الحريري القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري: الأديب الكبير، صاحب (المقامات الحريرية - ط) سماه (مقامات أبي زيد السروجي). ومن كتبه (درة الغواص في أوهام الخواص - ط) و (ملحة الإعراب -ط) و (صدور زمان الفتور وفتور زمان الصدور) في التاريخ. و (توشيح البيان) نقل عنه الغزولي. وله شعر حسن في (ديوان) و (ديوان رسائل). وكان دميم الصورة غزير العلم. مولده بالمشان (بليدة فوق البصرة) ووفاته بالبصرة. ونسبته إلى عمل الحرير أو بيعه. وكان ينتسب إلى ربيعة الفرس. قال مرجليوث: ترجم شولتنز وريسكه نماذج من مقامات الحريري إلى اللاتينية في القرن الثامن عشر، وظهرت لها تراجم في كثير من اللغات الأوربية الحديثة، مثل ترجمة روكرت Ruckert الألمانية وترجمة Chemery and Steingass الإنجليزية.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 5- ص: 177
ابن أحمد الحريري صاحب المقامات، اسمه: القاسم بن علي.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 11- ص: 0
القاسم بن علي بن محمد بن عثمان بن الحريري أبو محمد البصري من أهل بلد قريب من البصرة يسمى المشان، مولده ومنشؤه به، وسكن البصرة في محلة بني حرام، وقرأ الأدب على أبي القاسم الفضل بن محمد القصباني البصري بها، ومات ابن الحريري في سادس رجب سنة ست عشرة وخمسمائة ومولده في حدود سنة ست وأربعين وأربعمائة عن سبعين سنة في خلافة المسترشد، وبالبصرة كانت وفاته.
وكان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة، وله تصانيف تشهد بفضله وتقر بنبله، وكفاه شاهدا «كتاب المقامات» التي أبر بها على الأوائل وأعجز الأواخر، وكان مع هذا الفضل قذرا في نفسه وصورته ولبسته وهيئته قصيرا دميما بخيلا مبتلى بنتف لحيته.
قال العماد في «كتاب الخريدة»: لم يزل ابن الحريري صاحب الخبر بالبصرة في ديوان الخلافة، ووجدت هذا المنصب لأولاده إلى آخر العهد المقتفوي.
أخبرني عبد الخالق بن صالح بن علي بن زيدان المسكي المصري بها في سنة اثنتي عشرة وستمائة في صفر قال: حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعودي البندهي- قال: وكان يكتب هو بخطه الفنجديهي قال: وهي قرية من قرى مرو الشاهجان- قال: سمعت الشيخ الثقة أبا بكر عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد النقور البزاز ببغداد يقول، سمعت الرئيس أبا محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات يقول: أبو زيد السروجي كان شيخا شحاذا بليغا ومكديا فصيحا، ورد علينا البصرة فوقف يوما في مسجد بني حرام فسلم ثم سأل الناس، وكان بعض الولاة حاضرا والمسجد غاص بالفضلاء فأعجبتهم فصاحته وحسن صياغة كلامه وملاحته، وذكر أسر الروم ولده، كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون، قال: واجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كل واحد من جلسائه أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغير في كل مسجد زيه وشكله، ويظهر في فنون الحيلة فضله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلونه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثم بنيت عليها سائر المقامات وكانت أول شيء صنعته.
قال المؤلف: وذكر ابن الجوزي في تاريخه مثل هذه الحكاية، وزاد فيها أن ابن الحريري عرض المقامة الحرامية على أنوشروان بن خالد وزير السلطان فاستحسنها وأمره أن يضيف إليها ما يشاكلها فأتمها خمسين مقامة.
حدثني من أثق به أن الحريري لما صنع المقامة الحرامية وتعانى الكتابة فأتقنها وخالط الكتاب أصعد إلى بغداد، فدخل يوما إلى ديوان السلطان وهو منغص بذوي الفضل والبلاغة محتفل بأهل الكفاية والبراعة، وقد بلغهم ورود ابن الحريري، إلا أنهم لم يعرفوا فضله، ولا اشتهر بينهم بلاغته ونبله، فقال له بعض الكتاب: أي شيء تتعانى من صناعة الكتابة حتى نباحثك فيه؟ فأخذ بيده قلما وقال: كل ما يتعلق بهذا، وأشار إلى القلم، فقيل له: هذه دعوى عظيمة، فقال: امتحنوا تخبروا فسأله كل واحد عما يعتقد في نفسه إتقانه من أنواع الكتابة، فأجاب عن الجميع أحسن جواب، وخاطبهم بأتم خطاب حتى بهرهم، فانتهى خبره إلى الوزير أنوشروان بن خالد فأدخله عليه، ومال بكليته إليه، وأكرمه وأدناه، فتحادثا يوما في مجلسه حتى انتهى الحديث إلى ذكر أبي زيد السروجي المقدم ذكره، وأورد ابن الحريري المقامة الحرامية التي عملها فيه، فاستحسنها أنوشروان جدا وقال: ينبغي أن يضاف إلى هذه أمثالها، وينسج على منوالها عدة من أشكالها، فقال: أفعل ذلك مع رجوعي إلى البصرة وتجمع خاطري بها، ثم انحدر إلى البصرة فصنع أربعين مقامة، ثم أصعد إلى بغداد وهي معه وعرضها على انوشروان فاستحسنها، وتداولها الناس، واتهمه من يحسده بأن قال: ليست هذه من عمله لأنها لا تناسب رسائله ولا تشاكل ألفاظه، وقالوا: هذا من صناعة رجل كان استضاف به ومات عنده فادعاها لنفسه، وقال آخرون: بل العرب أخذت بعض القوافل، وكان مما أخذ جراب بعض المغاربة وباعه العرب بالبصرة، فاشتراه ابن الحريري وادعاه، فان كان صادقا في أنها من عمله فليصنع مقامة أخرى، فقال: نعم سأصنع، وجلس في منزله ببغداد أربعين يوما فلم يتهيأ له ترتيب كلمتين والجمع بين لفظتين، وسود كثيرا من الكاغد فلم يصنع شيئا، فعاد إلى البصرة والناس يقعون فيه ويعيطون في قفاه كما تقول العامة، فما غاب عنهم إلا مديدة حتى عمل عشر مقامات وأضافها إلى تلك، وأصعد بها إلى بغداد، فحينئذ بان فضله وعلموا أنها من عمله.
وكان مبتلى بنتف لحيته، فلذلك قول ابن جكينا فيه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس | ينتف عثنونه من الهوس |
أنطقه الله بالمشان وقد | ألجمه في العراق بالخرس |
يا أهل ذا المغنى وقيتم شرا | ولا لقيتم ما بقيتم ضرا |
قد دفع الليل الذي اكفهرا | إلى ذراكم شعثا مغبرا |
وما نومة بعد الضحى لمسهد | زوى همه بالليل عن جفنه السنه |
بأحلى من البشرى بأن ركابكم | ستسري إلى بغداد في هذه السنه |
ميم موسى من نون نصر ففسر | أيهذا الأديب ماذا عنيت |
باء بكر بلام ليلى فما ين | فك منها إلا بعين وهاء |
بالذي ألهم تعذي | بي ثناياك العذابا |
ما الذي قالته عينا | ك لقلبي فأجابا |
قل لمن عذب قلبي | وهو محبوب محابى |
والذي إن سمته | الوصل تغالى وتغابى |
لا تخطون إلى خط ولا خطأ | من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطا |
وأي عذر لمن شابت ذوائبه | إذا سعى في ميادين الصبا وخطا |
خذ يا بني بما أقول ولا تزغ | ما عشت عنه تعش وأنت سليم |
لا تغترر ببني الزمان ولا تقل | عند الشدائد لي أخ ونديم |
جربتهم فإذا المعاقر عاقر | والآل آل والحميم حميم |
أبا زيد اعلم أن من شرب الطلا | تدنس فافهم سر قولي المهذب |
ومن قبل سميت المطهر والفتى | يصدق بالأفعال تسمية الأب |
فلا تحسها كيما تكون مطهرا | والا فغير ذلك الاسم واشرب |
الوكعاء بين الورى | أحسن من حر أتى ملأمه |
فمه اذا استجديت عن قول لا | فالحر لا يملأ منها فمه |
سلام كأزهار الربيع نضارة | وحسنا على شيخ الشيوخ الذي صفا |
ولو لم يعقني الدهر عن قصد ربعه | سعيت كما يسعى الملبي الى الصفا |
ولكن عداني عنه دهر مكدر | ومن ذا الذي واتاه من دهره الصفا |
أخمد بحلمك ما يذكيه ذو سفه | من نار غيظك واصفح إن جنى جاني |
فالحلم أفضل ما ازدان اللبيب به | والأخذ بالعفو أحلى ما جنى جاني |
ألا ليت شعري والتمني خرافة | وإن كان فيه راحة لأخي الكرب |
أتدرون أني مذ تناءت دياركم | وشط اقترابي من جنابكم الرحب |
أكابد شوقا ما يزال أواره | يقلبني بالليل جنبا إلى جنب |
وأسكب للبين المشتت مدمعا | كأن عزاليها امترين من السحب |
وأذكر أيام التلاقي فأنثني | لتذكارها بادي الأسى ذاهب اللب |
ولي حنة في كل وقت إليكم | ولا حنة الصادي إلى البارد العذب |
فو الله إني لو كتمت هواكم | لما كان مكتوما بشرق ولا غرب |
ومما شجا قلبي المعنى وشفه | رضاكم باهمال الاجابة عن كتبي |
على أنني راض بما ترتضونه | وأفخر بالإعتاب فيكم وبالعتب |
ولما سرى الوفد العراقي نحوكم | وأعوزني المسرى إليكم مع الركب |
جعلت كتابي نائبا عن ضرورة | ومن لم يجد ماء تيمم بالترب |
وأنفذت أيضا بضعة من جوارحي | تنبئكم مشروح حالي وتستنبي |
وقلت له عند الوداع وقلبه | شج وأبوه الشيخ مكتئب القلب |
ألا ابشر بما تحظى به حين تجتلي | محيا سديد الدولة الماجد الندب |
ولست أرى إذكاركم بعد خبركم | بمكرمة حسبي اهتزازكم حسبي |
وسيف السلاطين مستأثر | بأنس السماع وحسو الكؤوس |
سلاني وليس لباس السلو | يناسب حسن سمات النفيس |
وسن تناسي جلاسه | وأسوا السجايا تناسي الجليس |
وسر حسودي بطمس الرسوم | وطمس الرسوم كرمس النفوس |
وأسكرني حسرة واستعاض | لقسوته سكرة الخندريس |
وساقى الحسام بكاس السلاف | وأسهمني بعبوس وبوس |
سأكسوه لبسة مستعتب | وألبس سربال سال يؤوس |
وأسطر سيناته سيرة | تسير أساطيرها كالبسوس |
فأشعاره مشهورة ومشاعره | وعشرته مشكورة وعشائره |
شأى الشعراء المشمعلين شعره | فشانيه مشجو الحشا ومشاعره |
وشوه ترقيش المرقش شعره | فأشياعه يشكونه ومعاشره |
وشاق الشباب الشم والشيب وشيه | فمنشوره بشرى المشوق وناشره |
شكور ومشكور وحشو مشاشه | شهامة شمير يطيش مشاجره |
شقاشقه مخشية وشباته | شبا مشرفي جاش للشر شاهره |
شفى بالأناشيد النشاوى وشفهم | فمشفيه مستشف وشاكيه شاكره |
ويشدو فيهتش الشحيح لشدوه | ويشعفه إنشاده فيشاطره |
تجشم غشياني فشرد وحشتي | وبشر ممشاه ببشر أباشره |
سأنشده شعرا تشرق شمسه | وأشكره شكرا تشيع بشائره |
وأحوى حوى رقي برقة لفظه | وغادرني إلف السهاد بغدره |
تصدى لقتلي بالصدود وإنني | لفي أسره مذ حاز قلبي بأسره |
أصدق منه الزور خوف ازوراره | وأرضى استماع الهجر خشية هجره |
وأستعذب التعذيب منه وكلما | أجد عذابي جد بي حب بره |
تناسى ذمامي والتناسي مذمة | وأحفظ قلبي وهو حافظ سره |
له مني المدح الذي طاب نشره | ولي منه طي الود من بعد نشره |
وإني على تصريف أمري وأمره | أرى المر حلوا في انقيادي لأمره |
لئن كانت الأيام أحسن مرة | إلي لقد عادت لهن ذنوب |
جزى الله خيرا والجزاء بكفه | بني صاعد أهل السيادة والمجد |
هم ذكروني والمهامه بيننا | كما ارفض غيث من تهامة في نجد |
عندي بشكرك ناطقان فواحد | آثار طولك واللسان الثاني |
ومجال منتك التي أوليتني | في الشكر أفصح من مجال لساني |
أهنيك بل نفسي أهني بما سنى | لك الله من نيل المنى وبما أسنى |
شكرت زماني بعد ما كنت عاتبا | عليه لما أسدى إليك من الحسنى |
وأيقنت إذ واتاك أن قد تيقظت | لارضاء أهل الأرض مقلته الوسنى |
ففخرا بما في عظم فخرك شبهه | ولا لك شبه في الأنام إذا قسنا |
جمال الورى مليت تشريفك الذي | أفاض عليك الصيت والعز والحسنى |
ومن عجب أني أهنيك بالذي | أهنى به لكن كذا سن من سنا |
ما الروض أضحكت السحاب ثغوره | وأفاح أنفاس الصبا منثوره |
يوما بأبهج من كتاب نمنمت | يمناك يا شرف الكفاة سطوره |
وافى إلي فتهت حين رأيته | تيه المولى إذ رأى منشوره |
فلثمته عشرا ولو قبلته | ألفا وألفا لم أوف مهوره |
وفضضته عن لؤلؤ ولو انه | للسمط زان فصوله وشذوره |
وأجلت منه الطرف فيما راقه | وأتاح للقلب الكئيب سروره |
قسما لأنت الفرد في الفضل الذي | لولاك أطفأت الجهالة نوره |
منك امترى لما ارتضعت لبانه | وبك ازدهى لما احتلبت شطوره |
فاسلم له حتى تجدد ما عفا | منه وتجبر وهنه وكسوره |
واعذر وليك إن تقاصر سعيه | واغفر له تقصيره وقصوره |
دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 5- ص: 2202
الحريري العلامة البارع، ذو البلاغتين، أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري الحرامي الحريري، صاحب ’’المقامات’’.
ولد بقرية المشان من عمل البصرة.
وسمع من: أبي تمام محمد بن الحسن بن موسى، وأبي القاسم الفضل القصباني، وتخرج به في الأدب.
قال ابن افتخار: قدم الحريري بغداد، وقرأ على علي بن فضال المجاشعي، وتفقه على ابن الصباغ، وأبي إسحاق الشيرازي، وقرأ الفرائض على الخبري، ثم قدم بغداد سنة خمس مائة، وحدث بها بجزء من حديثه وبمقاماته، وقد أخذ عليه فيها ابن الخشاب أوهاما يسيرة اعتذر عنها ابن بري.
قلت: وأملى بالبصرة مجالس، وعمل ’’درة الغواص في وهم الخواص’’، و ’’الملحة’’ وشرحها، و ’’ديوانا’’ في الترسل، وغير ذلك، وخضع لنظمه نثره البلغاء.
روى عنه: ابنه؛ أبو القاسم عبد الله، والوزير علي بن طراد، وقوام الدين علي بن صدقة، والحافظ ابن ناصر، وأبو العباس المندائي، وأبو بكر بن النقور، ومحمد بن أسعد العراقي، والمبارك بن أحمد الأزجي، وعلي بن المظفر الظهيري، وأحمد بن الناعم، ومنوجهر بن تركانشاه، وأبو الكرام الكرابيسي، وأبو علي بن المتوكل، وآخرون.
وآخر من روى عنه بالإجازة أبو طاهر الخشوعي الذي أجاز لشيوخنا، فعن الحريري قال: كان أبو زيد السروجي شيخا شحاذا بليغا، ومكديا فصيحا، ورد البصرة علينا، فوقف في مسجد بني حرام، فسلم، ثم سأل، وكان الوالي حاضرا، والمسجد غاص بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته، وذكر أسر الروم ولده كما ذكرنا في ’’المقامة الحرامية’’ فاجتمع عندي جماعة، فحكيت أمره، فحكى لي كل واحد أنه شاهد منه في مسجد مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه معنى في فصل، وكان يغير شكله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في
تلونه، وإحسانه، وعليه بنيت هذه المقامات. نقل هذه القصة التاج المسعودي، عن ابن النقور عنه.
قلت: اشتهرت المقامات، وأعجبت وزير المسترشد شرف الدين أنوشروان القاشاني، فأشار عليه بإتمامها، وهو القائل في الخطبة: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم.
وأما تسميته الراوي لها بالحارث بن همام، فعنى به نفسه أخذا بما ورد في الحديث: ’’كلكم حارث، وكلكم همام’’1 فالحارث: الكاسب، والهمام: الكثير الاهتمام، فقصد الصفة فيهما، لا العلمية.
وبنو حرام: بحاء مفتوحة وراء، والمشان بالفتح: بليدة فوق البصرة معروفة بالوخم.
قال ابن خلكان: وجدت في عدة تواريخ أن الحريري صنف ’’المقامات’’ بإشارة أنوشروان، إلى أن رأيت بالقاهرة نسخة بخط المصنف، وقد كتب أنه صنفها للوزير جلال الدين أبي علي بن صدقة وزير المسترشد، فهذا أصح، لأنه بخط المصنف.
وفي ’’تاريخ النحاة’’ للقفطي أن أبا زيد السروجي اسمه مطهر ابن سلار، وكان بصريا لغويا، صحب الحريري، وتخرج به، وتوفي بعد عام أربعين وخمس مائة، سمع أبو الفتح المندائي منه ’’الملحة’’ بسماعه من الحريري.
وقيل: إن الحريري عمل المقامات أربعين وأتى بها إلى بغداد، فقال بعض الأدباء: هذه لرجل مغربي مات بالبصرة، فادعاها الحريري، فسأله الوزير عن صناعته، فقال: الأدب، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها، فانفرد وقعد زمانا لم يفتح عليه ما يكتبه، فقام خجلا.
وقال علي بن أفلح الشاعر:
شيخ لنا من ربيعة الفرس | ينتف عثنونه من الهوس |
أنطقه الله بالمشان كما | رماه وسط الديوان بالخرس |
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 14- ص: 338
القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات
من أهل البصرة ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة
وسمع الحديث من أبي تمام محمد بن الحسن بن موسى المقرى وأبي القاسم الفضل القصباني الأديب وأبي القاسم الحسين بن أحمد بن الحسين الباقلاني وغيرهم
وحدث ببغداد بجزء من حديثه وبمقاماته التي أنشأها
روى عنه أبو الفضل بن ناصر وأبو بكر عبد الله بن محمد بن أحمد بن النقور والوزير علي بن طراد وأبو المعمر المبارك بن أحمد الأزجي وأبو العباس المندائي وخلق وآخر من روى عنه بالإجازة بركات بن إبراهيم الخشوعي
وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ
وقرأ الفرائض والحساب على أبي الفضل الهمذاني وأبي حكيم الخبري
وأخذ الأدب عن أبي الحسن علي بن فضال المجاشعي وأبي القاسم القصباني
وكان من البلاغة والفصاحة بالمحل الرفيع الذي تشهد به مقاماته التي لانظير لها رشيق النظم والنثر حلو الألفاظ عذب العبارة إمام مقدم في الأدب وفنونه
قال ابن السمعاني لو قلت إن مفتتح الإحسان في شعره كما أن مختتم الإبداع بنثره وأن مسير الحسن تحت لواء كلامه كما أن مخيم السحر عند أقلامه لما زلقت من شاهق الإنصاف إلى حضيض الاعتساف
وقال أيضا فيه أحد الأئمة في الأدب واللغة ومن لم يكن له في فنه نظير في عصره فاق أهل زمانه بالذكاء والفصاحة وتنميق العبارة وتجنيسها وكان فيما يذكر غنيا كثير المال
وكان من سبب إنشائه المقامات ما حكاه عن نفسه من أن أبا زيد السروجي واسمه فيما ذكر بعضهم المطهر بن سلار من أهل البصرة كان شيخا شحاذا أديبا بليغا فصيحا قال الحريري ورد علينا البصرة فوقف في مسجد بني حرام فسلم ثم سأل وكان بعض الولاة حاضرا والمسجد غاص بالفضلاء فأعجبتهم فصاحته وحسن كلامه
وذكر اسر الروم ولده كما ذكرنا في المقامة الحرامية فاجتمع عندي عشية جماعة فحكيت ما شاهدت من ذلك السائل وما سمعت من ظرافته فحكي كل واحد عنه نحو ما حكيت فأنشات المقامة الحرامية ثم بنيت عليها سائر المقامات
قيل وأما تسميه الراوي عنه بالحارث بن همام فإنما عني به نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم (كلكم حارث وكلكم همام) فالحارث الكاسب والهمام الكثير الاهتمام وكل أحد كاسب ومهتم بأموره
ثم انتشرت هذه المقامات في زمانه وكثرت النسخ بها وزاد إقبال الخلق عليها بحيث قال القاضي جابر بن هبة الله قرأت المقامات على الحريري في سنة أربع عشرة وكنت أظن أن قوله
يا أهل ذا المغنى وقيتم شرا | ولا لقيتم ما بقيتم ضرا |
قد دفع الليل الذي اكفهرا | إلى ذراكم شعثا مغبرا |
لا تخطون إلى خطء ولا خطأ | من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطا |
وأي عذر لمن شابت ذوائبه | إذا سعى في ميادين الصبا وخطا |
دار هجر - القاهرة-ط 2( 1992) , ج: 7- ص: 266
بالحاء المهملة.
صاحب “المقامات الحريرية”، وترجمه هو بخطه فيما شاهدته في أصله ب“ مقامات أبي زيد السروجي”، إنشاء فلان.
ولقد بلغت به هذه “ المقامات “ أعلى المقامات، وأحلته من علو الذكر
وبعد الصيت بأرفع الدرجات، وكان شافعي المذهب، وذلك بين من “ مقاماته “ في فتاوبه التي ضمنها المقامة الثانية والثلاثون منها، ناسباً لها إلى فقيه العرب، وإنما فقيه العرب عبارة عن عالم العرب وليس عبارة عن شخص معين، فذكر من فتاويه قال: أيجوز بيع الخل بلحم الجمل؟ قال: لا، ولا بلحم الحمل، قال الحريري: الخل: ابن المخاض، ولا يحل بيع اللحم بالحيوان سواء كان من جنسه أو غير جنسه.
وقال أيضا: قال: ما يجب على المختفي في الشرع؟ قال: القطع لإقامة الردع، المختفي: نباش القبور.
وقال: قال: أينعقد نكاح لم يشهده القواري، قال: لا والخالق الباري: القواري: الشهود، لأنهم يقرون الأشياء، أي: يتبعونها.
فهذه أجوبة شافعي ليس غير، لمخالفة الأول لمذهب أحمد، فإنه يجوز بغير الجنس، والثاني لمذهب أبي حنيفة، والثالث لمذهب مالك (رضى الله عنهم) .
وقد قال في خاتمتها: فقلت له: خفض الأحزان لا تلم الزمان، واشكره لمن فتلك عن مذهب إبليس، إلى مذهب ابن إدريس.
أنبأنا أبو هاشم، أخبرنا أبو سعد السمعاني، أنشدني أبو القاسم عبد الله بن القاسم البصري قال: أنشدني والدي لنفسه:
لا تخطون إلى خطء ولا خطأ | من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطأ |
فأي عذر لمن شابت مفارقه | إذا جرى في ميادين الصبا وخطا |
دار البشائر الإسلامية - بيروت-ط 1( 1992) , ج: 2- ص: 662
الحريري
وأما أبو محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري، فإنه كان أديباً فاضلاً، بارعاً فصيحاً بليغاً.
صنف كتباً حسنة، عذبة العبارة، رائقة، منها: كتاب المقامات الشهيرة في أيدي الناس، وكتاب درة الغواص فيما يلحن فيه الخواص، وكتاب الرسائل، وملحة الأعراب وشرحها، إلى غير ذلك من الكتب.
وأخذ عن أبي القاسم الفضل بن محمد القصباني -وكان القصباني نحوياً فاضلاً- قال الحريري: ذكر شيخنا أبو القاسم القصباني أنك إذا قلت: ما أسود زيداً! وما أسمر عمراً! وما أصفر هذا الطائر! وما أبيض هذه الحمامة! وما أحمر هذه الفرس! فسدت كل مسألة منها من وجه، وصحت من وجه، فيفسد جميعها إذا أردت بها التعجب من الألوان، وتصح جميعها إذا أردت بها التعجب من سواد زيد، وسمر عمرو -وهو الحديث بالليل خاصة- ومن صفير الطائر، وكثرة بيض الحمامة، ومن حمر الفرس؛ وهو أن ينتن فوه.
وأخذ عن الحريري المقامات شريف الدين علي بن طراد الزينبي الوزير، وقوام الدين علي بن صدقة الوزير، وابن المائدائي قاضي واسط، وابن المتوكل، وابن النقور، وجماعة كثيرة من أهل الأدب وغيرهم.
وروى لي ابن المتوكل عنه:
لما تعامى الدهر وهو أبو الورى | عن الرشد في أنحائه ومقاصده |
تعاميت حتى قيل إني أخو عمي | ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده |
وليحشرن أذل من فقع الفلا | ويحاسبن على النقيصة والشغا |
مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن-ط 3( 1985) , ج: 1- ص: 278
دار الفكر العربي-ط 1( 1998) , ج: 1- ص: 327
مطبعة المعارف - بغداد-ط 1( 1959) , ج: 1- ص: 262
أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري البصري، المشاني
صاحب المقامات. قرأ النحو على القصباني ودخل بغداد فقرأ النحو والأدب على علي بن فضال المجاشعي وتفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعلى ابن الصباغ، وقرأ الفرائض والحساب على أبي حكيم الجبري وأبي الفضل الهمداني.
إمام في الفصاحة والبلاغة ورشاقة الألفاظ. حضر مجلس بعض الأكابر، فجرى ذكر قول أبي الفتح البستي في رجل شرير بخيل: إن لم يكن لنا طمع في درك درك فاعفنا من شرك شرك. فلم يبق أحد إلا استحسنها، فقال أبو محمد في الحال من غير روية: إن لم تدننا من مبارك مبارك فأبعدنا عن معارك معارك، وفيه قولي: مدارك مدارك مشارك مشارك. وقلت أيضا: إن لم تسقنا من برك فاعفنا من ضرك ضرك. وقلت أيضا: إن لم تنزلنا من محابك محابك فاعزلنا عن مسابك مسابك.
مولده سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتوفي سنة خمس عشرة وخمسمائة وله المقامات، والملحة وشرحها، ودرة الغواص، وديوان ترسل، وديوان شعر.
وفي الجملة ما كان إلا نادرا.
جمعية إحياء التراث الإسلامي - الكويت-ط 1( 1986) , ج: 1- ص: 53
دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع-ط 1( 2000) , ج: 1- ص: 234
القاسم بن علي بن محمد الأديب أبو محمد البصري الحريري
مصنف المقامات ’’والملحة’’ وشرحها، و’’درة الغواص’’، وديوان شعره ورسائل، له إعراب القرآن أيضاً، أحد الأئمة في البلاغة، مولده بالبصرة سنة ست وأربعين وأربعمائة، وقدم بغداد فقرأ على أبي الحسن بن فضال المجاشعى، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وابن الصباغ، وسمع وقرأ الفرائض والحساب على أبي الفضل الهمداني وابن حكيم الخَبرى، وسمع الحديث من جماعة، وحدَّث ببغداد بجزء من حديثه وبمقاماته، روى عنه ابنه عبد اللَّه وابن ناصر وغيرهما، قال ابن الصلاح: كان شافعي المذهب. وذلك بيِّن في مقاماته في فتاويه التي ضمنها المقامة الثانية والثلاثين، قلت: قد بينا تفقهه على أبي إسحاق الشيرازي وابن الصباغ ولم يعتن هو بهذا، صنف ’’المقامات’’ للوزير جلال الدين عميد الدولة وزير المسترشد، كما كتب هو بخطه واتهمه بعضهم في مقاماقه، وقيل: إنها كانت لرجل مغربى، مات بالبصرة ووقعت أوراقه إليه فامتحن فمكث زماناً، فلم يفتح عليه بشئ فخجل، وكان يولع سيف مكتبته عند الفكرة، مات سنة ست عشرة وخمسمائة عن سبعين سنة، وخلف ولدين عبد اللَّه الأديب، وعبيد اللَّه قاضي البصرة، ومن شعره:
لا تَخْطَونَّ إلى خِطء ولا خطأ | من بعدما الشيب في فَوْدَيْكَ قد خطَا |
وأى عُذْرٍ لمن شابت ذوائبه إذا | سَمَى في ميادين الصبَّا وخَطَا’’. |
دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان-ط 1( 1997) , ج: 1- ص: 1