيرهم وصلاحهم، تعلم فكان المجتهد، وعلم فكان المفيد وألف فكان المجلي، كان أمة في رجل وسيدا في قبيلة، وإماما في جماعة، ومع علو مقامه فقد كان فينا كأحدنا. ولو لم يكن له من الآثار والمآثر إلا ذلك التوجيه الذي وجه به كثيرا من القراء والأدباء نحو المثل العليا لكفى، وتلك الحملات المنكرات، على البدع والخرافات، وهاتيك الكتب التي لم يفارقها ولم تفارقه طرفة عين وحسبك أنه طبع المجلد الرابع والثلاثين والخامس والثلاثين من أعيان الشيعة - وهو آخر ما طبعه من هذا المؤلف الذي لم يسبقه إليه أحد - وهو بين مخالب المرض لا يكل ولا يمل حتى في أشد آلامه وأوجاعه وقد وصل به لآخر حرف السين ولم يهم بطبع المجلد السادس والثلاثين وأوله حرف الشين حتى كان هذا الحرف شؤما على الأمة العربية جمعاء التي قامت بما يجب عليها نحوه حكومة وشعبا ولا نشك أن نجله "الحسن" أحسن الله إليه سيتم ما بدأ به والده لأنه قدست نفسه الزكية يقول: "ونسأله تعالى التوفيق لطبع ما بقي من الكتاب الذي أصبحت مواده كلها جاهزة لا تحتاج إلا إلى إعادة النظر".
إن روح السيد الطاهرة لا ترتاح إلا بإتمامه، وكل حافظي جميل أبيه لا يتوانون عن المساهمة في هذا الواجب.
لمحسننا الأمين كبير فضل | فلا يحصى بكتب أو بصحف |
"إذا عدت رجال الفضل يوما | فإنك واحد بمقام ألف" |
بفقدك قد فقدنا كل فضل | وفضلك جل عن نعت ووصف |
لم يكن دينه جاها أو تعصبا
بقلم: الأستاذ رئيف الخوري
قل أن يقضي نحبه رجل دين فيفجع به الشعب كله فجيعته بالسيد الأمين وتشعر الأمة أن المصاب مصابها لا مصاب طائفة من طوائفها. ذلك أن الفقيد الذي رحل عنا بالأمس شخصه ولن يغيب عنا أثره ولا جوهره كان رجل دين فلم يكن دينه جاها أو تعصبا أو تكسبا أو تمسحا بأعتاب الحاكمين، بل رياضة للنفس على الفضيلة ومسكنة للحق وزجرا للجهلة والمتجبرين، كلا ولا كانت إمامته تشقيقا أو تفريقا بل ركنا وثيقا للإخاء بين المواطنين.
فسلام عليك من كل من لم يجعل الدين مستغلا ومقتنى، ولا أتخذ الطائفة أمة أو وطنا، سلام عليك من كل حارث حرث بصمت حقول العقول ولم يأذن فيها لطفيليات التقليد أن تخنق بذور التجديد!
أسى يقتضيني أن أطيل القوافيا | متى كان شعر من جوى الحزن شافيا |
إمام ثوى لم يسع إلا مشيدا | ولا قال إلا بالإخاء مناديا |
ولم يرض هذا الدين سلعة تاجر | فما كان بياعا ولا كان شاريا |
ولكنه كان الضمير مؤنبا | بهمس وحينا يبعث الزجر قاسيا |
ثار عليه الجامدون
بقلم: الشيخ موسى سبيتي
إن فقيدنا عمره عمر فرد ولكن حياته حياة أمة فلو رجعنا في التاريخ العاملي القهقرى إلى عهد خمسمائة سنة لم نجد لفقيدنا ضريبا في رحابة نفسه وغزارة إنتاجه ورصانة تفكيره فلقد كانت نفسه رحيبة الآفاق ألقى نظرة بعيدة في الأقطار الإسلامية فوجت جهلا شائعا في كل نواحي الحياة فنشر كتبا تتضمن كثيرا من التاريخ الحافل بالعبرة والأدب المفعم بالحكمة والخلق الذي يهتف بالفضيلة والتضحية في سبيل الحق فاستقى من ينابيعه جميع الطبقات حينما تتلى كتبه من أعلى المنابر في جبل عامل والعراق وفارس والبحرين فأصلح خططا توجيهية كان مزاجها كثير من الأساطير والخرافات.
ولم يكتف بذلك بل قاوم كثيرا من التقاليد والعادات الخاطئة يحسبها أصحابها من الدين وليست من الدين في شيء فثار عليه الجامدون ثورة فيها كثير من العنف والشدة فتلقاها برباطة جأش ورحابة صدر ولكن سرعان ما ذهب الزبد واضمحل وبقي ما ينفع الناس.
كما أنه في الحقل العملي كان أول العلماء الذين شيدوا المدارس وحرضوا على اقتباس ما عند الغرب وإذا شئت قلت غير هذا وإن غضب أناس: قد كانت عند رجال الدين والأدب عقلية صلبة قاسية تحيا في دائرة ضيقة لا تحاول الخروج منها بل يعدون الخروج عن تلك الدائرة شذوذا وتمردا وكفرا ولكن السيد رحمه الله كانت عنده نفس مرنة طيعة فشيد المدارس ودعا العلم من أي وعاء خرج وكتب كتبا متنوعة بأساليب متنوعة ويسر العلم والأدب بقلم كله توجيه كما أن له في الفقه آراء كلها وسعة ويسر.
من مراثيه
للأستاذ سامي عازر في رثائه:
"أمحسن"! من أضفى على الدين حلة | زهت بدراري العلم زهراء مطلع |
وأثبت أن الدين إن حف ركبه | بدنيا أخاء خالص الود يمرع |
هو الدين حب يبعث العز شامخا | فيقضي على حلم غريب ومطمع |
"أمحسن" من أفتى ينزع فوارق | وألقى إلى النيران أوهام أربع |
وحرر من قيد الأساطير أمة | وشق إلى العلياء أرحب مهيع! |
يؤوب إلى غمد وما فل نصله | ويثوي النور جد مشعشع |
فتى عامل والشام ما أنت منهما | على الدهر إلا رمز عز ممنع |
سموت عن الإقليم كبرا فلم تكن | لقطر، ولكن كنت للعرب أجمع! |
نناجيك، خلف اللانهاية منصتا | وأن يهمس المفجوع للرمس يسمع! |
ورب ضريح ينشر النور زاهيا | على صرح قيل بالظلام ملفع! |
فأشرق على ليل العروبة لحظة، | وقلقل دياجير الخمول وزعزع |
لعل بني أمي يهبون هبة | تعود على الدنيا بمجد مضيع! |
فقيد العلم والدين
بقلم: الشيخ عبد الله بري
تساءل العلامة الأميركي المستر ونسن دايفز في بحثه بالعلوم الطبيعية عن العامل الإنساني، تساؤلا موجزا إذ أنه رغما عن الإنجازات التي ظهرت في حقل الكيمياء والطب والهندسة وما إلى ذلك من الاكتشافات الفنية الرائعة فإن من أكبر القضايا – في مدنيتنا الاجتماعية – التي لا تحل حلا طبيعيا هو "العامل الإنساني" أي أن هذا العامل لا تدركه الأبحاث ولا تفهمه الافتراضات والتصورات التي تنبثق عن العقل والنفس، وحري بمن كان لا يعرف "الواقع الديني" في نشوء الإيمان، ولا يفهم "سلسلة الارتباط" بين الإنسان والله التي تمتد على ضياء أعمال المصلحين في المجتمع البشري العام امتدادا دائما متفاوتا، أن يظهر بالإفلاس العقلي الحائر، ويستمر بالتقصير العملي المتناقض عن إدراك ما نسميه "جوهر الوجود"الذي يتولد منه ما أطلق عليه العلماء الغرب "العامل الإنساني" وأطلق عليه من كان قريبا إلى الله بإيمانه ودينه، بعيدا عن شهواته بعقله وهدايته "عامل الروح" – والروح "إرادة إلهية" تأتي كالنبل الطبيعي في الموجودات غير العاقلة، وتأتي كالنفس الصالحة والعقل المنتج في الموجود العاقل – وما كان موجود يكون نبيلا، وما كل نفس أو عقل يكون موجودا صالحا!
ففقيد الشرق الحجة الإمام السيد محسن الأمين – قدس الله سره - كان إرادة "إلهية" من مثل السماء الأعلى في معنى روحي نبيل يعيش في جوهر الوجود عيش الحياة في كل كائن وكان نفسا تتدفق بالإصلاح الهادي، وتفيض بالفضائل المهذبة، وجسما يحمل أروع وأنبل وأسمى ما يعرفه الناس في ثقافة الواقع الإنساني أو الروحي، وعقلا جهزه الله بهدى الوحي وعلمه فظهر على قلمه رسالة وشرعا، وعلى لسانه وضعا وتأليفا كدائرة معارف، كما جهز جده محمد صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام التي جاءت إلى الوجود نورا ومدنية وسلاما ورحمة!
فإن كان الموت سنة طبيعية، فرضته إرادة خالق أعلى، فيختلف موت الناس باختلاف قربهم وبعدهم من الله تعالى، فلقد كان الإمام الراحل نفسا تتغذى على الرحمة والرضى والاطمئنان الإلهي فلا يمكن أن ينالها الموت وإنما يتناولها {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي} وإن كان كاتب مثلي جفت دمعة قلمه على عين أدبه في فقد هذا المصلح العقيم أن يقول رثاء فيه فإن الكلمات تقصر عن رثائه كما قال حسان بن ثابت يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم "لم أر شيئا إلا رأيته يقصر عنه"، ومن رثى النبي محمدا بهذه الأبيات فكأنما رثى من وراء الزمن حفيده الأمين الراحل:
ففدت أرضنا هناك نبيا | كان يغدو به النبات زكيا |
خلقا عاليا ودينا كريما | وصراطا يهدي الأنام سويا |
الثابت ثبوت الطود
بقلم: الأستاذ أحمد إسماعيل
كان السيد الأمين رضي الله عنه علما من أعلام الفضيلة وشعلة من نور الهداية ولا أغالي إذا قلت أنه كان خير أمة أخرجت للناس، ودنيا من العبقرية لا يجارى ولا يبارى في علمه وطيب عنصره وشرف محتده، وهيهات هيهات أن تخلفه العصور وتلد مثله الأجيال.
ومن الحق وقداسة العدالة أن يعد في طليعة رجالات العالم الإنساني وفي الرعيل الأول بين أساطين العلماء المحققين والحكماء المدققين الذين شقوا الطريق الواضح والمنهج اللاحب في وجه الجيل الحاضر ووجهوا الأمة نحو الذروة العليا والكمال الأقدس توجيها صالحا وكيف لا؟ وهو الذي أنفق طيلة حياته الشريفة من المهد إلى اللحد في البحث والتنقيب عن مخبآت العلوم المصونة والجواهر المكنونة وهي خدمة الدين والذود عن حياضه والذب عن حرمه والمحاماة عن تراث أمته الخالد. وثبت ثبوت الطود المنيف الذي لا يتزعزع وصمد صمود البطل المغوار. والفارس الكرار في وجه الأباطيل والبدع والأضاليل. يناضل وينافح ويدافع عن حوزة الشريعة وأرومة العروبة بقلمه العضب ولسانه الذرب وعلمه الخصب وأدبه الجم لم يه له عزم ولا فل له غرب ولم تأخذه في الله لومة لائم وقد دحر جند الأباطيل ومزق شمل البدع ومسر شوكة الأضاليل وحطم أقلام العابثين ونسف كل عقبة كؤود في وجه الحق وأنصاره وما زال يدأب ويجد ويجتهد في سبيل المصلحة العامة ورفع مستوى الأمة العربية بلا ملل ولا كلل حتى اصطفاه الله لجواره ونعم الجوار.
رجل كبير
بقلم: الدكتور محمد جواد رضا
رجل كبير......
كلمتان مجردتان هما كل ما استطعت النطق به حين فاجأني الناعي بوفاة الإمام السيد محسن الأمين.
ولقد تبدو هاتان الكلمتان غير موفيتين بقدره ولقد توحيان بأنهما ليستا أهلا للنهوض بصفة رحل كان أكبر مما كان مأمولا ومرتقبا أن يكون، قد تكون هاتان الكلمتان كذلك بالقياس إلى غيري، أما بالقياس لي فلا، فهما عندي موفيتان بقدره وأهل النهوض بصفته، إذ لكل واحدة منهما معناها العميق ووزنها الثقيل ما دامت الكلمات كائنات اجتماعية حية لا تستقيم على حال واحدة من القوة والضعف ولا من السمن والغثاثة ولا من الخفة في الوزن أو الثقل فيه كما يقول اللغوي الفرنسي الكبير انطوان ماييه، بل هي تتبدل بعض هذا من بعضه لأنها "حقيقة اجتماعية عابرة لا تتحقق بذاتها مرتين كما أنها عارية عن كل قيمة ثابتة". ومن ههنا يبدو أن كلمة "رجل" في اليوم في دنيانا العربية المترهلة بالتفكك والانحلال عميقة جدا وثقيلة جدا لأن الرجال الذين تثقل بهم وتشيل بأشباههم كفة الميزان قليل وكلمة "كبير" هي اليوم في هذه الدنيا ثقيلة جدا وعميقة جدا أيضا لأن الصغار فيها كثير. فإذا قلت "رجل" فإنما تعني شيئا نادرا في أمة ليس أشد منها فقرا إلى هذا الشيء النادر وإذا قلت "كبير" لقد أردت شيئا نادرا كذلك. ولهذا وجدتني قد وفيت الإمام الأمين حقه من الرثاء حين قلت فيه أنه "رجل" وحسبتني بالغا في وصفه ما أريد وأزيد حين قلت فيه أنه "كبير".
ولا بدع في أن يكون لهذا الرجل الكبير جوانبه الكثار والمتعددات. جانبه الديني وجانبه الإنساني وجانبه العلمي وجانبه الفني فقد كان رحمه الله علما بين رجال الدين، نقاء ضمير وسمو نفس وصفاء سريرة وقوة في التعالي عما يقع فيه صغار العاملين في الحقول الدينية من الوقوف عند الآفاق الضيقة المحدودة كما كان قمة سامقة بين رجال الفقه والقانون والاجتماع إلى جانب الرحمة التي استغرقت حياته فأشرق منها جانبه الإنساني، وذوقه وحسه اللذين ولجا به دنيا الأدب من باب فسيح.
ولقد وددت أن أتناول بالدرس من حياته جوانبها كلها لولا هذا الغموض واللبس اللذان يحيطان عواطفنا الاجتماعية فيدفعان بالواحد منا لأن يحذر فيسرف في الحذر ويحتاط فيغلو في الاحتياط فلنطو إذن أكثر هذه الجوانب لنقف عند واحد منها هو إنسانيته فإننا اليوم أشد ما نكون حاجة إلى نماذج بشرية حية توقظ منا ضمائر غفت على قسوة ونامت على أثرة مفزعة لو عاد محمد إلى الوجود لكانت الوثنية الجديدة التي يقيم الأرض ويقعدها حربا عليها وجهادا لها.
في مثل هذا الوقت من العام الماضي كنت في الشام. وحيثما كنت أحل، وبمن كنت أختلط كان الإمام الأمين يذكر بالخير ويشهد له باليد البيضاء في رعاية الناس ونشر المحبة بينهم، في الجامعات وفي السوق وفي المكتبات. وكان المتحدثون أخلاطا شتى طلابا ومثقفين وأساتذة وأصحاب حرف، كلهم كان لسان حمد على هذه الإنسانية البارة الرحيمة. كان رحمه الله أول من التفت في الشام – ولعل بغي الفرنسيين هو الذي دفع به إلى هذا – إلى أن الحكومة لا يمكن أن تسأل عن كل شيء وأن تعاون الناس بينهم هو خير معين على سد الحاجة وإسكات عوز ذي العازة فبدأ بالمؤتمين بإمامته المباركة فدعاهم إلى إنشاء ما يشبه صندوقا للضمان الاجتماعي يلقي فيه غنيهم وفقيرهم شيئا من المال يوميا ولا عبرة بمقدار ما يلقى. الفلس الواحد يكفي والمهم أن يلقى به في ذلك الصندوق. وكان المؤتمون بإمامته وما يزالون خلقا كثيرا ولم يكونوا كلهم فقراء، فلم يلبث الصندوق أن أخذ يمتلئ ويفرغ ليعود إلى الامتلاء ثانية وثالثة وراحت الأموال تجمع في يد نظيفة لها عليها منها حاسب ورقيب فإذا بها تمتد إلى جروح كثار من جراح النفوس والأجسام فتمسح عليها فتأسوها وتبدلها من شرها خيرا ومن ضيقها سعة وانطلاقا ثم لم يلبث معهد علمي كبير هو المدرسة المحسنية أن نهض في الشام يتعهد بالرعاية والتوجيه نحو الخير والحق والجمال نفوسا طاهرة نقية فيعصمها من الألم وما يعقبه من تفتحها على الشر.
وهكذا كانت حياة الإمام برا موصول الحلقات ورحمة واسعة تطوي بين جناحيها القريب والغريب دون مفارقة ولا تمييز حتى لكأن الرحمة والحب والتسامح صورت جميعا في رجل فكأنه هو.
هذه وقفة قصيرة عند جانب من تلك الحياة الضخمة الواسعة العميقة التي طواها التراب أمس في ظلال ضريح بطلة كربلاء في الشام فإذا استطاعت أن تكون دمعة وادعة تنساب في حركة ساكنة أو سكون حارق فهذا ما أريد وإلا فليس لي إلا أن أحمل الريح عزاء حزينا لأستاذي وصديقي حسن الأمين.. الرجل الذي يحمل الآلام الفاجعة أثقلها عبئا لأنه الفرع الزكي من الدوحة التي حسر الزمان ظلالها عنه.
الشعر يؤرخ وفاته
قال السيد حسين الكاشاني:
عبس وجه الصبح في رزئه | عن ليلة جاءت به أدجنا |
قلب الهدى عند رداه انطوى | على المدى أو مثل وخز القنا |
أسأل زفرة الأسى عبرة | آلت بأن لا تبرح الأجفنا |
أمين دين الله في أرضه | إذ خاره الله له مأمنا |
والآية العظمى التي بينت | سر النبي المصطفى بيننا |
والعيلم الفرد الذي كل ذي | علم بفضل علمه أذعنا |
لم يجر في نادي العلى ذكره | إلا عليه فاح ريا الثنا |
وما وعى شخص أحاديثه | إلا بفضله اغتدى مؤمنا |
فرائد الفضل به نضدت | عقدا أبى غلاه أن يثمنا |
إن غاب شخصه فآثاره | سلوتنا ما استقصت الأزمنا |
وأنه إن غاب عنا اقتنى | حظيرة القدس له موطنا |
ورحبت به وقد أرخت | رضوان حيا السيد المحسنا |
وقال السيد نور الدين الأخوي:
فجع الدين بالذي | كان نبراسه المبين |
وبكى الشرع أغلبا | طالما قد حمى العرين |
حجة الله الذي | حالف الحق واليقين |
والإمام الذي به | كان يعتز خير دين |
أمة العرب والهدى | فقدت حصنها الحصين |
قال تاريخه لها | قد قضى المحسن الأمين |
صاحب أعيان الشيعة.
بقلم: الشيخ عبد الله الخنيزي
ليس الإمام الأمين عالما، من العلماء الأفذاذ، الذين يشار إليهم بالبنان فحسب...... ولكنه يمتاز إلى جانب شخصيته العلمية الفذة بشخصية أدبية مرموقة، وشخصية تاريخية قوية، وشخصية عاملة مخلصة وثابة...... فهو رجل جمع شخصيات نادرة، تمتاز كل منها بالأصالة والجودة والقوة والخصب...... فالحياة – فيها – دافقة ناضرة.. وأنه لمصداق لقولهم: أمة في رجل، وعالم في واحد.
إن حياته حافلة بالمآثر الخالدة، والأيادي البيضاء من جلائل الأعمال التي تضعه في صف العظماء...... من الخالدين، أو الخالدين من العظماء...... فإنه شق طريقه إلى الخلود بيده المباركة، وتبوأ من الخلود منزلة يغبط عليها، ولم يعط ذلك حبوة، أو جزافا.
ولع من أبرز الظواهر التي تتجلى في هذه الشخصية "المضاعفة" وإن تكن كل ظاهرة فيها بارزة – أقول: لعل أبرز ظاهرات هذه الشخصية: ظاهرة انتزعت إعجاب الكثيرين انتزاعا...... تلك هي هذا الصبر النادر، والجهد الدائب...... هي هذا النماء، والنتاج المبارك النافع. هي هذه المؤلفات الكثيرة، التي هي النواة الصالحة...... وهي – بصورة أخص – هذه الدائرة الواسعة، التي وضعها، والتي بذل أقصى جهوده، في إتحاف الأجيال القادمة بها، والتي أعطت – من ثمارها الطيبة – شيئا، ليس بالقليل...... وأعني بها: كتابه العظيم (أعيان الشيعة).. ذلك الكتاب الذي أخرج منه ما يقارب الأربعين جزءا.
وليس ما يلفت النظر – في هذا الكتاب القيم – هو عدد أجزائه، في التقدير للكيف...... ولكن هنالك ما هو فوق هذا...... بل إنه مسألة (الكم) للتضاؤل إذا قسمناها إلى "الكيف".
وشيء مهم في هذا الكتاب – أيضا – هو ما في هذا الموضوع، من عمل شاق، يتطلبه من: صبر، وجلد، وتتبع.. لأنه يبحث في كل زاوية – من الزوايا – عن "عين" من أعيان هذه الطائفة الكبيرة، المتسعة الأطراف والمنفسحة الأرجاء والواسعة الأجواء.
وأكبر دليل على ذلك: ما تجده في هذه الدائرة الواسعة من تراجم أناس، لا تظن أن يعثر أحد على مثلهم نظرا لعدم شهرتهم، أستغفر الله! نظرا لعدم معرفتهم، حتى في بلادهم، التي عاشوا فيها، وتنسموا هواءها، وتربتهم التي أخرجوا منها، وأعيدوا فيها، وهي لا تكاد تعرف من أمرهم شيئا، ولم تخلد على أديمها أسماءهم، فضلا عن ذكر أو أثر لهم..!
وهذا ما يدعو إلى إكبار هذا "الرجل العظيم"، لا من حيث علميته ومعرفته وإطلاعه فحسب.. بل من حيث جهده، وتتبعه، وتقصيه المنقطع النظير، ومن حيث إخلاصه لفنه، في زمن قل فيه المخلصون، الذين يعملون لأجل واجبهم لا لشهرة يرجونها من وراء عملهم ولا لجزاء يأملونه، ولا ل"شهادة" تصل بهم لأمانيهم الأشعبية،!
إن رجلا يمتاز بهذه "الظاهرة" وحدها – بل ما يمتاز به من ظواهر لا تقع تحت الحصر – لرجل خالد بعمله العظيم.!
موسوعة في رجل
بقلم: الأستاذ أمين خضر
أجواء دنيا العرب تجاوبت أصداؤها عن النبأ العظيم، عن خسارة المصلح الأكبر، والزعيم الروحاني الأعظم مزيل البدع والضلالات ومحيي الدين، وهادي المجتمع إلى صراط مستقيم، "السيد محسن الأمين".
قالوا فيه الكثير والأكثر وعدوا من مناقبه المحمدية ما ظهر منها وما استتر. قالوا أنه البحر المتلاطم بشتى العلوم والفنون. وأنه الشخصية الفذة النادرة التي عقمت أجيال عن الإتيان بمثلها. وإنه المخرج الناس من الظلمات إلى النور. وأنه إمام أئمة الدين وأنه المجاهد التقدمي المجدد والمجتهد الأكبر صاحب التآليف التي تعد بالعشرات. وأنه الرجل الذي لم يخش سلطانا، وأن لا وزن عنده إلا للحق. وأن المصاب فيه لمن الفواجع التي لا عزاء عنها.
قالوا مثل هذا وأبلغ وأبعد ولكني أحس في هذه الشخصية الخيرة فوق ما قالوا وأعظم.
قلت إني أحس في هذا المصلح الأكبر فوق ما قاله الناس فيه وأعظم. وحاولت أن أصور لكم هذا "الفوق" الذي أحس فرأيتني حيال شعاع من مجد الروحية والرجولة يخطف بصري ويستلب لبي. وبياض من وقار المشيب يملك قيادي، وعظمة من العلم الزاخر.
مثلته أمامي حيا وميتا لعلي أستلهم من تلك الشخصية وآثارها في الحياة الروحية والعلمية والإنسانية ما يحل عقدة من لساني فأستطيع أن أصف لكم ما أحسست.
سمعت سقاط حديثه الهادئ الندي يعطر به الفضاء، ويكشف به عن أغوار النفس وأعماق الحياة وخفي أسرارها ومستلزماتها. فلمسته يسكب نفسه بكلام دافق رصين موثق لا ينقطع مدده يسكبها في أنفس سامعيه، وكنت ذات المرار منهم ثم لا نلبث أن نرانا – كلنا دون استثناء – وقد استحالت أنفسنا في نفسه ولا شيء إلا العجز عن تصوير ما يستحيل تصويره.
سمعته يرسل كلاما نضيحا مختمرا في جمل موجزة مشرقة دقيقة مرن عليها لطول ما عانى من اختيار الصور الكلامية لما كان يقول ولما كان يكتب ثم يقطع كلامه بفترة من صمت يخال سامعوه أنه انقطع تياره فيحبسون أنفاسهم ويمسكون قلوبهم وإذا به يفاجئهم بفقر منتظمة تتحاكى مع عينيه الحاكيتين – وعيناه عينا نسر كما تلحظون – فتمر هذه الفقر من آذان مستمعيه إلى أذهانهم ثم يروح يزجها بدعاب حلو تخفيفا من وقار الجد وثقله ودفعا لسآمة السامعين.
رجعت أستلهمه ميتا لأنبئكم بما قلت إني أحسست ب"فوق" ما قال الناس فيه. فألفيت جسدا منيرا طاهرا مسجى خشيت أن أهزه فتكون معجزة بأن يبعث حيا تلبية لنداءات تعودها طوال حياته كلما استنجد أو استغيث. فتراجعت أطلب روحه لأناجيها فرأيتها في برزخ الأبدية في حضرة قدسية علوية تقول لها: يا أيتها النفس المطمئنة تعالي، فقد رجعت إلى ربك راضية مرضية فادخلي جنتي فألقيت رأسي بين يدي تهيبا وعجزا وقلت ماذا أنت صانع يا هذا. إن ما خيل إليك إنك رأيته في الفقيد هو فوق ما رآه الناس فيه كان فيضا من الحس الباطني وأن بين ما يحسه المرء وبين ما يعبر عنه من البعد ما بين البداية واللانهاية.
في سنة 1929 رافقت بعثة أميركية عربية علمية دراسية طافت في أنحاء جبل عامل وخيام عرب الفضل وجبل الدروز وبعلبك. قوامها الدكتور د د مدرس اللاهوت في الجامعة الأميركية والبروفسور ريتشرد أستاذ العلوم السياسية والبروفسور سعيد حمادة أستاذ العلوم الاقتصادية وأحد أستاذتها السيد رجائي الحسيني. وكان من منهاج البعثة الاجتماع إلى قادة التفكير في تلك البقاع. وفي حضور الفقيد رضي الله عنه والعالمين الكبيرين الصنوين الشيخين رضا وضاهر ومن لا يعرف هذا اللون الزاهي الوقور من قادة الفكر والتوجيه الصحيح الخيري الإصلاحي التجددي – اقترحت على أفراد البعثة أن يستحكوا هؤلاء القادة ففعلوا وأخذ الفقيد ذاك الوعاء الرنان الذي يحتوي كل شيء يفيض متواضعا من بحره الزاخر باللاهوت والاجتماع والفلسفة وعلم الأخلاق والتاريخ حتى أدهشهم وصار يعييني أن أسمع أنفاسهم تتردد ولا شيء مما ترجم إلى الأميركيين ترجمة صحيحة واستوعباه – يريد أن يخرج عن وعيهما. فشعروا أنه غبر في وجوههم وأين ثراهم من ثرياه؟ وفي عودتنا قال أحدهم ريتشرد أن العظمة تحكيها عينا هذا الرجل قبل لسانه. وقال الآخر: سنحدث الرئيس دودج أننا رأينا موسوعة في جبل.
إن الفضائل كلها كانت تمشي في ركاب هذا المصلح العظيم. وإذا كانت عظمة العظيم يسليها الموت فهناك ما هو أعظم من الموت هو التاريخ الكفيل بانتزاع هذه العظمة من يد الموت وحفظها لصاحبها العظيم ثم ينفض عليها صبغة الخلود فإذا هي حياة العظيم الثانية التي لا تموت.
فيا روح الفقيد الغالي اطمئني حيث أنت فعبيرك في مشام الوجود يعطر أرجاءه وصاحبك من العظمة الإنسانية بحيث كل ما ترامى التاريخ على موته أحيطت ذكراه بهالة من المجد الخالد، وأحيط اسمه بكثير من الأساطير.
عبقرية فذة
بقلم: الأستاذ يوسف صارمي
صاحب مجلة المواهب التي تصدر في الأرجنتين
عبقرية فذة مؤمنة عارفة مجاهدة ألفت وأصلحت بين قلوب العرب أجمعين، المسلمين منهم وغير المسلمين ألفت بينهم وأصلحت على مختلف مللهم ونحلهم، وعلى كثرة فرقهم وشيعهم ومنازعهم وأهوائهم، ما شاء لها إخلاصها لربها، وإيمانها بعروبتها ووطنها أن تؤلف وأن تصلح.
وإذا كان بلغكم بأن العالم العربي، ساهم من ألفه إلى يائه بمأتم الفقيد الجليل، مساهمة منقطعة النظير، وتمثل حكومة وشعبا بتشييع جثمانه الطاهر، وأحتفل بدفنه احتفالا مهيبا رهيبا لم يكن من قبل تسنى مثل عظمته وجلاله، لأمير مدوج، ولا لمليك متوج – علمتم إذن، عظيم الخسران الذي منيت به الأمة بفقدها مربي الجيل ومهذب النشء ومقدار فضله عليها، وخدماته الجلى في سبيلها.
بل علمتم مبلغ جهوده في مناهضة الانتداب الظالم، منذ أن وطئت قدماه بلادكم إلى أن أجلاه الله عنها خاسئا حسيرا.
رحم الله محسننا الأمين، فقيد العلم والأدب والعرب، رحمة واسعة توازي خوالد أعماله، وتكافئ جلائل مبراته وحسناته، ولقاه الله نضرة وسرورا، وجنة وحريرا في رياض خلده، بين الملائكة المقربين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا وأحسن الله عزاء الأمة والوطن وعزى آله الكرام وبخاصة أنجاله الأدباء الأعلام وأرثى علمه وفضله وتقواه ولا سيما صديقنا الحميم الكريم نجله الأستاذ حسن الأمين الذي عرفناه أبان زيارته هذه البلاد فعرفنا الجهاد الصحيح والأدب الرفيع والعروبة المثلى.
العالم النبي
بقلم: الشيخ موسى شرارة
لقد كان من الأنبياء قديما صاحب رسالة للعالم وصاحب رسالة لأمته أو لبلدته أو لقبيلته.
وكذلك العلماء عالم بلدته وعالم طائفته وعالم أمته وعالم يسترشد العالم بهديه وهذا مصداق قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" كان السيد المحسن الأمين من النوع الذي يسترشد العالم والأمة بهديه وآثاره فقد ربى في الشام جيلا من البشر كما ربى الأنبياء أجيالا من البشر وسيسترشد بآثاره أجيال من البشر في المتسقبل.
ولما كانت الغاية من إرسال الرسل كشف الغطاء عن البصائر وتحرير العقول من التحجر الذي لحقها بتقليد الآباء وإتباع الكبراء والوثنية العمياء كان على العلماء أن يتحملوا هذه الرسالة ويؤدوها إلى البشر بالشكل الذي ينير البصائر ويرفع الحجب فأداها جلهم بإلقاء العظات العامة والخاصة وهذه الطريقة وإن كانت تؤثر أحيانا. ولكن التأثير محدود بنسبة الوعي وقلما يوجد الوعي صحيحا في المجتمعات وقلما تنطبع العظات في العقول وتتأثر بها النفوس بل هي غالبا تكون صورة عارضة تطرق الذاكرة وقتا ما ثم تزول بالنسيان وخصوصا إذا كانت المجتمعات تغلب عليها الأمية فيندر التأثير لضعف القابلية ومع هذا التأثير القليل لا يحسن إهمالها ولا يحسن الاقتصار عليها هذا ما أدركه السيد محسن الأمين بثاقب بصره فألف كتبا للوعي الديني اختار فيها ما يتلاءم مع العقول ويوافق واقع التاريخ وصواب الأحاديث الشريفة ثم ربى عددا كبيرا من الشباب يقوم بالوعظ بهذه المواعظ وأمثالها مما هو بريء من الكذب والمبالغات ومن لهم تتويج إلقائهم بكتاب الله العزيز كي يكون أبلغ في الوعظ وأزجر للنفوس فكان أولئك الشباب أمثال رسل عيسى بن مريم سلام الله عليه ينتقلون أحيانا في البلدان يلقون في المجتمعات ما تلقوه عن المغفور له السيد محسن الأمين وما أنشأوه على منواله بشكل جديد تشرئب إليه الإسماع وتتوجه له النفوس فحفظ بهذه الطريقة الغذاء الروحي للمجتمعات وقدمه إليهم بأحسن توجيه وقد استن بسنة السيد الأمين هذه عدد من الشباب الذي يصعدون المنبر في لبنان وكونوا لأنفسهم طريقة جديدة تتلاءم مع ذوق الجمهور المتعلم في العصر الحاضر بينما لا تزال الطريقة القديمة في البلدان الشيعية الأخرى مع عدم خلوها أحيانا من الكذب والمبالغات التي تنفر النفوس من استماعها.
ونظر إلى حاجة المستقبل لمجتمع صالح يتربى على العلم والأخلاق الفاضلة أسس مدرسة للبنين ومدرسة للبنات أنشأتا جيلا من الشباب والشابات تربيا على الفضائل الأخلاقية والدينية وعلوم العصر الحاضر وبلغ من شهرة التربية الفاضلة في مدرستي السيد الأمين أن أرسل أحد وزراء سوريا المنظورين ابنته إلى مدرسة البنات قائلا: أفضل الكمال الخلقي بهذه المدرسة على أي مدرسة أخرى.
هكذا أشرف السيد الأمين على التربية الفاضلة ورفع الروح الإنسانية في عدد كبير من البشر ملتفتا تارة إلى الصغير وأخرى إلى الكبير ومادا بصره إلى الأمام ينظر الأجيال المقبلة كأنما هو يخاطبها بقوله: هذا هداي وهذه آثاري هي الينبوع الصافي والمنهل العذب قد أعددت لكم الغذاء الروحي فلا تتعدوا طريقي المثلى وتردوا الموارد الكدرة!!
كانت رحلاته في الدنيا للعلم ولإحياء ذكرى رجال العلم والآداب والدين وبذل حياته الثمينة في سبيل العلم فكان يستوي في طلبه العلم وكشفه العلم حالتا الصحة والمرض فما أقعده المرض عن البحث والتنقيب إلا الأيام الأخيرة التي كان فيها مشرفا على الرحيل إلى ربه.
وكانت قبلته الحق لا يتجه إلا إلى جهتها ولا تأخذه في الحق لومة لائم فهو حامل لوائه المحامي عنه وكم صدمت نفسه الزكية بحملات مغرضة وصوبت إليه سهام الطعن والسباب من المنابر والمجتمعات والأقلام فكان كأنما يرفع به إلى السماء.
أجل لقد أبت نفسه الكبيرة أن تعنى بغير ما ينفع الإنسانية وأبى ألا أن يكون خالدا بين أبطال التاريخ الذين كان حريصا على تخليد آثارهم فنذر نفسه للقلم الذي علم به الإنسان ما لم يعلم فكان رفيق حياته مدة ثمانين سنة منذ ابتداء الدرس حتى أدركته الوفاة وكأنما حرص أن لا يفارقه حتى بعد الممات فأوصى أن يدفن في تربته الزكية إلى جانبه فكان ما أراد وكان رفيقه حيا وميتا.
من مراثيه
للشيخ علي مغنية في رثائه:
مولاي ماذا في رثائك أنشد | فلأنت عال ما لأفقك مصعد |
أيطير مقصوص الجناح إلى السهى | ويرى شعاع الشمس أعشى أرمد |
فلأنت للإسلام حافظ سره | ولأنت سيف للصلاح مجرد |
يا سيد العلماء أنت فخارهم | أنت العماد لهم وأنت المقصد |
كنت الولي لهم فعز مقامهم | والمرء يشقى بالولي ويسعد |
من منهم لم ترع كل أموره | من لم يكن لك في معونته يد |
هذي أياديك الجليلة دونت | للمسلمين فضائلا لا تجحد |
للدين والدنيا معا كنت الذي | يؤتي لكل المشكلات ويقصد |
أجهدت نفسك في جهادك ناثرا | درر الفضيلة والفضيلة تجهد |
ذو الأمجاد
بقلم: السيد محمد رضا شرف الدين
إن رجلا كبيرا كالسيد محسن الأمين في غنى عن الألقاب والعناوين التي تقال – في مثل هذه المناسبات – لقد كبر الفقيد وكبر حتى أصبحت كلمة (السيد محسن الأمين) وحدها عنوانا ضخما. فهي عندما تطلق ترسم أمام عينيك كل لقب رفيع من غير أن يخط بحرف.
قبل يومين فقط طويت صفحة من صفحات المجد العلمي بعد أن تداولتها الأندية الإسلامية وقلبتها المكتبات العربية ما يقارب القرن، أشبعت خلاله نهم رواد العلوم والآداب وأخذت بيد الباحثين المنقبين إلى كنوز مجهولة منسية في زوايا مجهولة منسية أيضا. لو لم يتح لها هذه الصفحة لبقيت كذلك منسية إلى ما شاء الله.
قبل يومين خمد فكر إسلامي عربي جال في ميادين مختلفة من البحوث أدبا وفقها ورجالا ونقدا وجدلا.. فكان مجليا فيها جميعا أو أكثرها.
لقد خمد هذا الفكر بعد أن أضاف إلى التراث العربي الإسلامي تراثا غنيا جعل فيه لكل ذي ميل في البحث – على اختلاف الميول – نصيبا يغنيه عن تفلية المكاتب وحزم الحقائب. هذا التراث كالمائدة حوت ما يشتهى وما يلذ.. يقبل عليها الجائع فيلتهم.. والممتلئ فيتزيد.. ثم يستسيغها هذا وذاك في يسر، ويهضمها هذا وذاك من غير جهد.
فمن هي هذه الصفحة التي طويت؟
أو من هو هذا الفكر الذي خمد!
إنه السيد محسن الأمين رضي الله تعالى عنه.
ومن لا يعرف السيد محسن الأمين في دنيانا العربية؟!
ومن لا يعرف السيد محسن الأمين في دنيانا الإسلامية!!
هذه مؤلفاته الكثيرة تأخذ بيد كل قارئ عربي.. فتعرفه إليه معرفة لا تحتاج إلى ألف ولام!!
تلك مواقفه في الإصلاح الديني الاجتماعي تترفع به في المعرفة.. عن الإضافة.. إنه لواء يحتل قنة من قنن الشهرة عليا تزهى به القنة!. إنه علم شامخ راسخ ينبعث من أعماقه النور.. فلا يحتاج إلى قول قائل.. (علم في رأسه نار) إنه السيد محسن الأمين وكفى.
فقيدنا اليوم ألف...... لم يقتصر على فن واحد ولا على علم واحد فكان فكرا خصبا منتجا أوسع الأفكار العلمية إنتاجا وانتشارا!.
فقيدنا اليوم جهر بالإصلاح الديني الاجتماعي.. ونادى بمجاراة العصر الحاضر بتأسيس المدارس الدينية ذات المناهج الحديثة فأسس – في دمشق – مدرسة للذكور واتبعها بأخرى للأناث.
وفقيدنا اليوم إلى ذلك كله...... إلى هذه الأمجاد ومن نوعها.. لقد كان له صوت من الأصوات الوطنية الرفيعة في القضية العربية في العهد الفيصلي في الشام. إلا أنه كان للميدان السياسي قاليا وعنه عزوفا لذلك لم يعرف في مجالاته.
هذا هو السيد محسن الأمين فقيدنا الذي لم نفقده بآثاره الباقيات رغم الموت.. فهو حي فيها ما زال في هذه الدنيا قارئ يستفيد.. وهو حي ما زال في هذه الدنيا مصلح يعمل.
طب الله ثراه ورضي عنه وأرضاه.
من مراثيه
للأستاذ إبراهيم بري في رثائه:
يا ملبس الأيتام ثوب حنانه | الناس بعدك كلهم أيتام |
يا حامل الآلام، رزؤك فادح | في كل جارحة له آلام |
أفنيت عمرك للهداية داعيا | وسهرت ليلك والرفاق نيام |
علم كشلال الضياء يصوغه | قلم تخط بوحيه الأقلام |
هيهات بعدك أن تشع منارة | للهدي أن غشى الوجود ظلام |
هيهات أن تهب السماء مخلصا | للأرض، بعثته هدى ووئام |
كم فهت بالفتوى فما اختلجت لهم | مهج، ولا انتفضت لهم أجسام |
وأمام فتواك الجريئة تنطوي | بدع الضلال، وترتمي الأصنام |
يا مالئ الدنيا بوهج علومه | للشرب، بل للكون أنت إمام |
أن الذي استسقى السماء لقومه | فدوى بها رعد وهل غمام |
وكأن قومك والصلاة تضمهم | عقد له سلك الخشوع نظام |
يتساءلون، وفي انكسار جفونهم | هلع! ترى تتحقق الأحلام |
وإذا المياه تسيل في رحباتهم | ويفيض منها الخير والأنعام |
وإذا استغاثتك الحنون مبرة | وإذا صلاتك، رحمة وسلام |
للسيد عباس قاسم شرف يرثيه:
تضعضع الكون واندكت رواسيه | وأعول الدين ينعى فقد حاميه |
ساد الأنام بخلق من سجاحته | من ذا الذي كان في الدنيا يساويه؟ |
يا زينة الأرض والدنيا ومصلحها | وجامع الشمل والإخلاص بانيه |
أدى رسالته للناس قاطبة | حتى إذا بلغت طابت أمانيه |
يا صاحب العطف والإحسان رد على | صوت الشريد الذي قد كنت تأويه |
لو كان يفدى بجمع الناس كلهم | لكنت أول من يمضي ويفديه |
تاريخ وفاته شعرا
للشيخ محمد علي صندوق مؤرخا عام وفاته، وقد ضمن الشطر الأول التاريخ الميلادي والشطر الثاني التاريخ الهجري.
ما على الركب لو أطالوا المقاما | ليؤدوا حقا ويرعوا ذماما |
ويؤموا قبرا "براوية" ضمـ | ـن نجما على النجوم تسامى |
رفعت راية الهدى بهداه | وحماها في الشام خمسين عاما |
ما عيلهم لو يلثمون ثرى القبـ | ـر اعترافا بفضله واحتراما |
يا سليل الهدى ونخبة أهل الـ | ـبيت والماجد الكريم الهماما |
قد شأوت "المفيد" علما وهديا | وخصاما لمن أراد خصاما |
لك نفس كريمة أبت المنصب | أو أن تداهن الحكاما |
خلق من محمد وعلي | وحسين قد كان فيك لزاما |
طبت نفسا ومغرسا وأروما | وبقرب ابنة الإمام مقاما |
فإليك التاريخ كالعقد يزهو | وبشطرين كاملين استقاما |
فسلام عليه كالغيث يهمي | أو عليه السلام دام ختاما |
للشيخ إسماعيل قبلان في رثائه:
مضى المحسن الحبر الجليل لربه | سعيدا فأشقانا وقد سعد القبر |
إمام التقى والدين والعلم والنهى | فقدناك فاستعصى على الأعين الصبر |
تركت بسفر الدهر أنصع صفحة | هي الصفحة الغراء لو نطق الدهر |
وشيدت للتعليم صرح معارف | فكان لمن ليه على الباطل النصر |
محارب البدع والأضاليل مجلة العرفان
كانت الفجيعة بفقيدنا السيد محسن الأمين، من الفجائع التي لا عزاء عنها، لأن الفقيد كان قليل النظائر في الأمم الإسلامية من حيث كونه إماما من أئمة الدين الإسلامي، ومن حيث كونه زعيما من زعماء الروحانية في هذا الشرق.
فأئمة الدين كثيرون اليوم، وزعماء الروحانية ليسوا قلة في الشرق، ولكن أين الإمام الديني والزعيم الروحي الذي يكون في مزايا الفقيد كلها.
ليس الإمام الذي نريد اليوم هو الذي يجمع علوم الأولين والآخرين في الفقه، ويضطلع بأعباء الفتيا للمسلمين، وليس الزعيم الروحي الذي نرجوه فينا في هذا الزمن، هو الذي يحمل تقاليد الروحانية الشرقية القديمة لكل ما فيها من صالح وطالح، ونافع وضار، وبكل ما فيها من أثقال تعوق المسلمين عن السير في طريق التطور الإنساني، وتؤخر الأمم الإسلامية عن اللحاق بالأمم الأخرى في مضمار الحياة والمنعة والقوة.
لا، ليس ذاك هو الإمام الديني الذي نريد، وليس هذا هو الزعيم الروحي الذي نرجو ولكن نريد الإمام الذي يجعل الفقه الإسلامي شريعة الله السمحة التي تراعي أحوال الناس في معايشهم وظروف حياتهم وطريقة تفكيرهم ومدى قابلياتهم لفهم حقائق الشريعة، ومقياس قدرتهم على تطبيق أحكام الدين، حتى يستطيعوا أن يوفقوا بين حياتهم وقابلياتهم وطرائق تفكيرهم ومقاييس قدرتهم، وبين ميادين العيش والعمل، ومعنى هذا أن الشريعة قادرة أن تساير الحياة وأنها لم تخلق لزمن واحد من الأزمان بل خلقت لكل زمن ولكل جيل، ولهذا كان محمد – عليه الصلاة والسلام – خاتم الأنبياء، ولهذا كان "حلال محمد حلالا إلى يوم القيامة وحرام محمد حراما إلى يوم القيامة" أي أن شريعة محمد قائمة في الناس إلى يوم الدين، وأنها الشريعة المتميزة بالسماحة والمرونة وقابلية التطور مع الحياة ما دامت الحياة، وما دام عامل التطور يدفع الحياة في كل جيل دفعة.
وما نقصد من سماحة الشريعة ومرونتها وتطورها أن تتبدل أسس أحكامها وأصول قواعدها، بل نقصد عكس ذلك تماما، نقصد أن هذه الأسس والقواعد التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية هي بذاتها صالحة أن تساير مقتضيات الحياة، وأن تكون على وفاق دائم مع أطوار الحياة مهما اختلفت مظاهرها. وتلك هي عظمة الشريعة الإسلامية وميزتها الكبرى ومصدر بقائها خالدة إلى يوم القيامة ولا يتبدل حلالها حراما ولا يتبدل حرامها حلالا.
ونحن نريد الإمام الديني الذي يجعل من الفقه الإسلامي شريعة الحياة، ويجعل شرعة الإسلام هي الشرعة الباقية الخالدة الحية أبدا ما بقيت الحياة.
"وهذه أولى ميزات فقيدنا العظيم السيد محسن الأمين، فقد اضطلع بالفقه الإسلامي وعلوم الشريعة كلها، اضطلاع البصير بما في هذا الفقه وهذه الشريعة من عناصر الحياة والبقاء والخلود".
لقد أدرك – رضوان الله عليه – بثاقب فكره ونير عقله، ونافذ بصيرته، أن الشرع الإسلامي هو شرع الحياة الدائم، وأننا إذا اتخذناه مادة جامدة راكدة لا تتحرك ولا تتطور فقد حكمنا عليه بأنه شرع فترة من الزمن، وشرع أمة واحدة من الأمم، وشرع جيل سانح من الأجيال، ومعاذ الله أن تكون شريعة خاتم الأنبياء كذلك، ومعاذ الله أن يرسله تعالى خاتما للأنبياء ثم يجعل رسالته رسالة فترة زمنية لأمة واحدة وجيل واحد فذلك نقيض العدل الإلهي.
من هنا كان الإمام السيد محسن، إماما دينيا عظيما، وزعيما روحيا صالحا، فعظمته إذن – هي عظمة هذه الطريقة التي فهم بها الدين ويفهم بها الفقه، ويفهم بها الشرع الإسلامي العظيم.
وليس سهلا يسيرا أن يكون الإمام الديني بهذا العقل وبهذه الطريقة، ولكن من السهل اليسير أن يكون الإمام الديني ضليعا بالفقه وعلوم الشريعة، بل هم كثيرون الذين يضطلعون بعلوم الأولين والآخرين من شؤون الشريعة والدين، ولكن أين فيهم البصير النير النافذ الفكر الواسع الأفق الذي ينظر هذه النظرة العملية السمحة للشريعة؟ أين فيهم المفكر بهذا اللون من التفكير الصالح المنتج الذي يجعل من دين محمد بن عبد الله دين الأزمان والأجيال ومن فقه محمد بن عبد الله أسلوب الحياة الدائم ومن شريعة محمد بن عبد الله شريعة الدنيا وشريعة الأمم كافة؟.
أين فيهم هذا بعد اليوم، أي بعد أن فجعنا بهذا الفقيد الكبير العظيم؟
لا نقول ذلك متشائمين قانطين يائسين، فإنه "لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون".
ولكن نقول ذلك ونحن نتطلع إلى الوجوه من هنا وهناك، ونتطلع إلى أنحاء العالم العربي والعالم الإسلامي معا، نبحث عمن يسد هذا الفراغ الهائل الذي أحدثه السيد محسن الأمين الراحل، في صفوف الأئمة الدينيين والزعماء الروحيين، فلا نكاد نجد ضريبا له ولا مثيلا، وقد نجد ولكن في النفر الأقلين من الشيوخ الذين وقف بهم العمر عند مرحلة لا يستطيعون فيها النهوض بالعبء الضخم الذي كان الفقيد الأمين ينهض به على شيخوخته وأثقاله الجسيمة.
كان السيد محسن الأمين بعقله وبصيرته وأسلوب تفكيره، يجاهد جهاد الأبطال من أجل أن يزيح هذا الركام الهائل من البدع والأوهام والأضاليل، عن شريعة محمد ودينه الخالد ورسالته الحية الدائمة.
لقد عرفنا من طبعه ودينه وإيمانه وصلابة عقيدته، ما يبعث في عقله وفي نفسه معا الحماسة والنشاط والعزم والمضاء في محاربة تلك البدع والأوهام والأضاليل، وعرفنا فيه إلى جانب ذلك، جرأة القلب وثبات الجنان وقوة الصبر على العقاب التي تعترض سبيله، وعلى الأعاصير التي تحاول أن تعوق سيره، وعرفنا فيه رحابة الصدر في احتمال ما يثور بوجهه من غبار الخصومات.
ولقد يكون في أئمة الدين والزعماء الروحيين من تجتمع فيه هذه المزايا أو بعضها، ولكن ليس فيهم من يجمع إلى هذه كلها، استمرار الدأب على نشاط لا هدنة معه، ولا وناء ولا فتور حتى صار الدأب هذا طبيعة لازمة من طبائع الفقيد العظيم، وحتى صار النشاط هذا خطا مستقيما يمتد طويلا طويلا على مداه في السنين دون انحراف ولا انكسار ولا انحدار.
هذه آية رائعة كانت أظهر آيات العظيم الذي فقدناه، وهي التي كانت عونه الأكبر في إنتاج ما أنتج، وكانت العامل الحي في أخصاب يده وقلمه، حتى استطاع أن يتدفق في الأدب، والشعر، والفقه، والنقد، والتاريخ، تدفق المتسوعب الممتلئ قلبا وعقلا ونفسا بكل ما كتب وألف وحدث.
من مراثيه
للأستاذ كامل سليمان في رثائه:
لمن الموكب بين البلدين | مائجا سد فضاء الخافقين |
سار من بيروت لهفان الحشا | لدمشق...... ودهى العاصمتين |
أقلق الأهل، فأصمى قلبهم | وتعداهم فهز الدولتين |
زحف الشعبان فيه=وهما | حسرة في القلب أو دمع بعين |
قد مشى لبنان فيه مرسلا | أنه في الشام كذلك أنتين |
جوانب إنسانية
بقلم: السيد فخر الدين هاشم
الإمام الأمين رضوان الله عليه، هو أحد أولئك الرجال القلائل صانعي التاريخ، ولقد أمده الله بالعمر الطويل العريض – كتعبير الرئيس ابن سينا – عندما قال: اللهم هبني عمرا قصيرا عريضا، ولا تجعله طويلا ضيقا.
عمرا طويلا بالكم، عريضا بالكيف، فإذا حياته الشريفة سفر حافل بالأعمال الجليلة الضخمة، وقد راح الدهر يكتبه على صفحة الزمن بقلم الخلود.
وتعالوا معي ننتقل الآن عبر التاريخ إلى صدر الإسلام لنرى كيف إنه أعاد إلى أذهاننا سيرة الخلفاء الراشدين فكانت أعمالهم دستورا لحياته الشريفة، وعودوا معي إلى أيام الحرب العالمية الأولى، بما جرته من ويلات، لنرى كيف أنه طبق تلك السيرة عمليا، واستعرضوا الماضي بأذهان صافية.
هذا الإمام المحسن، قائم في بيته، في هدأة الليلة والناس نيام، لا تنظره عين سوى عين الإله الساهرة تحرسه وترعاه، وقد خيم البؤس على منازل أبنائه الروحيين، ويدخل إلى سمعه ثغاء أطفال تطلب القوت، ويطن في أذنيه كلام جده أمير البلغاء.
أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى، ويهتز في موضعه، ويقوم إلى حواشي البيت يقتسم ما أدخره لعائلته من قوت، ويحمله على ظهره إلى منازل الجياع.
ويعود إلى مقره قبل أن يتنفس الصبح راضيا مطمئنا وقد أشبع النداء الداخلي الذي كان يدفعه للتضحية في سبيل المجتمع المنكوب.
إنه بعمله هذا كان تجسيدا للعظمة الإنسانية الخالدة.
وها هو ذا وقد لبى نداء ربه، وطواه الموت بردائه، لا يزال منارة للجيل والأجيال القادمة، وهي ملء السمع والبصر.
فهذا معهده في الشام، بسمة في جبين الدهر، يقذف بأشباله إلى معترك الحياة الحرة يثقف العقول، ويصنع الرجال الأشداء الأقوياء، يقودون الأمة إلى الخير، وكتبه المنتشرة، وهي مدارس سيارة تطوف الشرق والغرب، وقد أفنى زهرة عمره الشريف في إخراجها آيات محكمات هن أم الكتاب.
هذه لمحة خاطفة عن حياة إمامنا الأمين، أبرزها حية ناطقة بعظمته، وهي حياة حافلة بالجليل من الأعمال يعجز عن إدراك مداه العقل.
فوق الطائفيات
بقلم: الأستاذ عبد اللطيف الخشن
يحق لي، وأنا واحد من مئات التلامذة الذين أشرب الراحل العظيم السيد محسن الأمين في نفوسهم حب العلم، والفضيلة، وصقل عقولهم، وأفكارهم، يحق لي أن أقول كلمة بمولاي الإمام الفقيد، فأعود فيها بالذكرى إلى نحو أربعين سنة تقريبا يوم نزحت من مسقط رأسي إلى دمشق الشام إلى مدرسته حيث صرفت ربيع الحياة، إن في هذه الذكريات التي تجذبني للكتابة عبرا وعظات تعود إلى أحلام الطفولة العذبة إلى حضن الأمومة الجميل، إلى باكورة زهوي ومرحي إلى أول صف. في أول مدرسة، جعلت مني بشرا سويا.
لم يكن السيد محسن الأمين في معاملاته لغير أبناء الطائفة الشيعية أقل من معاملته الحسنة لأبناء طائفته، ولم أجد في حياتي كلها مؤسس مدرسة في الدنيا لا يبالغ بحب أبناء طائفته أولا وإيثارهم على غيرهم، وجعلهم مقدمين في الوظائف على غيرهم باستثناء مولانا الراحل الذي كان يفتش عن معلمين للمدرسة يحسنون التدريس، دون النظر إلى الطائفة التي ينتمون إليها إذ كان يفتش عن الإنتاج الفكري، والنضوج العقلي، والوعي في الأستاذ دون أن يسأل عن طائفته، وعن نحلته وهذا بشهادة جميع الذين لمسوا من الراحل الكريم هذا التسامح وهذه العدالة.
ثم أنني لا أزال أتذكر الأساتذة الذين كانوا يدرسون في المدرسة العلوية (والمدرسة المحسنية اليوم) وقد كان الفقيد – طيب الله ثراه – جاعلا المدرسة من أرقى المدارس تعليما وتنظيما وأحدثها وأنماها بالعلوم الحديثة، وتعليم اللغات الأجنبية. وما كانت تتوسع به وتدخله في برامجها عائد إلى جهود الفقيد، وسهره على الأساتذة والتلامذة.
ولنعد إلى تساهل فقيدنا، الذي يجب أن يكون أمثولة حية لرجال الدين والعلم كافة.
لقد كان أساتذة المدرسة من جميع رجال الطوائف، وأني لأذكر على سبيل الاستشهاد والمثال أن معلمي الدروس الصرفية، والنحوية كانوا من السنة والشيعة، وكان المدرس للغة الإفرنسية مسيحيا يسمى الأستاذ شاكر، وكان مدرس اللغة التركية سنيا اسمه (علي أفندي) ومدرس (تحسين الخط) الأستاذ ممدوح الخطاط المعروف.
ونظرا للشهرة التي نالتها المدرسة يومئذ أقدم الكثيرون على إرسال أولادهم إلى المدرسة وهم من مختلف الطوائف، ولم يكن في برامج التعليم أية صفة خاصة، أو ميزة لفريق دون آخر من التلامذة.
ولا أزال أتذكر (المؤذن) الذي كان منتخبا لوظيفة الآذان في كل فرض من فروض الصلاة عندما كنا نقيم الصلاة جماعة، وقد كان الطلاب يصلون جماعة من الصف الأول حتى الصف السادس لتعود التلامذة منذ الصغر على تقوى الله وحب الفضيلة!.
كان المؤذن رخيم الصوت اسمه (علي قضماني) من أسرة القضماني السنية المجاورة لمنطقة الخراب (منطقة الأمين اليوم) وكان مفضلا، ومقدما للأذان على جميع رفقائنا، بالرغم من وجود تفاوت جزئي في الأذان بين السنة والشيعة، وهو إضافة (حي على خير العمل) بعد حي على الفلاح.
المجتهد الكامل
بقلم: الشيخ يوسف كمال
صاحب مجلة الرفيق التي تصدر في بونس آيرس.
مما يسجل بأحرف من نور في صفحة الخلود لإمامنا الحجة السيد محسن رضي الله عنه وأسكنه فسيح جناته، إنه كان المجتهد الكامل الذي حمل في صدره العلم الصحيح من منابعه الصحيحة، ولم يبخل به ولم يختزنه ولم يقف به أمام البدع والتقاليد العقيمة موقف المداري، بل شهر سيف الحق ومرقم الهداية وأقدام إقدام أجداده الأطهار الأئمة آل بيت الرسول صلوات الله عليه وعليهم وأخفت صوت الضلالة وأزاح غمة الغواية ونقى العادات والتقاليد من الشوائب ورسم الطريق المثلى للمخلصين ودعم القول بالعمل فكانت سيرته سيرة المعلم الهادي، ولم يكتف بأن فتح بيته محجة للرواد والقصاد والمنتجعين ولم يكتف بما حبر وأذاع ونشر، بل أقام المدرسة المحسنية الكبرى وانتخب لها خيرة المدرسين وأقبل عليها الطلاب حتى من العراق وإيران، وكانت نتيجة طلابها دوما متفوقة وكانت نسبة نجاحهم مرتفعة جدا بالنسبة لبقية المدارس. وقد أطلق أخيرا بقرار من الهيئة التأسيسية للمدرسة "اسم المحسنية" عليها عرفانا لجميل الإمام الحجة السيد محسن الأمين الذي نجتمع الساعة على ذكراه الخالدة الحية في النفوس والقلوب.
أيها الراحل العظيم.
ماذا نقول فيك إلا أن نعيد ما قاله العلماء والشعراء والأدباء في أسلافك العظام منذ مئات السنين، لقد كنت واحدا من أولئك الذين يرسلهم الله جلت حكمته في فترات من الزمن فيحيوا سنته، ويهدوا إلى شريعته. ويضعوا لهذا العالم الحائر ميثاق الهدى والرحمة. فانعم في جنان ربك، فلقد أديت يا مولاي رسالتك العظيمة، رسالة أهل البيت المجتبين.
ولله در ابن الرومي الذي قال في أحد أسلافك العظام يحيى بن علي ما نردده نحن في يوم ذكراك الخالدة:
سلام وريحان وروح ورحمة | عليك وممدود من الظل سجسج |
ولا برح القاع الذي أنت جاره | يرف عليه الأقحوان المفلج |
كما أن لنا يا مولاي في أنجالك أقمار هاشم العزاء والذخر. ولا يزال ولن يزال ذكر نجلك السيد حسن عابقا في أنديتنا ما دام في هذا المهجر من يعتز بمكارم الأخلاق ويهزه الأدب اللباب.
في إيران
بقلم: الشيخ سليمان ظاهر
صورة ماثلة من رحلات أفذاذ العلماء العاملين الذين كانوا يجوبون البلاد النائية أما لتلقي دروس علم عن متخصص فيه، حاذق له، معروف به، مفقود في بلده، وأما لسماع حديث أو أحاديث عن رجال ثقات عنوا بأسانيدها وبتمييز صحيحها من فاسدها، وغثها من سمينها. وقد تنشط همم بعضهم لقطع المراحل القصية لتصحيح حديث واحد عن محدث عرف بالوثاقة والأمانة والتمحيص. وأما لدراسة طبائع الأمم والشعوب وأديانهم وعقائدهم. وأما للوقوف على مصورات بلادهم وموقعها من الكرة وما فيها من الخصائص، وما إلى غير ذلك مما يهدف إليه الطوافون في جوانبها، والماشون في مناكبها وكل يأخذ من الرحلة ما هو ميسر له، وما يحفزه إليه طبعه.
ومن هؤلاء من نعدهم ولا نعددهم ممن طوفوا في الأرض لأحد تلك الأغراض من قدمائنا: اليعقوبي المؤرخ والمسعودي وابن النديم والكراجكي والخطيب البغدادي ومنهم الفارابي الذي استقرت سفينته في طوافه في بلاد الشام وانتهت حياته في دمشق. ومنهم ناصر خسرو الإيراني وياقوت الرومي وابن جبير وابن بطوطة. إلى كثيرين يخرجنا عدهم عن غرضنا. وفي العصر الأخير فيلسوف الشرق السيد جمال الدين الأفغاني الممحضة رحلاته لإصلاح الشرق وإيقاظ المسلمين من غفلتهم فالميرزا باقر الإيراني فجم غفير غيرهم.
وأما صاحب هذه الرحلة الجليلة إلى إيران إمام عصره ومصلحه العظيم فقيد الشرق الإسلامي ساكن الجنان الخالد السيد محسن الأمين فكان حافز نفسه الكريمة التي لم تمل العمل للعلم ونشره في الآفاق لا في أفق وطنه المحدود وفي طائفته فحسب طموحا لا مدى له ولا حدود فلم تقف به سنه العالية عن ارتياد زيادة المادة لموسوعته (أعيان الشيعة) التي إن كان رجالها المترجم لهم من أبناء ملته فهي في واقعها متجاوزة حدود هذا الغرض. ومن خليقة هذا العالم العظيم النهم العلمي والإحاطة التي قد ترى متجاوزة للطاقة والإمكان.
لقد أزمع على تلك الرحلة العراقية الإيرانية للاستزادة من المصادر لكتابه فتحمل مشاقها حيث يضعف عن احتمالها أولو العصبة من الرجال عالم بأن وراء ما يتطلبه لتأليف كتابه الفذ في بابه من جهد وعناء وصبر وسهر أداء لواجبات دينية واجتماعية ومبادلة زيارات وما إلى ذلك مما سيكون عليه لزاما لا مفر منه ولا محيص عنه وله شهرته العلمية المطبقة للآفاق فوطن نفسه على احتمال كل ما سيلاقيه من الأعباء الثقال.
إن هذه الرحلة استغرقت أحد عشر شهرا صرف منها إلى العراق أكثر من النصف وفي إيران فصل الربيع ومعظم فصلي الصيف والخريف وكان ذلك سنة 1352 ه وسنة 1933م وبعد سفره الميمون توفقت للاجتماع بسيادته في الكاظمية مدة يومين أو ثلاثة وهو على أهبة السفر للبلاد الإيرانية في أواسط نيسان وقد كنا في جملة مشيعي ركبه الميمون.
وفي أول حزيران سنة 1934 و 17 صفر سنة 1352 حيث تخف وطأة البرد في إيران وهو ما حذرنا منه أصدقاؤنا ولم يعبأ به صاحب الرحلة الجليل سافرت على اسم الله تعالى وهمنا اللحوق بركبه الميمون والتشرف بطلعته والاقتباس من علمه والأخذ بخطنا من مؤانسته النادرة المثال التي استمتعنا واستمتع أهل النبطية بمعينها الفياض وقد شرفها صيف عام 1349 ه فمكث فيها ثلاثة أشهر حيث يتسنى له طبع الجزء الأول من معادن الجواهر بمطبعة العرفان في صيدا والإشراف على الطبع والتصحيح فكانت تلك الأشهر الثلاثة غرة في جبين الأيام ومظهرا من مظاهر فخرها سجلها رضوان الله عليه في قصيدة رائعة نشرها ونشر جوابها لكاتب هذه الكلمة في الجزء الثالث من معادنه الغالية.
وبعد طينا صحيفة أيام صفر إلى التاسع من ربيع الأول واثنين وعشرين يوما من حزيران صرفناها في كرمانشاه وهمذان وقم سافرنا إلى طهران يوم الجمعة في 9 ربيع الأول و 22 حزيران مساء ولم يذر قرن غزالة السبت في سماء هذه العاصمة وتنشر نورها في آفاقها إلا على تحقيق أول واجب مفترض علينا ألا وهو القيام بزيارة ذلك المجاهد العظيم وقد عرفنا أنه نزيل العلامة الجليل الشيخ إسحاق الرشتي مدرس علمي الأصول والفقه في مدرسة سبه سالار فهرعنا إليه وما كان أروع ما لقينا من كريم عطفه وجميل خلقه وهو مع كثرة زائريه والمترددين عليه من رجال الدين والدنيا على مختلف طبقاتهم صارف همه في مطالعة ما يعرض عليه من كتب مخطوطة عربية وفارسية وهو يحسن هذه اللغة تكلما وكتابة سواء أكان منها ما يتعلق بموضوع موسوعته أم كان في سواها من العلوم.
وهكذا كان هجيراه في كل بلد حلها في رحلته.
وأسعدنا الحظ بعد مكوثنا ستة عشر يوما في طهران أن تشرفنا بصحبته الشريفة إلى مشهد الرضا (عليه السلام) في خراسان واستمرت إقامته مدة أربعين يوما، ومع كثرة زائريه من رجالاتها على مختلف طبقاتهم لم يكن ذلك بصارف له عن تأدية مهمته العلمية أكمل إداء، وقد فتحت له المكتبة الرضوية أبوابها واختصته بما هو خارج عن نظامها من حيث إخراج كتبها من مستودعها فكانت تسمح له بإعارة الكتاب الذي يبلغ به حاجته في مكان نزوله، وهكذا طوى زهاء ستة أشهر ونيفا في إيران منقبا باحثا عن كل ما له علاقة بكتابه إلى ما تفرضه عليه المجالات وحقوق الإخوان وإلى ما يعرض في خلال الاجتماعات من مباحث علمية وإلى قيامه بإمامة الجماعات في كل بلد حله وقد تخلت عنها له أئمة مساجدها، والضيافات والقوم كل يرى نفسه سعيدا أن يكون ضيفه وقد شاهدنا في المدة التي سعدنا فيها بصحبته دع المدة التي لم نكن حاضرين بها ما نعجز عن تحريره وتسطيره.
وعدنا في ركابه من عاصمة خراسان إلى عاصمة المملكة الإيرانية طهران وقد طوينا زهاء الشهر في الإياب في هذه العاصمة السعيدة أيام رضا شاه الذي طلب الاجتماع بصاحب الرحلة الخالد وكان له معه حديث كله صراحة شيمة العلماء العاملين.
وشاء القدر أن يفارقها إلى قم في إيابه على أن نتشرف باللحاق به وانتظرنا فيها وفي همذان وأخيرا في كرمنشاه وهناك سعدنا بلقائه وكان بنا مسرورا.
هذه هي الرحلة الميمونة التي ما كاد خبرها ينمى إلى إيران حتى تلقته بالارتياح العظيم وما أطل ركبه على بلد من بلادها إلا وقد أعد له الاستقبال الحافل وسرعان أن أصبح شخصه المحبوب وخلقه الكريم وعلمه الجم وحديثه العذب ملء الأسماع والأبصار تعمر به الأندية والمحافل ويحتفي بمقدمه العلماء والعظماء وسائر الطبقات من كرمنشاه وهمذان ونيسابور وملاير وقم فطهران فخاتمة المطاف مشهد الرضا عاصمة خراسان وما بين هذه المدائن من قرى ألم بها إلماما.
لقد كانت عواطف الإيرانيين تتمثل في تلك الخطب الرنانة التي كان يتدفق بها أعاظم خطبائهم على منابر المساجد بعد كل صلاة كان يؤم بها الناس، فما هو أن ينتهي من الصلاة حتى يصعد الخطيب المنبر للوعظ - على عادتهم - فيشيد بين التهليل والتكبير بضيف إيران العظيم ويعدد مآثره وفضله، وفي مسجد طهران الأكبر صعد الخطيب المنبر مرة فكان مما قاله:
أيها الإيرانيون ما نعمتم بزيارة زائر لبلادكم بعد زيارة الإمام علي الرضا كما نعمتم بزيارة هذا الزائر العظيم، إننا لنكاد نحس أن الإمام عليا الرضا يزورنا ثانية وإنه الساعة ماثل بيننا بشخص آية الله السيد محسن.
على هذا النحو كانت إيران تحوطه بالتبجيل وتستقبله بالإعظام.
من مراثيه
للأستاذ سعيد فياض في رثائه:
يا محسنا ضج الفخار لموته | والمجد صوح واليراع بكاه |
كنت التقي بعالم عاف التقى | وتلمظت بشروره شفتاه |
فنثرت في دنيا الشرور مشاعلا | ضاء الهدى فيها وذر سناه |
خسرت بك الدنيا منار فضيلة | ملأ الربوع رواؤه وضياه |
للسيد عادل الحاج يوسف في رثائه:
مداركك العميمة بحر علم | لآلئه مشعشعة السناء |
خدمت شريعة الهادي مكبا | على استكشاف ما خلف الغطاء |
ففدت زمامها وحللت منها | جميع المعضلات بلا عناء |
فكنت المرجع الأعلى إماما | تفرد بالفتاوى والقضاء |
لقد أحدثت بالفصحى فراغا | ورزء لا يعوض بالعزاء |
ولدت وعشت في الدنيا شريفا | رفيع الخلق خصم الكبرياء |
وكاسمك كنت في الفيحاء سمحا | كريما لا يبارى بالسخاء |
لديك الناس من قاص ودان | سواء في الشدائد والرخاء |
جزاك الله عن دنيا معد | وعن عمل الهدى خير الجزاء |
علماء دمشق يؤبنونه
قال السيد محمد سعيد حمزة نقيب أشراف دمشق في تأبينه:
كان في سيرته يذكرنا بسيرة السلف الصالح زهدا في الجاه وبعدا عن المنصب وترفعا عن الصغائر وانصرافا إلى ما فيه من الخير والإصلاح ودفعا للجماعة الإسلامية في طريق التقارب والالتقاء حتى لا تكون مشتتة الهوى ممزقة الكلمة تنسى كلمة الله الجامعة ووحدة الدين الخالد ولقد عرفنا له في هذه الناحية مواقف ممتازة كنا في أشد الحاجة إليها، ولم يكن يأخذ نفسه بها فحسب ولكنه كان يهدي إليها كل من حوله حاثا عليها محببا بها.
وأما في علمه فإن الإنسان ليقف مبهوتا أمام هذا الجهد الهائل الذي بذله فقيدنا العظيم وهذا الإنتاج الوفير الذي من الله سبحانه وتعالى عليه به، وهذه السلسلة الضخمة من الكتب التي كان يقضي بياض النهار وسواد الليل في تسويد صفحاتها وجمع شواردها وتأليفها والاجتهاد فيها لا يصرفه عن ذلك عائق من عوائق الدنيا ولا علائق من علائقها، ولا يغريه مجد حققه فيقعد عن مجد لم يحققه وإنما كان عمله غاية نظر إلى الغاية التي تعلوها.
وهكذا أعاد الفقيد الكبير إلى علمائنا الذين كانوا يترهبون في الحياة الإسلامية صورا من حياة سبيل في العلم والذين كانوا لا يرفعون أعينهم عن كتاب إلا لكتاب آخر ولا ينفضون يدهم من مؤلف إلا ليبدأوا مؤلفا آخر، أعاد إلى أذهاننا صورا من حياة السيوطي وابن قيم الجوزية والغزالي وهذه الطائفة التي كانت منار الهدى ومنبع العرفان.
وقال الشيخ هاشم الخطيب:
لقد نهض بأبناء طائفته الجعفرية في سوريا ولبنان وجبل عامل نهضة مباركة وخطى بهم خطوة طيبة حببت إليهم جميع إخوانهم من المسلمين والعرب كما حببتهم أيضا إلى الجميع فكانوا يدا واحدة إخوانا متحابين على سرر متقابلين تجمعهم وحدة الإسلام وتنظم أهدافهم وغاياتهم المصلحة العامة والقومية العربية التي ينصهر في وحدة كيانها كل خير.
لقد كان الأمين رحمه الله واقفا لدسائس المغرضين وحركات الأعداء والمستعمرين بالمرصاد فكان يحذر في مؤلفاته المتعددة ومقالاته السامية ونصائحه القومية وإرشاداته الحكيمة من تفريق الصفوف ويدعو إلى التعاون وتمتين أواصر المحبة والإخاء بين جميع المسلمين والعرب.
وإن مدرسته المحسنية بجميع فروعها التي أسسها على حب التسامح والإخاء قد أثمرت ولله الحمد ثمرتها المنتظرة ونرجو لها دوام التقدم والازدهار بهمة من يسيرون على نهج مؤسسها المخلص الوفي.
وقال الشيخ بهجة البيطار:
عرفت المجتهد الإمام السيد محسن الأمين صديقا لعلامتي الشام جدي الشيخ عبد الرزاق البيطار، وأستاذي الشيخ جمال الدين القاسمي، تغمد المولى الجميع برحمته ورضوانه، فقد كان يجتمع بهما ويتبادل الزيارة معهما، ودامت هذه الصلة بعد وفاة الشيخين إلى أن لقي السيد وجه ربه.
وقد تفضل بإهدائي الجزء الأول من أعيان الشيعة، وكتب عبارة الإهداء بخطه، ولما تصفحت هذا الكتاب، رأيت فيه جميع ما للشيعة الكرام من أخبار وآثار، ومعتقدات ومصنفات، وقد دفع عنهم المطاعن والمفتريات، ودعا إلى توحيد الكلمة بينهم وبين إخوانهم من أهل السنة، ومن أجل أعمال الفقيد الكبير أن أبطل ما كان يجري كل عام في ضاحية دمشق المسماة بقرية (الست) من لطم الخدود، وشق الجيوب، وإسالة الدماء، واستعاض عنه بقراءة سيرة أئمة آل البيت عليهم السلام في المدرسة المحسنية، وقد شهدت في إحدى السنين ذلك الحفل العظيم، في الليلة العاشرة من المحرم، وسمعت سيرة الأئمة ومآسيهم نظما ونثرا، بحضور الألوف المؤلفة من سنة وشيعة، ثم دعاني الفقيد الكبير إلى الخطابة، فلم تسعني إلا الإجابة.
وقال الشيخ سعيد العرفي مفتي دير الزور:
إني لا أريد أن أذكر ما تحمله الإمام الحجة من شدة ونكبات بصورة مفصلة فإنها أمور اعتيادية ولاسيما أني لا أقصد الإضرار بأحد وقد سامحهم في حياته وعنفوان قوته وعفا عنهم غير أني أورد بعض ما عرفته فيه بصورة مجملة على طريق الذكرى:
عرفت الفقيد في أراضي مكة المكرمة عام 1340 ه في أثناء إدائي حجة الإسلام فرأيت فيه ذلك الرجل الذي يمثل الخلق المحمدي بأتم معانيه فلا تراه إلا بما مدح الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم.
عرفت فيه العلم الغزير والحكمة البالغة فكان إذا تكلم تقول: بحر طام فما ذكرت مسألة إلا أورد لها أو عليها الدلائل الواضحة والبراهين المقنعة وما تباسطوا في بيت من الشعر إلا أوضح اسم قائله وربما أكمل القصيدة كأنما ينقلها لك من كتاب مفتوح أمامه حتى أن الإنسان ليقف مبهوتا من شدة حفظه ووقوفه على دقائق الأدب العربي ومعرفة تالده وطريفه فلا يكاد يغيب عنه منه شيء.
أما القواعد النحوية والمسائل الصرفية فلقد كان فيها إمام الأئمة فما تغيب عنه شاردة ولا واردة بحيث لو شاء أملى ذلك كله بما لا يحتاج بعد ذلك إلى مزيد.
ولقد كان في الأصول والمنطق الإمام الأوحد وحكيم الحكماء حتى ليخيل لك عند سماعك له لدى المناظرة أو مقارعة حجته الواضحة بالحجج المخالفة أن ذلك القول قد رضعه وشب عليه بما يقتنع به عند سماعه كل معاند ويثبت به فؤاد كل مؤمن صادق.
عرفت في الفقيد الكرم الهاشمي بحيث كان يرجح غيره على نفسه مع شدة الحاجة إليه حتى لكأنه ممن عناهم الله بقوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.
عرفت في الفقيد دماثة الأخلاق ورحابة الصدر فكان يتسع لكل سائل ويعطيه جوابه ولو كان السؤال لا يحتاج إلى جواب غير أنه يفهم السائل واجبه حتى يذهب عنه منشرحا صدره سرورا من ذلك اللطف الذي شمله به.
ولقد كان الفقيد هو المثل الأعلى في قول الحق والصدق والجرأة على مقاومة الباطل فمثل البطولة الهاشمية في العلم والشجاعة والكرم والصدق والحلم والجود وسعة الخلق والاتساع للناس حتى كان يحتمل منهم ما تعجز عن حمله الرواسي الشاهقات، وكان يكره خصال الكذب والإفك والافتراء وقول الزور وعمله مهما يكن شأن القائم.
شعره
له ديوان شعر كبير نقتطف منه ما يدل عليه: فمن ذلك قوله يصف حياته ويرثي نفسه وقد نظمها سنة 1344 ه.
لئن كان قد ولى الشباب وعصره | وناف على الستين لي سنتان |
فما شاب لي عزم ولا فل ساعد | ولا حل لي ركب بدار هوان |
ولا أنا ممن يستهيج فوائده | رسوم ديار أقفرت ومغاني |
فيوقف في الربع الركاب مسائلا | ويغري دموع العين بالهملان |
ولا أنا ممن يتبع الركب طرفه | إذا هو لج الركب بالوخدان |
ولا أنا ممن يملك الحب قلبه | لغانية تختال بين غواني |
كفاني تسأل الرسوم التي انمحت | سؤالي لأسفار العلوم كفاني |
وحسبي بحب الغانيات صبابتي | ببكر علا غراء غير عوان |
وإني لنزاع إلى درك غاية | هي الغاية القصوى ونيل أماني |
ولست إلى خفض من العيش نازعا | فما مستريح غير من هو عان |
وذي شنآن أنضج الضغن قلبه | وشب به نارا من الشنآن |
يراني فيغضني الطرف عني جانبا | كأني قذى عينيه حين يراني |
ويبسم لي عند اللقا متكلفا | ويدنو وليس القلب منه بدان |
ويظهر لي مهما حضرت مودة | فإن غبت عنه بالسهام رماني |
رويدك لست اليوم أو أمس أو غدا | بهمي ولكن غير شانك شاني |
وما أنا معني بمثلك أو إلى | نظيرك يوما قد ثنيت عناني |
وشرقت إذ غربت شتان بيننا | فنحن لعمر الله مختلفان |
وجدتك في نفسي ضئيلا فلم أكن | أبالي بما تبدي من النزوان |
ألا يا أخا الشحناء كن كيفما تشا | فلست بقال من يكون قلاني |
ولي من يراعي أن خلوت ودفتري | نديمان عن كل الورى شغلاني |
نديمان ما ملا حديثي وصحبتي | وإن هي طالت لا ولا جفياني |
وعندي نديم ثالث هو مفزعي | إذا ناب خطب من خطوب زماني |
وما مل يوما صحبتي لا ولا جفا | إذا ما صديقي ملني وجفاني |
مفرج همي أن حزنت وكاشف | لكربي إذا بعض الكروب عراني |
نديم له علم بكل غريبة | خبير بما يجري بكل زمان |
نديم مطيع لي متى أدعه يجب | إجابة لأوان ولا متواني |
ألا يا نداماي الذين عهدتم | ندامى صفاء عشتم بأمان |
إذا هو حال الموت بيني وبينكم | ووافى نعيي نحوكم فنعاني |
هناك اذكروا بالله ما كان بيننا | وقولوا إلا لله در فلان |
فمن لكم مثلي أليف موافق | خليل صفا باق على الحدثان |
ومن لكم مثلي إذا ما تزاحمت | أمور على الألباب ذات معاني |
ومن لكم مثلي لدى حل مشكل | يضيق به في الناس كل جنان |
ولا تصحبوا بعدي أليف تكاسل | ولا تصحبوا بعدي حليف تواني |
ويا أيها الجوال في الطرس لا تحل | عن العهد أن جاورت غير بناني |
ولا تنس ذكري إن أصابتك كبوة | بكف سوى كفي لدى الجولان |
وقل رحم الرحمن من كان كلما | عرت مشكلات في الملوم دعاني |
براني باري الخلق طوع يمينه | فمهما انبرى للمعضلات براني |
وقل رحم الرحمن من كان إن بدا | ضلال إلى نهج الصواب هداني |
ولا تنس ذكري إن جريت بحلبة السـ | ـباق مع الأقلام يوم رهان |
فبي أيها الجوال قد كنت سابقا | إذا ما جرى في حلبة فرسان |
واني أخوك الصادق الود فادكر | إذا ما افترقنا أننا أخوان |
وأنت الذي ما خنتني عند مأزق | بيوم ضراب أو بيوم طعان |
فكنت لدى ضرب الصوارم صارمي | وكنت لدى طعن الرماح سناني |
وكنت لدى نطق اللسان شقيقه | وكنت لدى صمت اللسان لساني |
إذا ما شربت الصاب بعدي فقل إلا | سلام لمن بالشهد كان سقاني |
ويا أيها المشحون علما وحكمة | وبحثا وإيضاحا وحسن بيان |
إذا لم تجد بعدي خليلا موافقا | فقم وابكني فيمن يكون بكاني |
أتذكر لي يوما من الدهر غيرتي | عليك وإشفاقي وطول حناني |
فقد كنت لي طول الحياة مصاحبا | أراك خليلا مخلصا وتراني |
وقال:
قالوا بأن الحر ليس مقيدا | أولى به التحطيم للأقياد |
كذبوا فقد أمسوا عبيد هواهم | وغدوا من الشهوات في استعباد |
إن الجواد إذا خلا عن رائض | عند السباق يكون غير جواد |
عجبا لقوم نابذوا الإسلام عن | جهل وفرط تعصب وعناد |
أسدى لكم من فضله مدنية | أمست لكم كالعقد في الأجياد |
وأخوة ما بينكم تمحى بها | منكم سخائم هذه الأحقاد |
قادتكم العربية الفصحى إلى الـ | ـحسنى لدى الأصدار والإيراد |
منها الغنى أمسى لفقر لغاتكم | وكأهلها كانت من الأجواد |
بكمالها أتممتم نقص اللغى | وبها لكم كنز بغير نفاد |
وبما لها من رقة ورشاقة | أبدلتم المستعصي المتمادي |
وسددتم عوز اللغات ببحرها | الطامي فكان بذاك خير سداد |
إن الحيا تنازع وخصام | هيهات ما بسوى السيوف سلام |
والعدل كالعنقاء فينا والذي | لم ينف عنه الضيم فهو يضام |
قالوا السلام نريده بفعالنا | والأمن تدركه بنا الأقوام |
إن كان هذا أمنكم وسلامكم | فعلى السلام تحية وسلام |
قالوا الشعوب نفكها من رقها | كلا بل استعبادها قد راموا |
هبوا بني قحطان طال رقادكم | فألام أنتم غافلون نيام |
باسم الحماية والوصاية يجتوى | حق لكم وتدوسكم أقدام |
وقال:
مكتبة في غرفة مربعه | ضيقة ولم تكن متسعه |
أقضي الشهور والفصول الأربعه | فيها وحولي كتبي مجتمعه |
أواصل الليل والنهار معه | سيان عندي سبتها والجمعه |
مهما أتاني عامل في المطبعه | بغير تصحيح الخطا لن أرجعه |
جزت الثمانين ونفسي مشبعه | بالجد ليست أبدا مزعزعه |
فعل الكسالى لن أتبعه | فيا لها لذة عيش ممتعه |
في بلغة العيش لنفسي مقنعه | دنياك للأخرى يقينا مزرعه |
ومدة العمر بها منقطعه | جل الصداقات بها مصطنعه |
تنبو لدى الضيق وتنمو بالسعه | علمت هذا فتركت الجعجعه |
ولم أبال بعدها بالقعقعه | تواضع المرء علو لأضعه |
وقال متهكما:
هنيئا لكم أهل (الجنوب) سعدتم | بلبنانكم فلتملأوا الجو تغريدا |
ويوم تبعتم حكم لبنان فاحفلوا | به كل عام واجعلوا يومه عيدا |
وعدتم بجر الماء نحو بلادكم | ألا فأشربوا أهل الجنوب مواعيدا |
مواعيد عرقوب التي عصرها مضى | يجددها لبناننا اليوم تجديدا |
لئن كان عرقوب مضى فلديكم | عراقيب تعيي القول وصفا وتعديدا |
وقالوا لنا لبنان من بعض أعصر | غدا مستقلا ليس يقبل تقييدا |
فقلنا استقل العدل عن جنباته | جميعا وأمسى ساكنوه عباديدا |
رجالاتنا عند الفعال ثعالب | وتلقاهم عند المقال صناديدا |
وقال وأرسلها إلى دمشق من جبل عامل:
هاجت جواك معاهد ورسوم | ما عهدها عند المحب ذميم |
كانت بها الآرام وهي سوارح | وشرابها السلسال والتسنيم |
يسبي العقول لهن طرف أحور | ساج وصوت بالبغام رخيم |
ربع لمية بين أكثبة النقا | بالجزع حيث الشيح والقيصوم |
ملكت هواك بذي الآراك غزالة | جيداء نجلاء العيون بغوم |
تصيبك منها قامة تحكي القنا | هيفا ووجه كالهلال وسيم |
وإذا بدت فهي الغزالة في الضحى | وإذا رنت بالطرف فهي الريم |
لم يفترق قمر السما عن وجهها | بين الأضالع ثابت ومقيم |
وغدوت بعدهم حليف صبابة | قلق الوساد ونومك التهويم |
حيا دمشق وجادها صوب الحيا | وغدت عليها نضرة ونعيم |
يغري النسيم الغض طرفك بالبكا | إن هب من نحو الحبيب نسيم |
لي في دمشق أحبة ودي لهم | عمر الليالي خالص وصميم |
هم عصبة غر الوجوه أكارم | ما منهم إلا أغر كريم |
بيض المساعي والوجوه أماجد | طابت نفوسهم وطاب الخيم |
لله ليل الأربعاء فكم به | لذوي الصفاء مسامر ونديم |
والأرض تحسدها السماء فكم بدا | من فوقها بدل النجوم نجوم |
فأجابه الشيخ أحمد صندوق عنها بقوله:
وجدي بهاتيك الديار قديم | ولها هوى بين الضلوع مقيم |
دار الأحبة لا عدتك غمائم | وكست ربوعك نضرة ونعيم |
أسرت فؤادي في ربوعك غادة | حوراء فاتنة اللحاظ هضيم |
تعطو بجيد الريم فهي الريم | وتميس غصنا قد ثناه نسيم |
كيف السلو وما البعاد بمخلق | ودي ولا عهد الوصال قديم |
أمست تباعدني الرباب وطالما | كانت تحن لرؤيتي وتهيم |
صدت ولما تشف داء صبابتي | أرأيت كيف يصد عنك الريم |
فلأسقينك مدمعا حلب الأسى | عبراته إن لم تجدك غيوم |
(شقراء) باكرك النسيم إذا سرى | وسقى ربوعك للغمام عميم |
حصباؤك الدر اليتيم لناظر | وثراك للمستنشقين شميم |
فيك الهداية والتقى فيك المكا | رم والندى فيك الصلاح مقيم |
تيهي على الدنيا بأروع ماجد | هو للفضائل والكمال زعيم |
عقدت عليه بنو الزمان أمورها | طفلا ولم تعقد عليه تميم |
فصل الخطاب ترى بحكم يراعه | إن قام معترك ولج خصوم |
نجم الهدى طود الحجى إن أظلمت | نوب وطاشت للأنام حلوم |
حاط الشريعة منه علم زانه | رأي يصرفه أغر حكيم |
يا ابن البهاليل الغطارفة الألى | طابت مآثرهم وطاب الخيم |
والواهبين اليسر أما أجدبت | سنة وضن بما لديه كريم |
طال الفراق فكم قلوب قرحت | سهدا وقلب طاح وهو كليم |
سقيت ليالي (الأربعاء) وليتها | كانت تعود بأنسها وتدوم |
كانت بجيد الدهر طوق لآلئ | بعظيم فضلك عقدها منظوم |
ما لذ للأحباب بعدك مشرب | ولو أنه السلسال والتسنيم |
إن فرقت عنك الجسوم فلم تزل | منا النفوس على حماك تحوم |
لا زال في أفق الفضائل منكم | أقمار هدي للورى ونجوم |
وقال حين سكن بيروت قريبا من (الحرش) بعد أن أشار عليه الأطباء قبل وفاته بسنتين بترك دمشق لعدم تحمل جسمه لبردها:
تبدلت في بيروت لا عن تخير | عن (الربوة) الغناء غاب الصنوبر |
يطالعني منه مساء وغدوة | إذا ما بعثت الطرف أجمل منظر |
به الشجرات الباسقات تكللت | بتاج له لون الزبرجد أخضر |
إذا مسها مر النسيم تمايلت | بقد يحاكي مشية المتبختر |
نسائمه مهما تهب تحملت | إلينا أريج المسك أو نفح عنبر |
وعن بردى نهرا إلى الكلب ينتمي | حقيقا بأن يسمى بنهر الغضنفر |
وعن وقع برد في دمشق مساور | يخالطه مهما بدا ريح صرصر |
بجو حكى فصل الربيع شتاؤه | وأرجاؤه بالثلج لم تتأزر |
أمامي طريق مستمر عبوره | نهارا وليلا في ورود ومصدر |
فمن ذاهبات جائيات بسيرها | تفوت هبوب الريح أو لمح مبصر |
زوافر يعلو في الفضاء زفيرها | تكاد تحاكي قلبي المتزفر |
ومن طانرات في الفضاء تصاعدت | إلى أن علت هام السحاب المسخر |
ولم أتبدل عن صحاب أكارم | بجلق من شهم ومن سيد سري |
وما كان في بيروت لي من لبانة | ولن سكن فيها ولا ربح متجر |
نديماي فيها إن أردت منادما | كتابي على مر الليالي ومحبري |
على أن فيها عصبة قد تعاقدوا | على الخير والحسنى بسر ومجهر |
سقى ربنا الرحمن أكناف (عامل) | بغاد من الغر السحائب ممطر |
وما أنس مهما أنس طيب هوائها | وعيشا بها قد مر غير مكدر |
(ديار بها نيطت علي تمائمي) | وأرض بها قد كان منبت عنصري |
لمربعها الفياح طال تذكري | وعن روضها النفاح قل تصبري |
نبت بي وكم من منزل بك قد نبا | وأي صفا في الدهر لم يتكدر |
وكم طوحت بي مرة غربة النوى | وفارقت أهلي الأقربين ومعشري |
وقد ذقت من حلو الزمان ومره | وعيش أخي عسر وعيشة موسر |
فما كنت عند العسر يوما بضارع | وما كان يسري في الزمان بمبطري |
ولا قادت الأطماع نفسي لذلة | سان عضني دهري بناب ومنسر |
ثم انتقل إلى محلة الطيونة في الشياح من ضواحي بيروت وكان أطباؤه قد نهوه عن القراءة والكتابة فقال:
أشاحت إلى الشياح بي غربة النوى | فها أنا فيها يا أميم غريب |
وأصبح في الطيونة اليوم منزلي | يعاودني هم بها وخطوب |
وقد زعموا الطيون للجرح شافيا | فهل لجراح القلب منه طبيب |
تعاورني فيها اغتراب وعلة | بها ذاب جسمي واعتراه شحوب |
على أن جسمي أن تعاوره الضنا | فها هو عزمي يا أميم صليب |
نهاني عن لحظ الكتاب ونظرة | بما يحتويه عائد وطبيب |
ولكن لي في الكتب أعظم سلوة | فلست إلى ترك الكتاب أجيب |
ومالي في غير اليراع وجريه | على الطرس يوما مأرب ونصيب |
وقال وقد بلغ الثمانين:
تلك الثمانون لو مرت على حجر | لصدع الحجر القاسي أو انشعبا |
ليس الشباب الذي ولى بمرتجع | فلن يعود شباب بعدما ذهبا |
لكنما همتي بعد المشيب كما | كانت وأبعد في شأو العلى طلبا |
وهكذا الذهب الإبريز يصقله | مر السنين ويبقى دائما ذهبا |
ما مالت النفس يوما للبطالة أو | قلبي إلى غير نيل المكرمات صبا |
ما زلت يحلو لدي المر في طلب الـ | ـعلى به وأعد الراحة التعبا |
أواصل الليل دوما بالنهار على | كسب الفوائد استقرى لها الكتبا |
بين الدفاتر فيها والمحابر والأقـ | ـلام استنفد الأعوام والحقبا |
وثقت بالله في سر وفي علن | ففزت بالنجح واستسهلت ما صعبا |
هذا وقد بقيت في النفس ما قضيت | لبانة لم نكن مالا ولا نشبا |
لكنها بعض ما حاولت من خطط | أقضي بها من حقوق العلم ما وجبا |
وإنني واثق بالله يمنحني | قضاءها بدعاء يخرق الحجبا |
إذا ظفرت بها- والله يظفرني- | فلا أبالي بموت بعدها كتبا |
وقال في مرضه الذي توفي فيه حين عاده بعض أصحابه فانهملت عيناه ثم طلب دواة وقلما وكتب هذه الأبيات بيد مرتعشة:
بكيت وما بكيت لفقد دنيا | أفارقها ولا خل أليف |
ولكني بكيت على كتاب | تصنفه يداي إلى صنوف |
سيمضي بعد فقداني ضياعا | كما يمضي شتاء بالخريف |
أسفت له وكان لذاك حزني | ولست لغير ذلك بالأسيف |
أخاف بأن تفاجئني المنايا | ولم يكمل بتهذيب منيف |
ولي أمل بفضل الله رب الـ | ـخلائق واسع الكرم اللطيف |
بأن يعطي الرغائب فهو لما | يزل ملجاي في الأمر المخوف |
وقال وهو في جبل عامل يحن إلى دمشق ومتنزهاتها:
أحبابنا بدمشق لا أغبكم | فيض السحائب هطالا وهتانا |
إن ينأ ربعكم عن ربعنا فلكم | في القلب ربع غدوتم فيه سكانا |
ذاكركم في محاني القلب ثابتة | فهل نسيتم لبعد العهد ذكرانا |
سقى ليالينا (بالنيربين) حيا | (ودمر) وسقى الصفصاف والبانا |
حيث النسيم سرى غضا فرنح من | رياضها كقدود الغيد أغصانا |
وبينها (بردى) تجري المياه به | عن الشمائل والإيمان غدرانا |
أتذكرون إلى (الخضراء) رحلتنا | يوما (وللفيجة) الغناء ممشانا |
(والصالحية) جاد الغيث أربعها | سحا وحيا بتلك الأرض مثوانا |
لله في (قبة السيار) مرتبع | مراحنا لم يزل فيه ومغدانا |
أنا لنشتاق لقياكم أأنكم | بعد التفرق تشتاقون لقيانا |
لكنما العجز والأقدار تقعدنا | عنكم وعقد من السبعين وافانا |
لا تحسبونا من القوم الألى اتخذوا | بالدار دارا وبالجيران جيرانا |
وقال في وصف وادي الحجير وذكر جبل عامل وعلمائه:
وادي الحجير سقاك وكاف الحيا | كم فيك للأبصار من مستمتع |
مذ أظهرت فيك الطبيعة رونقا | يبدو فيفضح شيمة المتطبع |
جمعت من الأشجار فيك بواسق | أمثالها بسواك لم تتجمع |
والطير تشدو في ذرى أغصانه | باللحن بين مردد ومرجع |
الروض زاه أيها الأطيار والأ | غصان مائسة فغنى واسجعي |
الماء صاف فاشربي والريح طلق | فانشقي والنبت غض فارتعي |
إن رنق الوراد ماء فاشربي | ما شئت صافيه زلالا واكرعي |
من مر في واديك أصبح منشدا | بيتا تقدم للأديب المبدع |
(أنا تقاسمنا الغضا فغصونه | في راحتيك وناره في أضلعي) |
واد حكت أزهاره ورياضه | وجها من الحسناء غير مقنع |
من نرجس غض كأن عيونه | يرقبن هجمة ناظر متطلع |
والأقحوان إذا تبسم ضاحكا | لا يستبين من الثغور اللمع |
وإذا النسيم سرى على نفل به | فبغير نشر المسك لم يتضوع |
كم قد مررت بذلك الوادي فلم | أملك صباباتي وأصحابي معي |
ما غوطة ما شعب بوان وما | صغد ونهر بالأبلة قد دعي |
إن لم تكن أبهى وألطف منظرا | منها فإنك لست دون الأربع |
ولكم أقام جحاجح من عامل | بك يسمرون على رحيب المهيع |
من كل بحر في العلوم غطمطم | أو كل قرم في الحروب سميدع |
سباق غايات بمضمار العلى | طلاع كل ثنية لم تطلع |
لم يخضعوا إلا لخالقهم ولم | يك ذو علا لعلاهم لم يخضع |
العامليون الألى سبقوا الورى | في فضلهم وبسبقهم لم يطمع |
الواردون من العلوم نميرها | إن ذيد رائد حوضها عن مشرع |
جلسوا بدست العلم ينتابونه | يوم الإفادة جلسة المتربع |
شرعوا لدين الله نهجا واضحا | بادي المحجة قبلهم لم يشرع |
في كل عصر لم تزل ذكراهم | تحيا ويعبق نشرها في الأربع |
سل (مشغرى) عنهم وسل (جبعا) وسل | (ميسا) و(عيناثا) تجبك بماتعي |
سل عنهم ظلم الدياجي كم بها | من قانت متوسل متضرع |
لبس الخشوع وقد تأزر بالتقى | يمسي ويصبح خاشعا في خشع |
أو قائم في ليله متهجد | أو صائم بنهاره متطوع |
يزهو به محرابه من ساجد | في ساجدين وراكع في ركع |
أو شاعر أمست بنظوماته | تحدا الركاب بكل قفر بلقع |
تغدو بأرض الشام ثم تبيت في | نجد ويصبح ذكرها في لعلع |
أو كاتب ترفض من أقلامه | درر بكل منمق ومسجع |
صبروا على جور الزمان وظلمه | صبر الكرام على العظيم المفظع |
وحموا حقيقتهم على جهد البلا | والصبر للأحرار خير المفزع |
ومشوا بنهج الحق لم يتأخروا | عن نهجه الملحوب قيد الأصبع |
هجروا لإدراك العلى أوطانهم | فرقوا بذاك إلى المحل الأرفع |
في الهند أو أرض العراق وفارس | في أي قطر نجمهم لم يطلع |
طبعت على كسب العلاء طباعهم | وعلى سوى كسب العلا لم تطبع |
نالوا العلوم بجدهم وبكدهم | بين البلاء وبين فقر مدقع |
ورقوا بهمتهم على درج العلا | تحت الصوارم والرماح الشرع |
وقال وقد بلغ الثالثة بعد السبعين:
لئن أوهنت جسمي الليالي وأبدلت | سواد شباب لي بأبيض ناصع |
فما أوهنت عزمي وما زال ماضيا | كحد حسام مرهف الحد قاطع |
وإن شاب فودي لم تشب لي همة | تمد إلى هام السهى بالأصابع |
وكم قائل حتى متى أنت مجهد | لنفسك لا تأوي للين المضاجع |
تبيت مدى الأيام ليلك ساهرا | ويومك يمضي بالعنا المتتابع |
فقلت وهل من راحة في سوى العنا | وهل دعة إلا بخوض المعامع |
وما وادع يومه غير متعب | سوى متعب في أمسه غير وادع |
قنعت من الدنيا ببلغة عيشة | وليس الغنى في الدهر إلا لقانع |
وما الحر إلا من أبى أن تقوده | مطامعه فيها لرق المطامع |
وقال من السوانح العاملية:
شجاك بذات الرمل رسم مغاني | عليهن أخنى طارق الحدثان |
فأصبحت العينان من فرط ما عرا | دموعا كمنهل الحيا تكفان |
ديار لسلمى والرباب وزينب | غدت دراسات الرسم منذ زمان |
وأفنت صروف الدهر بهجة أنسها | إلا كل شيء غير ربك فان |
بها كان تهيامي وفي حبها جفت | جفوني الكرى مما غدوت أعان |
فهل راجع فيها زماني الذي مضى | وهيهات فيها أن يعود زمان |
غداة بها سلمى تميس يزينها | من الوشي برد يمنة عطران |
وترخي كصبغ الليل أسود فاحما | وتجلو كلون الورد أحمر قان |
لها طرف ظبي طيه حد صارم | وطلعة بدر فوق قامة بان |
وريق كماء المزن أشنب بارد | وثغر يريك البرق في اللمعان |
يخال عقيقا ما تضم لثاتها | ومن برد ما ضمت الشفتان |
وإن خفق القرطان لم يك سالما | فؤاد أخي حب من الخفقان |
فيا دمنتي سلمى أجيبا مسائلا | رسومكما إن كنتما تعيان |
ويا جبلي نعمان هل في ذراكما | تعود ليالينا أيا جبلان |
نأى وسلاني من أحب وكيف لا | أنائي وأسلو من يكون سلاني |
خليلي أيام الحياة قصيرة | تعاقب في إفنائها الملوان |
خليلي أن الدهر شتى صروفه | فهل أنتما من صرفه حذران |
إذا أنتما لم تسعداني على الذي | أروم وأبغي فأمضيا وذراني |
ولا تعذلاني واتركا العذل أنني | رأيت لنفسي غير ما ترياني |
وقال وهو في جبل عامل:
حيا الحيا الهامي معاهد جلق | وسقى ربوع النيربين بمغدق |
وهمت بأرض الغوطتين سحائب | تروي الرياض بمائها المتدفق |
هل قاسيون كعهدنا أم هل جرى | بردى بماء بالرحيق مصفق |
والربوة الغناء طاب لناشق | منها النسيم وماؤها للمستقي |
كم من عشيات قضيناها بها | قد كن صفوة كل عيش مونق |
فالماء والخضراء فيها زينا | للناظرين بكل وجه مشرق |
يا نازلين بجلق أعلمتم | ما ذاق بعدكم المحب وما لقي |
فإلى مرابعكم تشوف ناظري | وإليكم ولهي وفرط تشوقي |
وقال وهو في جبل عامل:
لله أيامي بجلق والصبا | غض وعودي للنوى ما لانا |
كم في رياض النيربين ودمر | مرأى يروق فيطرد الأحزانا |
حيث الخمائل ناضرات بينها | بردى تسيل مياهه غدرانا |
فيها اللجين جرى ومن حصبائها | أمست تربك الدر والمرجانا |
أفنانها تفني الهموم إذا شدا | فيها الهزار فبوركت أفنانا |
أرض يريك الخلد شاذروانها | أرأيت مثل الخلد شاذروانا |
وتشك فيها أنت في متنزه | أم أنت كسرى تسكن الأيوانا |
هل درب كيوان الأنيق كعهدنا | يسمو بما فيه على كيوانا |
والهامة الغناء كم فيها ربى | لبست على هاماتها التيجانا |
ويهيج أشجاني تذكر عهدها | إن التذكر يبعث الأشجانا |
كم قد قضيت بربعها من ليلة | كانت لعين زماننا إنسانا |
في معشر لبسوا دوين برودهم | برد الكمال وأرسلوا الأردانا |
وقال:
هجرت جبال عاملة وآلت | بي الأخرى إلى سكنى دمشق |
وما أوطنتها لرغيد عيش | بها قد نلته ووسيع رزق |
ولكن طاب لي فيها انزوائي | عن الدنيا ومن فيها وعتقي |
وقال مشطرا بيتي المعرى:
(دع الأيام تفعل ما تريد) | فليس على عجائبها مزيد |
كفاني ما علمت فلا تزدني | (فما أنا في العجائب مستزيد) |
(أليس قريشكم قتلت حسينا) | وكلكم بحضرته شهود |
وقد كان الوليد لكم إماما | (وكان على خلافتكم يزيد) |
وقال:
عليل في دمشق تعاورته | ضروب الهم من قاص ودان |
عن الأوطان ناء أفردته | عن الإخوان أحداث الزمان |
وقال:
هجرت مياه البركتين ولم أكن | لمائهما في الدهر إلا مجافيا |
وما شجرات الرند يوما تشوقني | وأبصر مغناها من العز خاليا |
ولا حومة الزيتون أصبو لذكرها | إذا زيتها لم يجل عني الدياجيا |
سأهجر دحنونا بها وزكوكعا | وإن كان غضا يانع النبت زاهيا |
فما ينفع الروض النضير ولا ترى | له من ذويه راعيا ومراعيا |
وكان رحمه الله ذا نفس مرحة يتذوق النكتة ويجيدها، ومن أماليحه هذه الأبيات التي قدم لها بقوله: كان بعض الأصدقاء بدمشق دعانا إلى وليمة على جدي كان يظنه سمينا فجاء هزيلا فقلت:
لله جدي به جاد الزمان لنا | على يدي معدن الأفضال والجود |
تكاد أن لا تراه العين من صغر | كأنه حين يبدو غير موجود |
إذا بدا يقظة للطرف تحسبه | طيف الخيال وخلفا في المواعيد |
لا لحم فيه ولا شحم وليس به | غير العظام الدقيقات الأماليد |
من فوقها الجلد قد رقت جوانبه | كأنه قلب مضنى القلب معمود |
وقال في طبيب اسمه عزرا:
وطبيب في الناس سمي عزرا | وهو عند التحقيق عزرائيل |
حاز جزء اسمه ولكن له الفعـ | ـل جميعا وفي القبور دليل |
وقال:
وعالم حيطته للدنا | وليس للأخرى بمحتاط |
يخلط في أقواله دائما | فلا تراه غير خلاط |
وقال:
زمان فيه عنفصت الجحوش | وأمسى كل ذي جهل يطيش |
تشبهت البراذن بالمذاكي | وطاب لها لدى المرعى الحشيش |
وغابت عن عرائنها أسود | فصالت في جوانبها الوحوش |
وظن الثور روقيه رماحا | فها هو فيهما أبدا يطوش |
وخالت نفسها الورقاء صقرا | كلانا طائرا وعليه ريش |
فقبح من زمان حيث صرنا | وهذي حالنا فيه نعيش |
وقال في نفس الغرض:
زمان فيه عنفصت الجحاش | وغر الجهل أقواما فطاشوا |
وسابقت البراذين المذاكي | وسامى الصقر في الجو الفراش |
وغابت عن عرائنها أسود | فأمسى للكلاب بها هراش |
إذا ما ماتت الأحرار غيظا | فلا عجب ويعجب كيف عاشوا |
زمان فيه للأندال بسط | كما شاؤوا وللحر انكماش |
وقال:
رضيت من الدنيا جميعا بوحدتي | وكم وحدة جرت على المرء أنعما |
نديمي كتاب صامت متكلم | وما أن رأينا صامتا متكلما |
يحدثني عن كل ما أنا سائل | ولم يعطه الباري لسانا ولا فما |
ولي قلم في جريه قلما حدا | مرادي وأمري حين أجربه قلما |
يفل الحسام الهندواني حده | وإن كان مصقول الغرارين مخذما |
وقال:
إلهي أنت ذو من وطول | ففرج يا آله العرش كربي |
دعوتك حين لا أحد يرجى | وحسبي أنت دون الناس حسبي |
فإن أك يا إلهي مستحقا | لحرمان الرضا بعظيم ذنبي |
فأني العبد لا أرجو نوالا | إلى أحد سواك وأنت ربي |
تكأدني من الدنيا مصاب | وهى جلدي له وألان صعبي |
هموم ليس تحملها الرواسي | فكيف يطيق محملهن قلبي |
هموم أبكت العينين دمعا | يحاكي الغيث في وكف وسكب |
فغيرك من أرجيه لعفو | ومن منه أرجي رأفة بي |
إلهي إنني بك مستجير | فآمن يا آله الخلق سربي |
ولولا أن لي أملا كبيرا | بفضل منك لي لقضيت نحبي |
وقال وقدم لها بما يلي:
"هذه أبيات سمح بها الخاطر حينما وصلنا ما بعث به الأستاذ العلامة الشيخ سليمان ظاهر بعض ما جمعه من الشعر العاملي المنسي".
أتانا من المولى سليمان نخبة | من الشعر من نظم السراة الأوائل |
من السابقين الخلق في كل حلبة | بهم تزدهي فخرا صدور المحافل |
ولا غرو إن سادوا فقد أنبتتهم | على قنن الأجبال أجبال عامل |
هم العلماء العاملون مخلد | ثناهم وكم عالم غير عامل |
فشكر له منا ومنهم ومنة | علينا توالت في الضحى والأصائل |
فرائد من نظم ونثر كأنها | أزاهير لاحت في خلال الخمائل |
ومنسي شعر سالف جاءنا به | لآحاد فضل فضلهم غير آفل |
سقى عاملا صوب الغمام ولا عدا | مرابعه مر الصبا والشمائل |
ديار شفى قلبي عليل نسيمها | وطابت إليها غدوتي وأصائلي |
وما كان هجري عاملا عن قلى له | ولكن نبت بي في رباه منازلي |
وقد يهجر العذب الزلال ويتقى | ويجفى على عمد شهي المآكل |
وألقيت رحلي في دمشق وحبذا | بها عزلتي عن كل خل مواصل |
أنست بها عن كل حي بوحدتي | وقطعت من غير الإله وسائلي |
فأجابه عليها الشيخ سليمان ظاهر بقصيدة نأخذ منها ما يلي:
إمام الهدى قطب النهى والفضائل | كفاني فخرا أن عطفك شاملي |
ويا محسنا ما انفك إحسان فضله | (يسائل في الآفاق عن كل سائل) |
ويا واحد الأيام نبلا وسؤددا | وأفضل من ضمت صدور المحافل |
ويا ملبسي ما لا يرث جديده | وصنعاء عنه قصرت من غلائل |
أتتني فزادتني اغتباطا قصيدة | حوت ما حوى من رقة في الشمائل |
ترد إلى الزهو الوقور كأنها | إلى رد زهو العيش إحدى الوسائل |
وتتلى كاي الذكر حتى كأنما | فواصلها مني للذكر بعض الفواصل |
ويبدو الوفاء المحض بين صدورها | وإعجازها كالزهر بين الخمائل |
وإن خيار الشعر ما الصدق نهجه | وتعزى قوافيه لأصدق قائل |
ترحب (بالمنسي) من شعر عامل | ومن بحره الفياض فاضت جداولي |
ترينا العلاء العاملي كأنما | تمثل من بين الثرى والجنادل |
كفى عاملا فخرا بأنك لم تزل | بها - يا إمام العصر - أفضل عامل |
وإنك لم تبرح ولوعا بتالد | لها وطريف في العلا والفضائل |
رددت حياة العامليين فاغتدا | (بهم عامرا وصف الربى والمنازل) |
يمينا ولم أحنث بها أن محسنا | لأفضل مأمول إلى كل آمل |
وأكرم من ضم الندي ومن شدت | بغر مساعيه حداة القوافل |
ومن لم تكن إلا بثاقب علمه | تحاط الخفايا عن وجوه المشاكل |
يذود الكرى عن مقلتيه وإن بزر | كرى النوم جفنيه فزورة عاجل |
وإن زار جفنيه غرارا فلم يكن | بغاف ولا عن نشر علم بغافل |
كأيامه البيض الليالي دواجيا | ومن سهر أسحاره كالأصائل |
ومن بات يطوي في الفوائد ليله | كمثل الذي يطويه تحت القساطل |
ومن راح في حد اليراع مجاهدا | كمن صال في الهيجا بحد المناصل |
ومن بات ما بين المهارق والدوى | كمن بات ما بين الظبي والعواسل |
جهادان كل للحياة عزيزة | طريق، وكل للعلى جد واصل |
ومن صد عن هذين عاش بدهره | كما عاش في الأيام بعض الهوامل |
وما عن قلى راح يؤثر جلقا | على عامل، أو عن ملال لعامل |
ولكنه كالغيث إن جاد بقعة | فإن لأخرى منه شؤبوب وابل |
وما انفك يرعى فيهما العهد مثلما | رعى العهد في تحصيل فرض ونافل |
رأى أن أقطار العروبة وحدة | كما اتسقت نظما أنابيب عامل |
وكالكف قد شدت بخمس أنامل | وجلق فيها مثل وسطى الأنامل |
غدا عامرا (حي الخراب) بفضله | بها آمنا من نبل غدر ونابل |
وقال وقدم لها بما يلي:
"أرسل إلينا بعض الفضلاء يعاتبنا على عدم إهداء بعض مؤلفاتنا إليه فكتبنا له":
أتانا من أخي فضل عتاب | تضيق به الفدافد والرحاب |
خطاب جاءنا يبغي جوابا | وليس له سوى نعم جواب |
إذا خلصت مودة من توالي | فظنك قطعه العجب والعجاب |
وحسن الظن قبل الخبر عجز | وسوء الظن بعد الخبر عاب |
وقد يخفى الصواب على ذكي | ويحسب أنه الخطأ الصواب |
فمهلا أيها الأستاذ مهلا | لقيت الخير ما هذا الخطاب |
عداك السوء أنت اليوم | عندي اللباب المحض والمحض اللباب |
وقال وقدم لها بما يلي:
"وقلت في قرية كيفون عام 1368- 1369 وأنا مصطاف بها تسلية للنفس من عناء الكتابة والتأليف":
ليست بنا نعم الإله تكافى | "كيفون" قد صارت لنا مصطافا |
بلد بها اعتل النسيم فصح باسـ | ـتنشاقه ذو علة وتعافى |
والحر في تموز أقلع ركبه | عنها وولى راحلا وتجافى |
شجر الصنوبر ماثل في أرضها | فوق الشوامخ يملأ الأكنافا |
لا في مرابعها فتى متعجرف | ركب المنون وأوطن الأكتافا |
زعم البرية كلهم خولا له | جهلا فسخر جاهلين ضعافا |
وأبو سعيد جار بيتينا غدا | يفري الحلوق ويبقر الأجوافا |
يقري بها الأقوام طول نهاره | فكأنهم كانوا له أضيافا |
ثاو (بسوق الغرب) ليس ببارح | منه ليملأ للطهاة صحافا |
أكرم بربة بيته من جارة | لجميع ما ينتابنا تتلافى |
ما أن تزال ببكرة وعشية | تسقي الزروع وتغرس الأليافا |
ولها ابنتان سميرة وسهيلة | حكتا سهيلا بل عليه أنافا |
لأبي أمين خلة يعيا بها | وصف البليغ وتنفذ الأوصافا |
ما زال يطربنا بصوت نشيده | والتين يتحفنا به أتحافا |
كل الألى فيها كرام طبائع | فغدا إلى باقي الكرام مضافا |
(بيصور) جارتنا (وعيناب) هما | قد أشرفا فوق الربى أشرافا |
فيها بنو معروف كل هاجر | خلق البخيل وللندى قد صافى |
(ومعيسنون) لا أغب ربوعها | فيض السحائب هاطلا وكافا |
شتى وخرف (جوهر) في أرضها | وكذا ربع عندها واصطافا |
أما أبو فوزي فإنك دائما | تلقى الأنام ببابه عكافا |
من أهل بيروت وعاملة وكيفـ | ـفون وحيفا والجليل ويافا |
إن تحص عدتهم تجدها تبلغ العـ | ـشرات إن لم تبلغ الآلافا |
دكانه جمعت من الحاجات أنوا | عا ومن أنواعها أصنافا |
قد أنجبته بنو خليفة لا ترى | في وصفه بين الأنام خلافا |
فيها كما تهوى السليقة مسجد | أهل الصلاة إليه لا تتوافى |
يشكو كشكوى عالم أو مصحف | هجروا فلا يلفى لهم ألافا |
فيه يصلي خلفنا من ليس من | عدد الأصابع يبلغ الإنصافا |
والأمن فيها ضارب أطنابه | ما في مرابع أرضها من خافا |
بعدت عن المدن الكبار وأشبهت | في وصفها القصبات والأريافا |
لبست من النسمات بردا زاهيا | أمسى عليها ضافيا شفافا |
صفت المسرة للمقيم بأرضها | زمن المصيف وضوعفت أضعافا |
لا يستطيع المرء وصف جمالها | مهما أطال وإن يكن وصافا |
والغانيات بها سوافر منتهى | حد السفور وان ملئن عفافا |
وقال أيضا في كيفون:
حيتك سارية السحاب الجون | يا ربع لذاتي على كيفون |
فسقتك من دم الحيا وكافة | من كل حافلة الضروع هتون |
تلك الربوع الفيح لا سقط اللوى | عند الدخول ولا ربى يبرين |
طابت وطاب لي المقام بأرضها الفـ | ـيحاء بين التين والزيتون |
فيها الجبال الشامخات إلى العلى | حكت مناط نجومها بمتون |
من كل طود مشمخر شاهق | رحب الجوانب شامخ العرنين |
جاث على وجه البسيطة جاثم | متمكن كالليث وسط عرين |
وعلى الخضم جبالها قد أشرفت | ورست بجانبه رسو سفين |
وأخالني لما حللت بأرضها | وسط الجنان وبين حور عين |
شجر الصنوبر ماثل فيها على | متن الجبال بشكله الموضون |
ورياضها الغناء عاد نسيمها | يهدي إليك المسك من دارين |
فيها النسيم الطلق ما نفح الصبا | إذ هب من نجد له بقرين |
فيها القصور تبوأت شرفاتها | مجرى النجوم على منيع حصون |
والعين جارية بها ينبوعها | يجري بما كاللجين معين |
والكرم باسقة بها أغصانه | باد تدليلها على العرجون |
والحصن فوق الطود فيها قد غدا | أثرا وبدل عزه بالهون |
ومعيسنون ما تمر بخاطري | إلا وذكراها تهيج شجوني |
لكنني أصبحت فيها مفردا | من كل من أحكيه أو يحكينى |
مالي إذا ما الهم أطبق مؤنس | ألا يراع قد جرى بيميني |
ونديم صدق لا أمل حديثه | بروي الذي قد كان قبل قرون |
مهما دعوت أجابني ما حاد عن | أمري ولا هو مرة يعصيني |
عاهدته أن لست أجفوه وعا | هدني مدى الأيام لا يجفوني |
ذهبت لذاذات الشباب وقد وهت | مني القوى ودنت إلي منوني |
قصرت خطاي وكنت أمشي قبلها | رحب الخطا بالزهو والتمكين |
وإذا تذكرت الشباب وعهده | أمسى مصون الدمع غير مصون |
وقال وأرسلها إلى النبطية بعد مقامه فيها صيف إحدى السنين:
سقى النبطية الفيحاء فيض حيا | والغيث باكرها منها بدفاق |
جنات عدن ترى الأنهار جارية | من تحتها بنمير ثم رقراق |
حدائق تتحاماني الهموم إذا | سرحت في روضها المخضل أحداقي |
غنى الهزاز بها والعندليب معا | على موائس أغصان وأوراق |
وكم شربنا كؤوس الشاي أدهقها | لنا كريم السجايا أي أدهاق |
ما بين صحب كماء المزن قد طهرت | منهم كرائم أفعال وأخلاق |
مهذبون فما فيهم سوى رجل | يسير نحو المعالي سير أعناق |
قد قيد القول عن فحش وأطلق في | بذل الندى راحتيه أي إطلاق |
لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم | يسلو عن الأهل من أنس وأرفاق |
قوم لهم أدب فذ وفضلهم | غض جديد فلا يرمى بأخلاق |
وكم لهم من بنات النظم شاردة | تجوب قاصي أقطار وآفاق |
يهتز من طرب الأنشاد سامعها | كأنما تليت في لحن إسحاق |
وكم بها من تقي ناسك ورع | إلى التهجد بالأسحار تواق |
وكم قضينا على ينبوع ميذنة | يوما أحق سروري أي أحقاق |
حيث الغدير غدا يجري بمطرد | مثل اللجين على العصباء دفاق |
في عصبة قد لي قوا أوج السما شرفا | فلا ترى بينهم إلا الفتى الراقي |
(وللرويس) صعدنا نمتطي همما | شماء من غير ما خوف وإشفاق |
سيراكسير المذاكي الشوس حيث غدا | سير الضليع يلف الساق بالساق |
مني السلام عليهم دائم ولهم | في الدهر فرط صباباتي وأشواقي |
فأجابه الشيخ سليمان ظاهر بقصيد جاء فيها:
أنشر عارفة أم عرف طباق | أم النسيم سرى من غض أوراق |
أم عقد در بسمطيه جلته لنا | عمان منتظما في خير أعلاق |
أم المحلل من سحر لنا سمحت | به قريحة سمح الطبع غيداق |
أم الزبور علينا آيه تليت | في لحن داود لا في لحن إسحاق |
أم (محسن) من سنا أنوار غرته | حبا (النبطية) الفيحا بإشراق |
أحيا بزورته آمالها وبها | قد كان كالنور مجلوا بأحداق |
وحسبها من قوافيه محبرة | كأنها الدر منظوما بأطواق |
يمشي البيان بها طلق العنان على | سجية الطبع في نص وأعناق |
أطرى بها بلدا يطري فضائله | وراح يحكم فيها فتل ميثاق |
كانت على يده البيضاء شاهدة | كالمسك دل عليه نشره الباقي |
أبقى له ذكر فخر من معاجزه | كأنه الذكر لا يرقى له الراقي |
كأن ما في الشذا الداري من عبق | من محسن طيب أخلاق وأعراق |
أسدى (الرويس) جميلا من عوارفه | وحسبه شرفا وصف به باقي |
سعى إليه على رجل معودة | وطأ الحواسد في أتلاع أعناق |
سعى إليه ولو يستطيع كان سعى | إليه من قبل مسعاه بلا ساق |
ما كان أرجح حلما منه حيث رسا | وحيث سار إليه سير مشتاق |
كأنه طور سيناء إليه رقى | موسى وماخر من رعب وإشفاق |
وبارع من قوافيه (بميذنة) | يجري كماء بها كالراح رقراق |
أعاد فيه لنا ذكرى شمائله | كأنها من نسيم رق خفاق |
من خلقه وزلال بارد شبم | نحسو السلاف بأصباح وأغباق |
تدار فينا كؤوس الشاي مترعة | (كأن شمس الضحى يسعى بها الساقي) |
إن زوجت من نفوس العرب أن لها | في الصين منبت أعراق وأوراق |
ما الشاي والبن والصهباء أروح | للأرواح من زاخ بالفضل دفاق |
ما بين جانحتيه نفس مضطلع | بالأمر تزكو على بذل وإنفاق |
وفيه من جده مأثور سنته | ومن شريعته كشاف أغلاق |
بنو الأمين وكم فينا لمحسنهم | ياد معودة تطويق أعناق |
أسفاره كمسير الشمس سائرة | تلف بالنور آفاقا بآفاق |
ما أن ترى غير مغرى في حدائقها | يسيم في روضها ألحاظ تواق |
كم راح من حيرة فيها ومن عمه | أخو عمى راسفا في غل أقلاق |
وعاد مستبصرا منها بنور هدى | من رق وهم وتضليل لأعتاق |
يذود عن حرم الإسلام من نصبوا | له حبائل ضلال وفساق |
كأنما القلم الجاري براحته | صل ينضنض لكن بين أوراق |
إذا مشى مطرقا في رأسه فله | يمشي الزمان وأهلوه بأطراق |
العلم والعمل المعلي بصاحبه | هما به مثل مفهوم ومصداق |
قل للمحاول أن يجري بحلبته | لا تلق نفسك في غايات سباق |
لمحسن غاية هيهات تدركها | ولم تنل من مداه غير أخفاق |
فارجع ومالك من مجرى سوابقه | الأمثار غبار كحل أحداق |
سقيا لدهر حبانا فيه عارفة | كانت لنا كالغنى من بعد أملاق |
وفي بدائع آداب أعادلنا | ما كان للعرب من معمور أسواق |
وفيه روضاتنا الغناء قد حفلت | بطيب العرف من رند وطباق |
ليت الزمان به يسخو فينعمنا | منه بروضين من علم وأخلاق |
مقربا دارنا من داره وبه | يضم شمل أصيحاب وأرفاق |
فالعيش في محسن طلق ومورده | صاف ومن غبره مبق لا رماق |
لا زال والدين منشور اللواء به | كشاف معضلة غواص أعماق |
وقال في مطلع قصيدة – فقدت - يحن إلى ولده عبد المطلب الذي كان ممثلا لسورية في موسكو:
أقمت بأرض الروس والشام أصبحت | دياري وأين الشام من بلد الروس |
في لحظات الاحتضار
بقلم: الأستاذ حسين مروه
مهدت مجلة المحيط التي نشرت هذه الكلمة لها بما يلي:
في الليالي الأخيرة لمرض الفقيد العظيم السيد محسن الأمين أعلن الأطباء أن كل شيء فيه قد انتهى وأنه لم يبق حيا إلا قلبه وأن هذا القلب يصمد للموت صمودا عجيبا يدهش الأطباء، وبعد أربع وعشرين ساعة من الاحتضار العنيف وقبيل منتصف الليل همد القلب الجبار، وكان يسهر إلى جوار العظيم المحتضر نفر من أقرب المقربين إليه لم ينقطعوا عنه في لياليه الأخيرة وكان فيهم الأستاذ حسين مروه، وقبيل النهاية الأليمة وفيما هم واجمون كان أحد تلاميذ الفقيد يتناول دواة أستاذه ومجموعة أقلامه ويخرج بها لتدفن معه كما أوصى، هذه الدواة التي رافقت صاحبها أكثر من نصف قرن فكتب فيها تلك الروائع في الفقه والتاريخ والأدب والإصلاح والنقد، فأوحى هذا الموقف إلى أديبنا الكبير بهذه الكلمة وقد ألقاها في حفلة الأسبوع التي أقيمت في بيروت "قلم التحرير".
كان قلبه الكبير يجالد الموت ويجاهده بعناد رائع عجيب، كان قلبه الكبير يصارع الموت وحده في الميدان، وقد خذلته قوى الجسد جميعا، خذلته تلك القوى الجبارة الصبور الدؤوب، وما خذلته قبيل هذا قط، فلطالما أنجدته في الليالي والأيام تعمل لا وناء ولا سأم ولا فتور، ولطالما جاهدت معه المغريات والمشتهيات تدفعها عن صاحب القلب الكبير دفعا شديدا عنيفا، لأن صاحب القلب الكبير في شغل عن المغريات كلها سوى الحروف والكلمات والسطور.
كان قلبه الكبير يصارع الموت وحده، كان الموت قد انتصر على قوى الجسد كلها سوى هذا القلب البطل، كان قلبه الجبار ينتفض في الصدر الرحيب العميق ويثب، يكافح الموت من هنا وهناك، ولكن الموت كان يحمل على الجبار ويشتد، وكانت القلعة المنيعة الهائلة توشك أن تقبض عليها يد الموت، وكان الحصن المتين الرفيع يوشك أن يصبح في ذمة التاريخ.
كان ذلك كله في لحظات الاحتضار، تلك اللحظات الثقال الطوال، وكنا جميعا نحس دبيب الموت يضج ضجيجا هائلا في أعصابنا، كنا جميعا نحس أجنحة الموت تخفق كالأعصار في نبضات قلوبنا، كنا جميعا نحس أنفاس الموت تكاد تمتزج في أنفاسنا.
ولكن، مالي أشعر في غمرة هاتيك اللحظات بانقلاب مفاجئ في ذاتي دون القوم؟ باللحظات الطوال الثقال تنقلب فتي نفسي فجأة إلى دنيا رائعة من حياة العظيم المحتضر؟ مالي أعود بالزمن إلى أيامه وهو في ذروة العافية واكتمال النشاط؟ ما لأنفاس الموت لا أحسها في صدري، وما الأجنحة الموت لا أسمع خفقها في ذاتي، وما للعظيم المحتضر أراه بعيني وهو يحدب على دواته وأقلامه، ويخدم قراطيسه و"بروفاته"؟.
أي شيء حدث في تلك اللحظات الثقال الطوال حتى انقلب عندي حياة موفورة النشاط والحركة والعافية؟.
لقد حدث في لحظة مفاجئة أن رأيت دواة العظيم المحتضر وأقلامه، تخرج بها من غرفة الاحتضار، يد برة حزينة تهيء لها السبيل إلى مكان جديد، إلى جواره في المثوى المبارك الذي كان يهفو إليه حينذاك.
رأيت دواته وأقلامه فإذا بوجه الموت كله ينطوي عني في لحظة واحدة، وإذا بلحظات الاحتضار تلك ليست هي اللحظات الثقال الطوال، وإذا بالعظيم المسجى ذاك، ليس هو العظيم الذي يصارع قلبه الكبير الموت صراع الأبطال، وإنما كل ذلك غريب بعيد، وما في عيني حينذاك إلا شخصه العظيم والحياة ملء قلبه وعقله وجوارحه، والحركة والنشاط والعافية ملء دواته وقلمه وقراطيسه.
القوم ينصتون حيارى ذاهلين إلى دبيب الموت يضج في أعصابهم، وأنا أرى العظيم بعيني في يقظة صاحية، أراه في قمم حياته كلها وهي تعشب من هنا وهنا بالمعرفة، وتخصب من هنا وهنا بالخير، وتثمر من هنا وهنا بالمحبة.
القوم ينصتون إلى دبيب الموت الرهيب في غرفة الاحتضار، وأنا أرى العظيم بعيني في صومعته الضيقة تنفتح على الحياة من كل جانب، أراه في غرفته الصغيرة المتواضعة بدمشق تنفسح به وتتسع، على قدر ما ينفسح صدره للحياة ويتسع.
هذه دواته المباركة وهذه أقلامه الخصبة هي ذي أنظر إليها وهو في لحظات الاحتضار وكأني أراه في صومعته تلك يبدد من تهاويل المغريات والشهوات، ثم ينكفئ إلى دواته وأقلامه يتهلل لها بوجهه السمح فتتهلل هي بالنور يتدفق سماحة ورقة، ويفيض خيرا وبركة ويتسلل تواضعا وبساطة.
هذه دواته وأقلامه.. هي ذي أنظر إليها وكأني أراها تتحول بين يديه، في صومعته تلك، سياطا من نار ينضج بها جلود المبتدعين والمضللين والمشعوذين، لا هوادة ولا رحمة ولا إشفاق، أو تتحول بين يديه، في صومعته تلك، مشاعل من نور تقف على المفترقات والمنعطفات، لتقول لهؤلاء وهؤلاء: ليس الدين - أيها الناس - ما تبتدعون وما تضللون ليس الدين - أيها الناس ما تبذرون من الفرقة والبغضاء والعصبيات والنعرات، وإنما الدين هو هذا النور المشع يشمل الآفاق كلها كما ترون، ويملأ النفوس كلها شوقا إلى العمل وتوقا إلى الحياة، وطموحا إلى العدل ونشدانا للخير، وإيمانا بأن الناس سواسية عند الله لا فرق بين أسودهم وأبيضهم ولا سيد بينهم أو مسود.
هي ذي دواته وأقلامه.. أراها كأني أرى وجهه يطفح مرحا، ويشرق ابتساما، وينطلق فتوة، ويتوهج نشاطا، ويترقرق وداعة وفكاهة وحنانا.
إيه أيتها الدواة المباركة، إيه أيها القلم الدؤوب! لقد أجهدكما ربكما حتى وقفت عنكما يده، ووقف عنكما قلبه، فلتستريحا - إذن - في ظلال ذكراه، ولتؤنس وحشتكما، في الهدأة العميقة، هذه الدنيا العريضة التي صنعتماها أنتما بيده وقلبه وعقله، هذه الدنيا العريضة المشرقة التي صنعتماها علما وإصلاحا وبناء وإنشاء، وتنويرا وتعليما.
وفاته
توفي حوالي منتصف ليلة الأحد 4 رجب سنة 1371 ه الموافق 30 آذار سنة 1952 م فنعته الإذاعة اللبنانية ثم تجاوبت بنعيه سائر إذاعات العالم العربي والعالم الإسلامي، وسرت موجة من الأسى لفقده في شعوب العرب والمسلمين جميعا، وتداعت الصحف في أقطار هذه الشعوب ترثيه وتعدد مآثره الإصلاحية ومكانته في عالم التأليف والتصنيف وتعرض شؤونا كثيرة من سيرته العاملة لجمع الكلمة وتجديد الفكر الإسلامي، ونفي الترهات والغشاوات عن نقاء الشريعة الإسلامية، وتصف مواقفه الوطنية إلى جانب الشعوب العربية في كفاحها الاستقلالي.
وأقيمت المآتم ومجالس الفاتحة عن روحه في مختلف العواصم والمدن العربية والإسلامية والمهاجر الأمريكية والأفريقية وحضرت تشييع جنازته من بيروت إلى دمشق ومن دمشق إلى مقام السيدة زينب في ضواحي العاصمة السورية، مواكب حاشدة من الشخصيات.
كما أذيع في النجف الأشرف النعي التالي: ننعي بأسف بالغ وألم ممض – سماحة آية الله وحجته العلامة الكبير السيد محسن الأمين فقد استأثرت به رحمة الله يوم أمس 4 رجب سنة 1371 في بيروت ونقل جثمانه بتشييع عظيم إلى دمشق وسيشيع فيها تشييعا رسميا يليق بمقامه الديني الكبير. وسماحة المغفور له كان من العلماء الذين لا يجود بهم الزمن إلا في فترات فهو من القلائل الذين تناهبت جملة أوقاتهم أعمالهم الخالدة ولم يتركوا منها للراحة والاستجمام شيئا فمؤلفاته لو وزعت على عمره لضاق بها ذلك العمر الشريف وحسبه منها كتابه العظيم "أعيان الشيعة" فكيف إذا ضمت إليها أعماله الإصلاحية الكبيرة كتأسيس المدارس الدينية المنظمة التي تحتفظ بجوهر المبادئ الإسلامية مع احتفاظها بأهم مقتضيات الزمن وكمزاولته لأعماله الدينية التي يقتضيها مركزه الكبير والحق – إنه كان من أهم الأركان التي يعتمد عليها المسلمون في مختلف البلاد الإسلامية ولا سيما في سوريا ولبنان وخسراته لا يحس بمدى عمقها إلا من عرف مقدار ما ملأ في مقامه من فراغ. في الحياة الفكرية والعلمية والهيئات الشعبية في القطرين: لبنان وسوريا، وشاركت في التشييع وحفلات التأبين وفود من سائر أقطار العروبة والإسلام.
ونقتطف، نماذج مما كتبته الصحف في التعبير عن أثر وفاته في نفوس العرب والمسلمين، وفي وصف تشييع الجنازة ووصف المآتم.
في بيروت
ففي لبنان كتبت جريدة "الحياة" صباح يوم الوفاة على صفحتها الأولى، إلى جانب صور للفقيد، كلمة النعي الآتية:
مات المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين
في الساعة الحادية عشرة مساء أمس فجعت البلاد، وفجع العالم العربي والإسلامي، بوفاة المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين، ويبدو عظم الخسارة بالفقيد الكبير حين نذكر أنه كان طوال حياته طرازا جديدا نادرا في علماء الدين، إذ عرف بنزعته الإصلاحية في طريقة تفكيره المتفتحة، وأسلوب حياته العلمية الرفيعة، وفي عزوفه عن كثير من مظاهر الجاه الكاذب والمجد الزائف، فقد كان المجد عنده هو مجد الفكر والحق، ومجد العلم والدين، ومجد الإصلاح والمحبة.
ولقد فعل الفقيد الكبير في سبيل ذلك كله ما استطاع أن يفعل سواه في كتبه ومؤلفاته العديدة، أم في إصلاحاته وأعماله، أم في المؤسسات التي أنشأها في دمشق للخدمات الاجتماعية والعلمية والدينية.
ولقد ناصر الفقيد الكبير الحركات الوطنية في سوريا ولبنان أيام الانتداب مما لا يزال يذكره الكثيرون من الذين شاركوا في تلك الحركات.
وقد نعته محطة الإذاعة اللبنانية بكلمة مسهبة وسيشيع الجثمان غدا "الإثنين" من منزل الفقيد بالحرش إلى المسجد العمري الكبير حيث يصلى عليه ثم يسير موكب التشييع إلى خارج العاصمة فينقل الجثمان مع أرتال من السيارات إلى دمشق حيث يدفن في مقام السيدة زينب.
وستشترك الحكومة في مأتم الفقيد الكبير، عليه رضوان الله ورحماته، وللأمة العزاء.
ونعته جريدة (النهار) أيضا بالكلمة الآتية:
أمس انطفأ مصباح شع، في جميع الأقطار العربية تقى وعلما فخسر العالم الإسلامي، والبلاد العربية فيه، رجل دين ودنيا.
المجتهد الأكبر الإمام السيد محسن الأمين، صفحة مشرقة في تاريخ الحركات الوطنية، وقد امتاز بعد الإمام محمد عبده بدعوته إلى التساهل والتسامح في كثير من الحالات الدينية والمذهبية بالنسبة إلى علاقات الطوائف بعضها ببعض من أبناء الدين الواحد، ومن أبناء مذاهب الأديان الأخرى.
ولد الإمام السيد محسن الأمين في بلدة شقرا – الجنوب - وتلقى علومه في النجف الأشرف. وقد قضى سماحته سني حياته بين الكتب يدرس ويطالع ويؤلف وينتج ما عرف العالم العربي عنه فكان خير من أنتج وأعطى وعمل لصالح أمته، فكبر شأنه وعظم قدره لدى قادة العلم والفكر والوطنية وهو المصلح الإنساني الذي لا ينسى فضله.
وقد نعاه سماحة مفتي الجمهورية الشيخ محمد علايا، وتناقلت محطات الإذاعة في بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة وغيرها هذا النبأ الصادع، وأشارت إلى ما عرف عن فقيد العروبة والإسلام الأمين في مآثر ومحامد.
وغصت دار الفتوى الإسلامية أمس بوفود المعزين من كل حدب وصوب وكان سماحة المفتي الشيخ محمد علايا وأصحاب السماحة والفضيلة علماء الشريعة السمحاء من جميع الطوائف المحمدية ورئيس مجلس النواب ووزير الأشغال العامة وأنجال الفقيد يتقبلون تعازي الوفود بنفوس يملؤها الأسى واللوعة.
وهبطت وفود جبل عامل تحمل الرايات مكبرة مهللة، في مناحة مؤلمة، وراح الشعراء يرددون أمام دار الفتوى الإسلامية مناقب الفقيد بأصوات مؤثرة.
وفي الساعة العاشرة من صباح أمس خرج جثمان الفقيد من منزل ولده السيد محمد باقر الأمين بحرج بيروت، وقد أغلقت بيروت متاجرها وحوانيتها وخاصة في الطريق الذي سلكه الموكب. وكانت قوات الدرك والبوليس قد انتشرت في كل مكان للمحافظة على الوضع والهدوء ولتنظيم سير الجنازة. وتقدمت الموكب سيارة تحمل مكبرا للصوت يذيع آي الذكر الحكيم ثم حملة الأعلام والرايات السوداء فطلبة المدارس الإسلامية وفرق الكشاف يسيرون على جانبي الطريق ثم رجال الشرطة فرجال الدرك ببنادقهم المنكسة فالجثمان محمولا على أكف رجال الإطفاء.
ووراء الجثمان أنجال الفقيد وأصحاب السماحة والفضيلة المفتي الأكبر والعلماء الذين وفدوا خصيصا من العراق وسوريا وإيران ورئيس المجلس ورئيس الوزراء وأعضاء حكومته وممثل رئيس الجمهورية وقائد الدرك ومدير الأمن العام وممثلو الجمعيات الإسلامية فالكشاف العاملي فحملة الأكاليل فوفود الجبل وقرى الجنوب.
وفي الساعة الثانية عشرة إلا ربعا وصل الموكب إلى الجامع العمري الكبير فأدخل الجثمان إلى بهو الجامع وسط التهليل والتكبير فضاق المسجد على رحبه.
وبعد أداء فريضة الصلاة على الجثمان في المسجد العمري وضع في سيارة خاصة وتبعته مئات السيارات بطريقها إلى دمشق حيث يحتفل اليوم بتشييع الجثمان، ويجري دفنه في مقام السيدة زينب خارج مدينة دمشق، وتقام بعدها مناحة كبرى. عزاؤنا الحار لآل الفقيد وأنجاله.
ونعته جريدة اليوم ووصفت مأتمه قائلة تحت هذه العناوين:
(لبنان يشيع الإمام محسن الأمين) (الموكب يمتد من الحرج حتى الجامع العمري).
(دار الفتوى الإسلامية كانت أمس محجة المعزين بفقد الأمين).
تخطى حضرة صاحب السماحة المجتهد الأكبر، العلامة المؤلف الحجة الأشهر المغفور له السيد محسن الأمين العقد التاسع من سني حياته وهو بين الكتب والمحابر والمطالعة والدرس. يؤلف وينتج ما ملأ العالمين العربي والإسلامي فكان تغمده الله برحمته ورضوانه خير من عمل للصالح العام في الدين والاجتماع والوطنية، فعظمت مكانته وجل شأنه وارتفع قدره في لبنان كما تخطاها إلى ربوع الشام فأطلق اسمه الكبير على الشوارع والمدارس والساحة العامة، مشيرة إلى ما للفقيد العظيم الجليل من مكانة سامية ومنزلة مرموقة.
المفتي الأكبر ينعي الفقيد.
ولقد فجع العالمان العربي والإسلامي صباح أمس – الأحد - الباكر عندما نعى سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الأكبر الشيخ محمد علايا إلى هذين العالمين وفاة العالم الضخم والقائد الوطني الشيخ، وتناقلت محطات الإذاعة في بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة وغيرها لهذا النبأ المريع وعلقت عليه بما اشتهر به فقيد العروبة والإسلام (محسن الأمين) من آيات خالدات في حقول الدين والوطنية والعلم، ولقد توفاه الله قبيل منتصف يوم السبت - الأحد فعم المصاب الجميع وإنا لله وإنا إليه راجعون.
التعازي بدار الفتوى
وقد غصت دار الفتوى الإسلامية منذ صباح أمس الباكر بوفود المعزين من كل حدب وصوب.
وفود الجنوب بمناحة
وهبطت وفود الجنوب من كل مكان تحمل اللوحات والشعارات مكبرة مهللة في مناحة جد مؤلمة، وأخذ الشعراء يرددون أمام دار الفتوى الإسلامية مآثر الفقيد الكبير بأصوات مشجية.
الموكب إلى الجامع العمري
وفي الساعة العاشرة من صباح اليوم خرج جثمان الفقيد من داره في الحرج فمشى لبنان بمدنه وقراه وراء الجثمان الطاهر، وقد أغلقت بيروت متاجرها وحوانيتها صباح اليوم ولاسيما في الشوارع التي سلكها الموكب الكبير، وكانت قوات الدرك والشرطة قد انتشرت في كل مكان للمحافظة على النظام ولتنظيم سير الجنازة وتقدم الموكب سيارة تحمل مكبرا للصوت يذيع آي الذكر الحكيم وامتد طول الموكب من الحرج حتى الجامع العمري.
وفي تمام الساعة الثانية عشرة وصل الجثمان إلى الجامع وسط التكبير والتهليل فضاق المسجد على رحبه بالمشيعين مما اضطر رجال الشرطة والدرك إلى منع دخول غير الداخلين وهجم الجمهور المكبر الباكي يريد اللحاق بالجثمان ولم يبق موطئ قدم واحد، فاكتظت الشوارع وساحة النجمة بأفواج الخلائق، وقد توقفت حركة المواصلات في المدينة تماما.
ثم وصفت "اليوم" في العدد التالي تشييع الجثمان في دمشق فكان مما قاله مراسلها في دمشق:
شيع اليوم جثمان الإمام محسن الأمين بموكب ما عرفت سوريا له مثيلا فمشت في موكبه فصائل الدرك والشرطة منكسة السلاح، وأصحاب الطرق الصوفية مع أعلامها، وجميع طلاب الكلية الشرعية والكليات الأخرى، ثم الهيئات الرسمية والشعبية.
مأتم الفقيد الكبير
وفي ثالث أيام الوفاة نشرت "الحياة" أيضا هذه الكلمة تحت عنوان:
كان لفقد المجتهد الأكبر المغفور له السيد محسن الأمين صدى ألم شامل في مختلف الطبقات والطوائف لما عرف الجميع في الفقيد الكبير من مزايا التسامح والوطنية والدعوة للألفة والمحبة بين الجميع فضلا عن منزلته العلمية الكبيرة.
وافته المنية في الساعة الحادية عشرة من مساء السبت الماضي، بعد احتضار شديد دام أكثر من أربع وعشرين ساعة، وفي صباح يوم الأحد نعاه سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية للبنان وللعالمين العربي والإسلامي. وبدأت منذ الساعة الثامنة صباح الأحد تتوالى الهيئات الرسمية إلى دار الفتوى حيث تقبل التعازي. وقد حضر رئيس المجلس النيابي ورئيس الوزراء ورؤساء الوزارات السابقون والوزراء الحاضرون والسابقون والنواب، ورجال السلك الديبلوماسي العربي ورجال الأحزاب والهيئات والمنظمات وممثلو الصحافة والنقابات وأهل العلم والقضاء والمحاماة والأدب.
وفي صباح الاثنين، كانت الوفود الشعبية تفد من مختلف أنحاء الجنوب والبقاع والعلويين وجبل لبنان ودمشق وبيروت، استعدادا للاشتراك في موكب التشييع وقد أوفد فخامة رئيس الجمهورية السيد أحمد الحسيني وزير الأشغال العامة للنيابة عنه بتعزية آل الفقيد وأنجاله كما حضر للتعزية في منزل الفقيد أركان الحكومة.
وفي الساعة العاشرة بدأ موكب التشييع من الحرش إلى الجامع العمري الكبير. وقد حملت النعش فرقة من رجال الأطفائية، واصطفت على جانبي الموكب طوال الطريق فرق الكشافة وطلبة المدارس بينها وفد من طلبة دار المعلمين العليا وكلية المقاصد في صيدا وعدد من طلاب المقاصد في بيروت وكشافة مدرسة الإصلاح الخيرية.
وسار وراء النعش علماء الدين من مختلف الطوائف يتقدمهم سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية ثم ممثل فخامة رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب والنواب وأركان الحكومة وكبار رجال الدولة وأعيان البلاد، ثم المواكب الشعبية بأهازيجها الحزبية وأعلامها.
سارت هذه المواكب في مدى طويل لا يدرك الطرف نهايته يملأ الشوارع من الحرش حتى المسجد العمري كما كانت الشرفات وسطوح المنازل وأرصفة الشوارع تكتظ بالناس.
وفي الساعة الثانية عشرة وصل الجثمان إلى المسجد العمري الكبير وكانت قاعة المسجد مكتظة بوفود المعزين من مختلف الهيئات الرسمية وغير الرسمية.
وقد صلى سماحة مفتي الجمهورية على جثمان الفقيد تأتم به الصفوف ملء المسجد.
وعند بدء التعزية أعلن السيد أحمد الحسيني وزير الأشغال باسم فخامة رئيس الجمهورية منح الفقيد وسام الأرز من رتبة ضابط أكبر.
ثم سار الموكب إلى شارع الشيخ بشارة حيث نقل الجثمان إلى سيارة وتألف موكب ضخم من مئات السيارات إلى دمشق حيث يوارى الفقيد مثواه الأخير.
وقالت مجلة "العرفان" من كلمة صافية في وصف مكانة الفقيد، وتعداد مآثره:
توفي السيد الإمام، السيد محسن، حوالي منتصف ليلة الأحد 4 رجب 1371ه 30 آذار 1952م فأذيع نعيه في جميع الأقطار وكانت التعازي يوم الأحد من الصباح إلى المساء في بهو دار الفتوى في بيروت الذي غص على سعته بوفود المعزين وقد جلس لقبول التعزية أبناء الفقيد وذووه وسماحة مفتي الجمهورية اللبنانية وعطوفة رئيس المجلس النيابي ومعالي وزير الأشغال العامة وغيرهم وفي اليوم الثاني امتلأت دار السيد جعفر فاضلي ودار الفقيد والدور المجاورة والشوارع والساحات الرحبة بأفواج كانت تموج كالبحر الهائج لكثرتها.
وعند الساعة الحادية عشرة حمل نعش الراحل الكريم على الأكتاف من داره بالحرج إلى الجامع العمري الكبير بازدحام شديد وبعد الصلاة عليه من سماحة المفتي وضع الجثمان الشريف في عربة صحية وتبعته مئات السيارات من المشيعين وما وصل الحشد العظيم إلى شتورا حتى انضمت إليه سيارات البعلبكيين والبقاعيين، وعلى الحدود السورية كانت بالانتظار سيارات الدمشقيين إذ اشترك في لبنان وسورية الحكومة والشعب في التشييع كما منح الفقيد بعد الموت وسامان رفيعان من الحكومة اللبنانية والحكومة السورية.
ووضع النعش في قاعة المدرسة المحسنية التي امتلأت على رحبها داخلا وخارجا بالجموع الزاخرة حتى الصباح. وما أزفت الساعة الحادية عشرة حتى حمل النعش على الأكتاف للجامع الأموي حيث صلى عليه سماحة الشيخ كامل القصاب عالم الشام ومنها نقل لتربة باب الصغير ثم نقل في السيارة لمقام السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليها وعلى أبيها السلام حيث أعد له غرفة كبيرة إذ وري جدث الرحمة ووقف في الباب رئيس المجلس وسماحة المفتي وآل الفقيد يتقبلون التعازي ويتبادلون الأسف والعويل على هذا الراحل الجليل.
وكان يوم الأسبوع في بيروت يوما مشهودا ما رأت بيروت نظيره إذ نصبت السرادقات أمام بيت نجله الكبير السيد محمد باقر الأمين وتعاقب الخطباء والشعراء على المنبر ينثرون الدرر وينظمون اليواقيت التي التقطوها من بحر ذاك البحر المتلاطم بشتى العلوم والفنون وقد نشر ما اتسع المقام لنشره هنا.
فإلى روح الله وريحانه، والسكن بأعلى جنانه أيها السيد السند ولئن غبت عنا بجسدك فها هي مآثرك أمامنا، وهذه آثارك وكتبك نصب أعيننا.
خرجوا به ولكل باك خلفه | صعقات موسى حين دك الطور |
وأصدرت مجلة المحيط عددا خاصا مهدت له بكلمة جاء فيها:
الإمام الأكبر والعالم الحجة السيد محسن الأمين
لا بد لنا وقد أصدرنا هذا العدد الخاص من أن نقدم للملأ لمحة عن حياة المغفور له إمامنا الراحل السيد محسن الأمين، إلى أن قالت: وأنشأ مدرسة أسماها "المدرسة العلوية" وإلى جانبها جمعية المدرسة التي أخذت على عاتقها تمويلها.
وأنشأ جمعية ثانية أسماها "جمعية الاهتمام بتعليم الفقراء والأيتام" كانت مهمتها تدبير المال اللازم لينفق على الطلاب الفقراء في كسوتهم ولوازمهم المدرسية وبعض ما يحتاجونه. أما الجمعية الثالثة التي أنشأها المغفور له فهي "جمعية الإحسان" وكان هدفها تخفيف آلام الفقر عن الفقراء لاسيما العائلات المستورة.
وأما الجمعية الرابعة التي أنشئت إلى جانب الجمعيات الثلاث فهي جمعية المؤاساة وكان هدف هذه الجمعية تأمين تطبيب الفقراء بالمجان.
لقد مضى على تأسيس هذه الجمعيات ما ينوف عن الخمسين عاما أدت خلالها للمجتمع خدمات لا تحصى.
ونستطيع أن ندرك مدى بعد نظر الفقيد وسعة آفاق تفكيره من تأسيس مثل الجمعيات السالفة الذكر لاسيما وقد بدأت الفكرة عنده منذ أكثر من نصف قرن.
ولقد رأى تلاميذ الفقيد الكثيرون منذ سنوات تقديرا لأستاذهم أن يطلقوا اسمه الكريم على المدرسة فأسموها "المدرسة المحسنية" إلى أن قالت:
ومن ناحية ثانية فلقد كان بيته ملتقى لكبار رجال الدين المسيحي والإسلامي حتى بلغ مرتبة سامية في قلوب جميع السوريين وخاصة الدمشقيين منهم وعندما جاء غبطة البطريرك الأرثوذكسي ليعزي بالفقيد قال: "لقد كنا نأتي لزيارته رحمه الله فكأنما نأتي إلى مدرسة نستفيد منها ونتعلم".
في دمشق
أما في سورية، فقد شغلت صحف العاصمة دمشق وصحف المحافظات معظم أعمدتها البارزة في التحدث عن الفقيد، وهذه مقتطفات مما كتبته الصحف السورية في وصف التشييع والمأتم:
قالت جريدة "الإنشاء" الدمشقية تحت العناوين الآتية:
العاصمة تشيع عالمها الكبير، وفود العالم الإسلامي تتقاطر إلى دمشق لتودع المجتهد الأكبر العلامة محسن الأمين، الحكومة والأركان العامة تعزيان وتحتفلان بالدفن.
المجتهد الأكبر العلامة محسن الأمين، الذي طواه الموت صباح الأحد الباكر في بيروت من النادر أن تنجب الأرحام في مثل علمه وإحسانه وأمانته ووطنيته أنه صفحة مشرقة من صفحات الفضيلة والأخلاق، ونفحة عاطرة من نفحات العلم والدين، وينبوع دافق للسماحة والوداعة، وقدوة تحتذى في الوطنية والإنسانية ونكران الذات والدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر وحث الناس على الخير والإحسان.
إنه مثال في أخلاقه وأقواله وأعماله وحياته، فقد كان رحمه الله دؤوبا على المطالعة والدرس والتأليف، مشهودا له بالفهم العميق والرأي الحصيف والعبارة الحلوة اللطيفة، وكان مرجعا في الشرع الإسلامي الحنيف وحجة في الفقه لا يمارى ومحبا للإصلاح وعاملا لخير العرب والمسلمين، ولهذا فإن نعيه شق على عارفيه في طول دنيا المسلمين وعرضها، وكانت لوفاته رنة أسف عميقة شاملة، نظرا لمكانته العالية ليس عند الطائفة الجعفرية المسلمة فحسب، ولا عند المسلمين فقط، بل عند جميع الذين عرفوه وقرأوه وسمعوا بعلمه وفضله وتقواه.
و"الإنشاء" تستمطر شآبيب الرحمة على روحه الطاهرة، وتسأل الله أن يجزل ثوابه بقدر ما أحسن إلى وطنه وأمته ومواطنيه، وتعزي بفقده المسلمين جميعا في شتى ديارهم وأقطارهم، عوض الإسلام عن هذا الركن المكين من أركانه والعالم الكبير من علمائه.
وقالت جريدة المنار تحت هذا العنوان:
يا فقيد الإسلام وعالمه البر
لقد جل الرزء فيك عن إيفائك حقك من الرثاء.
غيب الثرى في يوم أمس عالما من أكبر علماء الإسلام، ورجلا من أجل الرجال علما وتقى وإخلاصا وورعا، هو سماحة المجتهد الأكبر والفقيه الجليل، والمربي الحازم سماحة السيد محسن الأمين الذي خلف دنيا من العلم، وجيلا من الثناء، وطودا شامخا من المثالية والحكمة والصلاح.
وإذا كان للقلم أن يتحدث عن كل إنسان خلال حياته وبعد مماته، وأن يفي كل عامل حقه من جهاده وعمله، فإنه كثيرا ما يقصر عن إيفاء حق رجال أفذاذ، وعباقرة نابغين، وكثيرا ما يعترف بعجزه أمامهم حين تكون أعمالهم فوق الوصف وأقدارهم فوق الثناء.
رحم الله الفقيد الأمين، فلقد كان من الرجال العظام القلائل، الذين فهموا القيم الفكرية حق الفهم فنزهوها عن القيم المادية، وفهموا واجب الإنسان حيال الإنسانية فعملوا لها عمل المؤمنين الصادقين الذين لا يستهويهم مال أو نفوذ، ولا يغرر فيهم مطمع أو جاه، لقد فهموا فهما سليما، وعملوا عملا رفيعا، فأرضوا ربهم، وأرضوا ضميرهم، وقنعوا في عيشهم من الفوز برضى الله وهو أقدس فوز، وبرضى الضمير وهو أثمن وأعز انتصار.
وما دمنا بصدد الاعتراف بالعجز عن إيفاء الفقيد الأمين حقه بعد مماته فلا أقل من القول بأنه كان عالما ضليعا كثيرا ما انحنت أمامه إفهام علماء أكابر، وإنسانيا مثاليا لا يفرق بين أبيض وأسود إلا بمقدار صلاحه وتقواه ووطنيا آمن بحق أمة الإسلام بالتمتع في الحرية والسيادة، فعمل لكل هذه المبادئ بجرأة وهمة واستمرار حتى قضى على كثير من الخلافات المذهبية، وسعى إلى توحيد شمل الطوائف الإسلامية ووقف في مكان التوجيه والإرشاد من صفوف جميع الحركات الوطنية الاستقلالية. ثم وصفت المنار التشييع فكان مما قالته: وكان موكب الجنازة من الضخامة بحيث سدت الطرقات وأغلقت الحوانيت وقد حضرت التشييع مئات الوفود التي قدمت من العراق وإيران وسائر الأقطار العربية.
برنامج استقبال الجثمان
ونشرت جميع الصحف الدمشقية نص المنهاج الرسمي لاستقبال موكب التشييع عند الحدود اللبنانية - السورية، وسيره إلى دمشق حتى المدرسة المحسنية في حي الأمين، على النحو التالي:
تألفت اللجنة الحكومية التي تستقبل الجثمان من محافظ لواء الشام السيد سليمان الحسيني ممثلا لدولة رئيس الدولة، والعقيد جميل رمضان ممثلا للعقيد رئيس الأركان العامة ووكيل قائد درك لواء دمشق، ومدير أوقاف دمشق السيد عبد الرحمن الطباع وبعد أن تؤدي مفرزة من رجال الدرك التحية للجثمان عند وصوله إلى الحدود يتجه الموكب إلى العاصمة تتقدمه سيارة جيب يمتطيها عدد من رجال الدرك فسيارة ممثل رئيس الدولة فسيارة ممثل رئاسة الأركان العامة وسيارة وكيل قائد الدرك للواء الشام وسيارة مدير أوقاف دمشق وكوكبة من رجال الدرك راكبي الدراجات النارية ثم السيارة المقلة لجثمان الفقيد وتتبعها السيارات المواكبة للجثمان وفي نهاية الموكب تسير سيارة جيب يمتطيها عدد من رجال الدرك وفي الربوة مدخل دمشق تبدل قوات الدرك بقوات الشرطة ويتابع الموكب سيره إلى المدرسة المحسنية مخترقا شارع سعد الله الجابري فشارع النصر إلى شارع الدرويشيه فسوق مدحت باشا فالمدرسة المحسنية في حي الأمين وأمام المدرسة المحسنية تستقبل الجثمان اللجنة المؤلفة من السادة الأمين العام لرئاسة الجمهورية والأمين العام لرئاسة الوزراء ومدير الشرطة العسكرية والمدير العام للأوقاف الإسلامية وفي المدرسة المحسنية يودع الجثمان حيث يشيع صباحا إلى مقام السيدة زينب وفق البرنامج الرسمي الآتي، على أن يتولى رجال الشرطة الحراسة والسهر على النظام أمام المدرسة المحسنية اعتبارا من ساعة وصول جثمان الفقيد إلى المدرسة حتى ساعة تشييع الجنازة.
أما برنامج تشييع الجثمان فهو كما يلي:
1- تكون اللجنة الرسمية لتشييع الجثمان في المدرسة المحسنية في الساعة العاشرة والدقيقة الثلاثين من قبل ظهر الثلاثاء السابع من رجب 1371 الموافق للأول من نيسان 1952.
2- يتحرك الموكب مشيا على الأقدام في تمام الساعة الحادية عشرة من المدرسة المحسنية بحي الأمين إلى الجامع الأموي مارا بشارع مدحت باشا فالبزورية فالجامع الأموي حيث يصلى على الجثمان ثم يتوجه الموكب من المسكية إلى مقبرة الباب الصغير سالكا الطريق التالية: سوق الحميدية - الدرويشية- السنانية- مقبرة الباب الصغير.
3- يكون ترتيب الموكب من المدرسة المحسنية بحي الأمين حتى المقبرة كما يلي: مفرزة من رجال الشرطة راكبي الدراجات النارية قوة من رجال الجيش منكسي السلاح على جانبي الموكب، طلاب الكلية الشرعية، في الوسط المؤذنون - نعش الفقيد - طلاب المدارس على جانبي النعش - آل الفقيد - ممثل دولة رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء وأعضاء لجنة التشييع الرسمية، وفود المشيعين من البلاد العربية والإسلامية ويحاط الموكب من جهاته الثلاث بعدد كافي من رجال الشرطة.
يتقبل آل الفقيد وممثلو الطائفة الجعفرية التعازي في مقبرة الباب الصغير.
4- يتابع الموكب سيره بالسيارات إلى روضة السيدة زينب وفق الترتيب الآتي: سيارة جيب يمتطيها عدد من رجال الدرك، كوكبة من رجال الدرك راكبي الدراجات النارية، السيارة المقلة لجثمان الفقيد، سيارات اللجنة الرسمية للتشييع، سيارات وفود البلاد العربية والإسلامية ورجال السلك السياسي العربي والإسلامي والأجنبي، سيارات المشيعين، سيارة جيب يمتطيها عدد من رجال الدرك.
ولدى وصول الموكب إلى روضة السيدة زينب تؤدي قوة من رجال الدرك التحية لجثمان الفقيد وبعد أن يوارى جثمانه التراب يتقبل آل الفقيد وممثلو الطائفة الجعفرية التعازي ويتولى الدرك حفظ الأمن في روضة السيدة زينب. ومما قالته الصحف الدمشقية أيضا أن وزير إيران المفوض في دمشق تلقى برقية من حكومته بتمثل الدولة الإيرانية في تشييع الجثمان كما تلقى القائم بأعمال المفوضية الباكستانية والقائم بالأعمال العراقي برقيات مماثلة للاشتراك في التشييع باسم حكومتيهما كما أن رجال السلك السياسي العربي والإسلامي والمطارنة ورجال الأكليروس المسيحي اشتركوا في التشييع.
وقالت الصحف الدمشقية: إن رئيس الدولة السورية أصدر مرسوما يمنح الإمام المجتهد الأكبر المغفور له السيد محسن الأمين الحسيني وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة تخليدا لأعماله المجيدة ومواقفه الوطنية وخدماته الجلى التي أداها للبلاد.
ثم قالت: أنه جرى احتفال رسمي بتقليد الوسام على نعش الفقيد.
وفي صبيحة يوم التشييع من المدرسة المحسنية بدمشق إلى مقام السيدة زينب، نشرت الصحف الدمشقية وصف ضافيا للموكب العظيم الذي استقبلت به العاصمة السورية جثمان الفقيد في اليوم السابق، ونشرت إلى جانب ذلك صورا كثيرة من مشاهد الموكب أثناء مسيره من الحدود اللبنانية - السورية حتى المسجد الأموي. ومن ذلك ما نشرته جريدة "النصر" تحت هذه العناوين:
عشرات الألوف من لبنان وسورية تواكب جثمان المجتهد الأكبر، دمشق تزحف اليوم وراء نعش العالم الأكبر، رجال السلك الدبلوماسي العربي والإسلامي والاكليروس يشتركون بالتشييع.
وبعد أن وصفت الموكب العظيم الذي رافق الجثمان ووصوله إلى الحدود السورية وخروج موكب دمشق لملاقاته على الحدود قالت:
وكان موقف رهيب تناثرت فيه الدموع وثارت الأحزان عندما التقى السوريون واللبنانيون على جثمان الراحل الكبير الذي كانت صوره المجللة تملأ السيارات والجدران وقد قامت ثلة من الدرك بأداء التحية للجثمان، وعلى الأثر جرى تنظيم الموكب فسارت في الطليعة قوات الدرك على سيارات الجيب ثم سيارة الجثمان وتلتها سيارات ممثلي رئاسة الدولة ورئاسة الأركان العامة وآل الفقيد وبعدها سيارات الشخصيات اللبنانية الكبيرة فسيارات المشيعين، وقد سار الموكب العظيم الذي لم تشهد البلاد له مثيلا بتؤدة على ألحان الذكر الحكيم ينطلق من مذياع سيارة خاصة.
وقالت الجريدة نفسها تحت هذه العناوين:
من المسجد الأموي إلى روضة السيدة زينب تكتظ الشوارع بمشيعي المجتهد الأكبر، جثمان المجتهد الأكبر يحمل على أكف المشيعين ويطوف بمقابر آل البيت ثم ضريح السيدة زينب الكبرى: سارت دمشق يوم أمس في مواكب صامتة حزينة تكفكف دمعا ينساب من محاجر مقرحة، وتكبح لهثات وأنفاسا تطلقها قلوب وأكباد موجعة مدماة...... سارت وراء نعش المحسن الأمين تودعه الوداع الأخير، وتتحسس مشاعرها الهائمة وراء جدثه الطاهر آخر اللمحات والأطياف لتعود إلى ذواتها راضية مرضية بما قدره الله وليست لقدرته تعالى مرد. سنته في خلقه وسطوره في كتابه ولن تجد لسنة الله تبديلا..
ولقد بعثت النصر بمندوبها الخاص يلتقط بقلمه كل مشهد ويسجل بعدسته كل نامة أو حركة.. فنحن مع الفقيد في دنياه المنصرمة وتآليفه الخالدة وخاتمته الحميدة تاريخ صادق محبب وكتاب كله تقدير واحترام للفضل والجهاد والنبل..
ويرى في الصورة العليا نعش الفقيد محمولا على الأكف وقد تجمهر الأحباء أمامه والمؤذنون كما سار خلفه ممثلو الحكومة الرسميون.
وقد تلت ذلك صورة المواكب المشيعة تتقدمها الشخصيات الرسمية الكبرى ثم في المقطع الأخير يرى طلبة الكية الشرعية ورجال العلوم الدينية.
وفي الصورة الثانية يرى النعش وهو ينقل من السيارة التي حملته من الباب الصغير إلى روضة السيدة زينب الكبرى وفي الصورة الثالثة يرى النعش وهو يطوف حول ضريح السيدة بنت الرسول كما يرى في الصورة الرابعة كبار المشيعين من لبنان.
ونعته جريدة بردى تحت هذه العناوين:
(وفاة المجتهد الأكبر رزء فادح للعروبة والإسلام، عرفناه أيام النضال الوطني أشد حماسة من الشباب).
استأثرت رحمة الله بالعلامة الكبير، والزعيم التقي الوقور، المؤمن بربه. والمجاهد في سبيل عزة قومه، ومجد بلاده، المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين العاملي، زعيم الطائفة الجعفرية في العاصمة السورية، فقد فاضت روحه الكريمة صباح يوم الأحد في المستشفى في بيروت بعد أن أمضى فيه أمدا ليس بالقصير وأعيا نطس الأطباء التغلب على الداء، وهكذا طوى الردى علما خافقا، وزعيما مطاعا، وتقيا مؤمنا، ومسلما محمديا، ومجاهدا وطنيا وقوميا، وعالما جليلا، وأديبا فحلا، وخطيبا بليغا، وواعظا هاويا.
عرفناه في أيام النضال الوطني، فكأن أشد حماسة، وأكثر جرأة من الشباب، وعرفناه في عهد الحرية والاستقلال فكان المرشد الحكيم، والباني الحاذق وعرفناه داعيا قوميا، وزعيما دينيا، همه الإصلاح ووحدة الكلمة، وتأليف القلوب، وعقد الخناصر في سبيل المصلحة الوطنية والقومية والدينية، ونشر لواء العلم فأسس المدارس ووقف عليها الوقوف. وتخرج على يديه عدد كبير ممن يضطلعون بأعباء أسمى المقامات، وقد طاف العراق ولبنان وسورية يبث في النفوس روح الأخاء وكان يأسف أشد الأسف لأن بعض الجهال من رجال الدين يؤثرون النعرات، ويثيرون الحزازات بدلا من أن يكونوا لبني ملتهم أنوار هداية، ونباريس فضيلة وكم بذل وجهد في سبيل إزالة ما بين الطوائف الإسلامية المختلفة من فروق طفيفة لا موجب لها ولا داعي. وقام بإصلاحات اجتماعية، وقضى على الخرافات واتصل بكبار رجالات العالم الإسلامي، وأقام معهم صداقات وأخوات نبيلة، وكان لا يفتر عن الدرس والمطالعة والتأليف وقد طبع له حتى الآن "65" مجلدا لا يقل واحدها عن "500" صحيفة وأن نسخ هذه المؤلفات وتصحيح رواميزها لمن المعجز أن ينهض بها رجل مثله كثير المشاغل والأعمال.
ونشرت جريدة "العصر الجديد" تحت هذا العنوان:
الموكب الرهيب لجنازة المجتهد الأكبر يخترق شوارع دمشق.. تشيعه عشرات الألوف بالدموع والحسرات، كأن على رأسهم الطير، ونشرت مشاهد مختلفة من المواكب وقالت:
في الساعة العاشرة و45 دقيقة من قبل ظهر – الثلاثاء - الواقع في 1 نيسان عام 1952 اجتمعت في المدرسة المحسنية في شارع الأمين في دمشق جميع الوفود القادمة من بيروت ومن جبل عامل والعراق وإيران وجماهير لا تحصى من مختلف الطوائف والهيئات السورية واللبنانية والعربية.
ممثلو الزعيم والعقيد ورئيس جمهورية لبنان وكبار الهيئات والطوائف.
وحضر أيضا ممثل دولة رئيس الدولة وممثل فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية. وممثل سعادة رئيس الأركان العامة، وممثلو هيئات السلك السياسي العربي والإسلامي وسماحة مفتي دمشق وسماحة قاضي دمشق وأصحاب السيادة رجال الأكليروس والبطاركة والمطارنة لجميع الطوائف الكاثوليكية والأرثوذكسية والسريانية والأرمنية والبروتستانتية ورهط كبير من علماء الشريعة الإسلامية وغيرهم مما لا يمكن لصحيفة يومية أن تأتي عليه كله.
النعش المسجى في القاعة الأثرية
وكان النعش المسجى فيه فقيدنا الغالي سماحة المجتهد الأكبر العلامة السيد محسن الأمين موضوعا في القاعة الأثرية الكبرى للمدرسة المحسنية في شارع الأمين وكان يحرسه فريق من رجال الشرطة وكبار علماء الطائفة الجعفرية ووجهائها في دمشق وبيروت وجبل عامل حيث لم يغمض جفن أحد بل الجميع ساهرون يذرفون الدموع ويرسلون الحسرات على الفقيد الغالي.
وكان الخشوع وجلال الموت الرهيب ووقار الفقيد الغالي يخيم فوق هذه القاعة الأثرية وعلى المدرسة وما حولها من منازل وشوارع.
الوفود والجماهير
وقد هبطت دمشق أمس وأمس الأول جماهير لا يحصيها عد قادمة من لبنان ومن بيروت ومن جبل عامل ومن كل الجهات التي تحب الفقيد.
رثاء الفقيد
وقبل أن يتحرك الموكب ألقي خطاب المربي الأستاذ أحمد صندوق ألقاه نيابة عنه الشيخ علي الجمال.
تحرك الموكب
وفي الساعة الحادية عشرة و15 دقيقة تماما من قبل ظهر الثلاثاء تحرك الموكب من المدرسة المحسنية يتقدمه الأوسمة الممنوحة محمولة على الأكف ثم رجال الشرطة على الجانبين وعدد من رجال الجيش والشرطة والدرك على الدراجات النارية لفتح الطريق أمام سير الموكب فأساتذة الكلية الشرعية الإسلامية يسيرون أمام النعش.
المؤذنون يرددون اسم الله
ثم المؤذنون الذين كانوا يرددون اسم الله الأكبر بخشوع ورهبة أمام النعش.
النعش يحمل على الأكف
ثم نعش الفقيد ملفوفا بالعلم السوري ومحمولا على الأكف من قبل هيئة خصصتها المدرسة المحسنية وقد وضع كل واحد منهم شريطا أسود إشارة الحداد والحزن.
رجال الدولة والعلماء والأكليروس
سار خلف الموكب كبار الرجالات الرسميين في سوريا ولبنان وممثلو الدول العربية والإسلامية والشرقية فالعلماء فرجال الأكليروس ورجال الطائفة الجعفرية فجماهير لا يحصيها عد.
الدرك ينكس أسلحته
وكان رجال الدرك ينكسون أسلحتهم ويسيرون بصفوف طويلة على الجانبين.
الموكب يسير
لقد سار الموكب من المدرسة المحسنية إلى الجامع الأموي عن طريق شارع مدحت باشا البزورية وكانت الأسطحة المطلة على الشوارع تحتشد عليها خلائق لا تحصى كما أن الأرصفة كانت مشغولة على الجانبين ومكتظة بالجماهير.
الأسواق التجارية تغلق
لقد أغلقت المحلات التجارية التي كان يمر بما الموكب وكانت الرهبة والخشوع وجلال الموت الرهيب يسود هذا الموكب فلا تسمع إلا حثيث الأقدام ولا تسمع إلا الزفرات في الصدور ولا ترى إلا العبرات على الخدود وفي وسط هذا الصمت كان الناس وكأن على رؤوسهم الطير وكانت أصوات المؤذنين تنادي الله أكبر: الله أكبر.
الصلاة في الجامع الأموي
وبعد أن صلت جموع ملأت المسجد الأموي على رحبه على جنازة الفقيد حمل النعش على الأكف حسب البرنامج وخرج من باب سوق الحميدية تتقدمه وتسير خلفه الهيئات التي ذكرناها.
الموكب يسير في سوق الحميدية
وتابع الموكب سيره فأغلق سوق الحميدية والأسواق الواقعة حوله احتراما وحزنا على الفقيد الغالي.
وسار الموكب الرهيب يخترق سوق الحميدية حتى الدرويشية فالسنانية فإلى أمام الباب الصغير.
تطويف النعش في مقابر آل البيت
وفي الساعة الثانية والنصف تقريبا أنزل النعش من السيارة البيضاء محمولا على الأكف ووراءه كبار رجال الطائفة الجعفرية وجماهير من المشيعين وطيف به على السادة الأطهار الأبرار الشهداء آل البيت رضوان الله عليهم المدفونين في تربة الباب الصغير وبعد هذا الطواف وقراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن أعيد النعش إلى السيارة الواقفة أمام مخفر الشيخ حسن فمشت تخترق شارع الميدان وخلفها لا أقل من ألفي سيارة تحمل كبار المشيعين وكبار وفود لبنان وجبل عامل.
الموكب يخترق حي الميدان
وكان سكان حي الميدان قد وقفوا أمام محلاتهم وعلى الأرصفة يشيعون الموكب ويلقون آخر نظرة على الفقيد الغالي.
إلى قرية قبر الست
ثم اخترق الميدان إلى قرية قبر الست الواقعة في ضواحي دمشق الشرقية الجنوبية.
النعش أمام قبر السيدة زينب
وعندما وصل الموكب إلى قبر السيدة زينب هبط كبار المشيعين من سياراتهم وطيف بالنعش الكريم ثم وضع أمام قبر السيدة زينب بنت علي وفاطمة البتول وقرئت الفاتحة وما تيسر من القرآن الكريم.
النعش في اللحد الأخير
ثم حمل النعش إلى القبر المخصص للفقيد الواقع في الساحة عند مدخل الباب الكبير ودفن بين الدموع والحسرات والزفرات.
وقد دفن معه الأقلام والمحبرة والعوينات كما أوصى.
ونشرت الجريدة نفسها، في صفحتنا الأولى أيضا نص الخطاب الذي ألقاه الشيخ علي الجمال نيابة عن الشيخ أحمد صندوق أمام الجثمان قبل أن يتحرك موكب التشييع من المدرسة المحسنية إلى مرقده الأخير في مقام السيدة زينب، وقالت الجريدة عن هذا الخطاب أنه أبكى العيون من الحزن واللوعة على الفقيد الغالي.
خطاب المربي الكبير الأستاذ أحمد صندوق
سألونا أن كيف نحن فقلنا | من هوى نجمه فكيف يكون |
نحن قوم أصابنا حدث الدهر | فظللنا لريبه نستكين |
نتمنى من الأمين أيابا | لهف نفسي وأبت منا الأمين |
أجل هكذا فليكن غروب الشموس، بين سفر مسطور ورق منشور، وكاغد ومداد وأقلام حداد فمن ذا الذي حي حياة الأمين، ومن ذا الذي مات ممات الأمين.
ولكن دعوني أتساءل:
ألم يرع الإسلام موت نصيره | بلى حق أن يرتاع من مات ناصره |
أفي مثل هذه الظروف العصيبة والأفق يبرق ويرعد والعاصفة تثور والفتن كقطع السحاب والأعداء محكمة أمورها تتواثب كالذئاب متحلبة الأفواه بادية الأطماع كاشفة القناع يخلي الليث عرينه موطئا للطامعين ويترك أشباله طعمة للآكلين..
الآن ونحن أحوج ما نكون إلى العلماء العاملين والعبقرية الجبارة والمثالية المحضة والعقول المفكرة والربابنة الماهرة يقودون سفينة حياتنا إلى شاطئ الأمن نصاب بالسابق المجلي آية الله في الأرض وحجته على الخلق...... سيد ربيعة ومضر، حفيد خاتم الأنبياء، وسليل سيد الأوصياء، ويعسوب الأتقياء، وعميد من أنجبت البضعة الزهراء، الإمام المحسن الأورع، والشجاع المعلم الأروع، هذا الذي حمل لواء الشريعة الغراء، فكان نعم الحامل، وسار به قدما سير آبائه الأئمة الطاهرين، على السنن الواضح، والمحجة البيضاء، وشق طريقه بين أعاصير الكائدين والعابثين، فأتم الله نوره على كره منهم وكشف عن مكنون ذخائرها، ونفى عنها الأدران والأوشاب، وأبرزها للملأ ناصعة سهلة سمحاء، تدعو إلى التآلف والتعاون على البر والتقوى، والتنافس في فعل الخيرات ومكارم الأخلاق، فتوحيد الله منبثق عنه توحيد الكلمة والصفوف.. ثم العزة والقوة، وكل ما فيه سعادة الدنيا والآخرة.
نعم هكذا فليكن غروب الشموس. لقد ماجد فمجد، وقارع فقرع، وصاول حتى لم يجد من مصاول وناضل حتى لم يجد من يناضل، كل ذلك بلسان هو العذب الزلال، وبيان هو السحر الحلال، تتفجر الحكمة من جوانبه، ويشح نور الحق من أكنافه. لا لغاية إلا رفاهية الإنسانية، ووجه الله، وخدمة الحق.
فمن ذا الذي حمى حياة الأمين ومن ذا الذي مات ممات الأمين.
وأنت يا مولاي: إن لساني لا يطاوعني لأقول: أيها الراحل الكريم (فالراحل غيرك) لا أنت. أنت الخالد المقيم في سويداء القلوب وحبات الأحداق. أنت الخالد في النفوس والأفكار خلودك في ملكوت السموات.
أنت الخالد في آثارك، في فتاواك في أسفارك وتصانيفك، في معاهدك التي أنشأتها. في جمعياتك التي ألفتها، في هذا الحي الذي نفخت فيه روح النهضة، في هذا الشباب الذي رفعته إلى قمة المجد، في هذا النشء الذي كفلته ورعيته وهذبته وثقفته. في كل ما قدمت من أعمال صالحة. في كل ما قمت به من مشاريع نافعة.
أجل.. إن خلودك ليتمرد على الزمن ولن يتطرق إليه الوهن. فإذا استطاع الدهر يوما أن يعبث بهرم خوفو الأكبر وتمثال أبي الهول وما إلى ذلك من آثار كل عظيم. فإن ذكرك ليعجزه على حوله وطوله أن يعفي آثاره أو يطفئ أنواره.
سيدي: لقد فدح الخطب فاستطير اللب وارتج على البيان فكبا القلم وعثر اللسان. ومثلك لا يبكى بالدموع ولا يرثى بالشفاه ولا توفيه حقه الألسن وأن هذه القلوب التي عمرتها بفيض من الإيمان الصادق ورضتها على الصبر والتسليم تقف الآن واجفة تغمرها روعة المصاب وتصدعها صدمة الأسى ثم تفيض مهجها بالنجيع ترسله الأعين معربة عن شعورها بالألم العميق ولسان حالها يقول:
آه ماذا نودع الأرض التي | رمق العالم فيها أودعا |
صاحب النعش الذي قد رفعت | بركات الأرض لما رفعا |
فأسلناها على إنسانها | حدقا وهي تسمى أدمعا |
وعقرناها حشى حول حشى | يتساقطن عليه قطعا |
ونضحناها ولكن مهجا | صنع الوجد بها ما صنعا |
فإلى يثرب بي أن بها | سيد الحي المعزى أجمعا |
قف بها وانع قريشا كلها | فقريش اليوم قد ماتوا معا |
وأخيرا نسأل المولى الذي فجعنا بفقدك أن يجعل لنا من أشبالك الأفاضل وذويك الأماجد خير سلوة وعزاء رضي الله عنك وأرضاك فاذكرنا عند ربك واجعلنا من همك.
وقالت جريدة القبس بعنوان:
الموكب الجليل لنقل جثمان المجتهد الأكبر يخترق شوارع العاصمة إلى مقره الأخير أمام ضريح السيدة زينب، موكب هائل يسير من العاصمة حتى ضريح السيدة زينب في خشوع وجلال.
غصت باحة المدرسة المحسنية وأبهاؤها صباح أمس بالوفود التي زحفت إليها من مختلف أنحاء العاصمة وشتى المدن السورية واللبنانية للاشتراك في تشييع جثمان المغفور له العلامة المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين، وكان الجثمان الطاهر في إحدى غرف المدرسة، محروسا برجال الشرطة طيلة الليلة السابقة وحتى موعد التشييع. وقد وصلت إلى العاصمة أمس وفود كثيرة جديدة من العراق وسورية ولبنان، وكان قراء القرآن الكريم يرتلون الآيات البينات، فتنقلها مكبرات الصوت إلى الشوارع المحيطة بالمدرسة حيث ازدحمت الجماهير لوداع الراحل الكبير.
الوفد اللبناني يشكر
وفي تلك الأثناء كان رئيس الدولة يستقبل رئيس المجلس النيابي اللبناني، ووزير الأشغال العامة وممثل فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، ووزير الدعاية والأنباء ممثل دولة رئيس الوزارة اللبنانية ووفد من كرام اللبنانيين الذين أعربوا لدولته عن الشكر الجزيل لما أبداه من اهتمام في تشييع الفقيد الكبير وكان بين أعضاء الوفد اللبناني الرسمي فضيلة الأستاذ الشيخ محمد علايا مفتي الجمهورية اللبنانية.
برقيات ملوك المسلمين وزعمائهم
وقد توافد على الدار بالإضافة إلى الوفود الكبيرة، الوزراء المفوضون للدول العربية والإسلامية وقد تلقى وزير إيران المفوض برقية من حكومته لتمثيلها في موكب التشييع.
وتلقت لجنة التشييع ألوف البرقيات بينها برقيات من ملوك المسلمين ورؤسائهم وكبار رجالات الهند والباكستان والأفغان وإيران والعراق ومصر ولبنان والأردن.
مغادرة المدرسة المحسنية
وفي الساعة الحادية عشرة، حمل نعش الفقيد الكريم على الأكف، وكان رجال الشرطة قد اصطفوا على جانبي شارع الأمين، وتقدم طلاب الكلية الشرعية في صفين من الجانبين وسار خلفهم طلاب المدارس، وعندما خرج النعش محمولا على الأكف، كانت اللوعة قد أسالت الدموع فتحرك الموكب بخشوع بالغ وجلال عظيم في اتجاه المسجد الأموي.
وسار خلف النعش الذي لف بالعلم السوري وتقدمته علبة زجاجية تحمل الوسامين اللذين منحتهما للراحل الكريم حكومتا سورية ولبنان، وهما وسام الاستحقاق السوري الممتاز ووسام فارس من الدرجة الأولى اللبناني - سار خلف النعش مباشرة آل الفقيد يتقدمهم أبناؤه السادة: محمد باقر وحسن وجعفر وهاشم وعبد المطلب يتلوهم ممثلو رجال الدولة الدكتور خالد شاتيلا الأمين العام لرئاسة الدولة، والدكتور أنور حاتم الأمين العام لرئاسة مجلس الوزراء والعقيد جميل رمضان ممثل الأركان، وتبعهم أعضاء لجنة التشييع فرجال الدين من مختلف الطوائف، فوفود المدن السورية واللبنانية فرجال المدينة وكان الموكب يموج بالكتل البشرية وكانت الجموع تتزاحم بالمناكب وتسير في خشوع وجلال، وقد أغلقت الأسواق التي مر بها الجثمان، وهي أسواق: الأمين، مأذنة الشحم، البزورية، السلاح، الصاغة.
التعازي في الباب الصغير
وقد صلي على الجثمان في المسجد الأموي، ثم نقل محمولا على الأكف، من طريق سوق الحميدية التي أغلقت متاجره، فشارع الدرويشية، فمقبرة الباب الصغير، وهناك أنزل النعش، ووقف آل الفقيد يتقبلون التعازي من وفود المشيعين. وعلى الأثر نقل الجثمان إلى سيارة صحية في طريقه إلى قرية السيدة زينب حيث ترقد حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعتها مئات السيارات ناقلة الألوف لتوديع الفقيد العظيم في مقره الأخير.
وتقدمت موكب السيارات سيارة جيب يمتطيها عدد من رجال الدرك، فكوكبة من راكبي الدراجات النارية وسارت خلفه سيارات اللجنة الرسمية للتشييع، فسيارات وفود الدول العربية والإسلامية ورجال السلك السياسي العربي والإسلامي والأجنبي فسيارات المشيعين فسيارة جيب يمتطيها بعض رجال الدرك.
في مقام حفيدة الرسول صلى الله عليه وسلم
وعندما وصل الموكب إلى روضة السيدة زينب أدت قوة من رجال الدرك التحية لجثمان الفقيد، ثم أدخل الجثمان إلى الروضة ريثما استراح المشيعون قليلا، وهنا ألقى فضيلة الأستاذ الشيخ علي الجمال كلمة شكر فيها رجال الدولة في سورية ولبنان والذين ساهموا في التشييع وعلى الأثر نقل جثمان الفقيد العظيم إلى مقره الأخير بجوار ضريح السيدة زينب ووقف آل الفقيد يتقبلون التعازي.
وكان جثمان الفقيد الكبير قد وصل من بيروت إلى الحدود السورية في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر الإثنين تواكبه مئات السيارات، وقد استقبله على الحدود رجال لجنة التشييع الرسمية والوفود الشعبية وأديت للجثمان التحية الرسمية، ثم سار الموكب وكان مؤلفا من أكثر من ألف سيارة فضلا عن عشرات سيارات النقل الكبيرة نحو العاصمة.
وعند وصول الموكب العظيم إلى مدخل المدينة اخترق شوارع بيروت، جسر فكتوريا، الحجاز، النصر، الدرويشية، مدحت باشا، الأمين ثم استقر في المدرسة المحسنية.
وفي مساء نفس اليوم زحفت وفود المدينة تعزي آل الفقيد الكبير وطائفته وتليت آيات القرآن الكريم حتى الصباح.
الوفود تقدم التعازي
وفي المساء قصدت الوفود الغفيرة دار المدرسة المحسنية الكبيرة مقدمة العزاء في الراحل الكبير الذي شعر المسلمون بالفراغ الهائل الذي خلفته وفاته.
ونحن نكرر هنا تعازينا الحارة للطائفة الشيعية ولأسرة الفقيد الكبير وللعالم الإسلامي بفقد هذا الركن الركين والآية العظمى في الدين.
ونشرت الصحف أبرز برقيات التعزية فقالت العصر الجديد تحت هذا العنوان:
الملوك والرؤساء والعظماء والزعماء في العالم العربي يعزون بفقيد العروبة والإسلام المجتهد الأكبر العلامة السيد محسن الأمين.
لا تزال المدرسة المحسنية في شارع الأمين تتلقى ألوف برقيات التعزية يوميا من مختلف البلدان العربية والإسلامية وكلها تحمل الحزن واللوعة على المجتهد الأكبر فقيد الإسلام والعروبة السيد محسن الأمين لما كان يتمتع به رضوان الله عليه من المكانة والاحترام في جميع البلدان العربية والإسلامية وقد رأينا من الواجب الصحفي نشر طائفة من هذه البرقيات.
وقالت جريدة دمشق- المساء.
رجل العرب والإسلام شيعته الدنيا بين الحسرات والزفرات.
شيعت دمشق اليوم، سماحة المجتهد الأكبر المغفور له السيد محسن الأمين في مواكب كبرى وزحام كأنه الحشر من المدرسة المحسنية إلى الجامع الأموي الكبير حيث صلي على روحه الطاهرة، ثم إلى مقبرة الباب الصغير ثم إلى دوحة السيدة زينب رضي الله عنها.
وشهدت دمشق في أصيل أمس الباكي الموكب الزاخر وهو يدخل دمشق قادما من لبنان في أكثر من ألف سيارة تحمل العرب والمسلمين الباكين المفجوعين بانتقال الرجل العظيم من دار الفناء إلى دار البقاء وجنات النعيم المقيم التي وعد الله بها عباده المتقين، واشتركت سورية ولبنان والعراق وإيران وأكثر الدول العربية والإسلامية رسميا وشعبيا في تشييع جثمان الرجل الذي انصرف إلى الله والعبادة والتقوى والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طيلة سبعين عاما، كان خلالها المصلح الأكبر والمجتهد الأمين، والمؤمن بالله جل شأنه والمقتدي بسنة رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كتابه القرآن ودينه الإسلام وحياته مآثر وفضائل وأخلاق ومروءات، وتقشفه تقشف الأولياء الصالحين الذين لم يغرهم زخرف الدنيا ولم يستملهم جاها ولم يلمع في عيونهم بريقها.
كان الفقيد العظيم للمسلمين والعرب جميعا، لا لطائفة دون طائفة ولا لفريق من المسلمين والعرب دون فريق، وكان المسلمون يزدحمون في مصلاه ومحرابه وزاويته الزاهدة التقية يصغون في رهبة الخشوع وفي احترام الموقف وفي جلال المحدث إلى حديثه ومواعظه وإرشاده وإلى نصائحه ودروسه، ويرون إلى ما كان عليه الرجل العظيم من تواضع وتسامح ونبل فيذكرون السلف الصالح والمؤمنين الصادقين والوطنيين المجاهدين في سبيل نصرة الإسلام والذود عن حياضه وإعادة أمجاده وبطولاته وأوامره ونواهيه سيرتها العطرة المجيدة الأولى.
اليوم، بين مواكب البكاء والأنين، وفي موجات متدافعة من الحسرات والزفرات، شيع العرب والمسلمون في الدنيا رجل الإسلام الحق الصادق المغفور له السيد محسن الأمين.
وقالت يوم الأسبوع:
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها | وانحنى الشرق عليها فبكاها |
العالمان العربي والإسلامي في موكب تشييع المجتهد الأكبر.
بكى العالمان العربي والإسلامي، في الأسبوع الماضي، الفقيد العظيم المغفور له السيد محسن الأمين الحسيني المجتهد الأكبر، وشيعته سورية ولبنان ووفود الدول العربية والإسلامية إلى مقره الأخير في روضة السيدة زينب رضي الله عنها في مواكب من دموع تزحم مواكب من حرقة ولوعة وحسرة، وذكر المسلمون في سورية سيرة هذا الرجل المؤمن الذي عاش في دمشق الخالدة عيشة السلف الصالح والأولياء الزاهدين والعلماء المجتهدين والزعماء البررة المصلحين والتفت الدمشقيون على اختلاف طوائفهم، إلى مدرسته وزاويته ومحرابه، إلى داره المتواضعة المتقشفة التي كانت محجة كل مواطن، ينعم في ظلها الهادئ وجوها المطمئن بحديث رجل الله الذي عزف عن الدنيا ومباهجها وزخرفها ليهدي الناس السبيل السوي ويبشر بكتاب الله القرآن وسنة رسوله النبي العربي القرشي، وليدعو الناس إلى الخير والحق والصدق، لقد كانت زاوية الفقيد الأمين والمجتهد العظيم ملتقى الذين أحبوا النور وخشعوا للوحي وانحنوا خاشعين للإيمان بوحدانية الخالق وللإخلاص في الدعوة إلى الرسالة المحمدية والحياة الفاضلة النموذجية، وإلى الطهارة والعفة والصفاء من كل حقد وغل وبغضاء.
رحم الله المجتهد الأكبر وأجزل ثوابه، وأحسن إلى روحه الطاهرة إحسان المجتهد الأكبر إلى العرب والمسلمين كافة، وعوض الله العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الإمام الحق الصادق الذي يخلف الإمام الحق الصادق الذي طواه الموت وخلده في الصدور والألباب الإيمان والعلم والخلق والأدب والإباء والجهاد المخلص في سبيل الله.
وقالت جريدة القبس:
الرجل الذي ودعه العالم الإسلامي كنز ثمين من العلم الصحيح والوطنية المثالية.
شيعت دمشق أمس، وشاركتها في التشييع البلاد العربية والإسلامية جثمان المغفور له آية الله السيد محسن الأمين المجتهد الأكبر، وقد عرفت العاصمة السورية فقيد العالم الإسلامي كما عرفه المسلمون في جميع أقطار الأرض، الحجة الدامغة في الفقه والعلامة الكبير، والمصلح الاجتماعي الذي قضى عمره في العلم والأدب، لم يلجأ إلى راحة أو هدنة بل كان وقته كله مقتطعا للتأليف ونشر العلم وتنمية مدارك الأجيال التي عاصرها، وتوجيه النصح والإرشاد لقادة المجتمع، وتقوية الروح الوطنية في كل مكان زاره أو حل به، أو اتصل بزعمائه وموجهيه. وكان إلى جانب ذلك الرجل الزاهد الذي لم يعش لنفسه قط، بل عاش للمسلمين جميعا، وعمل على توحيد كلمتهم ورفع شأنهم، وتعزيز مكانتهم، وإيصال الدين الحنيف إلى قلوبهم، كما كان الحجة المقنعة في النقاش، بل ولقد كان المنتصر في أية مناقشة تجري حول شؤون الفقه وأصول الدين.
وكان الراحل العظيم يعتمد على موارد مؤلفاته وهو الذي يستطيع أن يكون أغنى الأغنياء تحيطه قلوب الملايين وتنفذ رغباته لو أراد ولكنه فضل أن يعيش لغيره وكان يجد لذة عندما تخرج له المطابع كتابا جديدا يفيد الناس ويوضح لهم الغامض من أمورهم ويرشدهم إلى الطريق الصحيح ولقد أوصى قبل موته بأن تدفن معه دواته النحاسية وأقلام القصب التي كان يكتب بها كأنما كان يخشى أن لا ترافقه المحبرة والأقلام التي لازمته طيلة حياته في مماته أيضا.
وكان البند الثاني في وصيته أن يجمع ثمن الكتب التي تباع من مؤلفاته المطبوعة وعددها 65 كتابا معظمها من الحجم الكبير أوصى أن يجمع لتطبع به مؤلفاته غير المطبوعة وهكذا عاش الرجل للعلم ومات وهو يفكر في نشر العلم وزيادة الثقافة الدينية في العالمين الإسلامي والعربي.
لقد كان موكب تشييع جثمانه الطاهر أمس الدليل الساطع على المكانة العليا التي كان سماحته يحتلها في قلوب العرب والمسلمين، المكانة التي نالها بعلمه وفضله ووطنيته وجهاده: فإذا ساهمت البلاد العربية والإسلامية في تشييعه ورثائه وعم الحزن والأسى جميع الأوساط عليه فإن هذه البلاد تفيه بعض حقه، وتقدم إليه جزءا يسيرا مما يستحق.
كان الفقيد العظيم إلى جانب احتلاله المكانة الأولى في الصفوف الأولى لرجال التوجيه والإرشاد والعلم الصحيح مناضلا وطنيا رفع صوته ضد الاستعمار والمستعمرين وقاومهم ببسالة وشجاعة وظل على موقفه حتى خروج آخر أجنبي عن سورية ولبنان وحتى غدا استقلال البلدين لا ريب فيه ولا أثر لغير أبنائه في السهر عليه ورعايته.
إن الفقيد الكبير كنز ثمين من العلم والوطنية الصادقة التي لا زيف فيها، وينبوع صاف من المعرفة الموجهة التي تحسن إلى الناس وتعلمهم سبل الحق والخير والرشاد، ولقد انحنى الألوف أمس بخشوع وجلال أمام الضريح الذي ضم الرجل الخالد يرطبونه بالدموع ويبتهلون إلى العلي القدير أن يسكنه فسيح جنانه وأن يعوض المسلمين خيرا عن فقيدهم الذي لا يعوض. بينما كانت ملايين المسلمين في شتى أقطار الأرض تبتهل إلى الله أن يتغمده بالرضوان في دار الخلود الدائم.
ونعته جريدة الأيام قائلة:
فاجعة العالم الإسلامي بالمجتهد الأكبر، كان ملاذا يلوذ إليه المجاهدون.
فجع العالم الإسلامي بفقد رجل من أعظم رجال العلم، ومن أكابر المشرعين المجتهدين هو المغفور له السيد محسن الأمين فقد وافته المنية في بيروت عن عمر ناهز التسعين.
وكان المجتهد الأكبر السيد الأمين من العلماء الأعلام بقية السلف الصالح تلقى علومه الابتدائية في جبل عامل ثم سافر إلى بغداد فالنجف الأشرف وانكب على العلم والمعرفة، فنال درجة المجتهد الأكبر، لكثرة ما درس من علوم الدنيا والدين، واشتهر بعد ذلك ولمع نجمه في الخافقين، وعاد إلى دمشق فبقي فيها فترة طويلة يعلم ويفتي المسلمين في أمور دينهم وتخرج على يده أساطين العلماء الأعلام في الشرق العربي، ثم انتقل بعد ذلك إلى جبل عامل حيث انكب على التأليف ونشر حوالي ستين مؤلفا من أحسن المؤلفات، وكانت له غفر الله له، ميزة من أعظم المزايا ألا وهي عدم التعصب الذميم، وفضح الخرافات التي كانت شائعة في عهد العثمانيين وتعريف الدين الإسلامي على حقيقته دون زيف أو دجل أو اختلاف وهو إلى جانب هذه كله. وطني من أعاظم الوطنيين وله مواقف مشهودة ضد الفرنسيين في سورية، عندما كان يجأر بالحق أمامهم ويندد بأعمالهم ويدافع عن استقلال سورية وحريتها دفاع الأبطال وكم من مرة أحرج الفرنسيين فلم يستطيعوا أن ينالوه بسوء لعظم مقامه وكبير شأنه، وله الفضل الكبير في تأجيج الثور ضد الاستعمار، وكان ملاذا يلوذ إليه المجاهدون الأبرار وعمادا يعتمد عليه في جميع الملمات، وكانت الطائفة الجعفرية المسلمة موضع عنايته وتوجيهه ورعايته، مما أكسبها الحب والعطف، والمزيد من المعرفة.
وقد طيرت البرقيات من جميع أنحاء العالم الإسلامي معزية بالفقيد الأكبر ووصلت الوفود إلى دمشق من مختلف الأقطار للاشتراك بتشييع جثمانه، ورافقت جثمانه الطاهر من لبنان وفود غفيرة وجماهير عديدة للتشرف بالاشتراك في تشييع جثمانه وقد اشتركت الحكومة السورية رسميا بالتشييع وأوفد دولة الرئيس أمين الرئاسة لتمثيله وتوافدت من سائر الأنحاء إلى دمشق يوم الثلاثاء جماهير غفيرة حيث شيع الفقيد باحتفال مهيب مشى فيه كبار الشخصيات السياسية والعلمية والهيئات الاقتصادية والتجارية وصلي على الجثمان في جامع بني أمية ودفن في مقبرة السيدة زينب رضوان الله عليها ووري التراب بين الأسى والحسرات والدموع. لقد أفل نجم العلم والعرفان بوفاة المجتهد الأكبر. رضي الله عنه وأرضاه وأسكنه جنات عدن تجري من تحتها الأنهار أعدت للمتقين.
وقالت جريدة العصر الجديد:
كان رسول الوطنية والتقريب، ثلاثة أجيال من العلم تدفن في التراب.
اليوم تسير دمشق وتسير وراءها بيروت ويسير وراءها جبل عامل وتسير وراءها سوريا ولبنان والعراق وإيران والباكستان والهند بل يسير العالم العربي والعالم الإسلامي ممثلا في علمائه وفي رجاله الرسميين الحكومات والسفراء والبعثات وكبار رجال المال والأعمال والتجار والصناع والزراع ومختلف الطوائف والمهن وتسير الجماهير والمواكب خلف نعش فقيد العروبة والإسلام الغالي، رجل الدين والعلم والأخلاق والفضيلة والتقوى، والصلاح والورع والزهد، المجتهد الأكبر العلامة السيد محسن الأمين، لتودعه الوداع الأخير، ولتقوم نحوه بأقل الواجبات المفروضة نحو كبار رجال الدين، وكبار رجال العلم الأتقياء الصلحاء الشرفاء.
لم يكن السيد محسن الأمين فقيها في الشريعة الإسلامية فقط، ولا مجتهدا في المذهب الجعفري فحسب الذي هو أقرب مذاهب الشيعة إلى مذهب أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه الذي أخذ عن جعفر الصادق صاحب المذهب الإسلامي المشهور، نعم لم يكن السيد محسن عالما ومجتهدا فقط وإنما كان صاحب رسالة بشر بها وعمل لها طيلة حياته الطويلة الحافلة بجلائل الأعمال وعظائمها، لقد قرب السيد محسن بين الجعفريين والسنيين وبدد تلك الأوهام السائدة التي كانت تفرق بين المذهبين الكريمين، وحمل البسطاء من الجعفريين أن يتركوا الخرافات التي جاءت بها الوثنية وأدخلتها على مذاهب السنة ومذاهب الشيعة مجتمعة واتخاذ المذاهب الإسلامية من قبل الطامعين من رجال السياسة، من أجل الخلافة ومن أجل السلطان.
لقد عمل فقيدنا الغالي لهذه الغاية النبيلة طيلة حياته فكان موفقا في دعوته موفقا في جهاده موفقا في رسالته.
وقد ساهم رضي الله عنه في الثورة الوطنية على فرنسا، وفي النهضة الوطنية التي حمل دعوتها رجال الرعيل الأول فلقوا في كنفه كل عون وفي جاهه كل تأييد فكان رسول الوطنية كما كان رسول الحرية يصرخ في وجه الظلم ويعمل لهدم الاستعمار البغيض!
أننا إذ نلقي النظرة الأخيرة ننحني بخشوع واحترام على الجسد الطاهر الذي لم تفسده أغراض الدنيا ولم تلوثه أعراض المادة.
إننا نشيع اليوم ثلاثة أجيال من العلم الصحيح، نشيع عالما مجتهدا قل أن يجود الدهر بنظيره، وهو البقية الباقية من السلف الصالح رضي الله عنه، لندفنه تحت أذرع من تراب في ضواحي دمشق الخالدة.
نشيع العالم والمجتهد الذي أحبته دمشق وأحبته بيروت وأحبه جبل عامل وأحبه جميع العرب والمسلمين، إلى مرقده الأخير، إلى جوار السيدة زينب أخت الحسين شهيد كربلاء ابن علي رضي الله عنه وابن فاطمة البتول بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي ذمة الله مجتهدنا الأكبر، وفي ذمة الخلود سيدنا ومحسننا وأميننا، والى جوار أهل البيت الشهداء والصالحين الأبرار، {يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي}.
في بغداد
وكذلك فعلت جميع صحف العالم العربي فقد قالت جريدة النبأ البغدادية تنعاه تحت هذا العنوان:
رزء إسلامي كبير، سماحة الإمام محسن الأمين في ذمة الله.
استأثرت رحمة الله يوم أمس بعلم من أعلام الدين الإسلامي الحنيف ورجل من رجال البر عاش محبوبا. وقطع طريق الحياة في تسعين عاما أو تنقص قليلا ساعيا في الخير مخلصا حياته للعلم والدين والدعوة إلى الإصلاح فلما دعاه الله إلى جواره استقبل وجه ربه راضيا مرضيا، ذلك هو سماحة الإمام الكبير السيد محسن الأمين العاملي مؤلف الموسوعة التاريخية العظيمة "أعيان الشيعة" ووالد الشاعر العربي المعروف الأستاذ حسن الأمين والأديب الموهب السيد عبد المطلب الأمين.
وقد ولد سماحة الإمام الفقيد في جبل عامل سنة 1284 للهجرة وبهذا يكون قد عمر سبعة وثمانين عاما أنفقها في تثبيت أسس الدين في النفوس وإيضاح الرسالة الإنسانية النبيلة التي جاء بها الإسلام لإقامة مجتمع فاضل سعيد. وقد قضى سماحته صدر حياته طالبا للعلم في مدارس جبل عامل فلما بلغ الشباب هاجر إلى النجف الأشرف ينتجع العلم في مواردها العذاب على أبدي كبار مجتهديها ويستمد عمقا في الإيمان وشغفا بالحرية من النور المتوهج من قبر البطل أبي الأبطال الإمام علي (عليه السلام)، حتى إذا أتم تحصيله وبلغ فيه مبلغ الاجتهاد الكامل وأجيز بالفصل بين الناس وتعليمهم أصول دينهم عاد إلى لبنان ناهضا بأعباء رسالته الدينية ردحا من الزمن استقر بعده في الشام يعلم ويرشد ويؤلف حتى تمخضت جهوده الكريمة في المجال الاجتماعي عن توثيق روابط الحب والتعاون بين تابعيه وغيرهم وعن مؤسسة علمية بعيدة الأثر هي المدرسة المحسنية للبنين والبنات. وكما أخلص حياته للدين وهبها كذلك للعلم والتجرد للسعي وراء الحقيقة فكان ثمرة جهده في هذا الباب كتابه الخالد "أعيان الشيعة" الذي أتم منه للآن 35 مجلدا ولم يصل إلى منتصفه وقد أعجله الموت عن إكماله.
هذا وقد استأثرت بروحه رحمة الله وهو في بيروت ونقل جثمانه في موكب مهيب إلى دمشق حيث يوارى التراب هذا اليوم في جوار ضريح السيدة زينب وستخرج الشام كلها لتشييعه. وقد تناقلت الإذاعات العربية نبأ وفاته وأفاضت في الحديث عن أياديه البيضاء ومآثره الجمة في خدمة الإسلام والمسلمين.
إن الفراغ الذي تركه الفقيد كبير لا نحسب أن من الممكن ملأه في القريب العاجل على الأقل فقد كان سماحته مجاهدا في صمت عاملا في هدوء مخلصا في عقيدته ثابتا عليها متفانيا في خدمتها لم يرعه ظلم ولا بغي، فمضى في طريقه قدما حتى أدى رسالته على وجهها الأمثل فكانت آثاره بارزة في كل شيء، ولهذا كله كانت الخسارة به عظيمة والمصاب به أليما.
لقد كانت حياته وجهاده مثالا نبيلا للرجل الكريم الذي يعرف كيف يجاهد وكيف يتألم وكيف ينتصر بحكمة وهدوء وثبات وبعد نظر وتقدير صحيح للنتائج والمقدمات فلم يهن يوما ولم يتراجع ولم ينكص يوما عن عقيدة اعتقدها وإيمان طوى جوانحه عليه.
إن النبأ إذ تعزي العالم الإسلامي بهذا المصاب الأليم لا يسعها إلا أن تتقدم بخالص العزاء إلى أسرة الفقيد الكبيرة ولاسيما الصديقين الكريمين حسن الأمين وعبد المطلب الأمين نجلي الإمام الفقيد تغمده الله بواسع رحمته وجعل في حياته نبراسا يهتدي به المسلمون في الظلمات الداجية التي يدرجون تحتها الآن.
هذا وقد حمل إلينا البرق البرقية الآتية من دمشق:
جريدة النبأ بغداد:
ننعي إلى العالم الإسلامي والعربي آية الله العلامة السيد محسن الأمين {إنا لله وإنا إليه راجعون}
لجنة التشييع
وقالت جريدة الأمة البغدادية:
آية الله العلامة السيد محسن الأمين في ذمة الخلود
روع العالم العربي والإسلامي يوم أمس بنعي ركن وطيد من أركان العروبة والإسلام وعلم من أعلام الجهاد الحق ذلكم هو المغفور له المرحوم آية الله العلامة الكبير السيد محسن الأمين العاملي، فقد دعاه الله إلى جواره فاستجاب راضيا مرضيا ومضى إلى رضوانه تعالى نقي الصفحة طاهر الذيل محمود الذكر، تاركا وراءه تاريخا حيا حفلت صفحاته المشرقة بأرفع الأمجاد والمثل العليا.
ولئن تحسس العرب والمسلمون اليوم فداحة الخطب وعظم الخسارة بانطواء صفحة السيد الأمين. ولئن بكوا بدم لا بدمع تعبيرا عما تحسسوا به، فذلك جزء يسير مما يمكن أن يقابل به نعي رجل وهب نفسه وما يملك في سبيل أمته وبلاده وأفنى حياته في خدمة دينه وابتغاء مرضاة ربه وكان الشهاب الذي شع بالهداية في آفاق العالم العربي والإسلامي فأنار للجيل الذي عاصره مسالك العمل الصالح وفتح للأجيال المقبلة طرق الجهاد والتضحية وظل كذلك نيرا حتى وافاه الأجل المحتوم.
والتاريخ اليوم إذ يحتضن صفحة السيد الأمين ويحلها الصدارة بين صفحات أولي الفضل والعلم والتقوى من رجال الإسلام، فإنه سيظل دائما وأبدا يذكر أيادي السيد البيضاء ومآثره الخالدة وتضحياته الغالية في سبيل العروبة والإسلام، فقد كان عطر الله ثراه حركة متواصلة لا تهدأ ولا تستقر وكان على رغم شيخوخته المضنية لا يفتأ يواصل الجهد والمسعى لأداء رسالته السامية، فكان يعقب ويؤلف ويؤرخ ويمد الجيل بالرأي الصائب والموعظة الحسنة والتوجيه السليم، وكان إلى جانب كل ذلك شعلة وطنية تحدو الركب العربي والإسلامي إلى حيث المستقبل الحافل بالرفعة والعظمة وحسن المصير.
إنها والله لنكبة كبرى أن يفتقد العرب والمسلمون السيد الأمين في مثل هذه الظروف الحالكة، وأنها لمصيبة تدمي النفوس وتحز في الأفئدة أن ينهار من الإسلام هذا الركن الشامخ فيترك فراغا كبيرا يستحيل أن يملأ وأنها لكارثة أن يحم القضاء ويعز العزاء، فإلى جنات الله أيها الفقيد الغالي وفي أعلى عليين في الخالدين إلى يوم الدين، وعزاء للعروبة والإسلام على هذا الخطب الفادح والنازلة الأليمة، {إنا لله وإنا إليه راجعون}
صدى الوفاة في المهاجر
أما صحف المهاجر العربية، فلم تكن أقل اهتماما من صحف العالم العربي ذاتها بوفاة الفقيدة فقد كتب الكثير في هذا الموضوع، ونذكر من ذلك ما كتبته جريدته "العلم العربي" الصادرة في مدينة "بونس إيرس" عاصمة الأرجنتين، في افتتاحية عددها يوم الخميس 23 رجب 1371ه الموافق 17 نيسان 1952م تحت عنوان:
مات السيد محسن الأمين
بهذه الكلمات الأربع ننعي إلى قراء "العلم" المؤرخ الكبير، والمؤلف الشهير، والحبر الشريف، والسيد الغطريف السيد محسن الأمين الحسيني العاملي تغمده الله برضوانه بهذه الكلمات الوجيزة ننعي علما من أعلام هذه الأمة لم يمد يدا، ولا راحة إلا إلى الأقلام والمهارق.
مات إمام جمع إلى فضيلة العلم شرف النسب والحسب، شرف ناطح السحاب، ونسب كالشمس رأد الضحى، ينتمي إلى أشرف سلالة وأزكى شجرة في الإسلام الشجرة الزكية العلوية، والدوحة المقدسة الفاطمية.
مات من حرر الدين من آفاته وشوائبه، ومحا البدع في الإسلام، وهاجم الرجعية والخزعبلات الدينية ونشر ألوية العلم في ربوع الوطن، وأخرج من كنوز العلم كل دفين.
مات من حارب دعاة السوء المحذلقين وحرر العلم من الجهل المطبق، وأطلق حرية الاجتهاد وسار في مواكب الحضارة والمدنية، تاركا مجدا لا يزول وهو مجد العلماء العاملين.
جاهد السيد محسن الأمين من مهده إلى لحده، من عشه إلى نعشه لاتحاد الطوائف الإسلامية وإزالة ما بينها من فوارق تاركا خلفه جيشا من التلامذة، والأساتذة يبكون أستاذهم الفيلسوف والعالم والمؤلف والناظم والناثر، والإمام المرشد، المصلح والوالد الروحاني للجميع.
كان أستاذنا الراحل الكريم قائدا من قادة الوطنية، قبل أن يكون قائدا دينيا إذ في كل وثبة من وثباته الوطنية في الظروف الماضية ألف دليل على أن الدعوة الوطنية كانت دعوته المثلى وأنه كان فارسها المعلم أننا نقر بالعجز عن التحدث عن شخصية من أبرز الشخصيات لها علينا وعلى الآلاف مثلنا فضل التربية والعلم.
وبعد أن نشرت وصفا ضافيا للتشييع قالت:
وقد حدثنا صديقنا الأستاذ ناظم ضبيان الكيلاني الذي شاهد حفلة تشييع الجثمان فقال:
لم تر عيني ولم تسمع أذني شعبا من شعوب العالم شيع رجلا كما شيع الشعبان السوري واللبناني، حكومة وشعبا جثمان الفقيد السيد محسن الأمين.
وقالت مجلة الرفيق الصادرة في بونس إيرس:
الحفلة التذكارية الخالدة لأربعين فقيد العروبة والإسلام الإمام الحجة السيد محسن الأمين
بجلال الروعة ورهبة الذكرى أقيمت الحفلة التذكارية الكبرى لأربعين فقيد العلم والدين المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين في العاصمة، وذلك مساء الأحد 11 أيار الماضي بنادي جمعية الحلف العربي بهذه العاصمة وبرعاية الجمعيات الثلاث الحلف العربي والتعاضد العربي الأرجنتيني (التعاضد الإسلامي سابقا) ونادي الشباب العربي الأرجنتيني، والجمعيات المنضمة والتي تمثلت في الاحتفال هي: الجامعة العلوية الخيرية. الجمعية الخيرة العلوية. الشباب العلوي. التضامن العربي والاتحاد الإسلامي "روساريو". الجامعة الإسلامية "توكومان". الشبيبة العاملية الإسلامية والبيت العربي الأرجنتيني والجامعة العلوية (باريسو) وغيرها. وما أزفت الساعة الرابعة من عصارى يوم الأحد المذكور حتى كانت قاعة الجمعية غاصة بالمحتفلين يتقدمهم سعادة المستشار اللبناني في العاصمة وسعادة قنصل لبنان وسكرتير السفارة المصرية يرافقه المعاون الأستاذ حسن مطر وغيرهم من رجالات الجالية وأدبائها وممثلو صحافتها.
وبعد أن أزاح الستار رئيس جمعية الحلف السيد محمد علي عطية عن رسم الفقيد افتتحت الحفلة بعشر من آي الذكر الحكيم تلاه الشيخ عبد الله حمادة ثم بدأ عريف الحفلة الأديب الشيخ محمود حمادة يقدم الخطباء حسب البرنامج المعد لذلك فقدم أولا الأستاذ عبد اللطيف الخشن تلميذ الفقيد الكبير فارتجل كلمة أعرب بها عن جهاد السيد وغزارة علمه ووطنيته بعد أن طلب من الحضور الوقوف دقائق تقديرا واحتراما. وعقبه مدير هذه المجلة بكلمة نشرناها بغير موضع من هذا العدد. وتبعه الأستاذ سامي عازر بقصيدة رائعة ننشرها أيضا وقفاه الشاب يوسف خليل سكرتير النادي بكلمة بالأسبانية جميلة وبعده الأستاذ يوسف صارمي الذي ألقى خطابا بارعا كما ألقى الشاب عادل نجل الشيخ محمد موسى آل الحاج يوسف قصيدة عامرة بلسان والده ننشرها بهذا العدد. وعقبه الأستاذ خالد أديب الذي ارتجل كلمة موفقة عبر بها عن حياة الإنسان وموته. وبعده تكلم الأديب علي كريم باسم الحلف الكريم فالأستاذ ميشال قزما الخطيب المعروف كما ألقى عريف الحفلة الشيخ محمود حمادة أبياتا من الشعر جميلة لشاعر الرفيق الشيخ إسماعيل قبلان وبعده تكلم الأديب الشيخ محمد ضيا وختاما القصيدة البليغة لشاعر الشباب الأستاذ أحمد سليمان الأحمد ننشرها بختام هذه الكلمة وأخيرا كلمة الشكر للمحتفلين للشاب الأديب محمد زين الدين بلسان الجمعيات. وقد أخذت عدة رسوم أثناء الاحتفال ننشر بعضها وقد انفض الاجتماع وانصرف المحتفلون وكلهم مترحم على الفقيد الكبير الراحل. حشره الله مع أجداده الأئمة الطاهرين وعزى الأمة المكلومة بفقده العزاء الجميل خاصة خلفه الصالح والأسرة الهاشمية الكريمة و{إنا لله وإنا إليه راجعون}.
وقالت المجلة المذكورة أيضا: بين روعة الذكرى وجلال التعظيم أقيمت الحفلة الأربعينية لذكرى فقيد الأمة الإمام الحجة السيد محسن الأمين بمدينة روساريو. وبرعاية الجمعيتين التضامن العربي والاتحاد الإسلامي وذلك يوم الأحد 11 أيار الماضي وبقاعة جمعية الاتحاد الإسلامي الرحبة، حضرها جمهور المحتفلين يتقدمهم سعادة قنصل سورية الفخري السيد ثابت عبد الملك الذي قدم باقة من الزهور جميلة كما أن حضرته أعلن افتتاح الحفلة بإزاحة الستار عن رسم الفقيد الجليل بعد أن طلب من الحضور الوقوف دقائق احتراما للذات الشريفة كما ألقى كلمات وجيزة عزى بها الأمة على فقد هذه الشخصية العظيمة. وبعده تلا آي الذكر الحكيم السيد رجب إسماعيل فأجاد إلقاء وأحسن ترتيلا. وحالا بدأ عريف الحفلة السيد إبراهيم دايخ ناموس جمعية التضامن العربي يقدم الخطباء حسب البرنامج فتكلم كل من السادة جميل حمادة رئيس جمعية الاتحاد الإسلامي. الآنسة يمامة شريفة معلمة المدرسة في الاتحاد. حسين المير رئيس التضامن العربي. الشيخ رجب إسماعيل. الأستاذ خليل النبوت. توفيق غشام ناموس الاتحاد الإسلامي. وأخيرا كلمة عريف الحفلة السيد إبراهيم دايخ شكر بها الحضور الذين لبوا الدعوة كما أطرى عمل الجمعيتين التضامن والاتحاد المبرور.
وقالت أيضا:
أقامت الجمعية الخيرية الإسلامية للشبيبة العاملية في باريسو حفلة الأربعين لذكرى وفاة المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين حضرها فضلا عن رجالات الجمعية وجالية باريس وكثيرون من العاصمة منهم الأستاذ أحمد سليمان الأحمد وممثلو بعض الصحف وأدباء ووجهاء الجالية. وكانت عمدة الجمعية أعدت للجماهير المحتشدة طعام الغذاء بقاعة الجمعية وبدار رئيسها السيد أحمد يوسف فنحرت عشرات الأكباش من الضأن ضحية عن نفس الفقيد الجليل الذي كان رئيس الجمعية الشرفي أعواما من حياتها الاجتماعية. وقد أظهر رجال الجمعية ومدير شؤونها كل نشاط لتجيء الحفلة كما يرغبون فكانت رائعة جدا وبتمام التنظيم. وفقهم الله وأثابهم جميعا ولهم جزاء المحسنين.
وأذاعت الصحف العربية في الولايات المتحدة الأمريكية النعي التالي:
{إنا لله وإنا إليه راجعون}
ننعي إليكم وفاة علامة الشرق الأكبر وحجة الإسلام الإمام السيد محسن الأمين ونرجوكم حضور الحفلة التأبينية التي ستقام في النادي العربي الواقع على زاويتي دكس وسلينا ديروبورن ميشغن تحت رقم 10401 يوم الأحد الواقع 20 نيسان 1952 الساعة الثالثة بعد الظهر للاشتراك بهذا المأتم - مأتم الدين والعلم.
لجنة الاحتفال
وقالت جريدة نهضة العرب الصادرة في ديترويت ميشغن:
مأتم الإمام الأكبر السيد محسن الأمين في نادي جمعية النهضة العربية
أقامت جمعية النهضة العربية "مأتم الغائب" لفقيد الشرق العلامة الإمام السيد محسن الأمين وذلك يوم الأحد الواقع في 20 نيسان 1952 إذ اشترك بهذا المأتم جميع عناصر الجالية في ناديها الخاص الذي كان موشحا بالسواد من الداخل وكانت "باقات الزهور" البيضاء المحاطة برموز الحزن تنتشر على مدخل النادي، كما كانت "شارات الحداد" معلقة على صدور الأعضاء كأنها تنطق بما يختلج في قلوبهم الحزينة من أسف وحسرة ولوعة......
افتتح المأتم رئيس الجمعية السيد محمد فرج مقدما عريف الحفلة - الأستاذ عبد الله بري الذي رفع الستار عن صورة الفقيد العظيم بكلمات كانت تتذلذل على لسانه كأنها إنصات النفس في هدأة الحزن بأعماق القلوب، وبعد أن وقف الجميع إجلالا وحدادا سكوتا أعرب الأستاذ عبد الله بري عن أسف جمعية النهضة العربية بفقد هذا الكبير، وقال إنه ليس بإمكاننا تعيين الخسارة أو تحديدها بالكلمات، لأن معرفة الموت عند الله قضاء، وعند عبده الصالح تلبية ودعاء ورضاء وخضوع، وبعد تلاوة آي القرآن الكريم من الشيخ عبد الله الشيخ محمود قدم عريف الحفلة الشيخ خليل بزي لإلقاء كلمة عن الهيئة الدينية فاستهلها باسم الله وبكلمات متقطعة من الحزن كانت تفيض بآيات القرآن الكريم وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم حتى استخلص من قوله الذي تناول نسب الفقيد وعلمه واشتراعه، إلى أن الصلب الهاشمي الطاهر الذي أنجب النبي واستمر مع الأجيال حتى وصل بالوراثة إلى سليل النبي الإمام السيد محسن الأمين هو الذي انبثق منه الإسلام بمعنى التوحيد القائم على قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وتعاقب بعد ذلك الخطباء والشعراء الآتية أسماؤهم، وبعد الانتهاء شكر عريف الحفلة باسم الجمعية جميع الذين اشتركوا بهذا المأتم - حاضرين أو غائبين - وتلا بعد هذا الشيخ خليل بزي بالاشتراك مع الشيخ حسين خروب دعاء الرحمة وأعلن ختام هذه الذكرى وهذه أسماء الخطباء: الأستاذ عبد الله بري - عريف الحفلة، الشيخ خليل بزي - كلمة الهيئة الدينية، الشيخ حسين خروب - كلمة الهيئة الدينية، الشيخ. عبد الله الشيخ محمود - قرآن كريم، الأستاذ الشيخ فريد أبي مصلح - كلمة، الفتى علي محمد فرج – قصيدة، الأستاذ علي أبو حجيلي - كلمة، الأستاذ شاكر سليمان - قصيدة زجل، الأستاذ الشيخ يوسف بري - شعر، الشيخ محمد علي بري -، الأستاذ عزت برنيه - كلمة، الشيخ قاسم الصباغ - كلمة، الأستاذ بولس مكنا - كلمة الإذاعة.
وقد تمثلت في المأتم الهيئات الآتية:
جمعية الباكورة الدرزية، الجمعية الإسلامية العربية، جريدة نهضة العرب، جريدة البيان، جريدة الرسالة، وفد المسلمين الأميركيين الزنوج.
وقالت الجريدة نفسها في عدد تال:
الجالية العربية في مشغن ستي تقيم حفلة تأبينية كبرى للفقيد العظيم السيد محسن الأمين.
كان فضيلة الشيخ محمد جواد الشري قد تلقى في الثلاثين من آذار سنة 1952، برقية من بيروت تعلن وفاة فقيد العالم الإسلامي المجتهد الأكبر السيد محسن، فكان لهذا النبأ وقع الصاعقة في أوساط الجالية، فأرسل الشيخ كما أرسلت الجالية برقيات التعزية لنجل الفقيد السيد محمد باقر الأمين. وقد عمم النبأ في اليوم الثاني على الأميركيين في مشغن ستي أنديانا وجوارها بنشر كلمة باللغة الإنكليزية في صحيفة المدينة الأميركية حول النبأ الفاجع وحول شخصية الفقيد العظيم الراحل.
وقد وجهت دعوة عامة، بواسطة الصحيفة المذكورة، لحضور الحفلة التأبينية في نادي جمعية العصر الجديد، وحدد موعدها في مساء الجمعة الموافق للرابع من شهر نيسان الجاري، وما أن أزفت الساعة السابعة مساء حتى امتلأ النادي بالحضور.
وبعد أن أقيمت الصلاة جامعة كالعادة (حيث تقام الصلاة جماعة في مساء كل جمعة) بدأ الاحتفال التأبيني، وقد افتتح الحفل بقراءة فاتحة الكتاب، ثم بقراءة عشر من القرآن الكريم.
ثم وقف رئيس جمعية العصر الجديد، السيد نعيم الجزيني فألقى كلمة اعتصرها من قلبه الطيب عزى بها نفسه والحضور بفقيد الشرق الكبير مبديا كبير تأثره سائلا المولى أن يمن على العالم بمن يخلف الراحل الكبير.
ثم وقف الميجر الأستاذ حسن يعقوب فألقى كلمة باللغة الإنكليزية قائلا: إننا إذ نشاطر الأخوان المقيمين في الشرق الأدنى بمصيبتهم، ونحن هنا، في الولايات المتحدة، إنما نعبر في ذلك عن معنى الإخاء الإسلامي الذي نحمله في نفوسنا، فمصاب المسلمين هناك بفقد الفقيد هو مصابنا، ونحن نحمل في نفوسنا من الحزن مثل ما يحملون.
وتلاه بعد ذلك الأستاذ أمين السيد ديب فتكلم بلغته الأدبية الإنكليزية، معربا عما يشعر به، كشاب مسلم، تجاه فقد قائد كبير ديني، هو السيد الراحل.
وبعد ذلك وقف فضيلة الشيخ محمد جواد، فألقى كلمته البليغة شارحا الكثير من جوانب عظمة الفقيد الراحل وآثاره وما خلفه من آثار وتراث للمجتمع. مستعرضا أيامه وجهوده في سبيل الله.
وبعد أن اختتم خطبته المستفيضة، دعا الحضور إلى إقامة صلاة الغائب عن روح الفقيد العظيم، حيث جرت السنة النبوية بإقامة صلاة الغائب إذا كان الفقيد من الأولياء والصالحين كفقيدنا الذي هو ركن من أركان الدين الإسلامي، فأقيمت الصلاة في موقف مهيب. ثم انفض الحفل بعد قراءة سورة الفاتحة. وبعد ذلك دعا السيد خليل دباجه، نائب رئيس جمعية العصر الجديد الحضور إلى مأدبة فاخرة قدمها عن روح الفقيد الكبير.
إننا نعزي الجالية العربية في الولايات المتحدة وكل الجوالي المسلمة في المهاجر، ونتوجه بأحر تعازينا إلى أبناء الفقيد الكبير، ونسأل الله أن يعلي درجته في جناته.
وأما في المهاجر الأفريقية فلعدم صدور صحف عربية هناك تعذر نشر وصف للاحتفالات فيها ولكننا نشير بصورة خاصة إلى الحفلة الكبرى التي أقامتها الجمعية اللبنانية السورية في دكار عاصمة السنغال التي تحدث عنها مراسل جريدة الحياة في دكار فقال:
في العاشر من أيار أقامت الجمعية اللبنانية السورية حفلة تأبين كبرى للعلامة المرحوم السيد محسن الأمين حضرها جمع غفير من أبناء جاليتنا في دكار والداخل وحضرها قنصل لبنان العام وقنصل الأردن والعراق.
وقد افتتحت الحفلة بالوقوف والصمت دقيقة، حدادا على الفقيد الكبير، ثم تلا فضيلة الشيخ عبد الحليم بديري ما تيسر من آي الذكر الحكيم، وألقى السيد محيي الدين بزري كلمة باسم الجمعية، وألقى بالتتالي كل من السادة: سلمان أمون (كلمة) نجيب صعب (قصيدة) أدمون فلفلي (قصيدة) أحمد سامي (كلمة) إبراهيم حاوي (قصيدة) محمد مكي (كلمة) يونس محمد يونس (قصيدة) علي مرتضى سليمان (كلمة) فخر الدين هاشم (كلمة) محمد نصر الله (كلمة) وألقى سلمان أمون كلمة بعث بها السيد نعمة عيسى من جامعة طب "ليون" بفرنسا كما ألقى الدكتور الغندور كلمة.
واختتمت الحفلة بحديث ديني للشيخ عبد الحليم بديري، وكلمة موجزة للسيد محمود برجي رئيس الجمعية، وكان الجميع يعددون صفات المجتهد الأكبر ومآثره ويشيدون بخدماته الدينية والعلمية والاجتماعية.
للشيخ محمد علي اليعقوبي النجفي وقد زار دمشق بعد سنتين من وفاته:
قد كنت آمل أن أرا | ك إذا دخلت الشام حيا |
ويقر طرفي إن رأى | لمعان ذياك المحيا |
واليوم زرتك ثاويا | بثرى له تعنو الثريا |
ما المسك أطيب من شذى | عبقاته نفحا وريا |
لم يسل ذكرك غدوة | أبد الحياة ولا عشيا |
فلئن طوتك يد الردى | فبنشر ذكرك سوف تحيا |
في وداعه
بقلم: الأستاذ سعيد تلاوي صاحب جريدة الفيحاء
لا أعرف من هو صاحب الحكمة القائلة: "إن هذه الأمة لا تعرف قدر رجالها إلا بعد الموت"!.
وإنها لحكمة ذهبية بالغة...... تصور حقيقة مرة من حقائق حياتنا المرة...... والتي نحياها من عراك دائم وصراع عنيف مع العظماء...... حتى إذا ماتوا قمنا نبكيهم ونرثيهم ونلطم الخدود حزنا عليهم.. ونشق الجيوب أسفا لفراقهم..".
وقد سرت أمس في موكب وداع فقيد الإسلام السيد محسن الأمين رضي الله عنه إلى الدار الآخرة.. فأدركت تلك الحكمة...... وقلت إذا كانت هذه الأمة لا تعرف قدر رجالها إلا بعد الموت...... وإذا كان هذا القول ينطبق على جميع من مات من الرجال العظام...... فهو لا ينطبق على الإمام المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين رحمه الله.
فلقد كان فقيدنا العظيم بلل الله ثراه وجعل الجنة مأواه...... في مقدمة علماء الإسلام الذين عرفوا الإسلام حق معرفته ودعوا إلى سبيل الله بالهدى والموعظة الحسنة...... وكان في شخصيته السامية المقدسة مثلا يحتذى في التسامح والتواضع وتقريب القلوب وتوحيد الصفوف وجمع الكلمة...... فاحتل بذلك المقام الأول بين علماء الإسلام الذين يشار إليهم بالبنان وتسير بذكرهم الركبان...... ولهذا كان رضي الله عنه عظيما في حياته وعظيما في مماته.
وأرى من واجبي أن أشير بهذه المناسبة الموجعة...... إلى أن الفقيد العظيم كان وطنيا كأي وطني مشهور من أقطاب السلف الصالح الذين يحرضون على الجهاد...... ويحضون على أعلاء كلمة الله...... وقد أصدر فتوى ممتازة بدعوة الناس إلى الجهاد المقدس في فلسطين...... تلك الفتوى التي هزت العالم الإسلامي هزا عنيفا...... وألقت الرعب في عالم الغرب......
ولئن أعطى الفقيد العظيم دروسا بالغة في الدين والأخلاق والوفاء والمروءة والزهد.. مما يذكر له بالإعجاب والثناء والإكبار...... فكذلك أعطى رضي الله عنة دروسا أكثر بلاغة لمن يريدون أن يكونوا رجال دين.. أعطاهم دروسا بأن يخرجوا من الدنيا خروجا بينا صريحا ويخلصوا لله تعالى الطاعة والعبادة.. ويصفوا للناس الدعوة إلى الصراط المستقيم.
أحسن الله إلى الإمام المجتهد الأكبر إحسانا كريما ونفع المسلمين ببركته وعلمه وآثاره وحشرنا معه جميعا في مقام الصديقين الأبرار......
في موكبه الأخير
بقلم: الأستاذ جوزيف شلهوب
كنت أمس في موكب الشيخ الأمين الأخير......
وخلال الخطوات الهائلة التي كانت تقرع وجه الأرض...... تبدت لي الحكاية السوداء كأوضح ما تبدو...... بدت هزيلة عارية...... ولم تكن حكاية الموت هذه لتبدو على عري حقيقتها إلا لأنها التحفت ظل هذا العملاق الذي نسير في موكبه، وانطلقت عبر استمراره العظيم في حس الزمن...... وكانت عنده قبل وبعد ظلا باهتا لا حياة فيه ولا نمو......
لقد تجلى في موت الأمين معنى حياته......
وفي معنى الحياة أبعاد تستقل عن مدار الزمن ويصبح الوجود عندها يقظة نورانية أبدية...... شعلة تتساقط منها ملايين الشرارات فتوقد ملايين الشموع......
وأبعاد الحياة هذه، حركة موضوعية بناءة منطلقة، صلبها العمل الواعي المنتج والمعرفة...... وثمة حياة أخرى، ناس يمرون في الدوامة...... ناس وراء الجدار، ينخرون عرق الحياة وبقتلهم ما ينخرون...... ينثرون الغبار ثم يتيهون فيه إلى الأبد أحرفا هيروغليفية تافهة المدلول...... والمعاني في حياة الشيخ الأمين تتماسك في موضوعية مثلى، وتاريخها عظة كبرى لجيلنا وأمتنا شراع في الشرق عبر الخرفات والترهات والنفاق......
لقد وعى الشيخ الأمين منطلق الوجود الإنساني...... وعى المعرفة فطامح في سبيلها طفلا ووقف بشرف وبطولة في ساحتها...... وخلال كفاحه العنيد هذا استطاع أن يعي حقيقة المدلول الأساسي للمعرفة، وأن يلمس أيضا الطاقة الهائلة التي يملكها الحرف فخرج ليقف حياته عليها...... وظل طوال سبعين عاما وقلمه في يده...... وكثيرون رفعوا في أيديهم أقلامهم ولكنهم كانوا امتدادا طبيعيا لوعيهم وذاتيتهم...... فغمسوها في متاهات التضليل والكذب والتفاهة...... وهنا ينتصب الشيخ الأمين عملاقا ضخما...... فلم تعرف بلادنا العربية رجل دين مثل الشيخ الأمين رفع قلمه ليسلخ به الغطاء القذر الذي ترسب عبر الأجيال على عشرات الحقائق الإنسانية والتاريخية والدينية...... إن قيمة ما أعطاه هذا القلم إنما ترتسم في معانقة صليبية وإيمان عميق بما يخط ويكتب، لا مجرد غبار وضجيج وإنما دفاع إنساني عن حقيقة يعيشها الكاتب ويحبها ويريد أن ينشرها هذا هو "محسن الأمين" رجل الدين والكاتب......
ومعنى آخر في حياة الشيخ الأمين......
إن الذين يعيشون في تفاهة نفسية ونفاق والذين تتسرب حياتهم في جوع يتمثل في تزييف قيم الحياة وفي الزخرف والطلاء اللماع...... هؤلاء ضلوا السبيل وأرادوا أن يضلوا عن سبيل النفس الإنسانية.. أما الشيخ الأمين فقد عاش حياته في غرفة صغيرة مليئة بالكتب عاش بعيدا عن "الأضواء".. مكتفيا بالعمل ونشر العلم وبالتثقيف الجماهيري...... وهنا موطن آخر لعظمة هذه النفس الفذة أن غنى النفس بالمعرفة والحقيقة ونور الله والإيمان بالحياة لا يستطيع أن يترك مجالا لعملية تغطية تعقيدات نفسية، لطلاء كاذب.. طبول بلا لحم. إن إنسانا مثل الشيخ الأمين يلتصق بالقيم الخالدة قيم الدين والأخلاق والكلمة لا يمكن أبدا أن تكون عنده الحياة مجرد ضوضاء وتكالب وعطش فظيع للأضواء.
من حي الأمين عندنا في دمشق ومن تلك الغرفة الصغيرة الرطبة انطلق نهر عظيم على دمشق والبلاد العربية نهر المحبة والإخاء وخرجت مقاييس جديدة للدين والوطنية...... انطلق نهر الحياة التي وعاها وأرادها الشيخ الأمين لبلادنا ولشعبنا......
يا عملاق كم من معنى في حياتك......
يا عملاق لم تمت...... لم تمت أبدا إنك في جيلنا في أبنائنا في تاريخنا...... تاريخ طويل ضخم يعيش أبدا...... ألا طبت حيا وميتا.
للشيخ محمد خاتون في رثائه:
من للصلاة وللصيام | وللكلام وللقلم |
من للسهام يردها | في نحر وغد أن ظلم |
من للخصام يفضه | فكأن حيدرة حكم |
وأمام من تحنى الرقا | ب وقد قضى هذا العلم |
من أين نغترف المعا | رف بعد أن جف الخضم |
وبمن إذا نادى المؤذن | للصلاة غدا نؤم |
بعض مراثيه
قصيدة ولده عبد المطلب
أغيض بياني وجف الفم | وحمحم في طرسه الأرقم |
وعض اللجام وجن الجواد | وقد يحرز السبق من يلجم |
أيقنع من حبره زينة | وقد كان أدنى حلاه الدم؟ |
ويرضى من الشعر نظم الكلام | وما يقطر القلب لا ينظم |
ويسألني الناس أنت العيي | أما ينطق الخطب أو يلهم؟ |
لقد قبع الجرح في صمته | فلا الشعر يقوى ولا البلسم |
وصمت الجراح كصمت القبور | رهيب الكآبات لا يرحم |
وقفت على القبر وا لوعتي | فقلبي جراح وجرحي فم |
وقد حف بالخافق الصامتان | فهذا عيي وذا أعجم |
وأنجدني الدمع وارحمتا | لسمح رحيم ولا يرحم |
ولا عجب فهو سبط الجراح | تعالى الجراح وجل الدم |
سأسأل عنك انتفاض الربيع | ربيع حياتك لا يهرم |
وذكراك مثل انبعاث الأريج | يجدد أزهاره البرعم |
أكذب فيك افتراء النعي | بما يدعيه أو يزعم |
فطود من المثل الساميات | أشادته كفاك لا يهدم |
وعقد من الدرر الغاليات | قلادته أنت لا يفصم |
لقد خسئ الموت فيما ادعى | فحصن الرسالات لا يقحم |
وأهل الرسالات فوق الخلود | فمعنى الخلود استقى منهم |
فلم يطو سقراط سم الكؤوس | ولا نال من حيدر المجرم |
ولا أطفأت من شعاع الحسين | سيوف من البغي تستلهم |
أمولاي حسبي انتسابا إليك | بأني معانيك أستلهم |
وحسبي من الهدى هذا الشعاع | يوشح بالنور ما أرسم |
لئن كنت منك امتداد الظلال | فما حجبت ظلها الأنجم |
أبانا وكم من شفيق لنا | شريك الحنان ولا نعلم |
فقد وسعت نفسك الخافقين | نفوس الورى حولها حوم |
وموطنك الخير أنى سرى | وأهلوه أهلوك أن ينتموا |
ولم يترك الخير في جانحيك | مكانا يراود أو يقحم |
وكم راودت نفسك المغريات | فجن الإباء وثار الدم |
وطافت تهاويل من حيدر | تهاويل من عصمة تعصم |
وقهر النفوس سبيل الجهاد | ومن ينصر الله لا يهزم |
وزان الإباء حياة الكفاف | فلا الجاه يغري ولا الدرهم |
وجابهت بالصبر شح الحياة | فكافأك الأرحم الأكرم |
فغبرت في موكب السابقين | وخلفت في الدرب صرعاهم |
فإرثك فينا كإرث النبي | يباهي به الجاحد المسلم |
كتابك هذا الخدين الوفي | وبتارك الفاتك المعلم |
معين الكرامة ميراثنا | فكل به مترف منعم |
وأنا بميراثك الأغنياء | إذا أملق الناس أو أعدموا |
قصيدة الأستاذ أحمد صندوق
نبأ تطاير في البلاد فهزها | فالأرض مائلة على الأرجاء |
قالوا (الأمين) فقلت غابر أمة | سحب الزمان عليه ذيل عفاء |
وربيع أيام ودنيا حكمة | ولى وآذن عيشه بقضاء |
قدر أغار على (الأمين) وغاله | أصمى القلوب بأفدح الأرزاء |
وطوى به طي السجل كتابه | علم الجهاد وفارس الهيجاء |
مستأصل داء الجهالة في الورى | بجهاده أمسى صريع الداء |
حمال أعباء الإمامة والهدى | في الأرض أصبح مثقل الأعباء |
محيى الفضائل في النفوس بقوله | وفعاله أضحى رهين فناء |
هلا وقته الحتف عند نزوله | مهج تتبع داءها بدواء |
هلا وقته من الردى بنفوسها | عصب تعاهدها بحسن رعاء |
هلا حمته من النوائب ملة | كان الفداء لها بيوم فداء |
وأرامل ومعاهد وملاجئ | كان الملاذ لها لدى الغماء |
يا ناصر الإسلام كيف تركته | بيد النوازل بعد حسن بلاء |
إن يبك يومك بالنجيع فطالما | كنت المعاذ له من الأسواء |
ولقد رأيتك والمنية تدني | فتئن من سقم ومن أعياء |
فعرفت كيف تدك أطواد العلا | ويغيب نور الكوكب الوضاء |
وسوائر لك في القوافي شرد | أعيت صيغاتها على الشعراء |
هن النسيم إذا رضيت سلاسة | فإذا غضبت فهبة النكباء |
المرقصات بمدح آل محمد | والفالقات الصخر عند رثاء |
النازلات على الموالي رحمة | والمرسلات لظى على الأعداء |
لك في المدائح والمراثي فيهم | سحر الوليد ولوعة الخنساء |
وإذا وعظت فأنت أبلغ واعظ | وإذا خطبت فسيد الخطباء |
وإذا يراعك جال سال حقائقا | وقضى على الأوهام والأهواء |
وإذا أجلت الرأي في متشابه | فالفجر شق دياجر الظلماء |
طلبوا تراث موزع أمواله | ما بين كسب مثوبة وثناء |
يهب الألوف نهاره متهللا | ويبيت ليلا طاوي الأحشاء |
بناء أجيال تنازع همه | أحكام أساس ودعم بناء |
ومقصرين وما دروا أن العلا | ملك لكل مشمر بناء |
قصرت خطاهم عن لحاقك فانثنوا | يبدون عيب ضرائر الحسناء |
وتفننوا في ستر فضلك ضلة | والشمس لا تخفى على البصراء |
ما زلت تولي فتملأ صدره | عزما كصدر الصعدة السمراء |
وخفضت للأيتام جانب رأفة | هي رأفة الآباء بالأبناء |
فأست جراحهم بنان مؤمل | كلف بمسح مدامع البؤساء |
وتركت للتاريخ سفرا خلدت | (أعيانه) في زمرة الأحياء |
نار الأسى لك في فؤادي سعرت | فطغت بسورتها على الإطفاء |
أبكي لأخمدها واعلم أنني | مذك لواعجها بحر بكائي |
قد كنت أخشى أن يفاجئني الردى | واليوم آنف أن يطول بقائي |
زانوا "وساميهم" بنعش متوج | بالفضل سباق إلى العلياء |
ومشى على هام الجموع مشيعا | بدم القلوب وزفرة الأحشاء |
لم يحملوه على الرقاب وإنما | هذا البراق يهم بالإسراء |
قبر أقيم بروض بنت المرتضى | غنيت جوانبة عن الأنواء |
تتنزل الأملاك حول ضريحه | زمرا مع الإصباح والإمساء |
قصيدة الشيخ سليمان ظاهر
عذرتك نهج الصبر غير مبين | فذب كمدا في حسرة وحنين |
أتملك سلوانا وهل لك مسكة | فتظفر منها باصطبار حزين |
أجل المحزون عزاء وسلوة | وقد خف ركب المحسن بن أمين |
قضى هو والصبر الجميل فلم يدع | لذي جزع حلما ولا لرزين |
أللعين عذر وهي لم تذر سائلا | من الدم عن دمع يذال مهين |
وهل بعده تستشعر العين هيبة | يخف لديها حلم كل ركين |
ويخلد قلب قلبته يد الأسى | على لاهب من حره لسكون |
وما كان للألباب إلا سكينة | إذا غربت من دهرها بفتون |
إمام وعى علم الأئمة صدره | وليس عليه غيره بأمين |
تفرع من زيتونة أحمدية | فمت بأعراق زكت وغصون |
ترى منه من غير النبيين طلعة | تجلى بوجه مشرق وجبين |
وأخلاقه من خلقه وهو لم يكن | بقدوته في جده بظنين |
له سيرة مأثورة عن جدوده | تعالت بأن ترمى برجم ظنون |
كأن من الإلهام والوحي علمه | لذاك سما عن مشبه وقرين |
ويحمل نفسا بين جنبيه حرة | عليه قدر بالجلال مصون |
تريه إذا ما الشك زلزل معشرا | وما أن أصابوا الحق عين يقين |
كذلك من صفى المهيمن نفسه | فكل شطون عنه غير شطون |
ويبصر أن ببصر بعين إلهه | وبالسر عنه لم يكن بضنين |
وما فارقته عزة النفس وهو لم | يكن لسوى رب الورى بمدين |
وما أن له إلا العفاف سجية | إذا استهوت الأطماع كل رصين |
وما زال من دنيا الورى وغرورها | مصونا بدرع من تقاه حصين |
عن الدين حامى لم يبل بمعاند | ولا ناصب للدين كيد خئون |
تألى بأن لا يألف الغمض جفنه | وللدين لم يقض نسيء ديون |
وفي الحي من يجفو المضاجع جنبه | وما ألفت عيناه غمض جفون |
فحمل هما ليله ونهاره | مصاحب عزم كالحسام متين |
فملا وما أن مل طول جهاده | وبر بعهد موثق ويمين |
وأدى إلى الدين الحنيفي حقه | وكان لأسرى الهم خير معين |
كأن الكرى في جفنه طيف حالم | بمدية كف المزعجات لعين |
وكالطير مقصوص الجناح وما أوى | يطارده نسر السما لو كون |
وكالبرق في الإيماض متقد السنى | بجنح ظلام من خلال دجون |
يرى أن أيام الحياة قصيرة | فلم يطوها قد أغلقت برهون |
وقال لمن لامته طاوي دهره | نهارا وليلا في الجهاد ذريني |
فما أنا للإسلام حامي ذماره | ولم تحف مطرور اليراع يميني |
ولا أنا بالعبء الثقيل بناهض | ولم أقض من قبل الممات ديوني |
ولا أنا أديت الشريعة حقها | ولم ينف شك الزائفين يقيني |
وما قلق من أبؤس الدحر أن طغت | على أهله بالمزعجات وضيني |
وما أنا ترب للعلاء وما جفت | كراها لتحصيل العلوم جفوني |
وإن لم أضع قدر الكريم فلم أكن | بمستسمن في الناس غير سمين |
وأهون عندي أن أفارق طريقتي | ولم أقض حق الدين قطع وتيني |
رأى العمر محدودا وما لعظائم | حدود تولى عبثها وشؤون |
وما هو فيما قد شرى بنفيسه | وضحى به من راحة بغبين |
فراض صعاب المشكلات بفطنة | لديها الحرون الصعب غير حرون |
وأنفقته بين المهارق والدوى | بنشر علوم جمة وفنون |
وأسفاره في الشرق والغرب للورى | شفاء قلوب أو جلاء عيون |
وناهيك بالأعيان سفرا ولم تك | المعاجم طرا منه غير متون |
تكشف عن كنز ويرخص دونه | إذا ما به قد قيس كل ثمين |
ولولاه في الأحقاب غاصت رجاله | كسر بأحناء الضلوع دفين |
وكم من كتاب سطرته يمينه | ليسعد فيه آخذ بيمين |
وليس سواه للوصول إلى الهدى | وللحق منصوب الصوى بضمين |
طوى بدمشق نصف قرن وأنه | ليطوى على آثار جم قرون |
أقام بها للعلم أرسى قواعد | تطاول بالبنيان شم حصون |
ومهد أسباب الرقي لحيها | برعي بنات منهم وبنين |
فكانت معين الناشئين وأنها | لا عذب من سلسال كل معين |
تقاسم لبنان وسورية الأسى | عليه وكل معلن لأنين |
يقلان نعشا ودت الشهب نعشها | له بدلا من نعش نابت طين |
ولم أنس في إيران سابغ ظله | ومن كل ما أشكو أذاه يقيني |
ينوه بأسمى تارة ويذيقني | بأخرى زلال الرفق وهو معيني |
وطورا يريني منه رشد معلم | وآنا يريني منه ود خدين |
وللقوم ناديه مطاف كأنه | مشاعر حج من صفا وحجون |
ولم أنس تلك الخالدات ذواهبا | ببكر من الشعر الرصين وعون |
يثير بها مني جمود قريحة | بأشباه حور كالكواكب عين |
وأنى وهل مثلي يساجل مثله | وهل كانت الجداء مثل لبون |
يجاور حوراء النساء ببقعة | مثابة ناء ربعه وقطين |
فسقيا لها من روضة هي كعبة | يحج إليها ذو جوى وشجون |
ولا زال من لطف المهيمن وأكفا | يحييه بالرضوان كل هتون |
قصيدة الأستاذ أحمد سليمان الأحمد
من تناجيه جفاه البيان | يوم غابت عن عينه الأوطان |
كلما أشرق الخيال عليها | عاتبته السفوح والشطآن |
أين مني الجنان يهبطها الوحي.. | كما اعتاد...... أين مني الجنان |
والعهود الحسان في الشاطئ | الأبيض أين العهود تلك الحسان |
هدمتها على سنى الأمس أشواق | ونجوى علوية وافتتان |
كان لي ما يدغدغ الطيب في الـ | ـكم وما ينتخي به الميدان |
كان لي ما إذا حواه الزمان | حسدته لزهوه الأزمان |
كان لي ما يشع من ريشة الخلد | فتشتف لونه الألحان |
لم يعد للنعيم غير ظلال | شاردات تلمها الأجفان |
خلع الحرف كل لون سوى ما | زوق الحزن أو أذاب الجنان |
إيه بيروت ما أذعت على الدنيا؟! | وماذا تناقل الركبان |
فأفاقت على النعي الأماني | مفزعات وما لهن أمان |
وتمشى في الموكب الخاشع الإسـ | ـلام يبكي الإمام والإيمان |
يا له مأتما تعرت به الشهب | فأضواؤها له أكفان |
آل بيت الرسول من كوة الخلد | يطلون فالمدى تحنان |
أين عين الإمام ترعى شبابا | هو من روضة العلى الأقحوان |
كان يحنو على منانا فلا يشحب | فجر من عطرنا ريان |
كان يرضيه أننا نطلق الفكر | بدنيا آفاقها العرفان |
كان يرضيه أننا نلطم الطغيان | حتى يستحذي الطغيان |
كان يرضيه أننا ثورة الحق | وأنا يد العلى واللسان |
كان يرضيه أننا قد خلعنا | ربقة الوهم.. وانطوى الإذعان |
هرمت دولة التقاليد وانساق | إلينا الإبداع والصولجان |
قل لسلطانها لقد زحف التجـ | ـديد...... هل بعد زحفه سلطان |
هزمت تلكم العصابات وانهارت | لدى كعبة الهدى الأوثان |
قام في أربعينه العلم والأخلا | ق والفقه والنهى والبيان |
أقسمت أن يهز منبر ذكراه | بديع الزمان أو سحبان |
أقسمت أن يرى لأنجاله الصيد | كتاب الأمجاد والعنوان |
يا أحباي كل عمري انطواء | بعد تلك العهود أو أشجان |
شهد الحب أنني لا أبالي | أوفى الصحب بعدها أم خانوا |
هي مني التفاتة القلب ما لوح | من ظلها سنى لهفان |
غربة في الهوى وفي الدار، أدى | عن همومي فأبلغ الترجمان |
يا أبا العلم ما دعوناك إلا | وتهادى إلى النداء.. الحنان |
قم تأمل بنيك زين بني | هاشم...... لا بدعة ولا نكران |
جمعتني بهم أواصر قربى | هي من عين دهرنا الإنسان |
هي أرث الآباء، دون علاها | تتهاوى الخطوب والحدثان |
يا ربيب الخلود ضاق بي الرحب | وضاقت بثورتي الأوزان |
ما التأبين؟! ما المآتم؟! | للخالد يجلى اليوبيل والمهرجان |
قصيدة الشيخ محمد علي اليعقوبي
عميد جمعية الرابطة الأدبية في النجف الأشرف.
جلل بالشئام أبكى العيونا | فجع الشرق فيه دنيا ودينا |
وأذاع الأثير في الشرق والغر | ب حديثا ما كان إلا شجونا |
قابلته الأسماع بالشك لكن | سبق الدمع فاستحال يقينا |
أي دهياء في البلاد ألمت | لم تدع للحلوم طودا ركينا |
عصفت في هضاب لبنان لكن | هزت الحجر والصفا والحجونا |
قيل في الأفق ضجة وعويل، | قلت: صوت الأمين ينعي (الأمينا) |
إن ثغرا قد كان بالأمس يحمى | فيه، دك الحمام منه الحصونا |
صوحت (غوطة) الشئام وجفت | (بردى) وهي نجعة الرائدينا |
ليس ذاك الروض النضير نضيرا | ولا ولا ذلك المعين معينا |
عاد فيها زهر الربيع هشيما | وأغاريد ورقهن حنينا |
وحوالي أجيادها عاطلات | سلب الدهر عقدهن الثمينا |
فاندبي يا معاهد العلم عهدا | فيه ما زال زاهيا ميمونا |
وأقيمي الحداد وجدا عليه | وأطيلي الرثاء والتأبينا |
وأعيدي ذكراه آنا فآنا | رب ذكرى تلذ للسامعينا |
شيعت (سوريا) و(لبنان) منه | علما ضم نعشه العالمينا |
فكأن الدموع طوفان نوح | وتخال النعش المشال سفينا |
شيعت ذلك الهزبر الذي كا | ن من الدولتين يحمي العرينا |
ما استغاثت به لدى الهول إلا | كان غوثا لأهلها ومعينا |
شيعت كهف عزها وعلاها | أن يسمها العدو خسفا وهونا |
لم يزل ساهرا يرد على الأوطا | ن كيد العدا وهم راقدونا |
أنجبته (شقراء) خير وليد | لم تلد توأما له وقرينا |
ونشا راضعا لبان (الغريين) | فكانت عليه أما حنونا |
واجتلته (الفيحاء) بدر رشاد | كم جلت فيه للضلال دجونا |
لم تدنس سياسة الغرب منه | مبدأ طاهرا وعرضا مصونا |
فتنته العليا هوى وسواه | بحطام الدنيا غدا مفتونا |
يا بن خير الورى نجارا وأزكى | من على الأرض أظهرا وبطونا |
قد براهم من جوهر القدس مولى | برأ الكائنات ماء وطينا |
وختمت فيهم النبوة قبلا | واستقلوا بأمرة المؤمنينا |
قد خبرت الأيام حلوا ومرا | وعركت الخطوب صعبا ولينا |
ووصلت الجهاد (تسعين) عاما | ليس تحصي أعمالها (الأربعونا) |
نم تعمر قرنا وغر المساعي | خلدت ذكرك العظيم قرونا |
قمت في عبئها إمامة حق | قام فيها أباؤك السابقونا |
صنت دين الإسلام فيها فحقا | أن بكاك الإسلام والمسلمونا |
ضاع في الخافقين ذكرك عرفا | فظننا في (جلق) (دارينا) |
يا أبا هاشم ثكلناك فذا | رزئت فيها هاشم أجمعينا |
واحدا لا تنوب عنه ألوف | قد خبرنا آحادهم والمئينا |
رام ما رمته من الفضل قوم | قد أضلوا طريقك المسنونا |
ضيعت رشدها فما حدثتها | النفس إلا أمانيا وظنونا |
إن من حصت القوادم منه | كيف يرقى النجم يبغي الوكونا |
كنت (علامة) الزمان (مفيد) | العصر أعيت صفاتك الواصفينا |
لم تطاول مقامك الشهب إلا | كنت فوقا وكانت الشهب دونا |
يا سمير الكتاب أعزز علينا | أن نعزي فيك الكتاب المبينا |
ضل نهج الإصلاح والرشد جيل | قل فيه من بعدك المصلحونا |
فيك آباؤه اقتفت سنن الر | شد ورشحت للمعالي البنينا |
فجنوا فضل ما غرست وقالوا | هكذا فليكن جنا الغارسينا |
طبت حيا وطبت ميتا بمثوى | بات فيه سر الهدى مكنونا |
قد تخذت (اليراع) فيه ضجيجا | واصطفيت المداد فيه خدينا |
دفنت والمآثر الغر منها | كالدراري تضيء للناظرينا |
كيف وارت منك الصفايح وجها | فاق بدر السما سنا وجبينا |
فكأن السماء قد أنذرتنا | فادحا هوله يشيب الجنينا |
كسفت قبل فقدك الشمس فيها | ودجا الأفق مكفهرا حزينا |
فتوارت شمس الهدى واختفى | بدر المعالي تحت الصعيد دفينا |
يا رئيسا حوى فنون علوم | دونها يقصر الرئيس ابن سينا |
كم أفدت الورى قوانين علم | أن يكن سن (للشفا) (قانونا) |
جاء من علمه القديم بفن | ومن العلم كم نشرت فنونا |
فأصول سننت منها فروعا | وشروح أوضحت فيهما متونا |
وبآل الهدى صحائف تتلى | بلسان الزمان حينا فحينا |
من ينابيع أعين الوحي كم فجر | ت منها جداولا وعيونا |
و(لأعيان) قومك الصيد أعليـ | ـت منارا يهدى به الخاطبونا |
فدعاك الهدى له وعليه | (محسنا) تارة وطورا (أمينا) |
فبماذا يلقى العدا ويد الأقدار | جذت شماله واليمينا |
فعزاء يا أهل (جلق) عما | قد لقيتم في فقده ولقينا |
هون الخطب في (أبي الحسن) الندب | نزول الخطب حيكم وفينا |
(تلك آثاره تدل عليه | فلنا سلوة بها ما بقينا) |
قصيدة الشيخ خليل مغنية
تعاليت عن قولي وإن كان عاليا | فلا تبلغ الأقوال منك المعانيا |
ظهرت ولم تبق مجالا لشاعر | ينظم في سلك البيان الدراريا |
خلدت على رغم الدهور وهكذا | صحيح المباني ليس ينفك باقيا |
وخلدت في وجه الطروس مآثرا | تشع بآفاق النبوغ لآليا |
وآليت ألا أن تكون مفوقا | فكنت بهالات الفضيلة نائبا |
إذا ما دنا منك الطموح بغاية | رأيناك عنه في ذرى الفضل ساميا |
توغلت في أوج الكمال محلقا | تطلع لا تلفي هناك مجاريا |
وما نلت هذا الفخر إلا بعزمة | حكيت بها يوم الصعاب المواضيا |
أبا العلم لا نستطيع قولا وإنما | نكلف ما لا تستطيع القوافيا |
تطلعت الأنظار في مجمع الهدى | فما وجدت فيه لشخصك ثانيا |
لأنت كما قد شئت في الناس واحد | تضمخ في نفح الطيوب النواديا |
إذا ما دجى ليل من الجهل حالك | تجليت لم تترك هنالك داجيا |
أزلت ظلام الوهم عن طلعة النهى | ورحت إلى روح الحقيقة داعيا |
تعالج هاتيك السموم بحكمة | أرتك الذي قد كان في الناس خافيا |
رفيع فلا تدنو إليك مذمة | وتزداد عنها رفعة وتعاليا |
صريح فلا تخشى من الناس غضبة | إذا كنت في نصر الحقيقة راضيا |
وماذا يفيد الصبح أن قيل وجهه | أفاض على الدنيا سنا منه صافيا |
نعدد آثارا فنعيا وأنها | نجوم تجلت زاهرات زواهيا |
أيا حجة الإسلام والخطب فادح | أزال به تلك الجبال الرواسيا |
سرى البرق مهتزا من الرعب سلكه | يبث بأنحاء الوجود المآسيا |
عزيز علينا أن نرى مجلس القضا | علاه شحوب أو نرى الصدر خاليا |
عزيز علينا أن نقول قصائدا | نروم بها مدحا فكانت مراثيا |
قليل له أنا نذوب كآبة | ونرسل هتان المدامع داميا |
قصيدة الشيخ محمد علي ناصر
ويح المنية لم تدع من مهجة | إلا وفيها للجوى آثار |
أودت بقطب رحى الشريعة فتكة | للموت تصغر عندها الأقدار |
هتف النعاة بنعيه فتفطرت | منا القلوب وحارت الأبصار |
عقدت له في المشرقين مآتم | وتجلببت بحدادها الأمصار |
وتجاوبت رنات عامل بالأسى | وبدا عليها للمصاب شعار |
فقدت به نورا بآفاق العلى | في الحالكات تمده أنوار |
ومعلما يهب العقول غذاءها | صفو المعارف عنده يشتار |
ومنار علم في المشاكل لم تكن | إلا إليه تشخص الأبصار |
رجل الفضيلة والجهاد ومن له | في سبق كل فضيلة مضمار |
إن يطوه القدر المبيد فإنه | "باق وأعمار الطغاة قصار" |
ولئن تغادره المنية ساكنا | فبعلمه هو كوكب سيار |
ولئن كبا ذاك اليراع وجف من | ينبوعه ما تنتج الأفكار |
فلطالما نشر الهدى برصانة | كشفت بها من غامض أستار |
قلم توقف بعد ما جمعت به | للعلم من أشتاته أسفار |
ما مل يوما من جهاد نافع | سيان فيه الورد والأصدار |
أدى رسالته وقام بعبئها | بطل لثل ثنية نظار |
طلاع آفاق المعالي رأيه | في المعضلات إذا دجت مسبار |
يأتيك بالرأي السديد محققا | ويريك كيف تفند الأفكار |
ويريك من وجه الحقيقة رونقا | ما حام حول رواقه النظار |
فجعت به دنيا المعالي ناصرا | للحق أما عزت الأنصار |
ومؤيدا للدين في عصر به | قد أيدوا ما شرع "الدولار" |
ومؤلفا ثبتا تروق بكتبه | من كل أغراس العلوم ثمار |
تلفى بها الغرر الغوالي تزدهي | بجمالها ربها العقول تنار |
ما مات من يبقى له بمآثر | ومعارف ومعاهد تذكار |
ما الموت إلا أن تعيش ولم تفد | ذكرا تخلده لك الآثار |
كم من أناس في الحياة وما لهم | ذكر وقد نسيتهم الأخبار |
ولرب ميت في التراب موسد | بالي الرفات وذكره سيار |
يا راحلا خلفت شعبا كله | آسف عليك ووجده فوار |
تهنيك جنات النعيم ورفقة | فيها هم السفراء والأبرار |
وسقت ثراك سحابة هطالة | برضى الإله وغيثها مدرار |
قصيدة الحاج عبد الحسين الأزري
أيها المصلح العظيم وداعا | مثلما ودع الربيع الغماما |
شيعتك القلوب حرى وكادت | من شجاها أن تستحيل ضراما |
ومشت خلافك الجموع كسيل | ضاق عرض الفضاء فيه ازدحاما |
غلب الصمت والخشوع عليها | ومن الصمت ما يفوق الكلاما |
كان يحوي الأباء نعشك والإخلا | ص والزهد والتقى والذماما |
رفعوه أمامهم كلواء | أو كما في الصلاة كنت الإماما |
طوقوه كأنه الحجر الأسعد | حف الحجيج فيه استلاما |
بعيون من الفجيعة عبرى | ودموع كمزنة تتهامى |
لو أعالي لبنان يشعرن فيه | ساعة اجتاز لأنحنين احتراما |
يا أبا السادة الأماجد عذرا | ولو أن الوفا يراني ملاما |
من نجوم السماء صغت رثائي | لك لو أنني استطعت القياما |
لست أنساك قابعا في ظلام | الليل والناس هاجعين نياما |
بين صفين من تآليف شتى | قد تكدس كالنضار ركاما |
قد حرمت الرقاد عينيك حتى | لم تدعه يزور إلا لماما |
كنت لا تمسك اليراعة إلا | ونسيت الأوصاب والآلاما |
وإذا بارك الإله حياة | زادها الشيب قوة واعتزاما |
لك سفر تركته كهلال | كان لولا القضاء بدرا تماما |
صدع البرق في نعيك وجه الصبح | فاقتم عارضاه وغاما |
وسواد العراق من جانبيه | أقعد الخطب أهله وأقاما |
الأسى بالغ عليك ذراه | ومرايك ما بلغن عاما فعاما |
هاك خذها مرثية لك مني | كنسيم الصبا ونشر الخزامى |
وسلاما من مخلص لك يهديه | ولو بت في التراب ركاما |
قصيدة
القوافي على ثراك حيارى | يتساءلن أين ركبك سارا؟! |
ويسائلن عن عذارى تسابيحك | هل هن باقيات عذارا |
كنت كالطود في جهادك يأبى | لك عز الجهاد أن تنهارا |
أنت علمتنا الصراحة لا نخشى | بها ناهيا ولا أمارا |
كل دار للفضل بعدك قفر | لم نجد في فنائها ديارا |
أين من يكلأ الشريعة من | بعدك لا خائنا ولا خوارا |
أين من يمسك اليراع وينصب | على الطرس قائدا مغوارا |
أين من يستفز بعدك للحق | حماة الحقيقة الأحرارا |
عصف الهول يوم بينك بالأ | سماع منهم ونكس الأبصارا |
ورأوا بعدك الحياة هوانا | يسترق النفوس والأفكارا |
فتخلت جيادهم عن مجال | السبق فيها وعطلوا المضمارا |
قبعوا في البيوت لأهين بالتحـ | ـبير عما يفطر الأحجارا |
فئة هون المصاب عليها | إنها تتقي به الأوزارا |
أنكرت بعدك الرجال فما | نبصر إلا المهوش الثرثارا |
من تبنيت للفضيلة في قوم | تفادوا على يديك العارا؟! |
هل تبنيت واحدا من أناس | شاطروك الهزال والأطمارا؟! |
أم زعيما يطوي على الجوع | كشحا ليواسي الأجير والأكارا؟! |
أم عزوفا يود لو يهب | العازف أشفار عينه أوتارا؟! |
أيها المحسن الأمين: ترفق | بنفوس قتلتها استعبارا |
أنت مذ كنت، عالم فاض | بالعلم على الخلق عيلما زخارا |
يتملى فراغ ذاتك تيار من | الحق يجرف التيارا |
فاض من تحتك الأثير حجيجا | وانبرى النعش كوكبا سيارا |
زحفت خلفه الكواكب والتفت | حواليه جحفلا جرارا |
وتبارى على ضريحك سكان | السموات يضفرون الغارا |
فإذا جبرائيل للمرة الأخرى | يسجيك حيدرا كرارا |
وأولو العزم في الرعيل | يزفونك للخلد سيدا مختارا |
يا هوان الدنيا عليك أبا | الباقر جاورت قومك الأبرارا |
نعم جارا أبوك "طه" وأكرم | بأبيك الأدنى "أبي السبط جارا |
من أعزى مهنيا "أباذر" أم | الفارسي "أم عمارا"؟؟ |
بل أهني الشهيد "حمزة" | والسبط حسينا وجعفر "الطيارا" |
لكأني بهم على كل درب | ينثرون القلوب لا الأزهارا |
يتبارون في التهاني بما | يضفي عليك الظلال والأنوارا |
عصفت قبلك المنايا فما خمشن | وجها ولا هتكن خمارا |
وكأن الأحداث منذ توفر | ت عليها تفتقت أبكارا |
لا يطب بعدك النسيم فلم تبق | له من يعبق الأسحارا |
وليشه بعدك الربيع فلما تخلف | به من ينبه الأطيارا |
ولتمت بعدك الظماء إلى | الحق فقد كنت ضرعها الممتارا |
ولتهم بعدك اليعاسيب ظمأى | شلقد كنت شهدها المشتارا |
وليته كل ناشد قبس النور | فقد غاب من يشب النارا |
ودع البشر يوم ودعت ناديك | فأقوى وودع السمارا |
لو أفقنا على الحياة لأهرقنا | المآقي على ثراك نضارا |
وأحلنا هذا النضار حليا | مستديرا على الضريح سوارا |
لو أفقنا على الحياة لأدركنا | بعينيك هذه الأسرارا |
فرأينا وجه الحقيقة ليلا | تتجلى به الحياة نهارا |
ما أفقنا وأنت بين يدي | ربك فينا تزحزح الأستارا |
أيها المحسن الأمين: قطعت | العمر، حران مبتلى صبارا |
هل لعينيك إذ قسرتهما دهرا | على ما كرهت، أن تختارا؟؟ |
هل حمدت العقبى؟ وهل أنت | في عالمك الأخروي أنعم دارا |
نم أبا هاشم أمينا على أرث | ملأت الدنيا به أسفارا |
طبت حيا وطبت ميتا | وطابت بك دنيا ملأتها آثارا |
سوف تبكيك أعين، لو | وفا الشعر لحالت دموعها أشعارا |
وسيبقى مثواك هذا الذي | واراك عنا لكل حر مزارا |
قصيدة السيد محمد حسين فضل الله
في ذمة القدر المبيد | روح تسير مع الخلود |
روح كما رف النسيم | أرق من لحن القصيد |
وألذ من روح المنى | لطفا على طبع الوجود |
وأشد من صم الصفا | ة صلابة ومن الحديد |
تهفو إلى الحق الصراح | ولا تميل إلى الجمود |
تمشي على ضوء الحياة | مع القديم مع الجديد |
وتشع في أفق العلى | نجما تألق بالسعود |
وترف في ساح الوغى | بندا سما فوق البنود |
وقفت أمام الهادمين | وقوف جبار عنيد |
تبني من المجد الطريف | (منارة المجد التليد) |
ومشت تكلل مجدها | الأجيال بالنصر المجيد |
ما بين حشد ما مفا | خرها وحشد من جنود |
فمضت كما شاء الأبا | عذراء طاهرة البرود |
روح لها مرح الشباب | وحكمة الشيخ الرشيد |
جبارة تأبى الهوان | نقية كحشا الوليد |
تهوى التحرر نفسها | وتعاف رائحة القيود |
وتثور للداعي المقد | س ثورة الحر السديد |
وتذوب في قلم يكاد | يسيل بالفكر السديد |
قلم تفجر بالحياة | وبالصواعق والرعود |
رضع الفؤاد فصاغه | كلما تأجج بالوقود |
يرمي بها المستعمرين | وكل طاغية عنيد |
ويصب من بركانه | نارا على أفق الركود |
ويثير فيها أمة | ضلت عن الرأي الحميد |
وغفت على نغم الوعود | ترف من ثغر (العميد) |
وترنحت أعطافها | ما بين غانية وعود |
ومضت تفاخر بالجدود | ولطف آثار الجدود |
وتراقصت بين الأما | ني الغر والحلم السعيد |
ويد الغريب تبارك | الآسي برنات النقود |
ورؤى غد تدعو لها | بالنصر والعمر المديد |
مهلا أبا الحسن الزكي | فقد ظمئنا للورود |
هذا المعين وكنت تنهلنا | به عذب النشيد |
وتبثن منه اليقظة الحمرا | ء في الجيل الجديد |
وتثير منه عزائم | الأحرار في الوطن الشهيد |
جفت ينابيع الحياة | به على ثغر الوجود |
والدين وهو أشعة | شعت على أفق الوجود |
وعقيدة تسمو بنا | صعدا إلى الأفق البعيد |
ومناهج تجري بنا | قدما إلى أقصى الحدود |
ومبادئ توحي لنا | روح التضامن والصمود |
عرفتنا فيه الحياة | بما حواه من البنود |
وأريتنا أن الأخاء | من الهدى (بيت القصيد) |
فالمسلمون لبعضهم | في الدين كالصرح المشيد |
لا طائفية بينهم | ترمي العقائد بالجحود |
فالدين روح برة | تحنو على كل العبيد |
رمي لتوحيد الصفوف | ودفع غائلة الحقود |
عاش الموحد في ظلا | ل الحق والنصر الأبيد |
يا منقذا همم الشباب | من الجهالة والرقود |
هذا الشباب وهل يراد | سواه للأمر الشديد |
ويحطم القيد الثقيل | ونير محكمة القيود |
ضل الطريق فضاع ما | بين المسود والمسود |
وتلاقفته يد البطالة | من يد العمل المفيد |
يجري وراء اللقمة السـ | ـوداء كالطفل الوليد |
ويحن للعمل الشريف | وصفوة العيش الرغيد |
واللقمة السوداء والعمل | المقدس في يد الجور المبيد |
ضاق الفضاء به فمل | العيش في ظل الركود |
فتفرقت حلقاته | مابين مغترب بعيد |
ومضرج خابت مناه | فردها بدم الوريد |
وفتى تعرى من حجاه | وثورة العزم الأكيد |
طرق الشوارع باحثا | عن حان خمار وغيد |
هذا الشباب فهبه رو | حا منك من روح الخلود |
فعسى يرد إلى الرشاد | ويستفيق من الهجود |
قصيدة الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل
مصابك سد كل سبيل فكر | وطاح بكل آبدة شعاعا |
ولا تخل الرزية رزب فرد | ولكن أصبحت قدرا مشاعا |
أصابت منبرا وحمى حقوق | وعطلت الكتابة والدفاعا |
وأصمت مقتلا للفضل طهرا | وروعت القضا والاشتراعا |
وغطت بالسواد ضحى وضوءا | ومزق كفها أدبا رواعا |
رزيتنا به انقسمت رزايا | نئود بها احتمالا واضطلاعا |
فلا تلم الحداد عليه يوما | ولو غمر المتالع والبقاعا |
وقل لليل لا يخلع دجاه | ووجه الشمس لا تدع القناعا |
بربك كم جلوت شكوك أمر | وكم أشعلت ذهنك واليراعا |
وكم سقت الأدلة في سطوع | ترد بها الضلالة والطماعا |
وكم أنصفت أهل البيت طوعا | وحققت الرواية والسماعا |
عزاء آل محسن لا تراعوا | فمنكم أورث الأدب الطباعا |
إذا نزلت بساحتكم شؤون | غلبتم كيدها فمضت سراعا |
ولا مثل التصبر درع حرب | تروع بها الأسنة والسباعا |
ورب شعاع إيمان ضئيل | يكون لكل داجية شعاعا |
فكيف وفضلكم في الدين أضحى | على الآفاق مشهورا مذاعا |
ولا زالت منازلكم رباعا | تطاول حائط المجد ارتفاعا |
قصيدة الأستاذ محمد كامل شعيب العاملي.
أخنت على الشرف الرفيع عواد | وهوت بمحور أمة وبلاد |
هتف النعي وما حسبتك من نعى | لولا الأسى وتفطر الأكباد |
أحس بالبرحاء دوني من به | شط المزار وأنت طي فؤادي |
ماذا دهى الدنيا فلم أر هودجا | للركب غير مجلل بسواد |
جبل من الأجبال طاح به الردى | في الشرق أم طود من الأطواد |
أوصي أحمد من أمالوا في الثرى | والسبط من حملوا على الأعواد |
نزلت بأدراج السماك نوازل | وحدا بسلسلة العظائم حاد |
ما زلزلتك يد الخطوب وإنما | أخنت على الصلوات والأوراد |
دارت على العلم الرحى بكلا كلل | أودت بخير مآثر وأياد |
وقررت في غمد الثرى كمهند | وفى الضراب وقر في الأغماد |
نزع الزمان قلادة من جيده | كانت أجل قلائد الأجياد |
ونضت عن الإعطاف أي ملاءة | كف الردى ومطارف الأبراد |
أسرفت في أرق شطرت زمانه | شطرين شطر هدى وشطر جهاد |
فإذا المسف إلى السحيق محلق | وإذا المعقب في الحياة البادي |
وإذا الذي هو زائل هو خالد | وإذا الذي هو رائح هو غادي |
وإذا حياتك ما انطوت إلا على | نضاحتين بحكمة وسداد |
وشيت أبراد البلاغة مثلما | وشى الربيع أديم كل مهاد |
قد بز ذكرك كل فائح عنبر | ورواء فضلك كل حال باد |
فكأنما لك في القلوب منازل | مشدودة الأطناب بالأوتاد |
وكأنما روق اليراعة عارض | للمزن هطال وصوب عهاد |
حمل الأثير إلي نعيك في الكرى | فكأنما كانا على ميعاد |
حيث اضطجعت وقد دوى هول | الأسى فأقض نعيك مضجعي ووسادي |
جليت في قصب البلاغة مثلما | في الحرب جلى طارق بن زياد |
وأخذت نفسك بالجهاد منافحا | عن سبل رشد أو حقوق عباد |
من للفصول الممتعات وطالما | كانت منار هدى وقطب رشاد |
قلم كساغية الظبى بشباته | ماضي العزائم والقنا المياد |
ما خط موجدة وسن ضلالة | ودعا لتفرقة وزرع فساد |
فلت يد الأقدار غرب عزيمة | أورى ذوي العزمات قدح زناد |
ركن الشيوخ عدت عليه رزية | دهياء والصبابة الأنجاد |
عف السريرة ما انطوت فلذاتها | يوما على غل ولا أحقاد |
ولى وفيه من السيوف مضاؤها | ومن الشباب فتوة الأعضاد |
جمع الجوامع حولت لمآتم | ومراسم القداس في الآحاد |
ونعت بك الفتوى إمام زمانه | وأوابد الفصحى ملاذ الضاد |
قصمت عرى أسبابها بملمة | وعدت من القدر المتاح عواد |
ماذا أعدد من مآثرك التي | لم تحص بالأرقام والتعداد |
طلعت طلوع الشمس في رأد الضحى | وتألقت كالكوكب الوقاد |
إن جلجلت زحفت بخرس كتائب | لم تعد طرق الوحي والإسناد |
حسرت عن الحق المبين قناعه | بأدلة تحكي الصديع البادي |
قفت على أثر النبي وما عدت | هدي الوصي وسيرة السجاد |
وفيت للإصلاح قسطك في الدنا | ونزعت أيديه من الأصفاد |
لم تقبل الدنيا عليك بسيطة | إلا وكنت بها من الزهاد |
ضجت بمأتمك الملائك مثلما | قد هللت لك ساعة الميلاد |
كم قلت حي على الفلاح مناديا | قم فادع قومك للفلاح وناد |
ما زلت رغم الخيزوانة تنتحي | سبل الرشاد وأنت نضو سهاد |
غمرت يمينك كل يم زاخر | متلاطم الأمواج بالأزباد |
حملت أعباء السنين ولم تنوء | ببواهظ الأعباء الآماد |
وثبت كالأصلاد في وجه الفنا | بعزائم أرسى من الأصلاد |
تسعون عاما ما ونيت وإنما | جاوزت حد الجهد والإجهاد |
وجريت في قصب البيان فما عدت | في الشوط عدوك صافنات جياد |
قلم يفيض العلم من نفثاته | كالسيل يهدر في حنايا الوادي |
ضدان كالحمل الوديع بصدره | وبحده كبراثن الآساد |
لو لم تجب داعي المنية لم تدع | فيما تخط بقية لمداد |
أي حجة الإسلام قطب رحى الهدى | ومنارة الإصلاح والإرشاد |
تلك الصحائف هن بعدك مشرع | للظامئين ومنهل الوراد |
وهي العزاء بذا المصاب وإنما | يروى على قدر الأوام الصادي |
لولا ختام الأنبياء أحمد | لحسبت إنك مرسل أو هادي |
قصيدة السيد محمد نجيب فضل الله
يا لنفس كفم الصبح سناها | وعت الحق كما الحق وعاها |
كلما التف بها ثوب الدجى | لم تنم في الله ليلا مقلتاها |
نشأت كالنجم في ظل الهدى | عن بني الدنيا رفيع مستواها |
كبرت شأنا وجلت رتبة | لم تسعها الأرض فاحتلت سماها |
في سبيل الله نفس حرة | طلبت خلف السموات الإله |
صانت العلم كما قد صانها | وعليه جمعت كل قواها |
لم تكن معصومة كيف حوت | عصمة الرسل وما زلت خطاها |
سائلوا الأمة عن آثارها | ما الذي فتش عنها فرآها |
جل ما كان له من همه | خدمة العلم ولم يطلب سواها |
لم يدع من فرصة سانحة | في سبيل الحق إلا وأتاها |
إن دعا فتح أبواب السما | وله ألقت مفاتيح غطاها |
هكذا من قام يدعو للهدى | في بيوت رفع الله بناها |
فقد التاريخ في حجرته | قلما أروع من لدن قناها |
كم به نقب عن مكنونة | كجبين الشمس عالي منتماها |
لج في النقيب حتى لم يدع | وصمة في الدين إلا ومحاها |
كم له من حكمة بالغة | كيد الرسل وقران نداها |
تتجلى مثلا مرئية | كالنجوم الزهر لم تخطئ هداها |
مال ركنا وتداعى أمة | شد بالإقدام والكر لواها |
عم حتى لم يدع من مهجة | بلظى الأحزان إلا وكواها |
إيه يا هاشم ما أبعدها | صرخة في إذن النجم صداها |
إيه يا جلق والنجم هوى | فوق أرض قدس الله ثراها |
ومذ الركب تنادى وخطا | عبر سوريا توالت عبرتاها |
ترمق التابوت في صحرائها | مشرفا كالركن عال كذراها |
يتخطى البيد في موكبه | حوله الرايات كالليل دجاها |
فمشت تعثر في أذيالها | وهوت تلطم بالراح الجباها |
صرخة الشام دوت وانطلقت | من حنايا الأرز جياشا أساها |
أطرقت مصر ولبنان وانحنى | وله بغداد قد شقت رداها |
نبأ طاف به البرق على | صهوات الريح محموما هواها |
يترامى سحبا مظلمة | من جلال الرزء مربد فضاها |
وكأن الناس لما أن دجت | لفها الليل فلم تبصر سراها |
وعليها طلعت شمس الضحى | من وراء البيد معصوبا ضحاها |
كلما لاح لها النعش ارتمت | دونه الأبصار مكفوفا ضياها |
وعليه نكست أعلامها | وقريش حملته في رداها |
ما رأى العرب ولا العجم رأت | علما فيه تولت أمتاها |
قلدته دينها عن خبرة | وإليه صرفت كل مناها |
بلسم جف عن الداء العيا | بعد ما مس جراحا وبراها |
طارد اللد خصاما في الهدى | وعن الغي إلى الله ثناها |
القوافي التهبت ألفاظها | والمعاني جمرات من لظاها |
تتنزى مهجا محمومة | تلفظ الآلام شجوا شفتاها |
قصيدة الأستاذ إبراهيم شرارة
أي رزء دهى وخطب داهم | حل في موطني فهد الدعائم |
وتمادى فلا المآذن حشد | لصلاة ولا المصلى زاحم |
فكأن الأذان وهو ابتهال | ودعاء سمح، وسجع حمائم |
عاد مثل الصدى تجاذبه واديه | ثم احتواه صمت ظالم |
وكأن الصلاة وهي مناجاة | ضمير وهينمات نسائم |
هدها اليتم فانزوت تسأل | المحراب: ماذا دهى أباها الراحم؟ |
وكأن الكتاب خشية أن تفلت | رؤياه من جفون الحالم |
فطوى قلبه وأغمض جفنيه | وأغفى على رؤاه النواعم |
وكأن اليراع وهو جنان | راعف بالحياة في يد عالم |
راعه الفقد فانثنى في فتور | وارتمى مجهدا ضعيف العزائم |
يا فقيد الإسلام رحت عن الدين | فهلا أعنته في المآتم |
فبلاد الأعراب، كل ديار | رغبت لو تكون فيها جاثم |
زاحمت بعضها عليك وأصغى الخـ | ـلد سمعا، إلى زحام العواصم |
ودمشق في الدهر مثوى المروءا | ت، ومأوى الجلى، وأم المكارم |
سبقت فيك كل دامعة العين، | وضمتك مغنما في المغانم |
وقديما تحدت الشهب لو تحوي | عظاما، كما حوت وعظائم |
يا كريما مضى وفي الخلد مأوى | وخلود للذاهبين الأكارم |
حدث الغابرين كيف رضينا العيـ | ـش ظفرا فظا، وسم أراقم |
قل لهم أننا على الحق أشتات، | فهذا بان، وهذا هادم |
والهدى ضاع صوته في ضجيج | الغي، وانبح في دوي الزمازم |
كنت أنت الهادي، فمن يشعل الز | يت، ومن ذا يشد فينا الدعائم |
وإماما يأتم فيه المصلون | ودرعا من كل أمر مداهم |
ما خشينا الجمود فيك ولولا | أن يقولوا غالى محب هاشم |
لجعلناك في الزمان وليا | كعلي الرضا وموسى الكاظم |
شاء فيك التاريخ أن يشرح الفضل | كتابا لكل جيل فاهم |
وتهادى إليك يسترق السمع، | عساه ينير بعض المعالم |
فإذا أنت قد سبقت إليه | وتحدثته فكنت التراجم |
وإذا أنت بين كتبك أجيال، روا | ها جيل من الكتب زاحم |
لست أبكيك بالدموع ولكن | بالقوافي سخية والملاحم |
ودموع القريض أصدق في القو | ل، وأوفى عهدا، ودمع دائم |
قصيدة الأستاذ نجيب صعب
ويح الرزايا أبت أن تثني وبنا | بقيا من الأمل المرجو تحيينا |
جنت أعاصيرها الحمراء فانطلقت | تدك كل عظيم من أمانينا |
وأطفأت بعد مصباحا أضاء كما | بعين موسى تجلى النور في سينا |
وآية الله في أقداسها جمعت | نور الهداية إيمانا وتلقينا |
للمسلمين إماما، للتقى علما | آثاره تملأ الدنيا عناوينا |
للبائسين جناحا خافضا وندى | وللطغاة عدوا قد أبى لينا |
إحسانه باسمه والصدق كنيته | والانتساب إلى خير النبيينا |
أيامه ازدحمت بالمعليات كما | كانت مبراته بين الورى دينا |
عز النظير وهل في الناس من رجل | إن أخلف الغيث من نجواه يسقينا |
أو جاهد بين أوراق ينضدها | شرعا وعلما وأخلاقا وتبيينا |
حسب المفاخر "أعيان" بمحوره | دار الخلود مع الماضي يحيينا |
"والمحسنية" للآتي وحاضرنا | من الحضارة والأخلاق تدنينا |
والطائفية واراها بحكمته | وطالما داؤها أعيا المداوينا |
أن يحجب الموت عنا نور طلعته | فليس يحجب نورا ذره فينا |
لا أذرف الدمع للبلوى وإن عظمت | ولا أردد أقوال المعزينا |
بل أحبس الدمع إجلالا لهيبته | وأجعل الصمت دون القول تأبينا |
قصيدة الأستاذ يونس يونس
قم ردد النبأ الخطير وجدد | وانحت رثاءك من قواف شرد |
ودع الخيال يطوف أجواز الفضا | يجني الأزاهر من رياض الفرقد |
ودع النفوس على سجاياها فما | أبقى المصاب تجلدا للموجد |
الله أكبر كل حي للردى | يمضي الوجود على نظام مسدد |
ما مات من أحيا تراثا خالدا | مهما يطل عمر البرية يخلد |
إن الأمين بفضله ووقاره | لهو الأمين بفكره المتوقد |
إن الأمين بفضله وصلاحه | لهو الأمين بروحه المتجدد |
قد عاش عيش الزاهدين تقشفا | لله، شأن الزاهد المتعبد |
نبذ النعيم تواضعا وترفعا | وزمام دنياه منوط باليد |
وجد الحياة قصيرة آمادها | فأبادها بين النهى والسؤدد |
سبط النبي لأنت أول من سرى | قدما على ضوء النبي محمد |
أرخصت فيك مدامعي وسفحتها | طي الأسى لو كان دمعي مسعدي |
يا صاحب القلم الذي رافقته | تسعين حولا ما كبا في مقصد |
تجلو اليقين من الشكوك بثاقب | من رأيك الشافي لذي الروح الصدي |
سيظل صاحبك الوفي ألم تقل | قلمي ضعوه جانبي في مرقدي |
هذي وصيتك الفريدة أنها | أطروفة في بابها المتفرد |
هي أن تدل فإنما دلت على | إخلاص سعيك يا نبيل المحتد |
سيدوم ذكرك في البلاد مخلدا | مهما يطل عمر الزمان الأبعد |
وتظل رمزا للبلاد مجسما | في دهرها المتكرر المتجدد |
فاذهب حميدا إذا ذهبت مكرما | وانعم هنالك بالنعيم السرمدي |
قصيدة الأستاذ إبراهيم حاوي
ذكرناك في الزمن المفزع | وفي خطبنا الجلل المفجع |
أبا العلم والفضل والمكرمات | وسيدنا ذو الهدى الأصدع |
وحقك في سر هذا الأسى | لما بحت لو كان صبري معي |
وكنت تكتمت عن شامت | وصنت الدموع ولم أجزع |
ولكنها فيضة من شعور | أقضت بأحلامها مضجعي |
فحتام نومك عن واجب | وأنت المحب كما تدعي |
أما تستفزك نجوى الضمير | أما هز شعرك صوت النعي |
رويدك عن علاك أجل الصفات | وجاءت من الوصف بالمبدع |
فضائل يعيى الورى عدها | ويعجز عن حفظها الأصمعي |
وأي المعالي بها لم يشر | إلى فضلك الجم بالأصبع |
عشقت المعالي صغيرا كبيرا | لك الله من عاشق مولع |
ووليت وجهك شطر الخلود | وما لك إلاه من مطمع |
سهرت الليالي لكسب المعالي | فلم تغض جفنا ولم تهجع |
فكنت الهمام وكنت الإمام | وكنت المقدم في المطلع |
وكنا إذا ساورتنا الشكوك | رجعنا إلى الحجة المرجع |
فتجلي العويص من المشكلات | وترجع بالحق من منبع |
بكى الدين فيك الهدى والصلاح | بكى فيك مفضاله الألمعي |
بكتك الفضيلة ملتاعة | نحن إلى عهدك الممرع |
وضج الكتاب فما قارئ | يوفيه حقا إذا ما دعي |
بكتك الدروس بكتك الفروض | بكتك المشاكل في المجمع |
بكتك الصلاة بميقاتها | وجادت بأدمعها الهمع |
أسيدنا والخطوب الجسام | توكل بالسيد الأرفع |
لعهدك بالقلب باق مقيم | وبين الحنايا وبالأضلع |
وحق الوفاء لو أن الدموع | تفيد لأرخصت من أدمعي |
ولكنه قدر حاكم | متى حم، فالحذر لم ينفع |
وإن المنايا لدوارة | علينا بكأس لها مترع |
قصيدة الشيخ سليمان ظاهر الثانية
ثلمة في الدين هيهات تسد | وجوى هيهات أن يخبو له للحشر زند |
والردى سدد سهما نافذا | لحشى الدين وما ألواه رد |
حسبه أن كان من أهدافه | محسن من فخرت فيه معد |
علم أرسى من الهضب حجى | يتفيا ظله حر وعبد |
وله في مشرق الدنيا وفي | غربها يخفق فوق النجم بند |
جمعت فيه مزايا ما انتهت | بقبيل وحواها وهو فرد |
ما على غير التقى ليث له | وعفاف النفس والعرفان برد |
وكأن من خلق طه جده | خلقه والعلم منه مستمد |
أوحدي ما له في كل ما | قد وعاه صدره ترب وند |
أبيض الصفحة فواح السنا | عنه يروي نشوه مسك وند |
وكأن ما بين جفنيه وما | ألفا النوم وبين النجم عقد |
ما لما قد سطرت أقلامه | من تصانيف كزهر الأفق عد |
برز "الأعيان" شمسا بينها | ليس يخفي نورها ثان وضد |
هو بكر في تصانيف الورى | ويجيد الفضل والأيام عقد |
محسن من حسنات الدهر ما | انفك حادي الحمد في علياه يحدو |
يتهادى عبقا من نشرها | مالئا أيامه غور ونجد |
لكأن الله قد صوره | جوهرا لكنما الجوهر فرد |
كل فضل فهو محدود سوى | فضله ما أن له رسم وحد |
كل ما حصل في أيامه | فهو في أيامه مجد وحمد |
ذاد عن دين الهدى في مرقم | هو في يمناه كالطائر يشدو |
ريقه صاب لمن ألحد في | دينه الحق وللمؤمن شهد |
لم يصانع قط ذا دنيا ومن | طبعه في كل ما تحويه زهد |
وهوى الرحلة للعلم ولم | ينته إلا له نص ووخد |
ولمن يشكو الظما من جهله | من طوامي علمه الزخار ورد |
عجبا وهو خضم كيف قد | ضمه من ضيق الغبراء لحد |
وبلبنان وسورية قد | نظم القطرين حزن لا يحد |
موكب في صدره مثل الذي | يحمل الموكب أشجان ووجد |
وكمثل العرب حزنا وأسى | شب في أضلاعهم فرس وهند |
قصيدة الأستاذ حليم دموس
يا (محسنا)!.. أنت (الأمين) فناجنا | يا من بلغت إلى أعز مراتب |
الروح خالدة كأرواح الألى | زانوا الورى بمآثر ومناقب |
غادرت دنيانا وينبوع الهدى | من بحر علمك شرعة للطالب |
حدث بني الدنيا فصوتك لم يزل | متجاوبا وصداك ليس بغائب! |
ولقد سمعتك في الشآم محدثا | والنشء يرنو للشهاب الثاقب |
يتسمعون إلى بلاغة قائد | وهم كجند حوله وكتائب! |
لم أنس يوم وقفت تخطب قائلا: | "لا فرق بين مذاهب ومذاهب" |
الدين للرحمن جل جلاله | فتوحدوا والله أعظم غالب |
"والمؤمنون من العروبة أخوتي | والخلق كلهم كبعض ربائبي" |
"و (المحسنية) منهل لشبيبتي | و (اليوسفية) منهل لكواعبي" |
تلك (الرسالة) كم رحلت لأجلها | بعزيمة دكت جبال مصاعب |
أديتها منذ الحداثة مرشدا | تلك النفوس إلى صحيح مطالب |
لله (معلمة) جمعت شتاتها | لتذود عن وطن عزيز الجانب |
رصعتها ببدائع وروائع | وملأتها بنفائس وأطايب! |
أما يراعك فهو في آثاره | رمز لنجم القطب بين ثواقب |
وسمعت عنك وصية رددتها | لبنيك ببن أحبة ومواكب |
أبني!...... لا تتفرقوا بل سددوا | أقلامكم كيما تتم رغائبي |
لي عندكم (قلم) إذا ناديته | يجري فتلمع في الطروس كواكبي |
وجهته للخير في زمن الصبى | فأطاعني طوع الغلام التائب |
كم غاضبتني الحادثات و(مرقمي) | ما كان يوما في الحياة مغاضبي |
علمته كيف الوفاء فكان لي | يوم الصعاب مخففا لمصائبي |
ورأيته نور الحقيقة فانبرى | كالسيل فوق صحائفي ومكاتبي |
صاحبته (حيا) وأهوى قربه | (ميتا) ليبقى في الضريح مصاحبي |
فتذكروا قبل المنون وصيتي | وإذا قضيت ضعوا (اليراع) بجانبي |
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 10- ص: 333