ابن البواب علي بن هلال، أبو الحسن المعروف بابن البواب: خطاط مشهور، من أهل بغداد. هذب طريقة ابن مقلة وكساها رونقا وبهجة. ونسخ القرآن بيده 64 مرة، إحداها بالخط الريحاني لا تزال محفوظة في مكتبة (لا له لي) بالقسطنطينية.

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 5- ص: 30

ابن البواب اسمه علي بن هلال الكاتب.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 281

ابن البواب الكاتب علي بن هلال، أبو الحسن الكاتب، المعروف بابن البواب. وكان أبوه يعرف بالستري - بكسر السين المهملة، وسكون التاء ثالثة الحروف، وبعدها راء - نسبة إلى الستر، لأن البواب يلازم الستر. هو صاحب الخط الفائق الذي لم يرزق أحد في الكتابة سعادته، بإجماع الناس؛ على أن الولي العجمي كتب خيرا منه، فيما أرى، ولا يجسر أحد على قول ذلك. وأول من عرب الخط من الكوفي ابن مقلة، لكن بقي فيه تكويف ما، إلى أن جاء ابن البواب هذا، فزاده تعريبا، ودور حروفه، ووضع هذا الضبط على ما قيل. وقال ابن البواب: ما كتبت يوم السبت مثل يوم الخميس قط. قلت: معنى هذا الكلام أنه يكتب كل يوم، فإذا كان يوم الجمعة استراح، فلا يكتب شيئا. وفائدة هذا الكلام أن الكتابة تقوى بالإدمان، وتضعف بالترك. ويقال إنه كان يتصدق بالحروف: يكتب الحرف، ويهبه للصعلوك، فيتوجه به، ويبيعه للكتاب بما يتفق له من الثمن. ويقال إنه وجد له سرير ملآن مسودات، جميعها صورة الشدة، كذا قيل. وزعم بعض الفضلاء أن خطه ثلاث طبقات: سفلى، ووسطى، وعليا. فالسفلى أول كتابته، واسمه فيها: علي بن هلال - بألف بين اللامين - والوسطى أوسط كتابته، واسمه فيها: علي بن هليل - بياء، آخر الحروف، بين اللامين - والعليا، وهي آخر ما كتب، واسمه فيها: علي بن هلل - بحذف الألف ما بين اللامين.
وسمعت جماعة من اليهود يدعون أنه كان في عصره شخص من اليهود كتب العبراني طبقة مثل ابن البواب في العربي، وأنه لم يكتب العبراني أحد قبله ولا بعده مثله.
ورأيت من خطه كثيرا، وملكت منه قطعة بقلم الرقاع، فرآها الشيخ بهاء الدين محمود ابن خطيب بعلبك، فقال: لم أر لابن البواب رقاعا قط غير هذه. إلا أن هذه القطعة المذكورة كان عليها خط القاشي الكاتب المذهب؛ وكان فاضلا مذهبا أيضا له مجاميع أدبية وتواليف، وقد شهد لهذه القطعة أنها من نفائس عقود ابن البواب. وشيخ ابن البواب في الكتابة محمد بن أسد الكاتب، وقد تقدم ذكره في مكانه. وكان ابن البواب في أول أمره مزوقا، يزوق الدور، ثم صور الكتب، ثم تعانى الكتابة. قلت: التصوير والتذهيب هو الذي أعانه على استنباط ما زاده في الكتابة، وغيره من الأوضاع. ولقد دار بيني وبين شرف الدين عيسى الناسخ الكاتب - وهو معروف عند المصريين - في بعض الأيام كلام أفضى إلى التعجب من أمر ابن البواب، فقال: ما بين الناس تفاوت إلى حد يكون قد جاء أحد، لم يجئ بعده مثله. قلت: ليس هذا بعجيب؛ لأنه اتفق له أشياء ما اتفقت لغيره. قال: ما هي؟ قلت: الأولى أنه استعان على ذلك بما عنده من التصوير والتذهيب. والمصورون يقولون: هذه الصورة في حركاتها رطوبة هنا ويبس هنا؛ والرطوبة عندهم رتبة عليا، واليبوسة عيب، كما ذلك عند الكتاب. الثانية أنه كانت أعضاؤه قابلة لما يضعه على ما يتصوره في نفسه من الأشكال، وليس كل الناس كذلك. الثالثة أنه هو الذي أبرز هذه الأوضاع إلى الوجود على ما رآه وقبلته أعضاؤه المفطورة لذلك، وإلا فليست هذه الأوضاع أمرا تلقي عن نبي ولا وصي، ولا هي أوضاع طبيعية، ولا أشكال لازمة الوجود أن تكون كذا؛ لأن المغاربة يخالفون المشارقة في أوضاعهم. الرابعة أنه صقلها بالإدمان حتى قويت وقعدت؛ وكل من كانت كتابته مصقولة قاعدة كانت حسنة في العين، ولو لم يراع كاتبها أصول ابن البواب. فهذا الشيخ فتح الدين بن سيد الناس أخبرني أنه لم يكتب على أحد، وكتابته في المغربي والعربي طبقة. الخامسة أنه وضع شيئا على ما في نفسه ليس بطبيعي ولا شرعي، فجوده، وساعده الأمور التي ذكرتها لك. والناس يريدون يحاكونه، فيتكلفون ما كان في طباع الأول؛ لا جرم أن الناس تفاوتوا في ذلك، فمن مقارب ومن مباعد، على طبقات، وهو الغاية في ذلك. فسلم لي شرف الدين الناسخ ومن كان حاضرا، واعترفوا بصحة التعليل. انتهى.
وكان ابن البواب فاضلا؛ ولهذا يعرف الفضلاء خطه مما زوره عليه الولي العجمي، وعتقه على خطوطه؛ لأن ابن البواب لا يلحن فيما يكتب، والولي يقع له اللحن.
وكان ابن البواب قد قرأ على ابن جني، وسمع من أبي عبيد الله المرزباني، وصحب أبا الحسين بن سمعون الواعظ. وكان ابن البواب يعظ الناس بجامع المنصور، ويعبر للرؤيا. وله نظم ونثر، إلا أن نظمه منحط.
وتوفي ابن البواب سنة ثلاث عشرة وأربع مائة، وقيل سنة أربع عشرة، ودفن بجوار قبر أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، ورثاه الشريف المرتضى بقوله - وكان كثير الملازمة للشريف:

وقيل إن بعض الشعراء رثاه بقوله:
وقال محمد بن الليث الزجاج الموصلي يهجوه:
وقال أيضا فيه:
وقال غيره:
ومن شعر ابن البواب:
حكى محمد بن هلال بن الصابئ في كتاب الهفوات أن أبا نصر بن مسعود الكاتب لقي يوما ابن البواب الكاتب، فسلم عليه، وقبل يده، فقال له ابن البواب: الله الله يا سيدي، ما أنا وهذا؟! فقال: لو قبلت الأرض بين يديك لكان قليلا. قال: ولم ذاك يا سيدي؟ وما الذي أوجبه واقتضاه؟ قال: لأنك تفردت بأشياء ما في بغداذ كلها من يشاركك فيها، منها: الخط الحسن، وأنه لم أر، عمري، كاتبا من طرف عمامته إلى طرف لحيته ذراعان ونصف غيرك. فضحك ابن البواب وجزاه خيرا، وقال: أسألك أن تكتم عني هذه الفضيلة. وكانت لحية ابن البواب طويلة جدا.
ولما ورد الوزير فخر الملك أبو غالب محمد بن خلف واليا على العراق من قبل بهاء بن عضد الدولة، جعل ابن البواب نديما له، واختص به. وكان ابن البواب يتصرف في خزانة الكتب التي لعضد الدولة بشيراز، وأمرها مردود إليه. وله مع عضد الدولة واقعة جرت في أمر أجزاء ربعة بخط ابن مقلة، فإنه كمل منها جزءا مخروما، فكمله ابن البواب وذهبه وعتقه، وأحضره إليه في جملة الأجزاء. فلم يعرفه.
قلت: وللكتاب لحن في الوضع يعدونه، كما يعد أهل العربية لحنهم. من ذاك أن الكاف لا تكتب مجلسة إذا وقعت طرفا، في مثل: إليك، ولديك، وعليك، ولك، وما أشبه ذلك. ثم إذا كتبت طرفا، لا يعمل لها ردة، إنما الردة عليها إذا كانت مكتوبة أولا وفي بعض الكلمة حشوا، وأشياء ذكرتها في قولي تذنيب في مقدمة هذا الكتاب، فأغنت عن الإعادة هنا.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 22- ص: 0

علي بن هلال الكاتب المعروف بابن البواب أبو الحسن، صاحب الخط المليح والاذهاب الفائق: وجدت بخط ابن الشبيه العلوي الكاتب صاحب الخط الفائق في آخر ديوان أبي الطمحان القيني بخطه ما صورته: وكتب في صفر سنة عشرين وأربعمائة من خط أبي الحسن علي بن هلال الستري مولى معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي وهذا قد كان بغير شك معاصره.
بلغني أنه كان في أول أمره مزوقا يصور الدور ثم صور الكتب ثم تعانى الكتابة ففاق فيها المتقدمين وأعجز المتأخرين، وكان يعظ بجامع المنصور، ولما ورد فخر الملك أبو غالب محمد بن خلف الوزير واليا على العراق من قبل بهاء الدولة أبي نصر ابن عضد الدولة جعله من ندمائه، وفي الجملة انه لم يكن له في عصره ذاك النفاق الذي له بعد وفاته، وذاك أنني وجدت رقعة بخطه قد كتبها إلى بعض الأعيان يسأله فيها مساعدة صاحبه ابن منصور وانجاز وعد وعده به لا يساوي دينارين، وقد بسط القول في ذلك، استطلتها فانها كانت نحو السبعين سطرا فألغيت اثباتها، وقد بيعت بسبعة
عشر دينارا إمامية، وبلغني أنها بيعت مرة أخرى بخمسة وعشرين دينارا. مات فيما ذكره هلال بن المحسن بن الصابئ في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ودفن في جوار قبر أحمد بن حنبل، وذلك في خلافة القادر بالله، ورثاه المرتضى بشعر أذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وحدث في «كتاب المفاوضة» قال: حدثني أبو الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب قال: كنت أتصرف في خزانة الكتب لبهاء الدولة بن عضد الدولة بشيراز على اختياري وأراعيها له وأمرها مردود إلي، فرأيت يوما في جملة أجزاء منبوذة جزءا مجلدا بأسود قد السكري، ففتحته وإذا هو جزء من ثلاثين جزءا من القرآن بخط أبي علي ابن مقلة فأعجبني وأفردته وجعلت وكدي التفتيش عن مثله، فلم أزل أظفر بجزء بعد جزء مختلط في جملة الكتب إلى أن اجتمع تسعة وعشرون جزءا، وبقي جزء واحد استغرقت تفتيش الخزانة في مدة طويلة فلم أظفر به، فعلمت أن المصحف ناقص فأفردته، ودخلت إلى بهاء الدولة وقلت: يا مولانا ها هنا رجل يسأل حاجة قريبة لا كلفة فيها وهي مخاطبة أبي علي الموفق الوزير على معونته في منازعة بينه وبين خصم له ومعه هدية ظريفة تصلح لمولانا، قال: أي شيء هي؟
قلت: مصحف بخط أبي علي ابن مقلة، فقال: هاته وأنا أتقدم بما يريد، فأحضرت الأجزاء، فأخذ منها واحدا وقال أذكر وكان في الخزانة ما يشبه هذا وقد ذهب عني.
قلت: هذا مصحفك، وقصصت عليه القصة في طلبتي له حتى جمعته، وقلت:
هكذا يطرح مصحف بخط أبي علي إلا أنه ينقص جزءا، فقال لي: فتممه لي، قلت: السمع والطاعة، ولكن على شريطة أنك إذا أبصرت الجزء الناقص منها ولا تعرفه أن تعطيني خلعة ومائة دينار، قال: أفعل؛ وأخذت المصحف من بين يديه وانصرفت إلى داري ودخلت الخزانة أقلب الكاغد العتيق وما يشابه كاغد المصحف، وكان فيها من أنواع الكاغد السمرقندي والصيني والعتيق كل ظريف عجيب، فأخذت من الكاغد ما وافقني، وكتبت الجزء وذهبته وعتقت ذهبه وقلعت جلدا من جزء من
الأجزاء فجلدته به، وجلدت الذي قلعت منه الجلد وعتقته، ونسي بهاء الدولة المصحف، ومضى على ذلك نحو السنة، فلما كان ذات يوم جرى ذكر أبي علي ابن مقلة فقال لي: ما كتبت ذلك؟ قلت بلى، قال: فأعطنيه، فأحضرت المصحف كاملا فلم يزل يقلبه جزءا جزءا وهو لا يقف على الجزء الذي بخطي ثم قال لي: أيما هو الجزء الذي بخطك؟ قلت له: لما لا تعرفه فيفتر في عينك، هذا مصحف كامل بخط أبي علي ابن مقلة ونكتم سرنا؟ قال: أفعل، وتركه في ربعة عند رأسه ولم يعده إلى الخزانة، وأقمت مطالبا بالخلعة والدنانير وهو يمطلني ويعدني، فلما كان يوما قلت: يا مولانا في الخزانة بياض صيني وعتيق مقطوع وصحيح فتعطيني المقطوع منه كله دون الصحيح بالخلعة والدنانير؟ قال: مر خذه، فمضيت وأخذت جميع ما كان فيها من ذلك النوع فكتبت فيه سنين.
ووجدت في تاريخ أبي الفرج ابن الجوزي قال»
اجتاز أبو الحسن البتي الكاتب وكان مزاحا- وله في هذا الكتاب باب- وعلي بن هلال جالس على باب الوزير فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف ينتظر الاذن، فقال له البتي: جلوس الأستاذ على العتب رعاية للنسب، فغضب ابن البواب وقال: لو أن إلي أمرا ما مكنتك من دخول هذه الدار، فقال البتي: لا يترك الأستاذ صنعة الوالد بحال.
ولبعضهم يهجو ابن البواب:

وكان ابن البواب يقول شعرا لينا منه- ونقلته من خط الجويني أيضا قال ونقلت من خطه أيضا في ضمن رسالة-:
وكان تحت هذا الشعر بخط الجويني ما صورته: هذا شعر ابن البواب وهو عورة سترها ذلك الخط، ولولا أن الإجماع واقع في أن الرجل يفتن بشعره وولده لكان صاحب تلك الفضيلة يرتفع عن هذه النقيصة. وكتب تلميذه حسن بن علي الجويني.
ولقد عجبت ممن يزري على ذلك الشعر، وهو القائل ونقلته من خطه فقال:
كتبت إلى المولى القاضي الأجل شرف الدين السديد عبد الله بن علي أمتع الله الدنيا وأهلها ببقائه، وقد أبللت من مرضة صعبة:
وكتب حسن بن علي الجويني في ذي القعدة سنة ست وستين وخمسمائة بالديار المصرية عمرها الله تعالى بدوام العز.
وقال المعري وضرب علي بن هلال مثلا:
منها:
هذا بيت مشكل التفسير بعيد المرمى وذاك أن عمرو بن تميم بن مر بن أد بن طابخة ولد العنبر والهجيم ومازن، تقول العرب إن هؤلاء الاخوة الثلاثة أمهم السعلاة وهي الغولة، وأن عمرو بن تميم تزوجها فولدت له هؤلاء الثلاثة، ويقولون إن السعلاة إذا رأت البرق طلبته، وكان عمرو يحفظها من البرق إذا لاح فيغطي وجهها، فغفل عنها مرة فلاح البرق فطلبته وقالت: يا عمرو أوصيك بولدك خيرا، ومضت ولم تعد إليه، فهذا معنى بيت المعري.
وقد ضربه بعض المتأخرين أيضا مثلا فقال يمدح رجلا يعرف بابن بدر بجودة الخط فقال:
قرأت بخط سلامة بن غياض: رأيت بالري بخط علي بن هلال «كتاب من نسب من الشعراء إلى أمه» لأبي عبد الله ابن الأعرابي وهم خمسون شاعرا وعلى ظهره «كتبه علي بن هلال في شهر ربيع الأول سنة تسعين وثلاثمائة» وبعد البسملة «يرويه ابن عرفة عن ثعلب عن ابن الأعرابي» وفي آخره بخطه «نقلته من نسخة وجدت عليها بخط شيخنا أبي الفتح عثمان بن جني النحوي أيده الله: بلغ عثمان بن جني نسخا من أوله وعرضا» .
وكان لابن البواب يد باسطة في الكتابة، أعني الانشاء، وفصاحة وبراعة، ومن ذلك رسالة أنشأها في الكتابة، وكتبها إلى بعض الرؤساء، ونقلتها من خط الحسن بن علي الجويني الكاتب أولها: قد افتتحت خدمة سيدنا الأستاذ الجليل، أطال الله بقاءه وأدام تمكينه وقدرته وتمهيده، وكبت عدوه، المثال المقترن بهذه الرقعة افتتاحا يصحبه العذر إلى جليل حضرته من ظهور التقصير فيه والخلل البادي لمتأمليه، وقد كان من حقوق مجلسه الشريف أن يخدم بالغايات المرضية من كل صناعة تأديا لسؤدده وعلائه، وتصديا للفوز بجميل رائه، ولم يعدني عن هذه القضية جهل بها وقصور عن علمها، لكني هاجر لهذه الصناعة منذ زمن طويل هجرة قد أورثت يدي حبسة ووقفة حائلتين بينها وبين التصرف والافتنان، والوفاء بشرط الاجادة والاحسان، ولا خفاء عليه- أدام الله تأييده- بفضل الحاجة ممن تعاطى هذه الصناعة إلى فرط التوفر عليها، والانصراف بجملة العناية إليها، والكلف الشديد بها، والولوع الدائم بمزاولتها، فإنها شديدة النفار بطيئة الاستقرار، مطمعة الخداع وشيكة النزاع، عزيزة الوفاء، سريعة الغدر والجفاء، نوار قيدها الإعمال، شموس مهرها الوصال، لا تسمح ببعضها إلا لمن آثرها بجملته وأقبل عليها بكليته، ووقف على تألفها سائر زمنه، واعتاضها عن خله وسكنه، لا يؤيسه حيادها ولا يغره انقيادها، يقارعها بالشهوة والنشاط ويوادعها عند الكلال والملال، حتى يبلغ منها الغاية القصية ويدرك المنزلة العلية، وتنقاد الأنامل لتفتيح أزهارها وجلاء أنوارها، وتظهر الحروف موصولة
ومفصولة ومعماة ومفتحة في أحسن صيغها وأبهج خلقها، منخرطة المحاسن في سلك نظامها، متساوية الأجزاء في تجاورها والتيامها، لينة المعاطف والأرداف، متناسبة الأوساط والأطراف، ظاهرها وقور ساكن، ومفتشها رهج فاتن، كأنما كاتبها وقد أرسل يده وحث بها قلمه، رجع فيها فكره ورويته، ووقف على تهذيبها قدرته وهمته، القلب بها في حجر ناظره، والمعنى بها مظلوم بلفظه، وما ذهبت في هذه القضية مذهب المطرف المغرب بها ولا المعول على شوافعها، لكن نهجت بها سبيلا لأمثالها إقامة لرسم الخدمة المفروضة للسادة المنعمين على خدمهم وصنائعهم، فإن سعدت بنفاقها عليه وارتضائها لديه وإلا سلمت من وصمة التضجيع والإهمال وهجنة التقصير في شكر الإنعام والإفضال، ولسيدنا الأستاذ الجليل- أطال الله بقاءه- علو الرأي في الأمر بتسليم ما خدمت به وتصريفه بين عالي أمره ونهيه، إن شاء الله تعالى.
وحدث غرس النعمة محمد بن هلال بن المحسن بن ابراهيم بن هلال الصابئ في «كتاب الهفوات» قال: كان في الديوان كاتب يعرف بأبي نصر ابن مسعود فلقي يوما أبا الحسن علي بن هلال البواب الكاتب ذا الخط المليح في بعض الممرات فسلم عليه وقبل يده فقال له ابن البواب: الله الله يا سيدي ما أنا وهذا؟
فقال: لو قبلت الأرض بين يديك لكان قليلا، قال: ولم ذاك يا سيدي وما الذي أوجبه واقتضاه؟ قال: لأنك تفردت بأشياء ما في بغداد كلها من يشاركك فيها، منها الخط الحسن وأنه لم أر عمري كاتبا من طرف عمامته إلى طرف لحيته ذراعان ونصف غيرك، فضحك أبو الحسن منه وجزاه خيرا وقال له: أسألك أن تكتم هذه الفضيلة علي ولا تكرمني لأجلها، قال له: ولم تكتم فضائلك ومناقبك؟ فقال له: أنا أسألك هذا، فبعد جهد ما أمسك، وكانت لحية ابن البواب طويلة جدا.
قال المؤلف: وأما الشعر الذي رثاه به المرتضى فهو:

  • دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 5- ص: 1996

علي بن هلال ابن البواب البغدادي، مولى معاوية بن أبي سفيان الأموي.
وكان ابن البواب دهانا يجيد التزويق.
وصحب أبا الحسين بن سمع: ون الواعظ، وسمع: من أبي عبيد الله المرزباني، وقرأ النحو على أبي الفتح بن جني.
وبرع في تعبير الرؤيا، وقص على الناس بجامع المنصور، وله نظم ونثر وإنشاء.
قال ابن خلكان: هذب ابن البواب طريقة ابن مقلة، ونقحها، وكساها طلاوة وبهجة.
وكان يذهب إذهابا فائقا، وكان في أول أمره مزوقا يصور الدور فيما قيل، ثم أذهب الكتب، ثم تعانى الكتابة، ففاق الأولين والآخرين فيها، ونادم الوزير فخر الملك أبا غالب، وقيل: وعظ بجامع المنصور، ولم يكن له في عصره ذاك النفاق الذي تهيأ له بعد موته، لأنه وجد بخطه ورقة قد كتبها إلى كبير يسأله فيها مساعدة صديق له بشيء لا يساوي دينارين، وقد بسط القول فيها نحو السبعين سطرا، وقد بيعت بعد ذلك بسبعة عشر دينارا إمامية.
قال أبو علي بن البناء: حكى لي أبو طاهر بن الغباري أن الحسن بن البواب أخبره أن ابن سهلان استدعاه، فأبى، وتكرر ذلك. قال: فمضيت إلى أبي الحسن بن القزويني، وقلت: ما ينطقه الله به أفعله، فلما دخلت، قال: يا أبا الحسن: اصدق والق من شئت. فعدت، فإذا
على بابي رسل الوزير، فمضيت معهم، فلما دخلت، قال: ما أخرك عنا؟ فاعتذرت، ثم قال: رأيت مناما. فقلت: مذهبي تعبير المنام من القرآن. فقال: رضيت. قال: رأيت كأن الشمس والقمر قد اجتمعا وسقطا في حجري. قال وعند فرح بذلك: كيف يجتمع له الملك والوزارة؟ قلت: قال الله تعالى: {وجمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ أين المفر، كلا لا وزر}، وكررت عليه هذا ثلاثا. قال: فدخل إلى حجرة النساء، وذهبت، فلما كان بعد ثلاث، انحدر إلى واسط على أقبح حال، وكان قتله هناك.
قال الخطيب: ابن البواب صاحب الخط لا أعلمه روى شيئا.

قال محمد بن عبد الملك الهمذاني: توفي ابن البواب صاحب الخط الحسن في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربع مائة.
وقال أبو الفضل بن خيرون في وفاته كذلك وقال: كان من أهل السنة.
قلت: عبث به شاعر، فقال:
ولأبي العلاء المعري:
وقد رثاه الشريف المرتضى بقوله:
قال ابن خلكان: روى الكلبي والهيثم بن عدي أن الناقل للكتابة العربية من الحيرة إلى الحجاز هو حرب بن أمية. فقيل لأبي سفيان: ممن أخذ أبوك الكتابة؟ قال: من ابن سدرة، وأخبره أنه أخذها من واضعها مرامر بن مرة، قال: وكانت لحمير كتابة تسمى المسند، حروفها منفصلة، غير متصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها، فلما جاء الإسلام، لم يكن بجميع اليمن من يقرأ ويكتب.
قلت: هذا فيه نظر، فقد كان بها خلق من أحبار اليهود يكتبون بالعبراني.
إلى أن قال: فجميع كتابات الأمم اثنتا عشرة كتابة، وهي: العربية، والحميرية، واليونانية، والفارسية، والرومية، والسريانية، والقبطية، والبربرية، والأندلسية، والهندية، والصينية، والعبرانية، فخمس منها ذهبت: الحميرية، واليونانية، والقبطية، والبربرية، والأندلسية، وثلاث لا تعرف ببلاد الإسلام: الرومية، والصينية، والهندية.
قلت: الكتابة مسلمة لابن البواب، كما أن أقرأ الأمة أبي بن كعب، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالتأويل ابن عباس، وأمينهم أبو عبيدة، وعابرهم محمد بن سيرين، وأصدقهم لهجة أبو ذر، وفقيه الأمة مالك، ومحدثهم أحمد بن حنبل، ولغويهم أبو عبيد، وشاعرهم أبو تمام، وعابدهم الفضيل، وحافظهم سفيان الثوري، وأخباريهم الواقدي، وزاهدهم معروف الكرخي، ونحويهم سيبويه، وعروضيهم الخليل، وخطيبهم ابن نباتة، ومنشئهم القاضي الفاضل، وفارسهم خالد بن الوليد. رحمهم الله.

  • دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 13- ص: 81