قابوس بن وشمكير بن زيار الديلمي الملقب بشمس المعالي: من الملوك، وكان صاحب جرجان وطبرستان، وكان أبوه وشمكير وعمه مرداويج ملوك الري واصبهان وتلك النواحي، لأن أول من ملك من الديلم ليلى بن النعمان فاستولى على نيسابور في أيام نصر بن أحمد الساماني، وقام بعده أسفار بن شيرويه، وكان مرداويج بن زيار أحد قواده، فخرج عليه فحاربه فظفر به مرداويج فقتله وملك مكانه، وعمل لنفسه سريرا من ذهب فجلس عليه، واشترى عبيدا كثيرة من الأتراك، وجعل يقول: أنا سليمان وهؤلاء الشياطين، وكان فيه ظلم وجبروت فدخل عليه غلمانه الأتراك فقتلوه في الحمام. وكان بنو بويه من أتباعه فولاهم ولاية استظهروا بها عليه وحاربوه حتى ملكوا.
وأما هو فلما مات ولت الديلم عليهم أخاه وشمكير، فاستولى على جرجان وطبرستان، ودامت الحرب بينه وبين ركن الدولة أبي علي ابن بويه نيفا وعشرين سنة، وركب في آخر أيامه فرسا له فعارضه خنزير فشب به الفرس وهو غافل عنه فسقط على دماغه فهلك. وكتب ابن العميد عن ركن الدولة كتابا يقول فيه: الحمد لله الذي أغنانا بالوحوش، عن الجيوش.
وقام بعده ابنه أبو منصور بهستون بن وشمكير مقامه وتوفي سنة سبع وستين وثلاثمائة، وكان عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة أبي علي زوج ابنة بهستون، فنفذ معز الدولة إلى المطيع وسأله أن ينفذ إليه الخلع والعهد على جرجان وطبرستان ففعل ذلك ولقبه ظهير الدولة، ووصله ما نفذ إليه في جمادى الأولى سنة ستين وثلاثمائة، فزين بلاده للرسول ونزل عن سريره عند وصول الخلع إليه ونثر عليه النثار العظيم، ونفذ للمطيع لله في جواب اللقب ستين ألف دينار عينا وغير ذلك من الثياب والخيل.
ولما توفي خلف أخوه قابوس بن وشمكير، ونفذ إليه الطائع لله الخلع والعهد على طبرستان وجرجان، ولقبه شمس المعالي، وكان فاضلا أديبا مترسلا شاعرا ظريفا، وله رسائل بأيدي الناس يتداولونها، وكان بينه وبين الصاحب ابن عباد مكاتبة. مات سنة ثلاث وأربعمائة، وكان فيه عسف وشدة، فسئمه عسكره فتغيروا عليه وحسنوا لابنه منوجهر حتى قبض على أبيه، وقالوا له: إن لم تقبض أنت عليه وإلا قتلناه، وإذا قتلناه فلا نأمنك على نفوسنا فنحتاج أن نلحقك به، فوثب عليه وقبض عليه وسجنه في القلعة ومنعه ما يتدثر به في شدة البرد، فجعل يصيح: أعطوني ولو جل دابة، حتى هلك، وكان حكم على نفسه في النجوم أن منيته على يد ولده، فأبعد ابنه دارا لما كان يراه من عقوقه، وقرب ابنه منوجهر لما رأى من طاعته، وكانت منيته بسببه، ثم إن منوجهر قتل قتلته وكانوا ستة تواطأوا عليه، فقتل خمسة وهرب السادس إلى خراسان، فقبضه محمود بن سبكتكين وحمله إليه وقال له: إنما فعلت هذا لئلا يتجرأ أحد على قتل الملوك، فقتل الآخر.
ثم مات منوجهر سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فقام ابنه انوشروان بن منوجهر مقامه، وتوفي انوشروان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.
ثم ولي ابنه حسان بن أنوشروان.
ومن شعر قابوس بن وشمكير:
خطرات ذكرك تستثير صبابتي | فأحس منها في الفؤاد دبيبا |
لا عضو لي إلا وفيه صبابتي | فكأن أعضائي خلقن قلوبا |
ومن رسائله ما كتب به إلى بعض إخوانه: كتبت، أطال الله بقاء مولاي، وما في جسمي جارحة إلا وهي تود لو كانت يدا تكاتبه، ولسانا يخاطبه، وعينا تراقبه، وقريحة تعاتبه، بنفس ولهى، وبصيرة ورهى، وعين عبرى، وكبد حرى، منازعة إلى ما يقرب منه، وتمسكا بما يتصل عنه، ومثابرة على أمل هو غايته، وتعلقا بحبل عهد هو نهايته، وخاطري يميل نحوه، ونفسي تأمل دنوه، وترجو وتقول أتراه، بل لعله وعساه، يرق لنفس قد تصاعد نفسها، ويرحم روحا قد فارقها روحها ومؤنسها، وكيف بقلبه لو عاين صورة هذه صورتها، وشاهد مهجة هذه جملتها، فليرفق جعلت فداه بمن عاند برحا عظيما، وكابد قرحا أليما، وليرق لكبد قذفها البعاد، وعين أرقها السهاد، وأحشاء محرقة بنار الفراق، وأجفان مقروحة بدمعها المهراق، وقلب في أوصابه متقلب، ولب في عذابه معذب، فلو أني أسعدت فأعطيت الرضى، وخيرت فاخترت المنى، لتمنيت أن أتصور صورتك، وأطالع طلعتك، وأمثل لها مثالي لتراه، فأخبرها بكنه حالي ومعناه، لترفق لازالة ما أزله الدهر إلي، ولتتلطف لإماطة ما أماطه علي، وأشكو بعض ما نابني من نوائبه وغوائله، وأطلقني من أشراكه وحبائله.
وكان قد تمت عليه نكبة أخرجته من مقر عزه وموطن ملكه، فشتتته عن الأوطان وألحقته بخراسان، فأقام بها برهة من الزمان إلى أن أسفر صبحه، وفاز بعد الخيبة قدحه، وتحرج الزمان من جوره عليه، فرد ملكه إليه، فقال في حال نكبته:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا | هل عاند الدهر إلا من له خطر |
أما ترى البحر يطفو فوقه جيف | ويستقر بأقصى قعره الدرر |
فان تكن عبثت أيدي الزمان بنا | ونالنا من تأذي بؤسه ضرر |
ففي السماء نجوم غير ذي عدد | وليس يكسف إلا الشمس والقمر |
أما البيت الثاني فأخذه من قول ابن الرومي:
دهر علا قدر الوضيع به | وغدا الشريف يحطه شرفه |
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه | سفلا ويعلو فوقه جيفه |
وقوله «وفي السماء نجوم» مأخوذ من قول أبي تمام:
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت | عيدان نخل ولا يعبأن بالرتم |
بنات نعش ونعش لا كسوف لها | والشمس والبدر منها الدهر في الرقم |
وكتب شمس المعالي قابوس إلى عضد الدولة وقد أهدى له سبعة أقلام:
قد بعثنا إليك سبعة أقلا | م لها في البهاء حظ عظيم |
مرهفات كأنها ألسن الحي | ات قد جاز حدها التقويم |
وتفاءلت أن ستحوي الأقال | يم بها كل واحد إقليم |
وهذا يشبه قول ابن الصابئ وقد ذكر في بابه.
قال مؤلف الكتاب: وكنت في سنة سبع وستمائة قد توجهت إلى الشام وفي صحبتي كتب من كتب العلم أتجر فيها، وكان في جملتها «كتاب صور الأقاليم» للبلخي- نسخة رائقة مليحة الخط والتصوير، فقلت في نفسي: لو كانت هذه النسخة لمن يجتدي بها بعض الملوك ويكتب معها هذه الأبيات (وقلتها ارتجالا) لكان حسنا، والأبيات في معنى أبيات قابوس، ولم أكن شهد الله وقعت عليها ولا سمعتها، وهي:
ولما رأيت الدهر جار ولم أجد | من الناس من يعدي على الدهر عدواكا |
ركبت الفلا يحدو بي الأمل الذي | يدني على بعد التنائف مثواكا |
ورمت بأن أهدي إليك هدية | فلم أر ما يهديه مثلي لشرواكا |
فجئتك بالأرضين جمعا تفاؤلا | لعلمي بأن الفال رائد عقباكا |
فخذ هذه واستخدم الفلك الذي | براه إلهي كي يدور ببغياكا |
ثم إنني بعت النسخة من الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب بتخيير المشتري من غير مكسب، وجرت لي فيها قصة طريفة أنزه هذا السلطان عن ذكرها، فانه وإن كان الحظ حرمني فانه جواد عند غيري.
وكان السبب في خروج قابوس عن دار ملكه ولحوقه بخراسان أن عضد الدولة أبا شجاع فنا خسرو نقم على أخيه فخر الدولة أبي الحسن علي بن الحسن بن بويه أمرا خالفه فيه فخر الدولة، فقصده عضد الدولة إلى همذان، وكان مالكها وما والاها، فهرب منه حتى لحق بجبال طبرستان، فتلقاه قابوس وأكرم مثواه وأنزله عنده وآواه، فأنفذ عضد الدولة إلى أخيه الآخر الملقب بأمير الأمراء مؤيد الدولة بالمسير نحوهما، فانحازا عنه، وذلك سنة احدى وسبعين، وبعثا إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور، وكان يتولى إمارة نيسابور وما دون جيحون من قبل السديد أبي صالح منصور بن نوح الساماني، يستجديانه ويستعينانه، فوعدهما وأبطأ عليهما لانحلال الأحوال بخراسان لاختلاف الأيدي بها، فسارا هاربين حتى وردا نيسابور ومنها إلى بخارى، فأرسل صاحب بخارى معهما جيشا صحبة تاش الحاجب وولاه نيسابور، فلم يصنع معهما شيئا، وقال قابوس في تلك الحال:
لئن زال أملاكي وفات ذخائري | وأصبح جمعي في ضمان التفرق |
فقد بقيت لي همة ما وراءها | منال لراج أو بلوغ لمرتقي |
ولي نفس حر تأنف الضيم مركبا | وتكره ورد المنهل المترنق |
فان تلفت نفسي فلله درها | وإن بلغت ما ترتجيه فأخلق |
ومن لم يردني والمسالك جمة | فأي طريق شاء فليتطرق |
وله:
بالله لا تنهضي يا دولة السفل | وقصري فضل ما أرخيت من طول |
أسرفت فاقتصدي جاوزت فانصرفي | عن التهور ثم امشي على مهل |
مخدمون ولم تخدم أوائلهم | مخولون وكانوا أرذل الخول |
فأما أبو الحسن علي بن بويه فإنه لما مات أخوه في سنة ثلاث وسبعين استدعاه ابن عباد وأقامه مقام أخيه، وأما قابوس فإنه لما تطاولت مدته ولم ير عند السامانية ناصرا قصد أطراف بلاده، فتجمعت إليه الجيوش وعاد إلى بلاده وقاتل المستولي عليها حتى عاد إلى سرير ملكه بعد ثماني عشرة سنة.
وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في رسالة له سماها «التعلل بإجالة الوهم في معاني منظوم أولي الفضل» قال: وكنت أستحسن من شمس المعالي قابوس إعراضه عن إنشاد مدائحه في وجهه وبين يديه، وكان يطلق للشعراء المجتمعين على بابه في النيروز والمهرجان مقدارا من البر، ويرسم لأبي الليث الطبري توزيعه عليهم بحسب رتبهم، فإنهم قوم مستميحون بما يتفاضلون فيه، لكني لا أستجيز سماع أكاذيبهم التي أعرف من نفسي خلافها وأتحرز بذلك من الاستغبان.
ولقابوس فصل يعزي: حشو هذا الدهر- أطال الله بقاء مولاي- أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معدوم، فما أولاه- أيده الله- بأن يتأمل أحواله، ويستشف ضروبه وأحكامه، فإن وجد أحدا سلم من وجد أو عري من فقد لقي خلاف المعهود، وحق له التأسي على المفقود، وإن علم أن الخلق فيه شرع، وأن الباقي للماضي تبع، قدم من السلوة والصبر، ما لا بد من المصير إليه آخر الأمر، ليحصل له الثواب والأجر، والسلام.
قال أبو حيان، قال لي البديهي: مدحت وشمكير بمدائح فاحت رياها شرقا وغربا وبعدا وقربا، فما أثابني عليها إلا بشيء يسير، وقصده بعض الأغتام من الجبال
فمدحه بقصيدة ركيكة غير موزونة تعلقها بالهجاء أكثر من تعلقها بالمديح، فأعطاه ما أغناه وأعقابه بعده، فشكوت الى ابن ساسان ذلك فقال لي: إفراط العلم مضر بالجد، والجد والعلم قلما يجتمعان، والكد للعلم والجد للجهل، وأنشأ يقول:
إن المقادير إذا ساعدت | ألحقت العاجز بالحازم |
وللصاحب يهجو قابوس:
قد قبس القابسات قابوس | ونجمه في السماء منحوس |
وكيف يرجى الفلاح من رجل | يكون في آخر اسمه بوس |
فأجابه قابوس:
من رام أن يهجو أبا قاسم | فقد هجا كل بني آدم |
لأنه صور من مضغة | تجمعت من نطف العالم |
قال أبو سعد الآبي في «تاريخه»: في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة كانت الأخبار تواترت بموت قابوس بن وشمكير، ثم ورد الخبر بأنه لم يمت ولكنه نكب وأزيل عن الملك، وذلك أنه كان قد أسرف في القتل وتجاوز الحد في سفك الدماء، ولم يكن يعرف حدا في التأديب وإقامة السياسة غير ضرب الأعناق وإماتة الأنفس، وكان يأتي ذلك في الأقرب فالأقرب والأخص فالأخص من الجند والحاشية، حتى أفنى جميعهم وأتى على جلهم، وأذل الخيل وأصناف العسكر للرعية وجرأهم عليهم، ولم يتظلم أحد من أهل البلد من واحد من أكابر عسكره إلا قتله وأتى على نفسه من غير أن يتفحص عن الشكوى أصحيحة أم باطلة، فتبرم به عسكره وحاشيته وخافوا سطوته ولم يأمنوا ناحيته، فمشى بعضهم إلى بعض وتمالأوا عليه وتعاهدوا وتحالفوا، وخفي الأمر لأنه كان خرج إلى حصن بناه وسماه شمراباذ، وعزم القوم أن يتسلقوا عليه ويغتالوه، وقد واطأهم على الأمر جميع من كان معه في الحصن، فتعذر عليهم الصعود إليه والهجوم عليه، وعلموا أنهم لو قد أصبحوا وقد عرف الخبر لم ينج منهم أحد، فنعوه إلى الناس وذكروا أنه قد قضى نحبه، فانتهبت اصطبلاته وسيقت دوابه وبغاله، ولم يقدر هو على مفارقة الموضع لا عواز الظهور التي تحمل وتنقل عليها
خزائنه، وكان عنده وزيره أبو العباس الغانمي، فاتهمه بممالأة القوم فأوقع به وقتله.
وخاطب العسكر من ذلك الموضع ومن جرجان منوجهر، وكان إذ ذاك مقيما بطبرستان، فاستدعوه وكتبوا إليه بالحضور وأنه متى تأخر قدموا غيره، فبادر إليهم فقلدوه الأمر، وبلغ ذلك قابوس وقد تفرق عنه من غدر به، فجمع أمراء الرستاق وفارق المكان، وصحبه طائفة من العرب وغيرهم من الجند، وخرج إلى بسطام مع خزائنه وأسبابه، وتبعه منوجهر ابنه مع العسكر فحصره، وامتنع هو عليه، ثم أمكن من نفسه عند الضرورة، فقبض عليه وحمل الى بعض القلاع. وتقرر أمر ابنه منوجهر ولقب بفلك المعالي، وكان أبوه يلقب شمس المعالي، ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة بصحة موت قابوس، وأقام التعزية في ممالكه عنه، وكان موته في مجلسه بقلعة جناشك. وذكر أنه اغتيل وحمل تابوته إلى جرجان ودفن في مشهد عظيم كان بناه لنفسه وأنفق عليه الأموال العظيمة وبالغ في تحصينه وتحسينه.