تنكز الأمير الكبير المهيب سيف الدين أبو سعيد نائب السلطنة بالشام. جلب إلى مصر وهو حدث، فنشأ بها وكان أبيض إلى السمرة. رشيق القد مليح الشعر خفيف اللحية، قليل الشيب حسن الشكل طريفه، جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، فاشتراه الأمير حسام الدين لاجين، فلما قتل لاجين في سلطنته، صار من خاصكية السلطان، وشهد معه واقعة وادي الخزندار ثم وقعة شقحب. أخبرني القاضي شهاب الدين ابن القيسراني قال: قال لي يوما أنا والأمير سيف الدين طينال من مماليك الملك الأشرف، سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وصحيح مسلم، وسمع من عيسى المطعم، وأبي بكر ابن عبد الدايم، وحدث. قرأ عليه المقريزي- هو الشيخ محيي الدين عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن تميم المقريزي الحنبلي: جد والد أبي علي بن عبد القادر- ثلاثيات البخاري بالمدينة النبوية. أمره السلطان الملك الناصر إمرة عشرة قبل توجهه إلى الكرك، وكان قد سلم إقطاعه إلى الأمير صارم الدين صاروجا المظفري، وكان على مصطلح الترك آغا له؛ ولما توجه إلى الكرك، كان في خدم السلطان. وجهزه مرة إلى دمشق رسولا إلى الأفرم؛ فاتهمه أن معه كتبا إلى أمراء الشام، فحصل له منه مخافة شديدة، وفتش وعرض عليه العقوبة. فلما عاد إلى السلطان عرفه بذلك فقال له: إن عدت إلى الملك فأنت نائب دمشق. فلما حضر من الكرك جعل الأمير سيف الدين أرغون الدوادار نائب السلطنة بمصر بعد إمساك الجوكندار الكبير، وقال لتنكز ولسودي: احضرا كل يوم عند أرغون، وتعلما منه النيابة والأحكام، فبقيا كذلك سنة يلازمانه، فلما مهرا، جهز سيف الدين سودي إلى حلب نائبا، وسيف الدين تنكز إلى دمشق نائبا، فحضر إليها، على البريد هو والحاج سيف الدين أرقطاي والأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار، فكان وصولهم إليها في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مائة، وتمكن في النيابة. وسار بالعساكر إلى ملطية، فافتتحها، وعظم شأنه، وهابه الأمراء بدمشق ونواب الشام، وأمن الرعايا به ولم يكن أحد من الأمراء ولا من أرباب الجاه يقدر يظلم أحدا، ذميا أو غيره خوفا منه لبطشه وشدة إيقاعه. ولم يزل في ارتقاء وعلو درجة يتضاعف إقطاعه وإنعامه وعوائده من الخيل والقماش والطيور الجوارح، حتى كتب له اعز الله أنصار المقر الكريم العالي الأميري، وفي الألقاب: الأتابكي الزاهدي العابدي وفي النعوت: معز الإسلام والمسلمين، سيد الأمراء في العالمين. وهذا لم تعهده يكتب عن سلطان لنائب ولا غير نائب على اختلاف الوظائف والمناصب. وكان السلطان لا يفعل شيئا في الغالب حتى يسير إليه ويستشيره فيه، وقلما كتب إلى السلطان في شيء فرده، ومهما قرره من إمرة ونيابة ووظيفة وقضاء وإقطاع وغير ذلك، ترد التواقيع السلطانية بإمضائها. ولم اسمع أنا ولا غيري أنه أعطى لأحد إقطاعا ولا إمرة ولا وظيفة، كبيرة كانت أو صغيرة، فأخذ عليها رشا؛ بل كان عفيف اليد والفرج. وقال لي شرف الدين النشو: إن إنعامه الذي خصه من السلطان في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مائة بلغ ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم خارجا عن إنعامه من الخيل والسروج، وما له على الشام من العين والغلة والغنم. ثم رأيت أوراقا بيده فيها كلفته وهي: ثلاثة وعشرون قائمة بما يحتاج إليه في أمره. من جملة ذلك طبلا باز ذهبا صرفا زنتهما ألف مثقال والقباء العفير الذي يلبسه. آخرا قال لي النشو: إنه يتقوم على السلطان بألفي دينار مصرية فيه ألف وخمس مائة دينار. ثم توجه بعد ذلك أربع مرات فيما أظن، وفي كل مرة يتضاعف له الإنعام، وزاد تمكنه وهيبته، إلى أن كان أمراء مصر من الخاصكية يخافونه. ولقد حدثني الأمير سيف الدين قرمشى الحاجب: إن السلطان قال له: يا قرمشي، لي ثلاثين سنة وأنا أحاول من الناس أن يفهموا عني ما أرومه في حق الأمير، ولم يفهم الناس عني ذلك، وناموس الملك يمنع من قولي ذلك بلساني وهو أني لا أقضي حاجة لأحد إلا على لسانه أو بشفاعته، ودعا له بطول العمر. فبلغه ذلك، فقال: بل أموت في حياة مولانا السلطان. فلما أنهى ذلك الأمير سيف الدين قرمشي إلى السلطان، قال له: قل له لا أنت إذا عشت بعدي نفعتني في أولادي وحريمي وأهلي، وإذا مت قبلي، إيش أعمل مع أولادك. أكثر ما يكونون أمراء، وها هم الآن أمراء في حياتك أو كما قال. واعتمد شيئا ما سمعناه عن غيره، وهو أنه كان له كاتب ليس له شغل ولا عمل غير عمل حساب ما يدخل خزانته من الأموال وما يستقر له، فإذا حال الحول عمل أوراقا بما يجب عليه صرفه من الزكاة، فيأمر بإخراجه وصرفه إلى ذوي الاستحقاق.
وزادت أمواله وأملاكه، عمر الجامع المعروف به بحكر السماق بدمشق، وأنشأ إلى جانبه تربة وحماما، وعمر تربة إلى جانب الخواصين لزوجته، وعمر دارا للقرآن إلى جانب داره دار الذهب، وأنشأ بالقدس رباطا، وعمر القدس وساق إليه الماء وأدخله إلى الحرم على باب المسجد الأقصى، وعمر به حمامين وقيسارية مليحة إلى الغاية. وعمر بصفد البيمارستان المعروف به وجدد القنوات بدمشق، وكانت مياهها قد تغيرت، وجدد عمائر المساجد. والمدارس، ووسع الطرقات بها، واعتنى بأمرها. وله في سائر الشام آثار وعمائر وأملاك. ولم يكن عنده دهاء ولا له باطن ولا يحتمل شيئا ولا يصبر على أذى ولم يكن عنده مداراة للأمراء، ولا يرفع بهم رأسا، وكان الناس في أيامه آمنين على أموالهم ووظائفهم، وكان في كل سنة يتوجه إلى الصيد بالعسكر إلى نواحي الفرات، وعدي بعض في السفرات الفرات، وأقام في ذلك البر خمسة أيام يتصيد وكان الناس ينجفلون قدامه إلى بلاد توريز وسلطانية وكذلك بلاد ماردين وبلاد سيس. وكان ما له غرض غير الحق والعمل به ونصرة الشرع، خلا أنه كان به سوداء يتخيل بها الأمر فاسدا، ويبنى عليه، فهلك بذلك أناس، ولا يقدر أحد من مهابته يوضح له الصواب، ولا يقول له الحق فيما يفعله. وكان إذا غضب لا سبيل له إلى الرضى ولا العفو، وإذا بطش، بطش بطش الجبارين، ويكون الذنب يسيرا نزرا، فلا يزال يكبره ويزيده ويوسعه إلى أن يخرج فيه عن الحد، ورأيت من سعادته أشياء: منها؛ إذا غضب على أحد في الغالب لا يزال في خمول وتعاسة إلى أن يموت. قال القاضي شرف الدين أبو بكر ابن الشهاب محمود: والله مازلت في هم وخوف وتوقع لمثل هذا حتى أمسك ومات، وما غضب على أحد ثم رضي عليه. حكى لي قوام الدين أحمد بن أبي الفوارس البغدادي، قال: قلت له يوما: والله يا خوند أنا رأيت أكبر منك أكبر وأكثر أموالا منك فلما سمع هذا الكلام تنمر وقال لي بغيظ: من رأيت أكبر مني وأكثر مالا؟ فقلت له خربندا وجوبان وبو سعيد، فلما سمع ذلك سكن غيظه، ثم قلت له: إلا أنهم لم تكن الرعايا تحبهم هكذا، ولا يدعون لهم مثلما يدعو رعاياك لك ولا كانت رعاياهم في هذا الأمن وهذا العدل فقال لي: يا فلان، أي لذة للحاكم إذا لم يكن رعاياه آمنين مطمئنين؟!.
ومن إيثاره للعدل: أنه كان يوما يأكل معه بعض خواصه، أنسيت اسمه، فنظر إلى أسبعه مربوطة فسأله عن السبب فأنكره، فم يزل به حتى قال: يا خوند، واحد قواس، عمل قوسا ثلاث مرات فأغاظني فلكمته فلما سمع كلامه التفت عن الطعام وقال: أقيموه، ورماه وضربه على ما قيل أربع مائة عصا، وقطع إقطاعه، وبقي غضبان عليه سنين حتى شفع فيه، فرضي عليه. وقال لي ناصر الدين محمد بن كوندك دواداره، بعد موت تنكز بسنين: والله ما رأيته مدة ما كنت في خدمته غافلا عن نفسه في وقت من الأوقات. ولا أراه إلا كأنه واقف بين يدي الله تعالى، وما كان يخلو ليله من قيام إلا بوضوء جديد أو كما قال. وكان الشيخ حسن بن دمرتاش قد أهمه أمره وخافه، فيقال إنه تمم عليه عند السلطان، وقال له: إنه قصد الحضور إلى عندي والخامرة عليك. فتنكر السلطان، وكان ذلك وهم في عزم حضور الأمير سيف الدين بشتاك وسيف الدين يلبغا اليحيوي وعشرين أميرا من الخاصكية ببنتي السلطان من مصر إلى دمشق ليزوجوهما بولدي الأمير سيف الدين تنكز، فبعث يقول: يا خوند، إيش الفائدة في حضور هؤلاء الأمراء الكبار إلى دمشق، والبلاد الساحلية في هذه السنة ممحلة، ويحتاج العسكر إلى كلفة عظيمة، أنا أحضر بولدي إلى الباب ويكون الدخول هناك فجهز إليه الأمير سيف الدين طاجار الدوادار، وقال له: السلطان يسلم عليك، ويقول لك إنه ما بقي يطلبك إلى مصر، ولا يجهز إليك أميرا كبيرا حتى لا تتوهم، فقال: أنا أتوجه معك بأولادي إليه، فقال له: لو وصلت إلى بلبيس ردك. وأنا: أكفيك هذا المهم، وبعد ثمانية أيام أكون عندك بتقليد جديد وإنعام جديد. فلبثه بهذا الكلام، ولو كان توجه إلى السلطان، كان؛ كان خيرا له، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وكان أهل دمشق في تلك المدة قد أرجفوا بأنه قد عزم على التوجه إلى بلاد التتار، فوقع ذلك الكلام في سمع طاجار الدوادار، وكان قد عامله تنكز في هذه المدة معاملة لا تليق به، فتوجه من عنده مغضبا، وكأنه حرف الكلام، والله أعلم، فتغير السلطان تغيرا عظيما، وجرد خمسة آلاف فارس أو عشرة، مقدمهم بشتاك، وحلف عسكر مصر أجمع، وخاف وجهز على البريد إلى الأمير سيف الدين طشتمر نائب صفد يأمره بالتوجه إلى دمشق لقبض تنكز. وكتب إلى الحاجب وإلى الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري وإلى الأمراء بالقبض عليه، وقال: إن قدرتم على تعويقه عن التوجه، فهو المراد، والعساكر تصل إليكم من مصر. فوصل الأمير سيف الدين طشتمر الظهر إلى المزة وجهز إلى الأمير سيف الدين الفخري وكان دواداره قد وصل بكرة النهار واجتمع بالأمراء؛ فاتفقوا، وتوجه الأمير سيف الدين اللمش الحاجب إلى القابون ووعر الطريق ورمى الأخشاب فيها والجمال وأحمال التبن، وقال للناس: إن غريم السلطان يعبر الساعة عليكم فلا تمكنوه، وركب الأمراء واجتمعوا على باب النصر. هذا كله وهو في غفلة عما يراد به، ينتظر ورود طاجار الدوادار، وكان قد خرج ذلك النهار إلى القصر الذي بناه في القطائع عند حريمه، فتوجه إليه الأمير سيف الدين قرمشي وعرفه بوصول الأمير طشتمر، فبهت لذلك وسقط في يده، فقال له: ما العمل؟ قال: ندخل إلى دار السعادة. فحضر ودخل إلى دار السعادة، وغلقت أبواب المدينة. وأراد اللبس والمحاربة. ثم إنه علم أن الناس ينهبون، ويلعب السيف في دمشق. فآثر إخماد الفتنة وأن لا يجرد سلاحا. وأشاروا عليه بالخروج، فجهز إلى الأمير سيف الدين طشتمر. وقال له: في أي شيء جئت، ادخل إلي، فقال: أنا جئتك رسولا من عند أستاذك، فإن خرجت إلي، قلت لك ما قال لي، وإن رحت إلى مطلع الشمس تبعتك، ولا أرجع إلا إن مات أحدنا، والمدينة ما أدخل إليها. فخرج إليهم وعاين الهلاك فاستسلم وأخذ سيفه وقيد خلف مسجد القدم وجهز إلى السلطان، وجهز معه الأمير ركن الدين بيبرس السلاح دار، العصر ثالث عشرين ذي الحجة سنة أربعين وسبع مائة. وتأسف أهل دمشق عليه، ويا طول أسفهم، فسبحان مزيل النعم، الذي لا يزول ملكه ولا يتغير عزه، ولا تطرأ عليه الحوادث. ولقد رأيته بعيني في سنة تسع وثلاثين وسبع مائة، وقد خرج له السلطان في أمرائه وأولاده إلى بئر البيضاء يتلقاه، فلما قاربه، ترجل له وقبل رأسه وضمه إليه وبالغ في إكرامه، بعدما كان يجيء إليه أمير بعد أمير ويسلم عليه ويبوس يده وركبته راجلا، والأمير سيف الدين قوصون جاء إلى تلقيه إلى منزلة الصالحية وأما الإنعامات التي كان يفيضها عليه في تلك السنة من الرمل في كل يوم وإلى أن خرج في مدة تقارب الخمسين يوما، فشيء خارج عن الحد. ولقد رأيته وهو في الصيد تلك السنة بالصعيد، وقد جاء إليه السلطان وقدامه المراء: ملك تمر الحجازي ويلبغا اليحيوي والطنبغا المارداني وآقسنقر وآخر أنسيته الآن وعلى يد كل واحد منهم طير من الجوارح؛ فقال له: يا أمير، أنا أمير شكارك، وهؤلاء بازداريتك، وهذه طيورك، فأراد النزول ليبوس الأرض، فمنعه. ثم رأيته بعيني يوم أمسك وقيد، والحداد يقيمه ويقعده أربع مرات والعالم واقفون أمامه فكان ذلك عندي عبرة عظيمة، واحتيط على حواصله وأودع طغاي وجنغاي مملوكاه في القلعة، وبعد مدة يسيرة، حضر الأمير سيف الدين بشتاك وطاجار الدوادار والحاج أرقطاي وتتمة عشرة أمراء ونزلوا القصر الأبلق، وحال وصولهم، حلفوا الأمراء وشرعوا في عرض حواصله، وأخرجوا ذخائره وودائعه. وتوجه بشتاك إلى مصر ومعه من ماله ثلاث مائة ألف وستة وثلاثون ألف دينار مصرية وألف ألف وخمس مائة ألف درهم، وجواهر بلخش أحجار مثمنة وقطع غريبة ولؤلؤ غريب الحب، وطرز زركش وكلوتات زركش وحوايص ذهب بجامات مرصعة، وأطلس وغيره من القماش ما كان جملته ثمان مائة حمل. وأقام بعده برسبغا، وتوجه بعدما استخلص من الناس ومن بقايا أموال تنكز ومعه أربعون ألف دينار وألف ألف ومائة ألف درهم، وأخذ مماليكه وجواريه وخيله المثمنة إلى مصر، وأما هو فإنه جهز إلى إسكندرية وحبس بها مدة دون الشهر، ثم قضى الله تعالى فيه أمره. يقال: إن المقدم إبراهيم ابن صابر توجه إليه، وكان ذلك آخر العهد به، ومات وصلى عليه أهل الإسكندرية وقبره الآن يزار ويدعى عنده، رحمه الله تعالى:
فكأنه برق تألق بالحمى | ثم انطوى فكأنه لم يلمع |
إلى دمشق نقلوا تنكزا | فيا لها من آية ظاهره |
في جنة الدنيا له جثة | ونفسه في جنة الآخرة |
في نقل تنكز سر | أراده الله ربه |
أتى به نحو أرض | يحبها وتحبه |
أعاد الله شخصك بعد دهر | إلى بلد وليت فلم تخنها |
أقمت بها تدبرها زمانا | وتأمر في رعاياها وتنهى |
فلا هذا الدخول دخلت فيها | ولا ذاك الخروج خرجت منها |
كذا تسري الخطوب إلى الكرام | وتسعى تحت أذيال الظلام |
وتغتال الحوادث كل ليث | هزبر عن فريسته محام |
وتبذل بعد عز وامتناع | وجوه لم تعرض للطام |
فكم ملك غدا في الأمن دهرا | وآل إلى انتقال وانتقام |
إذا ما أبرم المقدار امرا | رأيت الصقر من صيد الحمام |
وهل يرجى من الدنيا وفاء | ولم تطبع على رعي الذمام |
إذا ضاقت جوانحنا بهم | توسعه بأنواع السقام |
أقال الله عثرتنا فإنا | رمانا الدهر في شر المرامي |
ورد الله عقبانا لخير | فقد أمسى الزمان بلا زمام |
تنكر يوم تنكز كل عرف | وسام الذل فينا كل سام |
ومال إلى المنية كل مولى | وحام على الرزية كل حام |
وأذهل يومه الألباب حتى | كأنا فيه صرعى بالمدام |
بكيت دمشق لما غاب عنها | وأوحش أفقها بدر التمام |
فيا تمزيق شمل العدل فينا | ويا تفريق ذاك الإنتظام |
ويا لمصيبة بدمشق حلت | شدائدها بأحداث عظام |
فم من مقلة للحزن تجري | مدامعها بأربعة سجام |
رعاه الله من راع أمين | أنام بعدله عين الأنام |
وكف حوادث الأيام عنهم | فلم تطرق حماهم بانتقام |
وكيف ينوبهم خطب ملم | وناب الدهر ناب غير تام |
حنو زاد فقال إفراط بر | يسكن برده لهب الضرام |
وتدبير خلا عن حظ نفس | وناب الرعب فيه عن الحسام |
ودست حكمه في دار عدل | تأيد بالملائكة الكرام |
وكم جبار قوم ذي عتو | تهيب أن يراه في المنام |
يساوي عنده في العدل بين الـ | ـكرام الغر والسود اللئام |
وهيبته سرت شرقا وغربا | وشاعت عنه في مصر وشام |
يراع المغل في توريز منه | ويطرق أرضهم في كل عام |
وكم قطع الفرات وصاد حتى | توغل في فضا تلك الموامي |
إذا ما قيل هذا الليث وافى | مضوا هربا كأمثال النعام |
فرائسه فرائصها تراها | دوامي لا تزال على الدوام |
ولم نر قبله ليثا أتته | أفاعي القيد تنذر بالحمام |
وقد رقت له فتئن حزنا | عليه في القعود وفي القيام |
ألا فاذهب سقيت أبا سعيد | فقد روى زمانك كل ظام |
فأنت وديعة الرحمن منا | تحوطك في الرحيل وفي المقام |
وليت فلم تخن لله عهدا | ولم تجذبك فيه عرى الملام |
حاشا أن يراك الله يوما | تعديت الحلال إلى الحرام |
ونلت من السعادة والمعالي | منالا حاز غايات المرام |
وكنت تحب نور الدين طبعا | لأنكما سواء في التزام |
رعيت كما رعى وحميت ما قد | حمى نفديك من راع وحام |
وكنت إذا دجا ليل القضايا | وكانت من مهمات جسام |
تفرجها بقول منك فصل | لأن القول ما قالت حذام |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 10- ص: 0
تنكز الأمير الكبير المهيب العادل الفريد سيف الدين أبو سعيد الأشرفي الناصري، نائب السلطنة بدمشق.
جلب إلى مصر وهو حدث فنشأ بها. وكان أبيض إلى السمره، كأن وجهه عليه حسن القمر وسعد الزهره، رشيق القامه، متوسط الهامه، مليح الشعر، لا يحسن وصفه من شعر، خفيف اللحية والشارب، يهتز إذا خطا من وسطه إلى السنام والغارب، قليل الشيب، بعيد من الخنا والفاحشة والريب، يملك نفسه عند المحارم، ويعد مغانم الفاحشة من المغارم، يذوب وجدا في هواه ويفنى غراما، ولا يرتكب - مع القدرة - حراما. يعظم الشرع الشريف ولا يخرج عن حكمه، ويوقر من يراه من الفضلاء لعلمه، ماله لذة في غير أمن رعاياه، ومن انضوى إلى ظله أو انزوى إلى زواياه، وكانت بذلك أيامه أعيادا، ولياليه أعراسا، وأموال الناس موفرة عليهم لا تفارق منهم أكياسا، كم أخذ الناس من إمره، وما نالهم غرامة خيط في إبره. وكم باشروا ولايات، وكم وصلوا إلى عدة نيابات، وكم وصل من إقطاع، وكم حكم حاكما فقضى وهو بأمره يطاع، وما أحد تنوبه غرامه، ولا يعرف أسد خبت من غزلان رامه.
هذا، مع معرفة ودربه، وأحكام قد سددها الله، فما نفع منه في مواطن غربه، يقرأ الموقع عليه القصة ويسكت، ويطرق بعد ذلك في الأرض ينكت، فيأخذها ويعطيها لمشد الأوقاف إن كانت تتعلق بأحكام القضاه، أو للحاجب إن كانت تتعلق بأمر يأباه ولا يرضاه، أو للصاحب إن كانت تتعلق بجامكية أو مرتب، أو لناظر الجيش إن كانت تتعلق بحدود أرض، أو من قد ظلم جنديه وتغلب، أو لوالي المدينة إن كان بعملة سرقت، أو حادثة نزلت بأحد أو طرقت. ومع هذا يقول لكل واحد منهم ما يعتمده، ويكون في حجته ومستنده، وجميع ذلك مسدد، موثق بالشرع وبالسياسة مشدد.
ولم ير الناس أعف من يده ولا من فرجه، ولا شاهدوا شمس عدل نزلت أحسن من برجه، وأطار الله طائر حرمته ومهابته في سائر البلاد، وأثار سائر معرفته بين أهل الجدال والجلاد، ولذلك كانت الأسعار رخيصه، والضعيف لا ترعد له من القوي فريصه، وسائر الأصناف موجوده، وأثمانها واقفة عند حدود محدوده.
ولهذا كتبت أنا من الديار المصرية إلى القاضي شهاب الدين بن القيسراني:
ألا هل لييلات تقضت على الحمى | تعود بوعد للسرور منجز |
ليال إذا رام المبالغ وصفها | يشبهها حسنا بأيام تنكز |
وكأنه برق تألق بالحمى | ثم انطوى فكأنه لم يلمع |
كذا تسري الخطوب إلى الكرام | وتسعى تحت أذيال الظلام |
وتغتال الحوادث كل ليث | هزبر عن فريسته محام |
وتبذل بعد عز وامتناع | وجوه لم تعرض للطام |
فكم ملك غدا في الأرض دهرا | وآل إلى انتقال وانتقام |
إذا ما أبرم المقدور أمرا | رأيت الصقر من صيدا الحمام |
وهل يرجى من الدنيا رفاء | ولم تطبع على رعي الذمام |
إذا ضاقت جوانحنا بهم | توسعه بأنواع السقام |
أقال الله عثرتنا فإنا | رمانا الدهر في شر المرامي |
ورد الله عقبانا لخير | فقد أمسى الزمان بلا زمام |
تنكر يوم تنكز كل عرف | وسام الذل فينا كل سام |
ومال إلى المدينة كل مولى | وحام على الرزية كل حام |
وأذهل يومه الألباب حتى | كأنا فيهب صرعى بالمدام |
بكيت دمشق لما غاب عنها | وأوحش أفقها بدر التمام |
فيا تمزيق شمل العدل فينا | ويا تفريق ذاك الإنتظام |
ويا لمصيبة بدمشق حلت | شدائدها بأحداث عظام |
فكم من مقلة للحزن تجري | مدامعها بأربعة سجام |
رعاه الله من راع أمين | أنام بعدله عين الأنام |
وكف حوادث الأيام عنهم | فلم تطرق حماهم بانتقام |
وكيف ينوبهم خطب ملم | وناب الدهر فيهم غير نام |
حنو زاد في إفراط بر | يسكن برده لهب الضرام |
وتدبير خلا عن حظ نفس | وناب الرعب فيه عن الحسام |
ودست حكمه في دار عدل | تأيد بالملائكة الكرام |
وكم جبار قوم ذي عتو | تهيب أن يراه في المنام |
يساوي عنده في العدل بين الـ | ـكرام الغر والسود اللئام |
وهيبته سرت شرقا وغربا | وشاعت عنه في مصر وشام |
يراع المغل في توريز منه | ويطرق أرضهم في كل عام |
وكم قطع الفرات وصاد حتى | توغل في فضا تلك المرامي |
إذا ما قيل هذا الليث وافى | مضوا هربا كأمثال النعام |
فرائسه فرائصها تراها | دوامي لا تزال على الدوام |
ولم نر قبله ليثا أتته | أفاعي القيد تنذر بالحمام |
وقد رقت لنا فتئن حزنا | عليه في القعود وفي القيام |
ألا فاذهب سقيت أبا سعيد | فقد روى زمانك كل ظام |
فأنت وديعة الرحمن منا | تحوطك في الرحيل وفي المقام |
وليت فلم تخن لله عهدا | ولم تجذبك فيه عرى الملام |
وحاشى أن يراك الله يوما | تعديت الحلال إلى الحرام |
ونلت من السعادة والمعالي | منالا حاز غايات المرام |
وكنت إذا دجا ليل القضايا | وكانت من مهمات جسام |
تفرجها بقول منك فصل | لأن القول ما قالت حذام |
وكنت تحب نور الدين طبعا | لأنكما سواء في التزام |
رعيت كما رعى وحميت ما قد | حمى نفديك من راع وحام |
بقيت ممتعا بالخلد حتى | يقوم الناس من تحت الرجام |
إلى دمشق نقلوا تنكزا | فيالها من آية ظاهرة |
في جنة الدنيا له جثة | ونفسه في جنة الآخرة |
في نقل تنكز سر | أراده الله ربه |
أتى به نحو أرض | يحبها وتحبه |
أعاد الله شخصك بعد دهر | إلى بلد وليت فلم تخنها |
أقمت بها تدبرها زمانا | وتأمر في رعاياها وتنهى |
فلا هذا الدخول دخلت فيها | ولا ذاك الخروج خرجت منها |
دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان / دار الفكر، دمشق - سوريا-ط 1( 1998) , ج: 2- ص: 115
تنكز نائب الشام تنكز نائب الشام يكنى أبا سعيد جلب إلى مصر وهو صغير فاشتراه الأشرف وأخذه لاجين بعده ثم صار إلى الناصر فأمره عشرة قبل الكرك ثم كان في صحبته بالكرك يترسل بينه وبين الأفرم فاتهم الأفرم مرة أن معه كتبا إلى أمراء الشام ففتشه وعرض عليه العقوبة فرجع إلى الناصر وشكا إليه ما لاقاه من الإهانة فقال له إن عدت إلى الملك فأنت نائب الشام عوضه فلما عاد إلى المملكة قال لتنكز ولسودي لازما أرغون النائب وتعلما أحكامه فلازماه سنة ثم جهز سودي لنيابة حلب وتنكز لنيابة الشام على البريد وكان أول ما أمر طبلخاناة في أواخر شوال سنة 709 بعد رجوع الناصر إلى المملكة وكانت ولايته دمشق في ربيع الآخر سنة 712 وأرسل معه الحاج أرقطاي والحسام طرنطاي وأمره أن لا يقطع أمرا دونهما فباشرها وتمكن منها ولما لبس الخلعة وحضر الموكب مدحه علاء الدين ابن غانم موقع الدست فأثابه واستمر يجلس وإلى جانبه أرقطاي فتقرأ القصص عليهما وسلك تنكز سبيل الحرمة والناموس البالغ وفتح الله على يديه ملطية في سنة 715 وذلك أنه استأذن السلطان في ذلك فأذن له فأظهر أنه يريد التوجه إلى سيس فخرجت العساكر من جميع البلاد معه وخرج هو في زي دست السلطنة بالعصائب والكوسات ومعه القضاة فلما وصل إلى حماة تلقاه المؤيد فلم يحفل به ولم يأكل طعامه لكونه لم يتلقاه من بعد فلما وصل إلى حلب جرد عسكرا إلى ملطية ثم توجه إثره فنازلها إلى أن فتحها ورحل بأسرى وغنائم ومال كثير فعظم شأنه وهابه الأمراء والنواب قال الصفدي سار السيرة الحسنة العادلة بحيث لم تكن له همة في مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا منكح إلا في الفكرة في تأمين الرعايا فأمنت السبل في أيامه ورخصت الأسعار ولم يكن أحد في ولايته يتمكن من ظلم أحد ولو كان كافرا وبعد سنة من ولايته زاد الناصر في إقطاع نيابة الشام لما وقع الروك الناصري ثم تقدم أمره إلى جميع النواب بالبلاد الشامية أن يكاتبوا تنكز بجميع ما كانوا يكاتبون به السلطان وهو يكاتب عنهم ولم يزل في علو وارتقاء حتى كان الناصر لا يفعل شيئا إلا بعد مشاورته ولم يكتب هو إلى السلطان في شيء فيرده فيه إلا نادرا ولم يتفق في طول ولايته أنه ولى أميرا ولا نائبا ولا قاضيا ولا حاجبا ولا وزيرا ولا كاتبا إلى غير ذلك من جليل الوظائف وحقيرها برشوة ولا طلب مكافأة بل ربما كان يدفع إليه المال الجزيل لأجل ذلك فيرده ويمقت صاحبه وكان يتردد إلى القاهرة بإذن السلطان فيبالغ في إكرامه واحترامه حتى قال النشو مرة الذي خص تنكز في سنة 733 خاصة مبلغ ألف ألف وخمسين ألفا خارجا من الخيل والسروج وكان قد سمع الحديث من عيسى المطعم وأبي بكر بن أحمد بن عبد الدائم وابن الشحنة وغيرهم ولما حج قرأ عليه بعض المحدثين بالمدينة الشريفة ثلاثيات البخاري قال الأمير سيف الدين قرمشي قال لي السلطان مرة لي مدة طويلة أطلب من الناس شيئا لا يفهمونه عني وناموسي أذاك يمنعني أن أصرح به وهو أني لا أقضي لأحد حاجة إلا على لسان تنكز ودعا له بطول العمر قال فبلغت ذلك له فقال بل أموت أنا في حياة السلطان فبلغها السلطان فقال لا قال له أنت إذا عشت بعدي نفعتني في أولادي وأهلي وأنت إذا مت قبلي إيش أعمل أنا مع أولادك أكثر مما عملت هاهم أمراء في حياتك وعمر بدمشق جامعا بحكر السماق في غاية الحسن وتربة ودارا وحماما ومسجدا ومكتبة أيتام بجوار امرأته بالخواصين ودار إيوان نحو القليجية وبيمارستان بصفد ورباطا وحمامين بالقدس وساق الماء إلى المسجد وقيسارية وجدد القنوات بدمشق وجدد عامة الزوايا والمدارس والربط ووسع الطرق وأصلح الرصيف وهدم أماكن كثيرة كانت استجدت في أسواق دمشق فضاقت بها الطرق فانتفع الناس بذلك وعدم لأصحابها شيء كثير فلم يتجاسر أحد أن ينكر عليه وحج في سنة 721 وأقام عنه بيبرس الحاجب نائب غيبة ويقال أنه قدم القاهرة بعد حجه فأمر السلطان الأمراء أن يهادوه فكانت جملة ما قدم له ثمانين ألف دينار وكان يدور بنفسه بالليل مختفيا ويشير بما يراه فما يصبح ذلك المكان إلا والصناع تعمل فيه وله بالديار المصرية دار مليحة وحمام مشهور بالكافوري قال وكان الناس في ولايته آمنين على أنفسهم وحريمهم وأولادهم وأموالهم ووظائفهم وكان يتوجه في كل سنة إلى الصيد وربما عدى الفرات وتصيد في ذلك البر أياما وكان أهل تلك البلاد ينجفلون قدامه إلى تبريز والسلطانية وماردين وسيس وكان مثابرا على عمل الحق ونصر الشرع إلا أنه كان كثير التخيل شديد الحدة سريع الغضب ولا يقدر أحد يراجعه من مهابته ولم يحفظ عنه أنه غضب على أحد فرضي عنه بعد ذلك سريعا وإذا بطش بطش بطش الجبارين وكان إذا غضب على أحد لا يزال ذلك المغضوب عليه في انعكاس وخمول إلى أن يموت غالبا وكان يقول أي لذة للحاكم إذا كانت رعاياه يدعون عليه وما كان يخلو ليلة من قيام لصلاة ودعاء وما صلى غالبا إلا بوضوء جديد حفظ عنه أنه لم يمسك بيده ميزانا قط منذ كان في الطباق إلى آخر عمره وكان يعظم أهل العلم وإذا كان عنده منهم أحد لم يسند ظهره بل ينفتل ويقبل بوجهه إليه ويؤنسه بالقول والفعل وكان سليم الباطن ليس عنده دهاء ولا مكر ولا يصبر على الأذى ولا يداري أحدا من الأمراء وكان الناصر أرسل إليه يقول له إنني أريد أن أجهز بنتين لي لتتزوجا بابني الأمير تنكز صحبة عشرين خاصكيا من الأمراء وكانت تلك السنة ممحلة فخشي تنكز على الرعايا من الغلاء فكتب يسأل أن يؤذن له في الحضور إلى القاهرة بولديه ويكون الدخول هناك فجهز إليه طاجار يقول له أنه ما بقي يطلبك إلى مصر ولا يجهز إليك أميرا كبيرا حتى لا تتوهم فقال أنا أتوجه معك بأولادي فقال لو وصلت إلى بلبيس ردك وأنا أكفيك هذا المهم وأكون عندك بعد ثمانية أيام بنعلين جديد فثبطه بكلامه ويقال لو عصاه وسار إلى السلطان عذره ولم يلق إلا خيرا
ومن أعظم ما وقع له مع السلطان من الإكرام أنه قدم سنة 738 فخرج السلطان لملاقاته بسرياقوس وأرسل له قوصون بالإقامة ثم بعث له أولاده لما قرب ثم ركب فلما رآه ترجل فترجل كل من معه من الأمراء وألقى تنكز نفسه عن الفرس إلى الأرض وأسرع وهو يقبل الأرض وقد ذهب حتى انكب على قدمي السلطان فقبلهما فأمسك رأسه بيديه وأمره بالركوب وقدم في سنة 739 فكانت قيمة تقادمه للسلطان والأمراء مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار وبالغ السلطان في إكرامه حتى أخرج بناته فقبلن يده ثم عين منهن ثنتين لولدي تنكز وكتب له تفويض في جميع مملكة الشام وإن النواب بأسرها تكاتبه بما يكاتبه به السلطان ومن أعماله الجيدة أنه نظر في أوقاف المدارس والجوامع والمساجد والخوانق والزوايا والربط فمنع أن يصرف لأحد جامكية حتى يرم شعثها فعمرت كلها في زمانه أحسن عمارة وأمر بكسح الأوساخ التي في مقاسم المياه التي تخلل الدور وفتح منافذها وكانت انسدت فكان الوباء يحصل بدمشق كثيرا بسبب العفونات فلما صنع ذلك زال ما كان يعتادهم في كل سنة من كثرة الأمراض فكثر الدعاء له وأجرى العين إلى بيت المقدس بعد أن كان الماء بها قليلا وأقاموا في عملها سنة وبنى لها مصنعا سعته مائة ذراع وأكثر من فكاك الأسرى وأعظم ربح التجار الذين يجلبونهم وجمع الكلاب فألقاها في الخندق واستراح الناس من أذاهم وهدم أماكن كثيرة استجدت في أسواق دمشق ضيقت الطرقات من باب جسر الحديد إلى باب الفراديس وكان شاع في تلك الأيام أن تنكز عزم على التوجه إلى بلاد التتار فطرقت سمع طاجار فبلغها السلطان مع ما ضم إليها بسبب ما عامله به تنكز من الازدراء فتغير الناصر وجهز العساكر بإمساكه فوصل طشتمر المزة وغيره من الأمراء وليس عند تنكز خبر فتوجه إليه قرمشي إلى القصر الذي بناه بالقطائع فعرفه بوصول طشتمر فبهت لذلك وقال ما العمل قال تدخل دار السعادة ولم يزل به حتى سار معه فاستسلم وقيد وجهز سيفه إلى السلطان وذلك في ثالث عشرى ذي الحجة سنة 740 وتأسف أهل دمشق عليه والعجب أنه قبل ذلك في سنة 739 كان دخل مصر فتلقاه السلطان بأولاده وأمرائه فلما قاربه ترجل له وعانقه وقبل رأسه وبالغ في إكرامه وأركبه وخرج معه في تلك السنة إلى السرحة بالصعيد فجاؤها ومعه يلبغا اليحياوي وألطنبغا المارداني وملكتمر الحجازي وآقسنقر وعلى يد كل واحد منهم طير من الجوارح فقال الناصر با أمير هؤلاء البازدارية وأنا أمير شكارك وهذه طيورك فهم أن ينزل ليبوس الأرض فمنعه من ذلك ثم بعد القبض عليه أحيط بموجوده واعتقل خزنداره ثم وصل بشتاك وطاجار وأرقطاي للحوطة فخلفوا الأمراء وشرعوا في عرض حواصله ووجدوا له ما يجاوز الوصف من الذهب العين ثلاثمائة وثلاثون ألف درهم ومن الدراهم ألف ألف دينار وخمسمائة ألف درهم وأما الجواهر والحوائص والأقمشة والخيول ونحو ذلك فشيء كثير جدا ولما دخل القاهرة أمر السلطان جميع الأمراء والمماليك أن يقعدوا له بالطرقات من حذاء باب القلعة وأن لا يقوم له أحد ولم يجتمع به بل كان قوصون يتردد إليه في الرسلية حتى قال له أبصر من يكون وصيك فقال قل له خدمتك ونصيحتك لم تترك لي صديقا فأمر بتجهيزه إلى الاسكندرية فلم يدم في الاعتقال إلا دون الشهر ومات في أوائل سنة 741 ويقال أن ابن صابر المقدم هو الذي قتله وأرسل الناصر في كتابه إلى دمشق يقول أن تنكز كنا سألناه عن حواصله فلم يقر بشيء منها فلما بلغه أنا استأصلناه احتد من ذلك وحم حمي مطبقة فمات منها قرأت بخط الشيخ تقي الدين السبكي ما ملخصه في نصف ليلة الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة 748 رأيت في منامي أني أمر من مكان إلى مكان وسيف الدين تنكز قاعد في مكان فقام على قدميه لي فجئت فسلمت عليه وقلت له الله يعلي قدرك كما تعلي قدر الشرع قلتها له ثلاثا فقال لي تكلمت في الدليل وقسمته في شرح المنهاج مليحا وقال الذهبي في أواخر كتابه سير النبلاء كان ذا سطوة وهيبة وزعارة وإقدام على الدماء ونفس سبعية وفيه عتو وحرص مع ديانة في الجملة وكانت فيه حدة وقلة رأفة وكان محتجبا عن غالب الأمور فدخل عليه الدخيل من أناس مكنهم ثم استأصلهم وكان لا يفكر في عاقبة ولا له رأي ولا دهه وكان قد اعتمد على مملوكيه طفية وصفية فعملا القبائح وارتشيا وكان الوالي والحاجب يستأذنهما في كل شيء وكان تنكز لو اطلع على حقائق الأمور لم يبرم الأمر جيدا إما أن يقتدي أو يقصر لأنه كان سيء الرأي حطمة غشمة يخافه العدو والصديق ويحذره المحق والمبطل لا يصفح عن ذنب ولا يقبل عذرة ومع هذا لما أخذ رق له كثير من الرعية وحزنوا له قال وكان سياجا على دمشق والناس به في أمن والظلمة كافون والرعية في عافية من المصادرة والعسف وكان تنكز مع علو رتبته وتقدمه لا يصلح للملك لبخله وحرصه وعدم تودده للأمراء انتهى ملخصا
وتعقبه الحافظ صلاح الدين العلائي بحاشية قرأتها بخطه لقد بالغ المصنف وتجاوز الحد في ترجمة تنكز وأين مثله أعرض عن محاسنه الطافحة من العدل وقمع الظلمة وكف الأيدي عن الفساد والتعدي على الناس ومحبة إيصال الحق إلى مستحقه وتولية الوظائف من هو أهلها وحسبك أن المصنف كان فقيرا قانعا بكفر بطنا فلما خلت دار الحديث الأشرفية وتربة أم الصالح عن الشريشي ولي تنكز المزي والذهبي بغير سؤال منهما ولا ببذل لأنه أعلم بحالهما واستحقاقهما ثم ولي الذهبي دار الحديث الظاهرية ثم النفيسية ثم دار الحديث التنكزية التي أنشأها بالخضراء ثم قال العلائي ذنب تنكز أنه كان يحط كثيرا على ابن تيمية وفي هذه الأشياء كفاية
قلت قوله أن الذهبي أعرض عن محاسن تنكز ليس بصحيح فإنه ذكر منها الكثير إلا أنه بالغ في سرد معايبه والله المستعان وفي ولايته أمره الناصر بعمارة قلعة جعبر فاجتهد في ذلك حتى عمرت في أسرع مدة وتوجه إليها حتى شاهدها ورتب أمورها حتى قال فيها بعض الشعراء من قصيدة
من بعد أن كانت خرابا داثرا | أضحت منازلها ترام وتقصد |
وتبرجت أبراجها باهلة | أين السها من أهلها والفرقد |
وتحركت سكناتها وتبسمت | زهراتها مراصا إن المعصد |
مجلس دائرة المعارف العثمانية - صيدر اباد/ الهند-ط 2( 1972) , ج: 1- ص: 0