أبو الفرج الأصبهاني علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم المرواني الأموي القرشي، أبو الفرج الاصبهاني: من أئمة الأدب، الأعلام في معرفة التاريخ والأنساب والسير والآثار واللغة والمغازي. ولد في أصبهان، ونشأ وتوفي ببغداد. قال الذهبي: (والعجب أنه أموي شيعي). وكان يبعث بتصانيفه سرا إلى صاحب الأندلس الأموي فيأتيه إنعامه. من كتبه (الأغاني - ط) واحد وعشرون جزءا، لم يعمل في بابه مثله، جمعه في خمسين سنة، و (مقاتل الطالبيين - ط) و (نسب بني عبد شمس) و (القيان) و (الإماء الشواعر) و (أيام العرب) ذكر فيه 1700 يوم، و (التعديل والإنصاف) في مآثر العرب ومثالبها، و (جمهرة النسب) و (الديارات) و (مجرد الأغاني) و (الحانات) و (الخمارون والخمارات) و (آداب الغرباء). ولمحمد أحمد خلف الله، كتاب (صاحب الأغاني - ط).

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 4- ص: 278

أبو الفرج الأصبهاني اسمه علي بن الحسين بن محمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن الحكم.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 397

علي بن الحسين بن محمد أبو الفرج الأصبهاني المنتهي نسبه إلى مروان بن الحكم
قال التنوخي: من المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني ثم مدحه، وقال ابن شاكر في عيون التواريخ: أنه كان ظاهر التشيع وقال ابن الأثير في الكامل: وكان أبو الفرج شيعيا وهذا من العجيب، وقال ابن الجوزي في كتابه المنتظم في الملوك والأمم: أنه كان متشيعا ومثله لا يوثق بروايته.
ولد سنة 284 في أصفهان وتوفي سنة 356.
نشأ في بغداد بعد تركه أصفهان وأخذ العلم عن أعلامها، وكانت بغداد إذ ذاك قرارة العلم والعلماء ومثابة الأدب والأدباء ومهوى أفئدة الذين يرغبون في الإلمام بالثقافة أو يودون التخصص في فروعها.
وقد أخذ أبو الفرج نفسه بالجد في طلب العلم فنبغ وتفوق، وكان له من توقد ذكائه وسرعة حفظه وشغفه بالمعرفة ما مكن له من ناحية التفوق وذلل له من شماس النبوع وجعله ينهض بتأليف (الأغاني) العظيم ولما يبلغ الثلاثين من عمره، فإذا ما بلغها أو جاوزها بعام أو ببعض عام ألف كتابه الخالد (مقاتل الطالبيين).
وقد قدر له إن يعرف شابا من لداته يهيم بالمجد مثله ويبتغي إليه الوسيلة بالقوة في العلم والأدب، وهو الحسن بن محمد المهلبي، وتظهرهما المعرفة على ما بينهما من التمازج النفسي والالتقاء الكثير في الإرادات والاختيارات والشهوات فتوثق بينهما صداقة عقلية ومؤاخاة روحية، ستظل قوية العرى مستحصدة العلائق أبدا. ويختلف الدهر ويتبدل العسر باليسر، ويرق الزمان لفاقة المهلبي ويرثي لطول تحرقه وينيله ما يرتجي فيصير وزيرا لمعز الدولة البويهي. ويطيع الدهر بعد عصيانه لأبي الفرج فيصبح كاتبا لركن الدولة البويهي قريب المنزلة منه عظيم المكانة لديه ولعل من أسباب تلك الحظوة اتفاقهما في التشيع.
وفي سنة 328 يستوزر ركن الدولة أبا الفضل بن العميد فيكون بينه وبين أبي الفرج ما يكون عادة من التحاسد والتباغض، والمصارعة النفسية والاستباق إلى قلب ركن الدولة، ويستطيل ابن العميد على أبي الفرج ويتعاظم، ولا يلقاه بما ينبغي له من الإجلال والتعظيم أثناء دخوله وخروجه فتثور نفسه ويخاطبه بقوله:

ويظل أبو الفرج في ظل الوزير المهلبي مدة وزارته لمعز الدولة، وهي مدة طويلة أربت على ثلاث عشرة سنة، يسامر وينادمه ويؤاكله، ويصبر الوزير على مساوئ أبي الفرج، فقد كان كما قيل قذر المطعم والمشرب والملبس، لا ينضو عنه ثوبه إلا إذا أبلت جدته الأيام.
وتجري الأيام بينهما على خير ما تجري بين صديقين، أو على خير ما تجري بين سمير ظريف ووزير حصيف يفيض بالكرم والأنعام.
ويؤتي الكرم ثماره فيسخر أبو الفرج أدبه في رغبة الوزير، ويترصد مواقع هذه فيضع فيها نثره وشعره، ويؤلف له نسب المهالبة ومناجيب الخصيان، وينظم فيه الشعر كلما دعت المناسبة فيهنئه إذا ابل من مرض أو ولد له ولد، ويمدحه في المواسم والأعياد، ويتظرف فيشكو إليه الفأر ويصف الهر ويستميحه البر:
وهو إذا ما عرض لمدحه لا ينجح إلى المبالغة الممقوتة، ولا يتعمل الثناء الأجوف ولا يتصيد المكارم تصيدا، بل يقول ما يعرفه ويصفه بما فيه:
فليس في هذا المديح إسراف ولا إغراق في المبالغة: فقد كان الوزير المهلبي كما يقول الثعالبي غاية في الأدب والمحبة لأهله وكان يترسل ترسلا سليما مليحا ويقول الشعر قولا لطيفا يضرب بحسنه المثل يغذي الروح ويجلب الروح وكان محدثا حسن الحديث بليغ العبارة رشيق اللفظ وكان أكثر حديثه يدور حول مذاكرة الأدب ومقابسة العلوم، لكثرة من يغشى مجالسه من العلماء والأدباء والندماء كالصاحب ابن عباد، وأبي إسحاق الصابي والقاضي التنوخي، وابن سكرة الهاشمي، وأبي القاسم الجهني، وأبي النجيب الجزري، وأبناء المنجم، وكان أبو الفرج يجول في هذه المجالس ويصول يقص ويروي وينقد وينذر وينثر من أدبه ويفيض من علمه فكان مجلس المهلبي من أسباب نباهة شانه وشيوع ذكره كما كان المهلبي من أسباب رفاهية عيشه وتفرغه للعلم والأدب، ولكنه مع ذلك لم يخل من هجوه وكان يعلم أنه يهجوه سرا فطلب إليه ذات ليلة إن يهجوه جهرا في قصة معروفة، وقد رأى أبو الفرج منه بعض ما يكره فظن أنه رمي به من حالق، بعد إن أنعم عليه الخالق، فقذفه بهذين البيتين:
يومئ أبو الفرج إلى ما كان من فقر الوزير أيام كان يشتهي اللحم ولا يقدر على ثمنه فيتمنى الموت ويقول من أبيات:
ولكن الهجاء لم يقطع الصديقين ويظل حبل إخائهما متصلا حتى يقطعه موت المهلبي سنة 352.
وقد كان أبو الفرج هجاء يحذره الناس ويتقونه، وقد استوزر الخليفة الراضي أبا عبد الله البريدي وكانت داره ملاصقة لدار أبي الفرج فهجاه وأنب الراضي بقصيدة تزيد على مائة بيت مطلعها:
وانحدر مرة إلى البصرة فضاق بها وهجاها وأهلها وقال عنهم: إنهم كلاب يلبسون الفرا وقد كان أبو الفرج ذا عناية ملحوظة بالحيوانات وتربيتها، قال في وصف ديك له:
وهذان البيتان من قصيدة له في رثاء هذا الديك يقول فيها في الرثاء:
ذلك رثاؤه لديك له فقد صوره تصويرا واضحا كاملا بفضل عينه الشديدة الانتباه وفكره البعيد في العمق. وأبو الفرج الأصبهاني رزق من محاسن اللغة والفن الشيء الكثير حتى كدنا نرى الديك يزهي بمحاسن ألوانه، وكدنا نرى خطراته وميساته ونسمع صياحه، أنه يصيب اللفظ في مواضعه وينزله في منازله، والى هذا الوضوح في اللغة والغنى في الألفاظ المصورة نستطيع إن نضيف الصفات المحسوسة وخصب التشبيهات في الشعر: ومما جاء في قصيدته في رثاء الديك قوله:
#وهكذا فلم يعن أبو الفرج بمراقبة الناس وحدهم وتتبع آثارهم وأخبارهم، وإنما عني بمراقبة الحيوان أيضا ولا سيما الحيوان الذي كان يعيش في داره. فهو يصف هذا الحيوان وصفا إذا جاء في عصرنا هذا مصور وقف عليه استطاع إن يعيد صورته بريشته وهذه براعة أبي الفرج في الدقة والتصوير. وكان من عادة أبي الفرج إن يغشى سوق الوراقين ويجلس على دكاكينهم يقرأ ما يلحظ وينقد ما يسمع ويأخذ بأطراف الأحاديث التي يتجاذبها بينهم رواد السوق من العلماء والأدباء ثم يؤوب إلى منزله بعد إن يصطفي ما يرتأي من الكتب المصادر التي يعتمد عليها في تأليف كتبه.
كما كان يجلس لتلاميذه ورواد أدبه يقرئهم من كتبه ما يريد أو يريدون على نحو ما كان يفعله أستاذه أبو جعفر الطبري، وفي طليعة تلك الكتب التي قرئت عليه من أولها إلى آخرها كتاب الأغاني الذي يقول عنه ابن خلدون:
’’جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم وجعل مبناه على الغناء في مائة الصوت التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه. ولعمري أنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت إليهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به في ذلك كتاب فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليه الأدب، ويقف عندها وإنى له بها’’.
الأغاني
لا شك إن كتاب الأغاني يعد في الطبقة الأولى من تراثنا القديم، ولكن بهذا الكتاب ميزة غير هذه، أي غير كونه تراثا فكريا ثقافيا محضا، ومن خلال هذه الميزة يستحق إن ينظر إليه على وجه جديد.
وميزة الأغاني هذه، هي إن مؤلفه أبا الفرج الأصبهاني، قد عني عناية ظاهرة في إن يسجل فيه الحياة العربية في عصره وفي العصور التي سبقته تسجيلا أمينا صادقا شاملا تجاوز به طبقة الخلفاء والملوك والوزراء، إلى فئات العلماء والشعراء والمثقفين، والمغنين والملحنين، والندماء، والى سائر فئات الشعب في مختلف أحوالهم ووقائع عيشهم وطرائق تفكيرهم وعادتهم إلى كثير من علاقاتهم الاجتماعية بعضهم ببعض وعلاقات الحكام بهم.
ولكن هذه الميزة كانت تظل ناقصة، إذ كانت تكون غير ذات نفع، ولا قيمة تاريخية إنسانية، لو إن الفرج الأصبهاني قد حابى طبقة من هذه الطبقات كلها على حساب التاريخ أو لو أنه كان هو نفسه من الذين هانت عليهم كرامتهم العقلية فازدلف إلى الحكام بشيء من التملق والمراعاة والمداجاة، أو لو أنه كان من غير هذه الطبقة التي عاش حياتها طوال عمره، نعني طبقة المثقفين العاملين الذين يعتمدون حياة العمل في سبيل المعرفة وسيلتهم الوحيدة لتحصيل المعرفة، حتى ينشأ فيهم وجدان يأبى عليهم إلا الصدق والصراحة، وإلا التحرر من الهوى والطمع والرياء والدجل والمحاباة.
ذلك إن أبا الفرج على رغم أنه ينتسب إلى الأمويين فهو من أحفاد مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين قد ولد بأصبهان في أحضان الفقر، وانتقل منذ صغره إلى بغداد، وليس له من أسباب العيش إلا أيسرها وأتفهها، فعكف في مدارسها ومعاهدها يطلب العلم من كل سبيل ويطرق له كل باب لا يختص فرعا من المعرفة دون فرع.
وخرج الفتى الأصبهاني من شبابه وهو يجمع في واعيته فروعا شتى من ثقافات بغداد، فإذا هو عارف باللغة والنحو والفقه والفلسفة، وإذا هو على بصر في الشعر والأدب والأغاني، وإذا له إلمام جامع بأخبار العرب وأثارهم وأيامهم وأنسابهم، وإذا هو يحيط بأطراف من علوم الأحياء والاجتماع وإذا له خبرة بعلوم البيطرة والتشريح والطب والنجوم.
وما عرف الناس في أبي الفرج وهو العالم الأديب النقاد المرموق أنه تملق إلى الحكام إلا صلة كانت به بالحسن المهلبي وزير معز الدولة البويهي، فإذا استثنينا هذه الصلة، نرى إن أبا الفرج كان منقطعا إلى علمه وأدبه يعز شأنهما عن كل ابتذال وامتهان، ونرى رجال السلطان ورجال العلم والأدب جميعا يجلون لذلك قدره ويهابون شأنه
ثم نرى أبا الفرج رجلا ليس يخنقه الوقار والتزمت، ولكن نرى فيه إلى وقار العلم ومهابة المعرفة، خفة روح وعذوبة طبع ونزوعا محببا إلى الفكاهة، والطرب والمرح وإرسال النادرة المستملحة الطيبة.
ومن هنا نعرف أنه رجل حفظ لنفسه كرامتها، وحفظ لعلمه وأدبه عزتهما وإلا لكان أولي بمثله يومئذ أن يختاره الخلفاء نديما، بل لكان أولي إن يكون ذا منزلة وسلطان في دولة المنادمة وعلى موائد الملوك والخلفاء والوزراء، ولكنه ترفع عن كل ذلك إكراما للعلم وإعزازا للأدب والفكر.
على مثل هذه البسطة في العلم والأدب، وعلى مثل هذا الشمول في ممارسة المعرفة وعلى مثل هذه النفس العزوفة عن الهوان والابتذال، عكف أبو الفرج خمسين سنة يؤلف كتاب (الأغاني).
ولقد مكنه علمه وأدبه ومكنه استقلاله الفكري وتحريره من كل ما يقيده بصلة مع الحكام ومكنه اطلاعه على شؤون الحياة العامة في أوساط الشعب كافة، لقد مكنه هذا إن يكتب (الأغاني) في استيعاب شامل وفي صراحة ليس معها محاباة ولا رياء ولا ملق.
بل لقد بلغ به استقلاله الفكري وتحرره من علاقات العيش بذوي السلطان على اختلاف في درجات السلطان وبلغ به التجرد العلمي من كل ما كان يعرف أهل عصره من العصبيات أنه كتب الأغاني بطريقة موضوعية ليس متأثرا فيها بشيء من الدوافع الذاتية فلم يستسلم لعصبية من العصبيات ولم يندفع مع خوف من خليفة أو ملك أو وزير، بل لم يحذر من تقاليد الناس ومواضعاتهم العرفية في الأخلاق الشائعة.
ومن هنا جاء هذا الكتاب العظيم يتحدث إلى الأجيال عن حياة ذلك العصر وما سبقه من عصور العربية حديثا شاملا حيا زاخرا بالحياة، فصور ثقافة العصر وصور أدبه وغناءه وألحانه ثم صور حياة الخلفاء والملوك والوزراء ورجال الدولة جميعا كما كانوا يعيشون ويبذخون ويلهون ويمجنون واستعرض ألوانا من تاريخ الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي أدبا واجتماعا وسياسة وصراعا على الحياة وعلى الرأي وعلى الخلافة جميعا.
وبعد فان للأغاني ميزة أخرى تضاف إلى الميزات كلها، وهي إن أبا الفرج كتبه بلغة الأديب المنشيء المطبوع فإنما هو من حيث تعبيره فن أدبي بارع بجمال السرد وجمال العرض والأداء، وجمال اللغة وصفائها، فهو يمثل من هذه الناحية تطورا تاريخيا للنثر الفني في عصره، بل لقد كان وثبة هائلة في هذا التطور.
فقد جمع (الأغاني) مزايا الفن الإنشائي ومزايا الفن القصصي ومزايا النقد الأدبي البصير بكل جمالات الفن.
ولقد بنى أبو الفرج هذا الكتاب على دراسة مائة صوت من أصوات الغناء العربي كان قد اختار لها الرشيد ثلاثة من أعلام الغناء في عهده: إبراهيم الموصلي وإسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء ثم اختاروا منها ثلاثة أصوات. وفي عهد الواثق اختار له إسحاق من هذه المائة ما ارتأى أنه أفضل من غيره.
وقد جرى أبو الفرج في كتابه على البدء بصوت من هذه الأصوات فذكر الشعر ونوع اللحن ومن غناه ومن لحنه. ثم ترجم للمغني وللشاعر، واستطرد في خلال ذلك إلى صور من الحياة المتصلة بكل منهما وإلى ترجمات من أشخاص آخرين، وإلى نقد الشعر وذكر ما يعارضه. وما يماثله. وهكذا ينتقل المؤلف من صورة إلى صورة ومن لون إلى لون، يتخلل ذلك كله صنوف من العلم والمعرفة وشؤون من الحياة العامة.
ولا بد من القول أخيرا إن صاحب الأغاني كان أمينا للتاريخ كل الأمانة فلم يذكر حديثا ولا حكاية ولا رواية ولا شعرا إلا اجتهد في إسناده إلى عدد من الرواة والأسانيد ولذلك يمكن القول أنه من التجني على المؤلف ما كتب بعض مؤرخي الأدب المعاصرين من أنه لا يجوز الاعتماد على الأغاني من الناحية التاريخية الشاملة.
مقاتل الطالبيين
ومن كتبه التي قرئت عليه كذلك كتاب مقاتل الطالبيين وهو كتاب مترجم فيه للشهداء من آل أبي طالب منذ عصر الرسول إلى الوقت الذي شرع يؤلف فيه كتابه وهو جمادى الأول سنة 313 سواء كان المترجم له قتيل حرب أو صريع السم في السلم، وسواء أ كان مهلكه في السجن أو في مهربه أثناء تواريه من السلطان.
وقد رتب مقاتلهم على السياق الزمني ولم يرتبها على حسب أقدارهم في الفضل ومنازلهم في المجد، واقتصر على من كان نقي السيرة قويم المذهب، واعرض عن ذكر من عدل عن سنن آبائه وحاد عن مذاهب أسلافه وكان مصرعه في سبيل أطماعه وجزاء ما اجترحت يداه من عبث.
وقد صنف أبو الفرج أخبارهم ونظم سيرهم ووصف مقاتلهم وجلا قصصهم بأسلوبه الساحر وبيانه الآسر، وطريقته الفذة في حسن العرض ومهارته الفائقة في سبك القصة وحبك نسجها وائتلاف أصباغها وألوانها وتسلسل فكرتها ووحدة ديباجتها وتساوق نصاعتها على اختلاف رواتها وتعدد روايتها وتباين طرقها، حتى ليبدو وكأنها بنات فكر واحد وهذا هو سر الصنعة في أدب أبي الفرج.
ولئن كان أبو الفرج قد بلغ غاية التصوير والتعبير في كتاب الأغاني لأن موضوعه يلتئم ومزاجه الفني ومسلكه في الحياة ويقع من عقله وفكره وذوقه وعاطفته موقع الرضا والقبول، فإنه كذلك قد بلغ غاية التصوير والتعبير في مقاتل الطالبيين لان موضوعه حبيب إلى نفسه عظيم المكانة من قلبه.
وهذا الكتاب كنز من كنوز الأدب والتاريخ ترجم فيه أبو الفرج لنيف ومائتين من شهداء الطالبيين فأحسن الترجمة وصور بطولتهم تصويرا أخاذا يخلب الألباب ويمتلك المشاعر، وذكر فيه من خطبهم ورسائلهم وأشعارهم ومحاوراتهم، وما قيل فيهم وبسببهم من روائع الشعر والنثر ما لا تجده مجموعا في كتاب سواه إلا إن يكون منقولا عنه أو ملخصا منه. وأوجز ما يقال في وصف مقاتل الطالبيين أنه دائرة معارف لتاريخ الطالبيين وأدبهم في القرون الثلاثة الأولى.
الناقد
شارك أبو الفرج عصره في أكثر النواحي الأدبية والمتتبع يدرك مدى هذا الاشتراك فقد كان إماما من أئمة النقد في الأديب شغف يتتبع الشعراء حتى يعرف مصادرهم كما شغف في الحياة بتتبع الخلفاء ليعرف أسرار حياتهم، وقد تعقب أبا العتاهية وأبا نواس وأبا تمام والبحتري، ولكنه كان يميل إلى الاعتدال في نقده، ويكره الإسراف أما رأيه في قضية القديم والجديد فهو رأي ظاهر فقد كان يجري مجرى الزمن ولا يجمد على حال، فهو يعلم إن لكل عصر أطوارا وإن الشعر ينبغي له إن يتبع هذه الأطوار، من ذلك رأيه في شعر ابن المعتز فالأصبهاني في هذا النوع من النقد، صاحب مذهب فهو من المجددين الذين يرون لكل عصر أحوالا خاصة في الذوق والشعور ورأيه في ذلك رأي أكابر رجال الأدب واللغة أمثال ابن قتيبة وابن فارس.
معاصر له يصفه
وصفه معاصره القاضي التنوخي فقال: كان من الرواة المتسعين الذين شاهدناهم أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني فإنه كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والحديث المسند والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله. وكان شديد الاختصاص بهذه الأشياء ويحفظ دون ما يحفظ منها علوما أخر منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والأشربة وغير ذلك.
مؤلفاته
(1) الأغاني، وعند ما ألفه حمله إلى سيف الدولة الحمداني فأعطاه ألف دينار. (2). مقاتل الطالبيين.
(3) أخبار القيان.
(4) أخبار الطفيليين.
(5) أخبار جحظة البرمكي.
(6) أيام العرب، ألف وسبعمائة يوم.
(7) الإماء الشواعر.
(8) أدب الغرباء.
(9) أدب السماع.
(10) الأخبار والنوادر.
(11) الفرق والمعيار في الأوغاد والأحرار.
(12) المماليك الشعراء.
(13) الغلمان المغنين.
(14) الحانات.
(15) التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وأنسابها.
(16) تفضيل ذي الحجة.
(17) تحف الوسائد في أخبار الولائد.
(18) الخمارين والخمارات.
(19) دعوة التجار.
(20) دعوة الأطباء.
(21) الديارات.
(22) رسالة في الأغاني.
(23) مجرد الأغاني.
(24) مجموع الأخبار والآثار.
(25) مناحيب الخصيان.
(26) كتاب النغم.
(27) نسب المهالبة.
(28) نسب بني عبد شمس.
(29) نسب بني شيبان.
(30) نسب بني كلاب.
(31) نسب بني تغلب.
وقد عنى بديوان أبي تمام فجمعه ورتبه على الأنواع، كما جمع ديوان أبي نواس وديوان البحتري ورتبه على الأنواع كذلك.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 8- ص: 198

أبو الفرج الأصبهاني صاحب الأغاني علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو الفرج الأشبهاني الكاتب العلامة الأخباري صاحب الأغاني. ولد سنة أربع وثمانين ومائتين، وتوفي سنة ست وخمسين وثلاث مائة، كذا قال الشيخ شمس الدين وغيره. وقال ياقوت في معجم الأدباء: ذكر في كتاب أدب الغرباء من تأليفه:
حدثني صديق لي، قال: قرأت على قصر معز الدولة بالشماسية: يقول فلان ابن فلان الهروي: حضرت وفي هذا الموضع في سماط معز الدولة والدنيا عليه مقبلة، وهيبة الملك عليه مشتملة. ثم عدت إليه في سنة اثنتين وستين وثلاث مائة، فرأيت ما يعتبر به اللبيب يعني من الخراب. وذكر موت معز الدولة وولاية ابنه بختيار، وكان ذلك في سنة ست وخمسين وثلاث مائة، انتهى.
قلت: قال كثير من الناس إنه مات في سنة ست وخمسين وثلاث مائة عالمان: أبو علي القالي وصاحب الأغاني، وثلاث ملوك: معز الدولة وكافور وسيف الدولة.
وسمع أبو الفرج من جماعة لا يحصون، وروى عنه الدارقطني وغيره.
استوطن بغداد وكان من أعيان أدبائها، وأفراد مصنفيها، وكان أخباريا نسابة، شاعرا ظاهر التشيع.
قال أبو علي التنوخي: كان يحفظ أبو الفرج من الشعر والأغاني والأخبار والمسندات والأنساب ما لم أر قط من يحفظ مثله. ويحفظ من سوى ذلك من علوم أخر، منها: اللغة والنحو والخرافات والمغازي والسير، وصنف لبني أمية أقاربه ملوك الأندلس تصانيف وسيرها إليهم، وجاءه الإنعام على ذلك. قال الشيخ شمس الدين: رأيت شيخنا ابن تيمية يضعفه ويتهمه في نقله ويستهول ما يأتي به، وما علمت فيه حرجا إلا قول ابن أبي الفوارس: خلط قبل أن يموت. وقد أثنى على كتابه الأغاني جماعة من جلة الأدباء، انتهى.
قال ابن عرس الموصلي: كتب إلي أبو تغلب ابن ناصر الدولة يأمرني بابتياع كتاب الأغاني، فابتعته له بعشرة آلاف درهم، فلما حملته إليه ووقف عليه قال: لقد ظلم وراقه المسكين، وإنه ليساوي عشرة آلاف دينار، ولو فقد ما قدرت عليه الملوك إلا بالرغائب، وأمر أن يكتب له به نسخة أخرى. وأبيعت مسودات الأغاني وأكثرها في ظهور بخط التعليق، فاشتريت لأبي أحمد بن محمد بن حفص بأربعة آلاف درهم. وأهدى أبو الفرج به نسخة لسيف الدولة ابن حمدان فأعطاه ألف دينار. وبلغ ذلك الصاحب ابن عباد فقال: لقد قصر سيف الدولة، وإنه يستأهل أضعافها، ووصف الكتاب وأطنب في وصفه، ثم قال: لقد اشتملت خزانتي على مائتي ألف مجلد وسبعة عشر ألف مجلد ما منها ما هو سميري غيره، ولا راقني منها سواه. ولم يكن كتاب الأغاني يفارق سيف الدولة في سفر ولا حضر. وقال أبو الفرج: جمعته في خمسين سنة، وكتبت به نسخة واحدة وهي التي أهديت لسيف الدولة.
قال ياقوت: كتبت منه نسخة بخطي في عشر مجلدات، وجمعت تراجمه، ونبهت على فوائده، وذكرت السبب الذي من أجله وضع تراجمه. ووجدته يعد بشيء ولا يفي به في غير موضع منه، كقوله في آخر أخبار أبي العتاهية: وقد طالت أخباره ها هنا، وسنذكر أخباره مع عتب في موضع آخر، ولم يفعل. وقال في موضع آخر: أخبار أبي نواس مع جنان، إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت، ولم يتقدم شيء، إلى أشباه ذلك. والأصوات المائة هي تسع وتسعون، وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء، أو يكون النسيان غلب عليه، والله أعلم.
قلت: وقد ذكرت في صدر الكتاب في الديباجية عندما سردت أسماء الكتب المصنفة في التواريخ، جماعة ممن اختار كتاب الأغاني. وكان أبو الفرج من أصحاب الوزير أبي محمد المهلبي الخصيصين به، وكان أبو الفرج وسخا في نفسه ثم في ثوبه قذرا، لم يكن يغسل دراعة يلبسها، ولا تزال عليه إلى أن تبلى. وكان له قط اسمه يقق، مرض ذلك القط بقولنج فحقنه بيده، وخرج ذلك الغائط على يديه، وقد طرق الباب عليه بعض أصحابه الرؤساء، فخرج إليهم وهو بتلك الحال، لم يغسل يديه، واعتذر إليهم بشغله عنهم بأمر القط. وكان يوما على مائدة الوزير أبي محمد المهلبي، فقدمت سكباجة، فوافقت من أبي الفرج سعلة، فبدر من فمه قطعة بلغم وقعت في وسط السكباجة، فقال الوزير: إرفعوها وهاتوا من هذا اللون بعينه في غير هذه الغضارة. ولم يبن عنده ولا في وجهه إنكار، ولا داخل أبا الفرج استحياء ولا انقباض.
وكان الوزير من الصلف على ما حكي عنه، أنه كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وغير ذلك، وقف من الجانب الأيمن غلام معه ثلاثون ملعقة زجاجا مجرودا، فيأخذ ملعقة ويأكل بها لقمة واحدة، وناولها لغلام آخر وقف على يساره، ثم يتناول ملعقة غيرها جديدة ويأكل بها لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى الغلام الذي على يساره حتى لا يدخل الملعقة في فمه مرة أخرى. وكان مع هذا الصلف والظرف والتجنب يصبر على مواكلة أبي الفرج ويحتمله لأدبه ومحادثته. ولما طال الأمر على الوزير، صنع له مائدتين عامة وخاصة، يدعو إلى الخاصة من يريد مواكلته.
وكان أبو الفرج أكولا نهما، فإذا ثقل الطعام على معدته تناول خمسة دراهم فلفلا مدقوقا، ولا يؤذيه ولا تدمع منه عيناه. وكان لا يقدر أن يأكل حمصة واحدة، ولا يأكل طعاما فيه حمص، وإذا أكل شيئا منه سرى بدنه كله، وبعد ساعة أو ساعتين يفصد، وربما فصد لذلك دفعتين. قال: ولم أدع طبيبا حاذقا إلا سألته عن ذلك ولا يخبرني عن السبب، ولا يعلم له دواء. فلما كان قبل فالجه ذهبت عنه العادة في الحمص، فصار يأكله ولا يضره، وبقيت عليه عادة الفلفل.
وكان يوما هو والوزير المهلبي في مجلس شراب، فسكر الوزير ولم يبق أحد من الندماء غير أبي الفرج فقال له: يا أبا الفرج، أنا أعلم أنك تهجوني سرا فاهجني الساعة جهرا. فقال: الله الله أيها الوزير في إن كنت قد مللتني انقطعت، وإن كنت تؤثر قتلي فبالسيف إذا شئت، فقال: لا بد من ذلك، فقال:
#لي أير بلولب فقال الوزير
#في حر أم المهلب هات مصراعا آخر، فقال: الطلاق يلزم الأصفهاني إن زاد على هذا.
وكان أبو القاسم الجهني المحتسب على فضله فاحش الكذب. كان في بعض الأيام في مجلس فيه أبو الفرج، فجرى حديث النعنع وإلى أي حد يطول. فقال الجهني: في البلد الفلاني نعنع يتشجر حتى يعمل من خشبه السلاليم، فاغتاظ أبو الفرج من ذلك وقال: نعم عجائب الدنيا كثيرة، ولا يدفع هذا ولا يستبعد. وعندي ما هو أعجب من هذا وأغرب، وهو زوج حمام راعبي يبيض في كل نيف وعشرين يوما بيضتين فأنتزعهما من تحته، وأضع مكانهما صنجة مائة وصنجة خمسين، فإذا انتهت مدة الحضان تفقست الصنجتان عن طست وإبريق أو سطل وكرنيب. فعم أهل المجلس الضحك، وفطن الجهني وانقبض عن كثير مما كان يحكيه.
ومن تصانيف أبي الفرج: كتاب الأغاني الكبير، كتاب مجرد الأغاني، كتاب التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وأنسابها، كتاب مقاتل الطالبيين، كتاب أخبار الفتيان، كتاب الإماء الشواعر، كتاب المماليك الشعراء، كتاب أدب الغرباء، كتاب الديارات، كتاب تفضيل ذي الحجة، كتاب الأخبار والنوادر، كتاب أدب السماع، كتاب أخبار الطفيليين، كتاب مجموع الأخبار والآراء، كتاب الخمارين والخمارات، كتاب الفرق والمعيار في الأوغاد والأحرار، وهو رسالة عملها في هرون بن المنجم، كتاب دعوة التجار، كتاب أخبار جحظة البرمكي، كتاب جمهرة النسب، كتاب نسب بني عبد شمس، كتاب نسب بني شيبان، كتاب نسب المهالبة، كتاب نسب بني تغلب، كتاب الغلمان المغنين، كتاب مناجيب الخصيان، عمله للوزير المهلبي في خصيين كانا له مغنيين، كتاب الحانات.
ومن شعره، ما كتبه إلى الوزير المهلبي يشكو الفأر ويصف الهر:

ومنه ما قاله في الوزير المهلبي: من الكامل
قلت: وقد مرا في ترجمة أبي الطيب المتنبي، ومنه:
ومنه في المهلبي:

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 21- ص: 0

علي بن الحسين بن محمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو الفرج الأصبهاني العلامة النساب الأخباري الحفظة الجامع بين سعة الرواية والحذق في الدراية: لا أعلم لأحد أحسن من تصانيفه في فنها وحسن استيعاب ما يتصدى لجمعه، وكان مع ذلك شاعرا مجيدا، مات في رابع عشر ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع لله ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين. روى عن أبي بكر ابن دريد وأبي بكر ابن الانباري والفضل بن الحباب الجمحي وعلي بن سليمان الأخفش وإبراهيم نفطويه.
وجدت على الهامش بخط المؤلف تجاه وفاته ما صورته: وفاته هذه فيها نظر وتفتقر إلى تأمل لأنه ذكر في «كتاب أدب الغرباء» من تأليفه: حدثني صديق قال:
قرأت على قصر معز الدولة بالشماسية: يقول فلان بن فلان الهروي: حضرت هذا الموضع في سماط معز الدولة، والدنيا عليه مقبلة وهيبة الملك عليه مشتملة، ثم عدت إليه في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فرأيت ما يعتبر به اللبيب يعني من الخراب.
وذكر في موضع آخر من كتابه هذا قصة له مع صبي كان يحبه ذكرتها بعد هذا يذكر فيها موت معز الدولة وولاية ابنه بختيار، وكان ذلك في سنة ست وخمسين وثلاثمائة ويزعم في تلك الحكاية أنه كان في عصر شبابه، فلا أدري ما هذا الاختلاف. (آخر ما كان على الهامش) .
وقال الوزير أبو القاسم الحسين بن علي المغربي في مقدمة ما انتخبه من كتاب الأغاني الذي ألفه أبو الفرج الأصبهاني إن أبا الفرج أهدى كتاب الأغاني إلى سيف الدولة ابن حمدان فأعطاه ألف دينار، وبلغ ذلك الصاحب أبا القاسم بن عباد فقال: لقد قصر سيف الدولة وإنه يستأهل أضعافها، ووصف الكتاب فأطنب ثم قال: ولقد اشتملت خزائني على مائتين وستة آلاف مجلد ما منها ما هو سميري غيره ولا راقني منها سواه.
قال: وقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة: لم يكن كتاب الأغاني يفارق عضد الدولة في سفره ولا حضره، وانه كان جليسه الذي يأنس إليه وخدينه الذي يرتاح نحوه.
قال: وقال أبو محمد المهلبي: سألت أبا الفرج في كم جمعت هذا الكتاب؟ فقال في خمسين سنة، قال: وانه كتبه مرة واحدة في عمره، وهي النسخة التي أهداها إلى سيف الدولة.
قال المؤلف: ولعمري إن هذا الكتاب لجليل القدر شائع الذكر، جم الفوائد عظيم العلم، جامع بين الجد البحت والهزل النحت، وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به وطالعته مرارا وكتبت منه نسخة بخطي في عشر مجلدات، ونقلت منه إلى كتابي الموسوم ب «أخبار الشعراء» فأكثرت، وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشيء ولا يفي به في غير موضع منه، كقوله في أخبار أبي العتاهية: «وقد طالت أخباره هاهنا وسنذكر خبره مع عتبة في موضع آخر» ولم يفعل. وقال في موضع آخر: «أخبار أبي نواس مع جنان إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت» ولم يتقدم شيء، إلى أشباه لذلك.
والأصوات المائة هي تسع وتسعون، وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء أو يكون النسيان غلب عليه والله أعلم.
قال المؤلف: وتصانيفه كثيرة، وهذا الذي يحضرني منها: كتاب الأغاني الكبير. كتاب مجرد الأغاني. كتاب التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وأنسابها، لم أره وبودي لو رأيته، ذكره هو في كتاب الأغاني. كتاب مقاتل الطالبيين. كتاب أخبار القيان. كتاب الاماء الشواعر. كتاب المماليك الشعراء. كتاب أدب الغرباء.
كتاب الديارات. كتاب تفضيل ذي الحجة. كتاب الأخبار والنوادر. كتاب أدب السماع. كتاب أخبار الطفيليين. كتاب مجموع الأخبار والآثار. كتاب الخمارين والخمارات. كتاب الفرق والمعيار في الأوغاد والأحرار، وهي رسالة عملها في
هارون بن المنجم. كتاب دعوة التجار. كتاب أخبار جحظة البرمكي. كتاب جمهرة النسب. كتاب نسب بني عبد شمس. كتاب نسب بني شيبان. كتاب نسب المهالبة. كتاب نسب بني تغلب. كتاب الغلمان المغنين. كتاب مناجيب الخصيان، عمله للوزير المهلبي في خصيين مغنيين كانا له. وله بعد تصانيف جياد فيما بلغني كان يصنفها ويرسلها إلى المستولين على بلاد المغرب من بني أمية وكانوا يحسنون جائزته لم يعد منها إلى الشرق إلا القليل، والله أعلم.
وحدث الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ في الكتاب الذي ألفه في «أخبار الوزير أبي محمد المهلبي» واسمه الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن زيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وزير معز الدولة بن بويه الديلمي قال: وكان أبو الفرج الأصفهاني صاحب «كتاب الأغاني» من ندماء الوزير أبي محمد الخصيصين به، وكان وسخا قذرا لم يغسل له ثوبا منذ فصله إلى أن قطعه، وكان المهلبي شديد التقشف عظيم التنطس، وكان يحتمل له ذلك لموضعه من العلم. فقال فيه: كان أبو الفرج علي بن الحسين الاصفهاني، وكان أموي النسب، غزير الأدب عالي الرواية حسن الدراية، وله تصنيفات منها «كتاب الأغاني» وقد أورد فيه ما دل به على اتساع علمه وكثرة حفظه، وله شعر جيد، إلا أنه في الهجاء أجود وإن كان في غيره غير متأخر. وكان الناس على ذلك العهد يحذرون لسانه ويتقون هجاءه، ويصبرون في مجالسته ومعاشرته ومواكلته ومشاربته على كل صعب من أمره، لأنه كان وسخا في نفسه ثم في ثوبه وفعله حتى إنه لم يكن ينزع دراعة يقطعها إلا بعد بلائها وتقطيعها، ولا يعرف لشيء من ثيابه غسلا، ولا يطلب منه في مدة بقائه عوضا؛ فحدثني جدي، وسمعت هذا الخبر من غيره، لأنه متفاوض متعاود، أن أبا الفرج كان جالسا في بعض الأيام على مائدة أبي محمد المهلبي، فقدمت سكباجة وافقت من أبي الفرج سعلة، فبدرت من فمه قطعة من بلغم فسقطت وسط الغضارة، فتقدم أبو محمد برفعها وقال: هاتوا من هذا اللون في غير هذه الصحفة ولم يبن في وجهه إنكار ولا استكراه، ولا داخل أبا الفرج في هذه الحال استحياء ولا انقباض؛ هذا إلى ما يجري هذا المجرى على مضي الأيام. وكان
أبو محمد عزوف النفس بعيدا من الصبر على مثل هذه الأسباب، إلا أنه كان يتكلف احتمالها لورودها من أبي الفرج، وكان من ظرفه في فعله ونظافته في مأكله أنه كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وأمثاله وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجا مجرودا، وكان يستعمله كثيرا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قائم من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية، فلما كثر على المهلبي استمرار ما قدمنا ذكره جعل له مائدتين إحداهما كبيرة عامة وأخرى لطيفة خاصة وكان يواكله عليها من يدعوه إليها.
قال مؤلف الكتاب: وقد ذكر مثل هذا عن أبي رياش أحمد بن إبراهيم اللغوي وقد ذكرناه في بابه.
قال هلال: وعلى صنع أبي محمد بأبي الفرج ما كان يصنعه فما خلا من هجوه، قال فيه:

قال ابن الصابئ: وحدثني جدي أيضا قال: قصدت أنا وأبو علي الأنباري وأبو العلاء صاعد دار أبي الفرج لقضاء حقه وتعرف خبره من شيء وجده، وموقعها على دجلة في المكان المتوسط بين درب سليمان ودرب دجلة وملاصقة لدار أبي الفتح البريدي، وصعد بعض غلماننا لإيذانه بحضورنا، فدق الباب دقا عنيفا حتى ضجر من الدق وضجرنا من الصبر، قال: وكان له سنور أبيض يسميه يققا ومن رسمه إذا قرع الباب قارع أن يخرج ويصيح إلى أن يتبعه غلام أبي الفرج لفتح الباب، أو هو نفسه، فلم نر السنور في ذلك اليوم، فأنكرنا الأمر وازددنا تشوقا إلى معرفة الخبر، فلما كان بعد أمد طويل صاح صائح أن «نعم»، ثم خرج أبو الفرج ويده متلوثة بما ظنناه شيئا كان يأكله، فقلنا له: عققناك بأن قطعناك عما كان أهم من قصدنا إياك، فقال: لا
والله يا ساداتي ما كنت على ما تظنون، وإنما لحق يققا- يعني سنوره- قولنج فاحتجت إلى حقنه، فأنا مشغول بذلك، فلما سمعنا قوله ورأينا الفعل في يده ورد علينا أعظم مورد من أمره، لتناهيه في التذارة إلى ما لا غاية بعده، وقلنا: ما يجوز أن نصعد إلى عندك فنعوقك عن استتمام ما أنت فيه، وإنما جئناك لتعرف خبرك، وقد بلغنا ما أردناه، وانصرفنا.
قال: واختاره في كل شيء نديما، وكانت صحبته له قبل الوزارة وبعدها إلى أن فرق بينهما الموت.
وكتب أبو الفرج إلى المهلبي يشكو الفأر ويصف الهر:
وحدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في «كتاب نشوار المحاضرة» قال: ومن طريف أخبار العادات أني كنت أرى أبا الفرج علي بن
الحسين الأصفهاني الكاتب نديم أبي محمد المهلبي صاحب الكتب المصنفة في الأغاني والقيان وغير ذلك دائما إذا ثقل الطعام في معدته، وكان أكولا نهما، يتناول خمسة دراهم فلفلا مدقوقا فلا تؤذيه ولا تدمعه، وأراه يأكل حمصة واحدة أو يصطبغ بمرقة قدر فيها حمص فيشرى بدنه كله من ذلك، وبعد ساعة أو ساعتين يفصد، وربما فصد لذلك دفعتين، وأسأله عن سبب ذلك فلا يكون عنده علم منه. وقال لي غير مرة: إنه لم يدع طبيبا حاذقا على مرور السنين إلا سأله عن سببه فلا يجد عنده علما ولا دواء. فلما كان قبل فالجه بسنوات ذهبت عنه العادة في الحمص فصار يأكله فلا يضره وبقيت عليه عادة الفلفل.
ومن «كتاب الوزراء» لهلال بن المحسن: وحدث أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني قال: سكر الوزير أبو محمد المهلبي ليلة ولم يبق بحضرته من ندمائه غيري فقال لي: يا أبا الفرج، أنا أعلم أنك تهجوني سرا فاهجني الساعة جهرا، فقلت:
الله الله أيها الوزير في، إن كنت قد مللتني انقطعت، وان كنت تؤثر قتلي فبالسيف إذا شئت. قال: دع ذا لا بد أن تهجوني. وكنت قد سكرت فقلت:
أير بغل بلولب
فقال في الحال مجيزا:
في حر ام المهلبي
هات مصراعا آخر، فقلت: الطلاق لازم للأصفهاني إن زاد على هذا وان كان عنده زيادة.
قرأت بخط أبي علي المحسن بن هلال الصابئ صاحب الشامة لأبي الفرج الأصفهاني يهجو أبا الحسن طازاد النصراني الكاتب:
قرأت بخط هلال بن المظفر الكاتب الزنجاني، حدثني الأستاذ أبو المظفر
عبد الغفار بن غنيمة قال: كان أبو الفرج الكاتب الأصبهاني صاحب «كتاب الأغاني» كاتبا لركن الدولة حظيا عنده محتشما لديه، وكان يتوقع من الرئيس أبي الفضل ابن العميد أن يكرمه ويبجله ويتوفر عليه في دخوله وخروجه، وعدم ذلك منه فقال:
وقد روى أبو حيان في «كتاب الوزيرين» من تصنيفه من خبر هذه الأبيات غير هذا وقد ذكرناها في أخبار ابن العميد من هذا الكتاب.
قرأت في بعض المجاميع لأبي الفرج الأصبهاني:
قال ابن عبد الرحيم: حدثني أبو نصر الزجاج قال: كنت جالسا مع أبي الفرج الأصبهاني في دكان في سوق الوراقين، وكان أبو الحسن علي بن يوسف بن البقال الشاعر جالسا عند أبي الفرج ابن الخراز الوراق وهو ينشد أبيات إبراهيم بن العباس الصولي التي يقول فيها:
فلما بلغ إليه استحسنه وكرره، ورآه أبو الفرج فقال لي: قم إليه فقل له قد
أسرفت في استحسان هذا البيت، وهو كذاك، فأين موضع الصنعة فيه؟ فقلت له ذاك، فقال: قوله «وكانت قذى عينيه»، فعدت إليه وعرفته، فقال: عد إليه فقل له: أخطأت، الصنعة في قوله «من حيث يخفى مكانها» .
قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: وقد أصاب كل واحد منهما حاقة الغرض، فإن الموضعين معا غاية في الحسن، وان كان ما ذهب إليه أبو الفرج أحسن.
قال أبو الفرج في «كتاب الغرباء»: وخرجت أنا وأبو الفتح أحمد بن إبراهيم بن علي بن عيسى رحمه الله ماضيين إلى دير الثعالب في يوم ذكر أنه من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة للنزهة، ومشاهدة اجتماع النصارى هناك، والشرب على نهر يزدجرد الذي يجري على باب هذا الدير، ومعه جماعة من أولاد كتاب النصارى من أحداثهم، وإذا بفتاة كأنها الدينار المنقوش تتمايل وتنثني كغصن الريحان في نسيم الشمال، فضربت بيدها إلى يد أبي الفتح وقالت: يا سيدي تعال اقرأ هذا الشعر المكتوب على حائط هذا الشاهد فمضينا معها وبنا من السرور بها وبظرفها وملاحة منطقها ما الله به عليم، فلما دخلنا البيت كشفت عن ذراع كأنه الفضة وأومأت إلى الموضع فإذا فيه مكتوب:
فقلت لها: أنت والله المقصودة بهذه الأبيات، ولم نشك أنها كتبت الأبيات، ولم نفارقها بقية يومنا، وقلت فيها هذه الأبيات وأنشدتها إياها ففرحت:
وحصلت بينها وبين أبي الفتح عشرة بعد ذلك، ثم خرج إلى الشام وتوفي بها ولا أعرف لها خبرا بعد ذلك.
قال أبو الفرج: وكنت انحدرت إلى البصرة منذ سنيات، فلما وردتها صعدت من الفيض إلى سكة قريش أطلب منزلا أسكنه لأني كنت غريبا لا أعرف أحدا من أهلها إلا من كنت أسمع بذكره، فدلني رجل على خان فصرت إليه واستأجرت فيه بيتا، وأقمت بالبصرة أياما، ثم خرجت عنها طالبا حصن مهدي، وكتبت هذه الأبيات على حائط البيت الذي أسكنه:
قال أبو الفرج: وكنت في أيام الشبيبة والصبا آلف فتى من أولاد الجند في السنة التي توفي فيها معز الدولة وولي بختيار، وكانت لأبيه حال كبيرة ومنزلة من الدولة ورتبة، وكان الفتى في نهاية حسن الوجه وسلاسة الخلق وكرم الطبع ممن يحب الأدب ويميل إلى أهله، ولم يترك قريحته حتى عرف صدرا من العلم وجمع خزانة من الكتب حسنة، فمضت لي معه سير لو حفظت لكانت في كتاب مفرد من مكاتبات ومعاتبات وغير ذلك مما يطول شرحه؛ منها ما يشبه ما نحن فيه أنني جئته يوم جمعة غدوة فوجدته قد ركب إلى الحلبة، وكانت عادته أن يركب إليها في كل يوم ثلاثاء ويوم جمعة، فجلست على دكة على باب دار أبيه في موضع فسيح كان عمرها وفرشها، فكنا نجلس عليها للمحادثة إلى ارتفاع النهار ثم ندخل إذا أقمت عنده إلى حجرة لطيفة كانت مفردة له لنجتمع على الشراب والشطرنج وما أشبههما، فطال جلوسي في ذلك اليوم منتظرا له فأبطأ، وتصبح من أجل رهان كان بين فرسين لبختيار، فعرض لي لقاء صديق فقمت لأمضي ثم أعود إليه، فهجس لي أن كتبت على الحائط الذي كنا نستند إليه هذه الأبيات:
وقمت، فلما عاد قرأ الأبيات وغضب من فعلي لئلا يقف عليه من يحتشمه، وكان شديد الكتمان لما بيني وبينه ومطالبا بمثل ذلك، مراقبة لأبيه، إلا أن ظرفه ووكيد محبته لي وميله إلي لم يدعه حتى أجاب عنها بما كتب تحتها، ورجعت من ساعتي فوجدته في دار أبيه، فاستأذنت عليه، فخرج إلي خادم لهم فقال: يقول لك لا التقينا حتى تقف على الجواب عن الأبيات فانه تحتها، فصعدت الدكة فإذا تحت الأبيات
بخطه: ما هذه الشناعة، ومن فسح لك في هذه الإذاعة، وما أوجب خروجك عن الطاعة؟! ولكن أنا جنيت على نفسي وعليك، ملكتك فطغيت، وأطعتك فتعديت، وما أحتشم أن أقول: هذا تعرض للاعراض عنك والسلام. فعلمت أنني قد أخطأت، وسقطت- شهد الله- قوتي وحركتي فأخذتني الندامة والحيرة، ثم أذن لي فدخلت فقبلت يده، فمنعني، وقلت: يا سيدي غلطة غلطتها وهفوة هفوتها فإن لم تتجاوز عنها وتعف هلكت، فقال لي: أنت في أوسع العذر بعد أن لا يكون لها أخت، وعاتبني على ذلك عتابا عرفت صحته، ولم تمض إلا مديدة حتى قبض على أبيه، وهرب، فاحتاج إلى الاستتار، فلم يأنس هو وأهله إلا بكونه عندي، فأنا على غفلة إذ دخل في خف وإزار، وكادت مرارتي تنفطر فرحا، فتلقيته أقبل رجليه وهو يضحك ويقول: يأتيها رزقها وهي نائمة، هذا يا حبيبي بخت من لا يصوم ولا يصلي في الحقيقة، وكان أخف الناس روحا وأمتعهم لنادرة، وبتنا في تلك الليلة عروسين لا نعقل سكرا، واصطبحنا وقلت هذه الأبيات:
ولم يزل مقيما عندي نحو الشهر حتى استقام أمر أبيه ثم عاد إلى داره.
وحدث الحسن بن الحسين النعال قال، قال أبو الفرج الأصبهاني: بلغ أبا الحسن جحظة أن مدرك بن محمد الشيباني الشاعر ذكره بسوء في مجلس كنت حاضره فكتب إلي:
قال أبو الفرج: فكتبت إليه:
قال غرس النعمة: حدثني أبي قال، حدثني جدي قال: كان أبو القاسم الجهني القاضي- وأظنه من أهل البصرة وتقلد الحسبة بها ومنها عرف أبا محمد المهلبي وصحبه- يشتمل على آداب يتميز بها، إلا أنه كان فاحش الكذب، يورد من الحكايات ما لا يعلق بقبول ولا يدخل في معقول، وكان أبو محمد قد ألف ذلك منه، وقد سلك مسلك الاحتمال، وكنا لا نخلو عند حديثه من التعجب والاستطراف والاستبعاد، وكان ذلك لا يزيده إلا إغراقا في قوله وتماديا في فعله. فلما كان في بعض الأيام جرى حديث النعنع وإلى أي حد يطول، فقال الجهني: في البلد الفلاني نعنع يتشجر حتى يعمل من خشبه السلاليم، فاغتاظ أبو الفرج الأصبهاني من ذاك وقال: نعم عجائب الدنيا كثيرة، ولا يدفع مثل هذا، وليس بمستبدع، وعندي ما هو أعجب من هذا وأغرب، وهو زوج حمام راعبي يبيض في نيف وعشرين يوما بيضتين، فأنتزعهما من تحته وأضع مكانهما صنجة مائة وصنجة خمسين، فإذا انتهى مدة الحضان تفقست الصنجتان عن طست وإبريق أو سطل وكرنيب، فعمنا الضحك، وفطن الجهني لما قصده أبو الفرج من الطنز، وانقبض عن كثير مما كان يحكيه ويتسمح فيه، وإن لم يخل في الأيام من الشيء بعد الشيء منه.
ومن عجيب ما مر بي من الكذب حكاية أوردها غرس النعمة عقيب هذه، قال:
كان لوالدي تاجر يعرف بأبي طالب وكان معروفا بالكذب، فأذكر وقد حكى في مجلسه، والناس حضور عنده، أنه كان في معسكر محمود بن سبكتكين صاحب خراسان ببخارى معه، وقد جاء من البرد أمر عظيم جمد منه المري حتى قد وفري وعملت منه خفاف، وأن الناس كانوا ينزلون في المعسكر فلا يسمع لهم صوت ولا حديث ولا حركة حتى ضرب الطبل في أوقات الصلوات، فإذا أصبح الناس وطلعت
الشمس وحميت ذاب ذلك الكلام، فسمعت الأصوات الجامدة منذ أمس من أصوات الطبول والبوقات وحديث الناس وصهيل الخيل ونهيق الحمير ورغاء الابل.
قرأت على ظهر جزء من نسخة بكتاب الأغاني لأبي الفرج: حدث ابن عرس الموصلي- وكان المترسل بين عز الدولة وبين أبي تغلب ابن ناصر الدولة، وكان يخلف أبا تغلب بالحضرة- قال: كتب إلي أبو تغلب يأمرني بابتياع «كتاب الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، فابتعته له بعشرة آلاف درهم من صرف ثمانية عشر درهما بدينار، فلما حملته إليه ووقف عليه ورأى عظمه وجلالة ما حوى قال: لقد ظلم وراقه المسكين، وإنه ليساوي عندي عشرة آلاف دينار، ولو فقد لما قدرت عليه الملوك إلا بالرغائب، وأمر أن تكتب له نسخة أخرى ويخلد عليها اسمه، فابتدئ بذلك، فما أدري أتمت النسخة أم لا.
قال أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد: اتصل بي أن مسودة «كتاب الأغاني» - وهي أصل أبي الفرج- أخرجت الى سوق الوراقين لتباع، فأنفذت إلى ابن قرابة وسألته إنفاذ صاحبها لأبتاعها منه لي، فجاءني وعرفني أنها بيعت في النداء بأربعة آلاف درهم، وأن أكثرها في ظهور وبخط التعليق، وأنها اشتريت لأبي أحمد ابن محمد بن حفص، فراسلت أبا أحمد فأنكر أنه يعرف شيئا من هذا، فبحثت كل البحث فما قدرت عليها.
كان الراضي بالله في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة قد ولى أبا عبد الله البريدي- وكان قد خرج عليه بنواحي البصرة- الوزارة، فتحدث الناس أن الراضي إنما قصد بتقليد أبي عبد الله الوزارة طمعا في إيقاع الحيلة عليه في تحصيله، فقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني في ذلك قصيدة طويلة تزيد على مائة بيت يهجو فيها أبا عبد الله ويؤنب الراضي في توليته وطمعه فيه، أولها:
يقول فيها:
وانتهت هذه القصيدة إلى أبي عبد الله البريدي، فلما بلغ الى البيت الأخير ضحك وضرب بيديه ورجليه وقال: لو عرف أبو الفرج ما في نفسي وأزال الوحشة وصار إلي لبالغت في صلته والإفضال عليه من أجل هذا البيت.
قال الحميدي: وقد ذكر صاحب «كتاب النشوار» أبو علي المحسن بن علي القاضي أنه حضر مجلس أبي الفرج الأصبهاني صاحب «كتاب الأغاني» فتذاكروا موت الفجاءة، فقال أبو الفرج: أخبرني شيوخنا أن جميع أحوال العالم قد اعترت من مات فجاءة إلا أنني لم أسمع من مات على منبر؛ قال أبو علي المحسن: وكان معنا في مجلس أبي الفرج شيخ أندلسي قدم من هناك لطلب العلم ولزم أبا الفرج يقال له أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ، وكنت أرى أبا الفرج يعظمه ويكرمه ويذكر ثقته، فأخبرنا أبو زكريا أنه شاهد في مسجد الجامع ببلدة من الأندلس خطيب البلد وقد صعد يوم الجمعة ليخطب فلما بلغ يسيرا من خطبته خر ميتا فوق المنبر حتى أنزل به، وطلب في الحال من رقي المنبر فخطب وصلى الجمعة بنا. إلا أن أبا علي قلب نسبة أبي زكريا فقال: يحيى بن عائذ بن مالك الأندلسي، والصواب ما قلنا.
قال الثعالبي: ومن قوله في المهلبي:
وقوله من قصيدة يهنئه بمولود من سرية رومية:
وأنشد له فيه عيدية:
وله فيه يهنئه بابلاله من مرض:
وله:
وله في القاضي الايذجي وكان التمس منه عكازة فلم يعطه إياها:
وله من قصيدة يستميح المهلبي:

  • دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 4- ص: 1707

صاحب الأغاني العلامة الأخباري، أبو الفرج، علي بن الحسين بن محمد القرشي الأموي الأصبهاني الكاتب، مصنف كتاب ’’الأغاني’’، يذكر أنه من ذرية الخليفة هشام بن عبد الملك. قاله محمد بن إسحاق النديم، بل الصواب أنه من ولد مروان الحمار.
كان بحرا في نقل الآداب.
سمع مطينا، ومحمد بن جعفر القتات، وعلي بن العباس البجلي، وأبا الحسين بن أبي الأحوص، وأبا بكر بن دريد، وجحظة، ونفطويه، وخلائق.
وجده محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله ابن الخليفة مروان الحمار.
حدث عنه: الدارقطني، وإبراهيم بن أحمد الطبري، وأبو الفتح بن أبي الفوارس، وعلي بن أحمد بن داود الرزاز، وآخرون.
وكان بصيرا بالأنساب وأيام العرب، جيد الشعر.
قال أبو علي التنوخي: كان أبو الفرج يحفظ من الشعر والأخبار والأغاني والمسندات والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله، ويحفظ اللغة والنحو والمغازي، وله تصانيف عديدة، بعثها إلى صاحب الأندلس الأموي سرا، وجاءه الإنعام، وله: ’’نسب عبد شمس’’، و’’نسب بني شيبان’’، و’’نسب آل الملهب’’، جمعه للوزير الملهبي، وكان ملازمه، وله ’’مقاتل الطالبين’’، وكتاب ’’أيام العرب’’ في خمسة أسفار.
والعجب أنه أموي شيعي.
قال ابن أبي الفوارس: خلط قبل موته.
قلت: لا بأس به.
وكان وسخا زريا يتقون هجاءه.
وله حكاية مع الجهني المحتسب: كان يجازف، فقال مرة: بالبلد الفلاني نعنع يطول حتى يعمل منه سلالم، فبدر أبو الفرج وقال: عجائب الدنيا ألوان، والقدرة صالحة، فعندنا ما هو أعجب من ذا، زوج حمام يبيض بيضتين، فنأخذهما ونضع بدلهما سنجتين نحاسا، فتفقس عن طست ومسينه، فتضاحكوا، وخجل الجهني.
مات في ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاث مائة، وله اثنتان وسبعون سنة.
ركن الدولة، والخيام، والذهلي:

  • دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 12- ص: 256

أبو الفرج الأصبهاني
علي بن الحسين بن مروان بن الحكم. م سنة 356 هـ صاحب كتاب الأغاني العلامة النسابة الأخباري الحفظة.
قال ياقوت: لم أره وبودي لو رأيته.
وقال الذهبي: ومن العجائب أنه مرواني يتشيع.
1 - كتاب جمهرة النسب.
2 - كتاب نسب بني عبد شمس.
3 - كتاب نسب بني شيبان.
4 - كتاب نسب المهالبة. لكونه كان منقطعاً إلى الوزير المهلبي.
5 - كتاب نسب بني تغلب.
6 - التعديل والانتصاف في مآثر العرب وأمثالها.
7 - نسب بني كلاب.
8 - مقاتل الطالبيين. مطبوع.

  • دار الرشد، الرياض-ط 1( 1987) , ج: 1- ص: 85