ابن العديم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي، كمال الدين ابن العديم: مؤرخ، محدث، من الكتاب. ولد بحلب، ورحل إلى دمشق وفلسطين والحجاز والعراق، وتوفى بالقاهرة. من كتبه (بغية الطلب في تاريخ حلب- خ) كبير جدا، اختصره في كتاب آخر سماه (زبدة الحلب في تاريخ حلب- ط) المجلد الأول منه، و (سوق الفاضل- خ) رأيت منها مجلدين في مكتبة عارف حكمت بالمدينة، و (الدراري في الذراري- ط) و (وصف الطيب- خ) رسالة، و (الأخبار المستفادة في ذكر بني جرادة) و (دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري- ط) ما وجد منه، و (التذكرة- خ) أجزاء منها. وله شعر حسن.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 5- ص: 40
عمر بن أحمد، ابن العديم عمر بن أحمد بن هبة الله، الصاحب، جمال الدين، ابن العديم العقيلي، الحلبي المعروف بـ’’ابن أبي جرادة’’.
جليل القدر، كثير العلوم، أوحد في الكتابة.
صنف تاريخا سماه ’’بغية الطلب في تاريخ حلب’’.
مولده في العشر الأول من ذي الحجة، سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
ومات سنة ستين وستمائة، في جمادى الأولى لعشرين منه.
دار القلم - دمشق-ط 1( 1992) , ج: 1- ص: 222
ابن العديم عمر بن أحمد
دار القلم - دمشق-ط 1( 1992) , ج: 1- ص: 346
ابن العديم اسمه عمر بن أحمد بن هبة الله.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 268
كمال الدين أبو القاسم عمر ابن أبي جرادة العقيلي الحلبي، المعروف بابن العديم
من أدباء القرن السادس الهجري ومؤرخيه، تميز بشتى ألوان المعرفة، فكان أديبا وشاعرا وفقيها وسفيرا ومؤرخا فذا. وصفه ياقوت بقوله: إن الله عز وجل عنى بخلقته فأحسن خلقه وخلقه، وعقله وذهنه وذكاءه، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور، فقرأ الأدب وأتقنه، ثم درس الفقه فأحسنه ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعرف علله ورجاله وتأويله وفروعه. في هذه الخطوط السريعة التي رسمها ياقوت في معجم الأدباء، وهو من معاصريه، صور جلية عن عبقرية هذا الشاب الذي نشأ في بيت علم وأدب وفضل، فقد ظل هذا البيت يتوارث أفراده العلم أربعة قرون كاملة. كان جده من سكان البصرة نزح عنها بعد المئتين للهجرة في تجارة إلى الشام، وفي رواية أن طاعونا نزل بالبصرة فخرج منها جماعة من بني عقيل وقدموا إلى الشام فاستوطن جدهم الأكبر حلب. ومنذ ذلك العهد، حتى القرن السادس والسابع، والبلاد العربية تتحدث عن هذه العائلة التي ضمت الأدباء والشعراء والقضاة، كان آخرهم والد كمال الدين الذي ولي منصب قاضي القضاة. وكان قبلها خطيب القلعة في عهد نور الدين محمود زنكي، ثم خازن المملكة على أيام ولده الملك الصالح إسماعيل، ثم عزل من منصب قاضي القضاة لا لشيء إلا لأنه ’’حنفي المذهب’’ والدولة شافعية فلم يؤثر ذلك فيه لأن له من ثروته وجاهه وعلمه ما يغنيه عن التكسب من مال الدولة فقبع في قصره يقطع الوقت بالمطالعة والدرس والإشراف على أملاكه ومزارعه. وبينما هو في هذه الحياة الحرة الطليقة من كل قيد، إذ بنبأ سار ترقص له القلوب، فقد انبثق فجر اليوم العاشر من شهر ذي الحجة سنة 588ه عن مولود أشاع البشر في بيت آل العديم. تقبل القاضي والد كمال الدين، هذه البشرى برعشة المضطرب غير المطمئن، فقد أنعم الله عليه بعدة بنات من أجمل ما خلق الله، وكان برغم حبه لبناته، في حسرة على وليد يرث هذا المجد العلمي الذي كان ينتقل من الآباء إلى الأبناء.
وكلما تقدمت به السن كان يشعر أن القدر لن يهبه مولودا ذكرا، ولكن الآمال كثيرا ما تنبث من السجف السود. ومن الله على الشيخ بوليد ذكر. وليس هذا الوليد مؤرخنا كمال الدين، بل شقيقه، فلم يكد يشب عن الطوق حتى استله القدر من بين يديه، فحزن الوالد حزنا عميقا هد قواه. وأصابه ما لم يصب والد على فقد ولده فامتنع عن الطعام والشراب إلا ما يقيم جسده الضاوي. وقد هم يوما وقد غلبه الحنين ولج به الشوق وعصاه الصبر - هم أن يخرج فلذة كبده من القبر ليروي غليل شوقه وينعم برؤيته. وبالرغم مما كان عليه الشيخ من قوة وجبروت فقد امتنع عليه الحجر، ولم يستطع أن يكشف عن القبر، فأدرك أن الله جلت قدرته، أراد ذلك شفقة منه على الطفل وعليه، فزجر نفسه، وعاد إلى البيت متعبا مكدودا يبكي همسا ويصلي، وما زال حتى ارتمى على فراشه وهو في غاية الإعياء. وبديهي، وهو في هذه الحالة، أن يستيقظ ’’عقله الباطن’’ على الرؤى والهواجس، وأن تتراءى له الأحلام وهو في غفوته اليقظة. فرأى في تلك الليلة رؤيا أرعبته أولا. . ثم ما لبثت أن شفته من مرضه. رأى ولده، وسمع صوته، وقد خيل إليه أنه يخاطبه بقوله: ’’يا أبي: عرف والدتي أني أريد أن أجيء إليكم’’. واستيقظ أبو الحسن مذعورا. وركض إلى زوجته يريد إيقاظها. ولم تكن الأم المفجوعة نائمة، فهي أشد لوعة على ولدها من أبيه، فما كاد يقص عليها نبأ الرؤيا حتى بكت بكاء شديدا. وتشاء إرادة المولى أن ترأف بهذين الكسيرين، فمن الله عليهما بولد نحيف البنية، تكاد تحسبه شبحا من الأشباح. ولعل القارئ قد أدرك أن هذا المولود هو كمال الدين مؤرخ حلب، موضع حديثنا في هذه الكلمة. وقد عنى والده بتربيته منذ صغره تربية علمية، وتنشئته على غرار آبائه وأجداده. وكان يفرض عليه حفظ طائفة من الكتب فحفظ ’’اللمع’’ وحفظ ’’القدوري’’ وحفظ غيرهما في مدد قصيرة. وكان قد حفظ القرآن الكريم وحفظ كتاب الله ميزة في آل العديم، فما منهم إلا من انطوى صدره على آياته المحكمات. وفي هذا الصدد يقول: ’’لما ختمت القرآن قبلني والدي بين عيني وبكى وقال: الحمد لله يا ولدي، هذا الذي كنت أرجوه فيك، حدثني جدك عن أبيه عن سلفه: أنه ما منا أحد، إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من ختم القرآن. . ’’. وعرف كمال الدين بين أترابه بالسبق، وكان شديد الاتصال بعلماء عصره، سمع الحديث عن أبيه وعمه أبي غانم، وابن طبرزد، والافتخار والكندي والخرستاني وسمع جماعة كثيرة بدمشق وحلب والمقدس. لقد سافر إلى دمشق وإلى القدس سنة 603ه ثم عاد فسافر مرة ثانية بعد خمس سنوات. ولم تكن بغيته من هذه الرحلة التفرج على البلدان بل طلب العلم من الأئمة العظماء، مع درس الحالة السياسية والاجتماعية وتلتمس ما كانت عليه دمشق والقدس من غليان واضطراب. . وعاد إلى حلب يتابع نهجه الدراسي، وإذ أصبح مرموق القدر بين العلماء، نيط به التدريس في أعظم مدارس حلب وهو في الثامنة والعشرين من عمره. وأخذ يؤلف في هذه السن المبكرة، فتب للملك الظاهر كتاب ’’الدراري’’ وقدمه إليه هدية يوم ولد ولده الملك العزيز الذي أسندت إليه سلطة حلب بعد أبيه. كما كتب كتاب ’’ضوء الصباح في الحث على السماح’’ صنفه للملك الأشرف، وحين أنعم الملك النظر في جمال خطه رغب في رؤيته، ولما مثل بين يديه أحسن إليه وأكرمه وخلع عليه وشرفه. وهكذا، بدأ نجم ابن العديم يلمع وأخذ صيته يدوي، وأحبه العلماء والملوك، وكأنما كان التأليف نزعة من نزعات هذا الشاب فلا يكاد ينتهي من وضع كتاب حتى يبدأ بوضع كتاب آخر.
وقد طلب إليه ياقوت أن يؤرخ لآل العديم الذين يتصل نسبهم ببني جراد فكتب في أسبوع واحد كتاب ’’الأخبار المستفادة في ذكر بني جرادة’’، وإذ عرف بجودة الخط فقد وضع كتابا في الخط وعلومه، ووصف آدابه وأقلامه وطروسه، وما جاء فيه من الحديث والحكم. ومن كتبه ’’تدبير حرارة الأكباد، في الصبر على فقد الأولاد’’، صور فيه لواعج الحزن في صدر أبيه الذي فجع بفقد أخيه. على أن أعظم كتبه بدون ريب كتابه الجليل ’’تاريخ حلب’’ الذي لا يقتصر على أخبار ملوكها، وابتداء عمارها، ومن كان بها من العلماء، ومن داخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والأمراء، بل تناول جغرافية المملكة وبحيراتها وجبالها وتربتها وهوائها ومائها وخراجها وعادياتها، فذكر مدنا تعد اليوم من كليكيا والجزيرة مع أنها من أعمال حلب مثل أذنه والكنيسة السوداء وطرطوس وسيس والحدث الحمراء وملاطية وسميساط ورعيان ودلوك إلى غير ذلك من البلدان والحصون.
يقول ابن الشحنة: ’’إن مسودته كانت تبلغ نحو أربعين جزءا كبارا، والمبيضة تجيء كذلك، ولكن اخترمته المنية، وتفرقت أجزاؤه قبل الفتنة التيمورية’’.
وكتاب آخر تجدر الإشارة إليه قبل الحديث عن سفارته ومهمته السياسية - أريد به كتابة ’’الإنصاف والتحري، في دفع الظلم والتجري، عن أبي العلاء المعري’’.
ولقد ثار ابن العديم على الجهلة من أنصاف العلماء الذين أخذوا يكفرون شيخ المعرة الذي طالما صرخ من الأعماق:
لحى الله قوما إذا جئتهم بصدق الأحاديث قالوا: كفر والذي كان يصرخ من عزلته:
أما في الأرض من رجل لبيب فيفرق بين إيمان وكفرا مهلا شيخنا الحكيم.
فلم تخل الأرض في يوم من الأيام من رجل لبيب منصف يفرق بين الكفر والإيمان.
وها هو ذا، قاضي قضاة حلب، ينبري للدفاع عنكم فيرد على خصومكم ويسفه أحلامهم وتخرصاتهم ولهذا الدفاع، في تلك الفترة، قيمته لصدوره عن فقيه مجتهد وعالم مرموق، وأديب واسع الاطلاع وشاعر ومؤرخ، فمن كلماته قوله:
’’. . وبعد فإني وقفت على جملة من مصنفات عالم معرة النعمان أبي العلاء. . فوجدتها مشحونة بالفصاحة والبيان، مودعة فنونا من الفوائد الحسان، محتوية على أنواع الآداب، مشتملة من علوم العرب على الخالص واللباب، لا يجد الطامح فيها سقطة، ولا يدرك الكاشح فيها غلطة. . ’’.
ولما كانت مختصة بهذه الأوصاف مميزة على غيرها عند أهل الإنصاف قصده جماعة، وحسدوه إذ لم ينالوا سعيه، فتتبعوا كتبه على وجه الانتقاد، ووجدوها خالية من الزيغ والفساد، فحين علموا سلامتها من العيب والشين، سلكوا فيها معه مسلك الكذب والمين ورموه بالإلحاد والتعطيل، والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنه عيوبا، وحسناته ذنوبا. وعقله حمقا، وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام. وحرفوا كلمه عن مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه’’.
بهذا الأسلوب الحار أخذ يدافع عن عقيدة أبي العلاء بعد أن قرأ جميع كتبه وما اتهمه به خصومه فخرج برسالة ’’الإنصاف والتحري، في دفع الظلم والتجري’’. وهو إذ أنصفه رد على حاسديه وكشف عن خصائص عبقريته.
ونتحدث عن سفارته إلى القاهرة حين اجتاح هولاكو بغداد في طريقه إلى الشام.
فقد دب الذعر في نفوس الأهالي، واجتاح الهلع رجال الدولة، والتفت الناس إلى مصر يطلبون النجاة فما كان من الملك الناصر يوسف صاحب الشام وحلب إلا أن عقد مجلسا ضم أركان البلاد والقادة لتارك الموقف، وبعد مداولات خطيرة قر الرأي أن ينتدب قاضي القضاة ابن العديم للسفر إلى مصر، وطلب النجدة من ملكها لرد عادية المغول.
وكان كمال الدين قد عاد من بغداد في مهمة توطيد العلاقة بين الخليفة والملك الناصر، وذلك قبل الاجتياح المغولي لبغداد.
ووصل مصر بعد عناء شديد وسفر مضن شاق طويل، فلم يكد يهبط أرض النيل متعبا مكدودا حتى احتفت به مصر حفاوة بالغة - احتفى به الملك والأمراء والأعيان والعلماء ونزل في ضيافة السلطان في قصر ’’الكبش’’ وتوافدت رجالات مصر للسلام عليه والترحيب بمقدم عالم فذ ومؤرخ شهير.
وانتهت مراسم التسليم، وبعد أن أخذ حقه من الراحة بدأ بمفاوضاته التي انتهت بالنجاح. وسرعان ما جهزت مصر حملة كبرى إلى الشام للانضمام إلى جيش الملك الناصر ومقاتلة هولاكو لدفع هذا الخطر الذي يهدد البلاد العربية من فراتها إلى برداها إلى نيلها.
وفي هذه الفترات كان هولاكو يحتاج البلاد مدينة أثر مدينة وما زال حتى اقترب من حلب فدخلها سنة 658ه بعد حصار دام عشرة أيام دافع الحلبيون عنها دفاع الأبطال ولكن دون جدوى. فقد قتل خلال هذه المعارك كثيرون. واستبيحت الدماء وامتلأت الطرقات بالقتلى، وتهدمت البيوت والجوامع والمساجد والبساتين حتى أصبحت المدينة خرابا يبابا. يقول المؤرخون: إن الحلبيين قتلوا من جنود هولاكو عددا كبيرا. وهذا الذي حمله، بعد أن دخلها، أن يعيث فيها ويأخذ منها مائة ألف سير. . عدا ما صادره من أموالها ونفائس كنوزها. ومن حلب وإلى زحفه إلى دمشق ففلسطين. . وما زال حتى اقترب من الحدود المصرية يريد غزة ومصر. وخلال هذه الفترة كانت سفارة ابن العديم قد أثمرت فأعلنت مصر التعبئة العامة، وهب جيشها يدفع هذا العدوان العظيم. وكانت معركة ’’عين جالوت’’ وهي من المعارك الحاسمة في التاريخ - هي التي ردت هولاكو عن مصر وعن البلاد العربية كلها. إن مؤرخنا لم يكد يسمع بجلاء المغول عن بلاد الشام حتى عاد إلى حلب ليرى ما نزل ببلدته الحبيبة من بلاء. وحين عاد رأى كل شيء في مدينته يدعو إلى الرعب والوحشة. مدينة صامتة كأنها مقبرة. أين قصر الملك الناصر؟ أين بيوت آل العديم؟ ما فعل بجوامعها ومدارسها وقصورها؟ لقد أصبح أكثرها خرابا يبابا. وإذ رأى ذلك لم يطق المقام في بلدته ومسقط رأسه فما كان منه إلا أن قفل راجعا إلى مصر بعد أن ودعها بقصيدة حزينة. وفي مصر عاش أيامه الأخيرة، يكتب ويؤلف، وقد أحبته مصر فأكرمته، وما زال فيها إلى أن وافاه القدر سنة 660ه فدفن بسفح المقطم من القرافة بالقرب من المسجد المعروف بالعرض، بتربة موسى بن يغمور، فكان، كما وصفه الذهبي صاحب تاريخ الإسلام، ’’عديم النظير فضلا ونبلا وذكاء ورأيا ودهاء ومنظرا ورواء ومهابة، وكان، إلى هذا، محدثا ومؤرخا صادقا، وفقيها مفتيا، ومنشئا بليغا’’.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 8- ص: 377
عمر بن أحمد بن أبي جرادة
يعرف بابن العديم العقيلي يكنى أبا القاسم ويلقب كمال الدين، من أعيان أهل حلب وأفاضلهم، وهو عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، واسم أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل، أبي القبيلة، بن كعب بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وبيت أبي جرادة بيت مشهور من أهل حلب: أدباء شعراء فقهاء عباد زهاد قضاة يتوارثون الفضل كابرا عن كابر وتاليا عن غابر، وأنا أذكر قبل شروعي في ذكره شيئا من مآثر هذا البيت وجماعة من مشاهيرهم، ثم أتبعه بذكره ناقلا ذلك كله من كتاب ألفه كمال الدين، أطال الله بقاءه، وسماه «الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة» وقرأته عليه فأقر به.
سألته أولا لم سميتم ببني العديم؟ فقال: سألت جماعة من أهلي عن ذلك فلم يعرفوه، وقال: هو اسم محدث لم يكن آبائي القدماء يعرفون بهذا ولا أحسب إلا أن جد جدي القاضي أبا الفضل هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة- مع ثروة واسعة ونعمة شاملة- كان يكثر في شعره من ذكر العدم وشكوى الزمان فسمي بذلك، فإن لم يكن هذا سببه فلا أدري ما سببه.
حدثني كمال الدين أبو القاسم قال حدثني جمال الدين أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة عمي قال: لما ختمت القرآن قبل والدي رحمه الله بين عيني وبكى وقال: الحمد لله يا ولدي هذا الذي كنت أرجوه فيك، حدثني جدك عن أبيه عن سلفه أنه ما منا أحد إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من ختم القرآن.
قال المؤلف: وهذا منقبة جليلة لا أعرف لأحد من خلق الله شرواها، وسألت عنها قوما من أهل حلب فصدقوها. وقال لي زين الدين محمد بن عبد القاهر بن النصيبي: دع الماضي واستدل بالحاضر فإنني أعد لك كل من هو موجود في وقتنا هذا وهم خلق ليس فيهم أحد إلا وقد ختم القرآن، وجعل يتذكرهم واحدا واحدا فلم يخرم بواحد.
حدثني كمال الدين أطال الله بقاءه قال: وكان عقب بني أبي جرادة من ساكني البصرة في محلة بني عقيل بها، فكان أول من انتقل منهم عنها موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر أبي جرادة إلى حلب بعد المائتين للهجرة وكان وردها تاجرا.
وحدثني قال حدثني عمي أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة قال: سمعت والدي يذكر فيما يأثره عن سلفه أن جدنا قدم من البصرة في تجارة إلى الشام فاستوطن حلب. قال: وسمعت والدي يذكر أنه بلغه أنه وقع طاعون بالبصرة فخرج منها جماعة من بني عقيل وقدموا الشام فاستوطن جدنا حلب. قال: وكان لموسى من الولد محمد وهارون وعبد الله فأما محمد فله ولد اسمه عبد الله ولا أدري أعقب أم لا، وأما العقب الموجود الآن فلهارون وهو جدنا، ولعبد الله وهم أعمامنا.
فمن ولد عبد الله القاضي أبو طاهر عبد القاهر بن علي بن عبد الباقي بن محمد ابن عبد الله بن موسى بن أبي جرادة، وهو من سادات هذا البيت وأعيانهم، ومات في جمادى الأولى من سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فقال القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة يرثيه، وكانت قد توفيت قبل وفاة والد القاضي أبي الفضل أخته بأيام قلائل فتوجع للماضين:
صبرت لا عن رضى مني وإيثار | وهل يرد بكائي حتم أقدار |
أروم كف دموعي وهي في صبب | وأبتغي برد قلبي وهو في نار |
ما لليالي تعري جانبي أبدا | من أسرتي وأخلائي وأوزاري |
تلذ طعم مصيباتي فأحسبها | تظما فيروي صداها ماء أشفاري |
محاسن جدت للأرض الفضاء بها | وطالما صنتها عن لحظ أبصار |
وواضح كسنا الاصباح أنقله | من رأي عيني إلى سري واضماري |
إن الردى اقصدتني غير طائشة | سهامها في فتى كالكوكب الواري |
رمته صائبة الأقدار من كثب | وما رمت عظم أقدار وأخطار |
وهي قصيدة غراء طويلة.
ومنهم أبو المجد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن محمد: شيخ فاضل أديب شاعر، له معرفة باللغة والعربية، سمع بحلب أستاذه أبا عبد الله الحسين بن عبد الواحد بن محمد بن عبد القادر القنسريني المقرئ مؤلف «كتاب التهذيب في اختلاف القراء السبعة» وسمعه ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله، وله أشعار حسان منها:
توسوس عن علتي الزمان | ففي كل يوم له معضله |
فلو جعلوا أمره ليلة | إلي لأصبح في سلسله |
ومات الشيخ أبو المجد بحلب في حدود سنة ثمانين وأربعمائة.
ومنهم ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة: صدر زمانه وفرد أوانه، ذو فنون من العلوم، وخطه مليح جدا على غاية من الرطوبة والحلاوة والصحة، وله شعر يكاد يختلط بالقلب ويسلب اللب لطافة ورقة، تصدر بحلب لافادة العلوم الدينية والأدبية متفردا بذلك كله، ورتب «غريب الحديث» لأبي عبيد على حروف المعجم، رأيته بخطه، وشرع في شرح أبياته شروعا لم يقصر فيه، ظفرت منه بكراريس من مسوداته لأنه لم يتم. سمع بحلب والده أبا المجد وأبا الفتح عبد الله بن إسماعيل الحلي وأبا الفتيان محمد بن سلطان بن حيوس الشاعر وغيرهم، ورحل عن حلب قاصدا للحج في ثالث شعبان سنة ست عشرة وخمسمائة، ووصل إلى بغداد وسمع بها أبا محمد عبد الله بن علي المقرئ وغيره، ولم يتيسر للناس في هذا العام حج فعاد من بغداد إلى حلب، ثم سافر إلى الموصل بعد ذلك في سنة إحدى وثلاثين وسمع بها، وأدركه تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني فسمع منه بحلب هو وجماعة وافرة، وذكره السمعاني في «المذيل لتاريخ بغداد» .
قال المؤلف: وقد ذكرته في هذا الكتاب في موضعه بما ذكره السمعاني به.
حدثني كمال الدين قال سمعت والدي رحمه الله يقول: كتب الشيخ أبو الحسن ابن أبي جرادة بخطه ثلاث خزائن من الكتب لنفسه، وخزانة لابنه أبي البركات، وخزانة لابنه أبي عبد الله، ومن شعره (أنبأنا به تاج الدين زيد بن الحسن الكندي) من قصيدة يصف فيها طول الليل:
فؤاد بالأحبة مستطار | وقلب لا يقر له قرار |
وما أنفك من هجر وصد | وعتب لا يقوم له اعتذار |
وعين دمعها جم غزير | ولكن نومها نزر غرار |
كأن جفونها عند التلاقي | تلاقيها الأسنة والشفار |
وهذا حالها وهم حلول | فكيف بها إذا خلت الديار |
أبيت الليل مرتفقا كئيبا | لهم في الضلوع له أوار |
كأن كواكب الفلك اعتراها | فتور أو تخونها المدار |
منها:
فيا لك ليلة طالت ودامت | فليس لصبحها عنها انسفار |
أسائلها لأبلغ منتهاها | لعل الهم يذهبه النهار |
ومات الشيخ أبو الحسن في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة عن ثماني وثمانين سنة.
ومنهم ولده أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة: وكان فاضلا كاتبا شاعرا أديبا، يكتب النسخ طريقة أبي عبد الله ابن مقلة، والرقاع طريقة علي بن هلال، وخطه حلو جيد جدا خال من التكلف والتعسف، سمع أباه بحلب، وكتب عنه السمعاني عند قدومه حلب، وسار في حياة أبيه إلى الديار المصرية واتصل بالعادل أمير الجيوش وزير المصريين وأنس به، ثم نفق بعده على الصالح بن رزيك، وخدمه في ديوان الجيش، ولم يزل بمصر إلى ان مات بها في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ومن شعره في صدر كتاب كتبه إلى أخيه عبد القاهر في سنة ست وأربعين وخمسمائة:
سرى من أقاصي الشام يسألني عني | خيال إذا ما زار يسلبني مني |
تركت له قلبي وجسمي كليهما | ولم يرض إلا أن يعرس في جفني |
وإني ليدنيني اشتياقي إليكم | ووجدي بكم لو أن وجد الفتى يدني |
وأبعث آمالي فترجع حسرا | وقوفا على ضن من الوصل أو ظن |
فليت الصبا تسري بمكنون سرنا | فتخبرني عنكم وتخبركم عني |
وليت الليالي الخاليات عوائد | علينا فنعتاض السرور من الحزن |
ومن شعره:
ما ضرهم يوم جد البين لو وقفوا | وزودوا كلفا أودى به الكلف |
تخلفوا عن وداعي ثمت ارتحلوا | وأخلفوني وعودا ما لها خلف |
وأوصلوني بهجر بعد ما وصلوا | حبلي وما أنصفوني لكن انتصفوا |
فليتهم عدلوا في الحكم إذ ملكوا | وليتهم أسعفوا بالطيف من شعفوا |
ما للمحب وللعذال ويحهم | خانوا ومانوا ولما عنفوا عنفوا |
أستودع الله أحبابا ألفتهم | لكن على تلفي يوم النوى ائتلفوا |
عمري لئن نزحت بالبين دارهم | عني فما نزحوا دمعي وما نزفوا |
يا حبذا نظرة منهم على عجل | تكاد تنكرني طورا وتعترف |
سقت عهودهم غراء واكفة | تهمي ولو أنها من أدمعي تكف |
أحبابنا ذهلت ألبابنا ومحا | عتابنا لكم الاشفاق والأسف |
بعدتم فكأن الشمس واجبة | من بعدكم وكأن البدر منخسف |
يا ليت شعري هل يحظى برؤيتكم | طرفي وهل يجمعن ما بيننا طرف |
ومضمر في حشاه من محاسنكم | لفظا هو الدر لا ما يضمر الصدف |
كنا كغصنين حال الدهر بينهما | أو لفظتين لمعنى ليس يختلف |
فأقصدتنا صروف الدهر نابلة | حتى كأن فؤادينا لها هدف |
فهل تعود ليالي الوصل ثانية | ويصبح الشمل منا وهو مؤتلف |
ونلتقي بعد يأس من أحبتنا | كمثل ما يتلاقى اللام والألف |
وما كتبت على مقدار ما ضمنت | مني الضلوع ولا ما يقتضي اللهف |
فان أتيت بمكنوني فمن عجب | وإن عجزت فان العذر منصرف |
ومنهم أخوه أبو البركات عبد القاهر بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة: كان ظريفا لطيفا أديبا شاعرا كاتبا له الخط الرائق والشعر الفائق والتهذيب الذي تبحر في جودته ويلتحق بالنسبة إلى ابن البواب، والتأنق في الخط المحرر الذي يشهد بالتقدم في الفضل وان تأخر، سمع بحلب أباه أبا الحسن وغيره، وكتب عنه جماعة من العلماء، وكان أمينا على خزائن الملك العادل نور الدين محمود زنكي وذا منزلة لطيفة منه. ومن شعره (وكتبه بليقة ذهب):
ما اخترت الا أشرف الرتب | خطا أخلد منه في الكتب |
والخط كالمرآة ننظرها | فنرى محاسن صورة الأدب |
هو وحده حسب يطال به | إن لم يكن إلاه من حسب |
ما زلت أنفق فيه من ذهب | حتى جرى فكتبت بالذهب |
وقال أيضا وهو بدمشق في سنة تسع وأربعين وخمسمائة:
أمت ببذلي خالصا من مودتي | إلى من سواء عنده المنع والبذل |
وتحسب نفسي والأماني ضلة | بأني من شغل الذي هو لي شغل |
ألا إن هذا الحب داء موافق | وإن شفاء الداء ممتنع سهل |
عفا الله عمن إن جنى فاحتملته | تجنى فعاد الذنب لي وله الفضل |
ومن كلما أجمعت عنه تسليا | تبينت أن الرأي في غيره جهل |
سأعرض إلا عن هواه فانه | جميل بمثلي حب من ما له مثل |
وألقي مقال الناصحين بمسمع | ضربت عليه بالغواية من قبل |
فعندي وان أخفيت ذاك عن العدى | عزيمة هم لا تكل ولا تألو |
ولي في حواشي كل عذل تلفت | إلى حب من في حبه قبح العذل |
وإني لأدنى ما أكون من الهوى | إذا أرجف الواشون بي أنني أسلو |
هذا لعمري والله الغاية في الحسن والطلاوة والرونق والحلاوة.
وقال أيضا:
عاد قلبي إلى الهوى من قريب | ما محب بمنته عن حبيب |
طال يا همتي تماديك في الرش | د خذي من غواية بنصيب |
وإذا ما رأيت حسنا غريبا | فاستعدي له لوجد غريب |
يا غزالا مالت به نشوة العج | ب فهزت عطفيه هز القضيب |
بين ألحاظك المراض وبيني | نسب لو رعيت حق النسيب |
أنت أجريت أعين الدمع من عي | ني وأوريت زند قلبي الكئيب |
لا تقل ليس لي بذلك علم | فعلى مقلتيك سيما مريب |
ما تعديت في الذي أنت فيه | إن حظي لديك حظ أديب |
ومات في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
ومنهم ابن أخيه أبو الفتح عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي جرادة: وكان يجيد الكتابة، وجمع مجاميع حسنة، وجمع شعر والده أبي عبد الله الحسن وشعر عمه أبي البركات عبد القاهر، وله شعر لا بأس به منه:
من ذا مجيري من يدي شادن | مهفهف القد مليح العذار |
قد كتب الشعر على وجهه | أسطر مسك طرسها جلنار |
فهؤلاء من بني عبد الله بن موسى بن عيسى.
وأما أخوه هارون بن موسى فهو أول من اشترى بحلب ملكا في قرية تعرف بأورم الكبرى، وكان له ولدان زهير وأحمد، والعقب لزهير، وهو الذي اشترى أكثر أملاك بني أبي جرادة مثل أورم الكبرى ويحمول وأقذار ولؤلؤة والسين، وهي قرى، ووقف وقفا على شرى فرس يجاهد به في سبيل الله، وتوفي في حدود سنة أربعين وثلاثمائة. فمن ولد زهير هذا أبو الفضل عبد الصمد بن زهير بن هارون بن موسى ولادته في حدود العشرين والثلاثمائة، سمع بحلب أبا بكر محمد بن الحسين الشيعي وغيره، وروى عنه ابن أخيه القاضي أبو الحسن أحمد ومشرق العابد وجماعة ولعله مات في حدود سنة تسعين وثلاثمائة، وليس له عقب.
ومنهم أبو جعفر يحيى بن زهير بن هارون بن موسى، وهو العديم إليه ينسبون، وقد ذكرنا أنهم لا يعرفون لم سموا ذلك.
ومنهم ولده القاضي أبو الحسن أحمد بن يحيى بن زهير: وهو أول من ولي القضاء بمدينة حلب من هذا البيت، وقد سمع الحديث ورواه، وقرأ الفقه على القاضي أبي جعفر محمد بن أحمد السمعاني، وكان السمعاني إذ ذاك قاضي حلب.
أنشدني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة، أنشدني والدي لجد أبيه القاضي هبة الله أحمد بن يحيى يذكر أباه ويفتخر به:
أنا ابن مستنبط القضايا | وموضح المشكلات حلا |
وابن المحاريب لم تعطل | من الكتاب العزيز يتلى |
وفارس المنبر استكانت | عيدانه من حجاه ثقلا |
توفي بعد سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد: كان كبير القدر جميل الأمر مبجلا عند آل مرداس، له شعر جزل فصيح ذو معان دقاق يترفع قدره عنه، وإنما يقول ببلاغته وبراعته، سمع الحديث من أبيه ولعله لقي أبا العلاء المعري وقرأ عليه شيئا، وولي القضاء بحلب وأعمالها في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة وبقي على ذلك إلى أن مات، وكانت ولايته للقضاء في أوائل دولة شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش بعد وفاة حميه القاضي كسرى بن عبد الكريم بن كسرى، وكتب تقليده من بغداد عن المقتدي بالله.
ومن شعره:
لي بالغوير لبانات ظفرت بها | قد سد من دونها لي أوضح الطرق |
وبالثنية بدر لاح في غصن | أصمى فؤادي لها سهم من الملق |
سراقة لقلوب الناظرين لها | وما يقام عليها واجب السرق |
لا يفلت المرء من أشراك مقلتها | وان تخلص لم يفلت من العقق |
وأبرزت من خلال السجف ذا شعل | لولا بقا الليل قلنا غرة الفلق |
ولائم ودموع العين واكفة | لا يستبين لها جفن من الغرق |
يقول أفنيته والشمل مجتمع | ولم تصنه لتوديع ومفترق |
وله:
ربع لهند باللوى مصروم | أقوى فها آريه مرثوم |
أخفاه إلحاح البلى فضللت في | إنشاده لولا النسيم نموم |
تضياف طرفي فيه دمع ساجم | وقرى فؤادي في ذراه هموم |
هل عاذر في الربع رائي عيسهم | تحدى لها وخد بهم ورسيم |
وهوى تبعده الليالي والنوى | إن قربته خواطر ورسوم |
يا صاحبي خذا المطايا وحدها | بدمي فما سفكته إلا الكوم |
أمضين أحكام الهوى وأعنه | ومساعد المرء الظلوم ظلوم |
وله:
وما عسى يطلب الرجال من رجل | كاس من الفضل إن عري من المال |
كالبارد العذب يوم الورد من ظمأ | والصارم العضب في روع وأوجال |
همومه في جسيمات الأمور فما | يلفى مصاحب أطماح وآمال |
ألذ من ثروة تأتي بإذلال | عز القناعة مع صون وإقلال |
وما يضر امرءا أثرت مناقبه | إن أكسبته الليالي رقة الحال |
وقال أيضا يمدح أبا الفضائل سابق بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب ويشكره إذ لم يسمع فيه قول حساد وشوا به إليه:
خلها إن ظمئت تشكو الأواما | لا تقلها الأين إن طال وداما |
واجعل السرج إذا ما سغبت | كلأ والمورد العذب اللجاما |
أوتراها كالحنايا بالسرى | وباسراع إلى المرمى سهاما |
قصرت ظهرا ورسغا وعسيبا | مثل ما طالت عنانا وحزاما |
تنصب الأذنين حتى خيلت | بهما تبصر ما كان أماما |
وإذا ما بارت الريح اغتدت | خلفها النكباء حسرى والنعامى |
كم مقامي بين أحكام العدى | أتبع القائد لا أعصي الزماما |
أكلة الطاعم لا يرهب إثما | أو أسير المن إن كف احتشاما |
وإلام الحظ لا ينصفني | من زمان جار في قصدي إلاما |
تعتلي أرؤسه أذنابه | فترى الأرجل تعلو فيه هاما |
أتمنى راحة تنقذني | منهم عزت ولو كانت حماما |
منها:
كم رموني عامدا في هوة | نارها تعلو اشتعالا واضطراما |
قاصدي حتفي فكانت بك لي | نار إبراهيم بردا وسلاما |
وله في المعنى من قصيدة:
هنئت يا أرض العواصم دولة | روى ثراك بها أشم أروع |
قد عاد في الأيام ماء شبابها | وتسالمت حرق الأسى والأضلع |
أشكو إليك عصابة نبذوا الحيا | حسدا وشدوا في أذاي وأوضعوا |
راموا ابتزازي مورثي عن أسرتي | وتآزروا في قبضه وتجمعوا |
يتطلبون لي الذنوب كأنني | ممن عليه بالشنان يقعقع |
لم أخش قهرهم ونصرك مصلت | دوني ولي من حسن رأيك مرجع |
وله:
وما الذل إلا أن تبيت مؤملا | وقد سهرت عيناك وسنان هاجعا |
أأخشى امرءا أو أشتكي منه جفوة | إذا كنت بالميسور في الدهر قانعا |
إذا ما رآني طالبا منه حاجة | ففي حرج ان لم يكن لي مانعا |
وكان المنجمون قد حكموا له أنه يموت في صدور الرجال، فاتفق أنه اعتقل بالقلعة مدة لتهمة اتهم بها بالممالأة لبعض الملوك ثم أطلق بعد مدة، فنزل راكبا وأصحابه حوله، فبينا هو سائر إذ وجد ألما فقال لأصحابه: أمسكوني أمسكوني، فأخذوه في صدورهم من على فرسه، فلما وصل إلى منزله بقي على صدورهم إلى أن مات بحلب في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
ومنهم ولده القاضي أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد: وكان فقيها فاضلا زاهدا عفيفا سمع أباه وغيره، وولي قضاء حلب وأعمالها وخطابتها بعد موت أبيه في أيام تاج الدولة دبيس في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ولم يزل قاضيا بها إلى أن عزله رضوان لما خطب للمصريين، وولى القضاء القاضي الزوزني العجمي في شوال من سنة تسعين وأربعمائة، ثم عاود الملك رضوان الخطبة لبني العباس فأعاد القاضي أبا غانم إلى ولايته، وجاءه التقليد من بغداد بالقضاء والحسبة عن القاضي علي بن الدامغاني بأمر المستظهر في صفر سنة ست وتسعين وأربعمائة، وكان مولد القاضي أبي غانم في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وهو الذي شرع في عمارة المسجد الذي بحلب يعرف ببني العديم، وأتمه ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله، وكان يتولى الخطابة في المسجد الجامع والامامة بحلب، وكان حنفي المذهب، وكان يؤم بالناس ثلاثين سنة وهو متكتف تحت ثيابه ويسبل أكمامه فارغة خوفا من الولاة في أيامه لأنهم كانوا إسماعيليين يرون رأي المصريين، وكانوا يفطرون قبل العيد بيوم ويجتمع أكابر حلب في يوم عيدهم يهنئونهم، فصعد القاضي أبو غانم للهناء في من صعد، وقدم للناس سكرا ولوزا، وأخذ القاضي أبو غانم لوزة ووضعها في فيه فقال له صاحب حلب: أيها القاضي لم لا تأكل من السكر؟ فقال: لأنه يذوب، وتبسم، فضحك الوالي وأعفاه من ذلك.
حدثني كمال الدين قال: حدثني عمي حدثني أبي قال: نزل جدك القاضي أبو غانم في بعض الأيام يصلي بالجامع، وخلع نعليه قرب المنبر وكانا جديدين، فلما قضى صلاته قام للبسهما فوجد نعليه العتق مكانهما، فقال لغلامه: ألم أنزل إلى الجامع بالمداس الجديد فأين هو؟ فقال الغلام: بلى ولكن جاءنا الساعة رجل وطرق الباب وقال: القاضي يقول لكم أنفذوا إليه مداسه العتيق إلى الجامع فقد سرق مداسه الجديد، فضحك وقال: هذا والله لص شفيق جزاه الله خيرا وهو في حل منه.
والقاضي أبو غانم هذا هو الذي نهض من حلب في سنة ثمان عشرة وخمسمائة وقد حصرها الفرنج ودبيس بعد قتل بلك على منبج حتى أقدم البرسقي من الموصل فاستنقذها من الحصار، وهربوا لما سمعوا بقدومه، وكان أهل حلب لقوا شدة وأكلوا الميتة ولم يكن عندهم أمير وإنما تولوا حفظ البلد بأنفسهم وأبلوا بلاء حسنا حسنت به العاقبة.
ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله سمي باسم جده وكني بكنيته، وكان فقيها مرضيا ورعا زاهدا، سمع الحديث ورواه وولي القضاء بحلب وأعمالها بعد موت أبيه القاضي أبي غانم، وكتب له عهده من أتابك زنكي بن آقسنقر في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ثم جاء له العهد من بغداد من قاضي القضاة الزينبي وأمر المقتفي، وكان مولده في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة، فلما قتل أتابك زنكي وولي ابنه نور الدين وولي القضاء كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري قضاء الشام، ورزق البسطة والتحكم في الدولة وقاوم الوزراء بل الملوك، التمس من القاضي أبي الفضل هذا أن يكتب في كتب سجلاته ذكر النيابة عنه، فامتنع القاضي أبو الفضل، ولج ابن الشهرزوري، وساعده مجد الدين ابن الداية، وهو والي حلب، لشيء كان في نفسه على القاضي أبي الفضل لأمور كان يخالفه فيها في أقضية يوفر فيها جانب الحق على أغراضه، وتردد المراسلات بين نور الدين وبينه في قبول النيابة وهو يأبى إلى أن قال ابن الداية: هذا تحكم منه في الدولة وفيك إذ تأمره بشيء ولا يمتثله، فاعزله وول محيي الدين بن كمال الدين، فقال نور الدين: ... يستناب له قاض حنفي، فعزل القاضي أبو الفضل وولي محيي الدين قضاء حلب، واستنيب له الكودري، وذلك في سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وحج في تلك السنة.
وكتب أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي للقاضي أبي الفضل هبة الله يلتمس منه «كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه» للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، وكان قد وعده بها ودافعه:
يا حائزا غاي كل فضل | تضل في كنهه الإحاطه |
ومن ترقى إلى محل | أحكم فوق السها مناطه |
إلى متى أسعط التمني | ولا ترى المن بالوساطه |
ومات القاضي أبو الفضل لعشر بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
ومنهم ابن أخته أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة: سمع بحلب ورحل إلى بغداد وسمع بها محمد بن ناصر السلامي وغيره، وحدثني كمال الدين أيده الله قال، قال لي شيخنا أبو اليمن زيد الكندي: كان أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أبي جرادة فسمع ببغداد الحديث معنا على، مشايخنا فسمعت بقراءته، وورد إلينا إلى دمشق بعد ذلك، وكنا نلقبه «القاضي بسعادتك»، وذلك أن القلانسي دعاه في وليمة وكنت حاضرها فجعل لا يسأله عن شيء فيخبر عنه بما سر أو ساء إلا وقال في عقبه: بسعادتك، فإن قال له: ما فعل فلان؟ قال: مات بسعادتك، وإن قال له: ما خبر الدار الفلانية؟ يقول: خربت بسعادتك، فسميناه القاضي بسعادتك، وكان يقولها لاعتياده إياها لا لجهل كان فيه، وكان له أدب وفضل وفقه وشعر جيد، وقد روى الحديث. ولأبي المكارم شعر منه:
لئن تناءيتم عني ولم تركم | عيني فأنتم بقلبي بعد سكان |
لم أخل منكم ولم أسعد بقربكم | فهل سمعتم بوصل فيه هجران |
وله أشعار كثيرة ومات بحلب في سنة خمس وستين وخمسمائة أو سنة ست وستين.
ومنهم جمال الدين أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسين يحيى: وهو عم كمال الدين، أحد الأولياء العباد وأرباب الرياضة والاجتهاد، عالم كثير الصوم والصلاة، وهو حي يرزق إلى وقتنا هذا، وكان قد تولى الخطابة بجامع حلب، وعرض عليه القضاء في أيام الملك الصالح إسماعيل بن محمود بن زنكي بعد القاضي ابن الشهرزوري فامتنع منه، فقلد القضاء أخوه القاضي أبو الحسن والد كمال الدين أيده الله. وكتب جمال الدين هذا بخطه الكثير، وشغف بتصانيف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحكيم الترمذي فجمع معظم تصانيفه عنده وكتب بعضها بخطه، وكتب من كتب الزهد والرقائق والمصاحف كثيرا، وكان خطه في صباه على طريقة ابن البواب القديمة، ووهب لأهله مصاحف كثيرة بخطه، وكان إذا اعتكف في شهر رمضان كتب مصحفا أو مصحفين وجمع براوات الأقلام فيكتب بها تعاويذ للحمى وعسر الولادة فتعرف بركتها. قال: وسألت عمي عن مولده فقال في سنة أربعين وخمسمائة، وقد سمع أباه وعمه أبا المجد عبد الله وغيرهما، وروى الحديث، وتفقه على العلاء الغزنوي، واجتمع بجماعة من الأولياء، وكوشف بأشياء مشهورة، وهو الآن يحيا في محرم سنة عشرين وستمائة.
ومنهم القاضي أبو الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة: كل هؤلاء ولوا قضاء حلب، وهذا هو والد كمال الدين صاحب أصل هذه الترجمة، كان يخطب بالقلعة بحلب على أيام نور الدين محمود بن زنكي، ثم ولي الخزانة في أيام ولده الملك الصالح إسماعيل إلى أن عرض القضاء على أخيه كما ذكرنا فامتنع منه، فقلده القاضي هذا بحلب وأعمالها في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ولم يزل واليا للقضاء في أيام الملك الصالح ومن بعده في دولة عز الدين ثم عماد الدين بن قطب الدين مودود بن زنكي وصدرا من دولة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن عزل عن منزلتي الخطابة والقضاء ونقل إلى مذهب الشافعي، وكان عزله عن القضاء في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، ووليه القاضي محيي الدين محمد بن علي بن الزكي قاضي دمشق الشافعي، وكان صرف أخوه الأصغر أبو المعالي عبد الصمد عن الخطابة قبله، فعلم أن الأمر يؤول إلى عزله عن القضاء لأن الدولة شافعية، فاستأذن في الحج والإعفاء عن القضاء فصرف عن ذلك بعد مراجعات. وسمع الحديث من أبيه وأبي المظفر سعيد بن سهل الفلكي وغيرهما، ومولده سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ومات رحمه الله ليلة الجمعة السابع والعشرين من شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائة.
هذا ما كتبته من الكتاب الذي ذكرته آنفا على سبيل الاختصار والايجاز وهو قليل من كثير من فضائلهم، وأنا الآن أذكر من أنا بصدده، وهو كمال الدين أبو القاسم عمر بن القاضي أبي الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي سعيد هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة، كل هؤلاء من آبائه ولي قضاء حلب وأعمالها وهم حنفيون، وهو الذي نحن بصدده، وإلى معرفة حاله ركبنا سنن المقال وجدده، فانه من شروط هذا الكتاب، لكتابته التي فاقت ابن هلال، وبلغت الغاية في الجودة والاتقان، ولتصانيفه في الأدب التي تذكر آنفا إن شاء الله تعالى. فأما أوصافه بالفضل فكثيرة، وسماته بحسن الأثر أثيرة، وإذ كان هذا الكتاب لا يتسع لأوصافه جميعا، وكان الوقت يذهب بحلاوة ذكر محاسنه سريعا، رأيت من المشقة والاتعاب، التصدي لجميع فضائله والاستيعاب، فاعتمدت على القول مجملا لا مفصلا، وضربة لا مبوبا فأقول:
إن الله عز وجل عني بخلقته فأحسن خلقه وخلقه وعقله وذهنه وذكاءه، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور، فقرأ الأدب وأتقنه، ثم درس الفقه فأحسنه، ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول وعرف علله ورجاله وتأويله وفروعه وأصوله، وهو مع ذلك قلق البنان، جواد بما تحوي اليدان، وهو كاسمه كمال في كل فضيلة، لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزا، ولا تعاطى أمرا إلا وجاء فيه مبرزا، مشهور ذلك عنه لا يخالف فيه صديق ولا يستطيع دفاعه عدو. وأما قراءته للحديث في سرعته وصحة إيراده وطيب صوته وفصاحته فهو الغاية التي أقر له بها كل من سمعها، فانه يقرأ الخط العقد كأنه يقرأ من حفظه، وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقلة لأبي عبد الله ابن مقلة، وبدر ذو كمال عند علي بن هلال:
خلال الفضل في الأمجاد فوضى | ولكن الكمال لها كمال |
وإذا كان التام من خصائص عالم الغيب، وكان الإنسان لا بد له من عيب، فعيبه لطالب العنت والشين، أنه يخاف عليه من إصابته العين، هذا مع العفاف والزمت، والوقار وحسن السمت، والجلال المشهور، عند الخاص والجمهور:
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة | ولداته عن ذاك في أشغال |
سألته أدام الله علوه عن مولده فقال لي: ولدت في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، قال: فلما بلغت سبعة أعوام حصلت إلى المكتب، فأقعدت بين يدي المعلم فأخذ يمثل لي كما يمثل للأطفال ويمد خطا ويرتب عليه ثلاث سينات، فأخذت القلم، وكنت قد رأيته وقد كتب «بسم» ومد مدته، ففعلت كما فعل، وجاء ما كتبته قريبا من خطه، فتعجب المعلم فقال لمن حوله: لئن عاش هذا الطفل لا يكون في العالم أكتب منه. وصحت لعمري فراسة المعلم فيه فهو أكتب من كل من تقدمه بعد ابن البواب بلا شك.
وقال: وختمت القرآن ولي تسع سنين، وقرأت بالعشر ولي عشر سنين، وحبب إلي الخط وجعل والدي يحضني عليه؛ فحدثني الشيخ يوسف بن علي بن زيد الزهري المغربي الأديب معلم ولده بحضرة كمال الدين قال: حدثني والد هذا (وأشار إليه) قال: ولد لي عدة بنات وكبرن، ولم يولد لي غير ولد واحد ذكر، وكان غاية في الحسن والجمال والفطنة والذكاء، وحفظ من القرآن قدرا صالحا وعمره خمس سنين، واتفق أن كنت يوما جالسا في غرفة لنا مشرفة على الطريق، فمرت بنا جنازة فاطلع ذلك الطفل ببصره نحوها ثم رفع رأسه إلي وقال: يا أبت إذا أنا مت بما تغشي تابوتي؟
فزجرته، وأدركني في الوقت استشعار شديد عليه، فلم يمض إلا أيام حتى مرض ودرج إلى رحمة الله ولحق بربه، فأصابني عليه ما لم يصب والدا على ولد، وامتنعت من الطعام والشراب، وجلست في بيت مظلم، وتصبرت فلم أعط عليه صبرا، فحملني شدة الوله على قصد قبره، وتوليت حفره بنفسي، وأردت استخراجه والتشفي برؤيته، فلمشيئة الله ولطفه بالطفل أو بي لئلا أرى به ما أكره صادفت حجرا ضخما وعالجته فامتنع علي قلعه، مع قوة وأيد كنت معروفا بهما، فلما رأيت امتناع الحجر علي علمت أنه شفقة من الله على الطفل أو علي، فزجرت نفسي، ورجعت ولهان بعد أن أعدت قبره إلى حاله التي كان عليها، فرأيت بعد ذلك في النوم ذلك الطفل وهو يقول: يا أباه عرف والدتي أني أريد أجيء إليكم، فانتبهت مرعوبا وعرفت والدته ذلك، فبكينا وترحمنا واسترجعنا. ثم إني رأيت في النوم كأن نورا خرج من ذكري حتى أشرف على جميع دورنا ومحلتنا وعلا علوا كبيرا، فانتبهت وأولت ذلك فقيل لي: أبشر بمولود يعلو قدره ويعظم أمره، ويشيع بين الأنام ذكره بمقدار ما رأيت من ذلك النور، فابتهلت إلى الله عز وجل ودعوت وشكرته وقويت نفسي بعد الإياس لأني كنت قد جاوزت الأربعين، فلم تمض إلا هنيهة حتى اشتملت والدة هذا ولدي (وأشار إلى كمال الدين أيده الله) على حمل، وجاءت به في التاريخ المقدم ذكره، فلم يكن بقلبي بحلاوة ذلك الأول لأنه كان نحيفا جدا، فجعل كلما كبر نبل جسما وقدرا، ودعوت له عدة دعوات، وسألت الله له عدة سؤالات، ورأيت فيه والحمد لله أكثرها. ولقد قال له رجل يوما بحضرتي كما يقول الناس: أراكه الله قاضيا كما كان آباؤه، فقال: ما أريد له ذلك، ولكني اشتهيته أن يكون مدرسا، فبلغه الله ذلك بعد موته، وسمع الحديث على جماعة من أهل حلب والواردين إليها، وأكثر السماع على الشيخ الشريف افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي ورحل به أبوه إلى البيت المقدس مرتين في سنة ثلاث وستمائة وفي سنة ثمان وستمائة، ولقي بها مشايخ وبدمشق أيضا، وقرأ على تاج الدين أبي اليمن في النوبتين كثيرا من مسموعاته.
حدثني كمال الدين أدام الله معاليه قال، قال لي والدي: احفظ «اللمع» حتى أعطيك كذا وكذا، فحفظته وقرأته على شيخ حلب يومئذ وهو الضياء بن دهن الحصى ثم قال لي: احفظ «القدوري» حتى أهب لك كذا وكذا- لدراهم كثيرة أيضا، فحفظته في مدة يسيرة وأنا في خلال ذلك أجود، وكان والدي رحمه الله يحرضني على ذلك ويتولى صقل الكاغد لي بنفسه، فإني لأذكر مرة، وقد خرجنا إلى ضيعة لنا، فأمرني بالتجويد فقلت: ليس هاهنا كاغد جيد، فأخذ بنفسه كاغدا كان معنا رديا وتناول شربة اسفيذر، وكانت معنا، فجعل يصقل بها الكاغد بيده ويقول لي:
اكتب، ولم يكن خطه بالجيد وإنما كان يعرف أصول الخط، فكان يقول لي: هذا جيد وهذا رديء، وكان عنده خط ابن البواب، فكان يريني أصوله إلى أن أتقنت منه ما أردت، ولم أكتب على أحد مشهور، إلا أن تاج الدين محمد بن أحمد بن البرفطي البغدادي، ورد إلينا إلى حلب، فكتبت عليه أياما قلائل لم يحصل منه فيها طائل، ثم إن الوالد رحمه الله خطب لي وزوجني بقوم من أعيان أهل حلب، وساق إليهم ما جرت العادة بتقدمته في مثل ذلك، ثم جرى بيننا وبينهم ما كرهته وضيق صدري منهم، فوهب لهم الوالد جميع ما كان ساقه إليهم وطلقتهم، ثم إنه وصلني بابنة الشيخ الأجل بهاء الدين أبي القاسم عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله المعروف بابن العجمي، وهو شيخ أصحاب الشافعي، وأعظم أهل حلب منزلة وقدرا ومالا وحالا وجاها، وساق إليهم المهر وبالغ في الإحسان، وكان والدي رحمه الله بارا بي لم يكن يلتذ بشيء من الدنيا التذاذه بالنظر في مصالحي، وكان يقول: اشتهي أرى لك ولدا ذكرا يمشي، فولد أحمد ولدي ورآه، وبقي إلى أن كبر ومرض مرضة الموت، فيوم مات مشى الطفل حتى وقع في صدره، ثم مات والدي رحمه الله في الوقت الذي تقدم ذكره، وكان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب رحمه الله كثير الإكرام لي وما حضرت مجلسه قط فما أقبل على أحد إقباله علي مع صغر السن واتفق أن مرضت في شهور سنة ثماني عشرة وستمائة مرضا أيس مني فيه، فكان يخطر ببالي وأنا مريض أن الله تعالى لا بد وأن يمن بالعافية لثقتي بصحة رؤيا الوالد، وكنت أقول: ما بلغت بعد مبلغا يكون تفسيرا لتلك الرؤيا إلا إن من الله بالعافية وله الحمد والمنة، فذهب عني ذلك الخيال، وليس يخطر منه في هذا الوقت ببالي شيء لأن نعم الله علي سابغة وأياديه في حقي شائعة.
قلت: ولما مات والده بقي بعده مدة، ومات مدرس مدرسة شادبخت، وهي من أجل مدارس حلب وأعيانها، ولي التدريس بها في ذي الحجة سنة ست عشرة وستمائة، وعمره يومئذ ثمان عشرون سنة، هذا وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرواسخ إلا أنه رؤي أهلا لذلك دون غيره، وتصدر وألقى الدرس بجنان قوي ولسان لوذعي فأبهر العالم وأعجب الناس. وصنف مع هذا السن كتبا منها: كتاب الدراري في ذكر الذراري جمعه للملك الظاهر وقدمه إليه يوم ولد ولده الملك العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. كتاب ضوء الصباح في الحث على السماح، صنفه للملك الأشرف، وكان قد سير من حران يطلبه، فانه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه، فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه وخلع عليه وشرفه. كتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة، وأنا سألته جمعه فجمعه لي، وكتبه في نحو أسبوع، وهو عشرة كراريس. كتاب في الخط وعلومه ووصف آدابه وأقلامه وطروسه وما جاء فيه من الحديث والحكم وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب تاريخ حلب في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والأمراء والكتاب.
وشاع ذكره في البلاد، وعرف خطه بين الحاضر والباد، فتهاداه الملوك، وجعل مع اللآلئ في السلوك، وضربت به في حياته الأمثال، وجعل للناس في زمانه حذوا ومثالا، فمما رغب في خطه أنه اشترى وجهة واحدة بخط ابن البواب بأربعين درهما ونقلها إلى ورقة عتيقة ووهبها من حيدر الكتبي، فذهب بها وادعى أنها بخط ابن البواب وباعها بستين درهما زيادة على الذي بخط ابن البواب بعشرين درهما، ونسخ لي هذه الرقعة بخطه فدفع فيها كتاب الوقت على انها بخطه دينارا مصريا ولم يطب قلبي ببيعها، وكتب لي أيضا جزءا فيه ثلاث عشرة قائمة نقلها من خط ابن البواب فأعطيت فيها أربعين درهما ناصرية قيمتها أربعة دنانير ذهبا فلم أفعل، وانا أعرف أن ابن البواب لم يكن خطه في أيامه بهذا النفاق، ولا بلغ هذا المقدار من الثمن وقد ذكرت ما يدل على ذلك في ترجمة ابن البواب.
فممن كتب إليه يسترفده شيئا من خطه سعد الدين منوجهر الموصلي، ولقد سمعته مرارا يزعم أنه أكتب من ابن البواب، ويدعي أنه لا يقوم له أحد في الكتابة ويقر لهذا كمال الدين بالكمال، فوجه إليه على لسان القاضي أبي علي القيلوي، وهو المشهور بصحبة السلطان الأشرف، يسأله سؤاله في شيء من خطه ولو قائمة أو وجهة، وكان اعتماده على أن ينقل له الوجهة المقدم ذكرها.
وممن كتب إليه يسترفده خطه أمين الدين ياقوت المعروف بالعالم، وهو صهر أمين الدين ياقوت الكاتب الذي يضرب به المثل في جودة الخط وتخرج به ألوف وتتلمذ له من لا يحصى- كتب إلى كمال الدين رقعة، وحموه حي يرزق، نسختها:
الذي حض الخادم على عمل هذه الأبيات، وإن لم يكن من أرباب الصناعات، أن الصدر الكبير الفاضل عز الدين- حرس الله مجده- لما وصل إلى الموصل- خلد الله ملك مالكها- نشر من فضائل المجلس العالي العالمي الفاضلي كمال الدين- كمل الله سعادته، كما كمل سيادته، وبلغه في الدارين مناه وإرادته- ما يعجز البليغ عن فهمه فضلا عن أن يورده، لكن فضائل المجلس كانت تملي على لسانه وتشغله، فطرب الخادم من استنشاق رياها، واشتاق إلى رؤية حاويها عند اجتلاء محياها، فسمح عند ذلك الخاطر مع تبلده، بأبيات تخبر المجلس بمحبة الخادم له وتعبده، وهي:
حيا نداك كمال الدين أحيانا | ونشر فضلك عن محياك حيانا |
وحسن أخلاقك اللائي خصصت بها | أهدت إلى البعد لي روحا وريحانا |
حويت يا عمر المحمود سيرته | خلقا وخلقا وإفضالا وإحسانا |
إن كان نجل هلال في صناعته | ونجل مقلة عينا الدهر قد كانا |
فأنت مولاي إنسان الزمان وقد | غدوت في الخط للعينين إنسانا |
قد بث فضلك عز الدين مقتصدا | ونث شكرك إسرارا وإعلانا |
فضاع نشرك في الحدباء واشتهرت | آيات فضلك أرسالا ووحدانا |
أثني عليك وآمالي معلقة | بحسن عفوك ترجو منك غفرانا |
وان تطفلت في صدق الوداد ولم | يقض التلاقي لنا عفوا ولا حانا |
فما ألام على شيء أتيت به | «فالاذن تعشق قبل العين أحيانا» |
يا أفضل الناس في علم وفي أدب | وأرجح الخلق عند الله ميزانا |
قد شرف الله أرضا أنت ساكنها | وشرف الناس إذ سواك انسانا |
قد هجم الكلام على المجلس العالي بوجه وقاح، ولم يخش مع عفو المولى وصمة الافتضاح، فليلق عليها المولى ستر المعروف، فهو أليق بكرمه المألوف، والسلام.
فكتب إليه كمال الدين بخطه الدري ولفظه السحري، وأنشدنيها لنفسه:
يا من أبحت حمى قلبي مودته | ومن جعلت له أحشاي أوطانا |
أرسلت نحوي أبياتا طربت بها | والفضل للمبتدي بالفضل إحسانا |
فرحت أختال عجبا من محاسنها | كشارب ظل بالصهباء نشوانا |
رقت وراقت فجاءت وهي لابسة | من البلاغة والترصيع ألوانا |
حكت بمنثورها والنظم إذ جمعا | بأحرف حسنت روضا وبستانا |
جرت على جرول أثواب زينتها | إذ أصبحت وهي تكسو الحسن حسانا |
أضحت تغبر وجه العنبري فما | بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا |
يمسي لها ابن هلال حين ينظرها | يحكي أباه بما عاناه نقصانا |
كذاك أيضا لها عبد الحميد غدا | عبدا يجر من التقصير أردانا |
أتت وعبدك مغمور بعلته | فغادرته صحيحا خير ما كانا |
وكيف لا تدفع الأسقام عن جسدي | وهي الصبا حملت روحا وريحانا |
فما على طيفها لو عاد يطرقنا | فربما زار أحيانا وأحيانا |
فاسلم وأنت أمين الدين أحسن من | وشى الطروس بمنظوم ومن زانا |
ولا تخطت إليك الحادثات ولا | حلت بربعك يا أعلى الورى شانا |
وأنشدني كمال الدين أدام الله علاءه لنفسه في الغزل فاعتمد فيه معنى غريبا:
وأهيف معسول المراشف خلته | وفي وجنتيه للمدامة عاصر |
يسيل إلى فيه اللذيذ مدامه | رحيقا وقد مرت عليه الأعاصر |
فيسكر منه عند ذاك قوامه | فيهتز تيها والعيون فواتر |
كأن أمير النوم يهوى جفونه | إذا هم رفعا خالفته المحاجر |
خلوت به من بعد ما نام أهله | وقد غارت الجوزاء والليل ساتر |
فوسدته كفي وبات معانقي | إلى أن بدا ضوء من الصبح سافر |
فقام يجر البرد منه على تقى | وقمت ولم تحلل لإثم مآزر |
كذلك أحلى الحب ما كان فرجه | عفيفا ووصل لم تشنه الجرائر |
وأنشدني لنفسه بمنزله بحلب في ذي الحجة سنة تسع عشرة وستمائة وإملائه:
وساحرة الأجفان معسولة اللمى | مراشفها تهدي الشفاء من الظما |
حنت لي قوسي حاجبيها وفوقت | إلى كبدي من مقلة العين أسهما |
فوا عجبا من ريقها وهو طاهر | حلال وقد أضحى علي محرما |
فإن كان خمرا أين للخمر لونه | ولذته مع أنني لم أذقهما |
لها منزل في ربع قلبي محله | مصون به مذ أوطنته لها حمى |
جرى حبها مجرى حياتي فخالطت | محبتها روحي ولحمي والدما |
تقول إلى كم ترتضي العيش أنكدا | وتقنع أن تضحي صحيحا مسلما |
فسر في بلاد الله واطلب الغنى | تفز منجدا إن شئت أو شئت متهما |
فقلت لها إن الذي خلق الورى | تكفل لي بالرزق منا وأنعما |
وما ضرني أن كنت رب فضائل | وعلم عزيز النفس حرا معظما |
إذا عدمت كفاي مالا وثروة | وقد صنت نفسي أن أذل وأحرما |
«ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي | لأخدم من لاقيت لكن لأخدما» |
لا يظن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وقير، فإن الأمر بعكس ذلك لأنه- والله يحوطه- رب ضياع واسعة وأملاك جمة ونعمة كثيرة وعبيد كثيرة وإماء وخيل ودواب وملابس فاخرة وثياب، ومن ذلك أنه بعد موت أبيه اشترى دارا كانت لأجداده قديما بثلاثين ألف درهم، ولكن نفسه واسعة وهمته عالية والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين والشهوة لها على قدر الطالبين.
وأنشدني لنفسه بمنزله في التاريخ:
احذر من ابن العم فهو مصحف | ومن القريب فإنما هو أحرف |
القاف من قبر غدا لك حافرا | والراء منه ردى لنفسك يخطف |
والياء ياس دائم من خيره | والباء بغض منه لا يتكيف |
فاقبل نصيحتي التي أهديتها | إني بأبناء العمومة أعرف |
وأنشدني أيضا لنفسه بمنزله سالكا طريق أهله في الافتخار:
سألزم نفسي الصفح عن كل ما جنى | علي وأعفو حسبة وتكرما |
وأجعل مالي دون عرضي وقاية | ولو لم يغادر ذاك عندي درهما |
وأسلك آثار الألى اكتسبوا العلا | وحازوا خلال الخير ممن تقدما |
أولئك قومي المنعمون ذوو النهى | بنو عامر فاسأل بهم كي تعلما |
إذا ما دعوا عند النوائب إن دجت | أناروا بكشف الخطب ما كان أظلما |
وإن جلسوا في مجلس الحكم خلتهم | بدور ظلام والخلائق أنجما |
وإن هم ترقوا منبرا لخطابة | فأفصح من يوما بوعظ تكلما |
وان أخذوا أقلامهم لكتابة | فأحسن من وشى الطروس ونمنما |
بأقوالهم قد أوضح الدين واغتدى | بأحكامهم علم الشريعة محكما |
دعاؤهم يجلو الشدائد إن عرت | وينزل قطر الماء من أفق السما |
وقائلة يا ابن العديم إلى متى | تجود بما تحوي ستصبح معدما |
فقلت لها عني إليك فإنني | رأيت خيار الناس من كان منعما |
أبى اللؤم لي أصل كريم وأسرة | عقيلية سنوا الندى والتكرما |
وأنشدني لنفسه وقد رأى في عارضه شعرة بيضاء وعمره إحدى وثلاثون سنة:
أليس بياض الأفق في الليل مؤذنا | بآخر عمر الليل إذ هو أسفرا |
كذاك سواد النبت يقرب يبسه | إذا ما بدا وسط الرياض منورا |
ودخلت إلى كمال الدين المذكور يوما فقال لي: ألا ترى أنا في السنة الحادية والثلاثين من عمري وقد وجدت في لحيتي شعرات بيضا، فقلت أنا فيه:
هنيئا كمال الدين فضلا حبيته | ونعماء لم يخصص بها أحد قبل |
لداتك في شغل بداعية الصبا | وأنت بتحصيل المعالي لك الشغل |
بلغت لعشر من سنينك رتبة | من المجد لا يسطيعها الكامل الكهل |
ولما أتاك الحلم والفهم ناشئا | أشابك طفلا كي يتم لك الفضل |
دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 5- ص: 2068
عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن محمد بن أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عمر بن عامر بن عقيل العقيلي الحلبي، الحنفي كمال الدين، أبو القاسم ابن العديم.
حدث وأفتى ودرس وصنف التاريخ وغيره، توفي سنة ستين وستمائة، وكانت ولادته سنة ثمانين وخمسمائة.
مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلامية وتحقيق التراث والترجمة صنعاء، اليمن-ط 1( 2011) , ج: 7- ص: 1
والصاحب المحدث جمال الدين أبو القاسم عمر بن احمد بن هبة الله ابن أبي جرادة العقيلي ابن العديم
دار الفرقان، عمان - الأردن-ط 1( 1984) , ج: 1- ص: 210