المأمون العباسي عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن ابي جعفر المنصور، ابو العباس: سابع الخلفاء من بني العباس في العراق؛ واحد اعاظم الملوك، في سيرته وعلمه وسعة ملكه. نفذ امره من افريقية إلى اقصى خراسان وما وراء النهر والسند. وعرفه المؤرخ ابن دحية بالامام (العالم المحدث النحوي اللغوي). ولي الخلافة بعد خلع اخيه الامين (سنة 198هـ) فتمم ما بدأ به جده المنصور من ترجمة كتب العلم والفلسفة. واتحف ملوك الروم بالهدايا سائلا ان يصلوه بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا اليه بعدد كبير من كتب افلاطون وارسطو طاليس وغيرهم، فاختار لها مهرة التراجمة، فترجمت. وحض الناس على قراءتها، فقامت دولة الحكمة في ايامه. وقرب العلماء والفقهاء والمحدثين والمتكلمين واهل اللغة والاخبار والمعرفة بالشعر والانساب. واطلق حرية الكلام للباحثين واهل الجدل والفلاسفة، لولا المحنة بخلق القرآن، في السنة الاخيرة منحياته. وكان فصيحا مفوها، واسع العلم، محبا للعفو. لتقربوا إلى بالجرائم. واخباره كثيرة جمع بعضها في مجلد مطبوع صفحاته 384 من (تاريخ بغداد) لابن ابي طيفور، وكتاب (عصر المأمون - ط) لاحمد فريد الرفاعي. وله من التواقيع والكلم ما يطول مدى الاشارة اليه. توفى في (بذندون) ودفن في طرسوس.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 4- ص: 142
أمير المؤمنين المأمون عبد الله بن هارون، أمير المؤمنين، أبو العباس المأمون بالله بن الرشيد بن المهدي بن المنصور. ولد سنة سبعين ومائة. بايعوه أول سنة ثمان وتسعين ومائة، وكان يكنى أبا العباس فلما استخلف اكتنى بأبي جعفر. وتوفي سنة ثمان عشرة ومائتين في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، وكانت وفاته بالبدنون، فكانت خلافته عشرين سنة وستة أشهر. قرأ العلم في صغره وسمع من هشيم وعباد بن العوام ويوسف بن عطية وأبي معاوية الضرير وطبقتهم، وروى عنه ولده الفضل، ويحيى بن أكثم، وجعفر ابن أبي عثمان الطيالسي والأمير عبد الله ابن طاهر، وأحمد بن الحارث الشيعي، ودعبل الخزاعي، وبرع في الفقه والعربية وأيام الناس. ولما كبر عني بعلوم الأوائل ومهر في الفلسفة فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن. وكان من رجال بني العباس حزما وعزما وعلما وحلما ورأيا ودهاء وشجاعة وسؤددا وسماحة. قال ابن أبي الدنيا: كان أبيض ربعة حسن الوجه تعلوه صفرة قد وخطه الشيب، أعين، طويل اللحية رقيقها، ضيق الجبين، على خده خال. وقال الجاحظ: كان أبيض فيه صفرة وكان ساقاه دون جسده صفراوين كأنما طليتا بزعفران. ولما خلعه الأمين غضب ودعا إلى نفسه بخراسان فبايعوه في ذلك التاريخ. وأمه أم ولد اسمها مراجل، ماتت أيام نفاسها به. ودعي للمأمون بالخلافة - وأخوه الأمين حي - في آخر سنة خمس وتسعين ومائة إلى أن قتل الأمين، فاجتمع الناس عليه وتفرقت عماله في البلاد وأقيم الموسم سنة ست وسنة سبع باسمه وهو مقيم بخراسان واجتمع الناس عليه ببغداد في أول سنة ثمان. وكان فصيحا مفوها، كان يقول: معاوية بعمره، وعبد الملك بحجاجه، وأنا بنفسي، ورويت هذه عن المنصور. ختم في بعض الرمضانات ثلاثا وثلاثين ختمة، وقال يحيى بن أكثم، قال المأمون: أريد أن أحدث، فقلت: ومن أولى بهذا من أمير المؤمنين؟! فقال: ضعوا لي منبرا، ثم صعد فأول ما حدث: حدثنا هشيم بن أبي الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رفع الحديث - قال: امرؤ القيس ’’صاحب لواء الشعراء إلى النار’’، ثم حدث بنحو ثلاثين حديثا، ثم نزل فقال: كيف رأيت يا يحيى مجلسنا؟ فقلت: أجل مجلس تفقه الخاصة والعامة. فقال: ما رأيت لكم حلاوة إنما المجلس لأصحاب الخلقان والمحابر. وروى عن محمد بن عون عن ابن عيينة أن المأمون جلس فجاءته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، مات أخي وخلف ستمائة دينارا فأعطوني دينارا وقالوا: هذا نصيبك فقال المأمون: هذا نصيبك! هذا خلف أربع بنات؟ فقالت: نعم، قال: لهن أربعمائة دينار، وخلف والدة لها مائة دينار، وخلف زوجة لها خمسة وسبعون دينارا، بالله ألك إثنا عشر أخا؟ قالت: نعم. قال: لكل واحد ديناران ولك دينار واحد. وقال المأمون: لو عرف الناس حبي للعفو لتقربوا إلي بالجرائم. وقيل إن ملاحا مر فقال: أتظنون أن هذا ينبل في عيني، وقد قتل أخاه الأمين؟ فسمعها فتبسم وقال: ما الحيلة حتى أنبل في عين هذا السيد الجليل؟! وكان المأمون بخراسان قد بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضا الحسيني ونوه بذكره وغير زي آبائه من لبس السواد وأبدله بالخضرة فغضب بنو العباس بالعراق لهذين الأمرين وخلعوه وبايعوه إبراهيم بن المهدي عمه ولقبوه المبارك، فحاربه الحسن بن سهل، فهزمه إبراهيم وألحقه بواسط، وأقام إبراهيم بالمدائن، ثم سار جيش الحسن وعليهم حميد الطوسي وعلي بن هشام فهزموا إبراهيم فاختفى وانقطع خبره إلى أن ظهر في وسط خلافة المأمون فعفا عنه على ما ذكرته في ترجمة إبراهيم. وتقدم رجل غريب بيده محبرة فقال: يا أمير المؤمنين! صاحب حديث منقطع به! فقال: ما تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر فيه شيئا، فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم وحدثنا يحيى وحدثنا الحجاج حتى ذكر الباب، ثم سأله عن باب آخر، فلم يذكر فيه شيئا، فقال المأمون: حدثنا فلان وحدثنا فلان إلى أن قال لأصحابه: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول: اعطوني أنا من أصحاب الحديث! أعطوه ثلاثة دراهم! ومع ذلك فكان مسرف الكرم جوادا ممدحا، فرق في ساعة ستة وعشرين ألف ألف درهم. ومدحه أعرابي مرة فأجازه بثلاثين ألف دينار. وقال أبو معشر: كان أمارا بالعدل، ميمون النقيبة، فقيه النفس يعد مع كبار العلماء. وأهدى إليه ملك الروم تحفا سنية منها مائة رطل مسك، ومائة حلة سمور، فقال المأمون: أضعفوها له ليعلم عز الإسلام وذل الكفر. وقال يحيى بن أكثم: كنت عند المأمون وعنده جماعة من قواد خراسان، وقد دعا إلى خلق القرآن فقال لهم: ما تقولون في القرآن؟ فقالوا؛ كان شيوخنا يقولون: ما كان فيه من ذكر الجمال والبقر والخيل والحمير فهو مخلوق، وما سوى ذلك فهو غير مخلوق، فأما إذ قد قال أمير المؤمنين هو مخلوق فنحن نقول: كله مخلوق! فقلت للمأمون: أتفرح بموافقة هؤلاء؟ وقال ابن عرفة: أمر المأمون مناديا فنادى في الناس ببراءة الذمة ممن ترحم على معاوية أو ذكره بخير، وكان كلامه في القرآن سنة اثنتي عشرة، فكثر المنكر لذلك وكاد البلد يفتن، ولم يلتئم له من ذلك ما أراد فكف عنه إلى بعد هذا الوقت. وقال النضر بن شميل: دخلت على المأمون فقال، إني قلت اليوم:
أصبح ديني الذي أدين به | ولست منه الغداة معتذرا |
حب علي بعد النبي ولا | أشتم صديقه ولا عمرا |
وابن عفان في الجنان مع الـ | ـأبرار ذاك القتيل مصطبرا |
وعائش الأم لست أشتمها | من يفتريها فنحن منه برا |
لساني كتوم لأسراركم | ودمعي نموم لسري يذيع |
فلولا دموعي كتمت الهوى | ولولا الهوى لم تكن لي دموع |
أنا المأمون والملك الهمام | ولكني بحبك مستهام |
أترضى أن أموت عليك وجدا | ويبقى الناس ليس لهم إمام |
بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة | وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا |
وناجيت من أهوى وكنت مقربا | فما ليت شعري عن دنوك ما أغنى |
فما ليتني كنت رسول وكنتني | فكنت الذي يقصى وكنت الذي أدنى |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 17- ص: 0
المأمون الخليفة أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور العباسي.
ولد سنة سبعين ومائة.
وقرأ العلم والأدب والأخبار، والعقليات وعلوم الأوائل، وأمر بتعريب كتبهم وبالغ وعمل الرصد فوق جبل دمشق، ودعا إلى القول بخلق القرآن، وبالغ نسأل الله السلامة.
وسمع من: هشيم، وعبيد بن العوام ويوسف بن عطية وأبي معاوية وطائفة.
روى عنه: ولده الفضل، ويحيى بن أكثم، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي، وعبد الله بن طاهر الأمير، ودعبل الشاعر وأحمد بن الحارث الشيعي.
وكان من رجال بني العباس حزما، وعزما ورأيا وعقلا، وهيبة وحلما ومحاسنه كثيرة في الجملة.
قال ابن أبي الدنيا: كان أبيض ربعة حسن الوجه تعلوه صفرة قد وخطه الشيب، وكان طويل اللحية أعين ضيق الجبين على خده شامة.
أتته وفاة أبيه وهو بمرو سائرا لغزو ما وراء النهر، فبايع من قبله لأخيه الأمين ثم جرت بينهما أمور وخطوب، وبلاء وحروب تشيب النواصي. إلى أن قتل الأمين، وبايع الناس المأمون في أول سنة ثمان وتسعين ومائة.
قال الخطبي: كنيته أبو العباس فلما استخلف اكتنى بأبي جعفر، واسم أمه: مراجل ماتت في نفاسها به.
قال: ودعي له بالخلافة في آخر سنة خمس وتسعين إلى أن قتل الأمين فاجتمع الناس عليه فاستعمل على العراق الحسن بن سهل ثم بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضى ونوه بذكره، ونبذ السواد وأبدله بالخضرة فهاجت بنو العباس، وخلعوا المأمون ثم بايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، ولقبوه المبارك وعسكروا فحاربهم الحسن بن سهل فهزموه فتحيز إلى واسط ثم سار جيش المأمون عليهم حميد الطوسي، وعلي بن هشام فالتقوا إبراهيم فهزموه فاختفى زمانا وانقطع خبره إلى أن ظفر به بعد ثمان سنين فعفا عنه المأمون.
وكان المأمون عالما فصيحا مفوها، وكان يقول: معاوية بن أبي سفيان بعمره، وعبد الملك بحجاجه وأنا بنفسي وقد رويت هذه أن المنصور قالها.
وعن المأمون أنه تلا في رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة.
الحسين بن فهم: حدثنا يحيى بن أكثم قال لي المأمون: أريد أن أحدث. قلت: ومن
أولى بهذا منك؟ قال: ضعوا لي منبرا ثم صعد قال: فأول ما حدثنا عن هشيم عن أبي الجهم، عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا: ’’امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار’’. ثم حدث بنحو من ثلاثين حديثا، ونزل فقال: كيف رأيت أبا يحيى مجلسنا؟ قلت: أجل مجلس تفقه الخاصة، والعامة قال: ما رأيت له حلاوة إنما المجلس لأصحاب الخلقان والمحابر.
أبو العباس السراج: حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال: تقدم رجل غريب بيده محبرة إلى المأمون فقال: يا أمير المؤمنين! صاحب حديث منقطع به فقال: ما تحفظ في باب كذا وكذا؟ فلم يذكر شيئا فقال: حدثنا هشيم، وحدثنا يحيى وحدثنا حجاج بن محمد حتى ذكر الباب، ثم سأله عن باب آخر فلم يذكر شيئا فقال: حدثنا فلان، وحدثنا فلان ثم قال لأصحابه: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول: أنا من أصحاب الحديث، أعطوه ثلاثة دراهم.
قلت: وكان جواد ممدحا معطاء ورد عنه أنه فرق في جلسة ستة وعشرين ألف ألف درهم وكان يشرب نبيذ الكوفة. وقيل: بل يشرب الخمر، فالله أعلم.
وقيل: إنه أعطى أعرابيا مدحه ثلاثين ألف دينار.
مسروق بن عبد الرحمن الكندي: حدثني محمد بن المنذر الكندي جار لعبد الله بن إدريس قال: حج الرشيد فدخل الكوفة فلم يتخلف إلا ابن إدريس، وعيسى بن يونس فبعث إليهما الأمين، والمأمون فحدثهما ابن إدريس بمائة حديث فقال المأمون: يا عم! أتأذن لي أن أعيدها حفظا؟ قال: افعل فأعادها فعجب من حفظه، ومضيا إلى عيسى فحدثهما فأمر له المأمون بشعرة آلاف درهم فأبى وقال: ولا شربة ماء على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
روى محمد بن عون عن ابن عيينة: أن المأمون جلس فجاءته امرأة فقالت: مات أخي وخلف ست مائة دينار فأعطوني دينارا واحدا، وقالوا: هذا ميراثك. فحسب
المأمون وقال: هذا خلف أربع بنات. قالت: نعم قال: لهن أربع مائة دينار. قالت: نعم قال: وخلف أما فلها مائة دينار، وزوجة لها خمسة وسبعون دينارا بالله ألك اثنا عشر أخا؟ قالت: نعم قال: لكل واحد ديناران ولك دينار.
قال ابن الأعرابي: قال لي المأمون: خبرني عن قول هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق | نمشي على النمارق |
أصبح ديني الذي أدين به | ولست منه الغداة معتذرا |
حب علي بعد النبي ولا | أشتم صديقه ولا عمرا |
وابن عفان في الجنان مع ال | أبرار ذاك القتيل مصطبرا |
وعائش الأم لست أشتمها | من يفتريها فنحن منه برا |
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 8- ص: 375