ابن أيبك الصفدي إبراهيم بن أيبك بن عبد الله الصفدي جمال الدين أبو إسحاق، هذا المذكور أخي وشقيقي ولد تقريبا في سنة سبع مائة وتوفي رحمه الله في رابع جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وسبع مائة ودفن بمقابر الصوفية ليلة الجمعة من الشهر المذكور، مضت عليه برهة وهو مشغول باللعب غير منقلب إلى العلم وأتقن في ذلك اللعب عدة صنائع، ثم أقبل إقبالا كليا على الطلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة وحفظ ألفية ابن مالك وثلث التعجيز ثم عدل إلى الحاوي، وقرأ على الشيخ علاء الدين علي وابن الرسام بصفد وعلى الشيخ شهاب الدين ابن الموصلي بالقاهرة وسمع بقراءتي على الشيخ أثير الدين أبي حيان وعلى الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس وغيرهما بالشام ومصر، وكتب بخطه عدة مجلدات، وأتقن وضع الأرباع وكان فيها ظريف الوضع والدهان، وقرأ الحساب ورسائل الاسترلاب، وكان ذهنه في الرياضي جيدا قابلا طويل الروح على الإدمان فيه، وعرف الفرائض وأتقن الشروط، وكان مقبول القول بالشام ومصر يجلس مع العدول، وباشر الأيتام بصفد وثمر مالهم واغتبط به القاضي شمس الدين الخضري الحاكم بصفد، مرض بدمشق مدة سبعين يوما وقاسى آلاما منوعة ثم تحزن بطاعون أربعة أيام ودرج إلى رحمة الله تعالى، لما توفي رحمه الله تعالى كتب إلي بدر الدين حسن بن علي الغزي قصيدة يعزيني فيه وهي الله ولي التوفيق:
أشكيه وهو الحمام المدرك | فرطت قضيته فما تستدرك |
سبق القضاء به فقل في جامح | ملك المدى وعنانه لا يملك |
عرضت به الدنيا أمام نعيمها | وسينقضي ذاك النعيم ويترك |
ومضت على غلوائها أحكامه | راض بها الملوك والمتملك |
فلكل نفس منه أدرك طالب | فيه استوى المستور والمتهتك |
تثنى صدور السمهرية والظبى | تنفل وهو بحامليها يفتك |
فلذاك أخلف ظن كل مؤمل | درك الخلود ونيله لا يدرك |
سل عن تصاريف الزمان أهيله | ولسوف تدرك منه ما قد أدركوا |
ذهبوا وسكن في الثرى نأماتهم | قدر لآجال النفوس محرك |
قدر تقاضى كل جسم حاجة | في نفسه فقضى عليه الأملك |
أخليلي الشاكي، وكان المشتكي | وبنو الزمان قصارهم أن يشتكوا |
لا تذهبن لذاهب أسفا وقد | مد الحجاب له وسد المسلك |
ظفرت به أيدي المنون وإنها | أيد لما ظفرت به تستهلك |
لكنها الذكرى تهيج فبح بما | ضمنت حشاك فكتمه لك مهلك |
وإذا عراك لأريحية ذكره | طيف يدين لحكمه المتنسك |
فأهن عليه غزير دمعك إنه | ليهون فيه دم ودمع يسفك |
قل: يا أخي وكم دعوتك سامعا | فالآن أنت أصم لا تتحرك |
زلت بك النعل الثبوت ولا أرى | أحدا لما أوطئته يستمسك |
ذهبت بإبراهيم كل بشاشة | للعيش كنت بذيلها أتمسك |
ومضى كما مضت القرون إلى ثرى | ساوى الغني بقربه المتصعلك |
فسقى ثراه من الغمام مجلجل | دان عراه بالنسيم تفكك |
ينهل في القاع الذي هو ساكن | حتى يروض منه ما يتدكدك |
إذا لم يذب إنسان عيني وأجفاني | عليك فما أقسى فؤادي وأجفاني |
رحلت برغمي يا أخي وتركتني | وحيدا أقاسي فيك أحزاب أحزاني |
وحل بك الأمر الذي جل خطبه | لقد بل أرداني بدمعي وأرداني |
دنا منك دوني يا لها فيك حسرة | ولما تناءى ما أراه تناساني |
وما كنت أدري إذ رأيت عذاره | به زهرات الشيب أن الردى جان |
مضى فوق أعناق ورجلي أمامه | تدوس من البلوى أسنة مران |
يمثله وهمي إذا زرت قبره | كما اعتدت منه قائما يتلقاني |
وأحسبه من بره لو نسيته | لطول المدى في قبره ليس ينساني |
أقول وقد أنسيت أنسي لفقده | قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان |
ونوحا على ربع الصبي من شبيبتي | ورسم عفت آياته منذ أزمان |
وكفا عناء الدمع مني فقد حوى | أفانين جري غير كز ولا وان |
ولا تحفلا بالسحب من بعده فقد | تعاون فيك كل أوطف حنان |
أيا نار إبراهيم أحرقت مهجتي | فهل ينطفي جمري بدمع كطوفان |
ويا ساجعات الورق هجت صبابتي | وقد نحت من شجو على عذب البان |
وقالوا: تجلد كي يهابك حزنه، | ولو كان يخشاني لما كان يغشاني |
بكيت شقيقا بات في التراب ذاويا | فهلا أراه يانعا وهو ينعاني |
توهم تقصيري عن البر والتقى | فراح أمامي كي يثقل ميزاني |
وهو خطبي كونه راح سالما | وما ناله لو مت حرقة أشجاني |
أقسامه في الموت إذ لست باقيا | ويفضل لي بالحزن كأس ردى ثان |
فيا لأخ قد كان خلفي وكلنا | إلى غاية نجري ففات وخلاني |
وكان ورائي ثم أصبح سابقي | وأحسبه في السابقين بإحسان |
كأني به إذ بات في قعر لحده | وحيدا ولم يأنس بأهل وجيران |
تداركه لطف الإله بنسمة | تهب على أزهار عفو وغفران |
وقد نور التوحيد ظلمة قبره | وحياه رضوان بروح وريحان |
ألا يا شقيقا قد شققت له الثرى | وجرع كأس الموت، لا عشت، من قبلي |
أخاف لظى من قتل نفسي حسرة | عليك فتشقى في نعيمك من أجلي |
رأيت أخي على فرش المنايا | فوا غوثا من الخطب العنيف |
كلانا كن في نزع شديد | ولكن مات بالسبب الضعيف |
أخي وقد وافيت مستأخرا | بعدي إلى دار الفنا والفساد |
وفتني سبقا لدار البقا | فالسابق السابق منا الجواد |
هل تصدح الورق ولي أنة | قد ملأت جو اللوى بالجوى |
وهل يزور الورد صوب الحيا | ولي شقيق في الثرى قد جوى |
أخي فدتك النفس لما رأت | مصرعك المحتوم لكن أبيت |
وأنت بعدي لم تقدمتني | ما يقنضي الإنصاف ما قد أتيت |
لو جئت قبلي هان ما حل بي | لما ترديت الردى واشتملت |
ما من درى النحو وأحكامه | ما يقتضي الترتيب ما قد فعلت |
قضى نحبا أعز الناس عندي | وما أحد على الأيام باق |
فيا عجبا تقدمني لربي | أخي وأنا أراه في السياق |
برغمي أن أودعت شخصك في الثرى | ولم أتخذ في وسط قلبي له قبرا |
وأقسم ما وفيت حقك في الأسى | ولو كنت برا عاينوا أدمعي بحرا |
لست أرضى بلوعتي وبكائي | وضلوعي حرى وعيني عبرى |
ما بهذا تقضى حقوق مصابي | لو دخلت الضريح أصبحت برا |
لما فقدت أخي تضاعف للأسى | حزني فنومي لا يزال طريدا |
حزني لمصرعه وحزن رزيتي | فيه وحزني إذ بقيت وحيدا |
سأشرح قصتي للناس حتى | يؤديني السؤال إلى خبير |
أيمضي الجور حتى في المنايا | بتقديم الصغير على الكبير |
ألا يا دهر قد راءيتنا في | أخي فتركتنا نصلي سعيرا |
أتيت لنا به نجما صغيرا | وعدت أخذته قمرا كبيرا |
بات أخي بالرغم من لحده | وما شققت الجيب من ويلي |
تبعت فيه سنة المصطفى | لكن شققت الدمع للذيل |
ولما أن رأت بالرغم عيني | شقيقي في قرار اللحد ملقى |
وضعت يد الأسى في جيب جفني | فشقت أدمعي للذيل شقا |
يا ليت شعري وعلمي قد قضى ومضى | بأن دهري بما أهواه غير سخي |
هل عاد ميت على من بات يندبه | طول الزمان فأرجو أن يكون أخي |
هذي الحيوة إذا فرضنا أنها | طالت وقد سلمت من التنكيد |
والله ليس تفي بأن وجوهنا | في الترب تغدو طعمة للدود |
قد خان دهري يا أخي | قل لي بأي يد يمت |
لم يبق لي فيه منى | من شاء بعدك فليمت |
أخي لا تلمني أن دفنتك في الثرى | وأنك في الأحشاء لم تتخذ دارا |
وكيف يكون القبر ما بين أضلعي | وأنت بفضل الله لا تسكن النارا |
يا موت خلفتني كئيبا | تضرم نار الجوى ضلوعي |
ولو أعاد البكاء ميتا | كان أخي عام في دموعي |
قضى نحبه من كنت أرجو حياته | لينفعني إن عاش في المال والأهل |
فهون خطبا لم يهن كونه قضى | وما ذاق ما قد ذقت من غصة الثكل |
راح إلى الله أخي مسرعا | لا أصغر الرحمن مسعاه |
والسحب تبكيه بدمع الحيا | والورق في الأغصان تنعاه |
يا ليت يرعى القبر لي وجهه | كي لا يبيت الدود يرعاه |
عدمت مع أخي فأذهلني مصابي | عليه فحرروه وأرخوه |
وكيف يلذ للعقلاء عيش | وكل أخ مفارقه أخوه |
يا ذهبا ذاب قلبي بعده لهفا | وليت لو كان يغنيه تلهفه |
ومن بلائي الذي قد حل بعدك بي | حملت هم الذي بعدي أخلفه |
أخي ذقت كاس الموت في الدهر مرة | وجرعت كاسات الردى فيك ألوانا |
وجار عليك الدهر دوني ظالما | فغادرني نبعا وأذواك ريحانا |
يا أخي حينك وافى | ليته وافق حيني |
الجوى حرق قلبي | والبكا قرح عيني |
يا ساكنا تحت طباق الثرى | وهو مع المعدوم معدود |
بأي خديك تبدى البلى | وأي عينيك رعى الدود |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 5- ص: 0