عبد الكريم الخليل عبد الكريم بن قاسم الخليل: محام، من شهداء العرب في عهد الترك. من أهل برج البراجنة (من ضواحي بيروت) تعلم الحقوق بالاستانة. وانتخب رئيسا للمنتدى الادبي (العربي) فيها. واحترف المحاماة. وعاد إلى سورية في اوائل الحرب العامة الاولى، يحمل فكرة انفصال العرب عن الترك. وخدعه أحمد جمال باشا (السفاح) بإظهاره الموافقة على جعل بلاد الشام (خديوية) تتبع الدولة العثمانية (كما كانت مصر) ويكون هو (جمال) الخديوي الاول فيها. ونشط عبد الكريم، فالف جمعية شبه سرية لهذا الغرض. ولم يلبث جمال ان قلب له ظهر المجن، فاعتقله وقتله شنقا، ببيروت، بعد محاكمة ظاهرية، في ديوان الحرب العرفي بعاليه (لبنان) استمرت شهرين.

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 4- ص: 54

عبد الكريم الخليل استشهد في بيروت خلال مع القافلة الأولى التي أعدمها الحياة أحمد جمال باشا. ولد في الشياح من ضواحي بيروت من أبوين صالحين. وكان جل شغل أبيه في عودته لا يحضر المجتمعات الا نادرا.
وقد تعلم المترجم في مدارس القرية في بيروت ثم في اسطنبول حيث كانت مجمع شبان العرب. وقد ألف هناك هو ورفاقه (المنتدى الادبي) واختير رئيسا له، وقد كان لهذا المنتدى شان واي شان في التوجيه العربي وأرسل رسلا للشريف حسين وامام اليمن وابن سعود، وخدم القضية العربية خدمات جلى كما أنشا مجلة باسمه لم يطل امر صدورها.
وفي خلال الحرب قدم إلى صيداء وبصحبته الدكتور محمد حيدر (و لم يكن قد نال شهادةالطب‏) ووزع سرا على فريق من الوجهاء والعلماء والشباب بطاقات الانتساب للجمعية العربية الثورية ولما نفدت البطاقات كلف الشيخ عارف الزين صاحب مجلة العرفان ان يحلف اليمين لمن يريد دخول الجمعية.
وقد بات ليلتين في صيداء والتقى هناك بالضابط حسن الهندي مأمور أخذ العسكر في صيدا وهو دمشقي الأصل مخلص لعروبته فجلس معه عبد الكريم في باب القشلة العسكرية زهاء ساعتين وجواسيس عادل رئيس الميناء وطلعت الكردي آمر الدرك يرصدونه ويراقبونه وهذا يدل على عدم تحرزه ولما قبض بعد ذلك على عبد الكريم عرض عليه أهل برج البراجنة والشياح ان يستنقذوه ويهربوه بطريق البحر فلم يقبل معتقدا انه متى جاء جمال باشا يخرجه حالا.
عند ما أعلنت‏في تموز 1914 كان يقود الجيش العثماني الرابع المشير زكي باشا ولما اشتدت وطاة طلبت حكومة برلين من تركية ان تفتح جبهات جديدة لتخفف ضغط الجيش الروسي عن الجيش الآلماني. فالقادة الأتراك لم يوافقوا على الطلب لان جيوشهم لم تكن مستعدة استعدادا فنيا ولا ماديا لخوض غمرات الهجوم، ولا سيما في خارج بلادهم، وكان زكي باشا قائد الجيش الرابع في مقدمة من رفض الطلب الالماني، وصارح المسئولين في الآستانة وبرلين بقوله: ان فتح جبهات جديدة سيكون عديم الفائدة ويكلف تركية ألوفا عديدة من الرجال هي في حاجة إليهم في اراضيها المترامية الأطراف.
وشعر زكي باشا بان حجته لن تقبل فطلب اعفاءه من القيادة فلبت الحكومة التركية طلبه وعينت وزير البحرية أحمد جال جمال باشا خلفا له وزودته بصلاحيات واسعة لم تعط لاي قائد في الحرب المذكورة.
وقال جمال باشا في مذكراته:...
وإذ كنت شخصيا موافقا في المبدأ على استعمال‏اللغة العربية ومنح العرب بعض امتيازات في الشؤون الادارية أرسلت في طلب عبد الكريم الخليل زعيم‏الذي ورد ذكره في الفصل الأول من هذه المذكرات فغمرته بالبشاشة والإحسان. واجتمعت بواسطته ببعض زعماء الثورة. وبسطت لهم خطة الحكومة وأكدت لهم ان تحرير العالم الإسلامي من النير الاجنبي ممكن تحقيقه لو عقد النصر بألويتنا فامنوا جميعا بلا استثناء على اقوالي وأقسموا بالله جهد ايمانهم وبشرفهم ان يظل عرب سوريا وفلسطين موالين للحكومة ما دامت الحرب وان لا يقيموا العراقيل في طريقها وان ينفذوا أقوالهم هذه بالفعل.
ثم قال في مكان آخر:...
ثم ركنت إلى حزب الإصلاح ووضعت ثقة كبرى في رجاله بل انني لم أتردد في الذهاب لرؤية مظاهرة وطنية بالقرب من رأس بعلبك وهي محطة منعزلة مع انني لم أكن مصطحبا الا حارسي الخاص وخلوصي بك والي سوريا، وقد رأيت من الضروري الاشتراك في ذاك الاحتفال لاظهر مقدار ما أودعته من الثقة في عبد الكريم الخليل منظم تلك الحفلة.
ثم قال في مكان آخر:...
ولم يقع بعد عودتي من القناة الأولى ما يزعزع ثقتي بالاصلاحيين. وكانت خطتي معهم خطة الصراحة حتى انني طلبت إلى عبد الكريم الخليل والدكتور عبد الرحمن شهبندر ان يزورا الجنود التركية العربية العائدة من القناة ليشهدا بنفسهما حسن حالتهم المعنوية... إلى ان يقول:
وفي مارس سنة 1915 قرأت في الصحف المصرية حملات عنيفة من اللجنة اللامركزية على الحكومة العثمانية فلم أجد مبررا ما لتلك الحملات. فسالت ذات يوم عبد الكريم الخليل إذا كان يعرف السر في ولاء الاصلاحيين في سوريا وبيروت في حين ان رفيق العظم وغيره من الذين يدعون انهم زعماء يختلقون على تركيا الاختلاقات السافلة (كذا) فحاول مع شي‏ء من الاضطراب ان يرد على سؤالي ولكنه لم يمكنه ذلك لان سؤالي كان مفحما.
ثم زارني بعد بضعة أيام وقال لي انه مستعد للذهاب إلى مصر -إذا رغبت في ذلك-ليشرح لزعماء اللجنة اللامركزية السياسية التي اتبعها في سوريا وأكد لي انه سيواصل السعي لحملهم على تغيير خطتهم..
إلى ان يقول: ولذا رابني اقتراح الذهاب إلى مصر فان ايطاليا كانت قد أعلنت وقت ذاك الحرب علينا فانقطعت بذلك آخر صلة بين الشاطي‏ء 33 السوري وبين العالم الخارجي. ولم أخف عليه ارتيابي من اقتراحه فسألته كيف تستطيع الوصول إلى مصر ؟فاجابني قائلا ساجد وسيلة للوصول إلى هناك. فلما اجابني بهذا قوي شكي إلى درجة اليقين ولكني لم اتظاهر بشي‏ء. انتهى. وقد شاع عن عبد الكريم الخليل انه كان من جماعة (اللامركزيين). وهذا خطا سببه ان جمال باشا زعم هذا الزعم الكاذب ليبرر جريمته فصدقته الناس... ان عبد الكريم لم ينتسب إلى حزب اللامركزية، ولم تنشأ بينهما علاقة عملية الا بعد انعقاد في باريس (18-23 حزيران 1913) إذ سافر من استنبول مع مدحت شكري السكرتير العام لحزب الاتحاد والترقي المسيطر على السلطنة يومها، سافرا إلى باريس للتوفيق بين جماعة المؤتمر ومعظمهم من اللامركزيين، والمؤتمر انعقد برعاية حزبهم، وبين الحكومة المركزية.
وقد وفق الخليل إلى اقناع المؤتمرين بوضع الشروط المعروفة للتقريب بين العنصرين الرئيسيين بتعيين الاكفياء من العرب في المناصب في السلطنة وهي تنحصر مبدئيا في الادارية العالية وتدريس‏اللغة العربيةفي الولايات العربية إلخ...
وكان جزاء إخلاصه في تلك الازمة العنيفة التي كانت تهدد السلطنة العثمانية بالشر المستطير، ان رفاقه شباب العرب في الآستانة حملوا عليه في أنديتهم أقسى الحملات وحاكموه... وبعد بضعة عشر شهرا جره الغادر السفاح إلى الشنق! وقال عجاج نويهض وهو يتحدث عن عبد الستار السندروسي:
الناحية الثانية من هذا البحث تتناول اخبار السندروسي عن عبد الكريم الخليل. وهنا لا بد لي من القول ان ما قيدته من هذه الاخبار يبلغ صفحات عديدة فلا سبيل لي والمجال ضيق هنا، إلى ان أضع هذا كله امام القارى‏ء. ولكني أحب ان أقول ان اخبار الحركة العربية في الآستانة والحواضر العربية وحتى أواخر 1914، تقوم على المحاور التالية:
1-محور الآستانة أو (المنتدى الادبي) ودعامته عبد الكريم الخليل وصحبه. وهذه الحركة بلغت ذروتها سنة 1913 والكلام على هذا المحور كأنه على عبد الكريم. وكان عماد الحركة في الآستانة الطلاب العرب في مختلف المعاهد وعددهم يزيد على الالف، والموظفون من مدنيين وعسكريين، وأهل التجارة والوجاهة المقيمون على ضفاف البوسفور. وبعد ان يتحدث نويهض عن حزب اللامركزية والجمعية الاصلاحية وجمعية العربية الفتاة والمهجر الأمريكي ينتقل إلى الحديث عن عبد الكريم فيقول:
ادعى وصف لعبد الكريم، هو هذا الذي سمعته من السندروسي ودونته عن لسانه:
كان مربوع القامة، حنطي اللون، شارباه قصيرين، ومن عادته من حيث يشعر أو لا يشعر ان تلاعب يده شاربيه، ولا سيما عند ما يتكلم، وقد ينتف بعض الشعرات!ـ
عريض الجبهة، ووجهه مائل إلى الاستطالة. قوي البنية. يلبس الطربوش، وطربوشه دائما من النوع الطويل يضيق في أعلاه. غير متقن اللباس ولا يبالي. هيئة التفكير بادية عليه دائما. إذا تكلم كان كلامه بطيئا.
لهجته مثقفة، لا هي بيروتية ولا شامية، وتحمل اثر اللغة المهذبة، يصغي إلى محدثه بكل عناية، إذا أدركه انفعال نفساني علا صوته وأسرع نطقه هادئ وبارز الاتزان، ولكنه يغضب بسرعة إذا رأى ان شعوره قد مس. ثم لا يلبث ان يعود إلى الرضى والسكينة له قوة كبيرة في احتمال الخصوم، وقوة أوسع وأكبر في تأليف القلوب.
طريقته في الاستمالة والاستجلاب مبنية على معنى بيت من الشعر (لابن العربي) كان عبد الكريم يتمثل به:

وكانت له قوة فراسة عجيبة في وجوه الرجال قلما تخيب. إذا اكتشف نقيصة في شخص كان قد امنه واستوثق منه، فإنه لا ينقلب عدوا له سافرا، ولا عدوا يظهر المودة ويبطن ما هو ضدها، بل يظل حسن المسايرة لذلك الشخص.
ليس للمال عنده قيمة الا لقضاء الحاجات. كان جيبه كيسا مفتوحا لكل يد، حتى لخصومه ومناوئيه.
يكره ان يسمع العربي يستعمل في حديثه عبارات اجنبية ولو كانت دائرة على السنة محبي الثقافة الاجنبية. من استغراقه في التفكير ينسى أموره الشخصية، وهذا كان الغالب عليه لا يشبع من مطالعة الصحف. وكان يكاتب (المؤيد) في مصر للشيخ علي يوسف ابتغاء إيصال أشياء سياسية في الرسائل لا يمكن إرسالها بطريقة اخرى.
كان يتقن العربية والتركية ويعرف الفرنسية قليلا. كانت خطبه من حيث المستوي الفكري والتعبيري كاجود خطب اليوم. ولكنه لم يكن ينشر مقالات في الصحف اليومية فهو من هذه الناحية ليس كاتبا صحافيا.
من نوادر أموره انه كان مولعا بلعبة (السيف والترس) ومتقنا لها، ولعله أحب هذه اللعبة في صغره لاشتمالها على عنصر بطولة وحذق فظل يميل إليها. من الغريب في هذه الصدد انه إذا شرع في هذه اللعبة، فلا يلبث ان تتجسم حماسته لدوران السيف في يده، ويشتد هياجه البطولي إلى حد ان أحدا لا يقوى على الاقتراب منه.
إلى ان قال نويهض راويا عن السندروسي:
لما فاتحني عبد الكريم بامر الحركة السرية، كان ذلك سنة 1908 ولكنه لم يذكر لي اسم الهيئة أو الجمعية الخفية، مع إيضاحه لي غايتها القومية (هذه غير المنتدى) وانا لم اساله ان يبين اي مزيد، ومشت الأمور، وفهمت بعد وقت انها هي (جمعية الشبيبة العربية) الموجه الخفي للحركة كلها، وما (المنتدى) الا قناع خارجي لها. 34 وقال السندروسي: وقد فهمت ان الجمعية كانت قد ألفت قبل الآن بثلاث سنوات اما عدد الأعضاء فمن الصعب معرفته لان السؤال عن مثل هذا كان ممنوعا. رقم السندروسي كان 27 في سنة 1908. ولا يدري أ حقيقي هذا الرقم أم رمزي وكان رقم العضو يطبع على قطعة جلد ناعم مما يستعمل لمسح (العوينات)، وهي بيضاء، وتختم بخاتم صغير لا يحمل الا كلمتين (الشبيبة العربية) والرقم. وقال حسن الخليل: ولد المترجم سنة 1884 في الشياح وتعلم العلوم الابتدائية أولا: في المدرسة القرآنية ثم في المكتب الاعدادي في بيروت حيث نال شهادته الثانوية ثم ذهب إلى الآستانة ودخل في مكتب الملكية وبالوقت نفسه سجل اسمه مع طلاب مكتب الحقوق سنة 1905 وتخرج منهما سنة 1909. ثم يروي كيفية اعتقاله فيقول:
كنت انا وعبد الكريم في قهوة خريستو ويوم اعتقاله يومئذ في بيروت قهوة الحمراء اليوم صباح يوم من أواخر شهر حزيران 1915 فجاء مفوض شرطة تركي وقال له ان مدير البوليس يرغب في مقابلتك الآن ثم تركنا وذهب فاخذني معه إلى دائرة البوليس حيث دخلنا على المدير محيي الدين بك الذي استقبلنا بلباقته المعروفة ثم قدم لنا القهوة والسكاير ثم بأسلوب ناعم قال لعبد الكريم انك مطلوب للمثول امام ديوان الحرب العرفي في عالية بامر من جمال باشا فيجب ان تذهب فورا بحراسة رجال البوليس فلم ينبس عبد الكريم ببنت شفة لكنه اخرج ورقة من جيبه وأحرقها بعد ان أشعل سيجارة وغمزني بطرف عينه ففهمت ان مراده حرق أوراقه الموجودة في البيت فذهبت فورا وأحرقت جميع أوراقه الخاصة.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 8- ص: 32