علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن محمد بن ربيعة بن الحارث بن قريش بن أبي أوفى بن أبي عمرو بن عادية بن حيان بن معاوية بن تيم بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، أبو الحسن القفطي: يعرف بالقاضي الأكرم، أحد الكتاب المشهورين المبرزين في النظم والنثر، وكان أبوه القاضي الأشرف كاتبا أيضا منشئا، وكانت أمه امرأة من بادية العرب من بلي من قضاعة، وأمها جارية حبشية كانت لأخت أبي عزيز قتادة الحسني أمير مكة، تزوجها أحد بني عمها العلويين وجاءت منه بأولاد ثم مات عنها فتزوجها رجل من بلي فجاءت منه ببنين وبنات منهم أم القاضي الأكرم- أدام الله علوه. وكان والده الأشرف خرج يشتري فرسا من تلك البوادي وقد قاربوا أرض مضر
للنجعة فرآها فوقعت منه بموقع، فتزوجها ونقلها إلى أهله، وكانت ربما خرجت في الأحيان إلى البادية استرواحا على ما ألفته ونشأت عليه ويخرج ابنها معها مدة، قال:
وكانت امرأة صالحة مصلية حسنة العبادة فصيحة اللهجة وكانت اذا أردت سفرا اشتغلت بما يصلح أموري في السفر وهي تبكي وتقول:
أجهز زيدا للرحيل وإنني | بتجهيز زيد للرحيل ضنين |
وحدثني أطال الله بقاءه قال: كنت وأنا صبي قد قدمت من مصر واستصحبت إلى قفط سنورا أصبهانيا على ما تقتضيه الصبوة، واتفق أن ولدت عدة من الأولاد في دارنا، فنزل سنور ذكر فأكل بعض تلك الجراء، فغمني ذلك وأقسمت أن لا بد لي من قتل الذي أكلها، فصنعت شركا ونصبته في علية في دارنا وجلست، فإذا السنور قد وقع في الحبالة، فصعدت إليه وبيدي عكاز وفي عزمي هلاكه، وكان لنا جيرة وقد خرب الحائط بيننا وبينهم، ونصبوا فيه بارية إلى أن يحضر الصناع، وكان لرب تلك الدار بنتان لم يكن فيما أظن أحسن منهما صورة وجمالا وشكلا ودلالا وكانتا معروفتين بذلك في بلدنا، وكانتا بكرين، فلما هممت بقتله إذا قد انكشف جانب البارية، فوقعت عيني على ما بهر المشايخ فكيف الشبان حسنا وجمالا، وإذا هما تومئان إلي بالأصابع تسألاني إطلاقه، قال: فأطلقته ونزلت وفي قلبي منهن ما فيه لكوني كنت أول بلوغي، والوالدة جالسة في الدار لمرض كان بها، فقالت لي: ما أراك قتلته كما كان عزمك، فقلت لها: ليس هو المطلوب إنما هو سنور غيره، فقالت: ما أظن الأمر على ذلك، ولكن بالله هل أومئ إليك بالأصابع حتى تركته؟
فقلت: ومن يومئ إلي؟ لا أعرف معنى كلامك، فقالت: على ذلك يا ابني اسمع مني ما أقول لك:
ثنتان لا أرضى انتهاكهما | عرس الخليل وجارة الجنب |
وكان مع هذا البيت بيت آخر أنسيته. قال: فو الله لكأن ماء وقع على نار فأطفأها، فما صعدت بعد ذلك إلى سطح ولا غرفة إلى أن فارقت البلاد، ولقد جاء الصيف فاحتملت حره ولم أصعد إلى سطح في تلك الصيفية. ثم وجدت هذا البيت في أبيات الأحوص بن محمد منها:
قالت وقلت تحرجي وصلي | حبل امرئ كلف بكم صب |
صاحب إذن بعلي فقلت لها | الغدر أمر ليس من شعبي |
ثنتان لا أصبو لوصلهما | عرس الخليل وجارة الجنب |
أما الخليل فلست خائنه | والجار أوصاني به ربي |
الشوق أقتله برؤيتكم | قتل الظما بالبارد العذب |
قال لي: ولدت في أحد ربيعي سنة ثمان وستين وخمسمائة بمدينة قفط من الصعيد الأعلى أحد الجزائر الخالدات حيث الأرض أربعة وعشرون في أول الأقليم الثاني وبها قبر قبط بن مصر بن سام بن نوح. ونشأ بالقاهرة المعزية، اجتمعت بخدمته في حلب فوجدته جم الفضل كثير النبل عظيم القدر سمح الكف طلق الوجه حلو البشاشة، وكنت ألازم منزله ويحضره أهل الفضل وأرباب العلم، فما رأيت أحدا فاتحه في فن من فنون العلم كالنحو واللغة والفقه والحديث وعلم القرآن والأصول والمنطق والرياضة والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل- وجميع فنون العلم على الاطلاق- إلا وقام به أحسن قيام، وانتظم في وسط عقدهم أحسن انتظام. وله
تصانيف أذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. أنشدني لنفسه بمنزله بحلب في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة.
ضدان عندي قصرا همتي | وجه حيي ولسان وقاح |
إن رمت أمرا خانني ذو الحيا | ومقولي يطمعني في النجاح |
فأنثني في حيرة منهما | لي مخلب ماض وما من جناح |
شبه جبان فر من معرك | خوفا وفي يمناه عضب الكفاح |
وأنشدني أدام الله علوه في أعور لنفسه:
شيخ لنا يعزى إلى منذر | مستقبح الأخلاق والعين |
من عجب الدهر فحدث به | بفرد عين ولسانين |
ومما أملاه علي أدام الله علوه من منثور كلامه:
فصل: وأما سؤاله عن سبب التأخر والتجمع، والتوقف عن التطاول في طلب الرياسة والتوسع، والتعجب من التزامي قعر البيت، وارتضائي بعد السبق بأن أكون السكيت، فلا ينسبني في ذلك إلى تقصير، وكيف ولساني في اللسن غير ألكن وبناني في البيان غير قصير، ولقد أعددت للرياسة أسبابها، ولبست لكفاح أهلها جلبابها، وملكت من موادها نصابها، وتسلحت لأحلاسها وضاربت أضرابها، وباريتهم في ميدان الفضائل فكنت السابق وكانوا الفسكل، وقارعتهم في مجال المقال فأطلقت المشكل وحللت المشكل، وظننت أني قد حللت من الدولة أمكن مكانها، وأصبحت إنسان عينها وعين إنسانها، فإذا الظنون مخلفة، وشفار عيون الأعداء مرهفة، والفرقة المظنونة بالانصاف غير منصفة، وصار ما اعتمدته من أسباب التقريب مبعدا، ومن اعتقدته لي مساعدا غدا علي مسعدا، وأصبح لمثالبي موردا من أعددته لمرادي موردا، وجست مقاصد المراشد فوجدتها بهم مقفلة، ومتى أظهرت فضيلة اعتمدوا فيها تعطيل المشبهة وشبه المعطلة، وإذا ركبت أشهب النهار لنيل مرام، ركبوا
أدهم الليل لنقض ذلك الإبرام، وإن سمعوا مني قولا أذاعوا، وإن لم يسمعوا اختلقوا من الكذب ما استطاعوا، وقد صرت كالمقيم وسط أفاع لا يأمن لسعها، وكالمجاور لنار يتقي شررها ويستكفي لذعها، والله المسؤول توسيع الأمور إذا ضاقت مسالكها، وهو المرجو لإصلاح قلوب الملوك على مماليكهم إذ هو رب المملكة ومالكها، وها أنا جائم جثوم الليث في عرينه، وكامن كمون الكمي في كمينه، وأعظم ما كانت النار لهبا إذا قل دخانها، وأشد ما كانت السفن جريا إذا سكن سكانها، والجياد تراض ليوم السباق، والسهام تكن في كنائنها لإصابة الأحداق، والسيوف لا تنتضى من الأغماد إلا ساعة الجلاد، واللآلئ لا تظهر من الأسفاط الا للتعليق على الأجياد، وبينما أنا كالنهار الماتع طاب أبرداه، إذ تراني كالسيف القاطع خشن حداه، ولكل أقوام أقوال، ولكل مجال أبطال نزال، وسيكون نظري بمشيئة الله الدائم ونظرهم لمحة، وريحي في هذه الدولة المنصورة عادية وريحهم فيها نفحة، وها أنا مقيم تحت كنف إنعامها، راج وابل إكرامها من هاطل غمامها، منتظر لعدوي وعدوها أنكأ سهامها من وبيل انتقامها.
وأملى علي قال: كتبت إلى أبي القاسم ابن أبي الحسن بن شيث وكان قد انصرف عن الملك الظاهر ثم رجع إليه بأمر من الملك الظاهر: مقدم سعد، مؤذن بسمو ومجد، للمجلس الجمالي لا زال غاديا في السعادة ورائحا، ممنوحا من الله بالنعم مانحا، ميسرا له أرجح الأعمال كما لم يزل على الأماثل راجحا، موضحا له قصد السبيل كوجهه الذي ما برح مسفرا واضحا، قد رد الله بأوبته ما نزح من السرور، وأعاد بعودته الجبر إلى القلب المكسور، ولأم بالمامه صدوعا في الصدور، والواجب التفاؤل بالعود إذ العود أحمد، وألا يخطر الطيرة بباله إذ نهى عن التطير أحمد، بل يقال انقلب إلى أهله مسرورا، وتوطن من النعم الظاهرية جنة وحريرا، ودعا عدوه لعوده ثبورا، وصلي من نار حسده سعيرا، أسعد الله مصادره وموارده، ووفر مكارمه ومحامده، وأيد ساعده ومساعده.
وأنشدني لنفسه أدام الله علوه من قصيدة قالها في الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب صاحب حلب مطلعها:
لا مدح إلا لمليك الزمان | من المنى في بابه والأمان |
غياث دين الله في أرضه | إن أخلف البرق وضن العنان |
في كفه ملحمة للندى | مثل التي تعهد يوم الطعان |
فالعسر مصروع بساحاته | واليسر سام في ظهور الرعان |
وراحتاه راحة للورى | على كريم الخلق مخلوقتان |
فكفه اليمنى لبسط الغنى | وكفه اليسرى لقبض العنان |
ومنها:
تعرب في الهيجاء أسيافه | عن حركات مثل لفظ اللسان |
كسر وفتح ببلاد العدى | وبعده ضم لمال مهان |
ومنها في صفة ولديه:
بكران بل بدران ما يكسفان | روحان للملك وريحانتان |
لؤلؤتا بحر وإن شئت قل | ياقوتتا نحر وعقدا لبان |
فرعان في دوحة عز سمت | غيثان بل بحران بل رحمتان |
سيملكان الأرض حتى يرى | لي منهما حران والرقتان |
ومنها:
فاسلم على الدهر شديد القوى | ذا مرة ما شد كف بنان |
واستوطن الشهباء في عزة | واخسس بغمدان وقعبي لبان |
وأنشدني أدام الله علوه لنفسه من قصيدة:
إذا أوجفت منك الخيول لغارة | فلا مانع إلا الذي منع العهد |
نزلت بأنطاكية غير حافل | بقلة جند إذ جميع الورى جند |
فكم أهيف حازته هيف رماحكم | وكم ناهد أودى بها فرس نهد |
لئن حل فيها ثعلب الغدر لاون | فسحقا له قد جاءه الأسد الورد |
وكان قد اغتر اللعين بلينكم | وأعظم نار حيث لا لهب يبدو |
جنى النحل مغترا وفي النحل آية | فطورا له سم وطورا له شهد |
تمدك أجناد الملوك تقربا | وجند السخين العين جزر ولا مد |
تهن بها بكرا خطبت ملاكها | فأعطت يد المخطوب وانتظم العقد |
فجيشك مهر والبنود حموله | وأسهمكم نثر وسمر القنا نقد |
وله من التصانيف: كتاب الضاد والظاء، وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في الخط. وكتاب الدر الثمين في أخبار المتيمين. وكتاب من ألوت الأيام عليه فرفعته ثم التوت عليه فوضعته. وكتاب أخبار المصنفين وما صنفوه. وكتاب أخبار النحويين كبير. وكتاب تاريخ مصر من ابتدائها إلى ملك صلاح الدين إياها في ست مجلدات. وكتاب تاريخ المغرب ومن تولاها من بني تومرت. وكتاب تاريخ اليمن منذ اختطت وإلى الآن. وكتاب المجلى في استيعاب وجوه كلا. وكتاب الاصلاح لما وقع من الخلل في كتاب «الصحاح» للجوهري. وكتاب الكلام على «الموطأ» لم يتم الى الآن. كتاب الكلام على الصحيح للبخاري لم يتم. وكتاب تاريخ محمود بن سبكتكين وبنيه إلى حين انفصال الأمر عنهم. وكتاب تاريخ أخبار السلجوقية منذ ابتداء أمرهم إلى نهايته. وكتاب الإيناس في أخبار آل مرداس. وكتاب الرد على النصارى وذكر مجامعهم. وكتاب مشيخة زيد بن الحسن الكندي. وكتاب نهزة
الخاطر ونزهة الناظر في أحاسن ما نقل من على ظهور الكتب .
وكان الأكرم القاضي المذكور جماعة للكتب حريصا عليها جدا لم أر في من لقيت مع اشتمالي على الكتب وبيعي لها وتجارتي فيها أشد اهتماما منه بها ولا أكثر حرصا منه على اقتنائها، وحصل له منها ما لم يحصل لأحد، وكان مقيما بحلب، وذلك أنه نشأ بمصر وأخذ بها من كل علم بنصيب، ولي والده القاضي الأشرف النظر بالبيت المقدس من قبل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين بن أيوب وصحبه القاضي الأكرم وذلك في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأقام بها مع والده مدة، فآنس ولاة البيت المقدس من القاضي الأكرم- أدام الله عزه- شرف نفس وعلو همة، فأحبوه واشتملوا عليه، وكانوا يسألونه أن يتسم بخدمة أحد منهم فلم يكن يفعل ذلك مستقلا وإنما كان يسام العمل ويعتمد على رأيه في تدبير الأحوال، وكان لا يدخل معهم إلا فيما لا يقوم غيره فيه مقامه، واتفق ما اتفق بين الملك العادل أبي بكر ابن أيوب وبين ابن أخيه الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، والأكرم حينئذ بالبيت المقدس، فاقتضت الحال لاتسامه بخدمة من في حيز الملك العزيز أن خرج من القدس فيمن خرج منها من العساكر في سنة ثمان وستمائة وصحب فارس الدين ميمونا القصري والي القدس ونابلس، فالتحقا بالملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب بحلب في قصة يطول شرحها، فلما حصل بحلب كان مع ميمون القصري على سبيل الصداقة والمودة لا على سبيل الخدمة والكتابة، واتفق أن كاتب ميمون ووزيره مات، فألزمه ميمون خدمته والاتسام بكتابته، ففعل ذلك على مضض واستحياء، ودبر أموره أحسن تدبير، وساس جنده أحسن سياسة وتدبير، وفرغ بال ميمون من كل ما يشغل به بال الأمراء، وأقطع الأجناد إقطاعات رضوا بها وانصرفوا شاكرين له، لم يعرف منذ تولي أمره إلى أن مات ميمون جندي اشتكى أو تألم، وكان وجيها عند ميمون المذكور يحترمه ويعظم شأنه ويتبرك بآرائه إلى أن مات ميمون في ليلة صبيحتها ثالث عشر
رمضان سنة عشر وستمائة، فاقر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين جرايته عليه وهو ملازم لبيته متشاغل بالعلم وتصنيف الكتب إلى أن احتاج ديوانه إليه فعول في إصلاحه عليه وهو مع ذلك متجنب غير راض.
وحدثني أدام الله علاه قال، حدثني والدي قال: قدمت مع والدي إلى مصر أول قدمة ولم نستصحب دواب لأننا انحدرنا في السفن، وقلت لأبي: نأخذ معنا دواب، فقال: يعسر أمرها علينا فدعنا نمضي بالراحة في المراكب، وإذا وصلنا ما نعدم ما نركب، فلما وصلنا إلى مصر خرجنا نمشي إلى أن جاء بي إلى سوق وردان وهناك تلك الحمير التي هي أحسن من البغال، فقال لي والدي: اركب أيها شئت لنمضي إلى القاهرة، فامتنعت وقلت: والله لا ركبت حمارا قط، فقال: لا بد من المضي إلى القاهرة فما تصنع؟ قلت لأبي: نؤخر المضي اليوم حتى نشتري مركوبا إما فرسا وإما بغلة أركبها أنا واصنع انت بنفسك ما تشاء، فعذلني فلم أرعو، فاجتاز بنا رجل له هيئة وشارة، فتقدم والدي إليه وقال له: يا أخي تعرف القاضي الأشرف أبا الحجاج يوسف بن القاضي الأمجد أبي إسحاق إبراهيم الشيباني القفطي؟ فقال: لا أعرفه، قال: امض في أمان الله، ثم مر به آخر فسأله مثل ذلك السؤال حتى سأل جماعة فلم يكن منهم من يعرفه، فالتفت إلي وقال لي: ويلك إذا كنت في مدينة لا يعرفك بها أحد فما تصنع بهذا التمخرق والترتيب في المركوب؟! اركب ودع عنك الكبرياء والعظمة التي لا تجدي ها هنا شيئا، قال: فركبت حينئذ ومضينا إلى القاهرة؛ وكان لهذا السبب يتفقد الخيول المشهورة بالجودة وكثرة الثمن، حتى لقد حدثني أنه سمع ابن دحية الحافظ وقد سئل عن القاضي الأشرف القفطي فقال: أليس هو صاحب الخيول المسومة والعبيد الروقة، فما أولاه إذن بقول عامر بن الطفيل:
إني وإن كنت ابن سيد عامر | وفارسها المشهور في كل موكب |
فما سودتني عامر عن وراثة | أبى الله أن أسمو بأم ولا أب |
ولكنني أحمي حماها وأتقي | أذاها وأرمي من رماها بمنكب |
فصل: قال الأكرم من إنشائي من جملة كتاب أنشأته عن المقر الأشرف الملكي الظاهري عند رحيل عسكر الفرنج عن حصن الخوابي:
ولما وردت الوراثة الباطنية، صدرت في نجدتهم العساكر الظاهرية، تحت الألوية الامامية الناصرية، وسار في المقدمة ألف فارس من أنجاد الأنجاد وأمثال الأطواد، وهم الذين لا يثنون عن الطعن عنانا، ولا يسألون عن الانتداب إلى الكريهة عما قيل برهانا ولما التقى الجمعان وتراءى الفريقان قمع حزب الإنجيل حزب القرآن، وخفض صوت الناقوس صوت الأذان، وفل جيش ابن يوسف جمع بني إسحاق، وعلا علم الأحمر على بني الأصفر أهل الشقاق، وحركت الأهوية ألسن الألوية بأصوات النجح، فقالت بلسان الحال حي على خير العمل من القتال، فقد جاء نصر الله والفتح، وما أودت من المناجزة قوة جانب ولا شدة محاجزة وإنما منع جبل وعر ضاق مسلكه، وتعذر مجاله على الفرسان ومعتركه، وامتنعت منه أسباب النزال، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، ففكت القلعة من خناقها، وأفلتت من يد القابض منها بساقها، واشتغل العدو عنها بإعمال رأيه في الخلاص، وذلك لما تحققه من ترادف العساكر المنصورة ولات حين مناص، ولما اجتمعوا للمشاورة تناقضت منهم الآراء عند المحاورة، وأوجب ذلك اختلافا من جميعهم قضى بافتراق جموعهم، وباتوا ليلة الاثنين ولهم ضوضاء، ثم أصبحوا وقد خلا منهم الفضاء، لم يلف منهم أحد، ولا وجد لمنزلهم إلا النؤي والوتد، وذلك لرأي أجمعوا عليه، لما تحققوا أن لا ملجأ من الهرب إلا إليه، وللوقت ندب مولانا السلطان- خلد الله ملكه- جماعة من الصناع لإصلاح مختلها، ورقع ما خرق من تلها، وحمل إليها ما عدمته من الآلة عند القتال، وتقدم إلى رئيس الاسماعيلية بحمل ما يحتاج إليه من الذخائر والمال، وقد شرع والشروع ملزم بالاكمال.
وحدثني الصاحب الوزير الأكرم- أدام الله تمكينه- قال: خرجت يوم الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان عشرة وستمائة إلى ظاهر مدينة حلب على سبيل التسيير، فرأيت على جانب قويق عدة مشايخ بيض اللحى وقد سكروا من شرب الخمر، وهم عراة يصفقون ويرقصون على صورة منكرة بشعة، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ورجعت مغموما بذلك، وبت تلك الليلة فلما أصبحت وركبت للطلوع إلى القلعة استقبلني رجل صعلوك فقال: انظر في حالي نظر الله إليك يوم ينظر إليه المتقون، فقلت له: ما خبرك؟ قال: أنا رجل صعلوك، وكان لي دويبة أسترزق عليها للعائلة، فاتهمني الوالي بالحول بسرقة ملح، فأخذ دابتي، ثم طالبني بجباية فقلت: خذ الدابة فقال: أخذتها وأريد جباية أخرى؛ فقلت له: أبشر بما يسرك، وطلعت إلى صاحب الأمر يومئذ- وهو الأمير الكبير أتابك طغرل الظاهري- وقلت:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاثة أشياء مباحة الناس مشتركون فيها، الكلأ والماء والملح، وقد جرى كيت وكيت، ولا يليق بمثلك وأنت عامة وقتك جالس على مصلاك مستقبل القبلة والسبحة في يدك أن تكون مثل هذه الأشياء في بلدك، فقال: اكتب الساعة إلى جميع النواحي برفع الجبايات ومحو اسمها أصلا، ومر الولاة أن يعملوا بكتاب الله وسنة رسوله، ومن وجب عليه حد من الحدود الشرعية يقام فيه على الفور ولا يلتمس منه شيء آخر، ومر الساعة بإراقة كل خمر في المدينة ورفع ضمانها، واكتب إلى جميع النواحي التي تحت حكمي بمثل ذلك، وأوعد من يخالف ذلك عقوبتنا في الدنيا عاجلا وعقوبة الخالق في الآخرة آجلا، فخرجت وجلست في الديوان وكتبت بيدي ولم أستعن بأحد من الكتاب في شيء من ذلك ثلاثة عشر كتابا إلى ولاة الأطراف، ثم أنشد:
ولا تكتب بكفك غير شيء | يسرك في القيامة أن تراه |
وكان المحصول من ضمان ما أطلق ما مقداره مائتا ألف درهم في السنة، وإن أضيف إليه ما يستقبل في السنة الآتية من رخص الكروم وتعطل ضماناتها وقلة دخلها
بهذا السبب ألف ألف درهم أو ما يقاربها.
وكان والده القاضي الأشرف أبو المحاسن يوسف بن إبراهيم من أهل الفضل البارع والبلاغة المشهورة، وكان ينوب بحضرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب عن القاضي الفاضل في جماعة من الكتاب، وكان حسن الخط على طريقة ابن مقلة، فاتفق أن طال مقامه بالشام في صحبة السلطان وأراد الرجوع إلى مصر طلبا للراحة ونظرا في مصالحه، فطلب من السلطان إذنا فقال: يحتاج في ذلك إلى إذن صاحبك، فكتب العماد إلى القاضي يلتمس غيره ليؤذن له فقد طاعت غيبته عن أهله، فكتب القاضي في الجواب كتابا يقول فيه: وأما التماس العوض عن الأشرف القفطي فكيف لي بغيره، وهو ذو لسان صهصلق منطيق، وخاطر ينفق في سعة كل مضيق؟
وكتب إلى القاضي الفاضل رقعة وضمنها البيت المشهور:
نميل على جوانبه كأنا | إذا ملنا نميل على أبينا |
فكتب القاضي الجواب وضمنه:
فديتك من مائل كالغصون | إذا ملن أدنين مني الثمارا |
وتزهد والده وترك العمل وأقام باليمن إلى أن مات بها في رجب سنة أربع وعشرين وستمائة.
وحدثني- أدام الله علوه- قال: حججت في موسم سنة ثمان وستمائة، وكان والدي في صحبتي، فصادفت بمكة جماعة من أهل بلدنا، وكنت بعيد العهد بلقاء أحد منهم، فرآني رجل فالتحق بي كما جرت العادة، ثم عاد إلى من في صحبته من بلدنا فأخبرهم بنا فجاءوا هم إلى منزلنا فقضوا حقنا بالسلام والسؤال والحرمة، ثم انصرفوا إلى رحالهم فجاء كل واحد منهم بما حضره لم يحتفلوا له، وكان فيما جاؤونا به ظرف كبير مملوء عسلا وآخر سمنا على جمل وهو وقره، فألقاه في خيمتنا، فأمرت الغلمان أن يعملوا منه حيسا فيكثروا على عادة تلك البلاد، وأكلنا وأكثرنا زيادة على ما جرت به عادتنا، ثم طفنا بالبيت وعدنا إلى رحالنا ونمت، فرأيت في النوم كأني في الحرم أطوف وإذا رجل شديد الأدمة مشوه الخلقة، فأخذ بيدي وأخرجني من الحرم
من باب إبراهيم فإذا به قد وقفني على الظرفين بعينهما لا أرتاب بهما فقال لي: أتعرف هذين؟ فقلت: نعم هذان ظرفان جاءنا بهما رجل على سبيل الهدية، أحدهما سمن والآخر عسل، فقال لي: ليس الأمر كذلك ثم حط يده على بطنهما وعصر، فخرج من فمهما نار أحسست بلفحها في وجهي، وجعلت أمسح فمي من شدة حرهما، وانزعجت من هول ما رأيت، وقمت من فراشي خائفا فما استطعت النوم إلى الغداة، واجتمعت بمهديهما وكان يعرف بابن أبي شجاع فقلت له: أخبرني عن هذين الظرفين ما خبرهما؟ فقال: اشتريتهما وجئت بهما، فقلت: يا هذا هل فيهما شبهة؟ فتحلف أنهما من خالص ماله، فأخبرته بالحال فبكى حينئذ ومد يده فأخذ بيدي وعاهدني أن يخرج من عهدته وقال: والله ما أعرف أن في مالي شبهة إلا أن لي أختين ما أنصفتهما في تركة أبيهما، وأنا أعاهد الله أنني أرجع من وجهي هذا وأعطيهما حتى أرضيهما؛ قال الصاحب- أدام الله علوه: فعلمت أنها لي موعظة، فعاهدت الله أن لا آكل بعدها من طعام لا أعرف من أين وجهه، فكان لا يأكل لأحد طعاما ويقول: الناس لا يعرفون بواطن الأمور، ويظنونني أفعل ذلك كبرا ومن أين لي بما يقوم بعذري عندهم؟! ثم كنت بعد ذلك في حضرته بمنزله المعمور وقد عاد من القلعة بحلب فقال لي: جرت اليوم طريفة، فقلت له: هات خبرها أدام الله إمتاعنا بك، فما زلت تأتي بالطرائف والطرف، فقال: حضرت اليوم في مجلس الملك الرحيم أتابك طغرل الظاهري وحضرت المائدة وفيها طعام الملوك: شواء وشرائح وسنبوسج وحلاوات وغيرها كما جرت العادة، فتأملته فنفرت نفسي منه ولم تقبله مع كوني قد قارب الظهر ولم أتغد، فلم أنبسط ولا مددت يدي إليه، فقال لي: مالك لا تأكل؟ وكان قد عرف عادتي فقلت له: إن نفسي لا تقبل هذا الطعام ولا تشتهيه، فقال لعلك شبعان، قلت: لا والله إلا أنني أجد في نفسي نفرة منه، فأشار إلى غلام فدخل داره وجاء بمائدة عليها عدة غضائر من الدجاج فلم تقبل نفسي إلا دجاجة واحدة معمولة بحب
رمان، فمددت يدي إليها وتناولت منها قال: فرأيت أتابك وهو يتعجب، فقلت له:
ما الخبر؟ فقال: اعلم انه ليس في هذا الطعام شيء أعلم من أين وجهه، وهو من عمل منزلي غير هذه الدجاجة، والباقي فجاءنا من جهة ما نفسي بها طيبة، وتشاركت أنا وهو في تلك الدجاجة مع بغضي لحب الرمان، وكان أتابك لا يأكل إلا من مال الجوالي فقط. فجعلت أعجب من ذلك، فقال- أدام الله علوه: اعلم أنني لا أحسب هذا كرامة لي، ولكني أعده نعمة من الله في حقي، فإن امتناعي لم يكن عن شيء كرهته ولا ريب اطلعت عليه، ولكن كان انقباضا ونفرة لا أعرف سببها ولا الابانة عن معناها.
كان صفي الدين الأسود كاتب الملك الأشرف عند نزول الملك الأشرف بحلب قد عرض كتابا له يعرف بالتذكرة لابن مسيلمة (وكان معروفا بالبغاء) أحد كتاب مصر يشتمل على قوانين الكتابة وآيين الدولة العلوية وأخبار ملوك مصر المتقدمين في اثني عشر مجلدا ودفع له فيه ما سمح ببيعه، وعرض على الصاحب الكبير العالم جمال الدين الأكرم- أدام الله علاه وكبت أعداءه- فأراد شراه، واتفق رحيل الملك الأشرف إلى نواحي الجزيرة فأرسل إليه ثمنه وزيادة في مثله وافرة، فلما علم صفي الدين أن المشتري هو الوزير- أدام الله علوه- ضن بالكتاب واعتبط، واحتج وخلط، وزعم انه قدمه للخزانة الأشرفية، فكتب الصاحب الوزير إلى أبي علي القيلوي - وكان وسيطه في شرى الكتاب المذكور- ما هذه نسخته. العزة لله وحده:
أتاني كتاب من حبيبي فشاقني | إليه وزاد القلب وجدا إلى وجد |
وكدت لما أضمرت من لاعج الهوى | ووجدا على ما فات أقضي من الوجد |
وقفت على الكتاب الكريم الصادر عن المجلس السامي القضائي العزي لا زالت سيادته تتجدد، وسعادته تتأكد، وفواضله تتردد، وفضائله عن مجلسه تصدر وفي المجالس تورد، وعلمت إشارته في التذكرة المسيلمية والنية في حملها إلى الخزانة
الأشرفية، ولقد زفت إلى أجل خاطب، ورقت بعد انحطاطها إلى أسنى المراتب، فانها وإن كانت بكر فكر أكابر، فما هي إلا بنت عدة آباء ولدت على فراش عواهر، كان عليه البغاء في العالمين علامة، أعني ابن مسيلمة ذا الداء وأسأل الله السلامة، فجاءت ذات غرام لا يشفي قطمها إلا السودان، وأردت أن أكون ناكحها الثاني لا تفاق الألوان، وأبى الله لها أن تهدى إلا إلى المقر الأرفع، وأن تضع الابتناء بالبغي من الهمام الأروع، ولست يائسا على عدمها، ولا راج شفاء كلمي بكلمها:
تحمل أهلها عني فبانوا | على آثار من ذهب العفاء |
وكأني بساميه عرض هذا الكتاب على من لا أسميه، فقرن حاجبيه ولوى شفتيه ولمس عثنونه تعجبا وأمال عطفيه تطرفا وقال: أذكرتني سجع الكهان، وأسمعتني قعقعة صعصعة بن صوحان، والله المستعان على ما يصفون، وإنما هي نفثة صدرت عن صدر مصدور فاز نافثها بصفقة المغبون. وأما سؤاله عما حصل من الكتب في غيبته:
فما هي إلا البحر جاد بدره | ومكنني من لجه وسواحله |
حصل من نفائسها أعلاق نفيسة، وأضحت على بعد المراحم عليها موقوفة حبيسة، لو امتدت يد إليها لشلت، ولو سعت إليها قدم لما أقلت جثتها ولا استقلت، لا ابن العديم يعدمها، ولا القيلوي يقللها ولا الصفي يصطفيها ولا المجد يختزلها:
خلا لك الجو فبيضي واصفري
وتعداد المجدد منها يقصر عنه الكتاب، ويقصر دونه الخطاب، والله الموفق.