التصنيفات

جمال الدين نائب الكرك آقوش الأمير جمال الدين الأشرفي نائب الكرك، كان نائب الكرك ثم ولاه السلطان نيابة دمشق بعد إمساك الأمير سيف الدين كراي، فأقام قليلا، وعزله بالأمير سيف الدين تنكز، وتوجه إلى مصر. وكان معظما إلى الغاية يجلس رأس الميمنة ويقوم له السلطان إذا دخل ميزة له عن غيره.
وكان لا يلبس المفرك ولا المصقول، ويتوجه إلى الحمام في السحر وهو حامل الطاسة والمئزر ويقلب عليه الماء ويخرج وحده من غير بابا ولا مملوك. فاتفق أن رآه بعض من يعرفه فأخذ الحجر وحك رجليه وغسله بالسدر ولم يكلمه كلمة واحدة، فلما خرج طلبة ورماه وقتله وقال: أنا ما لي مملوك، ما عندي بابية، وما لي غلمان حتى تتجرى علي.
وعمر جامعا ظاهر الحسينية، وكان إذا توجه إليه عرف الناس خلقه فلا يدخل معه أحد من مماليكه ويخرج قوام الجامع ولم يبق معه أحد، ويدور هو الجامع وحده يتفقده ويبصر إن كان تحت الحصر تراب أو في القناديل تراب، فأي خلل رآه أحضر القيم وضربه. فلما كان بعض الأيام وهو بمفرده في الجامع المذكور لم يشعر إلا وجندي من أكراد الحسينية قد بسط سفرة وقصعة لين ورقاق في وسطها وقال: بسم الله! فالتفت إليه وقال: من أعلمك بي أو دلك علي؟ قال: والله ولا أحد! فطلب مماليكه وأكل وأمر له بستمائة درهم. فاتفق أن أتاه كردي آخر في الجامع بعد ذلك بمثل ذلك، فرماه وضربه ستمائة عصا. وكان قد اتخذ له صورة معبد في الجبل الأحمر يتوجه إليه ينفرد فيه وحده يومين وأكثر وأقل، وربما واعد الغلام أن يأتي إليه بالمركوب في وقت ثم يبدو له فيأخذ ذيله على كتفه ويدخل إلى داره داخل القاهرة ماشيا. ويقال: إنه كان هناك يحضر طلبا للمطالب. رأيت بدمشق فقيرا يعرف بجفال أخبرنا بذلك قال: أقمت عنده في ذلك المكان أحضر كل يوم بدرهم ونصف، عشرة أعوام أو أكثر.
وأما جوده فكان غاية، كل من يموت له فرس من أجناده أو مماليكه يحضر كفله إلى المطبخ ويصرف له من الديوان ستمائة درهم. وإذا جرد إلى مكان لا يزال طلبه جميعا يأكلون على سماطه ويعلقون على خيلهم من عنده من يوم خروجهم من القاهرة إلى يوم دخولها. وكان السماط الذي يمده في العيد نظير سماط السلطان. وولاه نظر البيمارستان المنصوري بالقاهرة، وكان يدخل في بعض الأوقات إلى المجانين ويدخلهم الحمام ويكسوهم قماشا جديدا، وأحضر لهم يوما جماعة الجوالقية فغنوا لهم بالكف ورقص المجانين، وكان يبر المباشرين الذين به بالذهب من عنده، ويطلع في الليل قبل التسبيح المأذنة. وكان للمارستان به صورة عظيمة أملاكه محترمة معظمة لا يرمى على سكانها شيء ولا يتعرض إليهم أحد بأذية.
أخرجه السلطان أول سنة أربع وثلاثين وسبعمائة إلى نيابة طرابلس، فحضر إليها وأقام بها مدة وبالغ في طلب الإقالة وأن يكون مقيما بالقدس، فرسم له بالحضور إلى دمشق. وخرج الأمير سيف الدين تنكز وتلقاه وعمل له سماطا في دار السعادة، وحضر الأمراء فأمسكوه على السماط وأودع الاعتقال في قلعة دمشق، فأقام يسيرا ثم جهز إلى قلعة صفد وحبس بها في برج، فدخل إليه بعض أهلها فقال: يا خوند، ما تلبث هنا إلا يسيرا وتخرج منه لأنك دخلت في برج منقلب. فلما كان بعد أيام أخرجوه منه إلى غيره. فقال: لأي شيء؟ قالوا له: يا خوند، البرج قد انشق وتخاف أن يقع عليك. فقال: صدق ذلك القائل، كان البرج ينقلب علي.
وكان له أشياء غريبة فيما يوقع بقلمه على القصص. كتب إليه إنسان وهو بدمشق نائب: المملوك يسأل الحضور بين يدي مولانا ملك الأمراء.. فوقع على جانبها: الاجتماع مقدر. وكتب إليه بعض من كان بها مليحا يطلب إقطاعا فوقع له: من كان يومه بخمسين وليلته بمائة ما له حاجة بالجندية! وكتب إليه إنسان وهو بالكرك: إن هؤلاء الصبيان قد كثرت أذيتهم للمملوك، وهو يسأل كفهم عنه. فوقع له: إن لم تصبر على أذى أولادهم وإلا فاخرج من بلادهم! ووقع لآخر كانت قد جرت له في الليل كائنة: قد أحصيناك وإن عدت إلى مثلها أخصيناك. وقال للأمير سيف الدين تنكز لما أمسكه: أما أنا فقد أمسكت ولكن خذ أنت حذرك منه! وأقام في اعتقال قلعة صفد يسيرا ثم رسم بتجهيزه إلى الإسكندرية فأقام بها قليلا، وكان في رأسه سلعة فطلب قطعها وشاوروا السلطان على قطعها، فرسم له بذلك فقطعوها، فمات في الاعتقال بالإسكندرية في سنة ست وثلاثين وسبعمائة فيما أظن.
وكان يضرب الألف عصا وأكثر، ومات تحت ضربه جماعة منهم بازدار من بازدارية السلطان رآه وهو يسير برا باب اللوق وقد شتم سقاء كان عنده وشتم أستاذه، فأمسكه وأحضره إلى البيت الذي له وضربه أكثر من ألف وقال: والك أنت وإياه تخاصمتما، أنا أيش كنت؟ فمات بعد يومين أو ثلاثة، وكانت إحدى الذنوب التي عداها عليه السلطان. ومنها أنه قتل جارية السلطان امرأة بكتمر الحاجب بسبب الميراث لأن ابنته كانت زوجة بكتمر أيضا، فضربها ستمائة عصا.. وأشياء غير ذلك. ولما رسم السلطان للأمير سيف الدين تنكز بنيابة دمشق جاء إليه وقال له: رسم بكذا. فقال له: إن أردت أن تقيم بها نائبا سنة فأنت تفعل ما أقول لك، لأنك يتلقاك أهل غزة إلى قطيا بالفاكهة والحلوى والخيول والتقادم، فإذا وصلت إلى غزة جاءك أهل دمشق بالتقادم إليها، فإذا دخلت إلى دمشق جاءوا إليك وقالوا لك: هذا الصاحب عز الدين ابن القلانسي محتشم كبير ورئيس دمشق والسلطان وغيره يقبل تقادمه وهداياه، وقد عمل ضيافة وجهزها إليك فتأخذها، فيجيء إليك غيره ويقول: يا خوند، ينكسر خاطري لكونك ما جبرتني مثل فلان، فتقبل منه فيقدم لك الخيول وغيرها وتنحل الإقطاعات والإمرة والوظائف فيأتون إليك بالذهب فتأخذ، فيبلغ الخبر أستاذك فأكثر ما يصبر عليك سنة ويعزلك. وإن أردت أن تكون نائبا طول عمر أستاذك فأنت ما تأخذ من أحد شيئا أبدا، وجميع ما تأخذه في السنة ما يكون خمسين ألف دينار وأستاذك ينعم عليك في السنة بأكثر من مائة ألف دينار، ويبلغ أستاذك خبرك فتطول مدتك. فكان الأمير سيف الدين تنكز رحمه الله تعالى يقول: ما خلاني نائبا هذه المدة كلها إلا الأمير جمال الدين.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 9- ص: 0