أبو تراب النخشبي عسكر بن الحصين (أو ابن محمد بن الحسين) النخشبي، ابو تراب: شيخ عصره في الزهد والتصوف. اشتهر بكنيته حتى لا يكاد يعرف الا بها. وهو من أهل (نخشب) من بلاد ما وراء النهر، قال المناوي: عربت فقيل لها نسف. كتب كثيرا من الحديث. وأخذ عنه الامام أحمد بن حنبل وآخرون. قال ابن الجلاء: لقيت ستمائة شيخ، ما رأيت فيهم مثل اربعة أولهم ابو تراب. وقف 55 وقفة بعرفة. ومات بالبادية، قيل: نهشته السباع.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 4- ص: 233
أبو تراب الزاهد اسمه عسكر بن الحصين.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 10- ص: 0
عسكر أبو تراب اليخشبي الزاهد عسكر بن الحصين أبو تراب، الزاهد من كبار مشايخ الطريق، ويخشب - بالياء آخر الحروف، والخاء المعجمة، والشين المعجمة، والباء الموحدة - هي نسف بلد من نواحي بلخ، صحب حاتما الأصم وغيره، وكان صاحب أحوال وكرامات، قال: إذا رأيت الصوفي قد سافر بالاركوة فاعلم أنه قد ترك الصلاة، وكان كثير الحج، فانقطع ببادية الحجاز، فنهشته السباع سنة خمس وأربعين ومائتين.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 20- ص: 0
النخشبي الإمام القدوة، شيخ الطائفة، أبو تراب عسكر بن الحصين النخشبي، ومدينة نخشب من نواحي بلخ تسمى أيضا نسف.
صحب حاتما الأصم. وحدث عن نعيم بن حماد، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وغيرهما.
حدث عنه: الفتح بن شخرف، ورفيقه؛ أبو بكر بن أبي عاصم، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، ويوسف بن الحسين الرازي، وأحمد بن الجلاء، وطائفة.
وكتب العلم، وتفقه، ثم تأله وتعبد، وساح وتجرد.
وسئل عن صفة العارف، قال: الذي لا يكدره شيء، ويصفو به كل شيء.
وعنه قال: إذا رأيت الصوفي قد سافر بلا ركوة، فاعلم أنه قد عزم على ترك الصلاة.
وعنه: ثلاث من مناقب الإيمان الاستعداد للموت، والرضى بالكفاف، والتفويض إلى الله.
وثلاث من مناقب الكفر: طول الغفلة عن الله، والطيرة، والحسد.
وعن يوسف بن الحسين، قال: كنا بمكة، فقال أبو تراب: أحتاج إلى دراهم، فإذا رجل قد صب في حجره كيس دراهم، فجعل يفرقها على من حوله، وكان فيهم فقير يتراءى له ليعطيه، فنفذت، ولم يعطه وبقيت أنا وهو والشيخ، فقال له: تراءيت لك غير مرة، فقال: أنت لا تعرف المعطي.
قال ابن الجلاء: لقيت ألفي شيخ، ما لقيت مثل أبي تراب، وآخر.
مات أبو تراب: بطريق الحج، انقطع، فنهشته السباع، في سنة خمس وأربعين ومائتين.
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 9- ص: 425
أبو تراب النخشبي ومنهم أبو تراب النخشبي كان أحد أعلام المتوكلين وإمام المتجردين تأدب بحاتم الأصم وعلي الرازي المذبوح له الرياضات المشهورة والسياحات المذكورة دخل أصبهان وسمع من عبد الله بن محمد بن زكريا، ومحمد بن عبد الله بن مصعب، وصحبه جدي محمد بن يوسف بمكة وبالحجاز مدة مديدة وكذلك صحبه أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل بالبادية
حدثنا أبو محمد بن حيان قال: سمعت عبد الرزاق، ابني يحكي عن أبي عبد الله محمد بن أحمد الكسائي المقرئ قال: ’’كنت جالسا عند ابن أبي عاصم وعنده قوم فقال له رجل: أيها العاصي بلغنا أن ثلاثة نفر كانوا بالبادية يقلبون الرمل فقال أحدهم: اللهم إنك قادر على أن تطعمنا خبيصا على لون هذا الرمل فإذا هم بأعرابي بيده طبق فسلم عليهم ووضع بين أيديهم طبقا عليه خبيص حار فقال ابن أبي عاصم: قد كان ذاك، قال أبو عبد الله: وكان الثلاثة عثمان بن صخر الزاهد أستاذ أبي تراب، وأبو تراب، وأحمد بن عمرو بن أبي عاصم وكان هو الذي دعا’’
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، ثنا أبو تراب قال: قال حاتم، عن شقيق، ’’ لو أن رجلا عاش مائتي سنة لا يعرف هذه الأربعة أشياء لم ينج من النار إن شاء الله أحدها معرفة الله والثاني معرفة نفسه والثالث معرفة أمر الله ونهيه والرابع معرفة عدو الله وعدو نفسه، وتفسير معرفة الله أن تعرف بقلبك أن لا معطي غيره، ولا مانع غيره ولا نافع غيره ولا ضار غيره وأما معرفة النفس فأن تعرف نفسك أنك لا تضر ولا تنفع ولا تستطيع شيئا من الأشياء، وخلاف النفس أن تكون متضرعا إليه، وأما معرفة أمر الله ونهيه فأن تعلم أمر الله عليك وأن رزقك على الله وأن تكون واثقا بالرزق مخلصا في العمل، وعلامة الإخلاص ألا يكون فيك خصلتان: الطمع والثناء، وأما معرفة عدو الله فأن تعلم أن عدوا لك لا يقبل الله منك شيئا إلا بمحاربته والمحاربة في القلب أن يكون محاربا مجاهدا نافيا للعدو’’
حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا عبد الله بن محمد قال: قال أبو تراب: سمعت محمد بن شقيق بن إبراهيم، وحاتما الأصم يقولان: ’’كان لشقيق وصيتان إذا جاء رجل يوصيه بالعربية ويقول: توحد الله بقلبك ولسانك وسعيك وأن تكون بالله أوثق مما في يديك، والثالث أن ترضى عن الله، وإذا جاءه أعجمي قال له: بني احفظ مني خصالا، أول خصلة أن تحفظ الحق، ولا يكون الحق حقا إلا بالإجماع فإذا اجتمع الناس فقالوا إن هذا الحق، تعمل ذلك الحق برؤية الثواب مع الإياس من الخلق ولا يكون الباطل باطلا إلا بالإجماع فإذا اجتمعوا وقالوا إن هذا باطل تركت هذا الباطل خوفا من الله مع الإياس من المخلوقين فإذا كنت لا تعلم هذا الشيء، حق أو باطل، فينبغي لك أن تقف حتى تعلم فإنه حرام عليك دخوله إلا أن يكون معك بيان ذلك الشيء وعلمه’’
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت جدي، إسماعيل بن عبيد يقول: كان أبو تراب إذا سمع من، أصحابه ما يكره زاد في اجتهاده ويجدد توبة ويقول: ’’بشرى دفعوا إلى ما دفعوا لأن الله تعالى يقول: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11] وكان يقول لأصحابه: من لبس منكم مرقعة فقد سأل ومن قعد في الخانقاه أو في المسجد فقد سأل ومن قرأ القرآن في المصحف أو كيما يسمع الناس فقد سأل’’
حدثنا أبو محمد بن حبان، ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، ثنا أبو تراب، ثنا أحمد بن نصر النيسابوري، عن أبي غسان الكوفي، ثنا مسلمة بن جعفر قال: قال وهب بن منبه: ’’ثلاث من العلم: ورع يحجزه عن معاصي الله، وخلق، يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجاهل، وثلاث من كن فيه أصاب البر: سخاوة النفس والصبر على الأذى وطيب الكلام، وثلاث من مناقب الإيمان: الاستعداد للموت والرضا بالكفاف والتفويض إلى الله في حالات الدنيا، وثلاث من مناقب الكفر: الغفلة عن الله، والطيرة، والحسد، وللحاسد ثلاث علامات: يتملق إذا شهد ويغتاب إذا غاب ويشمت بالمصيبة’’
حدثنا محمد بن الحسين قال: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول: لقيت ستمائة شيخ ما رأيت فيهم مثل أربعة: أولهم أبو تراب، وحكى ابن الجلاء عن أبي تراب أنه قال: ’’لا بد للأستاذ من أربعة أشياء: تمييز فعل الله عن فعل الخلق، ومعرفة مقامات العمال ومعرفة الطبائع والنفوس وتمييز الخلاف من الاختلاف’’
سمعت محمد بن الحسن بن موسى يقول: سمعت أبا العباس محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت أبا عبد الله الفارسي يقول: سمعت أبا الحسن الرازي يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت أبا تراب يقول: ’’ما تمنت علي نفسي قط إلا مرة تمنت علي خبزا وبيضا وأنا في سفر فعدلت من الطريق إلى قرية فلما دخلتها وثب إلي رجل فتعلق بي وقال: إن هذا كان مع اللصوص فبطحوني وضربوني سبعين جلدة فوقف علينا رجل فصرخ: هذا أبو تراب، فأقاموني واعتذروا إلي وأدخلني الرجل منزله وقدم إلي خبزا وبيضا فقلت: كلها بعد سبعين جلدة’’
سمعت أحمد بن إسحاق يقول: سمعت أبا بكر بن أبي عاصم يقول: سمعت أبا تراب الزاهد يقول: سمعت حاتما الأصم يقول: عن شقيق قال: «اصحب الناس كما تصحب النار خذ منفعتها واحذر أن تحرقك»
سمعت أحمد بن أبي عمران الهروي يقول: سمعت إسماعيل بن نجيد يقول: كان أبو تراب يقول: «بيني وبين الله عهد ألا أمد يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه»
سمعت أبا سعيد القلانسي يقول: سمعت الرقي يقول: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول: كان أبو تراب يقول: لا أعلم شيئا أضر على المريدين من أسفارهم على متابعة قلوبهم ونفوسهم وما فسد من فسد من المريدين إلا بالأسفار الباطلة’’
سمعت محمد بن الحسين بن موسى يقول: سمعت أبا الحسين القزويني يقول: سمعت علي بن عبدك، يقول: سمعت أبا عمران الطبرستاني يقول: سمعت ابن الفرحي يقول: «رأيت حول أبي تراب من أصحابه مائة وعشرين ركوة قعودا حول الأساطين ما مات أحد منهم على الفقر إلا ابن الجلاء وأبو عبيد السري»
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا قال: سمعت أبا تراب يقول: قال حاتم الأصم: ’’أنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء: إلى المعرفة وإلى الثقة، وإلى التوكل فأما معرفة القضاء فأن تعلم أن القضاء عدل منه فلا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تتهم أو تسخط ولكن ينبغي لك أن ترضى وتصبر، وأما الثقة فالإياس من المخلوقين، وعلامة الإياس من المخلوقين أن ترفع القضاء منهم، وإذا رفعت القضاء منهم فقد استرحت منهم واستراحوا منك وإذا لم ترفع القضاء منهم فإنه لا بد لك أن تزين لهم وتصنع لهم، فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم ووقعوا في أمر عظيم وتضع عليهم الموت فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم وأما التوكل فطمأنينة القلب لموعود الله فإذا كنت مطمئنا بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبدا’’
حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا عبد الله بن محمد قال: سمعت أبا تراب يقول: قال حاتم الأصم: ’’لا أدري أيهما أشد على الناس العجب أو الرياء، العجب داخل فيك والرياء يدخل عليك، العجب أشد عليك من الرياء ومثلهما أن يكون كلبك في البيت كلب عقور وكلب آخر خارج البيت فأيهما أشد عليك الداخل معك أو الخارج؟ أما الداخل فهو العجب وأما الخارج فهو الرياء، وقال حاتم: الحزن على وجهين حزن لك وحزن عليك فأما الحزن الذي عليك فكل شيء فاتك من الدنيا فتحزن عليه فهذا عليك، وكل شيء فاتك من الآخرة فتحزن عليه فهو لك، وتفسيره إذا كان عندك درهمان فسقط منك درهم حزنت عليه فهذا حزن الدنيا وإذا خرجت منك زلة أو غيبة أو حسد أو شيء فما تحزن عليه وتندم فهو لك’’
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا عثمان الآدمي يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: حدثني أخ، لي كان يصحب أبا تراب نظر إلى صوفي مد يده إلى قشور البطيخ فقال: «إنك لا يصلح لك التصوف الزم السوق»
سمعت أبا الفضل أحمد بن موسى الصارم ومحمد بن الحسين يقولان: سمعنا منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروزباري يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: سمعت أبا تراب النخشبي يقول: «إذا ألفت القلوب الأعراض صحبتها الوقيعة في الأولياء»
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول وحكى عن أبي عبد الله بن الجلاء قال: دخل أبو تراب مكة فرأيته طيب النفس فقلت له: أين أكلت أيها الأستاذ؟ فقال: «جئت بفضولك أكلت أكلة بالبصرة وأكلة بالنباج وأكلة هاهنا» وقال أبو عمرو الإصطخري: رأيت أبا تراب ميتا بالبادية قائما منتصبا لا يمسكه شيء
سمعت محمد بن الحسن يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا عثمان الآدمي يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: «مات أبو تراب بين مكة والمدينة نهشته السباع»
سمعت أبي يقول: حكي لي عن أبي عبد الله بن الجلاء قال: سمعت أبا تراب قال: قال حاتم الأصم: ’’مثل الدنيا كمثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع قال: وقال حاتم: ما من صباح إلا ويقول لي الشيطان: ما تأكل؟ ما تلبس؟ أين تسكن؟ فأقول له: آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر، وقال حاتم: قال شقيق بن إبراهيم يوما لرجل: أيهما أحب إليك: أن يكون لك على الملي أو يكون للملي عليك؟ فقال: بل يكون لي على الملي، قال: إذا كنت في الشر فأجرك على الله، وإذا كنت في النعمة يكون الشكر لله عليك، وقال أبو تراب: إذا رأيت القارئ منبسطا إلى الغلمان والأغنياء فاعلم أنه مخادع، وقال أبو حاتم: اصرف أربعة أشياء إلى أربعة مواضع وخذ الجنة: النوم إلى القبر، والراحة إلى الصراط، والفخر إلى الميزان، والشهوات إلى الجنة’’
حدثنا أحمد بن إسحاق، ثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم قال: سمعت أبا تراب يقول: سمعت حاتما يقول: «لي أربعة نسوة وتسعة من الأولاد ما طمع الشيطان أن يوسوس إلي في شيء من أرزاقهم»
حدثنا محمد بن الحسين قال: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر بن تركان يقول: سمعت يعقوب بن الوليد يقول: سمعت أبا تراب يقول: ’’يا أيها الناس أنتم تحبون ثلاثة وليس هي لكم: تحبون النفس وهي لله وتحبون الروح والروح لله وتحبون المال والمال للورثة وتطلبون اثنين ولا تجدونهما الفرح والراحة وهما في الجنة’’
أخبرني عبد السلام بن محمد المخرمي قال: سمعت ابن أبي شيخ يقول: سمعت علي بن حسن التميمي يقول: سمعت أبا تراب، وقال، له رجل: ألك حاجة؟ فقال: ’’يوم يكون لي إليك وإلى أمثالك حاجة لا يكون لي إلى الله حاجة، وقال أبو تراب: حقيقة الغنى أن تستغني عمن هو مثلك وحقيقة الفقر أن تفتقر إلى من هو مثلك وإذا صدق العبد في العمل وجد حلاوته قبل أن يعمله وإذا أخلص فيه وجد حلاوته قبل مباشرته العمل، وقال: من شغل مشغولا بالله عن الله أدركه المقت من ساعته’’
ومما أسند حدثنا أحمد بن إسحاق، ثنا محمد بن عبد الله بن مصعب، ثنا أبو تراب عسكر بن محمد الزاهد، ثنا محمد بن ثابت، عن شريك، عن عبد الله، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن ربهم يطعمهم ويسقيهم»
حدثنا محمد بن إسماعيل الوراق، ثنا عبد الصمد بن علي بن مكرم، حدثني أحمد بن سليمان بن المبارك، ثنا أبو تراب الزاهد البلخي، ثنا واصل بن إبراهيم، ثنا أبو حمزة، عن رقبة، عن سلمة بن كهيل، عن جندب بن سفيان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يسمع يسمع الله به ومن يرائي يرائي الله به»
دار الكتاب العربي - بيروت-ط 0( 1985) , ج: 10- ص: 45
السعادة -ط 1( 1974) , ج: 10- ص: 45
أبو تراب ومنهم أبو تراب عسكر بن الحصين، وقيل ابن محمد بن الحصيني النخشبي صاحب حاتم الأصم، ولقي أبا حمزة العطار البصري، معروف بالتوكل والسياحة والفتوة توفي بالبادية ونهشته السباع سنة خمس وأربعين ومائتين، صحبه أبو بكر بن أبي عاصم النبيل، وأبو عبد الله بن الجلاء، وأبو عبيدة البسري
سمعت أبا عبد الله أحمد بن إسحاق يقول: سمعت أبا بكر أحمد بن أبي عاصم يقول: سمعت أبا تراب الزاهد يقول: سمعت حاتما الأصم، يقول: عن شقيق قال: «اصحب الناس كما تصحب النار خذ منفعتها واحذر أن تحرقك»
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا قال: سمعت أبا تراب الزاهد، يقول: قال حاتم الأصم: ’’الزهد اسم والزاهد الرجل وللزاهد ثلاث شرائع أولها الصبر بالمعرفة، والاستقامة على التوكل، والرضا بالقضاء، وأما تفسير الصبر بالمعرفة فإذا نزلت الشدة أن تعلم بقلبك أن الله يراك على حالك وتصبر وتحتسب وتعرف ثواب ذلك الصبر، ومعرفة ثواب الصبر أن تكون مستوطن النفس في ذلك الصبر وتعلم أن لكل شيء وقتا، والوقت على وجهين إما يجيء بالفرج وإما يجيء بالموت فإذا كان هذان الشيئان عندك فأنت حينئذ عارف صابر، وأما الاستقامة على التوكل فالتوكل إقرار باللسان وتصديق بالقلب فإذا كان مقرا مصدقا أنه رازق لا شك فيه فإنه مستقيم، والاستقامة على معنيين: أن تعلم أن ما لك لا يفوتك فتكون واثقا ساكنا، وما لغيرك لا تناله فلا تطمع فيه، وعلامة صدق هذا اشتغاله بالمفروض، وأما الرضا بالقضاء فالقضاء ينزل على وجهين: قضاء تهواه فيجب عليك الشكر والحمد لله، وأما القضاء الذي لا تهواه فيجب عليك أن ترضى وتصبر’’
سمعت والدي، يقول: سمعت أبا عبد الله بن الجلاء، بمكة يقول: ’’لقيت زيادة على خمسمائة شيخ ما لقيت مثل أربعة أولهم أبو تراب النخشبي توفي بالبادية فأكلته السباع، قال: وكان أبو تراب يقول لأصحابه: أنتم تحبون ثلاثة أشياء وليست لكم: تحبون النفس وهي لله وتحبون الروح والروح لله وتحبون المال والمال للورثة، وتحبون اثنين ولا تجدونهما: الفرح والراحة وهما في الجنة’’
حدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا أبو بكر بن أبي عاصم، ثنا عسكر بن الحصين السائح قال: رئي إبراهيم بن أدهم في يوم صائف وعليه جبة فرو مقلوبة في أصل ميل مستلقيا رافعا رجليه يقول: «طلب الملوك الراحة فأخطئوا الطريق»
سمعت أبا القاسم عبد السلام بن محمد البغدادي، بمكة يقول: قال رجل لأبي تراب يوما: ألك حاجة؟ فقال: ’’يوم يكون لي إليك حاجة وإلى أمثالك لا يكون لي إلى الله حاجة، وقال: الذي منع الصادقين الشكوى إلى غير الله الخوف من الله، وقال: حقيقة الغنى أن تستغني عمن هو مثلك وحقيقة الفقر أن تفتقر إلى من هو مثلك’’
سمعت أحمد بن إسحاق، يقول: ثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم قال: سمعت أبا تراب، يقول: سمعت حاتما، يقول: «لي أربع نسوة وتسعة من الأولاد ما طمع شيطان أن يوسوس إلي في شيء من أرزاقهم»
حدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، ثنا أبو تراب عسكر بن الحصين قال: جاء رجل إلى حاتم الأصم فقال: يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد؟ فقال: «رأس الزهد الثقة بالله، ووسطه الصبر وآخره الإخلاص» أسند أبو تراب غير حديث
حدثنا أحمد بن إسحاق، ثنا محمد بن عبد الله بن مصعب، ثنا أبو تراب الزاهد، عسكر بن الحصين، ثنا محمد بن نمير، ثنا محمد بن ثابت، عن شريك بن عبد الله، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن ربهم يطعمهم ويسقيهم»
حدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، ثنا أبو تراب، ثنا نعيم بن حماد المصري، ومعاذ بن أسد قالا عن الفضل بن موسى السياني، عن الحسين بن واقد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن لي قرصة بيضاء ملبكة بالسمن واللبن» فقام رجل فجاء به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «في أي شيء كان؟» فقال: في عكة ضب، فلم يأكله النبي صلى الله عليه وسلم’’
حدثنا محمد بن إسماعيل بن العباس الوراق، ثنا عبد الصمد بن علي بن مكرم قال: حدثني أحمد بن سليمان بن المبارك، ثنا أبو تراب الزاهد البلخي، ثنا واصل بن إبراهيم، ثنا أبو حمزة، عن رقبة، عن سلمة بن كهيل، عن جندب بن سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به»
حدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، ثنا أبو تراب، ثنا أحمد بن نصر، ثنا عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه قال: قال وهب بن منبه: ’’أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: «يا موسى لا تحسد الناس على ما آتيتهم من فضلي ونعمتي فإن الحاسد عدو لنعمتي مضل لفضلي ساخط لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يكن كذلك فليس مني ولست منه»
حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى النيسابوري قال: سمعت أبا عبيد حازم بن أبي حازم يقول: سمعت أخي أحمد بن محمد يقول: قال أبو تراب النخشبي: ’’وقفت ستا وخمسين وقفة فلما كان من قابل رأيت الناس بعرفات ما رأيت قط أكثر منهم ولا أكثر خشوعا وتضرعا ودعاء فأعجبني ذلك وقلت: اللهم من لم تتقبل حجته من هذا الخلق فاجعل ثواب حجتي له فأفضنا وبتنا بجمع فرأيت في منامي هاتفا يهتف بي: «تتسخى علي وأنا أسخى الأسخياء، وعزتي وجلالي ما وقف هذا الموقف أحد قط إلا غفرت له» فانتبهت فرحا بهذه الرؤيا فرأيت يحيى بن معاذ الرازي فقصصت عليه الرؤيا فقال: إن صدقت رؤياك فإنك تعيش أربعين يوما، فلما كان يوم أحد وأربعين يوما جاءوا إلى يحيى بن معاذ فقالوا: إن أبا تراب قد مات فقمنا فغدونا رحمه الله ’’ قال الشيخ: ذكر جماعة من جماهير العارفين من العراقيين اقتصرنا على ذكرهم من دون كلامهم وأخبارهم، منهم من تنسب إليه الكتب المصنفة كأبي سعيد الخزاز وطبقته ومنهم من رفع الله رايته بما انتشر عنه من كثرة أصحابه وتلامذته رحمة الله علينا وعليهم أجمعين
دار الكتاب العربي - بيروت-ط 0( 1985) , ج: 10- ص: 219
السعادة -ط 1( 1974) , ج: 10- ص: 219
عسكر بن الحصين وقيل عسكر بن محمد بن الحسين الشيخ أبو تراب النخشبى
بفتح النون وسكون الخاء وفتح الشين المعجمتين وفى آخرها الباء الموحدة نسية إلى نخشب بلدة من بلاد ما وراء النهر عربت فقيل لها نسف
كان شيخ عصره بلا مدافعة جمع بين العلم والدين زاهدا ورعا متقشفا متقللا متوكلا متبتلا
صحب حاتما الأصم إلى أن مات وخرج إلى الشام وكتب الكثير من الحديث ونظر في كتب الشافعي وتفقه على مذهبه
وحدث عن محمد بن عبد الله بن نمير ونعيم بن حماد وأحمد بن نصر النيسابورى وغيرهم
روى عنه أحمد بن الجلاء وأبو بكر بن أبي عاصم وعبد الله بن أحمد بن حنبل وآخرون
قال الدقى فيما رواه الخطيب بإسناده سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول لقيت ستمائة شيخ ما رأيت فيهم مثل أربعة أولهم أبو تراب
قال ابن الصلاح والثلاثة الآخرون أبوه يحيى الجلاء وأبو عبيد البسرى وذو النون المصرى رضى الله عنهم أجمعين
وروى الخطيب أن أبا تراب قال ما تمنت على نفسى قط إلا مرة تمنت على خبزا وبيضا وأنا في سفرة فعدلت من الطريق إلى قرية فلما دخلت وثب إلى رجل فتعلق بى وقال إن هذا كان مع اللصوص قال فبطحونى فضربونى سبعين جلدة فوقف علينا رجل فصرخ هذا أبو تراب فأقامونى واعتذروا إلى وأدخلنى الرجل منزله وقدم إلى خبزا وبيضا فقلت كلهما بعد سبعين جلدة
وروى بسنده إلى أبى عبد الله ابن الجلاء قال قدم أبو تراب مرة مكة فقلت له يا أستاذ أين أكلت فقال جئت بفضولك أكلت أكلة بالبصرة وأكلة بالنباج وأكلة عندكم
وروى بسنده أيضا إلى أبى تراب قال وقفت خمسا وخمسين وقفة فلما كان من قابل رأيت الناس بعرفات ما رأيت قط أكثر منهم ولا أكثر خشوعا وتضرعا فأعجبنى ذلك فقلت اللهم من لم تتقبل حجته من هذا الخلق فاجعل ثواب حجتى له وأفضنا من عرفات وبتنا بجمع فرأيت في المنام هاتفا يهتف بى تتسخى علينا وأنا أسخى الأسخياء وعزتى وجلالى ما وقف هذا الموقف أحد قط إلا غفرت له فانتبهت فرحا بهذه الرؤيا فرأيت يحيى بن معاذ الرازي وقصصت عليه الرؤيا فقال إن صدقت رؤياك فإنك تعيش أربعين يوما
قال الراوى فلما كان يوم أحد وأربعين جاءوا إلى يحيى بن معاذ الرازي فقالوا إن أبا تراب مات فغسله وكفنه
وعن يوسف بن الحسين كنت مع أبى تراب بمكة فقال أحتاج إلى كيس دراهم فإذا رجل قد صب في حجره كيس دراهم فجعل يفرقها على من حوله وكان فيهم فقير يتراءى له أن يعطيه شيئا فما أعطاه شيئا فنفدت الدراهم وبقيت أنا وأبو تراب والفقير فقال له تراءيت لك غير مرة فلم تعطنى شيئا فقال له أنت لا تعرف المعطى
وعن يوسف بن الحسين صحبت أبا تراب النخشبى خمس سنين وحججت معه على غيرطريق الجادة ورأيت منه في السفر عجائب يقصرلسانى عن شرح جميعها غير أنا كنا مارين فنظر إلى يوما وأنا جائع وقد تورمت رجلاى وأنا أمشى بجهد فقال لى مالك لعلك جعت قلت نعم قال ولعلك أسأت الظن بربك قلت نعم قال ارجع إلى ربك قلت وأين هو قال حيث خلفته فقلت هو معى فقال إن كنت صادقا فما هذا الهم الذى أرى عليك قال فرأيت الورم قد سكن والجوع قد ذهب ونشطت حتى كدت أسبقه قال أبو تراب اللهم إن عبدك قد أقر لك بالآفة فأطعمه ونحن بين جبال ليس فيها مخلوق فانتهينا إلى رابية فإذا كوز ماء ورغيف
موضوع فقال لى أبو تراب دونك دونك فجلست وأكلت وقلت له ليش ما تأكل أنت قال يأكل من اشتهاه
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخباز بقراءتى عليه أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن حماد العسقلانى وإبراهيم بن حمد بن كامل المقدسى سماعا قالا أخبرنا عبد العزيز بن منينا وابن سكينة إجازة قالا أخبرنا محمد ابن عبد الباقى الأنصارى القاضى أخبرنا الخطيب أبو بكر الحافظ أخبرنى عبيد الله ابن أحمد الصيرفى حدثنا أبو الفضل الزهرى حدثنى أبو الطيب أحمد بن جعفر الحذاء قال سمعت أبا على الحسين بن خيران الفقيه قال مر أبو تراب النخشبى بمزين فقال له تحلق رأسى لله عز وجل فقال له اجلس فجلس فبينا هو يحلق رأسه مر به أمير من أهل بلده فسأل حاشيته فقال لهم أليس هذا أبا تراب فقالوا نعم فقال أيش معكم من الدنانير فقال له رجل من خاصته معى خريطة فيها ألف دينار فقال إذا قام فأعطه إياها واعتذر إليه وقل له لم يكن معنا غير هذه فجاء الغلام إليه وقال له إن الأمير يقرأ عليك السلام وقال لك ما حضر معنا غير هذه فقال له ادفعها إلى المزين فقال المزين أيش أعمل بها فقال خذها فقال والله ولو أنها ألفا دينار ما أخذتها فقال له أبو تراب مر إليه فقل له إن المزين ما أخذها فخذها أنت فاصرفها في مهماتك
قلت سقنا هذه الحكاية بالسند لما فيها من جليل الفوائد فمنها حال هذا المزين وعدم أخذه العوض على عمل عمله لله تعالى فأرى الله أبا تراب خلقا من خلقه مزينا بهذه الصفة
ومنها رد أبى تراب هذا الذهب على هذا الوجه فإن أبا تراب إن كان عرف أن هذا المزين لا يأخذها فلعله دفعها إليه ليردها فيراه غلام ذلك الأمير ويعرف ويحكى لأستاذه أن مزين أبى تراب لا يرضى أن يأخذ ألف دينار على هذا العمل اليسير فما الظن بأبى تراب وإعراضه عن الدنيا وإن كان أبو تراب لم يعرف حال المزين وذلك بعيد عندنا فيكون رد المزين لها تعريفا من الله لأبى تراب بمقدار هذا المزين وتربية أيضا
لهذا الأمير وسلوكا لأحسن طريق في رد ذهبه عليه وأنه أحوج من أبى تراب إليه فإنه لا يبذل مثله لمزين ومزين أبى تراب لا يرضى بمثليه ولا بأمثاله
توفى أبو تراب بالبادية قيل نهشته السباع وقد قدمنا أن يحيى بن معاذ تولى غسله فلعله اطلع على مكانه
وكانت وفاة أبى تراب سنة خمس وأربعين ومائتين قال أبو عمران الإصطخرى رأيته في البادية قائما ميتا لا يمسكه شئ
ومن الفوائد عن أبى تراب رحمه الله تعالى
سئل أبو تراب عن صفة العارف فقال الذى لا يكدره شئ ويصفو به كل شئ
وقال أبو تراب الفقير قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه حيث نزل
وقال إن الله ينطق العلماء في كل زمان بما يشاكل أعمال أهل ذلك الزمان
وقال من شغل مشغولا بالله عن الله أدركه المقت من ساعته
وقال شرط التوكل طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إلى الكفاية فإن أعطى شكر وإن منع صبر وليس ينال الرضا من للدنيا في قلبه مقدار
وقال صحبت مائة شيخ ما نفعنى مثل شد رأس الجراب يعنى القناعة والتقلل من الدنيا
وقال إذا رأيت الصوفى سافر بلا ركوة فاعلم أنه عزم على ترك الصلاة
حكاية تشتمل على تحقيق التجلى
قال القاضى ناصر الدين بن المنير المالكى في كتابه المقتفى وفى الحكاية المدونة في كتب أهل الطريق أن أبا تراب النخشبى كان له تلميذ وكان الشيخ يرفق به ويتفرس فيه الخير وكان أبو تراب كثيرا ما يذكر أبا يزيد البسطامى فقال له الفتى يوما لقد أكثرت من ذكر أبى يزيد من يتجلى له الحق في كل يوم مرات ماذا يصنع بأبى يزيد فقال له أبو تراب ويحك يا فتى لو رأيت أبا يزيد لرأيت مرأى عظيما فلم يزل يشوقه إلى لقائه حتى عزم على ذلك في صحبة الشيخ أبى تراب فارتحلا إلى أبى يزيد فقيل لهما إنه في الغيضة وكانت له غيضة يأوى إليها مع السباع فقصدا الغيضة وجلسا على ربوة على ممر أبى يزيد فلما خرج أبو يزيد من الغيضة قال أبو تراب للفتى هذا أبو يزيد فعندما وقع بصر الفتى على أبى يزيد خر ميتا فحدث أبو تراب أبا يزيد بقصته وعجب من ثبوته لتجلى الحق سبحانه وتعالى وعدم تماسكه لرؤية أبى يزيد فقال أبو يزيد لأبى تراب كان هذا الفتى صادقا وكان الحق يتجلى له على قدر ما عنده فلما رآنى تجلى له الحق على قدرى فلم يطق
قال الفقيه ناصر الدين واصطلاح أهل الطريق معروف وحاصله رتبة من المعرفة جلية وحالة من اليقظة والحضرة سرية سنية والإيمان يزيد وينقص على الصحيح ولا تظنهم يعنون بالتجلى رؤية البصر التى قيل فيها لموسى عليه السلام على خصوصيته لن ترانى والتى قيل فيها على العموم {لا تدركه الأبصار} فإذا فهمت أن مرادهم الذى أثبتوه غير المعنى الذى حصل الناس منه على الناس في الدنيا ووعد به الخواص في الأخرى فلا ضير بعد ذلك عليك ولا طريق لسبق الظن إليك والله يتولى السرائر
قلت وكلام ابن المنير هذا في تفسير التجلى يقرب من قول شيخ الإسلام وسلطان العلماء أبى محمد بن عبد السلام رحمه الله في كتاب القواعد إن التجلى والمشاهدة عبارة عن العلم والعرفان
واعلم أن القوم لا يقتصرون في تفسير التجلى على العلم ولا يعنون به إياه ثم لا يفصحون بما يعنون إفصاحا وإنما يلوحون تلويحا ثم يصرحون بالبراءة مما يوجب سوء الظن تصريحا وقد ذكر سيد الطائفة أبو القاسم القشيرى رحمه الله في الرسالة باب الستر والتجلى ثم باب المشاهدة ولم يفصح بتفسير التجلى كأنه خشى على فهم من ليس من أهل الطريق وعرف أن السالك يفهمه فلم يحتج إلى كشفه له
وحاصل ما يقوله متأخرو القوم أن التجلى ضربان
ضرب للعوام وهو أن يكشف صورة كما جاء جبريل عليه السلام في صورة دحية وكما في الحديث (رأيت ربى في صورة شاب) قالوا وهذا تجلى الصفة ويضربون لذلك المرآة مثلا فيقولون أنت تنظر وجهك في المرآة وليست المرآة محلا لوجهك ولا وجهك حالا فيها وإنما هناك مثالها تعالى الله عن أن يكون له مثال وإنما يذكرون هذا تقريبا للأفهام
وحديث في صورة شاب أمرد موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وضرب للخواص وهو تجلى الذات نفسها ويذكرون هنا لتقريب الفهم الشمس قالوا فإنك ترى ضوء النهار فتحكم بوجود الشمس وحضورها برؤيتك الضوء
قالوا وهذا تقريب أيضا وإلا فنور البارى لو سطع لأحرق الوجود بأسره إلا من ثبته الله
وقد يعتضدون بحديث أبى ذر رضى الله عنه سألت النبى صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نور أنى أراه وفى لفظ قال رأيت نورا
أخرجه مسلم والترمذى ولكنه حديث مؤول باتفاق المسلمين
هذا حاصل كلام القوم وأنا معترف بالقصور عن فهمه وضيق المحل عن بسط العبارة فيه
وقد جالست في هذه المسألة الشيخ الإمام الصالح العارف قطب الدين بركة المسلمين محمد بن اسفهبدا الأردبيلى أعاد الله من بركته وقلت له أتقولون بأن الذى يراه العارف في الدنيا هو الذى وعده الله في الآخرة
قال نعم
قلت فبم تتميز رؤية يوم القيامة
قال بالبصر فإن الرؤية في الدنيا في هذين الضربين إنما هى بالبصيرة دون البصر
قلت فقد اختلف في جواز رؤية الله تعالى في الدنيا
قال الحق الجواز
قلت فلا فارق حينئذ وتجوز الرؤية بالبصر في الدنيا
قال الفارق أنه في الآخرة معلوم الوقوع للمؤمنين كلهم وفى الدنيا لم يثبت وقوعه إلا للنبى صلى الله عليه وسلم وفى بعض ذوى المقامات العلية
هكذا قال
ومما قلت له وقد ضرب المرآة مثلا قد يقال إن هذا نوع من الحلول والحلول كفر
قال لا فإن الحلول معناه أن الذات تحل في ذات أخرى والمرآة لا تحل الصورة فيها
هذا كلامه
قلت له فما المشاهدة عن التجلى
قال المشاهدة دوام تجلى الذات والتجلى قد يكون معه مشاهدة وهو ما إذا دام وقد لا يكون انتهى
وأقول إذا تبرأ القوم من تفسير التجلى بما لا يمكن ولا يجوز وصف الرب تعالى به فلا لوم عليهم بعد ذلك غير أنهم مصرحون بأنه غير العلم والعرفان
حكاية ثانية يبحث فيها عن الكرامات
قال أبو على الروذبارى سمعت أبا العباس الرقى يقول كنا مع أبى تراب النخشبى في طريق مكة فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابه أنا عطشان فضرب برجله فإذا عين من ماء زلال فقال الفتى أحب أن أشربه في قدح فضرب بيده الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت فشرب وسقانى وما زال القدح معنا إلى مكة
فقال لى أبو تراب يوما ما يقول أصحابك في هذه الأمور التى يكرم الله بها عباده فقلت ما رأيت أحدا إلا وهو مؤمن بها فقال من لايؤمن بها فلقد كفر إنما سألتك من طريق الأحوال فقلت ما أعرف لهم قولا فيه فقال بلى قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق وليس الأمر كذلك إنما الخدع في حال السكون إليها فأما من لم يقترح ذلك فتلك مرتبة الربانيين
قلت قد اشتمل كلام أبى تراب هذا على فصلين مهمين
أحدهما أن الكرامات والمكاشفات لسيت خدعا إلا لمن يقف عندها ويجعلها شوقه ومقصوده ولا شك في هذا وقد بالغ قوم في تعظيمها بحيث سلبوا بها المواهب وبالغ آخرون في امتهانها بحيث لم يعدوها شيئا والحق ما ذكره تراب أبو أيوب من أن السكون إليها نقص فمن الواضح الجلى الذى لا ينكره عارف أن العارف لا يقف عندها وإنما مطلوبه وراءها وهى تقع في طريقه وليس للواقع في الطريق من الطريق
صفة ومن وقف عندها سقط في مهاوى الهلكات ومن كانت هى مطلوبه فهو مغرور ويبعد وصوله إليها وإنما يصل إليها من لا يراها فافهم ما يلقى إليك
فإن قلت فلأى معنى يظهرها مظهروها وهى على ما تزعم أشياء لا يلقون إليها بالا
قلت ظهورها يقع على أنحاء ربما لم يكن باختيار صاحبها وهو كثير بل صار بعض الأئمة كما نقل إمام الحرمين في الشامل إلى أن الكرامات لا تكون أبدا إلا على هذا الوجه فعلى هذا الوجه لا سؤال ولكن هذا مذهب ضعيف غير مرضى عند المحصلين ولا سؤال عليه وربما كان هو المظهر بها وإنما يكون ذلك لفائدة دينية من تربية أو بشارة أو نذارة أو غير ذلك حيث يؤذن فيه ولا يجوز إظهارها حيث لا فائدة فذلك عند القوم غير جائز له
والفصل الثانى أن الكرامات حق وقول أبى تراب من لا يؤمن بها فقد كفر بالغ في الحط من منكريها وقد تؤول لفظة الكفر في كلامه وتحمل على أنه لم يعن الكفر المخرج من الملة ولكنه كفر دون كفر
وإنى لأعجب أشد العجب من منكرها وأخشى عليه مقت الله ويزداد تعجبى عند نسبة إنكارها إلى الأستاذ أبى إسحاق الإسفراينى وهو من أساطين أهل السنة والجماعة على أن نسبة إنكارها إليه على الإطلاق كذب عليه والذى ذكره الرجل في مصنفاته أن الكرامات لا تبلغ مبلغ خرق العادة
قال وكل ما جاز تقديره معجزة لنبى لا يجوز ظهور مثله كرامة لولى
قال وإنما بالغ الكرامات إجابة دعوة أو موافاة ماء في بادية في غير موقع المياه أو مضاهى ذلك مما ينحط عن خرق العادة ثم مع هذا قال إمام الحرمين وغيره من أئمتنا هذا المذهب متروك
قلت وليس بالغا في البشاعة مبلغ مذهب المنكرين للكرامات مطلقا بل هو مذهب مفصل بين كرامة وكرامة رأى أن ذلك التفصيل هو المميز لها من المعجزات
وقد قال الأستاذ الكبير أبو القاسم القشيرى في الرسالة إن كثيرا من المقدورات يعلم اليوم قطعا أنه لا يجوز أن يظهر كرامة للأولياء لضرورة أو شبه ضرورة يعلم ذلك فمنها حصول إنسان لا من أبوين وقلب جماد بهيمة أو حيوانا وأمثال هذا يكثر انتهى
وهو حق لا ريب فيه وبه يتضح أن قول من قال ما جاز أن يكون معجزة لنبى جاز أن يكون كرامة لولى ليس على عمومه وأن قول من قال لا فارق بين المعجزة والكرامة إلا التحدى ليس على وجهه ولعلنا نبحث عن هذا في آخر الفصل وسبيلنا حيث انتهينا إلى هذا الفصل أن نستقصى شبه المنكرين للكرامات ونستأصل شأفتهم بتقرير الرد عليهم ثم نذكر البراهين الدالة على الإثبات ونختمها بتتمات
شبهة للقدرية في منع الكرامات وذكر فسادها
قالوا تجويز الكرامة يفضى إلى السفسطة لأنه يقتضى تجويز انقلاب الجبل ذهبا إبريزا أو البحر دما عبيطا وانقلاب أوان يتركها الإنسان في بيته أئمة فضلاء مدققين
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه
أحدها أنا لا نسلم بلوغ الكرامة إلى هذا المبلغ كما اقتضاه كلام القشيرى
والثانى وهو ما اقتضاه كلام أئمتنا أنا نجوز بلوغها هذا المبلغ ولكن لا يقتضى ذلك سفسطة لأن ما ذكرتم بعينه وارد عليكم في زمان النبوة فإنه يجوز ظهور المعجزة بذلك ولا يؤدى إلى سفسطة
والثالث أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم العادية وجواز تغيرها بسبب الكرامة تجويز عقلى فلا يقدح فيها
شبهة ثانية لهم وتبيين الانفصال عنها
قالوا لو جازت الكرامة لاشتبهت بالمعجزة فلا تبقى للمعجزة دلالة على ثبوت النبوة
والجواب منع الاشتباه وهذا لأن المعجزة مقرونة بدعوى النبوة ولا كذلك الكرامة بل الكرامة مقرونة بالانقياد للنبى صلى الله عليه وسلم وتصديقه والسير على طريقه
وقولهم إنما دلت المعجزة على تصديق النبى من حيث انخراق العادة فكذلك الكرامة كلام ساقط فإن مجرد خرق العادة ليس المقتضى للنبوة ولو دل خرق العادة على النبوة بمجرده لوجب أن تدل أشراط الساعة وما سيظهر منها على ثبوت نبوة إذ العوائد تنخرق بها ومن أعظم البدائع فطرة السموات والنشأة الأولى ثم لم تقتض بدائع الفطرة في نشأة الخلق ثبوت نبى فاستبان أن مجرد خرق العادة لا يدل إذ لو دل لاطرد بل لابد معه من التحدى فلا اشتباه للكرامة بالمعجزة وأيضا فالمعجزة يجب على صاحبها الإشهار بخلاف الكرامة فإن مبناها على الإخفاء ولا تظهر إلا على الندرة والخصوص لا على الكثرة والعموم وأيضا فالمعجزة تجوز أن تقع بجميع خوارق العادات والكرامات تختص ببعضها كما بيناه من كلام القشيرى وهو الصحيح ولسنا نجوز ولدا إلا من أبوين ولا نحو ذلك كما سنستقصى القول فيه
شبهة ثالثة لهم ووجه الانفصال عنها
قالوا لو ظهرت لولى كرامة لجاز الحكم له بمجرد دعواه أنه يملك حبة من الحنطة أو فلسا واحدا من الفلوس من غير بينة لظهور درجته عند الله تعالى المانعة من كذبه لا سيما في هذا النزر اليسير لكنه باطل لإجماع المسلمين المؤيد بقول رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين البينة على المدعى واليمين على من أنكر
والجواب أن الكرامة لا توجب عصمة الولى ولا صدقه في كل الأمور وقد سئل شيخ الطريقة ومقتدى الحقيقة أبو القاسم الجنيد رحمه الله أيزنى الولى فقال {وكان أمر الله قدرا مقدورا} وهب أن الظن حاصل بصدقه فيما ادعاه إلا أن الشارع جعل لثبوت الدعوى طريقا مخصوصا ورابطا معروفا لا يجوز تعديه ولا العدول عنه ألا ترى أن كثيرا من الظنون لا يجوز الحكم بها لخروجها عن الضوابط الشرعية
شبهة أخرى لهم وكشف عوارها
قالوا لو جاز ظهور خوارق العادات على أيدى الصالحين لجاز سرا كما يجوز جهرا ولو جاز سرا لما أمكننا أن نستدل على نبوة الأنبياء بظهورها على أيديهم فثبت أن ظهورها على الصالحين سرا ممتنع وإذا لم يجز ظهورها عليهم سرا فأولى أن لا تجوز جهرا لأن كل من جوز ظهورها عليهم لم يشترط أن تظهر علانية بل من أصول معظم جماعتكم أن الأولياء لا يظهرون الكرامات ولا يدعون بها وإنما تظهر سرا وراء ستور ويتخصص بالاطلاع عليها آحاد الناس فثبت أنها لو جازت لجازت سرا إذ لا قائل بالفصل ولأنه أولى بالجواز من العلانية لكن جوازها سرا يفضى إلى أن لا يستدل بها على النبوة لأنه يجوز ظهورها متوالية على استمرار وإن كان ذلك مخفيا مستترا وتكون موجودة مستمرة بحيث تلتحق بحكم المعتاد فإذا ظهر نبى وتحدى بمعجزة جاز أن تكون هى بعض ما اعتاده أولياء عصره من الكرامات ولا يتحقق في هذا النبى خرق العوائد فكيف السبيل إلى تصديقه هذا حاصل شبهتهم هذه ثم حرروا عنها عبارة فقالوا إذا تكرر ما يخرق العوائد على الأولياء أفضى ذلك إلى التحاق خوارق العادات في حقوقهم بالمعتادات وصارت
عاداتهم خلاف العادات فلو ظهر نبى في زمنهم كانت عوائدهم في انخراق العوائد في أحوالهم تصدهم عن تصحيح النظر في المعجزة
ثم أخرجوا الشبهة على وجه آخر فقالوا لو جاز إظهارها على صالح لجاز إظهارها على صالح آخر إكراما له وهكذا إلى عدد كثير إذ ليس اختصاص عدد منهم بذلك أولى من عدد آخر وحينئذ يصير عادة فلا يبقى ظهورها دليلا على النبوة ويطوى بساط النبوة رأسا
وجميع ما ذكروه في هذه الشبهة تمويه لا حاصل تحته وقعقعة لا طائل فيها ولأئمتنا في ردها وجهان
فمن أئمتنا من منع توالى الكرامات واستمرارها حتى تصير في حكم العوائد وخلص بهذا المنع عن إلزامهم بل امتنع بعض المحققين من تصور توالى المعجزات على الرسل المتعاقبين إذ كان يؤدى إلى أن تصير المعجزات معتادة فهذه طريقة في الرد على هذه الشبهة حاصلها أنا إنما نجوز ظهور الكرامات على وجه لا يصير عادة فاستبان أنه خاص بشبهتهم هذه وأنها لم تقدح في أصل الكرامات وإنما تضمنت منع كرورها والتحاقها بالمعتاد
ومن أئمتنا وهم المعظم من جوز توالى الكرامات على وجه الاختفاء بحيث لا تظهر ولا تشيع ولا تلتحق بالمعتاد لئلا تخرج الكرامة عن كونها كرامة عند عامة الخلق ثم قالوا الكرامة وإن توالت على الولى حتى ألفها واعتادها فلا يخرجه ذلك عن طريق الرشاد ووجه السداد في النظر إذا لاحت المعجزة إن وافقه التوفيق وإن تعداه التوفيق سلب الطريق ولم يكن بولى على التحقيق والمعجزة تتميز عمن تكررت عليه الكرامة بالإظهار والإشاعة والتحدى ودعوى النبوة فإذا تميزت الكرامة عن المعجزة لم ينسد باب الطريق إلى معرفة النبى
ومن تمام الكلام في ذلك أن أهل القبلة متفقون على أن الكرامات لا تظهر على الفسقة الفجرة وإنما تظهر على المتمسكين بطاعة الله عز وجل
وبهذا لاح أن الطريق إلى معرفة الأنبياء لا ينسد فإن الولى بتوفيق الله تعالى ينقاد للنبى إذا ظهرت المعجزة على يديه ويقول معاشر الناس هذا نبى الله فأطيعوه
ويكون أول منقاد له ومؤمن به
والقاضى أبو بكر وإن شبب بمنع هذا الإجماع وقال لو جوز مجوز ظهور بعض خوارق العادات على بعض الفسقة استدراجا لكان مذهبا كما أنه لا يبعد ظهورها على الرهبان المتبتلين وأصحاب الصوامع على كفرهم فهذا كما قال إمام الحرمين فيه نظر ولسنا نثبت لراهب كرامة ولا كيد ولا كرامة ومحل استيفاء القول على ذلك لا يحتمله هذا المكان
والحاصل أن ما يظهر على يد الرهبان ليس من الكرامات وأما توقف القاضى في الفسقة والفجرة فأنا معه لكن لا على الإطلاق بل أفصل فأقول لو ذهب ذاهب إلى تجويز ظهور الكرامة على يد الفاسق إنقاذا له مما هو فيه ثم يتوب بعدها ويثبت لا محالة وينتقل إلى الهدى بعد الضلالة لكان مذهبا ويقرب منه قصة أصحاب الكهف التى سنحكيها فقد كانوا عبدة أصنام ثم حصل لهم ما حصل إرشادا وتبصرة ثم ما ذكره الخصوم من حديث اشتباه النبى بغيره إذا وافقت المعجزة الكرامة قد تبين الانفصال عنه
وأنا أقول معاذ الله أن يتحدى نبى بكرامة تكررت على يد ولى بل لا بد أن يأتى النبى بما لا يوقعه الله على يد الولى وإن جاز وقوعه فليس كل جائز في قضايا العقول واقعا ولما كانت مرتبة النبى أعلا وأرفع من مرتبة الولى كان الولى ممنوعا مما يأتى به النبى على وجه الإعجاز والتحدى أدبا مع النبى
ثم أقول حديث الاشتباه والانسداد على بطلانه إنما يقع البحث فيه حيث لم تختم النبوة
أما مع مجئ خاتم النبيين الذى ثبتت نبوته بأوضح البراهين وإخباره بأنه لا نبى بعده فقد أمنا الاشتباه فلو صح ما ذكر من الاشتباه والانسداد لكان في حكم الأولياء من الأمم السالفة لا في حكم الأولياء من هذه الأمة لأمنهم من أنه لا نبى بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم هذا لو صح ولن يصح أبدا
شبهة خامسة لهم وتقرير بطلانها
قالوا لو كان للكرامات أصل لكان أولى الناس بها أهل الصدر الأول وهم صفوة الإسلام وقادة الأنام والمفضلون على الخليقة بعد الأنبياء عليهم السلام ولم يؤثر عنهم أمر مستقصى
وهذا الذى ذكروه تعلل بالأمانى وهو قول مرذول مردود فلو حاول مستقص استقصاء كرامات الصحابة رضى الله عنهم لأجهد نفسه ولم يصل إلى عشر العشر ولا بأس هنا بذكر يسير من كرامات الصحابة رضى الله عنهم والكلام على السر في ظهورها وإظهارها على وجه الاختصار ليستفاد بكلامنا على ما نورده من القليل ما يستعان به على ما نغفله من الكثير
فنقول اعلم أولا أن كل كرامة ظهرت على يد صحابى أو ولى أو تظهر إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين فإنها معجزة للنبى صلى الله عليه وسلم لأن صاحبها إنما نالها بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم وهو معترف له بأنه مقدم خليقة الله وصفوتهم وسيد البشر الذى من بحره تستخرج الدرر ومن غيثه يستنزل المطر وهذا المعنى يصلح أن يكون سببا إجماعيا عاما في الإظهار لا سيما في عصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فإن
الكفار إذا رأوا ما يظهر على يديهم من الخوارق آمنوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم وعلموا أنهم على الحق فربما كان هذا سببا في الإظهار إذا علمت ذلك
فمن الكرامات على يد أبى بكر الصديق رضى الله عنه
ما صح من حديث عروة بن الزبير عن عائشة رضى الله عنها أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه كان نحلها جاد عشرين وسقا فلما حضرته الوفاة قال والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلى غنى بعدى منك ولا أعز علي فقرا بعدي منك وإنى كنت نحلتك جاد عشرين وسقا فلو كنت جددته وخزنته كان لك وإنما هو اليوم مال وارث وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله
قالت عائشة يا أبت والله لو كان كذا وكذا لتركته إنما هى أسماء فمن الأخرى فقال أبو بكر ذو بطن بنت أراها جارية فكان ذلك
قلت فيه كرامتان لأبى بكر
إحداهما إخباره بأنه يموت في ذلك المرض حيث قال وإنما هو اليوم مال وارث
والثانية إخباره بمولود يولد له وهو جارية
والسر في إظهار ذلك استطابة قلب عائشة رضى الله عنها في استرجاع ما وهبه لها ولم تقبضه وإعلامها بمقدار ما يخصها لتكون على ثقة منه فأخبرها بأنه مال وارث وأن معها أخوين وأختين لهذا ويدل على أنه قصد استطابة قلبها ما مهده أولا من أنه لا أحد أحب إليه غنى بعده منها وقوله إنما هما أخواك وأختاك أى ليس ثم غريب ولا ذو قرابة نائية وفى هذا من الترفق ما ليس يخفى فرضى الله عنه وأرضاه
ومنها ما في البخارى من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر وقول النبى صلى الله عليه وسلم في أهل الصفة مرة (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس) الحديث
وفيه أن أبا بكر انطلق بثلاثة وغادرهم في بيته وتعشى عند النبى صلى الله عليه وسلم ولبث حتى صلى العشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله فقالت له امرأته ما حبسك عن أضيافك قال أو ما عشيتهم قالت أبوا حتى تجئ ثم قال كلوا فقال قائلهم وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل فنظر أبو بكر فإذا شئ أو أكثر فقال لامرأته يا أخت بنى فراس ما هذا قالت لا وقرة عينى لهى الآن أكثر مما كانت قبل بثلاث مرات فاكل منها أبو بكر ... الحديث
فنقول السر فيه والعلم عند الله إن كان أبو بكر قصد تكثير الطعام احتياجه إلى إشباع الأضياف الذين أمره النبى صلى الله عليه وسلم بهم وإن لم يكن قصد ذلك بل كثره الله ببركته فهى كرامة أظهرها الله على يديه من غير قصد منه فلا يبحث عنها
ومنها على يد أمير المؤمنين عمر الفاروق رضى الله عنه
الذى قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم (لقد كان فيمن قبلكم ناس محدثون فإن يك في أمتى أحد فإنه عمر
قصة سارية بن زنيم الخلجى
كان عمر قد أمر سارية على جيش من جيوش المسلمين وجهزه إلى بلاد فارس فاشتد على عسكره الحال على باب نهاوند وهو يحاصرها وكثرت جموع الأعداء وكاد
المسلمون ينهزمون وعمر رضى الله عنه بالمدينة فصعد المنبر وخطب ثم استغاث في أثناء خطبته بأعلا صوته يا سارية الجبل يا سارية الجبل من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم فأسمع الله عز وجل سارية وجيوشه أجمعين وهم على باب نهاوند صوت عمر فلجأوا إلى الجبل وقالوا هذا صوت أمير المؤمنين فنجوا وانتصروا
هذا ملخصها وسمعت الشيخ الإمام الوالد رحمه الله يزيد فيها أن عليا رضى الله عنه كان حاضرا فقيل له ما هذا الذى يقوله أمير المؤمنين وأين سارية منا الآن فقال كرم الله وجهه دعوه فما دخل في أمر إلا وخرج منه ثم تبين الحال بالآخرة
قلت عمر رضى الله عنه لم يقصد إظهار هذه الكرامة وإنما كشف له ورأى القوم عيانا وكان كمن هو بين أظهرهم أو طويت الأرض وصار بين أظهرهم حقيقة وغاب عن مجلسه بالمدينة واشتغلت حواسه بما دهم المسلمين بنهاوند فخاطب أميرهم خطاب من هو معه إذ هو حقيقة أو كمن هو معه
واعلم أن ما يجربه الله على لسان أوليائه من هذه الأمور يحتمل أن يعرفوا بها ويحتمل أن لا يعرفوا بها وهى كرامة على كلا الحالين
ومنها قصة الزلزلة
قال إمام الحرمين رحمه الله في كتاب الشامل إن الأرض زلزلت في زمن عمر رضى الله عنه فحمد الله وأثنى عليه والأرض ترجف وترتج ثم ضربها بالدرة وقال أقرى ألم أعدل عليك فاستقرت من وقتها
قلت كان عمر رضى الله عنه أمير المؤمنين على الحقيقة في الظاهر والباطن وخليفة الله في أرضه وفى ساكنى أرضه فهو يعزر الأرض ويؤدبها بما يصدر منها كما يعزر ساكنيها على خطيئاتهم
فإن قلت أيجب على الأرض تعزير وهى غير مكلفة
قلت هذا الآن جهل وقصور على ظواهر الفقه اعلم أن أمر الله وقضاءه متصرف فى
جميع مخلوقاته ثم منه ظاهر وباطن فالظاهر ما يبحث عنه الفقهاء من أحكام المكلفين والباطن ما استأثر الله بعلمه وقد يطلع عليه بعض أصفيائه ومنهم الفاروق سقى الله عهده فإذا ارتجت الأرض بين يدى من استوى عنده الظاهر والباطن عزرها كما إذا زل المرء بين يدى الحاكم وانظر خطابه لها وقوله (ألم أعدل عليك) والمعنى والله أعلم أنها إذا وقع عليها جور الولاة جديرة بأن ترتج غير ملومة على التزلزل بما على ظهرها وأما إذا لم يكن جور بل كان الحكم بالقسط قائما ففيم الارتجاج وعلى م القلق ولم يأت الوقت المعلوم فما لها أن ترتج إلا في وقتين أحدهما الوقت المعلوم المشار إليه في قوله تعالى {إذا زلزلت الأرض زلزالها} فإن ذلك إليها وذلك إذا قال الإنسان مالها حدثت هى بأخبارها وذكرت أن الله أوحى لها على ما قال تعالى {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها} والثانى وقت وقوع الجور عليها من الولاة فإنها تعذر إذ ذاك فإن قلت من أين لك هذا
قلت من قول عمر الذى أشرنا إليه ويدل عليه أيضا {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} لأنه دلت على الأرض تكاد تنشق بالفجور الواقع عليها فلولا يمسكها الله لكان
واعلم أن هذا الذى خضناه بحر لا ساحل له والرأى أن نمسك عنان الكلام والموفق يؤمن بما نريد والشقى يجهل ولا يجدى فيه البيان ولا يفيد ومنهم شقى ومنهم سعيد
ويقرب من قصة الزلزلة
قصة النيل
وذلك أن النيل كان في الجاهلية لا يجرى حتى تلقى فيه جارية عذراء في كل عام فلما جاء الإسلام وجاء وقت جريان النيل فلم يجر أتى أهل مصر عمرو بن العاص فأخبروه أن لنيلهم سنة وهو أنه لا يجرى حتى تلقى فيه جارية بكر بين أبويها ويجعل عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون فقال لهم عمرو بن العاص إن هذا لا يكون وإن الإسلام يهدم ما قبله فأقاموا ثلاثة أشهر لا يجرى قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر قد أصبت إن الإسلام يهدم ما قبله وقد بعثت إليك بطاقة فألقها في النيل ففتح عمرو البطاقة قبل إلقائها فإذا فيها من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذى يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا في ليلة
فانظر إلى عمر كيف يخاطب الماء ويكاتبه ويكلم الأرض ويؤدبها وإذا قال لك المغرور أين أصل ذلك في السنة قل أيها المتعثر في أذيال الجهالات أيطالب الفاروق بأصل وإن شئت أصلا فهاك أصولا لا أصلا واحدا أليس قد حن الجذع إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى ضمه إليه أليس شكى إليه البعير ما به أليس في قصة الظبية حجة والأصول في هذا النوع لا تنحصر وسنذكر مالك أن تضمه إلى هذا في ترجمة الإمام فخر الدين في مسألة تسبيح الجمادات حيث نرد عليه ثم إنكاره لذلك
ومنها قصة النار الخارجة من الجبل
كانت تخرج من كهف في جبل فتحرق ما أصابت فخرجت في زمن عمر فأمر أبا موسى الأشعرى أو تميما الدارى أن يدخلها الكهف فجعل يحبسها بردائه حتى أدخلها الكهف فلم تخرج بعد
قلت ولعله قصد بذلك منع أذاها
ومنها أنه عرض جيشا يبعثه إلى الشام فعرضت له طائفة فأعرض عنهم ثم عرضت عليه ثانيا فأعرض عنهم ثم عرضت ثالثا فأعرض فتبين بالآخرة أنه كان فيهم قاتل عثمان وقاتل على
ومنها على يد عثمان ذى النورين رضى الله عنه
دخل إليه رجل كان قد لقى امرأة في الطريق فتأملها فقال له عثمان رضى الله عنه يدخل أحدكم وفى عينيه أثر الزنا فقال الرجل أوحى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ولكنها فراسة
قلت إنما أظهر عثمان هذا تأديبا لهذا الرجل وزجرا له عن سوء صنيعه
واعلم أن المرء إذا صفا قلبه صار ينظر بنور الله فلا يقع بصره على كدر أوصاف إلا عرفه ثم تختلف المقامات فمنهم من يعرف أن هناك كدرا ولا يدرى ما أصله ومنهم من يكون أعلا من هذا المقام فيدرى أصله كما اتفق لعثمان رضى الله عنه فإن تأمل الرجل للمرأة أورثه كدرا فأبصره عثمان وفهم سببه
وهنا دقيقة وهو أن كل معصية لها كدر وتورث نكتة سوداء في القلب بقدرها فتكون رينا على ما قال تعالى {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} إلى أن يستحكم والعياذ بالله فيظلم القلب وتغلق أبواب النور فيطبع عليه فلا يبقى سبيل إلى توبته على ما قال تعالى {وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} وقد أوضحنا هذا في كتاب رفع الحوبة بوضع التوبة في باب أن المطبوع لا توبة له
إذا عرفت هذا فالصغيرة من المعاصى تورث كدرا صغيرا بقدرها قريب المحو بالاستغفار وغيره من المكفرات ولا يدركه إلا ذو بصر حاد كعثمان رضى الله عنه حيث أدرك هذا الكدر اليسير فإن تأمل المرأة من أيسر الذنوب وأدركه عثمان وعرف أصله وهذا
مقام عال يخضع له كثير من المقامات وإذا انضم إلى الصغيرة صغيرة أخرى ازداد الكدر وإذا تكاثرت الذنوب بحيث وصلت والعياذ بالله إلى ما وصفناه من ظلام القلوب صار بحيث يشاهده كل ذى بصر فمن رأى متضمخا بالمعاصى قد أظلم قلبه ولم يتفرس فيه ذلك فليعلم أنه إنما لم يبصره لما عنده أيضا من العمى المانع للإبصار وإلا فلو كان بصيرا لأبصر هذا الظلام الداجى فبقدر بصره يبصر فافهم ما نتحفك به
ومنها على يد على المرتضى أمير المؤمنين رضى الله عنه
روى أن عليا وولديه الحسن والحسين رضى الله عنهم سمعوا قائلا يقول في جوف الليل
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم | يا كاشف الضر والبلوى مع السقم |
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا | وعين جودك يا قيوم لم تنم |
هب لى بجودك فضل العفو عن زللى | يا من إليه رجاء الخلق في الحرم |
إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ | فمن يجود على العاصين بالنعم |
فقال على رضى الله عنه لولده اطلب لى هذا القائل فأتاه فقال أجب أمير المؤمنين فأقبل يجر شقه حتى وقف بين يديه فقال قد سمعت خطابك فما قصتك فقال إنى كنت رجلا مشغولا بالطرب والعصيان وكان والدى يعظنى ويقول إن لله سطوات ونقمات وما هى من الظالمين ببعيد فلما ألح في الموعظة ضربته فحلف ليدعون على ويأتى مكة مستغيثا إلى الله ففعل ودعا فلم يتم دعاؤه حتى جف شقى الأيمن فندمت على ما كان منى وداريته وأرضيته إلى أن ضمن لى أنه يدعو لى حيث دعا على فقدمت إليه ناقة فأركبته فنفرت الناقة ورمت به بين صخرتين فمات هناك فقال له على رضى الله عنه رضى الله عنك إن كان أبوك رضى عنك فقال الله كذلك فقام على كرم الله وجهه وصلى ركعات ودعا بدعوات أسرها إلى الله عز وجل ثم قال يا مبارك
قم فقام ومشى وعاد إلى الصحة كما كان ثم قال لولا أنك حلفت أن أباك رضى عنك ما دعوت لك
قلت أما الدعاء فلا إشكال فيه إذ ليس فيه إظهار كرامة ولكنا نبحث في هذا الأمر في موضعين أحدهما فيما نحن بصدده من السر في إظهاره كرم الله وجهه الكرامة في قوله قم
فنقول لعله لما دعا أذن له أن يقول ذلك أو رأى أن قيامه موقوف بإذن الله تعالى على هذا المقال فلم يكن من ذكره بد
والثانى كونه صلى ركعات ولم يقتصر على ركعتين
فنقول ينبغى للداعى أن يبدأ بعمل صالح يتنور به قلبه ليعقبه الدعاء ولذلك كان الدعاء عقيب المكتوبات أقرب إلى الإجابات ومن أفضل الأعمال الصلاة وقد جاء في أحاديث كثيرة الأمر بتقديمها على الدعاء عند الحاجات وأقل الصلاة ركعتان فإن حصل نور بها وأشرقت علائم القبول فالأولى الدعاء عقيبها وإلا فليصل المرء إلى أن تلوح أمارات القبول فيعرض إذ ذاك عن الصلاة ويفتتح الدعاء فإنه أقرب إلى الإجابة وللكلام في هذا المقام سبح طويل لسنا له الآن
ومنها على يد العباس عم النبى صلى الله عليه وسلم
فى استسقائه عام الرمادة وذلك أن الأرض أجدبت في زمان عمر رضى الله عنه وكانت الريح تذرى ترابا كالرماد لشدة الجدب فسمى عام الرمادة لذلك وقيل إنما سمى بذلك لكثرة من هلك فيه والرمد الهلاك فخرج عمر بالعباس بن عبد المطلب رضى الله عنهما يستسقى فأخذ بضبعيه وأشخصه قائما ثم أشخص إلى السماء وقال اللهم
إنا نتقرب إليك بعم نبيك وقفية آبائه وكبر رجاله فإنك تقول وقولك الحق {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا} فحفظتهما لصلاح أبيهما فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين ومستغفرين ثم أقبل على الناس فقال {استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا} إلى قوله {أنهارا} والعباس قد طال عمر وعيناه تنضحان وسبابته تجول على صدره وهو يقول اللهم أنت الراعى لا تهمل الضالة ولا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السر وأخفى اللهم فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا فإنه لا ييأس من روحك إلا القوم الكافرون اللهم فأغثهم بغياثك فقد تقرب إلى القوم لمكانى من نبيك عليه السلام فنشأت طريرة من سحاب وقال الناس ترون
ترون ثم تلامت واستتمت ومشت فيها ريح ثم هدت ودرت فما برح القوم حتى اعتلقوا الحذاء وقلصوا المآزر وخاضوا الماء إلى الركب ولاذ الناس بالعباس يمسحون أردانه ويقولون هنيئا لك ساقى الحرمين فأمرع الله الحباب وأخصب البلاد ورحم العباد
قلت فهذه دعوة مستجابة ببركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن فيها قصد إلى إظهار كرامة بل استسقاء عند احتياج الخلق
وهى مثل ما ظهر على يد سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه
وذلك أنه كان يوم القادسية متألما من دمل لم يستطع الركوب لأجله فجلس في قصر يشرف على الناس فقال في ذلك بعض الشعراء مقالا بلغه رضى الله عنه فقال اللهم اكفنا لسانه ويده فخرس لسانه وشلت يده وكان سعد رضى الله عنه مجاب الدعوة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بذلك فقال (اللهم سدد سهمه وأجب دعوته) فكان لا يدعو بشئ إلا أجاب الله عز وجل دعاءه فيه وكان الصحابة يعرفون ذلك منه ولما عزله عمر رضى الله عنه من الكوفة بشكوى أهلها وكان عمر رضى الله عنه قد قال لا يشكو إلى أهل موضع عاملهم إلا عزلته وذلك والله أعلم لمعنيين
أحدهما لأنه رأى أن الصحابة رضى الله عنهم كلهم عدول والاستبدال ممكن والثانى أنه لم يكن للأولين رغبة في الولاية وإنما كانوا يفعلونها امتثالا لأمر أمير المؤمنين وانقيادا لطاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ورجاء ثواب الله في إقامة الحق فإذا عزل أحدهم كان العزل أحب إليه من الولاية فلا يؤلم ذلك قلبه فلذلك كان عمر رضى الله عنه والله أعلم يختار عزل المشكو على الإطلاق بمجرد الشكوى وإن كان عنده
عدلا ورعا منزها عما قيل فيه لأنه يجمع بعزله بين إدخال السرور على قلبه بالإقالة وعلى الشاكين بقطع النزاع وكان مع ذلك لا يغفل البحث عن أحوال الراعى والرعية حتى يطلع على صدق الشاكى من غيره فلما عزل سعدا وولى مكانه عمار بن ياسر رضى الله عنهما بعث مع سعد من يسأل عنه أهل الكوفة فلم يدع مسجدا حتى سأل عنه فيثنون خيرا حتى دخل مسجدا لبنى عبس فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة ويكنى أبا سعدة فقال أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية فقال سعد أما والله لأدعون بثلاث اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن قال عبد الملك بن عمير من رواة الحديث فأنا رأيته قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجوارى في الطريق يغمزهن وكان بعد إذا سئل يقول شيخ كبير مفتون أصابتنى دعوة سعد
وأراد عمر رضى الله عنه أن يرد سعدا بعد ذلك إلى الكوفة فامتنع
وأقبل سعد يوما برجل يسب عليا وطلحة والزبير رضى الله عنهم فنهاه فكأنما زاده إغراء فقال له ويلك ما تريد إلى أقوام خير منك لتنتهين أو لأدعون عليك فقال هاه فكأنما تخوفنى يعنى نبيا من الأنبياء فدخل سعد دارا فتوضأ ودخل مسجدا فقال اللهم إن كان عبدك هذا يسب أقواما قد سبقت لهم منك الحسنى حتى أسخطك بسبه إياهم فأرنى فيه اليوم آية تكون آية للمؤمنين فخرجت بختية من دار قوم وأقبلت لا يصد صدرها شئ حتى انتهت إليه وتفرق الناس فجعلته بين قوائمها ووطئته حتى طفئ
ومنها على يد ابن عمر رضى الله عنهما
حيث قال للأسد الذى منع الناس الطريق تنح فبصبص بذنبه وذهب
وعلى يد العلاء بن الحضرمى رضى الله عنه
وقد بعثه النبى صلى الله عليه وسلم في غزاة بجيش فحال بينهم وبين الموضع البحر فدعا الله ومشوا على الماء
وما جاء أنه كان بين يدى
سلمان وأبى الدرداء
رضى الله عنهما قصعة فسبحت حتى سمعا التسبيح
وما اشتهر أن
عمران بن حصين
رضى الله عنه كان يسمع تسبيح الملائكة حتى اكتوى فانحبس ذلك عنه ثم أعاده الله عليه
وما اشتهر من قصة
خالد بن الوليد رضى الله عنه
وهى أنه شرب السم ولم يضره
فإن قلت ما بال الكرامات في زمن الصحابة وإن كثرت في نفسها قليلة بالنسبة إلى ما يروى من الكرامات الكائنة بعدهم على يد الأولياء
فالجواب أولا ما أجاب به الإمام الجليل أحمد ابن حنبل رضى الله عنه حيث سئل عن ذلك فقال أولئك كان إيمانهم قويا فما احتاجوا إلى زيادة يقوى بها إيمانهم وغيرهم ضعيف الإيمان في عصره فاحتيج إلى تقويته بإظهار الكرامة
ونظيره قول الشيخ السهروردى رحمه الله حيث قال وخرق العادة إنما يكاشف به لموضع ضعف يقين المكاشف رحمة من الله تعالى لعباده العباد ثوابا معجلا
وفوق هؤلاء قوم ارتفعت الحجب عن قلوبهم فما احتاجوا إلى ذلك
وثانيا أن يقال ما يظهر على يدهم ربما استغنى عنه اكتفاء بعظيم مقدارهم ورؤيتهم طلعة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولزومهم طريق الاستقامة الذى هو أعظم الكرامة مع ما فتح على يديهم من الدنيا ولا اشرأبوا لها ولا جنحوا نحوها ولا استزلت واحدا فرضى الله عنهم كانت الدنيا في أيديهم أضعاف ما هى في أيدى أهل دنيانا وكان إعراضهم عنها أشد إعراض وهذا من أعظم الكرامات ولم يكن شوقهم إلا إعلاء كلمة الله تعالى والدعاء إلى جنابه جل وعلا
فإن قلت هب أنكم دفعتم شبه المنكرين للكرامات فما دليلكم أنتم على إثباتها فإن القول في الدين نفيا وإثباتا محتاج إلى الدليل
قلت إذا اندفع ما استدل به الخصوم على المنع وبطلت الاستحالة لم يبق بعدها إلا الجواز إذ لا واسطة بين المنع والاستحالة ثم فيما ذكرناه من الواقعات على يد الصحابة مقنع لمن له أدنى بصيرة ثم إن أبيت إلا دليلا خاصا ليكون أقطع للشغب وأنفى للشبه
فنقول الدليل على ثبوت الكرامات وجوه
أحدها وهو أوحدها ما شاع وذاع بحيث لا ينكره إلا جاهل معاند من أنواع الكرامات للعلماء والصالحين الجارى مجرى شجاعة على وسخاء حاتم بل إنكار الكرامات أعظم مباهتة فإنه أشهر وأظهر ولا يعاند فيه إلا من طمس قلبه والعياذ بالله
والثانى قصة مريم من جهة حبلها من غير ذكر وحصول الرطب الطرى من الجذع اليابس وحصول الرزق عندها في غيره أوانه ومن غير حضور أسبابه على ما أخبر الله تعالى بقوله {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله} وهى لم تكن نبية لا عندنا ولا عند الخصوم
أما عندنا فلأدلة منها قوله تعالى {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} ومنها الإجماع على ما نقل بعضهم
وأما عند الخصم فلأنه يشترط أن يكون النبى ذكرا ونحن لا نخالفه في ذلك بل نشترط الذكورة في الإمامة والقضاء فضلا عن النبوة هكذا ذكر بعض أئمتنا فقال القاضى لم يقم عندى من أدلة السمع في أمر مريم وجه قاطع في نفى نبوتها أو إثباتها
فإن قلت لم لا يجوز أن تكون معجزة لزكريا أو يكون إرهاصا لولدها عيسى عليهم السلام
قلت لأن المعجزة تجب أن تكون بمشهد من الرسول والقوم حتى يقيم الدلالة عليهم وما حكيناه من كراماتها نحو قول جبريل لها {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} لم يكن بحضور أحد بدليل قوله {فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما} وأيضا فالمعجزة تكون بالتماس الرسول وزكريا ما كان يعلم بحصول ذلك لقوله {أنى لك هذا}
وأيضا فهذه الخوارق إنما ذكرت لتعظيم شأن مريم فيمتنع وقوعها كرامة لغيرها
ولا يجوز أن تكون إرهاصا لعيسى عليه السلام لأن الإرهاص أن يختص الرسول قبل رسالته بالكرامات فأما ما يحصل به كرامة الغير لأجل أنه سيجئ بعد ذلك فذلك هو الكرامة التى يدعيها ولأنه لو جاز ذلك لجاز في كل معجزة ظهرت على يد مدعى الرسالة أن تكون إرهاصا لنبى آخر يجئ بعد ذلك وتجويز هذا يؤدى إلى سد باب الاستدلال بالمعجزة على النبوة
وقريب من قصة مريم قصة أم موسى عليه السلام وما كان من إلهام الله تعالى إياها حتى طابت نفسها بإلقاء ولدها في اليم إلى غير ذلك مما خصت به أفترى ذلك سدى
قال إمام الحرمين ولم يصر أحد من أهل التواريخ ونقلة الأقاصيص إلى أنها كانت نبية صاحبة معجزة
والثالث التمسك بقصة أصحاب الكهف فإن لبثهم ثلاث مائة سنين وأزيد نياما أحياء من غير آفة مع بقاء القوة العادية بلا غذاء ولا شراب من جملة الخوارق ولم يكونوا أنبياء فلم تكن معجزة فتعين كونها كرامة
وادعى إمام الحرمين اتفاق المسلمين على أنهم لم يكونوا أنبياء وإنما كانوا على دين ملك في زمانهم يعبد الأوثان فأراد الله أن يهديهم فشرح صدورهم للإسلام ولم يكن ذلك عن دعوة داع دعاهم ولكنهم لما وقفوا تفكروا وتدبروا ونظروا فاستبان لهم ضلال صاحبهم ورأوا أن يؤمنوا بفاطر السموات والأرضين ومبدع الخلائق أجمعين
ولا يمكن أن يجعل ذلك معجزة لنبى آخر
أما أولا فلأنهم أخفوه حيث قالوا {ولا يشعرن بكم أحدا} والمعجزة لا يمكن إخفاؤها
وأما ثانيا فلأن المعجزة يجب العلم بها وبقاءهم هذه المدة لا يمكن علم الخلق به لأن الخلق لم يشاهدوه فلا يعلم ذلك إلا بإخبارهم لو صح أنهم يعلمون ذلك وإخبارهم بذلك إنما يفيد إذا ثبت صدقهم بدليل آخر وهو غير حاصل وأما إثبات صدقهم بهذا الأمر فدور ممتنع لأنه إنما يثبت هذا الأمر إذا ثبت صدقهم فلو توقف صدقهم عليه لدار
وأما ثالثا فإنه ليس لذلك النبى ذكر ولا دليل يدل عليه فإثبات المعجزة له لا فائدة فيه لأن فائدة المعجزة التصديق وتصديق واحد غير معين محال
الرابع التمسك بقصص شتى مثل قصة آصف بن برخيا مع سليمان عليه السلام في حمل عرش بلقيس إليه قبل أن يرتد إليه طرفه على قول أكثر المفسرين بأنه المراد بالذى عنده علم من الكتاب وما قدمناه عن الصحابة وما تواتر عمن بعدهم من الصالحين وخرج عن حد الحصر ولو أراد المرء استيعابه لما كفته أوساق أحمال ولا أوقار جمال ومازال الناس في الأعصار السابقة وهم بحمد الله إلى الآن في الأزمان اللاحقة ولكنا نستدل بما كانوا عليه فقد كانوا من قبل ما نبغ النابغون ونشأ الزائغون يتفاوضون
فى كرامات الصالحين وينقلون ما جرى من ذلك لعباد بنى إسرائيل فمن بعدهم وكانت الصحابة رضى الله عنهم من أكثر الناس خوضا في ذلك
الخامس ما أعطاه الله تعالى لعلماء هذه الأمة وأوليائها من العلوم حتى صنفوا كتبا كثيرة لا يمكن غيرهم نسخها في مدة عمر مصنفها مع التوفيق لدقائق تخرج عن حد الحصر واستنباطات تطرب ذوى النهى واستخراجات لمعان شتى من الكتاب والسنة تطبق طبق الأرض وتحقيق للحق وإبطال للباطل وما صبروا عليه من المجاهدات والرياضات والدعوى إلى الحق والصبر على أنواع الأذى وعزوف أنفسهم عن لذات الدنيا مع نهاية عقولهم وذكائهم وفطنتهم وما حبب إليهم من الدأب في العلوم وكد النفس في تحصيلها بحيث إذا تأمل المتأمل ما أعطاهم الله منه عرف أنه أعظم من إعطائه بعض عبيده كسرة خبز في أرض منقطعة وشربة ماء في مفازة ونحوهما مما يعد كرامة
فإن قلت قد أكثرتم القول في الكرامات وما أفصحتم بالمختار عندكم من الأقوال المنقولات
قلت هذا مقام معضل خطر والاحتجار على مواهب الله لأوليائه عظيم عسر والاتساع في التجويز آيل إلى فتح باب على المعجزات مسدود
والذي يترجح عندي القول بتجويز الكرامات على الإطلاق إذا لم تخرق عادة وبتجويز بعض خوارق العوائد دون بعض فلا أمنع كثيرا من الخوارق وأمنع كثيرا ولي في ذلك قدوة وهو أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى
فإن قلت عرفني ما تمنعه ومالا تمنعه ليتبين مذهبك
قلت أمنع ولدا من غير أبوين وقلب جماد بهيمة ونحو ذلك وسيتضح لك ذلك عند ذكر الأنواع التي أبديها على الأثر إن شاء الله تعالى
وأما جمهور أئمتنا فعمموا التجويز وأطلقوا القول إطلاقا وأخذ بعض المتأخرين يعدد
أنواع الواقعات من الكرامات فجعلها عشرة وهي أكثر من ذلك وأنا أذكر ما عندي فيها
النوع الأول إحياء الموتى واستشهد لذلك بقصة أبي عبيد البسري فقد صح أنه غزا ومعه دابة فماتت فسأل الله أن يحييها حتى يرجع إلى بسر فقامت الدابة تنفض أذنيها فلما فرغ من الغزوة ووصل إلى بسر أمر خادمه أن يأخذ السرج عن الدابة فلما أخذه سقطت ميتة
والحكايات في هذا الباب كثيرة ومن أواخرها أن مفرجا الدمامينى وكان من أولياء الله من أهل الصعيد ذكر أنه أحضرت عنده فراخ مشوية فقال لها طيرى فطارت أحياء بإذن الله تعالى
وأن الشيخ الأهدل كانت له هرة ضربها خادمه فماتت فرمى بها في خرابة فسأل عنها الشيخ بعد ليلتين أو ثلاث فقال الخادم لا أدرى فقال الشيخ أما تدرى ثم ناداها فجاءت إليه تجرى
وحكاية الشيخ عبد القادر الكيلانى رضى الله عنه ووضعه يده على عظام دجاجة كان قد أكلها وقوله لها قومى بإذن الله الذى يحيى العظام وهى رميم فقامت دجاجة سوية حكاية مشهورة
وذكروا أن الشيخ أبا يوسف الدهمانى مات له صاحب فجزع عليه أهله فلما رأى الشيخ شدة جزعهم جاء إلى الميت وقال له قم بإذن الله فقام وعاش بعد ذلك زمنا طويلا
وحكاية زين الدين الفارقى الشافعي مدرس الشامية شهيرة وقد سمعتها من لفظ ولده ولى الله الشيخ فتح الدين يحيى فحكى لنا ما سنحكيه في ترجمة والده مما حاصله أنه وقع في داره طفل صغير من سطح فمات فدعى الله فأحياه
ولا سبيل إلى استقصاء ما يحكى من هذا النوع لكثرته وأنا أومن به غير أنى أقول
لم يثبت عندى أن وليا حيى له ميت مات من أزمان كثيرة بعدما صار عظما رميما ثم عاش بعد ما حيى له زمانا كثيرا هذا القدر لم يبلغنا ولا أعتقده وقع لأحد من الأولياء ولا شك في وقوع مثله للأنبياء عليهم السلام مثل هذا يكون معجزة ولا تنتهى إليه الكرامة فيجوز أن يجئ نبى قبل اختتام النبوة بإحياء أمم انقضت قبله بدهور ثم إذا عاشوا استمروا في قيد الحياة أزمانا ولا أعتقد الآن أن وليا يحيى لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمانا طويلا كما عمرا قبل الوفاة بل ولا زمانا قصيرا يخالطان فيه الأحياء كما خالطاهما قبل الوفاة
النوع الثانى كلام الموتى وهو أكثر من النوع قبله وروى مثله عن أبى سعيد الخراز رضى الله عنه ثم عن الشيخ عبد القادر رضى الله عنه وعن جماعة من آخرهم بعض مشايخ الشيخ الإمام الوالد رحمه الله ولست أسميه
النوع الثالث انفلاق البحر وجفافه والمشى على الماء وكل ذلك كثير وقد اتفق مثله لشيخ الإسلام وسيد المتأخرين تقى الدين بن دقيق العبد
الرابع انقلاب الأعيان كما حكى أن الشيخ عيسى الهتار اليمنى أرسل إليه شخص مستهزئا به إناءين ممتلئين خمرا فصب أحدهما في الآخر وقال بسم الله كلوا فأكلوا فإذا هو سمن لم ير مثل لونه وريحه وقد أكثروا في ذكر نظير هذه الحكاية
الخامس انزواء الأرض لهم بحيث حكوا أن بعض الأولياء كان في جامع طرسوس فاشتاق إلى زيارة الحرم فأدخل رأسه في جبته ثم أخرجه وهو في الحرم
والقدر المشترك من الحكايات في هذا النوع بالغ مبلغ التواتر ولا ينكره إلا مباهت
السادس كلام الجمادات والحيوانات ولا شك فيه وفى كثرته ومنه ما حكى أن إبراهيم بن أدهم جلس في طريق بيت المقدس تحت شجرة رمان فقالت له يا أبا إسحاق أكرمنى بأن تأكل منى شيئا قالت ذلك ثلاثا وكانت شجرة قصيرة
ورمانها حامضا فأكل منها رمانة فطالت وحلا رمانها وحملت في العام مرتين وسميت رمانة العابدين
وقال الشبلى عقدت أنى لا آكل إلا من حلال فكنت أدور في البرارى فرأيت شجرة تين فمددت يدى لآكل منها فنادتنى الشجرة احفظ عليك عقدك ولا تأكل منى فإنى ليهودى فكففت يدى
السابع إبراء العليل كما روى عن السرى في حكاية الرجل الذى لقيه ببعض الجبال يبرئ الزمنى والعميان والمرضى
وكما حكى عن الشيخ عبد القادر أنه قال لصبى مقعد مفلوج أعمى مجذوم قم بإذن الله فقام لا عاهة به
االثامن طاعة الحيوانات لهم كما في حكاية الأسد مع أبى سعيد بن أبي الخير الميهنى وقبله إبراهيم الخواص بل وطاعة الجمادات كما في حكاية سلطان العلماء شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام وقوله في واقعة الفرنج يا ريح خذيهم فأخذتهم
التاسع طى الزمان
العاشر نشر الزمان وفى تقرير هذين القسمين عسر على الأفهام وتسليمه لأهله أولى بذى الإيمان والحكايات فيهما كثيرة
الحادى عشر استجابة الدعاء وهو كثير جدا وشاهدناه من جماعة
الثانى عشر إمساك اللسان عن الكلام وانطلاقه
الثالث عشر جذب بعض القلوب في مجلس كانت فيه في غاية النفرة
الرابع عشر الإخبار ببعض المغيبات والكشف وهو درجات تخرج عن حد الحصر
الخامس عشر الصبر على عدم الطعام والشراب المدة الطويلة
السادس عشر مقام التصريف فقد حكى عن جماعة منه الشئ الكثير
وذكر أن بعضهم كان يبيع المطر وكان من المتأخرين الشيخ أبو العباس الشاطر يبيع الأشغال بالدراهم وكثرت الحكايات عنه في هذا الباب بحيث لم يبق للذهن مساع في إنكارها
السابع عشر القدرة على تناول الكثير من الغذاء
الثامن عشر الحفظ عن أكل الحرام كما حكى عن الحارث المحاسبى أنه كان يرتفع إلى أنفه زفورة من المأكل الحرام فلا يأكله وقيل كان يتحرك له عرق وحكى نظيره عن الشيخ أبى العباس المرسى وقيل إن بعض الناس امتحنه وأحضر له مأكلا حراما فبمجرد ما وضعه بين يديه قال إن كان المحاسبى يتحرك منه عرق فأنا يتحرك منى عند حضور الحرام سبعون عرقا ونهض من ساعته وانصرف
التاسع عشر رؤية المكان البعيد من وراء الحجب كما قيل إن الشيخ أبا إسحاق الشيرازى كان يشاهد الكعبة وهو ببغداد
العشرون الهيبة التى لبعضهم بحيث مات من شاهده بمجرد رؤيته كصاحب أبى يزيد البسطامى الذى قدمنا حكايته أو بحيث أفحم بين يديه أو اعترف بما لعله كتمه عنه أو غير ذلك وهو كثير
الحادى والعشرون كفاية الله إياهم شر من يريد بهم سوءا وانقلابه خيرا كما اتفق للشافعى رضى الله عنه مع هارون الرشيد رحمه الله
الثاني والعشرون التطور بأطوار مختلفة وهذا الذى تسميه الصوفية بعالم المثل ويثبتون عالما متوسطا بين عالمى الأجسام والأرواح سموه عالم المثال وقالوا هو ألطف
من عالم الأجسام وأكثف من عالم الأرواح وبنوا عليه تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال واستأنسوا له بقوله تعالى {فتمثل لها بشرا سويا} ومنه ما حكى عن قضيب البان الموصلى وكان من الأبدال أنه اتهمه بعض من لم يره يصلى بترك الصلاة وشدد النكير عليه فتمثل له على الفور في صور مختلفة وقال في أى هذه الصور رأيتنى ما أصلى ولهم من هذا النوع حكايات كثيرة
ومما // اتفق // لبعض المتأخرين أنه وجد فقيرا شيخا كبيرا يتوضأ بالقاهرة في المدرسة الشرفية من غير ترتيب فقال له يا شيخ تتوضأ بلا ترتيب فقال له ما توضأت إلا مرتبا ولكن أنت ما تبصر لو أبصرت لأبصرت هكذا وأخذ بيده وأراه الكعبة ثم مر به إلى مكة فوجد نفسه في مكة وأقام بها سنين في حكاية يطول شرحها
الثالث والعشرون إطلاع الله إياهم على ذخائر الأرض كما قدمناه في حكاية أبى تراب لما ضرب برجله الأرض فإذا عين ماء زلال
وعن بعضهم أنه عطش أيضا في طريق الحج فلم يجد ماء عند أحد فوجد فقيرا قد ركز عكازه في موضع والماء ينبع من تحت عكازه فملأ قربته ودل الحجيج عليه فجاءوا فملأوا أوانيهم من ذلك الماء
الرابع والعشرون ما سهل لكثير من العلماء من التصانيف في الزمن اليسير بحيث وزع زمان تصنيفهم على زمان اشتغالهم بالعلم إلى أن ماتوا فوجد لا يفى به نسخا فضلا عن التصنيف وهذا قسم من نشر الزمان الذى قدمناه فقد اتفق النقلة على أن عمر الشافعي رحمه الله لا يفى بعشر ما أبرزه من التصانيف مع ما يثبت عنه من تلاوة القرآن كل يوم ختمة بالتدبر وفى رمضان كل يوم ختمتين كذلك واشتغاله بالدرس
والفتاوى والذكر والفكر والأمراض التى كانت تعتوره بحيث لم يخل رضى الله عنه من علة أو علتين أو أكثر وربما اجتمع فيه ثلاثون مرضا
وكذلك إمام الحرمين أبو المعالى الجوينى رحمه الله حسب عمره وما صنفه مع ما كان يلقيه على الطلبة ويذكر به في مجالس التذكير فوجد لا يفى به
وقرأ بعضهم ثمانى ختمات في اليوم الواحد وأمثال هذا كثير
وهذا الإمام الربانى الشيخ محيى الدين النووى رحمه الله وزع عمره على تصانيفه فوجد أنه لو كان ينسخها فقط لما كفاها ذلك العمر فضلا عن كونه يصنفها فضلا عما كان يضمه إليها من أنواع العبادات وغيرها
وهذا الشيخ الإمام الوالد رحمه الله إذا حسب ما كتبه من التصانيف مع ما كان يواظبه من العبادات ويمليه من الفوائد ويذكره في الدروس من العلوم ويكتبه على الفتاوى ويتلوه من القرآن ويشتغل به من المحاكمات عرف أن عمره قطعا لا يفى بثلث ذلك فسبحان من يبارك لهم ويطوى لهم وينشر
الخامس والعشرون عدم تأثير السمومات وأنواع المتلفات فيهم كما اتفق ذلك للشيخ الذى قال له بعض الملوك إما أن تظهر لى آية وإلا قتلت الفقراء وكان بقربه بعر جمال فقال انظر فإذا هى ذهب وعنده كوز ليس فيه ماء فأخذه ورمى به في الهواء فأخذه ورده ممتلئا ماء وهو منكس لم يخرج منه قطرة فقال الملك هذا سحر وأوقد نارا عظيمة ثم أمرهم بالسماع فلما دار فيهم الوجد دخل الشيخ والفقراء في النار ثم خرج فخطف ابنا صغيرا للملك فدخل به وغاب ساعة بحيث كاد الملك يحترق على ولده ثم خرج به وفى إحدى يدى الصبى تفاحة وفى الأخرى رمانة فقال له أبوه أين كنت قال في بستان فقال جلساء الملك هذا صنعة لا حقيقة له فقال له الملك إن شربت هذا القدح من السم صدقتك فشربه وتمزقت ثيابه عليه ثم ألقوا عليه غيرها فتمزقت ثم هكذا
مرارا إلى أن ثبتت عليه الثياب وانقطع عنه عرق كان أصابه ولم يؤثر فيه السم ضررا
وأظن أنواع كراماتهم تربو على المائة وفيما أوردته دلالة على ما أهملته ومقنع وبلاغ لمن زالت عنه غفلته وما من نوع من هذه الأنواع إلا وقد كثرت فيه الأقاصيص والروايات وشاعت فيه الأخبار والحكايات وماذا بعد الحق إلا الضلال ولا بعد بيان الهدى إلا المحال وليس للموفق غير التسليم وسؤال ربه أن يلحقه بهؤلاء الصالحين فإنهم على صراط مستقيم ولو حاولنا حصر ما جراياتهم لضيقنا الأنفاس وضيعنا القرطاس
دار هجر - القاهرة-ط 2( 1992) , ج: 2- ص: 306