التصنيفات

ابن كليب النحوي الأندلسي أحمد بن كليب النحوي صاحب أسلم الأندلسيين. قال الحميدي: هو شاعر مشهور الشعر لا سيما شعره في أسلم، اشتد كلفه بأسلم وفارق صبره وصرف فيه القول مستترا إلى أن فشت أشعاره على الألسنة في المحافل فانقطع أسلم عن مجالس الطلب ولزم بيته فكان يمر على بابه ذاهبا وعائدا إلى أن ترك أسمل الجلوس على بابه نهارا ويخرج في أول الليل إذا أظلم يستروح على بابه فعيل صبر ابن كليب فتزيا بزي العرب وأتى بدجاج وبيض وجاء إلى أسلم وقبل يده فقال له: من أنت؟ قال: فلان من ضيعتك فلانة، فلما طال سؤاله أنكر كلامه وعرفه والتزم أن لا يخرج من بيته أبدا، فعيل صبره وأدنقه الحب وأشرف على الهلاك، فسعى له بعض أصحابه وكلف أسلم أن يعوده رجاء صلاحه، فلما جاء معه إلى نصف الدرب توقف وقال: ما أطيق الدخول إليه، وكر راجعا فجاذبه ذلك الصاحب إلى أن مزق رداءه وبقي بعضه في يده وذهب مسرعا، وكان غلامه قد رآهما في أول الدرب فدخل عرف ابن كليب مجيء أسلم، فنشط من علته فرحة بقدومه، فدخل ذلك الصاحب إلى ابن كليب فقال له: وأين أسلم؟ فعرفه الخبر فاستحال لونه واختلط كلامه، فعنفه ذلك الصاحب فقال: بالله اسمع، وأنشد:

فقال له: اتق الله، ما هذه العظيمة؟ فقال: قد كان ما كان. فخرج من عنده فما توسط الدرب حتى سمع الصراخ عليه وفارق الدنيا. قال الحميدي: وهذه قصة مشهورة عندنا، والرواة ثقات، وأسلم هذا من بيت جليل، وهو صاحب الكتاب المشهور في ’’أغاني زرياب’’، وكان شاعرا أديبا. قلت: نقلت هذا مختصرا من معجم الأدب’’ لياقوت وساق مثل هذه الحكاية حكايتين أخريين من هذا النمط.
وكان أحمد بن كليب قد أهدى إلى أسلم في أول أمره كتاب ’’الفصيح’’ وكتب عليه:
وكانت وفاة ابن كليب سنة ست وعشرين وأربع مائة، وأسلم المذكور هو أسلم بن أحمد بن سعيد ابن قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز صاحب المزني.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 7- ص: 0

ابن كليب النحوي اسمه أحمد بن كليب.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 24- ص: 0

أحمد بن كليب النحوي صاحب أسلم، الأندلسيين، ذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في «المنتظم» ان أحمد بن كليب مات سنة ست وعشرين وأربعمائة، وذكر قصته التي أذكرها فيما بعد بعينها، ولا أدري من أين له هذه الوفاة، فإن الحميدي ذكره في كتابه ولم يذكر وفاته. قال الحميدي: هو شاعر مشهور الشعر ولا سيما شعره في أسلم، وكان قد أفرط في حبه حتى أداه ذلك إلى الموت، وخبره في ذلك طريف رواه محمد بن الحسن المذحجي قال: كنت أختلف في النحو إلى أبي عبد الله محمد بن خطاب النحوي في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد ابن قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز صاحب المزني والربيع، قال محمد بن الحسن: وكان من أجمل من رأته العيون، وكان يجيء معنا إلى محمد بن خطاب: أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب البارع والشعر الرائق، فاشتد كلفه بأسلم وفارق صبره، وصرف فيه القول متسترا بذلك إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة وتنوشدت في المحافل، فلعهدي بعرس وفيه زامر يزمر في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم:

فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب ولزم بيته والجلوس
على بابه، فكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب أسلم سائرا ومقبلا نهاره كله، فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهارا، فإذا صلى المغرب واختلط الظلام خرج مستروحا وجلس على باب داره، فعيل صبر أحمد بن كليب، فتحيل في بعض الليالي ولبس جبة من جباب أهل البادية، واعتم بمثل عمائمهم، وأخذ باحدى يديه دجاجا وبالأخرى قفصا فيه بيض، وتحين جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه وقبل يده وقال: يأمر مولاي بأخذ هذا، فقال له أسلم:
ومن أنت؟ قال: صاحبك في الضيعة الفلانية، وقد كان تعرف أسماء ضياعه وأصحابه فيها، فأمر أسلم بأخذ ذلك منه، ثم جعل أسلم يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام، وتأمله فعرفه، فقال: يا أخي وهنا بلغت بنفسك وإلى هاهنا تبعتني؟! أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب وعن الخروج جملة وعن القعود على باب داري نهارا حتى قطعت علي جميع ما لي فيه راحة؟! قد صرت في سجنك، والله لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلي ولا قعدت ليلا ولا نهارا على بابي، ثم قام. وانصرف أحمد بن كليب حزينا كئيبا.
قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنا فقلنا لأحمد بن كليب: قد خسرت دجاجك وبيضك، فقال: هات كل ليلة قبلة يده وأخسر أضعاف ذلك، قال: فلما يئس من رؤيته ألبتة نهكته العلة وأضجعه المرض، قال: فأخبرني شيخنا محمد بن خطاب قال: فعدته فوجدته بأسوأ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى؟ فقال: دوائي معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم في البتة، فقلت له: وما دواؤك؟ قال: نظرة من أسلم، فلو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك، وكان هو والله أيضا يؤجر.
قال: فرحمته وتقطعت نفسي له، ونهضت إلى أسلم، فتلقاني بما يجب، فقلت له: لي حاجة قال: وما هي؟ قلت له: قد علمت ما جمعك مع أحمد من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم ولكن قد تعلم أنه أشهر اسمي وآذاني، فقلت له: كل ذلك مغتفر في الحال التي هو فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته، فقال: والله ما أقدر على ذلك، فلا تكلفني هذا، فقلت له: لا بد، فليس عليك في ذلك شيء فإنما هي عيادة مريض، قال: ولم أزل به حتى أجاب، فقلت: فقم الآن فقال لي:
لست والله أفعل ذلك، ولكن غدا، فقلت له: ولا خلف، فقال: نعم. قال:
فانصرفت إلى أحمد بن كليب وأخبرته بوعده بعد تأبيه، فسر بذلك وارتاحت نفسه.
قال: فلما كان من الغد بكرت إلى أسلم وقلت له: الوعد، فوجم وقال: والله لقد تحملني على خطة صعبة، وما أدري كيف أطيق ذلك، فقلت له: لا بد من أن تفي بوعدك. فأخذ رداءه ونهض معي راجلا، فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، فلما توسط الدرب وقف واحمر وخجل وقال لي: الساعة والله أموت وما أستطيع أن أنقل قدمي ولا أن أعرض هذا على نفسي، فقلت: لا تفعل، بعد أن بلغت المنزل تنصرف؟ قال: لا سبيل والله إلى ذلك البتة، قال:
ورجع مسرعا فاتبعته وأخذت بردائه فتمادى وتمزق الرداء وبقيت قطعة منه في يدي، ومضى ولم أدركه، فرجعت ودخلت إلى أحمد بن كليب، وقد كان غلامه دخل إليه إذ رآنا من أول الدرب مبشرا، فلما رآني دونه تغير لونه وقال: وأين أبو الحسن؟ فأخبرته بالقصة فاستحال من وقته واختلط، وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثر من الترجع، فاستبشعت الحال وجعلت أترجع وقمت، فثاب إليه ذهنه وقال لي يا أبا عبد الله:
اسمع، وأنشد:
فقلت له: اتق الله، ما هذه العظيمة؟! فقال لي: قد كان ما كان. فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الدرب حتى سمعت الصراخ عليه وقد فارق الدنيا، هذا قتيل الحب لا دية ولا قود. قال: وهذه قصة مشهورة عندنا، والرواة ثقات. وأسلم هذا من بيت جليل، وهو صاحب الكتاب المشهور في أغاني زرياب، وكان شاعرا أديبا.
قال الحميدي: وقد رأيت ابنه أبا الجعد، قال: وذكرت هذه القصة لمحمد بن سعيد الخولاني الكاتب فعرفها وقال لي: أخبرني الثقة، قال: لقد رأيت أسلم هذا
في يوم شديد المطر لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب زائرا له وقد تحين غفلة الناس في مثل ذلك الوقت.
وكان أحمد بن كليب قد أهدى إلى أسلم في أول أمره «كتاب الفصيح» وكتب عليه:
وقرأت في «كتاب الديارات» للخالدي حكاية أعجبني أمر صاحبها، وأحببت أن يكون لها موضع من كتابي هذا، وكأن المثل يذكر بالمثل، ذكرتها عقيب خبر أحمد بن كليب فانهما خبران متقاربان، قال حدثني أبو الحسين يحيى بن الحسين الكندي الحراني الشاعر، قال حدثني أبو بكر أحمد بن محمد الصنوبري قال: كان بالرها وراق يقال له سعيد، وكان في دكانه مجلس كل أديب، وكان حسن الأدب والفهم يعمل شعرا رقيقا، وما كنا نفارق دكانه أنا وأبو بكر المعوج الشامي الشاعر وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر، وكان لتاجر بالرها نصراني من كبار تجارها ابن اسمه عيسى من أحسن الناس وجها وأحلاهم قدا وأظرفهم طبعا ومنطقا، وكان يجلس إلينا ويكتب عنا من أشعارنا، وجميعنا نحبه ونميل إليه، وهو حينئذ صبي في الكتاب، فعشقه سعيد الوراق عشقا مبرحا، وكان يعمل فيه الأشعار، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكانه:
ثم شاع بعشق الغلام في الرها خبره، فلما كبر وشارف الاحتلام أحب الرهبنة، وخاطب أباه وأمه في ذلك، والح عليهما حتى أجاباه وخرجا به إلى دير زكى بنواحي الرقة، وهو في نهاية حسنه، فابتاعا له قلاية، ورفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها، فأقام الغلام فيها. وضاقت على سعيد الوراق الدنيا بما رحبت، وأغلق
دكانه وهجر إخوانه ولزم الدير مع الغلام، وسعيد في خلال ذلك يعمل فيه الأشعار، فمما عمل فيه وهو في الدير، وكان الغلام قد عمل شماسا:
ثم إن الرهبان أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعيد به ونهوه عنه، وحرموه إن أدخله قلايته، وتوعدوه باخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلى ما ساموه من ذلك، فلما رأى سعيد امتناعه منه شق عليه وخضع للرهبان ورفق بهم فلم يجيبوه وقالوا: في هذا علينا إثم وعار، ونخاف السلطان، فكان إذا وافى الدير أغلقوا الباب في وجهه، ولم يدعوا الغلام يكلمه فاشتد وجده وزاد عشقه حتى صار إلى الجنون، فخرق ثيابه، وانصرف إلى داره فضرب جميع ما فيها بالنار، ولزم صحراء الدير وهو عريان يهيم ويعمل الأشعار ويبكي.
قال أبو بكر الصنوبري: ثم عبرت يوما أنا والمعوج الشامي من بستان بتنا فيه فرأيناه جالسا في ظل الدير وهو عريان، وقد طال شعره وتغيرت خلقته، فسلمنا عليه وعذلناه وعنفناه فقال: دعاني من هذا الوسواس، أتريان ذلك الطائر الذي على هيكل الدير- وأومأ بيده إلى طائر هناك- فقلنا: نعم، فقال: أنا وحقكما يا أخوي أناشده منذ الغداة أن يسقط فاحمله رسالة إلى عيسى، ثم التفت إلي وقال: يا صنوبري معك ألواحك؟ قلت: نعم، قال: اكتب:
ثم تركنا وقام يعدو إلى باب الدير وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه. وما زال كذلك زمانا، ثم وجد في بعض الأيام ميتا إلى جانب الدير، وكان أمير البلد يومئذ العباس بن كيغلغ، فلما اتصل ذلك به وبأهل الرها خرجوا إلى الدير وقالوا: ما قتله غير الرهبان، وقال لهم ابن كيغلغ: لا بد من ضرب رقبة الغلام واحراقه بالنار، ولا بد من تعزير جميع الرهبان بالسياط، وتصعب في ذلك، فافتدى النصارى نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم. وكان الغلام بعد ذلك إذا دخل الرها لزيارة أهله صاح به الصبيان: يا قاتل سعيد الوراق، وشدوا عليه بالحجارة يرجمونه، وزاد عليه الأمر في ذلك حتى امتنع من دخول المدينة، ثم انتقل إلى دير سمعان وما أدري ما كان منه.
ومثل هذه الحكاية خبر مدرك بن علي الشيباني، وكان مدرك شاعرا أديبا فاضلا، وكان كثيرا ما يلم بدير الروم ببغداد ويعاشر نصاراه، وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو بن يوحنا، وكان من أحسن الناس وجها وأملحهم صورة وأكملهم خلقا، وكان مدرك بن علي يهواه، وكان لمدرك مجلس يجتمع فيه الأحداث لا غير، فإن حضر شيخ أو ذو لحية قال له مدرك: انه قبيح بك ان تختلط مع الأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله، فيقوم. وكان عمرو ممن يحضر مجلسه، فعشقه وهام به، فجاء عمرو يوما إلى المجلس فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجره، فقرأها فإذا فيها:
فقرأ الأبيات عمرو، ووقف عليها من كان في المجلس وقرأوها، فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه وتبعه، وقال فيه قصيدته المزدوجة المشهورة التي أولها:
وهي طويلة. وكتب إليه لما هجره وقطع مجلسه:
ثم خرج مدرك إلى الوسواس وسل جسمه وتغير عقله وترك مجلسه وانقطع عن الاخوان ولزم الفراش. قال حسان بن محمد بن عيسى بن شيخ: فحضرته عائدا في جماعة من إخوانه فقال: ألست صديقكم والقديم العشرة لكم؟ أفما فيكم أحد يسعدني بالنظر إلى وجه عمرو؟ قال: فمضينا إلى عمرو فقلنا له: إن كان قتل هذا الرجل دينا فإن إحياءه مروءة، قال: وما فعل؟ قلنا: قد صار إلى حال لا نحسبك تلحقه، قال: فنهض معنا، فلما دخلنا عليه سلم عليه عمرو فأخذ بيده وقال: كيف تجدك يا سيدي، فنظر إليه ثم أغمي عليه وافاق وهو يقول:
ق بسهمي مقلتيكا
ثم شهق شهقة فارق فيها الدنيا، فما برحنا حتى دفناه، رحمه الله.

  • دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 1- ص: 422

أحمد بن كليب النحوي
أديب شاعر مشهور الشعر ولاسيما شعره في أسلم، ولم يزل به الإفراط في حبه حتى أداه ذلك إلى موته، وخبره في ذلك طريف.
أخبر أبو محمد علي بن أحمد قال: أخبرنا عبد الله محمد بن الحسين المدحجي قال: كنت أختلف في النحو إلى أبي عبد الله محمد بن خطاب النحوي في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد بن قاضي الجماعة وأسلم بن عبد العزيز صاحب المزني والربيع قال محمد بن الحسن: وكان من أجمل من رأته العيون، وكان يجيء معنا إلى محمد بن خطاب بن أحمد بن كليب وكان من أهل الأدب البارع والشعر الرائق، فاشتد كلفه بأسلم وفارق صبره، وصرف فيه القول مستتراً بذلك إلى أن فشت أشعاره فيه، وجرت على الألسنة وتنوشدت في المحافل، فلعهدي بعرس في بعض الشوارع بقرطبة والنكوري الزامر قاعد في وسط الحفل، وفي رأسه قلنسوة وشيء وعليه ثوب خز عبيدي، وفرسه بالحلبية المحلاة وغلامه يمسكه، وكان فيما مضى يزمر لعبد الرحمن الناصر وهو يزمر في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم:

ومغن محسن يسايره فيها، فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته والجلوس على بابه، فكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب دار أسلم سائراً ومقبلاً نهاره كله، فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهاراً، فإذا صلى المغرب واختلط الظلام خرج مستروحاً وجلس على باب داره، فعيل صبر أحمد بن كليب، فتحيل في بعض الليالي، ولبس جبة من جباب أهل البادية، واعتم بمثل عمائهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجاً وبالآخر قفصاً في بيض وتحين جلوس ألسم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه وقبل يده وقال: يأمر مولاي بأخذ هذا، فقال له أسلم: ومن أنت؟ فقال: صاحبك في الضيعة الفلانية، وكان قد تعرف أسماء ضياعه وأصحابه فيها، فأمر أسلم بأخذ ذلك منه، ثم جعل أسلم يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام وتأمله فعرفه فقال له: يا أخي وهنا بلغت بنفسك وإلى هنا تبعتني، أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب وعن الخروج جملة وعن القعود على بابي نهاراً، حتى قطعت علي جميع ما لي وحرمتني كل راحة، فقد صرت من سجنائك، والله لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلي، ولا قعدت ليلاً ولا نهاراً على بابي، ثم قام، وانصرف أحمد بن كليب كئيباً حزيناً. قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنا، فقلنا لأحمد بن كليب: وخسرت دجاجك وبيضك، فقال: هات كل ليلة قبلة يده وأخسر أعاف ذلك قال: فلما يئس من رؤيته ألبتة نهكته العلة، وأضجعه المرض.
قال محمد بن الحسن: وأخبرني أبو عبد الله محمد بن خطاب شيخنا قال: فعدته فوجدته بأسوأ حال فقلت له: ولم لا تتداوى؟ فقال: دوائي معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم في البتة. فقلت: له ما دواؤك؟ قال: نظرة من أسلم، ولو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك بذلك، وكان هو والله أيضاً يؤجر.
قال فرجمته، وتقطعت نفسي له، ونهضت إلى أسلم، فاستأذنت عليه فأذن لي وتلقاني بما يجب، فقلت له: لي حاجة قال: وما هي؟ قلت: علمت ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم، لكن قد تعلم أن برح بي، وشهر أسمي وآذاني، فقلت له: كل ذلك يغتفر في مثل الحال التي هي فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته.
فقال: والله ما أقدر على ذلك فلا تكلفني هذا: فقلت له لابد، فليس عليك في ذلك شيء، وإنما هي عيادة مريض، قال: ولم أزل به حتى أجاب، فقلت: فقم الآن فقال لي: لست والله أفعل ولكن غداء فقلت له: ولا خلف؟ قال: نعم.
قال: فانصرفت إلى أحمد بن كليب، وأخبرته بوعده بعد تأبيه، فسر بذلك، وارتاحت نفسه، قال: فلما كان الغد بكرت إلى أسلم، وقلت له: الوعد قال: فرحم وقال: والله لقد تحملني على خطة صعبة علي، وما أدري كيف أطيق ذلك، قال: فقلت له: لا بد من أن تفي بوعدك. قال: فأخذ رداءه ونهض معي راجلاً قال: فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، وتوسط الدرب، وقف واحمر وخجل وقال لي: الساعة والله أموت وما أستطيع أن أنقل قدمي، ولا أن أعرض هذا على نفسي فقلت: لا تفعل بعد أن بلغت المنزل تنصرف؟! قال: لا سبيل والله إلى ذلك ألبته، قال: ورجع مسرعاً فاتبعته، وأخذت بردائه فتمادى وتمزق الرداء، وبقيت قطعة منه في يدي لسرعته وإمساكي له ومضى، ولم أدركه، فرجعت ودخلت إلى أحمد بن كليب، وقد كان غلامه دخل عليه إذ رآنا من أول الدرب مبشراً، فلما رآني تغير لونه قال: وأين أبو الحسن فأخبرته بالقضية فاستحال من وقته وجعل يتحسر عليه وأكثر من الترجع فاستشنعت الحال، وجعلت أترجع وقمت فثاب إليه ذهنه وقال لي: يا أبا عبد الله قلت: نعم فقال: أسمع مني وأحفظ عني ثم أنشأ يقول:
قال فقلت له: اتق الله ما هذه العظيمة، فقال لي: قد كان، قال: فخرجت عنه فو الله ما توسطت الدرب حتى سمعت الصراخ عليه وقد فارق الدنيا.
قال أبو محمد بن علي بن أحمد، وهذه قصة مشهورة عندنا، ومحمد بن الحسن ثقة، ومحمد بن خطاب ثقة، وأسلم هذا بيت جليل، وهو صاحب الكتاب المشهور في أغاني زرياب، وكان شاعراً أديباً، قال أبو محمد: ولقد ذكرت هذه الحكاية لأبي عبد الله محمد بن سعيد الخولاني الكاتب فعرفها وقال لي: لقد أخبرني الثقة أنه رأى أسلم هذا في يوم شديد المطر لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب زائراً له. وقد تحين غفلة الناس في مثل ذلك الوقت. قال أبو محمد: وحدثني أبو محمد قاسم بن محمد القرشي قال: كتب ابن كليب إلى محمد بن خطاب شعراً يتغزل فيه بأسلم، فعرضه ابن خطاب على أسلم، فقال: هذا ملحون وكان ابن كليب قد أسقط التنوين من لفظة في بيت من الشعر. قال: فكتب ابن خطاب بذلك إلى ابن كليب، فكتب ابن كليب مسرعاً:
وأنشد أبو محمد قال: أنشدني محمد بن عبد الرحمن بن أحمد التجيبي لأحمد بن كليب، وقد أهدى إلى أسلم كتاب ’’الفصيح’’ لثعلب:

  • دار الكاتب المصري - القاهرة - دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان-ط 1( 1989) , ج: 1- ص: 1