ابن عبد السلام عبد العزيز بن عبد السلام بن ابي القاسم ابن الحسن السلمي الدمشقي، عز الدين الملقب بسلطان العلماء: فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد. ولد ونشأ في دمشق. وزار بغداد سنة 599هـ ، فأقام شهرا. وعاد إلى دمشق، فتولى الخطابة بالجامع الاموي. ولما سلم الصالح اسماعيل ابن العادل قلعة (صفد) للفرنج اختيارا انكر عليه ابن عبد السلام ولم يدع له في الخطبة، فغضب وحبسه. ثم اطلقه فخرج إلى مصر، فولاه صاحبها الصالح نجم الدين ايوب القضاء والخطابة ومكنه من الامر والنهي. ثم اعتزل ولزم بيته. ولما مرض ارسل اليه الملك الظاهر يقول: ان في اولادك من يصلح لوظائفك. فقال: لا. وتوفى بالقاهرة. من كتبه (التفسير الكبير) و (الالمام في ادلة الاحكام) و (قواعد الشريعة - خ) و (0الفوائد - خ) و (قواعد الاحكام في اصلاح الانمام - ط) فقه، و (ترغيب أهل الاسلام في سكن الشام) و (بداية السول في تفضيل الرسول - خ) و (0الفتاوى - خ) فقه، و (0الاشارةالى الايجاز في بعض انواع المجاز - ط) في مجاز القرآن، و (مسائل الطريقة - ط) تصوف، و (الفرق بين الايمان والاسلام - خ) رسالة، و (مقاصد الرعاية) وغيرذلك. وكان من امثال مصر: (ما انت الا من العوام ولو كنت ابن عبد السلام).

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 4- ص: 21

عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد ابن مهذب السلمي

شيخ الإسلام والمسلمين وأحد الأئمة الأعلام سلطان العلماء إمام عصره بلا مدافعة القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها العارف بمقاصدها لم ير مثل نفسه ولا رأى من رآه مثله علما وورعا وقياما في الحق وشجاعة وقوة جنان وسلاطة لسان

ولد سنة سبع أو سنة ثمان وسبعين وخمسمائة

تفقه على الشيخ فخر الدين ابن عساكر وقرأ الأصول على الشيخ سيف الدين الآمدي وغيره وسمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم ابن عساكر وشيخ الشيوخ عبد اللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي وعمر بن محمد بن طبرزد وحنبل بن عبد الله الرصافي والقاضي عبد الصمد بن محمد الحرستاني وغيرهم وحضر على بركات بن إبراهيم الخشوعي

روى عنه تلامذته شيخ الإسلام ابن دقيق العيد وهو الذي لقب الشيخ عز الدين سلطان العلماء والإمام علاء الدين أبو الحسن الباجي والشيخ تاج الدين ابن الفركاح والحافظ أبو محمد الدمياطي والحافظ أبو بكر محمد بن يوسف بن مسدي

والعلامة أحمد أبو العباس الدشناوي والعلامة أبو محمد هبة الله القفطي وغيرهم

روى لنا عنه الختني

درس بدمشق أيام مقامه بها بالزاوية الغزالية وغيرها وولي الخطابة والإمامة بالجامع الأموي

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة أحد تلامذة الشيخ وكان أحق الناس بالخطابة والإمامة وأزال كثيرا من البدع التي كان الخطباء يفعلونها من دق السيف على لمنبر وغير ذلك وأبطل صلاتي الرغائب ونصف شعبان ومنع منهما

قلت واستمر الشيخ عز الدين بدمشق إلى أثناء أيام الصالح إسماعيل المعروف بأبي الخيش فاستعان أبو الخيش بالفرنج وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشقيف فأنكر عليه الشخ عز الدين وترك الدعاء له في الخطبة وساعده في ذلك الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب المالكي فغضب السلطان منهما فخرجا إلى الديار المصرية في حدود سنة تسع وثلاثين وستمائة فلما مر الشيخ عز الدين بالكرك تلقاه صاحبها وسأله الإقامة عنده فقال له بلدك صغير على علمي ثم توجه إلى القاهرة فتلقاه سلطانها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل وأكرمه وولاه خطابة جامع عمرو ابن العاص بمصر والقضاء بها وبالوجه القبلي مدة فاتفق أن أستاذ داره فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ وهو الذي كان إليه أمر المملكة عمد إلى مسجد بمصر فعمل على ظهره بناء لطبل خانات وبقيت تضرب هنالك فلما ثبت هذا عند الشيخ عز الدين حكم بهدم ذلك البناء وأسقط فخر الدين ابن الشيخ وعزل نفسه من القضاء ولم تسقط بذلك منزلة الشيخ

عند السلطان ولكنه لم يعده إلى الولاية وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم لا يتأثر به فخر الدين في الخارج فاتفق أن جهز السلطان الملك الصالح رسولا من عنده إلى الخليفة المستعصم ببغداد فلما وصل الرسول إلى الديوان ووقف بين يدي الخليفة وأدى الرسالة خرج إليه وسأله هل سمعت هذه الرسالة من السلطان فقال لا ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين ابن شيخ الشيوخ أستاذ داره فقال الخليفة إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام فنحن لا نقبل روايته فرجع الرسول إلى السلطان حتى شافهه بالرسالة ثم عاد إلى بغداد وأداها

ثم بنى السلطان مدرسة الصالحية المعروفة بين القصرين بالقاهرة وفوض تدريس الشافعية بها إلى الشيخ عز الدين فباشره وتصدى لنفع الناس بعلومه ولما استقر مقامه بمصر أكرمه حافظ الديار المصرية وزاهدها عبد العظيم المنذري وامتنع من الفتيا وقال كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه

سمعت الشيخ الإمام رحمه الله يقول سمعت شيخنا الباجي يقول طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة فشاهد العساكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور فقال هل جرى هذا فقال نعم الحانة الفلانية يباع فيها الخمور

وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون فقال يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من زمان أبي فقال أنت من الذين يقولون {إنا وجدنا آباءنا على أمة} فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة

سمعت الشيخ الإمام يقول سمعت الباجي يقول سألت الشيخ لما جاء من عند السلطان وقد شاع هذا الخبر يا سيدي كيف الحال فقال يا بني رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه لئلا تكبر نفسه فتؤذيه فقلت يا سيدي أما خفته فقال والله يا بني استحضرت هيبة الله تعالى فصار السلطان قدامي كالقط

ورأيت في بعض المجاميع أن الذي سأله هذا السؤال تلميذه الشيخ أبو عبد الله محمد بن النعمان فلعل الباجي وابن النعمان سألاه

سمعت الشيخ الإمام يقول كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرا جدا ولم يشتغل إلا على كبر وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلاسة من جامع دمشق فبات بها ليلة ذات برد شديد فاحتلم فقام مسرعا ونزل في بركة الكلاسة فحصل له ألم شديد من البرد وعاد فنام فاحتلم ثانيا فعاد إلى البركة لأن أبواب الجامع مغلقة وهو

لا يمكنه الخروج فطلع فأغمي عليه من شدة البرد أنا أشك هل كان الشيخ الإمام يحكي أن هذا اتفق له ثلاث مرات تلك الليلة أو مرتين فقط ثم سمع النداء في المرة الأخيرة يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل فقال الشيخ عز الدين العلم لأنه يهدي إلى العمل فأصبح وأخذ التنبيه فحفظه في مدة يسيرة وأقبل على العلم فكان أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله تعالى

سمعت الشيخ الإمام رحمه الله تعالى يقول سمعت الشيخ صدر الدين أبا زكريا يحيى ابن علي السبكي يقول كان في الريف شخص يقال له عبد الله البلتاجي من أولياء الله تعالى وكانت بينه وبين الشيخ عز الدين صداقة وكان يهدي له في كل عام فأرسل إليه مرة حمل جمل هدية ومن جملته وعاء فيه جبن فلما وصل الرسول إلى باب القاهرة انكسر ذلك الوعاء وتبدد ما فيه فتألم الرسول لذلك فرآه شخص ذمي فقال له لم تتألم عندي ما هو خير منه قال الرسول فاشتريت منه بدله وجئت فما كان إلا بقدر أن وصلت إلى باب الشيخ ولم يعلم بي ولا بما جرى لي غير الله تعالى وإذا بشخص نزل من عند الشيخ وقال اصعد بما جئت فناولته شيئا فشيئا إلى أن سلمته ذلك الجبن فطلع ثم نزل فقلت أعطيته للشيخ فقال أخذ الجميع إلا الجبن ووعاءه فإنه قال لي ضعه على الباب فلما طلعت أنا قال لي يا ولدي ليش تفعل هذا إن المرأة التي حلبت لبن هذا الجبن كانت يدها متنجسة بالخنزير ورده وقال سلم على أخي

وحكى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة رحمه الله أن الشيخ لما كان بدمشق وقع مرة غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل فأعطته زوجته مصاغا لها وقالت اشتر لنا به بستانا نصيف به فأخذ ذلك المصاغ وباعه وتصدق بثمنه فقالت يا سيدي اشتريت لنا قال نعم بستانا في الجنة إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه فقالت له جزاك الله خيرا

وحكى أنه كان مع فقره كثير الصدقات وأنه ربما قطع من عمامته وأعطى فقيرا يسأله إذا لم يجد معه غير عمامته وفي هذه الحكاية ما يدل على أنه كان يلبس العمامة وبلغني أنه كان يلبس قبع لباد وأنه كان يحضر المواكب السلطانية به فكأنه كان يلبس تارة هذا وتارة هذا على حسب ما يتفق من غير تكلف

قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء

وعن الشيخ جمال الدين ابن الحاجب أنه قال ابن عبد السلام أفقه من الغزالي

وحكى القاضي عز الدين الهكاري ابن خطيب الأشمونين في مصنف له ذكر فيه سيرة الشيخ عز الدين أن الشيخ عز الدين أفتى مرة بشيء ثم ظهر له أنه خطأ فنادى في مصر والقاهرة على نفسه من أفتى له فلان بكذا فلا يعمل به فإنه خطأ

وذكر أن الشيخ عز الدين لبس خرقة التصوف من الشيخ شهاب الدين السهروردي وأخذ عنه وذكر أنه كان يقرأ بين يديه رسالة القشيري فحضره مرة الشيخ أبو العباس المرسي لما قدم من الإسكندرية إلى القاهرة فقال له الشيخ

عز الدين تكلم على هذا الفصل فأخذ المرسي يتكلم والشيخ عز الدين يزحف في الحلقة ويقول اسمعوا هذا الكلام الذي هو حديث عهد بربه

وقد كانت للشيخ عز الدين اليد الطولى في التصوف وتصانيفه قاضية بذلك

ذكر واقعة التتار وما كان من سلطان العلماء فيها

وحاصلها أن التتار لما دهمت البلاد عقيب واقعة بغداد التي سنشرحها إن شاء الله تعالى في ترجمة الحافظ زكي الدين وجبن أهل مصر عنهم وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض استشاروا الشيخ عز الدين رحمه الله فقال اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر فقال السلطان له إن المال في خزانتي قليل وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار فقال له الشيخ عز الدين إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام وضربته سكة ونقدا وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت اطلب القرض وأما قبل ذلك فلا فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة بحيث لا يستطيعون مخالفته فامتثلوا أمره فانتصروا

ومما يدل على منزلته الرفيعة عندهم أن الملك الظاهر بيبرس لم يبايع واحدا من الخليفة المستنصر والخليفة الحاكم إلا بعد أن تقدمه الشيخ عز الدين للمبايعة ثم بعده السلطان ثم القضاة ولما مرت جنازة الشيخ عز الدين تحت القلعة وشاهد الملك الظاهر كثرة الخلق الذين معها قال لبعض خواصه اليوم استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس اخرجوا عليه لانتزع الملك مني

ذكر واقعة الفرنج على دمياط

وكانت قبل ذلك وصلوا إلى المنصورة في المراكب واستظهروا على المسلمين وكان الشيخ مع العسكر وقويت الريح فلما رأى الشيخ حال المسلمين نادى بأعلى صوته مشيرا بيده إلى الريح يا ريح خذيهم عدة مرار فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها وكان الفتح وغرق أكثر الفرنج وصرخ من بين يدي المسلمين صارخ الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم رجلا سخر له الريح

(ذكر كائنة الشيخ مع أمراء الدولة من الأتراك

وهم جماعة ذكر أن الشيخ لم يثبت عنده أنهم أحرار وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين فبلغهم ذلك فعظم الخطب عندهم فيه وأضرم الأمر والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحا وتعطلت مصالحهم بذلك وكان من جملتهم نائب السلطنة فاستشاط غضبا فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقال نعقد لكم مجلسا وينادى عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث إليه فلم يرجع فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر وأنه لا يتعلق به فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار وأركب عائلته على حمار آخر ومشى خلفهم خارجا من القاهرة قاصدا نحو الشام فلم يصل إلى نحو نصف بريد إلا وقد لحقه غالب المسلمين لم تكد امرأة ولا صبي

ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم فبلغ السلطان الخبر وقيل له متى راح ذهب ملكك فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه فرجع واتفقوا معهم على أنه ينادى على الأمراء فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه فانزعج النائب وقال كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض والله لأضربنه بسيفي هذا فركب بنفسه في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده فطرق الباب فخرج ولد الشيخ أظنه عبد اللطيف فرأى من نائب السلطنة ما رأى فعاد إلى أبيه وشرح له الحال فما اكترث لذلك ولا تغير وقال يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب وسقط السيف منها وأرعدت مفاصله فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له وقال يا سيدي خبر أيش تعمل قال أنادي عليكم وأبيعكم قال ففيم تصرف ثمننا قال في مصالح المسلمين قال من يقبضه قال أنا فتم له ما أراد ونادى على الأمراء واحدا واحدا وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير وهذا ما لم يسمع بمثله عن أحد رحمه الله تعالى ورضى عنه

ذكر البحث عما كان بين سلطان العلماء والملك الأشرف موسى بن الملك العادل بن أيوب

وذلك بدمشق قبل خروجه إلى الديار المصرية ولنشرحه مختصرا

ذكر الشيخ الإمام شرف الدين عبد اللطيف ولد الشيخ فيما صنفه من أخبار والده في هذه الواقعة أن الملك الأشرف لما اتصل به ما عليه الشيخ عز الدين من القيام لله والعلم والدين وأنه سيد أهل عصره وحجة الله على خلقه أحبه وصار يلهج بذكره ويؤثر الاجتماع به والشيخ لا يجيب إلى الاجتماع وكانت طائفة من مبتدعة الحنابلة القائلين بالحرف والصوت ممن صحبهم السلطان في صغره يكرهون الشيخ عز الدين ويطعنون فيه وقرروا في ذهن السلطان الأشرف أن الذي هم عليه اعتقاد السلف وأنه اعتقاد أحمد بن حنبل رضي الله عنه وفضلاء أصحابه واختلط هذا بلحم السلطان ودمه وصار يعتقد أن مخالف ذلك كافر حلال الدم فلما أخذ السلطان في الميل إلى الشيخ عز الدين دست هذه الطائفة إليه وقالوا إنه أشعري العقيدة يخطئ من يعتقد الحرف والصوت ويبدعه ومن جملة اعتقاده أنه يقول بقول الأشعري أن الخبز لا يشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق فاستهال ذلك السلطان واستعظمه ونسبهم إلى التعصب عليه فكتبوا فتيا في مسألة الكلام وأوصلوها إليه مريدين أن يكتب عليها بذلك فيسقط موضعه عند السلطان وكان الشيخ قد اتصل به ذلك كله فلما جاءته الفتيا قال هذه الفتيا كتبت امتحانا لي والله لا كتبت فيها إلا ما هو الحق

فكتب العقيدة المشهورة وقد ذكر ولده بعضها في تصنيفه وأنا أرى أن أذكرها كلها لتستفاد وتحفظ

قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه وعنا به الحمد لله ذي العزة والجلال والقدرة والكمال والإنعام والإفضال الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ليس بجسم مصور ولا جوهر محدود مقدر ولا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات كان قبل أن كون المكان ودبر الزمان وهو الآن على ما عليه كان خلق الخلق وأعمالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم فكل نعمة منه فهي فضل وكل نقمة منه فهي عدل {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} استوى على العرش المجيد على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال فتعالى الله الكبير المتعال عما يقوله أهل الغي والضلال بل لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته مقهورون في قبضته أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا مطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر حي مريد سميع بصير عليم قدير متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت ولا يتصور في كلامه أن ينقلب مدادا في الألواح والأوراق شكلا ترمقه العيون والأحداق كما زعم أهل الحشو والنفاق بل الكتابة من أفعال العباد ولا يتصور في أفعالهم أن تكون قديمة ويجب احترامها لدلالتها على كلامه كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته وحق لما دل عليه وانتسب إليه أن يعتقد عظمته وترعى حرمته ولذلك يجب احترام الكعبة والأنبياء والعباد والصلحاء

ولمثل ذلك يقبل الحجر الأسود ويحرم على المحدث أن يمس المصحف أسطره وحواشيه التي لا كتابة فيها وجلده وخريطته التي هو فيها فويل لمن زعم أن كلام الله القديم شيء من ألفاظ العباد أو رسم من أشكال المداد

واعتقاد الأشعري رحمه الله مشتمل على ما دلت عليه أسماء الله التسعة والتسعون التي سمى بها نفسه في كتابه وسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسماؤه مندرجة في أربع كلمات هن الباقيات الصالحات

الكلمة الأولى قول سبحان الله ومعناها في كلام العرب التنزيه والسلب فهي مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله وصفاته فما كان من أسمائه سلبا فهو مندرج تحت هذه الكلمة كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب والسلام وهو الذي سلم من كل آفة

الكلمة الثانية قول الحمد لله وهي مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته فما كان من أسمائه متضمنا للإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحت الكلمة الثانية فقد نفينا بقولنا سبحان الله كل عيب عقلناه وكل نقص فهمناه وأثبتنا بالحمد لله كل كمال عرفناه وكل جلال أدركناه ووراء ما نفيناه وأثبتناه شأن عظيم قد غاب عنا وجهلناه فنحققه من جهة الإجمال بقولنا الله أكبر وهي الكلمة الثالثة بمعنى أن أجل مما نفيناه وأثبتناه وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فما كان من أسمائه متضمنا لمدح فوق ما عرفناه وأدركناه كالأعلى والمتعالى فهو مندرج تحت قولنا الله أكبر فإذا كان في الوجود من هذا شأنه نفينا أن يكون في الوجود من يشاكله أو يناظره فحققنا ذلك بقولنا لا إله إلا الله وهي الكلمة الرابعة

فإن الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه فما كان من أسمائه متضمنا للجميع على الإجمال كالواحد والأحد وذي الجلال والإكرام فهو مندرج تحت قولنا لا إله إلا الله وإنما استحق العبودية لما وجب له من أوصاف الجلال ونعوت الكمال الذي لا يصفه الواصفون ولا يعده العادون

فسبحان الله من عظم شأنه وعز سلطانه {يسأله من في السماوات والأرض} لافتقارهم إليه {كل يوم هو في شأن} لاقتداره عليه له الخلق والأمر والسلطان والقهر فالخلائق مقهورون في قبضته {والسماوات مطويات بيمينه} {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} فسبحان الأزلي الذات والصفات ومحيي الأموات وجامع الرفات العالم بما كان وما هو آت

ولو أدرجت الباقيات الصالحات في كلمة منها على سبيل الإجمال وهي الحمد لله لاندرجت فيها كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لو شئت أن أوقر بعيرا من قولك الحمد لله لفعلت فإن الحمد هو الثناء والثناء يكون بإثبات الكمال تارة وبسلب النقص أخرى وتارة بالاعتراف بالعجز عن درك الإدراك وتارة بإثبات التفرد بالكمال والتفرد بالكمال من أعلى مراتب المدح والكمال فقد اشتملت هذه الكلمة على ما ذكرناه في الباقيات الصالحات لأن الألف واللام فيها لاستغراق جنس المدح والحمد مما علمنا وجهلناه ولا خروج للمدح عن شيء مما ذكرناه ولا يستحق الإلهية إلا من اتصف بجميع ما قررناه ولا يخرج عن هذا الاعتقاد ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أحد من أهل الملل إلا من خذله الله فاتبع هواه وعصى مولاه أولئك قوم قد غمرهم ذل الحجاب وطردوا عن الباب وبعدوا عن ذلك

الجناب وحق لمن حجب في الدنيا عن إجلاله ومعرفته أن يحجب في الآخرة عن إكرامه ورؤيته

فهذا إجمال من اعتقاد الأشعري رحمه الله تعالى واعتقاد السلف وأهل الطريقة والحقيقة نسبته إلى التفصيل الواضح كنسبة القطرة إلى البحر الطافح

غيره

والحشوية المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ضربان أحدهما لا يتحاشى من إظهار الحشو {ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون} والآخر يتستر بمذهب السلف لسحت يأكله أو حطام يأخذه

{يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم} ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه ولذلك جميع المبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السلف فهم كما قال القائل

وكيف يدعى على السلف أنهم يعتقدون التجسيم والتشبيه أو يسكتون عند ظهور البدع ويخالفون قوله تعالى {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}

وقوله {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} وقوله {لتبين للناس ما نزل إليهم}

والعلماء ورثة الأنبياء فيجب عليهم من البيان ما وجب على الأنبياء

وقال تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ومن أنكر المنكرات التجسيم والتشبيه ومن أفضل المعروف التوحيد والتنزيه وإنما سكت السلف قبل ظهور البدع فورب السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع لقد تشمر السلف للبدع لما ظهرت فقمعوها أتم القمع وردعوا أهلها أشد الردع فردوا على القدرية والجهمية والجبرية وغيرهم من أهل البدع فجاهدوا في الله حق جهاده

والجهاد ضربان ضرب بالجدل والبيان وضرب بالسيف والسنان فليت شعري فما الفرق بين مجادلة الحشوية وغيرهم من أهل البدع ولولا خبث في الضمائر وسوء اعتقاد في السرائر {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} وإذا سئل أحدهم عن مسألة من مسائل الحشو أمر بالسكوت عن ذلك وإذا سئل عن غير الحشو من البدع أجاب فيه بالحق ولولا ما انطوى عليه باطنه من التجسيم والتشبيه لأجاب في مسائل الحشو بالتوحيد والتنزيه ولم تزل هذه الطائفة المبتدعة قد ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين} لا تلوح لهم فرصة إلا طاروا إليها ولا فتنة إلا أكبوا عليها وأحمد بن حنبل وفضلاء أصحابه وسائر علماء السلف برآء إلى الله مما نسبوه إليهم واختلقوه عليهم وكيف يظن بأحمد بن حنبل وغيره من العلماء أن يعتقدوا أن وصف الله القديم القائم بذاته هو غير لفظ اللافظين ومداد

الكاتبين مع أن وصف الله قديم وهذه الأشكال والألفاظ حادثة بضرورة العقل وصريح النقل وقد أخبر الله تعالى عن حدوثها في ثلاثة مواضع من كتابه

أحدها قوله {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} جعل الآتى محدثا فمن زعم أنه قديم فقد رد على الله سبحانه وتعالى وإنما هذا الحادث دليل على القديم كما أنا إذا كتبنا اسم الله تعالى في ورقة لم يكن الرب القديم حالا في تلك الورقة فكذلك إذا كتب الوصف القديم في شئ لم يحل الوصف المكتوب حيث حلت الكتابة

الموضع الثاني قوله {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم} وقول الرسول صفة للرسول ووصف الحادث حادث يدل على الكلام القديم فمن زعم أن قول الرسول قديم فقد رد على رب العالمين ولم يقتصر سبحانه وتعالى على الإخبار بذلك حتى أقسم على ذلك بأتم الأقسام فقال تعالى {فلا أقسم بما تبصرون} أي تشاهدون {وما لا تبصرون} أي ما لم تروه فاندرج في هذا القسم ذاته وصفاته وغير ذلك من مخلوقاته

الموضع الثالث قوله تعالى {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم}

والعجب ممن يقول القرآن مركب من حرف وصوت ثم يزعم أنه في المصحف وليس في المصحف إلا حرف مجرد لا صوت معه إذ ليس فيه حرف مكتوب عن صوت فإن الحرف اللفظي ليس هو الشكل الكتابى ولذلك يدرك الحرف اللفظي بالآذان ولا يشاهد بالعيان ويشاهد الشكل الكتابي بالعيان ولا يسمع بالآذان ومن توقف في ذلك فلا يعد من العقلاء فضلا عن العلماء فلا أكثر الله في المسلمين من أهل البدع والأهواء والإضلال والإغواء

ومن قال بأن الوصف القديم حال في المصحف لزمه إذا احترق المصحف أن يقول بأن وصف الله القديم احترق سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ومن شأن القديم أن لا يلحقه تغير ولا عدم فإن ذلك مناف للقدم

فإن زعموا أن القرآن مكتوب في المصحف غير حال فيه كما يقوله الأشعرى فلم يلعنون الأشعري رحمه الله وإن قالوا بخلاف ذلك فانظر {كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا} {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}

وأما قوله سبحانه وتعالى {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} فلا خلاف بين أئمة العربية أنه لا بد من كلمة محذوفة يتعلق بها قوله {في كتاب مكنون} ويجب القطع بأن ذلك المحذوف تقديره (مكتوب في كتاب مكنون) لما ذكرناه وما دل عليه العقل الشاهد بالوحدانية وبصحة الرسالة وهو مناط التكليف بإجماع المسلمين وإنما لم يستدل بالعقل على القدم وكفى به شاهدا لأنهم لا يسمعون شهادته مع أن الشرع قد عدل العقل وقبل شهادته واستدل به في مواضع من كتابه كالاستدلال بالإنشاء على الإعادة وكقوله تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وقوله {وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} وقوله {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء}

فيا خيبة من رد شاهدا قبله الله وأسقط دليلا نصبه الله فهم يرجعون إلى المنقول فلذلك استدللنا بالمنقول وتركنا المعقول كمينا إن احتجنا إليه أبرزناه وإن لم نحتج إليه

أخرناه وقد جاء في الحديث الصحيح من قرأ القرآن وأعربه كان له بكل حرف عشر حسنات ومن قرأه ولم يعربه فله بكل حرف منه حسنة والقديم لا يكون معيبا باللحن وكاملا بالإعراب وقد قال تعالى {وما تجزون إلا ما كنتم تعملون} فإذا أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بأنا نجزى على قراءة القرآن دل على أنه من أعمالنا وليست أعمالنا قديمة وإنما أتي القوم من قبل جهلهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسخافة العقل وبلادة الذهن فإن لفظ القرآن يطلق في الشرع واللسان على الوصف القديم ويطلق على القراءة الحادثة قال الله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه} أراد بقرآنه قراءته إذ ليس للقرآن قرآن آخر {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أي قراءته فالقراءة غير المقروء والقراءة حادثة والمقروء قديم كما أنا إذا ذكرنا الله عز وجل كان الذكر حادثا والمذكور قديما فهذه نبذة من مذهب الأشعري رحمه الله

والكلام في مثل هذا يطول ولولا ما وجب على العلماء من إعزاز الدين وإخمال المبتدعين وما طولت به الحشوية ألسنتهم في هذا الزمان من الطعن في أعراض الموحدين والإزراء على كلام المنزهين لما أطلت النفس في مثل هذا مع إيضاحه ولكن قد أمرنا الله بالجهاد في نصرة دينه إلا أن سلاح العالم علمه ولسانه كما أن سلاح الملك سيفه وسنانه فكما لا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عن الملحدين والمشركين لا يجوز للعلماء إغماد ألسنتهم عن الزائغين والمبتدعين فمن ناضل عن الله وأظهر دين الله كان جديرا أن يحرسه الله بعينه التي لا تنام ويعزه بعزه الذي لا يضام ويحوطه بركنه الذي

لا يرام ويحفظه من جيمع الأنام {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} وما زال المنزهون والموحدون يفتون بذلك على رؤوس الأشهاد في المحافل والمشاهد ويجهرون به في المدارس والمساجد وبدعة الحشوية كامنة خفية لا يتمكنون من المجاهرة بها بل يدسونها إلى جهلة العوام وقد جهروا بها في هذا الأوان فنسأل الله تعالى أن يعجل بإخمالها كعادته ويقضي بإذلالها على ما سبق من سنته وعلى طريقة المنزهين والموحدين درج الخلف والسلف رضى الله عنهم أجمعين

والعجب أنهم يذمون الأشعري بقوله إن الخبز لا يشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق وهذا كلام أنزل الله معناه في كتابه فإن الشبع والري والإحراق حوادث انفرد الرب بخلقها فلم يخلق الخبز الشبع ولم يخلق الماء الري ولم تخلق النار الإحراق وإن كانت أسبابا في ذلك فالخالق هو المسبب دون السبب كما قال تعالى {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} نفى أن يكون رسوله خالقا للرمى وإن كان سببا فيه وقد قال تعالى {وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا} فاقتطع الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء عن أسبابها وأضافها إليه فكذلك اقتطع الأشعري رحمه الله الشبع والري والإحراق عن أسبابها وأضافها إلى خالقها لقوله تعالى {خالق كل شيء} وقوله {هل من خالق غير الله} {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} {أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون}

فسبحان من رضي عن قوم فأدناهم وسخط على آخرين فأقصاهم {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}

وعلى الجملة ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق وأخمل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما وإن عز الحق فظهر الصواب أن يستظل بظلهما وأن يكتفي باليسير من رشاش غيرهما

والمخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزاز الدين ولذلك يجوز للبطل من المسلمين أن ينغمر في صفوف المشركين وكذلك المخاطرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة قواعد الدين بالحجج والبراهين مشروعة فمن خشي على نفسه سقط عنه الوجوب وبقي الاستحباب ومن قال بأن التغرير بالنفوس لا يجوز فقد بعد عن الحق ونأى عن الصواب

وعلى الجملة فمن آثر الله على نفسه آثره الله ومن طلب رضا الله بما يسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس ومن طلب رضا الناس بما يسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس وفي رضا الله كفاية عن رضا كل أحد

غيره

وقد قال صلى الله عليه وسلم احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك وجاء في حديث ذكروا الله بأنفسكم فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله من نفسه حتى قال بعض الأكابر من أراد أن ينظر منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده

اللهم فانصر الحق وأظهر الصواب وأبرم لهذه الأمة أمرا رشدا يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك

والحمد لله الذي إليه استنادي وعليه اعتمادي وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

فهذه الفتيا التي كتبها قال ولده الشيخ شرف الدين عبد اللطيف فلما فرغ من كتابة ما راموه رماه إليهم وهو يضحك عليهم فطاروا بالجواب وهم يعتقدون أن الحصول على ذلك من الفرص العظيمة التي ظفروا بها ويقطعون بهلاكه واستئصاله واستباحة دمه وماله فأوصلوا الفتيا إلى الملك الأشرف رحمه الله فلما وقف عليها استشاط غضبا وقال صح عندي ما قالوه عنه وهذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين فظهر بعد الاختبار أنه من الفجار لا بل من الكفار وكان ذلك في رمضان عند الإفطار وعنده على سماطه عامة الفقهاء من جميع الأقطار فلم يستطع أحد منهم أن يرد عليه بل قال بعض أعيانهم السلطان أولى بالعفو والصفح ولا سيما في مثل هذا الشهر وموه آخرون بكلام موجه يوهم صحة مذهب الخصم ويظهرون أنهم قد أفتوا بموافقته فلما انفصلوا تلك الليلة من مجلسه بالقلعة اشتغل الناس في البلد بما جرى في تلك الليلة عند السلطان وأقام الحق سبحانه وتعالى الشيخ العلامة جمال الدين أبا عمرو بن الحاجب المالكي وكان عالم مذهبه في زمانه وقد جمع بين العلم والعمل رحمه الله تعالى في هذه القضية ومضى إلى القضاة والعلماء الأعيان الذين حضروا هذه القضية عند السلطان

وشدد عليهم النكير وقال العجب أنكم كلكم على الحق وغيركم على الباطل وما فيكم من نطق بالحق وسكتم وما انتخبتم لله تعالى وللشريعة المطهرة ولما تكلم منكم من تكلم قال السلطان أولى بالصفح والعفو ولا سيما في مثل هذا الشهر وهذا غلط يوهم الذنب فإن العفو والصفح لا يكونان إلا عن جرم وذنب أما كنتم سلكتم طريق التلطف بإعلام السلطان بأن ما قاله ابن عبد السلام مذهبكم وهو مذهب أهل الحق وأن جمهور السلف والخلف على ذلك ولم يخالفهم فيه إلا طائفة مخذولة يخفون مذهبهم ويدسونه على تخوف إلى من يستضعفون علمه وعقله وقد قال تعالى {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} ولم يزل يعنفهم ويوبخهم إلى أن اصطلح معهم على أن يكتب فتيا بصورة الحال ويكتبوا فيها بموافقة ابن عبد السلام فوافقوه على ذلك وأخذ خطوطهم بموافقته والتمس ابن عبد السلام من السلطان أن يعقد مجلسا للشافعية والحنابلة ويحضره المالكية والحنفية وغيرهم من علماء المسلمين وذكر له أنه أخذ خطوط الفقهاء الذين كانوا بمجلس السلطان لما قرئت عليه الفتيا بموافقتهم له وأنهم لم يمكنهم الكلام بحضرة السلطان في ذلك الوقت لغضبه وما ظهر من حدته في ذلك المجلس وقال الذي نعتقد في السلطان أنه إذا ظهر له الحق يرجع إليه وأنه يعاقب من موه الباطل عليه وهو أولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل تغمده الله برحمته ورضوانه فإنه عزر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرا بليغا رادعا وبدع بهم وأهانهم

فلما اتصل ذلك بالسلطان استدعى دواة وورقة وكتب فيها

بسم الله الرحمن الرحيم وصل إلي ما التمسه الفقيه ابن عبد السلام أصلحه الله

من عقد مجلس وجمع المفتين والفقهاء وقد وقفنا على خطه وما أفتى به وعلمنا من عقيدته ما أغنى عن الاجتماع به ونحن فنتبع ما عليه الخلفاء الراشدون الذين قال صلى الله عليه وسلم في حقهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكل مسلم يغلب هواه ويتبع الحق ويتخلص من البدع اللهم إلا إن كنت تدعي الاجتهاد فعليك أن تثبت ليكون الجواب على قدر الدعوى لتكون صاحب مذهب خامس وأما ما ذكرته عن الذي جرى في أيام والدي تغمده الله برحمته فذلك الحال أنا أعلم به منك وما كان له سبب إلا فتح باب السلامة لا لأمر ديني

ومع هذا فقد ورد في الحديث الفتنة نائمة لعن الله مثيرها ومن تعرض إلى إثارتها قاتلناه بما يخلصنا من الله تعالى وما يعضد كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم استدعى رسولا وصير الرقعة معه إليه

فلما وفد بها عليه فضها وقرأها وطواها وقال للرسول قد وصلت وقرأتها وفهمت ما فيها فاذهب بسلام

فقال قد تقدمت الأوامر المطاعة السلطانية إلي بإحضارجوابها

فاستحضر الشيخ دواة وورقة وكتب فيها ما مثاله

بسم الله الرحمن الرحيم {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} أما بعد حمد الله الذي جلت قدرته وعلت كلمته وعمت رحمته وسبغت نعمته

فإن الله تعالى قال لأحب خلقه إليه وأكرمهم لديه {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} وقد أنزل الله كتبه وأرسل رسله لنصائح خلقه فالسعيد من قبل نصائحه وحفظ وصاياه وكان فيما أوصى به خلقه أن قال {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} وهو سبحانه أولى من قبلت نصيحته وحفظت وصيته

وأما طلب المجلس وجمع العلماء فما حملني عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدين فقال الدين النصحية قيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم فالنصح لله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ولكتابه بالعمل بمواجبه ولرسوله باتباع سنته وللأئمة بإرشادهم إلى أحكامه والوقوف عند أوامره ونواهيه ولعامة المسلمين بدلالتهم على ما يقربهم إليه ويزلفهم لديه وقد أديت ما علي في ذلك

والفتيا التي وقعت في هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنابلة وما يخالف في ذلك إلا رعاع لا يعبأ الله بهم وهو الحق الذي لا يجوز دفعه والصواب الذي لا يمكن رفعه ولو حضر العلماء مجلس السلطان لعلم صحة ما أقول والسلطان أقدر الناس على تحقيق ذلك ولقد كتب الجماعة خطوطهم بمثل ما قلته وإنما سكت من سكت في أول الأمر لما رأى من غضب السلطان ولولا ما شاهدوه من غضب السلطان لما أفتوا أولا إلا بما رجعوا إليه آخرا

ومع ذلك فتكتب ما ذكرته في الفتيا وما ذكره الغير وتبعث به إلى بلاد الإسلام ليكتب فيهاكل من يجب الرجوع إليه ويعتمد في الفتيا عليه ونحن نحضر كتب العلماء المعتبرين ليقف عليها السلطان

وبلغني أنهم ألقوا إلى سمع السلطان أن الأشعري يستهين بالمصحف ولا خلاف بين الأشعرية وجميع علماء المسلمين أن تعظيم المصحف واجب وعندنا أن من استهان بالمصحف أو بشيء منه فقد كفر وانفسخ نكاحه وصار ماله فيئا للمسلمين ويضرب عنقه ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين بل يترك بالقاع طعمة للسباع

ومذهبنا أن كلام الله سبحانه قديم أزلي قائم بذاته لا يشبه كلام الخلق كما لا يشبه ذاته ذات الخلق ولا يتصور في شيء من صفاته أن تفارق ذاته إذ لو فارقته لصار ناقصا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وهو مع ذلك مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة وصفة الله القديمة ليست بمداد للكاتبين ولا ألفاظ اللافظين ومن اعتقد ذلك فقد فارق الدين وخرج عن عقائد المسلمين بل لا يعتقد ذلك إلا جاهل غبي {وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}

وليس رد البدع وإبطالها من باب إثارة الفتن فإن الله سبحانه أمر العلماء بذلك وأمرهم ببيان ما علموه ومن امتثل أمر الله ونصر دين الله لا يجوز أن يلعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب فإن الأصل واحد والخلاف في الفروع ومثل هذا الكلام مما اعتمدتم فيه قول من لا يجوز أن يعتمد قوله والله أعلم بمن يعرف دينه ويقف عند حدوده وبعد ذلك

فإنا نزعم أنا من جملة حزب الله وأنصار دينه وجنده وكل جندي لا يخاطر بنفسه فليس بجندي

وأما ما ذكر من أمر باب السلامة فنحن تكلمنا فيه بما ظهر لنا من أن السلطان الملك العادل رحمه الله تعالى إنما فعل ذلك إعزازا لدين الله تعالى ونصرة للحق ونحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

وكان يكتبها وهو مسترسل من غير توقف ولا تردد ولا تلعثم فلما أنهى كتابتها طواها وختمها ودفعها إلى الرسول

وكان عنده حالة كتابتها رجل من العلماء الفضلاد وممن يحضر مجلس السلطان فوقفه على الرقعة التي وردت من الملك الأشرف فتغير لونه واعتقد أن الشيخ يعجز عن الجواب لما شاهد في ورقة السلطان من شديد الخطاب فلما خط الشيخ الكتاب مسترسلا عجلا وهو يشاهد ما يكتبه بطل عنده ما كان يحسبه وقال له ذلك العالم لو كانت هذه الرقعة التي وصلت إليك وصلت إلى قس بن ساعدة لعجز عن الجواب وعدم الصواب ولكن هذا تأييد إلهي

فلما عاد الرسول إلى السلطان رحمه الله وأوصله الرقعة فعندما فضها وقرئت عليه اشتدت استشاطته وعظم غضبه وتيقن العدو تلف الشيخ وعطبه ثم استدعى الغرز خليلا وكان إذ ذاك أستاذ داره وكان من المحبين للشيخ والمعتقدين فيه فحمله رسالة إلى الشيخ وقال له تعود إلي سريعا بالجواب

فذهب الغرز إليه وجلس بين يديه بحسن تودد وتأدب وتأن ثم قال له أنا رسول {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} والله لقد تعصبوا عليك وأعنتهم أنت على نفسك بعدم اجتماعك في مبدإ الأمر بالسلطان ولو كان رآك ولو مرة واحدة لما كان شيء من هذه الأمور أصلا وكنت أنت عنده الأعلى فقال له أد الرسالة كما قيلت لك ولا تسأل فقال لا تسأل ما حصل عند السلطان عند وقوفه على ورقتك ولا سيما أنه وجد فيها ما لا يعهده من مخاطبة الناس للملوك مضافا إلى ما ذكرته من مخالفة اعتقاده فقال لي اذهب إلى ابن عبد السلام وقل له إنا قد شرطنا عليه ثلاثة شروط أحدها أنه لا يفتى والثانية أنه لا يجتمع بأحد والثالثة أنه يلزم بيته

فقال له يا غرز إن هذه الشروط من نعم الله الجزيلة علي الموجبة للشكر لله تعالى على الدوام أما الفتيا فإني كنت والله متبرما بها وأكرهها وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم ولولا أني أعتقد أن الله أوجبها علي لتعينها علي في هذا الزمان لما كنت تلوثت بها والآن فقد عذرني الحق وسقط عني الوجوب وتخلصت ذمتي ولله الحمد والمنة وأما ترك اجتماعي بالناس ولزومي لبيتي فما أنا في بيتي الآن وإنما أنا في بستان وكان في تلك السنة استأجر بستانا متطرفا عن البساتين وكان مخوفا فقال له الغرز البستان هو الآن بيتك

واتفقت له فيه أعجوبة وهو أن جماعة من المفسدين قصدوه في ليلة مقمرة وهو في جوسق عال ودخلوا البستان واحتاطوا بالجوسق فخاف أهله خوفا شديدا فعند ذلك نزل إليهم وفتح باب الجوسق وقال أهلا بضيوفنا

وأجلسهم في مقعد حسن وكان مهيبا مقبول الصورة فهابوه وسخرهم الله له وأخرجوا لهم من الجوسق ضيافة حسنة فتناولوها وطلبوا منه الدعاء وعصم الله أهله وجماعته منهم بصدق نيته وكرم طويته وانصرفوا عنه

عدنا إلى مجاوبته للغرز خليل

فقال له يا غرز من سعادتي لزومي لبيتي وتفرغي لعبادة ربي والسعيد من لزم بيته وبكى على خطيئته واشتغل بطاعة الله تعالى وهذا تسليك من الحق وهدية من الله تعالى إلي أجراها على يد السلطان وهو غضبان وأنا بها فرحان والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعت عليك ونحن على الفتوح خذ هذه السجادة صل عليها فقبلها وقبلها وودعه وانصرف إلى السلطان وذكر له ما جرى بينه وبينه فقال لمن حضره قولوا لي ما أفعل به هذا رجل يرى العقوبة نعمة اتركوه بيننا وبينه الله

ثم إن الشيخ بقي على تلك الحالة ثلاثة أيام

ثم إن الشيخ العلامة جمال الدين الحصيري شيخ الحنفية في زمانه وكان قد جمع بين العلم والعمل ركب حمارا له وحوله أصحابه وقصد السلطان فلما بلغ الملك الأشرف دخول الحصيري إلى القلعة أرسل إليه خاصته يتلقونه وأمرهم أن يدخلوه إلى دار الإمارة راكبا على حماره فلما رآه السلطان وثب قائما ومشى إليه وأنزله عن حماره

وأجلسه على تكرمته واستبشر بوفوده عليه وكان في رمضان قريب غروب الشمس فلما دخل وقت المغرب وأذن المؤذن صلوا صلاة المغرب وأحضر للسلطان قدح شراب فتناوله وناوله للشيخ فقال له الشيخ ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك فقال له السلطان يرسم الشيخ ونحن نمتثل مرسومه فقال له أيش بينك وبين ابن عبد السلام وهذا رجل لو كان في الهند أو في أقصى الدنيا كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حلوله في بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده ويفتخر به على سائر الملوك

قال السلطان عندي خطه باعتقاده في فتيا وخطه أيضا في رقعة جواب رقعة سيرتها إليه فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكم بيني وبينه ثم أحضر السلطان الورقتين فوقف عليهما وقرأهما إلى آخرهما وقال هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ويقين المؤمنين وكل ما فيهما صحيح ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار

فقال السلطان رحمه الله نحن نستغفر الله مما جرى ونستدرك الفارط في حقه والله لأجعلنه أغنى العلماء وأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته ومخاللته

وكانت الحنابلة قد استنصروا على أهل السنة وعلت كلمتهم بحيث إنهم صاروا إذا خلوا بهم في المواضع الخالية يسبونهم ويضربونهم ويذمونهم فعندما اجتمع الشيخ جمال الدين الحصيري رحمه الله بالسلطان وتحقق ما عليه الجم الغفير من اعتقاد أهل الحق تقدم إلى الفريقين بالإمساك عن الكلام في مسألة الكلام وأن لا يفتي فيها أحد بشيء سدا لباب الخصام فانكسرت المبتدعة بعض الانكسار وفي النفوس ما فيها

ولم يزل الأمر مستمرا على ذلك إلى أن اتفق وصول السلطان الملك الكامل رحمه الله إلى دمشق من الديار المصرية وكان اعتقاده صحيحا وهو من المتعصبين لأهل الحق قائل بقول الأشعري رحمه الله في الاعتقاد وكان وهو في الديار المصرية قد سمع ما جرى في دمشق في مسألة الكلام فرام الاجتماع بالشيخ فاعتذر إليه فطلب منه أن يكتب له ما جرى في هذه القضية مستقصى مستوفى فأمرني والدي رحمه الله بكتابة ما سقته في هذا الجزء من أول القضية إلى آخرها

فلما وصل ذلك إليه ووقف عليه أسر ذلك في نفسه إلى أن اجتمع بالسلطان الملك الأشرف رحمه الله وقال له يا خوند كنت قد سمعت أنه جرى بين الشافعية والحنابلة خصام في مسألة الكلام وأن القضية اتصلت بالسلطان فماذا صنعت فيها فقال يا خوند منعت الطائفتين من الكلام في مسألة الكلام وانقطع بذلك الخصام

فقال السلطان الملك الكامل والله مليح ما هذه إلا سياسة وسلطنة تساوي بين أهل الحق والباطل وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكتموا ما أنزل الله عليهم كان الطريق أن تمكن أهل السنة من أن يلحنوا بحججهم وأن يظهروا دين الله وأن تشنق من هؤلاء المبتدعة عشرين نفسا ليرتدع غيرهم وأن تمكن الموحدين من إرشاد المسلمين وأن يبينوا لهم طريق المؤمنين

فعند ذلك ذلت رقاب المبتدعة وانقلبوا خائبين وعادوا خاسئين {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال} وكان ذلك على يد

السلطان الملك الكامل رحمه الله وانقشعت المسألة للسلطان الملك الأشرف وصرح بخجله وحيائه من الشيخ وقال لقد غلطنا في حق ابن عبد السلام غلطة عظيمة وصار يترضاه ويعمل بفتاويه وما أفتاه ويطلب أن يقرأ عليه تصانيفه الصغار مثل الملحة في اعتقاد أهل الحق التي ذكر بعضها في الفتيا وقرئت عليه مقاصد الصلاة في يوم ثلاث مرات تقرأ عليه وكلما دخل عليه أحد من خواصه يقول للقارئ اقرأ مقاصد الصلاة لابن عبد السلام حتي يسمعها فلان ينفعه الله بسماعها حتى قال والدي رحمه الله لو قرئت مقاصد الصلاة على بعض مشايخ الزوايا أو على متزهد أو مريد أو متصوف مرة واحدة في مجلس لما أعادها فيه مرة أخرى

ولقد دخل على السلطان الملك الأشرف الشيخ شمس الدين سبط ابن الجوزي وكان واعظ الزمان وكان له قبول عظيم وشاهدت منه عجبا كان يطلع على المنبر في بعض الأيام ويحدق الناس إليه وينتحب ويبكي ويبكى الناس معه ويقتلون أنفسهم ويذهب هائما على وجهه ويذهب الناس من مجلسه وهم سكارى حيارى وكان يجلس الثلاثة الأشهر رجب وشعبان ورمضان في كل سبت والناس يتأهبون لحضور مجلسه قبل السبت بثلاثة أيام فلما دخل على السلطان ناوله مقاصد الصلاة وقال اقرأها فقرأها بين يديه واستحسنها وقال لم يصنف أحد مثلها فقال له طرز مجلسك الآتي بذكرها وحرض الناس عليها فلما جاء الميعاد صعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وقال اعلموا أن أفضل العبادات البدنية الصلاة وهي صلة بين العبد وربه فعليكم بمقاصد الصلاة تصنيف ابن عبد السلام فاسمعوها وعوها واحفظوها وعلموها أولادكم ومن يعز عليكم وكان لها وقع عظيم في ذلك المجلس وكتب منها من النسخ ما لا يحصى عدده

ولم يزل والدي معظما عند السلطان إلى أن مرض مرضة الموت قال لأكبر أصحابه اذهب إلى ابن عبد السلام وقل له محبك موسى ابن الملك العادل أبي بكر يسلم عليك ويسألك أن تعوده وتدعو له وتوصيه بما ينتفع به غدا عند الله فلما وصل الرسول إليه بهذه الرسالة قال نعم إن هذه العيادة لمن أفضل العبادات لما فيها من النفع المتعدي إن شاء الله تعالى فتوجه إليه وسلم عليه فسر برؤيته سرورا عظيما وقبل يده وقال يا عز الدين اجعلني في حل وادع الله لي وأوصني وانصحني فقال له أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق وأبيت وليس لي عند أحد مظلمة وأرى أن يكون أجري على الله ولا يكون على الناس عملا بقوله تعالى {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} وأن يكون أجري على الله ولا يكون على خلقه أحب إلي وأما دعائي للسلطان فإني أدعو له في كثير من الأحيان لما في صلاحه من صلاح المسلمين والإسلام والله تعالى يبصر السلطان فيما يبيض به وجهه عنده يوم يلقاه وأما وصيتي ونصيحتي للسلطان فقد وجبت وتعينت لقبوله وتقاضيه وكان قبيل مرضه قد وقع بينه وبين أخيه السلطان الملك الكامل واقع ووحشة وأمر وهو في ذلك المرض بنصب دهليزه إلى صوب مصر وضرب منزلة تسمى الكسوة وكان في ذلك الزمان قد ظهر التتر بالشرق فقال الشيخ للسلطان الملك الكامل أخوك الكبير ورحمك وأنت مشهور بالفتوحات والنصر على الأعداء والتتر قد خاضوا بلاد المسلمين تترك ضرب دهليزك إلى أعداء الله وأعداء المسلمين وتضربه إلى جهة أخيك فينقل السلطان دهليزه إلى جهة التتار ولا تقطع رحمك في هذه الحالة وتنوي مع الله نصر دينه وإعزاز كلمته فإن من الله بعافية السلطان رجونا من الله إدالته على الكفار وكانت في ميزانه هذه الحسنة العظيمة فإن قضى الله تعالى بانتقاله إليه كان السلطان في خفارة نيته

فقال له جزاك الله خيرا عن إرشادك ونصيحتك وأمر والشيخ حاضر في الوقت بنقل دهليزه إلى الشرق إلى منزلة يقال لها القصير فنقل في ذلك اليوم ثم قال له زدني من نصائحك ووصاياك

فقال له السلطان في مثل هذا المرض وهو على خطر ونوابه يبيحون فروج النساء ويدمنون الخمور ويرتكبون الفجور ويتنوعون في تمكيس المسلمين ومن أفضل ما تلقى الله به أن تتقدم بإبطال هذه القاذورات وبإبطال كل مكس ودفع كل مظلمة فتقدم رحمه الله للوقت بإبطال ذلك كله وقال له جزاك الله عن دينك وعن نصائحك وعن المسلمين خيرا وجمع بيني وبينك في الجنة بمنه وكرمه وأطلق له ألف دينار مصرية فردها عليه وقال هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا

وودع الشيخ السلطان ومضى إلى البلد وقد شاع عند الناس صورة المجلس وتبطيل المنكرات وباشر الشيخ بنفسه تبطيل بعضها ثم لم يمض الصالح إسماعيل تبطيل المنكرات لأنه كان المباشر لتدبير الملك والسلطنة يومئذ نيابة والسلطان الملك الأشرف بعد في الحياة ثم استقل بالملك بعده وكان أعظم منه في اعتقاد الحرف والصوت وفي اعتقاده في مشايخ الحنابلة ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى قدم السلطان الملك الكامل من الديار المصرية بعساكره وجحافله وجيوشه إلى دمشق وحاصر أخاه إسماعيل بدمشق يسيرا ثم اصطلح معه وحضر الشيخ عند السلطان الملك الكامل فأكرمه غاية الإكرام وأجلسه على تكرمته والصالح إسماعيل يشاهد ذلك وهو واقف على رأسه فقال الملك الكامل للشيخ إن هذا له غرام برمي البندق فهل يجوز له ذلك

فقال الشيخ بل يحرم عليه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال إنه يفقئ العين ويكسر العظم

وأعطاه بعلبك فتوجه إليها وملكها وولى الملك الكامل رحمه الله الشيخ تدريس زاوية الغزالي بجامع دمشق وذكر بها الناس ثم ولاه قضاء دمشق بعد ما اشترط عليه الشيخ شروطا كثيرة ودخل في شروطه ثم عينه للرسالة إلى الخلافة المعظمة ثم اختلسته المنية رحمه الله فكان بين موت الملك الأشرف وتملك الملك الصالح إسماعيل لدمشق ثم تملك الملك الكامل لدمشق وموته سنة وكسر

ثم تملك الملك الجواد دمشق مدة ثم كاتب الملك الجواد الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وكان بالشرق على أن ينزل له عن دمشق ويعوضه الرقة وما والاها ففعل له ذلك وقدم الملك الصالح نجم الدين رحمه الله دمشق وملكها وعامل الشيخ بأحسن معاملة ثم توجه بعسكره إلى نابلس بعد اتفاقه مع الملك الصالح إسماعيل على أنه يستخدم رجالة من بعلبك وينجده على المصريين فاستخدم الرجالة لنفسه وخان السلطان وكاتب النواب بدمشق وقدم عليهم فسلموها إليه فلما اتصلت الأخبار بالملك الصالح نجم الدين تخلت عنه العساكر وتفرقوا عنه وقصده جماعة من المغتالين فحمل عليهم ونجاه الله منهم فالتجأ إلى الملك الناصر داود فأسره وأقام عنده مدة ثم أخرجه واصطلح معه على المصريين

وأما الصالح إسماعيل فإنه كان قد شاهد ما اتفق للشيخ مع الملك الأشرف وما عامله به في آخر الأمر من الإكرام والاحترام ثم شاهد أيضا ما عامله به السلطان الملك الكامل رحمه الله فولاه الصالح إسماعيل خطابة دمشق وبقي على ذلك مدة

ثم إن المصريين حلفوا للملك الصالح نجم الدين أيوب وكاتبوه بذلك فوصل إليهم وملك الديار المصرية وسار في أهلها السيرة المرضية فخاف منه الصالح إسماعيل خوفا منعه المنام والطعام والشراب واصطلح مع الفرنج على أن ينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب ويسلم إليهم صيدا والشقيف وغير ذلك من حصون المسلمين ودخل الفرنج دمشق لشراء السلاح ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين فشق ذلك على الشيخ مشقة عظيمة في مبايعة الفرنج السلاح وعلى المتدينين من المتعيشين من السلاح فاستفتوا الشيخ في مبايعة الفرنج السلاح فقال يحرم عليكم مبايعتهم لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين وجدد دعاءه على المنبر وكان يدعو به إذا فرغ من الخطبتين قبل نزوله من المنبر وهو اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين والنصر على أعداء الله الملحدين

فكاتب أعوان الشيطان السلطان بذلك وحرفوا القول وزخرفوه فجاء كتابه باعتقال الشيخ فبقي مدة معتقلا ثم وصل الصالح إسماعيل وأخرج الشيخ بعد محاورات ومراجعات فأقام مدة بدمشق ثم انتزح عنها إلى بيت المقدس فوافاه الملك الناصر داود في الفور فقطع عليه الطريق وأخذه وأقام عنده بنابلس مدة وجرت له معه خطوب ثم انتقل إلى بيت المقدس وأقام به مدة ثم جاء الصالح إسماعيل والملك المنصور صاحب حمص وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية فسير الصالح إسماعيل بعض خواصه إلى الشيخ بمنديله وقال له تدفع منديلي إلى الشيخ وتتلطف به غاية التلطف وتستنزله وتعده بالعود إلى مناصبه على أحسن حال فإن وافقك فتدخل به علي وإن خالفك فاعتقله في خيمة إلى جانب خيمتي

فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته ثم قال له بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير فقال له والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا أن أقبل يده يا قوم أنتم في واد وأنا في واد والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به

فقال له قد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك

فقال افعلوا ما بدالكم

فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان

وكان الشيخ يقرأ القرآن والسلطان يسمعه فقال يوما لملوك الفرنج تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن قالوا نعم قال هذا أكبر قسوس المسلمين وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه ثم أخرجته فجاء إلى القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم فقالت له ملوك الفرنج لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها

ثم جاءت العساكر المصرية ونصر الله تعالى الأمة المحمدية وقتلوا عساكر الفرنج ونجى الله سبحانه وتعالى الشيخ فجاء إلى الديار المصرية فأقبل عليه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وولاه خطابة مصر وقضاءها وفوض إليه عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة واتفق له في تلك الولايات عجائب وغرائب ثم عزل نفسه عن الحكم فتلطف السلطان رحمه الله في رده إليه فباشره مدة ثم عزل نفسه منه مرة ثانية وتلطف مع السلطان في إمضاء عزله لنفسه فأمضاه وأبقى جميع نوابه من الحكام وكتب لكل حاكم منه تقليدا ثم ولاه تدريس المدرسة الصالحية بالقاهرة المعزية

ثم مات الملك الصالح نجم الدين أيوب بالمنصورة رحمه الله تعالى وهو مجاهد ناصر للدين ثم وصل ابنه المعظم توران شاه من الشرق إلى الديار المصرية بالمنصورة فملكها وانكسرت الفرنج في دولته وعامل الشيخ بأحسن معاملة ثم انتقل إلى الله سبحانه فسبحان مالك الملك ومقدر الهلك

ثم انقضى ملك بني أيوب وكان كأحلام القائل أو كظل زائل لا يغتر به عاقل

ثم سارت الدولة إلى الأتراك وكل منهم عامل الشيخ بأحسن معاملة ولا سيما السلطان الملك الظاهر بيبرس ركن الدين رحمه الله فإنه كان يعظمه ويحترمه ويعرف مقداره ويقف عند أقواله وفتاويه وأقام الخليفة بحضرته وإشارته

وكانت وفاة الشيخ في تاسع جمادى الأولى في سنة ستين وستمائة فحزن عليه كثيرا حتى قال لا إله إلا الله ما اتفقت وفاة الشيخ إلا في دولتي وشيع أمراءه وخاصته وأجناده لتشييع جنازته وحمل نعشه وحضر دفنه

انتهى ما ذكره الشيخ شرف الدين عبد اللطيف ولد الشيخ وقد حكيناه بجملته لاشتماله على كثير من أخبار الشيخ رحمه الله

وحكي أن شخصا جاء إليه وقال له رأيتك في النوم تنشد

فسكت ساعة ثم قال أعيش من العمر ثلاثا وثمانين سنة فإن هذا الشعر لكثير عزة ولا نسبة بيني وبينه غير السن أنا سني وهو شيعي وأنا لست بقصير وهو قصير ولست بشاعر وهو شاعر وأنا سلمي وليس هو بسلمي لكنه عاش هذا القدر

قلت فكان الأمر كما قاله رحمه الله

أنشدنا قاضي القضاة شيخ المحدثين عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن شيخنا قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة أيده الله من لفظه بالمدرسة الصالحية بالقاهرة في شهر محرم سنة أربع وستين وسبعمائة قال أنشدنا الشيخ الإمام فخر الدين عثمان بن بنت أبي سعد من لفظه قال أنشدنا الشيخ عز الدين من لفظه لنفسه قال أعني ابن بنت أبي سعد ولا يعرف للشيخ عز الدين من النظم غيره قال وقد أنشده للطلبة وقال لهم أجيزوه وهو

فأجازه الشيخ شمس الدين عمر بن عبد العزيز بن الفضل الأسواني قاضي أسوان فقال

منها

ومنها

وآخرها

وأنشد الأبيات كلها للشيخ في مجلس الدرس وهو يسمع إليها ولما قضاها قال له أنت إذا فقيه شاعر

ومدحه الأديب أبو الحسين الجزاز بقصيدة بديعة أولها

ومن تصانيف الشيخ عز الدين القواعد الكبرى وكتاب مجاز القرآن وهذان الكتابان شاهدان بإمامته وعظيم منزلته في علوم الشريعة واختصر القواعد الكبرى في قواعد صغرى والمجاز في آخر

وله كتاب شجرة المعارف حسن جدا

وكتاب الدلائل المتعلقة بالملائكة والنبيين عليهم السلام والخلق أجمعين بديع جدا

والتفسير مجلد مختصر

والغاية في اختصار النهاية دلت على قدره

ومختصر صحيح مسلم

ومختصر رعاية المحاسبي

والإمام في أدلة الأحكام

وبيان أحوال الناس يوم القيامة

وبداية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم

الفرق بين الإيمان والإسلام

فوائد البلوى والمحن

الجمع بين الحاوي والنهاية وما أظنه كمل

الفتاوى الموصلية

والفتاوى المصرية مجموع مشتمل على فنون من المسائل الفوائد

توفي في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة بالقاهرة ودفن بالقرافة الكبرى رحمه الله تعالى

ذكر نخب وفوائد عن سلطان العلماء أبي محمد سقى الله عهده

قال في القواعد الكبرى لم أقف على ما يعتمد على مثله في كون الربا من الكبائر فإن كونه مطعوما أو قيمة الأشياء أو مقدرا لا يقتضى مفسدة عظيمة تكون كبيرة لأجلها

وذكر في القواعد الصغرى أن الملائكة لا يرون ربهم

وقال في القواعد الكبرى إذا وجد شخصين مضطرين متساويين ومعه رغيف إن أطعمه أحدهما عاش يوما ومات الآخر وإن فضه عليهما عاش كل واحد نصف يوم فهل يجوز أن يطعمه لأحدهما أم يجب القصر المختار أن تخصيص أحدهما غير جائز لأن أحدهما قد يكون وليا وكذا لو كان له ولدان لا يقدر إلا على قوت أحدهما يجب القصر

قلت وأصل التردد في هذا مأخوذ من تردد إمام الحرمين حيث قال في النهاية فيما لو أراد أن يبذل ثوبا لمن يصلي فيه وحضر عاريان ولو قسم الخرقة وشقها يحصل في كل واحد بعض الستر ولو خص أحدهما حصل له الستر الكامل فإن الإمام قال هذه المسألة محتملة قال ولعل الأظهر أن يستر أحدهما وإن أراد الإنصاف أقرع بينهما اه

ولا يبين مجامعة قوله الأظهر ستر أحدهما لقوله الإنصاف الإقراع

وقال إن من قذف في خلوته شخصا بحيث لا يسمعه إلا الله والحفظة فالظاهر أنه ليس بكبيرة موجبة للحد

قلت وأنا أسلم له الحكم ولكني أمنع كون هذا قذفا والقذف هو الثلب والرمى ولا يحصل بهذا القدر

ذكر الشيخ عز الدين في أماليه أن القاتل إذا ندم وعزم أن لا يعود لكنه امتنع من تسليم نفسه للقصاص لم يقدح ذلك في توبته قال وهذا ذنب متجدد بعد الذي عصى به مخالف لما وقع به العصيان من القتل ونحن إنما نشترط الإقلاع في الحال عن أمثال الفعل الذي وقع به العصيان

قلت وهذه فائدة جليلة والظاهر أن كل قاتل يندم على كونه قتل ويستغفر ويعزم أن لا يعود والظاهر أيضا أنه لا يسلم نفسه فصحة توبته عن القتل والحالة هذه لطف ورحمة فإن تسليم المرء نفسه إلى القتل مشق وقد لا يوقف الشارع توبته على هذا المشق العظيم فلما قاله الشيخ عز الدين اتجاه لكن صرح الماوردي في الحاوي بخلافه فقال إن صحة توبته موقوفة على تسليم نفسه إلى مستحق القصاص يقتص أو يعفو وبه جزم الرافعي ومن بعده قالوا يأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء فإما أن يحمل كلامهم على صحة التوبة مطلقا عن ذنب القتل وغيره بمعنى أن القاتل إذا أراد التوبة عن كل ذنب القتل وغيره فهذا طريقه وإما أن ينظر أي الكلامين أصح وبالجملة ما قاله شيخ الإسلام عز الدين مستغرب تنبو عنه ظواهر ما في كتب أصحابنا وله اتجاه ظاهر فلينظر فيه فإني لم أشبعه نظرا والأرجح عندي ما قاله الشيخ عز الدين لكنه ترجيح من لم يستوف النظر فلا يعتمد ثم ننصرف ونقول هنا لو صدقت توبة القاتل وهاجت نيران المعصية في قلبه لسلم نفسه ولو سلمها لسلمه الله تعالى وقدر لولي الدم أن يعفو عنه هذا هو المرجو الذي يقع في النفس

قال الشيخ عز الدين في القواعد ينبغي أن يؤخر الصلاة عن أول الوقت بكل مشوش يؤخر الحاكم الحكم بمثله

وقال فيها أيضا القطع بالسرقة يكفر ما يتعلق بربع دينار فقط ولا يكفر الزائد

وقال فيها أيضا الغالب في الجهاد أفضل من القتيل

وهذه المسائل الثلاث مليحة ظاهرة الحكم لا ينبغي أن يطرقها خلاف

شرح حال صلاة الرغائب وما اتفق فيها بين الشيخين سلطان العلماء أبي محمد بن عبد السلام والحافظ أبي عمرو بن الصلاح

وقد كان ابن الصلاح أفتى بالمنع منها ثم صمم على خلافه وأما سلطان العلماء فلم يبرح على المنع

قال سلطان العلماء أبو محمد رضي الله عنه

الحمد لله الأول الذي لا يحيط به وصف واصف والآخر الذي لا تحويه معرفة عارف جل ربنا عن التشبيه بخلقه وكل خلقه عن القيام بحقه أحمده على نعمه وإحسانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بحججه وبرهانه صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه وإخوانه

أما بعد فإن البدعة ثلاثة أضرب

أحدها ما كان مباحا كالتوسع في المآكل والمشارب والملابس والمناكح فلا بأس بشيء من ذلك

الضرب الثاني ما كان حسنا وهو كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها كصلاة التراويح وبناء الربط والخانات والمدارس وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد في الصدر الأول فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع

المعروف والمعاونة على البر والتقوى وكذلك الاشتغال بالعربية فإنه مبتدع ولكن لا يتأتى تدبر القرآن وفهم معانيه إلا بمعرفة ذلك فكان ابتداعه موافقا لما أمرنا به من تدبر آيات القرآن وفهم معانيه وكذلك الأحاديث وتدوينها وتقسيمها إلى الحسن والصحيح والموضوع والضعيف مبتدع حسن لما فيه من حفظ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخله ما ليس فيه أو يخرج منه ما هو فيه وكذلك تأسيس قواعد الفقه وأصوله وكل ذلك مبتدع حسن موافق لأصول الشرع غير مخالف لشيء منها

الضرب الثالث ما كان مخالفا للشرع أو ملتزما لمخالفة الشرع فمن ذلك صلاة الرغائب فإنها موضوعة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذب عليه ذكر ذلك أبو الفرج بن الجوزي وكذلك قال أبو بكر محمد الطرطوشي إنها لم تحدث ببيت المقدس إلا بعد ثمانين وأربعمائة من الهجرة وهي مع ذلك مخالفة للشرع من وجوه يختص العلماء ببعضها وبعضها يعم العالم والجاهل فأما ما يختص به العلماء فضربان

أحدهما أن العالم إذا صلاها كان موهما للعامة أنها من السنن فيكون كاذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان الحال ولسان الحال قد يقوم مقام لسان المقال

الثاني أن العالم إذا فعلها كان متسببا إلى أن تكذب العامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولوا هذه سنة من السنن والتسبب إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز

وأما ما يعم العالم والجاهل فهي وجوه

أحدها أن فعل المبتدع مما يقوي المبتدعين الواضعين على وضعها وافترائها

والإغراء بالباطل والإعانة عليه ممنوع في الشرع واطراح البدع والموضوعات زاجر عن وضعها وابتداعها والزجر عن المنكرات من أعلى ما جاءت به الشريعة

الثاني أنها مخالفة لسنة السكون في الصلاة من جهة أن فيها تعديد سورة الإخلاص اثنتي عشرة مرة وتعديد سورة القدر ولا يتأتى عده في الغالب إلا بتحريك بعض أعضائه فيخالف السنة في تسكين أعضائه

الثالث أنها مخالفة لسنة خشوع القلب وخضوعه وحضوره في الصلاة وتفريغه لله وملاحظة جلاله وكبريائه والوقوف على معاني القراءة والأذكار فإنه إذا لاحظ عدد السور بقلبه كان ملتفتا عن الله معرضا عنه بأمر لم يشرعه في الصلاة والالتفات بالوجه قبيح شرعا فما الظن بالالتفات عنه بالقلب الذي هو المقصود الأعظم

الرابع أنها مخالفة لسنة النوافل فإن السنة فيها أن فعلها في البيوت أفضل من فعلها في المساجد إلا ما استثناه الشرع كصلاة الاستسقاء والكسوف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة

الخامس أنها مخالفة لسنة الانفراد بالنوافل فإن السنة فيها الانفراد إلا ما استثناه الشرع وليست هذه البدعة المختلقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه

السادس أنها مخالفة للسنة في تعجيل الفطر إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور

السابع أنها مخالفة للسنة في تفريغ القلب عن الشواغل المقلقة قبل الدخول في الصلاة فإن هذه الصلاة يدخل فيها وهو جوعان ظمآن ولا سيما في أيام الحر الشديد والصلوات المشروعات لا يدخل فيها مع وجود شاغل يمكن دفعه

الثامن أن سجدتيها مكروهتان فإن الشريعة لم ترد بالتقرب إلى الله سبحانه بسجدة منفردة لا سبب لها فإن القرب لها أسباب وشرائط وأوقات وأركان لا تصح بدونها فكما لا يتقرب إلى الله بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في وقته بأسبابه وشرائطه فكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بسجدة منفردة وإن كانت قربة إلا إذا كان لها سبب صحيح وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقت وأوان وربما تقرب الجاهلون إلى الله بما هو مبعد عنه من حيث لا يشعرون

التاسع لو كانت السجدتان مشروعتين لكان مخالفا للسنة في خشوعهما وخضوعهما لما يشتغل به من عدد التسبيح فيهما بباطنه أو ظاهره أو بهما

العاشر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم وهذا الحديث رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه

الحادي عشر أن في ذلك مخالفة السنة فيما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم في أذكار السجود فإنه لما نزل قول الله تعالى {سبح اسم ربك الأعلى} قال اجعلوها في سجودكم وقوله سبوح قدوس وإن صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصح أنه أفردها بدون سبحان ربي الأعلى ولا أنه وظفها على أمته ومن المعلوم أنه لا يوظف إلا الأولى من الذكرين وفي قوله سبحان ربي الأعلى من الثناء ما ليس في قوله سبوح قدوس

ومما يدل على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم ومن دون الكتب في الشريعة مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن لم ينقل عن أحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة ولا دونها في كتابه ولا تعرض لها في مجالسه والعادة تحيل أن يكون مثل هذه سنة وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين وقدوة المؤمنين وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسنن والحلال والحرام وهذه الصلاة لا يصليها أهل المغرب الذين شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لطائفة منهم أنهم لا يزالون على الحق حتى تقوم الساعة وكذلك لا تفعل بالإسكندرية لتمسكهم بالسنة ولما صح عند السلطان الملك الكامل رحمه الله أنها من البدع المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطلها من الديار المصرية فطوبى لمن تولى شيئا من أمور المسلمين فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن وليس لأحد أن يستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الصلاة خير موضوع فإن ذلك مختص بصلاة مشروعة

  • دار هجر - القاهرة-ط 2( 1992) , ج: 8- ص: 209

عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد ابن المهذب عز الدين أبو محمد السلمي. الشافعي، الملقب بسلطان العلماء وشيخ الإسلام، أصله مغربي، ومولده بدمشق، في سنة سبع- أو ثمان- وسبعين وخمسمائة، وسمع حضورا على أبي الحسين أحمد بن الموازيني، والخشوعي، وسمع عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي، والقاسم بن عساكر، وابن طبرزد، وحنبل المكبر، وعبد الصمد بن محمد الحرستاني وجماعة. وخرج له الحافظ شرف الدين أبو محمد الدمياطي أربعين حديثا عوالي.
روى عنه تلامذته، الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وهو الذي لقبه سلطان العلماء، وعلاء الدين أبو الحسن علي الباجي، وتاج الدين الفركاح، والحافظ أبو بكر محمد بن يوسف بن مسدي، وأبو العباس أحمد الدشناوي، وأبو محمد هبة الله القفطي، وشرف الدين الدمياطي، وأبو الحسين اليونيني، وخلائق من أهل مصر والشام وغيرهم.
وتفقه على الإمام فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر، وقرأ الأصول على السيف الآمدي، وغيره.
ومهر في العربية، ودرس وأفتى وصنف، وبرع في المذهب وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من البلاد وتخرج به أئمة، وصار رأس الشافعية في وقته، ولم يلحقه أحد في حالته.
وكان عاقلا ناسكا، ورعا زاهدا متقشفا، أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، ولي خطابة الجامع الأموي بدمشق من قبل الملك الصالح إسماعيل بعد الدولعي، وأزال كثيرا من البدع التي كان الخطباء يفعلونها؛ من دق المنبر بالسيف وغير ذلك، وأبطل صلاتي الرغائب ونصف شعبان، ومنع منهما. فلما أعطى الصالح الفرنج صفدو الشقيف، أنكر الناس ذلك عليه، وتنكروا له، فعرض به الشيخ عز الدين في الخطبة يوم الجمعة، ونال منه وترك الدعاء له، فعزله الصالح وحبسه ثم أفرج عنه فسار إلى القاهرة، ومر في طريقه إليها على الكرك، وذلك في حدود سنة تسع وثلاثين وستمائة، فسأله الناصر داود هو والشيخ أبو عمرو بن الحاجب الإقامة بها فامتنع، وقال: هذه بلدة تصغر عن نشر علمي، ومضى إلى القاهرة فأكرمه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وبالغ في تعظيمه وتلقاه واحترمه، فاتفق وفاة قاضي القضاة شرف الدين أبي المكارم محمد بن عبد الله بن الحسن بن عين الدولة، في تاسع عشر ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وستمائة، فولي السلطان الملك الصالح بدر الدين أبا المحاسن يوسف ابن الحسن بن علي السنجاري قضاء القاهرة والوجه البحري، وولي الشيخ عز الدين قضاء مدينة مصر والوجه القبلي، وأضاف إليه خطابة جامع عمرو بن العاص، عوضا عن الشيخ مجد الدين أبي الحسن علي الإخميمي بعد عزله، فلم يتغير عن طريقته، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واطراح التكلف، وترك الاحتفال بالملبس، حتى إنه كان يحضر الموكب السلطاني وعلى رأسه قبع لباد.
وحكى أنه ركب يوما بغلة، وعليه قميص وهو معتم على طرطورلباد، فتعرض له فقير يسأله شيئا، فقطع نصف العمامة من على رأسه ودفعها إليه وسار، فقصده آخر فدفع إليه النصف الآخر.
وطلع يوم العيد إلى القلعة والعساكر مصطفين بين يدي السلطان والأمراء تقبل الأرض له، فنادى في ذلك الموكب العظيم: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أولك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمر وغيره من المنكرات، وبها أنواع من سوء، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، وذلك بأعلى صوته، والعساكر واقفون، فقال: يا سيدي، هذا شيء لم أعمله، وهو من زمان أبي فقال: أنت من الذين يقولون يوم القيامة إذا سئلوا إنا وجدنا آباءنا على أمة فرسم السلطان بإبطال ما يعمل في تلك الحانة.
فلما انصرف الشيخ من المجلس قال له تلميذه الباجي: يا سيدي كيف تجرأت على السلطان وفاجأته بهذا الجواب؟ فقال: يا بني رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه، لئلا تكبر نفسه. فقال له يا سيدي أما خفت منه؟ قال والله با بني استحضرت هيبة الله تعالى في قلبي، فصار السلطان قدامي كالقط.
وبالغ في القيام بالأمر بالمعروف وشدد في ذلك، حتى شجر بينه وبين الأمراء كلام في هذا المعنى، فقال لهم: أنتم الآن أرقاء لا ينفذ لكم تصرف، وقد عزمت على بيعكم، فشق ذلك عليهم، واستشاطوا غضبا، وهموا بالإيقاع به، وقال بعضهم: كيف ينادي علينا ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه، وشهر سيفه وركب في جمع من خدمه حتى أتى بيت الشيخ وسيفه مشهور بيده، وطرق الباب، فخرج عبد اللطيف بن الشيخ، فلما رآه على تلك الحالة رجع إلى أبيه وأخبره بما رأى، فخرج غير مكترث وقد اشتد جزع الولد، فقال له: يا بني أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، فعند ما عاينه الأمير هابه وسقط السيف من يده وبكى، ثم نزل عن فرسه، وأخذ يقبل يد الشيخ ويسأله الدعاء ويستغفر مما كان منه، ثم قال: يا سيدي، خبر نا إيش تعمل؟ قال: أنادي عليكم وأبيعكم قال: فثمننا في أي شيء تصرفه؟ قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟ قال: أنا، وانصرف، فلم يزل إلى أن نادى عليهم واحدا بعد واحد وبالغ في إشهارهم في النداء وحمل ثمنهم لبيت المال.
فاتفق أن بعض غلمان الوزير معين الدين عثمان ابن الشيخ، بني بنيانا على سطح مسجد بمصر، وعمل فيه طبل خانات، فأنكر ذلك الشيخ عز الدين ومضى بجماعته وهدم البناء، وعلم أن الوزير والسلطان يغضبان لذلك، فأشهد عليه بإسقاط عدالته وحكم بفسق الوزير، وعزل نفسه عن القضاء، فعظم ذلك على السلطان، وقيل له: اعزله عن الخطابة وإلا شنع عليك على المنبر كما فعل بدمشق، فعزله، فأقام في بيته من المدرسة الصالحية يشغل الناس، وولي قضاء مصر بعده أبو منصور موهوب بن عمر الجزري، أحد نواب الشيخ عز الدين في ثالث عشري ذي القعدة سنة أربعين وستمائة، وأعيد المجد الإخميمي إلى الخطابة، فاتفق أن الملك الصالح بعث رسولا إلى الخليفة ببغداد، فأدي رسالته، فقيل له: أسمعت هذه الرسالة من السلطان؟ قال: لا، ولكن حملنيها ابن شيخ الشيوخ أستاداره.
فقال الخليفة: إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام، فنحن لا نقبل روايته.
فرجع حتى شافهه الملك الصالح، ثم عاد بها إلى بغداد حتى أداها. فلما بنى الصالح المدارس الصالحية بالقاهرة، فوض إلى الشيخ عز الدين تدريس الشافعية، واستمر على
ما هو عليه إلى أن مات يوم الأحد العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، ودفن بالقرافة، وشهد جنازته خلائق لا تحصى.
وكان مع شدته حسن المحاضرة بالنوادر والأشعار، ولبس خرقة التصوف من الشهاب السهروردي، وأخذ عنه، وكان يقرأ عليه «رسالة القشيري» وله يد في التصوف، وكان يحضر السماع ويرقص ويتواجد.
وكان كل أحد يضرب به المثل في الزهد والعلم، فيقال بمصر: ما أنت إلا من العوام ولو كنت ابن عبد السلام.
ولما حضر بيعة السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري، قال له: يا ركن الدين أنا أعرفك مملوك البندقداري، وما أعلم هل عتقك أم لا، وانصرف ولم يبايعه أحد، حتى جاء من شهد له بالخروج عن رق البندقداري إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب وعتقه.
ولما مرض أرسل إليه السلطان، وقال: عين مناصبك لمن تريد من أولادك، فقال: ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة- يعني الصالحية- تصلح للقاضي تاج الدين يعني ابن بنت الأعز، ففوضت إليه بعده، وكان على غاية من صفاء الذهن وفرط الذكاء.
حكى عنه الوجيه أبو محمد عبد الوهاب بن السديد حسين بن عبد الوهاب البهنسي: أنه قال: مضت لي ثلاثون سنة، لا أنام كل ليلة إلا بعد أن أمر أبواب الشريعة علي خاطري.
وروي عنه أنه كان يقول: ما احتجت في علم من العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، وما توسطته على شيخ من المشايخ الذين كنت أقرأ عليهم، إلا وقال لي الشيخ: قد استغنيت عني فاشتغل مع نفسك، ولم أقنع بذلك، بل لا أبرح حتى أكمل الكتاب الذي أقروه في ذلك العلم.
وقال ابن دقيق العيد: ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء، وعن أبي عمرو بن الحاجب أنه قال: ابن عبد السلام أفقه من الغزالي.
وله مصنفات كثيرة منها: كتاب «تفسير القرآن» في مجلد كبير، رتبه على المعاني مختصرا، وكتاب «مختصر مسلم» وأقرأه، وكتاب «المجاز»، وكتاب «قواعد الإسلام» نسختان، كبرى وصغرى، وكتاب «مناسك الحج» وكتاب «الغاية في اختصار النهاية» وكتاب في «الإيمان ووجوهه» وفرق ما بينه وبين الإسلام، وكتاب «بداية السول في تفضيل الرسول» وكتاب «في الصوم وفضله» وكتاب «الفتاوى المجموعة» وكتاب «مقاصد الصلاة» وكتاب «الملحة» في تصحيح العقيدة، وكتاب «الرد على المبتدعة والحشوية» وكتاب «الأمالي» وكتاب «الفتاوى الموصلية» وكتاب «شجرة المعارف» وكتاب «بيان أحوال الناس يوم القيامة» وكتاب «الدلائل المتعلقة بالملائكة والنبيين عليهم السلام» و «مختصر رعاية المحاسبي» و «الإمام في أدلة الأحكام»، و «فوائد البلوى والمحن» و «الجمع بين الحاوي والنهاية» مجموع يشتمل على فنون من الفوائد، وغير ذلك.
وخرج يوما إلى الدرس وعليه قبع لباد وهو لابس فروة مقلوبة، فلما جلس على السجادة، تبسم بعض من حضر وهو يراه فلم يعبأ به، وقال:
قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون فهابه كل من حضر، وكان مع هذه المهابة حسن البشر في ملقاه، ويكتب خطا حسنا قويا، وفيه يقول أبو الحسين الجزار من أبيات:

ولما استقر مقامه بمصر امتنع الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري من الفتيا وقال: كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه.
ويحكى أن الشيخ عز الدين في أول أمره كان فقيرا معدما، ولم يشتغل بالعلم إلا على كبر. وذلك أنه كان يبيت في الكلاسة بدمشق، فاحتلم ذات ليلة وكان البرد شديدا فاغتسل في البركة، ونام فاحتلم ثانيا، فعاد فاغتسل، فأغمى عليه من شدة برد الماء، فسمع نداء، با ابن عبد السلام، أتريد العلم أم العمل؟ فقال: أريد العلم، لأنه يهدي إلى العمل، وأصبح فأخذ كتاب «التنبيه» في الفقه فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم، حتى صار إلى ما صار.
وكان بين الشيخ عبد الله البلتاجي وبين الشيخ عز الدين صداقة، وكان يهدي له في كل عام هدية، فأرسل إليه مرة هدية، ومن جملتها جبن في وعاء، فعند ما وصل الرسول بالهدية إلى باب القاهرة انكسر وعاء الجبن وتبدد ما فيه، فبينما هو نائم إذ أتاه ذمي وباعه جبنا بدله وأتى به، فلما بعث بالهدية إلى الشيخ قبلها ورد الجبن، وقال للرسول: يا ولدي ليش تفعل هذا؟ إن التي حلبت لبن الجبن كانت يدها متنجسة بالخنزير، سلم على أخي.
ووقع بدمشق غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعطته زوجته مصاغا لها وقالت: اشتر لنا به بستانا نصيف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فقالت له: جزاك الله خيرا.
وأفتى مرة بفتيا، ثم ظهر له أنه أخطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه: من أفتى له فلان بكذا فلا يعمل به فإنه خطأ.
ولما قدم الشيخ أبو العباس المرسي إلى القاهرة، أتى الشيخ عز الدين فقال له الشيخ عز الدين تكلم على هذا الفصل، فأخذ الشيخ أبو العباس يتكلم، والشيخ عز الدين يزحف في الحلفة، ويقول: اسمعوا هذا الكلام الذي هو حديث عهد بربه.
ولما عزم السلطان الملك المظفر قطز على المسير من مصر لمحاربة التتار وقد دهموا البلاد، جمع العساكر فضاقت يده عن نفقاتهم، واستشار الشيخ عز الدين، فقال له: أخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر، فقال السلطان: إن المال في خزانتي قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار. فقال له: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام اتخاذه، وضربته سكة ونقدا، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم، ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بحضرة الشيخ، وكانت له عندهم عظمة، وله في أنفسهم مهابة بحيث لا يستطيعون مخالفته، فامتثلوا ما قاله، وكان لقطز النصرة المعروفة على التتار بعين جالوت.
ومن عظمته في النفوس أن الملك بيبرس لم يبايع واحدا من الخليفة المستنصر والخليفة الحاكم العباسيين إلا بعد أن تقدمه الشيخ عز الدين للمبايعة، ثم يبايع السلطان بعده، ثم يبايع القضاة، ولما مرت جنازته من تحت القلعة ورأى الملك الظاهر كثرة الخلائق، قال لبعض خواصه: اليوم استقر أمري في الملك؛ لأن هذا الرجل لو كان يقول للناس: أخرجوا عليه، لانتزعوا الملك مني.
وشهد رحمه الله واقعة الفرنج لما أخذوا دمياط ووصلوا في مراكبهم إلى المنصورة، واستظهروا على المسلمين، فقويت الريح على مراكب المسلمين واشتد الأمر، فنادى الشيخ بأعلى صوته وأشار إلى الريح بيده: يا ريح خذيهم مرارا، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثر الفرنج وصرخ من بين المسلمين صارح: الحمد لله الذي أرانا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم رجلا سخر له الريح.
وكان الملك الأشرف موسى بن العادل، لما أخذ دمشق وبها يومئذ الشيخ عز الدين، وشيء به إليه أنه يخالفه في المعتقد، وكان الشيخ رحمه الله رأسا في مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وكان الأشرف على خلاف الأشعري، فدس أعداؤه عليه فتوى في مسألة الكلام فكتب عليها العقيدة المشهورة، وهي طويلة تشتمل على طريقة أبي الحسن الأشعري، ووضع فيها من الحنابلة وغض منهم، فلما وقف عليها الأشرف اشتد غضبه ووقع في حق الشيخ بعظيمة، وكان عنده جمع من الفقهاء فلم يستطيعوا أن يردوا قوله سوى بعض الأعيان فإنه قال: السلطان أولى بالعفو والصفح، فكثرت القالة، وقام الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب في حق الشيخ عز الدين، ومضى إلى القضاة والعلماء الذين حضروا مجلس الأشرف وعتبهم على سكوتهم، وما زال بهم حتى كتبوا خطوطهم على فتوى بصورة الحال وافقوا فيها ابن عبد السلام، وطلب ابن عبد السلام أن يعقد الأشرف مجلسا بحضرة الشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية، فكتب الأشرف بخطه: وصل إلي ما التمسه الفقيه ابن عبد السلام، أصلحه الله، من عقد مجلس وجمع المفتين والفقهاء، وقد وقفنا على خطه وما أفتى به، وعلمنا من عقيدته ما أغنى عن الاجتماع به، ونحن فنتبع ما عليه الخلفاء الراشدون الذين قال صلى الله عليه وسلم في حقهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكل مسلم يغلب هواه ويتبع الحق ويتخلص من البدع، إلا إن كنت تدعي الاجتهاد، فعليك أن تثبت، ليكون الجواب على قدر الدعوى، لتكون صاحب مذهب خامس، وأما ما ذكرته عن الذي جرى في أيام والدي تغمده الله برحمته، فذلك الحال أنا أعلم به منك، وما كان لك سبب إلا فتح باب السلامة لا لأمر ديني.
فهو سبحانه أولى من قبلت نصيحته، وحفظت وصيته.
وأما طلب المجلس وجمع العلماء، فما حملني عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدين، فقال:
(الدين النصيحة) قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) فالنصح لله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولكتابه بالعمل بمواجبه، ولرسوله باتباع سنته، وللأئمة بإرشادهم إلى أحكامه والوقوف عند أوامره ونواهيه، ولعامة المسلمين بدلالتهم على ما يقربهم إليه ويزلفهم لديه، وقد أديت ما علي في ذلك.
والفتيا التي وقعت في هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين، من الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنبلية، وما يخالف في ذلك إلا رعاع لا يعبأ الله بهم وهو الحق الذي لا يجوز دفعه، والصواب الذي لا يمكن رفعه، ولو حضر العلماء مجلس السلطان لعلم صحة ما أقول، والسلطان أقدر على تحقيق ذلك، وقد كتب الجماعة خطوطهم على ما قلته، وإنما سكت من سكت في أول الأمر لما رأوا من غضب السلطان ولولا ما شاهدوه من غضب السلطان لما أفتوا أولا إلا بما رجعوا إليه آخرا، ومع ذلك فنكتب ما ذكرته في الفتيا، وما ذكره الغير، وتبعث به إلى بلاد الإسلام، ليكتب فيها كل من يحب الرجوع إليه ويعتمد في الفتيا عليه، ونحن نحضر كتب العلماء المعتبرين، ليقف عليها السلطان.
وبلغني أنهم ألقوا إلى سمع السلطان أن الأشعري يستهين بالمصحف، ولا خلاف بين الأشعرية وجميع علماء المسلمين أن تعظيم المصحف واجب، وعندنا أن من استهان بالمصحف أو بشيء منه فقد كفر، وانفسخ نكاحه، وصار ماله فيئا للمسلمين، ويضرب عنقه. ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يترك بالقاع طعمة للسباع.
ومذهبنا أن كلام الله تعالى قديم أزلي قائم بذاته، لا يشبه كلام الآدميين، كما لا يشبه ذاته ذات الخلق، ولا يتصور في شيء من صفاته أن تفارق ذاته، إذ لو فارقته لصار ناقصا، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهو مع ذلك مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، وصفة الله القديمة ليست بمداد للكاتبين، ولا ألفاظ اللافظين، ومن اعتقد ذلك فقد فارق الدين، وخرج عن عقائد المسلمين، بل لا يعتقد ذلك إلا جاهل غبي وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.
وليس رد البدع وإبطالها من باب إثارة الفتن، فإن الله سبحانه أمر العلماء بذلك، وأمرهم ببيان ما علموه، ومن امتثل أمر الله، ونصر دين الله، لا يجوز أن يقال: لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد، والمذهب الخامس، فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد، والخلاف في الفروع، ومثل هذا الكلام فلا أعتمد فيه قول من لا يجوز أن يعتمد قوله، والله أعلم بمن يعرف دينه ويقف عند حدوده، وبعد ذلك فإنا نعلم أنا من جملة حزب الله، وأنصار دينه وجنده، وكل جندي لا يخاطر بنفسه فليس بجندي.
وأما ما ذكر من أمر باب السلامة، فنحن تكلمنا فيه بما ظهر لنا، من أن السلطان الملك العادل تغمده الله برحمته، إنما فعل ذلك إعزازا للدين، ونصرة للحق، ونحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فلما وقف الأشرف على جوابه اشتد غضبه وبعث إليه بالغرس خليل أستاداره، فبلغه غضب السلطان مما وقف من مخاطبته بما لا يعهده من مخاطبة الناس للملوك، مع ما ذكره من مخالفة اعتقاده، وأنه شرط أنه لا يفتي، ولا يجتمع بأحد، ويلزم بيته، فأظهر البشر لذلك، وخلع على الغرس سجادة كان يصلي عليها، فبقي على هذا ثلاثة أيام.
واجتمع الجمال الحصيري شيخ الحنفية بالسلطان، وحدثه في أمر ابن عبد السلام فأوقفه على ورقته، فقال: هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالف وذهب إلى إثبات الحرف والصوت فهو حمار، وما زال به حتى بعث إلى الشيخ يحايله وتقدم إلى الفريقين بالإمساك عن الكلام في مسألة الكلام وأن لا يفتي فيها أحد بشيء.
فلما قدم السلطان الملك الكامل من القاهرة إلى دمشق، وكان على رأي الأشعري، أكرم ابن عبد السلام وطلب منه أن يكتب له ما جرى في هذه القضية بطوله، فأمر ولده عبد اللطيف بذلك فكتبه وأعجب به الكامل، وعتب أخاه الأشرف على منعه ابن عبد السلام من الكلام في مسألة الكلام، وعنفه على ميله للحنابلة، فأخذ الأشرف في طلب مصنفات الشيخ وقرئ عليه منها كتاب «الملحة في اعتقاد الحق» وكتاب «مقاصد الصلاة» وكرر قراءته في يوم واحد ثلاث مرات، فلما بلغ ذلك ابن عبد السلام قال: لو قرئت «مقاصد الصلاة» على بعض مشايخ الزوايا أو على متزهد أو مريد أو متصوف مرة واحدة، في مجلس، لما أعادها فيه مرة أخرى، فاشتهر كتاب «مقاصد الصلاة» بدمشق وكتب منه عدة نسخ، فلما مات الأشرف وقدم الكامل إلى دمشق بعد موته، ولي الشيخ تدريس الزاوية الغزالية بجامع بني أمية، وعزم على ولايته قضاء دمشق، وإرساله في الرسالة إلى بغداد، فمات دون إمضاء ذلك بدمشق، فلما ملك الصالح أيوب بالكرك، ولي الشيخ خطابة الجامع الأموي، فاتفق خروج الصالح أيوب من الكرك، وأخذ ملك مصر من أخيه العادل، فحافد الصالح إسماعيل واعتضد عليه بالفرنج، وسلم إليهم صفد والشقيف، لينصروه على الصالح أيوب فدخل الفرنج دمشق واشتروا الأسلحة لقتال الصالح أيوب، فأنكر الناس ذلك، واستفتوا الشيخ فأفتاهم بتحريم بيع السلاح للفرنج، وجدد دعاءه على المنبر، وكان يدعو به قبل نزوله والناس يؤمنون، وهو: اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أولياءك، وتذل فيه أعداءك، ويعمل فيهم بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك. فنقل للصالح عنه ما غيره عليه، فاعتقله ثم أفرج عنه، فأقام مدة ثم خرج من دمشق فلقيه الناصر داود في الفور، وأخذه وأقام عنده بنابلس مدة، ثم سار إلى القدس حتى جاء الصالح إسماعيل بالفرنج لقتال المصريين، ومر بالقدس فقبض على الشيخ واعتقله في خيمة إلى جانبه، فلما انهزم نجا الشيخ وسار إلى القاهرة فأكرمه الصالح أيوب، وولاه خطابة جامع عمرو وقضاء مصر، وفوض إليه عمارة المساجد المهجورة، فجرت في ولايته عجائب وغرائب، وعزل نفسه عن الحكم ثم رده السلطان فباشر مدة ثم عزل نفسه.
وحكي أن رجلا قال له: رأيتك في النوم تنشد:
فقال: أعيش ثلاثا وثمانين سنة، فإن هذا الشعر لكثير عزة، ولا نسبة بيني وبينه غير السن، أنا سني وهو شيعي، وأنا لست بقصير وهو قصير، ولست بشاعر وهو شاعر، وأنا سلمي وهو ليس بسلمي، لكنه عاش هذا القدر، فكان كذلك.
وأنشد طلبته يوما، وقال لهم: أجيزوه.
ولا يعرف له نظم غيره، فأجازه شمس الدين عمر بن عبد العزيز بن الفضل الأسواني قاضي أسوان، فقال:
وذكر عدة أبيات وأنشدها كلها في المجلس، فقال له الشيخ: أنت إذا فقيه وشاعر.

  • دار الكتب العلمية - بيروت-ط 0( 0000) , ج: 1- ص: 315

عبد العزيز بن عبد السلام العلامة ذو الفنون وحيد عصره عز الدين السلمي الدمشقي ثم المصري شيخ الشافعية وقدوة الصوفية إمام عزه دائم وطائر فضله عظيم الجد والمجاهدة
ومن مؤلفاته تفسير مختصر في مجلد وذكر في تاريخ مرآة الجنان للإمام اليافعي صنف كتاب التفسير الكبير
انتهى
وصنف القواعد الكبرى والصغرى ومجاز القرآن وشجرة المعارف وشرح الأسماء الحسنى ومختصر النهاية وكان كاملا في الحديث
قد توفي بمصر سنة ستين وستمائة ودفن بالقرافة الكبرى

  • مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة-ط 1( 1997) , ج: 1- ص: 242

والعلامة عزالدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي شيخ الشافعية بمصر

  • دار الفرقان، عمان - الأردن-ط 1( 1984) , ج: 1- ص: 210

عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن.
قرأ الأصول على السيف الآمدى وبرع في فنون حتى قيل إنه بلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إلى بغداد ورحل إليه الناس وصنف المصنفات المفيدة منها ’’التفسير’’ في جزأين، و’’القواعد الكبري’’، ’’والصغرى’’، و’’مقاصد الصلاة’’، و’’شرح الأسماء’’، واختصر النهاية وليس هو منه، و’’الفتاوى الموصلية’’، و’’مجاز القرآن’’، و’’شجرة المعارف’’، و’’بيان أحوال الناس في القيامة’’، وسمع الحديث من ابن طبرزد وغيره، وعنه الدمياطى، وخرَّج له ابن دقيق العيد وهو الذي لقبه سلطان العلماء وتاج الدين ابن الفركاج وعلاء الدين الباجى وخلق، وأجاز لشيخنا جمال الدين محمد بن يوسف المعدمى المعمَّر فإن مولده سنة تسع وأربعين وستمائة، ومات سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وكان -أعنى الشيخ عز الدين- أمَّاراً بالمعروف نهاءاً عن المنكر، وولى خطابة دمشق بعد الدولعى فلم يلبس سواداً ولا سجع خطبة، واجتنب الثناء على الملوك وأبطل صلاة الرغائب والنصف فوقع بينه وبين ابن الصلاح بسبب ذلك، ولم يكن يؤذن بين يديه يوم الجمعة إلا مؤذن واحد وأرشد المؤذنين أن يقولوا لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له الحديث في مسلم عن ابن الزبير وكتب إليه السلطان الملك الأشرف موسى جواباً عن كتاب كتبه الشيخ عز الدين يطلب منه عقد مجلس بسبب العقائد، وكان الأشرف مائلاً عليه مع خصومه من المبتدعة الحشوية وعدم إجابته إلى ما سأله، فكتب إليه الشيخ عز الدين كتاباً عظيماً وفى آخره يقول: وبعد هذا فإنَّا نزعم أنَّا من جملة حزب اللَّه وأنصار دينه وجنده، وكل جندى لا يخاطر بنفسه فليس بجندى، وافتتحه بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ولما سلم الملك الصالح إسماعيل بن العادل بلغه التشنيف وصعد للفرنج ساد لك المسلمين فنال منه الشيخ عز الدين على المنبر، ولم يدع له فغضب الملك من ذلك وعزله وسجنه ثم أطلقه فسرح إلى الديار المصرية هو والشيخ كمال الدين بن الحاجب فتلَّقاه الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر وأكرمه واحترمه وأكرم حافظ الديار المصرية وزاهدها الشيخ زكى الدين وامتنع من الفتيا لأجله، وقال: إنه تعيَّن لها. وحضر مجلسه الحافظ وسمع عليه، واتفق موت قاضي القاهرة شرف بن عين الدولة فولى السلطان مكانه القاضي بدر الدين السنجارى وفوض قضاء مصر والوجه القبلى إلى الشيخ عز الدين مع خطابة جامع مصر فتمكن من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى إن بعض الأمراء أبنى مكاناً للطبلخاناه على سطح مسجداً فأنكر ذلك الشيخ عز الدين وذهب بنفسه فأخربه، وعلم أن هذا يشق على الوزير فحكم بفسق الوزير، وعزل نفسه عن القضاء فلما بلغ ذلك حاشية الملك شقَّ عليهم وأشاروا على الملك أن يعزله عن الخطابة لئلَّا يتعرض لسبِّ الملك على المنبر فعزله ولزم بيته يشغل الناس ويدرس. وحُكى أنه طلع السلطان يومئذ فرأى محفلاً عظيماً فالتفت إلى السلطان وناداه باسمه في ذلك الملأ العظيم يا فلان كيف نفسك في دينك أن تكون الحانة الفلانية يباع فيها الخمر وأنواع المنكر، فقال: يا سيدى هذا من زمان أبى. فقال: أنت من الذين يقولون يوم القيامة إذا سئلوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}. فوسم السلطان بإبطالها فسأل الشيخ عن ذلك، فقال: أردت أن أهينه لئلَّا تكبر نفسه عليه فتؤذيه. قيل فما خفت منه قال: استحضرت هيبة اللَّه في فلبى فصار قدَّامى كالقط، وحُكى أنه لما جاء الخبر بوصول التتار إلى البلاد في شهر رمضان رسم السلطان بالخروج بعد العيد فطلع إليه وقال: ما أخرَّك قال: حتى نهيئ أسيافنا. قالا: عاجزون. قال: لا. فال: أفتضمن لي على اللَّه النصر. قال: نعم. فكان كما قال، وحُكى أن الفرنج لما وصلوا إلى المنصورة للقاء المسلمين كانوا في مواكب قوية والريح قد أشرعت قلوعها واستظهر العدو وضعفت قلوب المسلمين وكانوا في مواكب ضعيفة وفيهم الشيخ وما لهم ويح، فلما رأى الشيخ ذلك أشار بيده للريح وقال: يا ريح خذيهم عدة مرات فعادت الريح على الفرنج وكسرت مراكبهم، وكان الفتح فصرخ من بين المسلمين صارخ: الحمد للَّه الذي أرانا في هذه الأمة رجلاً سخَّر له الريح، وحُكى أن السلطان كلمه مرة بكلام فيه غلظة فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حماره وأركب عائلته ومشى خلفهم خارجاً من القاهرة، فما وصل نحو نصف بريد إلّا ولحقه غالب المسلمين رجالاً ونساءاً وصبياناً فبلغ الخبر السلطان، وقيل له: متى راح ذهب ملكك فقام ولحقه بنفسه واسترضاه حتى رجع، ولما بلغ السلطان خبر وفاته قال: لم يستنقذ ملكى إلَّا الساعة؛ لأنه لو أمر الناس إلى ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره، وأما أمر الشيخ مع جماعة من أمراء مصر الكبار ومنهم نائب السلطان في ذلك الوقت وقوله: ما ثبت عندى أنهم أحراراً وهم أرقَّاء يجرى عليهم حكم القن فمشور، وانفصل الأمر على ما أراد الشيخ حتى أن نائب السلطان اشتاط غضباً وقال: كيف ينادى هذا الشيخ علينا ويبيعنا ونحن ملوك الأرض والله لأضربنه بسيفى هذا وسلَّ سيفه وركب في مخيلة وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول بيده فطرق الباب فخرج ولد الشيخ فرأى ذلك الأسد الضارى فدخل إلى والده وشرح له الحال فما اكترث وقال: يا ولدى أبوك أقل من أن يقتل في سبيل اللَّه ثم خرج كأنه قضاء اللَّه قد ترك على ذلك الأسد فحين عاينه نائب السلطان يبست يده وسقط السيف منها فبكى وسأل الشيخ أن يدعوا له وقال: يا سيدى خبرنا إيش نعمل قال الشيخ: أنادى عليكم وأبيعكم. قال: ففيم تصرف ثمننا. قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقتضيه. قال: أنا. ونادى على أولئك الأمراء واحداً واحداً ولم يبعهم إلَّا بالثمن البالغ ليكون الحظ والغبطة لبيت المال وهذا ما لم يُسمع لأحد بمثله، وحُكى أنه خرج يوماً إلى الدرس وعليه قبعة اللباد وقد نسى فلبس فروة مقلوبة ظاهرها باطنها فلما جلس على السجادة للدرس تبسَّم بعض الحاضرين فتأمله الشيخ، ثم لم يكترث ولم يزد على أن قال: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}. وحُكى أنه كان بينه وبين شخص من أهل الريف صداقة يقال له عبد اللَّه من أولياء اللَّه، وكان الشيخ يقبل هديته فأرسل إليه مرة هدية ومن جملتها وعاء جبن فاتفق أنه كسر في أثناء الطريق فاشترى بدله من ذمِّى، فلما وصل الرسول إلى باب البيت نزل شخص من عند الشيخ وقال: اطلع بما جئت به فناولته شيئاً فمشى إلى أن سلمت ذلك الجبن فطلع ثم نزل به وقال إن الشيخ قال ضعه على الباب، فلما طلع الرسول قال له الشيخ يا ولدى ليس يعمل هذا الجبن التي حلبت لبنه كانت يده متنجسة بلحم خنزير، وقال: سلَّم لي على أخى. وكراماته رضى اللَّه عنه كثيرة، وذكروا أنه لما مرض مرض الموت بعث إليه الملك الظاهر يقول له: من في أولادك يصلح لوظائفك فأرسل يقول: ليس فيهم من يصلح لشيء منها فأعجب ذلك السلطان، ولهذا لما مات حضر جنازته السلطان بنفسه وذلك في جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، قال الشيخ قطب الدين: كان مع شدته فيه حسن مناظرة بالنوادِ والأشعار وكان يحضر السماع يرقص ويتواجد كذا قال، وسئل الشيخ -رضي اللَّه عنه- عن الرجل بماذا يستحق الجامكية في مذهب الشافعي، أَعَلى اعتقاده المذهب أم على معرفته له، فأجاب بأنه يستحق ذلك على معرفته له، ونشره إياه وإن كان لا يعتقد بعض المسائل أو كما قال.

  • دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان-ط 1( 1997) , ج: 1- ص: 1