كثير عزة أو صخر كثير بن عبد الرحمن وكثير بضم الكاف وفتح الثاء وتشديد الياء تصغير كثير بوزن أمير في القاموس كثير كأمير اسم وبالتصغير صاحب عزة ’’1ه’’ ولكنه قد ورد في شعر كثير نفسه مكبرا حيث قال:
وقال لي الواشون ويحك إنها | بغيرك حقا يا كثير تهيم |
وكذلك ورد مكبرا في شعر أبي تمام في قوله:
لو يناجي ذكر المديح كثيرا | بمعانيه خالهن نسيبا |
وقوله:
فكأن قسا في عكاظ تخطب | وكثير عزة يوم بين ينسب |
وقد اعترف له أبو تمام بالتقدم في النسيب في هذا الشعر.
توفي سنة 105بالمدينة في ولاية يزيد عن عبد الملك وقيل توفي أول خلافة هشام وعمره إحدى وثمانون أو اثنتان وثمانون سنة.
في معجم الشعراء للمرزباني: كان شاعر أهل الحجاز في الإسلام يقدمون عليه أحدا وكان أبرش قصيرا عليه خيلان في وجهه طويل العنق تعلوه حمرة وكان مزهوا متكبرا وكان يتشيع ويظهر الميل إلى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجا عبد
الله بن الزبير لما كان بينه وبين بني هاشم. وكان شاعر بني مروان وخاصا بعبد الملك وكانوا يعظمونه ويكرمونه، وقال خلف الأحمر كثير أشعر الناس في قوله لعبد الملك:
أبوك الذي لما أتى مرج راهط | وقد ألبوا للشر فبمن تألبا |
تشنأ للأعداء حتى إذا انتهوا | إلى أمره طوعا وكرها تحببا |
وله:
إذا قل مالي زاد عرضي كرامة | علي ولم أتبع دقيق المطامع |
وله:
هنيئا مريئا غير داء مخامر | لعزة من أعراضنا ما استحلت |
وله:
فقلت لها يا عز كل مصيبة | إذا وطنت يوما لها النفس ذلت |
وله:
وأدنيتني حتى إذا ما استبتني | بقول يحل العصم سهل الأباطح |
توليت عني حين لآلي حيلة | وغادرت ما غادرت بين الجوانح |
وله:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه | وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب |
ومن يتبع جاهدا كل عثرة | يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب |
وفي حواشي البيان والتبيين للسندوبي: كثير ين عبد الرحمن شاعر غزل مجيد من شعراء الدولة الأموية وهو أجود أهل الحجاز شعرا، وكان يتشيع، ونسب إليه الأبيات على رأي الكيسانية المختلف في نسبتها إليه أو إلى السيد الحميري:
ألا أن الأثمة من قريش | ولاة الحق أربعة سواء |
وفي الأصل، قال إبراهيم بن عبد الله بن حسين لأبيه: ما شعر كثير عندي كما يصفه. الناس، فقال أبوه: إنك لن تضيع كثيرا بهذا إنما تضيع بهذا نفسك ’’اه’’.
وله:
لمن الديار بأبرق الحنان | فالبرق فالهضبات من أدمان |
أقوت منازلها وغير رسمها | بعد الأنيس تعاقب الأزمان |
فوقفت فيها صاحبي وما بها | يا عز من نعم ولا إنسان |
وله:
ما للوشاة بعزة عندي | شيء سوى التكذيب والرد |
ولعزة عندي وإن بعدت | أدنى من الأهلين والولد |
إني وعزة ما تزال على | حكم الهوى في القرب والبعد |
نبدي السلو تسترا وبنا | تحت الضلوع خلاف ما نبدي |
إياك يا عز الوشاة فهم | أعداء أهل الحب والود |
كم عائب لكم لا بغضكم | ما زادني شيئا سوى الوجد |
إني لأحفظ بالمغيب لكم | عهد المودة فاحفظوا عهدي |
وله:
نساء الأخلاء المصافين محرم | علي وجارات البيوت كنائن |
وإني لما استودعنني من أمانة | إذا ضيع الأسرار يا عز دافن |
وإني إذا ما الجبس ضيع عرضه | لعرضي وما أحوى من المجد صائن |
إذا ما انطوى كشحي على مستكنة | من الأمر لم يفطن له الدهر فاطن |
قال محمد شرارة: أمه جمعه بنت الأشيم. وهو ينتمي إلى خزاعة التي تنتمي بدورها إلى الصلت بن النضر بن كنانة، وقد أشار كثير إلى هذا النسب:
أليس أبي بالنضر أم ليس والدي | لكل نجيب من خزاعة أزهرا |
والتاريخ يروي أنه من شعراء الحب. وقد اقترن اسمه ب’’عزة’’ كما اقترن اسم جميل ب’’بثينة’’ وقيس ب’’ليلى’’ والرواية مشهورة، ولا تستدعي المناقشة. وأما النقاد فكثيرون، منهم ’’قطام’’ صاحبة عبد الرحمن بن ملجم، ومنهم الدكتور طه حسين في العصر الحاضر. لقد جرده الدكتور أو كاد يجرده من كل شيء ذي قيمة. ’’فالناس يجمعون أو يكادون يجمعون على أنه أحد الغزليين الذين أتيحت لهم الإجادة، وقسم لهم التفوق في الغزل’’. والدكتور لا يرى أي بأس في الخروج على هذا الإجماع، وما عده في الغزليين إلا ليخرجه منهم حسب تعبيره. ونحن لا نتخذ من ’’الإجماع’’ سيفا نتصدى به للدكتور، ونقول له: كيف سوغت لنفسك الخروج على الإجماع، والاستهانة بالذوق العام؟ فقد يكون هذا القول سيفا من خشب، أو سكينة عتيقة بالية، والأسلحة الخشبية في المعارك الأدبية من الأسلحة المحطمة التي لا تستطيع أن ترتفع في وجوده الأقزام بله العمالقة!
وإذا كان ’’الإجماع’’ أحد الأدلة القاطعة في الأحكام الشرعية، فلا يمكن أن تكون له هذه القيمة في قضايا الأدب، والتفكير الأدبي، ولذلك كان من حق الدكتور أن يخرج على الإجماع، ويتخذ الرأي الذي يراه. وليس من حقنا، كما قلت، ولا حق لأحد أن يتخذ من هذا الاعتراف سيفا يواجه به الدكتور. ولكن من حقنا أن نسأل الدكتور سؤالا متواضعا عن قوله في المقال نفسه: ’’ كان شاعرا ممتازا، وكان النساء فيحسن ذكرهن’’، فما معنى ’’يحسن’’ هذه؟ وفي أي شيء؟ وهل كان إحسانه في ذكرهن من باب إحسان المتنبي في ذكر بدر بن عمار، أو سيف الدولة، أو من باب إحسان حبيب في ذكر المعتصم؟ أم أنه كان يحسن ذكر ’’الجمال’’ و’’الهيام’’ و’’ الولع’’ وما أشيه ذلك من المعاني الشائعة في الغزل؟ وإذا كان ’’يحسن ذكرهن’’ في المعاني المذكورة فعلى أي شيء يقوم الغزل إذا لم يكن قائما على هذه المعاني؟
لا نعتقد أن نساء كثير كن في مستوى مدام كوري في العلوم مثلا أو بلقيس أو فكتوريا في إدارة الدولة حتى يكون إحسانه في ذكرهن قائما على معاني المثابرة والصبر في اكتشاف أسرار الطبيعة، أو سياسة الدولة وإدارتها وترقية الشعب والسهر على مصالحة وأي شيء في الشعر يهم المرأة التي كانت في عصر كثير حتى أعجبت به؟
أظن أن الجواب العلمي على هذه الأسئلة، كاف للدلالة على وقوع الدكتور في ’’تناقض’’ صارخ، وهو يثبت أن رأيه غي آخر الموضوع الذي كتبه عن كثير بلغي رأيه في أوله، ثم يلغي كثيرا من الآراء التي ذكرها بحق الشاعر في هذا الموضوع.
وأما ’’النفاق السياسي’’ الذي وصفه به نكون مع الدكتور فيه، ولكن إلى حد، فالمعروف عن كثير أنه هاشمي الهوى والرأي، ولكنه كان في الوقت نفسه يمدح بني أمية، وقد عد الدكتور هذا الموقف ’’نفاقا’’ ولا شك أن موقف كثير هذا موقف بين النقيضين حسب التعبير الفلسفي، ولا يمكن الدفاع عنه من ناحية المبدأ. ولكن يمكن أن يكون له عذر إذا أخذ من وجه آخر. . . من الوجه السياسي للدولة التي كانت دولة أوتوقراطية تعد على الناس أنفاسهم، وتحصي عليهم تنهداتهم، وتحسب حركاتهم حركة حركة.
معنى ذلك أن حرية الرأي أو القول كفر وخروج على الدين والإيمان، وعلى الذي يرى رأيا غير رأي الدولة أن يحمل دمه على كفه، وأن يكون مستعدا للرحيل إلى المقابر. وكثير كان مؤمنا ببني هاشم، ومؤمنا بأنهم أحق من بني أمية، ولكنه لم يكن ’’مستعدا’’ حتى للتضحية بحياته في سبيل ذلك الإيمان، على أنه في الوقت نفسه كان يصرح لكبار الأمويين بحبه لبني هاشم، وقد روى الدكتور نفسه عنه هذه الحادثة:
’’لما خرج عبد الملك لحرب مصعب بن الزبير لحظ في عسكره ’’ كثيرا’’ يمشي مطرقا وكأنه حزين، فدعاه فسأله: أتصدقني إن أنبأتك بما في نفسك؟ قال: نعم! قال: فاحلف بأبي تراب، فحلف كثير بالله ليصدقنه! فقال عبد الملك: لا بد من أن تحلف بأبي تراب فحلف له بأبي تراب. فقال عبد الملك: تقول في نفسك: رجلان من قريش يلقى أحدهما الآخر لحربه فيقتله، والقاتل والمقتول في النار، وما آمن أن يصيبني سهم فيقتلني، فأكون معهما! قال كثير: ما أخطأت، يا أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: عد من قريب، وأمر له بجائزة’’.
فهذا الموقف يدل، في أقل ما يدل عليه، إن الرجل لم يكن منافقا، بل كان بالرغم من عنف الاستبداد، على شيء من الصراحة وإن مدح بني أمية.
وإذا كان مدح كثير لبني أمية نفاقا سياسيا فما رأي الدكتور بمدحه للملك فاروق لما تزوج فريدة؟ نحن نعرف أن الدكتور طه من ملة الألوية في الدعوة إلى الحرية، ونعرف أن رأيه السياسي يختلف عن رأي فاروق، ونعرف في الوقت ذاته فاروقا لا يمكن أن يكون سوى قزم إذا قيس بالدكتور طه حسين. وبالرغم من الفروق الهائلة بين عصر كثير وطه حسين، ومع الفروق الهائلة بين كثير وطه نفسيهما من حيث المستوى الثقافي والعقلي، فإن الدكتور وقف أمام فاروق، موقف كثير ذاته الذي وقفه أمام بني أمية، وإذا أمكن أن يكون لكثير عذر في ذلك العصر المظلم، فأي عذر للدكتور طه في هذا العصر المنير؟
لقد تأسف الكثيرون يومئذ لموقف الدكتور، ودخوله في قافلة المداحين لملك تافه، وعدره جينا غير لائق بواحد مثله. ولو وقف يومها موقف المدافع عن رأيه، ورفض النزول إلى مدح واحد كفاروق، لهللت له الحرية في أنحاء الدنيا، ولكنه لم يفعل. بل كان قبل ذلك يلوم كثيرا على موقف وقف مثله فيما بعد! ثم عد موقف كثير من فصيلة النفاق السياسي.
نقد آخر تعرض له هذا الشاعر، ولكن ذلك كان في حياته وفي أيامه،لا بعد وفاته بقرون كما فعل الدكتور طه. فقد قدم الكوفة، وطلب الاجتماع ب’’قطام’’ التي لعبت الدور الأكبر في اغتيال الإمام علي عليه السلام. ونهاه البعض عن ذلك، فما انتهى، ثم سأل عن منزلها فدل عليه، وأخيرا وصل، ومذ رأته سألت: ’’من أجل؟’’ فقال ’’كثير بن عبد الرحمن’’ فقالت: ’’التيمي الخزاعي؟’’ فأجابها بالإيجاب. ثم سألها: ’’أنت قطام؟’’ فقالت نعم: فتابع السؤال: ’’أنت صاحبة علي بن أبي طالب علي السلام’’ فردت عليه: ’’بل صاحبة عبد الرحمن بن ملجم’’ وعندئذ قال:
’’والله إني كنت أحب أن أراك، فلما رأيتك نبت عيني عنك، وما ومقك قلبي، ولا احلوليت في صدري’’، فردت عليه: ’’أنت والله قصير القامة، صغير الهامة، ضعيف الدعامة، كما قيل لئن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه’’،
فأنشأ كثير:
رأت رجلا أودى السفار بجسمه | فلم يبق إلا منطق وجناجن |
فتابعت قطام: ’’لله درك ما عرفت إلا بعزة تقصيرا بك’’، فأجاب: والله لقد سار لها شعري وطار بها ذكري’’ وإنها لكما قلت فيها:
وإن خفيت كانت لعينك قرة | وإن تبد يوما لم يعمك عارها |
من الخفرات البيض لم تر شقوة | وفي الحسب المحض الرفيع نجارها |
فما روضة بالحزن طيبة الثرى | يمج الندى جثجاثها وعرارها |
بأطيب من فيها إذا جئت طارقا | وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها |
فقالت له: والله ما سمعت شعرا أضعف من شعرك هذا. والله لو فعل هذا بزنجية لطاب ريحها ثم استطردت: ألا قلت كما قال امرؤ القيس:
ألم تراني كلما جئت طارقا | وجدت بها طيبا وإن تتطيب |
عبقرية هذه المرأة أنها استطاعت أن تقلب الحديث عن الجريمة التي ارتكبتها بحق أنبل إنسان عرفه التاريخ، إلى العشر، وقد خفيت هذه الحيلة على كثير، وقبل أن يدخل في موضوع لم يكن على استعداد لخوضه، فلحقته الهزيمة، والذي نعتقده أن هذا هو السبب الوحيد في تفوق قطام عليه. الذي رواه الرواة عنه أنه مر في بعض الأزمات التي تتطلب ذكاء حادا، ونظرة نفاذة ومن ذلك ما قيل عن لقاء بين عزة وبثينة رأتا في أثنائه كثيرا مقبلا على الخيمة، فطلبت بثينة من عزة أن تختفي حتى تقوم بامتحان له، فوافقت عزة على الامتحان، واختفت، وما أن وصل حتى ألقت عليه بثينة نظرة من تلك النظرات الفاتنة، فقال:
رمتني على عمد بثينة بعد ما | تولى شبابي، وأرجحن شبابها |
بعينين نجلاوين لو رقرقتهما | لنوء الثريا لاستهل سحابها |
وقبل أن يتم ظهرت عزة، فبقي مستمرا، ولم يتعتع:
ولكنما ترمين نفسا مريضة | لعزة منها صفوها ولبابها |
فعلى أي شيء يدل هذا ’’التخلص’’ المدهش؟ وهل يستطيع واحد غبي أن يزوغ هذا الزوغان، أو يفلت من الشبك المنصوب هذه الفلتة؟ اللحظة مشحونة بما يبعث الارتباك والقلق، ومع ذلك ظل الشعر ماشيا وكأن الشبك غير موجود، وذلك يدل على أن الرجل أبعد ما يكون عن الغباء. ولم يكن إخفاقه مع قطام إلا لأن ذهنه كان مشغولا في موضوع غير الموضوع الذي دخل فيه، وهذا هو السر في هزيمته. على أن النقد وجهته قطام إلى الأبيات السابقة، نقد مهلهل يدل على جهل بالشعر وجوهره. إن ’’ الطيب’’ الذي جعلت منه قطام نقطة الانطلاق، كان أبعد ما يكون عما فهمته، فقد فهمت أن الرائحة الطيبة التي تفوح من عزة كانت آتية من ’’ المندل الرطب’’ لا من ذاتها. فهل تدل الأبيات على هذا الشيء الذي فهمته قطام؟ الشاعر لم يتحدث عن عزة، عندما ذكر الطيب، وإنما تحدث عن ’’فهمها’’ ولم تكن الروضة التي يمج جثجاثها الندي بأطيب من عزة، بل من فمها، فأي علاقة لهذا ’’الفم’’ بإيقاد النار بالمندل الرطب؟ لقد تمت الفكرة عند قوله ’’بأطيب من فيها’’ وما جاء يشير أو ربما يشير إلى نوع من الترف. فالمندل الرطب من الأعواد الغالية، والتي توقد نارها به لا بد وأن تكون على جانب من النعيم. والذي نراه أن ’’المندل الرطب’’ يقترب من ’’نؤوم الضحى’’ عند امرئ القيس التي تدل على النعيم والبلهنية، لا ما فهمته قطام، وردت عليه ذلك الرد الذي ظنت أنها انتصرت فيه إلى الأبد. ونقد ثالث تعرض له الشاعر. وقد كانت عزة نفسها هذه المرة هي الناقدة، وابتدأ النقد بالموازنة بينه وبين الأحوص، وكان رأيها أن الأحوص ’’ألين جانبا منه’’ ثم كانت الأمثلة حتى انتهت إلى قول كثير فيها:
وددت، وبيت الله، إنك بكرة | هجان وإني مصعب ثم نهرب |
كلانا به عر فمن يرنا يقل | على حسنها جرباء تعدي وأجرب |
نكون لذي مال كثير مغفل | فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب |
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله | علينا، فما ننفك ننفى ونضرب |
وإذا أخذت هذه الأبيات مجردة عن ظروفها، كانت في الواقع ’’أمنية’’ من أغرب الأماني التي عرفها تاريخ العشاق. ولكن النظرة تتغير أو قد تتغير إذا أخذت الظروف بعين الاعتبار. فما الظروف التي تدل عليها الأبيات؟ الظروف تتعلق بالحياة الاجتماعية، فالناس في كل وقت يحبون، ويمر معظمهم إن لم يكن كلهم بالتجربة، ولكن حتى هؤلاء الذين تختلج قلوبهم بالعواطف ينكرون على العشاق لقاءهم، ويرون فيه تحديا للمجتمع وقوانينه المقدسة. والحب يصل أحيانا إلى درجة الغليان، فإذا بلغ هذا المستوى طلب ’’الإطفاء’’ واللقاء نوع من الماء البارد، ولكن العيون لا تلبث أن تتحرك، وتحرك فيها الغمزات، وتتحرك معها الرقابة الشديدة، والكلمات الواشية النمامة. وقد عبر عن ’’شيء’’ من هذه الظاهرة عروة:
إذا ما جلسنا مجلسا نستلذه | تواشوا بنا حتى أمل مكاني |
وإذا كانت الوشاية تطارد عروة هذه المطاردة، وتجعله يتأفف ويدعو إلى الوشاة، فالذي لا ريب فيه أن الذي طارد كثيرا أكثر من وشاية، وأكثر من مضايقة حتى تمنى تلك الأمنية الغريبة. في الناس من يستطيع أن يتحدى المجتمع، ويسخر من قوانينه إذا كان وراءه الجاه والمال والقوة، ولا يستطيع الناس أن يعملوا له شيئا. فقد تحداه امرؤ القيس، مثلا، وتحدث عن النساء أحاديث غير لائقة، ولم يستطع المجتمع، على تزمته في عصره، أن يرميه بحجر، لأن وراء ملكا وبلاطا وجاها عريضا. وتحداه بعد امرئ القيس عمر بن أبي ربيعة، وتطاول حتى على بنات الملوك والأمراء، وظل آمنا، أما كثير وأمثاله فلم يكن لهم هذا الجبروت والعز ولذلك كان المجتمع يحاسبه حتى على اللقاء البريء، بينما لا يستطيع أن يعمل لغيره شيئا ولو تطاول على أعراض المحصنات! هذا الشعور من جهة، وطغيان الحب من جهة، خلق ’’الأمنية الغريبة’’ وصاغها في ذلك الإطار الغريب، إنه الهروب من القسوة التي تحيط به وبمن يحب، ولا شك أنه يستطيع تقديرها أكثر مما يستطيع غيره. لقد قالت له عزة: ويحك! لقد أردت في الشنعاء! ما وجدت أمنية أوطأ من هذه’’ فهل يمكن ذلك؟ أمن الإنصاف أن تفهمه عزة على هذا الوجه وهو القائل بها:
لو أن عزة خاصمت شمس الضحى | في الحسن عند موفق لقضى لها |
وسعى إلي بصرم عزة نسوة | جعل المليك خدودهن نعالها |
فالذي يدعو هذه الدعوة على ’’الساعيات’’ بها إليه، لا يمكن أن تهون عليه حتى يريد فيها الشنعاء، ولكنها قسوة الظروف، وشدة حبه هي التي جعلته يرضى هذا الذي لا يمكن أن يرضى به أحد على شرط أن يلتقي بها فقط! ولكن عزة لم تستطع أن تتغلغل في الأعماق حتى تفهم أن هذه الأمنية هي ثورة على المجتمع وإن تكن ثورة سلبية عاجزة، أكثر مما هي أمنية حقيقية! ولكن في الوقت الذي كان يلاقي الشاعر هذا التنكر، كان يلاقي شيئا من التقدير فقد رأته مرة غاضرة زوجة بشر بن مروان، وجرى بينها وبينه حديث عنيف لعب فيه السباب أول الأمر دوره الرئيسي، ثم ظهر فيما بعد أن غاضرة تحترمه وتقدره كثيرا. وقد ضمنت له عند بشر مئة ألف درهم، فقال لها: ’’أفي سبك إياي أو سبي إياك تضمنين لي هذا؟’’ وتقول الرواية: فلما قامت تودعه سفرت، فإذا هي أحسن أهل الدنيا وجها، وأمرت له بعشرة آلاف درهم. وكما كانت تلتقي عزة وبثينة، فقد كان يلتقي كثير وجميل، وفي أحد اللقاءات قال كثير لجميل: أترى بثينة لم تسمع بقولك:
يقيك جميل كل سواء أما له | لديك حديث أو إليك رسول؟ |
وقد قلت في حبي لكم وصبابتي | محاسن شعر ذكرهن يطول |
إذا لم يكن يرضيك قولي فعلمي | نسيم الصبا، يا بثن، كيف أقول |
فما غاب عن عيني خيالك لحظة | ولا زال عنها، والخيال يزول! |
فقال له جميل: أترى عزة لم تسمع بقولك:
يقول العدى يا عز قد حال دونكم | شجاع على ظهر الطريق مصمم |
فقلت لها والله لو كان دونكم | جهنم. . ما راعت فؤادي جهنم |
وكيف يروع القلب، يا عز رائع | ووجهك في الظلماء في السفر معلم |
وما ظلمتك النفس يا عز في الهوى | فلا تنقمي حبي، فما فيه منقم |
وهذا السؤال من جميل ينطوي على تقدير لشاعريته، واحترام لها. ولا شك أن أبيات جميل أعلى مستوى، وأعمق عاطفة، ولكن المسألة ليست مسألة مقارنة، بل حاولنا أن نوضح أن الشاعر وإن هضم حقه أحيانا كثيرة، بيد أن ذلك لم يكن عاما بل رأى من يعرف له حقه.