الأشرف ابن قلاوون خليل بن قلاوون الصالحي: الملك الأشرف صلاح الدين ابن السلطان الملك المنصور. من ملوك مصر. ولي بعد وفاة أبيه (سنة 68هـ) واستفتح الملك بالجهاد فقصد البلاد الشامية وقاتل الأفرنج، فأسترد منهم عكة وصورا وصيدا وبيروت وقلعة الروم وبيسان وجميع الساحل، وتوغل في الداخل. وكان شجاعا مهيبا علي الهمة جوادا، له آثار عمرانية وللشعراء أماديح فيه. قتله بعض المماليك غيلة بمصر
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 2- ص: 321
الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 9- ص: 0
الأشرف بن قلاون خليل بن قلاون السلطان الملك الأشرف صلاح الدين ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحي. جلس على تخت الملك في ذي القعدة سنة تسع وثمانين وست مائة بعد موت والده. واستفتح الملك بالجهاد وسار ونازل عكا وافتتحها، ونظف الشام كله من الفرنج. ثم سار في السنة الثانية فنازل قلعة الروم وحاصرها خمسة وعشرين يوما وافتتحها، وفي السنة الثالثة جاءته مفاتيح قلعة بهسنى من غير قتال إلى دمشق. ولو طالت مدته لملك العراق وغيرها. فإنه كان بطلا شجاعا، مقداما مهيبا، عالي الهمة يملا العين ويرجف القلب. وكان ضخما سمينا كبير الوجه بديع الجمال مستدير اللحية، على وجهه رونق الحسن وهيبة السلطنة. وكان إلى جوده وبذله الأموال في أغراضه المنتهى. تخافه الملوك في أقطارها. أباد جماعة من كبار الدولة. وكان منهمكا على اللذات لا يعبأ بالتحرز على نفسه لفرط شجاعته.
توجه من القاهرة في ثالث المحرم سنة ثلاث وتسعين وست مائة هو والوزير شمس الدين بن السلعوس وأمراء دولته، وفارقه وزيره من الطرانة إلى الإسكندرية، وعسف فيها وظلم وصادر الناس ونزل الأشرف بأرض الحمامات للصيد، وأقام إلى يوم السبت ثالث عشر المحرم. فلما كان وقت العصر وهو بتروجه، حضر نائب السلطنة بيدرا وجماعة من الأمراء، وكان الأشرف أمره بكرة أن يمضي بالدهليز ويتقدم ليتصيد هو ويعود عشية، فأحاطوا به وليس معه إلا شهاب الدين ابن الأشل أمير شكاره، فابتدره بيدرا فضربه بالسيف قطع يده، فصاح حسام الدين لاجين عليه وقال: من يريد الملك تكون هذه ضربته؟ وضربه على كتفه حله. فسقط إلى الأرض، ولم يكن معه سيف بل كان مشدود الوسط بالبند. ثم جاء سيف الدين بهادر رأس نوبة فأدخل السيف من أسفله وشقه إلى حلقه، وتركوه طريحا في البرية والتفوا على بيدرا وحلفوا له.
وساق تحت العصائب يطلب القاهرة، وتسمى- فيما قيل- بالملك الأوحد. وبات تلك الليلة وأصبح يسير. فلما ارتفع النهار إذا بطلب كبير قد أقبل يقدمه زين الدين كتبغا وحسام الدين أستاذ الدار يطلبون بيدرا بدم أستاذهم وذلك بالطرانة. فحملوا عليه فتفرق عنه أكثر من معه وقتل في الحال، وحمل رأسه على رمح وجاؤوا إلى القاهرة، فلم يمكنهم الشجاعي من التعدية، وكان نائب السلطنة في تلك السفرة. فأمر بالشواني كلها فربطت إلى الجانب الآخر، ونزل الجيش على الجانب الغربي. ثم مشت بينهم الرسل على أن يقيموا في السلطنة الملك الناصر محمدا أخا الأشرف، فتقرر ذلك، وأجلسوه على التخت يوم الاثنين رابع عشر المحرم، وأن يكون كتبغا أتابكه ووزيره الشجاعي. واختفى حسام الدين لاجين وقراسنقر المنصوري وغيرهما ممن شارك في قتلته.
قال شمس الدين الجزري: حدثني الأمير سيف الدين أبو بكر المحفدار قال: كان السلطان رحمه الله قد نفذني بكرة إلى بيدرا بأن يتقدم بالعساكر، فلما قلت له ذلك نفر في وقال: السمع والطاعة، كم يستعجلني!! ثم إني حملت الزردخاه والثقل الذي لي وركبت، فبينا أنا ورفيقي صارم الدين الفخري وركن الدين أمير جاندار عند الغروب، وإذا بنجاب قد أقبل فقلنا له: أين تركت السلطان؟ فقال: يطول الله أعماركم فيه. فبهتنا. وإذا بالعصائب قد لاحت وأقبل الأمراء وبيدرا في الدست فجئنا وسلمنا. وسايره أمير جاندار وقال له: يا خوند هذا الذي تم كان بمشورة الأمراء؟ قال: نعم أنا قتلته بمشورتهم وحضورهم، وهاهم حضور. وكان من جملتهم حسام الدين لاجين وبهادر رأس نوبة وقراسنقر وبدر الدين بيسري. ثم إن بيدرا شرع يعدد ذنوبه وإهماله لأمور المسلمين واستهتاره بالأمراء وتوزيره لابن السلعوس. ثم قال: رأيتم الأمير زين الدين كتبغا؟ قلنا: لا، فقال له أمير جاندار: كان عنده علم من هذه القضية؟ قال: نعم، هو أول من أشار بها. فلما كان من الغد جاء كتبغا في طلب نحو ألفين من الخاصكية وغيرهم، ثم قال كتبغا لبيدرا: أين السلطان؟ ورماه بالنشاب ورموا كلهم بالنشاب وقتلوه، وتفرق جمعه، قال: فلما رأينا ذلك، التجأنا إلى جبل واختلطنا بالطلب الذي جاء، فعرفنا بعض أصحابنا فقال لنا: شدوا بالعجلة مناديلكم في أرقابكم إلى تحت الإبط، يعني شعارهم.
قال ابن المحفدار: وسألت شهاب الدين ابن الأشل: كيف كان قتل السلطان؟ قال: جاء إليه بعد رحيل الدهليز الخبر أن بتروجة طيرا كثيرا، فقال لي: امش بنا حتى نسبق الخاصكية. فركبنا وسرنا، فرأينا طيرا كثيرا، فرمى بالبندق وصرع كثيرا. ثم قال: أنا جيعان فهل معك شيء تطعمني؟ فقلت: ما معي سوى فروجة ورغيف في سولقي. فقال: هاته، فناولته فأكله، ثم قال: امسك فرسي حتى أبول. قال: فقلت: ما فيها حيلة، أنت راكب حصان وأنا راكب حجر وما يتفقان، فقال: انزل أنت واركب خلفي وأركب أنا الحجر التي لك، وهي تقف مع الحصان إذا كنت فوقه. فنزلت وناولته لجامها وركبت خلفه. ثم نزل هو وجعل يريق الماء ويولع بذكره ويمازحني. ثم ركب حصانه وأمسك الحجر لي حتى ركبت. وإذا بغبار عظيم فقال لي: سق واكشف الخبر. فسقت، وإذا ببيدرا والأمراء، فسألتهم عن سبب مجيئهم فلم يردوا علي وساقوا إلى السلطان وقتلوه. ثم إنه بعد يومين طلع والي تروجة وغسلوه وكفنوه ووضعوه في تابوت، وسيروا من القاهرة الأمير سعد الدين كوجبا الناصري فأحضر التابوت. ودفن في تربة والدته، وذلك سنة ثلاث وتسعين وست مائة، وكان من أبناء الثلاثين أو أقل.
ذكر فتوحاته: عكا وصور وصيدا وبيروت وقلعة الروم وبهسنى، وجميع الساحل في أقرب مدة. وكان مدة ملكه ثلاث سنين وشهرين وخمسة أيام، وكان كرمه زائدا وإطلاقاته عظيمة. وكانت واقعته تسمى: وقعة الأيدي والأكتاف، لأن جميع من وافق عليه قطعت أيديهم أولا، وفيهم من سمر، وفيهم من أحرق، وفيهم من قتل. ولم يجدد في زمانه مظلمة ولا استجد ضمان مكس. وكان يحب الشام وأهله. وحدثت أنه كان بدمشق قبل ولاية الأشرف يؤخذ عند باب الجابية على كل حمل يحمل غلة خمسة دراهم مكسا، فأول ولاية الأشرف وردت إلى دمشق محامحة بإسقاط ذلك المكس. وبين سطور المرسوم بذلك بخطه بقلم، العلامة: ولتسقط عن رعايانا هذه الظلامة، ويستجلب الدعاء لنا من الخاصة والعامة. من البسيط
وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه | وأول الغيث قطر ثم ينسكب |
مليكان قد لقبا بالصلاح | فهذا خليل وذا يوسف |
فيوسف لا شك في فضله | ولكن خليل هو الأشرف |
خليل تكسر أصنام الزمان وكم | جبرت قوما ولكن بعضهم هبل |
وكل نمروذ قد أودى بهامته | ذباب سيفك حتى غاله الأجل |
قد أخذ المسلمون عكا | وأشبعوا الكافرين صكا |
وساق سلطاننا إليهم | خيلا تدك الجبال دكا |
وأقسم الترك منذ سارت | لا تركوا للفرنج ملكا |
ما رأى الناس مثل ملكك ملكا | ملأ الخافقين للحرب تركا |
وجيوشا لو صادمت جبل الشر | ك لدكته بالسنابك دكا |
قد رأينا وأنت أنت صلاح الد | ين ما كان عن سميك يحكى |
صدت صيدا قنصا وصور وعثليـ | ـث وبيروت بعد فتح عكا |
وقبة هي للأفلاك عاشرة | ودونها في علو الشان كيوان |
كأنها العالم العلوي تحرسها | الأملاك لم يدن منها ثم شيطان |
علت فأفلاكها الأفلاك في شرف | وتبرها الشهب والأركان أركان |
وأنت يا أشرف الأملاك شمس علا | سما بها وعلى ظني سليمان |
وتحت دهليزك الزاهي بزركشه | من كلما تتمنى النفس ألوان |
والجيش بالقبق المنصور قد ولعوا | بكل طائشة والقوس مرنان |
كأنما العرض يوم العرض إذ عرضوا | عليه صفا وللإعطاء ميزان |
إن أمر السلطان في جلق | بهدم ما ضايق ميدانه |
فإنه قد غار لما رأى | غير بيوت الله جيرانه |
أرى الأمراء قد جدوا وجادوا | وشدوا في بنائهم وشادوا |
وهم متسابقون ولا عجيب | ففي الميدان تستبق الجياد |
جزيتم أيها الأمراء خيرا | على إتقانكم هذي البنيه |
فلا تخشوا على الميدان شيئا | سوى سيل العطايا الأشرفيه |
لئن ادعى ميداننا شرفا إلى | شرفيه لم ينسب إلى الإسراف |
أو ما ترى الأمراء في تعميره | أضحوا فعول مجارف وقفاف |
الحمد لله زالت دولة الصلب | وعز بالترك دين المصطفى العربي |
هذا الذي كانت الآمال لو طلبت | رؤياه في النوم لاستحيت من الطلب |
ما بعد عكا وقد هدت قواعدها | في البحر للشرك عند البر من أرب |
عقيلة ذهبت أيدي الخطوب بها | دهرا وشدت عليها كف مغتصب |
لم يبق من بعدها للكفر مذ خربت | في البر والبحر ما ينجي سوى الهرب |
كانت تخيلنا آمالنا فنرى | أن التفكر فيها غاية العجب |
أم الحروب فكم قد أنشأت فتنا | شاب الوليد بها هولا ولم تشب |
سوران، برا وبحرا حول ساحتها | دارا وأدناهما أنأى من القطب |
خرقاء أمنع سوريها وأحصنها | غلب الرجال وأقواها على النوب |
مصفح بصفاح حولها أكم | من الرماح وأبراج من اليلب |
مثل الغمائم تهدي من صواعقها | بالنبل أضعاف ما تهدي من السحب |
كأنما كل برج حوله فلك | من المجانيق يرمي الأرض بالشهب |
ففاجأتها جنود الله يقدمها | غضبان لله لا للملك والنشب |
ليث أبى أن يرد الوجه عن أمم | يدعون رب العلى سبحانه بأب |
كم رامها ورماها قبله ملك | جم الجيوش فلم يظفر ولم تجب |
لم يلهه ملكه بل في أوائله | نال الذي لم ينله الناس في الحقب |
لم ترض همته إلا الذي قعدت | للعجز عنه ملوك العجم والعرب |
فأصبحت وهي في بحرين ماثلة | ما بين مضطرم نارا ومضطرب |
جيش من الترك ترك الحرب عندهم | عار وراحتهم ضرب من الضرب |
خاضوا إليها الردى والبحر فاشتبه الـ | ـأمران واختلفا في الحال والسبب |
تسنموها فلم يترك تسنمهم | في ذلك الأفق برجا غير منقلب |
تسلموها فلم تخل الرقاب بها | من فتك منتقم أو كف منتهب |
أتوا حماها فلم يمنع وقد وثبوا | عنها مجانيقهم شيئا ولم تثب |
يا يوم عكا لقد أنسيت ما سبقت | به الفتوح وما قد خط في الكتب |
لم يبلغ النطق حد الشكر منك فما | عسى يقوم به ذو الشعر والخطب |
كانت تمني بك الأيام مبعدة | فالحمد لله نلنا ذاك عن كثب |
أغضبت عباد عيسى إذ أبدتهم | لله أي رضى في ذلك الغضب |
وأطلع الله جيش النصر فابتدرت | طلائع الفتح بين السمر والقضب |
وأشرف المصطفى الهادي البشير على | ما أسلف الأشرف السلطان من قرب |
فقر عينا بهذا الفتح وابتهجت | بفتحه الكعبة الغراء في الحجب |
وسار في الأرض سير الريح سمعته | فالبر في طرب والبحر في حرب |
وخاضت البيض في بحر الدماء وما | أبدت من البيض إلا ساق مختضب |
وغاص زرق القنا في زرق أعينهم | كنها شطن تهوي إلى قلب |
توقدت وهي غرقى في دمائهم | فزادها الطفح منها شدة اللهب |
أجرت إلى البحر بحرا من دمائهم | فراح كالراح إذ غرقاه كالحبب |
وذاب من حرها عنهم حديدهم | فقيدتهم به ذعرا يد الرهب |
تحكمت وسطت فيهم قواضبها | قتلا وعفت لحاويها عن السلب |
كم أبرزت بطلا كالطود قد بطلت | حواسه فغدا كالمنزل الخرب |
كأنه وسنان الرمح يطلبه | برج هوى ووراه كوكب الذنب |
بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت | بك الممالك واستعلت على الرتب |
ما بعد عكا وقد لانت عريكتها | لديك شيء تلاقيه على تعب |
فانهض إلى الأرض فالدنيا بأجمعها | مدت إليك فواصلها بلا نصب |
كم قد دعت وهي في أسر العدى زمنا | صيد الملوك فلم تسمع ولم تجب |
أتيتها يا صلاح الدين معتقدا | بأن داعي صلاح الدين لم يخب |
أسلت فيها كما سالت دماؤهم | من قبل إحرازها بحرا من الذهب |
أدركت ثأر صلاح الدين إذ غصبت | منه لسر طواه الله في اللقب |
وجئتها بجيوش كالسيول على | أمثالها بين آجام من القضب |
وحطتها بالمجانيق التي وقفت | إزاء جدرانها في جحفل لجب |
مرفوعة نصبوا أضعافها فغدا | للكسر والحطم منها كل منتصب |
ورضتها بنقوب ذللت شمما | منها وأبدت محياها بلا تعب |
وغنت البيض في الأعناق فارتقصت | أبراجها لعبا منهن باللعب |
وخلقت بالدم الأسوار فانفغمت | طيبا ولولا دماء الخبث لم تطب |
وأبرزت كل خود كاعب نثرت | رؤوسهم حين زفوها بلا طرب |
باتت وقد جاورتنا ناشزا وغدت | طوع الهوى في يدي جيرانها الجنب |
بل أحرزتهم ولكن للسيوف لكي | لا يلتجي أحد منهم إلى الهرب |
وجالت النار في أرجائها وعلت | فأطفأت ما بصدر الدين من كرب |
أضحت أبا لهب تلك البروج وقد | كانت بتعليقها {حمالة الحطب} |
وأفلت البحر منهم من يخبر من | يلقاه من قومه بالويل والحرب |
وتمت النعمة العظمى وقد كملت | بفتح صور بلا حصر ولا نصب |
أختان في أن كلا منهما جمعت | صليبة الكفر لا أختان في النسب |
لما رأت أختها بالأمس قد خربت | كان الخراب لها أعدى من الجرب |
الله أعطاك ملك البحر إذ جمعت | لك السعادة ملك البر والعرب |
من كان مبدأه عكا وصور معا | فالصين أدنى إلى كفيه من حلب |
علا بك الملك حتى أن قبته | على البرايا غدت ممدودة الطنب |
فلا برحت قرير العين مبتهجا | بكل فتح مبين المنح مرتقب |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 13- ص: 0