الحكم الربضي الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، الأموي، أبو العاص: من افحل ملوك بني أمية بالأندلس، واول من جعل الملك فيها أبهة، واول من جند بها الأجناد وجمع الأسلحة والعدد وارتبط الخيول على بابه، وهو الذي مهد الملك لعقبة في تلك البلاد. وكان يباشر الأمور بنفسه، شديدا، جبارا، ضابطا لأمر مملكته، يقظا، يلقب بالربضي لإيقاعه بأهل الربض (وهي محلة متصلة بقصره) نمى إليه انهم يدبرون مكيدة للإيقاع به فقتلهم وهدم ديارهم. مولده ومنشأه بقرطبة. وولى الأمر بها بعد أبيه (سنة 180هـ) وقامت في أيامه فتن فاشتغل في حسمها، فجاءه أن مجاوريه من الفرنج أخذوا يفسدون في الثغور، فسارإليهم بنفسه (سنة 196هـ) فافتتح الحصون وخرب النواحي العاصية وعاد إلى قرطبة ظافرا، وهابه الناس، فأستقر له الأمر إلى أن توفى بقرطبة. وكان كثير العناية بالأدب والعلم، خطبيا، له شعر يتفكه بنظمه
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 2- ص: 267
الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الإمام الحكم بن هشام
وولي الحكم بن هشام: في صفر سنة ثمانين ومائة؛ توفي (رحمه الله) يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ست ومائتين.
وكانت ولايته: ست وعشرين سنة، وعشرة أشهر.
قال الرازي: توفي الحكم بن هشام: يوم الخميس لأربع بقين من ذي الحجة سنة ست ومائتين؛ ودفن في القصر: يوم الجمعة؛ وصلى عليه ابنه: عبد الرحمن. وكان مولده: سنة أربع وخمسين ومائة.
فلبث في خلافته: ستا وعشرين سنة، وعشرة أشهر، وثمانية عشر يوما. وبلغ من السن: اثنتين وخمسين سنة.
مكتبة الخانجي - القاهرة-ط 2( 1988) , ج: 1- ص: 12
صاحب الأندلس الربضي الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ملك الأندلس. ولي الأمر بعد والده، وامتدت أيامه، وأقام في الأمر بعد، سبعا وعشرين سنة وشهرا، ولقب نفسه بالربضي. وكان فارسا شجاعا فاتكا جبارا ذا حزم ودهاء. كان يمسك أولاد الناس الملاح فيخصيهم ويمسكهم لنفسه. وتوفي سنة ست ومائتين، وهو ابن خمسين سنة. ودفن في القصر، وصلى عليه ابنه عبد الرحمن، وقيل: كان عمره يوم مات اثنتين وخمسين سنة، وله شعر. وقام بعده ولده أبو المطرف عبد الرحمن. ومن شعره:
قضب من البان ماست فوق كثبان | ولين عني وقد أزمعن هجراني |
ملكنني ملكا ذلت عزائمه | للحب ذل أسير موثق عان |
من لي بمغتصبات الروح من بدني | يغصبنني في الهوى عزي وسلطاني |
رأيت صدوع الأرض بالسيف راقعا | وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا |
فسائل ثغوري: هل بها اليوم ثغرة | أبادرها منتضي السيف دارعا |
وشافه على الأرض الفضاء جماجما | كأقحاف منثور الهبيد لوامعا |
تنبيك أني لم أكن في قراعهم | بوان وقدما كنت بالسيف قارعا |
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم | فوافوا منايا قدرت ومصارعا |
فهاك سلاحي إنني قد تركتها | مهادا ولم أترك عليها منازعا |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 13- ص: 0
الحكم بن هشام ابن الداخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ابن الحكم الأموي، المرواني، أبو العاص، أمير الأندلس، وابن أميرها، وحفيد أميرها. ويلقب: بالمرتضى، ويعرف: بالربضي؛ لما فعل بأهل الربض. بويع بالملك عند موت أبيه، في صفر، سنة ثمانين ومائة.
وكان من جبابرة الملوك، وفساقهم، ومتمرديهم، وكان فارسا، شجاعا، فاتكا، ذا دهاء، وحزم، وعتو، وظلم، تملك سبعا وعشرين سنة.
وكان في أول أمره على سيرة حميدة، تلا فيها أباه، ثم تغير، وتجاهر بالمعاصي.
قال أبو محمد بن حزم: كان من المجاهرين بالمعاصي، سفاكا للدماء، كان يأخذ أولاد الناس الملاح، فيخصيهم ويمسكهم، لنفسه. وله شعر جيد.
قال اليسع بن حزم: همت الروم بما لم ينالوا من طلب الثغور، فنكثوا العهد، فتجهز الحكم إليهم حتى جاز جبل السارة -شمالي طليطلة- ففرت الروم أمامه حتى تجمعوا بسمورة، فلما التقى الجمعان، نزل النصر، وانهزم الكفر، وتحصنوا بمدينة سمورة، وهي كبيرة جدا، فحصرها المسلمون بالمجانيق، حتى افتتحوها عنوة، وملكوا أكثر شوارعها، واشتغل الجند بالغنائم، وانضمت الروم إلى جهة من البلد، وخرجوا على حمية، فقتلوا خلقا
في خروجهم، فكانت غزوته من أعظم المغازي، لولا ما طرأ فيها من تضييع الحزم، ورامت الروم السلم، فأبى عليهم الحكم، ثم خرج من بلادهم خوفا من الثلوج، فلما كان العام الآتي، استعد أعظم استعداد، وقصد سمورة، فقتل، وسبى، كل ما مر به، ثم نازلها شهرين، ثم دخلوها بعد جهد، وبذلوا فيها السيف إلى المساء، ثم انحاز المسلمون، فباتوا على أسوارها، ثم صبحوها من الغد، لا يبقون على محتلم.
قال الرازي في ’’مغازي الأندلس’’: الذي أحصي ممن قتل في سمورة ثلاث مائة ألف نفس، فلما بلغ الخبر ملك رومية، كتب إلى الحكم يرغب في الأمان، فوضع على الروم ما كان جده وضع عليهم، وزاد عليهم أن يجلبوا من تراب مدينة رومية نفسها ما يصنع به أكوام بشرقي قرطبة صغارا لهم، وإعلاء لمنار الإسلام، فهما كومان من التراب الأحمر في بسيط مدرتها السوداء.
قلت: وكثرت العلماء بالأندلس في دولته، حتى قيل: إنه كان بقرطبة أربعة آلاف متقلس متزيين بزي العلماء، فلما أراد الله فناءهم، عز عليهم انتهاك الحكم للحرمات، وائتمروا ليخلعوه، ثم جيشوا لقتاله، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله، فلا قوة إلا بالله، فذكر ابن مزين في ’’تاريخه’’: طالوت بن عبد الجبار المعافري، وأنه أحد العلماء العاملين الشهداء الذين هموا بخلع الحكم، وقالوا: إنه غير عدل، ونكثوه في نفوس العوام، وزعموا أنه لا يحل المكث ولا الصبر على هذه السيرة الذميمة، وعولوا على تقديم أحد أهل الشورى بقرطبة، وهو أبو الشماس أحمد بن المنذر بن الداخل الأموي ابن عم الحكم، لما عرفوا من صلاحه، وعقله، ودينه، فقصدوه، وعرفوه بالأمر، فأبدى الميل إليهم والبشرى بهم، وقال لهم: أنتم أضيافي الليلة، فإن الليل أستر. وناموا، وقام هو إلى ابن عمه بجهل، فأخبره بشأنهم، فاغتاظ لذلك، وقال: جئت لسفك دمي أو دمائهم، وهم أعلام، فمن أين نتوصل إلى ما ذكرت؟ فقال: أرسل معي من تثق به ليتحقق. فوجه من أحب، فأدخلهم أحمد في بيته تحت ستر، ودخل الليل، وجاء القوم، فقال: خبروني من معكم؟ فقالوا: فلان الفقيه، وفلان الوزير. وعدوا كبارا، والكاتب يكتب حتى امتلأ الرق، فمد أحدهم يده وراء الستر، فرأى القوم، فقام وقاموا، وقالوا: فعلتها يا عدو الله. فمن فر لحينه، نجا، ومن لا، قبض عليه، فكان ممن فر: عيسى بن دينار الفقيه، ويحيى بن يحيى الفقيه صاحب مالك، وقرعوس بن العباس الثقفي.
وقبض على ناس كأبي كعب، وأخيه، ومالك بن يزيد القاضي، وموسى بن سالم
الخولاني، ويحيى بن مضر الفقيه، وأمثالهم من أهل العلم والدين، في سبعة وسبعين رجلا، فضربت أعناقهم، وصلبوا.
وأضاف إليهم عميه؛ كليبا وأمية، فصلبا، وأحرق القلوب عليهم، وسار بأمرهم الرفاق، وعلم الحكم أنه محقود من الناس كلهم، فأخذ في جمع الجنود والحشم، وتهيأ، وأخذت العامة في الهيج، واستأسد الناس، وتنمروا، وتأهبوا. فاتفق أن مملوكا خرج من القصر بسيف دفعه إلى الصيقل، فماطله، فسبه، فجاوبه الصيقل، فتضاربا، ونال منه المملوك حتى كاد أن يتلفه، فلما تركه، أخذ الصيقل السيف، فقتل به المملوك، فتألب إلى المقتول جماعة، وإلى القاتل جماعة أخرى، واستفحل الشر، وذلك في رمضان، سنة اثنتين ومائتين، وتداعى أهل قرطبة من أرباضهم، وتألبوا بالسلاح، وقصدوا القصر، فركب الجيش والإمام الحكم، فهزموا العامة، وجاءهم عسكر من خلفهم، فوضعوا فيهم السيف، وكانت وقعة هائلة شنيعة، مضى فيها عدد كثير زهاء عن أربعين ألفا من أهل الربض، وعاينوا البلاء من قدامهم ومن خلفهم، فتداعوا بالطاعة، وأذعنوا ولاذوا بالعفو، فعفا عنهم على أن يخرجوا من قرطبة، ففعلوا، وهدمت ديارهم ومساجدهم، ونزل منهم ألوف بطليطلة، وخلق في الثغور، وجاز آخرون البحر، ونزلوا بلاد البربر، وثبت جمع بفاس، وابتنوا على ساحلها مدينة غلب على اسمها مدينة الأندلس، وسار جمع منهم زهاء خمسة عشر ألفا، وفيهم عمر بن شعيب الغليظ، فاحتلوا بالإسكندرية، فاتفق بعد ذلك أن رجلا منهم اشترى لحما من جزار، فتضاجر معه، ورماه الجزار بكرش في وجهه، فرجع بتلك الحالة إلى قومه، فجاءوا فقتلوا اللحام، فقام عليهم أهل الإسكندرية، فاقتتلوا، وأخرج الأندلسيون أهلها هاربين، وتملكوا الإسكندرية. فاتصل الخبر بالمأمون فأرسل إليهم، وابتاع المدينة منهم، على أن يخرجوا منها، وينزلوا جزيرة إقريطش، فخرجوا، ونزلوها، وافتتحوها، فلم يزالوا فيها إلى أن غلب عليها أرمانوس بن قسطنطين سنة خمس وثلاثمائة.
وأما الحكم فإنه اطمأن، وكتب إلى القائد محمد بن رستم كتابا فيه: وأنه تداعى فسقة من أهل قرطبة إلى الثورة، وشهروا السلاح، فأنهضنا لهم الرجال، فقتلنا فيهم قتلا ذريعا، وأعان الله عليهم، فأمسكنا عن أموالهم وحرمهم.
ثم كتب الحكم كتاب أمان عام، وكان طالوت اختفى سنة عند يهودي، ثم خرج،
وقصد الوزير أبا البسام ليختفي عنده، فأسلمه إلى الحكم فقال: ما رأي الأمير في كبش سمين، وقف على مذوده عاما؟ فقال الحكم: لحم ثقيل، ما الخبر؟ قال: طالوت عندي. فأمره بإحضاره، فأحضر، فقال: يا طالوت! أخبرني لو أن أباك أو ابنك ملك هذه الدار، أكنت فيها في الإكرام والبر على ما كنت أفعل معك؟ ألم أفعل كذا؟ ألم أمش في جنازة امرأتك، ورجعت معك إلى دارك؟ أفما رضيت إلا بسفك دمي؟ فقال الفقيه في نفسه: لا أجد أنفع من الصدق، فقال: إني كنت أبغضك لله، فلم يمنعك ما صنعت معي لغير الله، وإني لمعترف بذلك -أصلحك الله- فوجم الخليفة، وقال: اعلم أن الذي أبغضتني له قد صرفني عنك، فانصرف في حفظ الله، ولست بتارك برك، وليت الذي كان لم يكن، ولكن أين ظفر بك أبو البسام -لا كان؟ فقال: أنا أظفرته بنفسي، وقصدته. قال: فأين كنت في عامك؟ قال: في دار يهودي، حفظني لله. فأطرق الخليفة مليا، ورفع رأسه إلى أبي البسام، وقال: حفظه يهودي، وستر عليه لمكانه من العلم والدين، وغدرت به إذ قصدك، وخفرت ذمته، لا أرانا الله في القيامة وجهه إن رأينا لك وجها. وطرده، وكتب لليهودي كتابا بالجزية فيما ملك، وزاد في إحسانه فلما رأى اليهودي ذلك، أسلم مكانه.
قال ابن مزين: وكان أهل طليطلة لهم نفوس أبية، وكانوا لا يصبرون على ظلم بني أمية، فإن ولاتهم كان فيهم ظلم وتعد، فكانوا يثبون على الوالي ويخرجونه، فولى عليهم الحكم عمروسا، رجلا منهم. وكان عمروس داهية، فداخل الحكم، وعمل على رءوس أهل طليطلة حتى قتل جماعة منهم.
قال ابن مزين: فأشار أولا على الأعيان ببناء قلعة تحميهم، ففعلوا، فبعث إلى الخليفة كتبا بمعاملة منه، فيه شتمه وسبه، فقام له، وقعد، وسب وأفحش، وبعث للخليفة ولده للغزو، فاحتال عمروس على الأكابر حتى خرجوا، وتلقوه، ورغبوه في الدخول إلى قلعتهم، ومد سماطا، واستدعاهم، فكان الداخل يدخل على باب، ويخرج من باب آخر، فتضرب عنقه حتى كمل كذلك نحو الخمسة آلاف، حتى غلا بخار الدماء، وظهرت الرائحة، ثم بعث الحكم أمانا ليحيى بن يحيى الليثي.
مات الحكم سنة ست ومائتين، في آخرها، وله ثلاث وخمسون سنة. وولي الأندلس بعده: ابنه أبو المطرف عبد الرحمن، فلنذكره.
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 7- ص: 280
ابنه الحكم بن هشام المعروف بالربضى أبو العاصي
ولي بعد أبيه يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمانين ومائة وكان شجاعاً باسلاً أديباً مفتناً خطيباً مفوهاً وشاعراً مجوداً تحذر صولاته وتستندر أبياته
وهو الذي أوقع بأهل الربض فنسب إليه وأمر بهدمه وتعطيله وصير ذلك وصية فيمن خلفه وعهداً على بنيه ما كان لهم سلطان بالأندلس فلم يعمر ولا اختطت فيه دار إلى آخر دولتهم ثم بعدها إلى أن ملك الروم قرطبة يوم الأحد الثالث والعشرين من شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وأقام على ذلك نحوا من أربعمائة سنة وثلاثين سنة ولا أعلمه إلا كذلك إلى اليوم
وكانت وقعة الربض الشنعاء يوم الأربعاء النحسة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان سنة اثنتين ومائتين في آخر خلافة الحكم ويوم الخميس بعده أمر بهدم الربض القبلي الذي منه نشأت الفتنة فأعيد بطحاء مزرعة بعد أن قتل من أهله مقتلة عظيمة وأسر خلقا جماً صلب منهم نحو ثلثمائة صفوا من إزاء باب القنطرة إلى آخر المصادة مع ضفة النهر لم ير فيما سلف ممثلون أكثر منهم عددا ولا أهول منظراً وتمادى القتل والنهب لمنازلهم والتتبع لمستخفيهم ثلاثة أيام لم تقل لمن عثر عليه منهم عثرة وجرت عليهم خلالها محن لا تضبطها الصفة وكف الحكم عن الحرم ووصى بهن فأجمل في ذلك ما شاء
ولما انقضت الأيام الثلاثة أمر برفع القتل وتأمين الفل على أن يخرجوا من حضرته قرطبة فساروا عن أوطانهم كل بحسب ما أمكنه واستمروا ظاعنين على الصعب والذلول في يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر رمضان المؤرخ متفرقين في قصى الكور وأطراف الثغور ولحق جمهورهم بطليطلة لمخالفة أهلها الحكم ولجأ آخرون إلى سواحل بلاد البربر وأصعدت منهم طائفة عظيمة نحو الخمسة عشر ألفا في البحر نحو المشرق حتى انتهوا إلى الإسكندرية وذلك في أول ولاية عبد الله المأمون بن الرشيد فعازهم أهلها وذهبوا إلى إذلالهم فأبوا الضيم وثاروا بهم فغلبوهم وبذلوا السيف فيهم وقتلوا كثيرا منهم وسطوا بهم سطوة منكرة وملكوا الإسكندرية مديدة إلى أن ورد عبد الله بن طاهر أميرا على مصر من قبل المأمون فصالحهم على التخلي عنها على مال بذله لهم وخيرهم في النزول بحيث شاءوا من جزائر البحر فاختاروا جزيرة إقريطش من البحر الرومي وكانت يومئذٍ خالية من الروم فاحتملوا إليها بفتنتهم ونزلوها فاعتمروها وجاءهم الناس من كل مكان فأوطنوها معهم
وحكى ابن حيان عن أبي بكر بن القوطية وغيره أن الحكم غرب في بأساء حربه هذه عندما حمى وطيسها وأعضل خطبها بنادرة من نوادر الصبر والتوطين على الموت ما سمع لأحد من الملوك مثلها وذلك أنه في مقامه بالسطح وعند بصره باشتداد الحرب وجثوم الكرب وسماعه قعقعة السلاح وانتماء الأبطال دعا بقارورة غالية لتدني منه فتوانى بها عنه خادمه المسمى يزنت ظنا منه أنه لهج في منطقه فصاح به وزجره وفي رواية أخرى فكأن الخادم شك في طلبته واتهم سمعه فتوقف عن المضي لأمره فصاح به الحكم أنطلق يا ابن اللخناء فعجل فجاءه بالقارورة فأفرغها على رأسه ولحيته ولم يملك الخادم نفسه أن قال له وأية ساعة طيب هذه يا مولاي فتستعمله وقد ترى ما نحن فيه فقال له أسكت لا أم لك من أين يعرف قاتل الحكم رأسه من رأس غيره إذا هو مذه إن لم يفرق الطيب بينهما ثم أستلأم للحرب وأمر بتفريق السلاح والخيل على أجناده وأنهضهم لقتال من جاش به بعد أن كتبهم كتائب قود عليها كباراً من قواده وأهل بيته فانهزمت العامة بعد قتال شديد ولم تكن لأحد منهم كرة وكانوا كالدبا كثرة
قال ولم ينل الحكم بعد وقيعة الربض حلاوة العيش وأمتحن بعلة صعبة طاولته أربعة أعوام قلت غربه وأطالت ضناه وأحتجب فيها آخر مدته وأستناب ولده عبد الرحمن في تدبير ملكه فمات على توبة من ذنوبه وندم على
ما اقترف منها بين صلاتي الظهر والعصر من يوم الخميس لأربع بقين من ذي الحجة سنة ست ومائتين
ومن شعره في ذلك يعذر نفسه بالدفاع عن ملكه والحماية لسلطانه وهو من أحسن شعر قيل في معناه
رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعاً | وقدماً لأمت الشعب مذ كنت يافعاً |
فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة | أبادرها مستنضى السيف دارعا |
وشافه على الأرض الفضاء جماجماً | كأقحاف شريان الهبيد لوامعا |
تنبئك أني لم أكن في قراعهم | بوان وقدماً كنت بالسيف قارعا |
وإني إذا حادوا حذاراً عن الردى | فلست أخا حيد عن الموت جازعا |
حميت ذماري فاتهكت ذمارهم | ومن لا يحامى ظل خزيان ضارعا |
ولما تسقينا سجال حروبنا | سقيتهم سجلاً من الموت ناقعا |
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم | فلاقوا منايا قدرت ومصارعا |
فهاك بلادي إنني قد تركتها | مهاداً ولم أترك عليها منازعا |
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم | فلاقوا منايا قدرت ومصارعا |
غناء صليل البيض أشهى إلى الأذن | من اللحن في الأوتار واللهو والردن |
إذا اختلفت زرق الأسنة والقنا | أرتك نجوماً يطلعن من الطعن |
بها يهتدى السارى وتنكشف الدجى | وتستشعر الدنيا لباساً من الأمن |
شققت غمار الموت تخطي مهجتي | سهام ردى قبلي أصابت ذوي الجبن |
إذا لفحت ريح الظهائر لم يكن | لفاعى فيها غير فيء القنا اللدن |
وإن لم يجد حصناً سوى الفر مقدم | فمالي غير السيف والرمح من حصن |
قذفت بهم من فوق بهماء فاتروت | له الأرض وأستولى على السهل والحزن |
فسار يروى كل صديان حائم | وسح كما سحت عزال من المزن |
وإن عن للتيار من سيلانه | ذرى شاهق أضحى كمنتفش العهن |
هنأت به حرباتقشع بحرها | بحمل هناء ليس يصلح للبدن |
ظل من فرط حبه مملوكا | ولقد كان قبلذاك مليكا |
إن بكى أو شكا الهوى زيد ظلما | وبعاداً يدنى حماما وشيكا |
تركته جآذر القصر صبا | مستهاماً على الصعيد تريكا |
يجعل الخد واضعا فوق ترب | للذي يجعل الحرير أريكا |
هكذا يحسن التذلل في الحب | إذا كان في الهوى مملوكا |
قضب من البان ماست فوق كثبان | ولين عني وقد أزمعن هجراني |
ناشدتهن بحقي فاعتزمن على العصيان | حتى حلا منهن عصياني |
ملكتني ملك من ذلت عزائمه | للحب ذل أسير موثق عان |
من لي بمغتصبات الروح من بدني | يغصبنني في الهوى عذي وسلطاني |
دار المعارف، القاهرة - مصر-ط 2( 1985) , ج: 1- ص: 1
الحكم بن هشام
ولاية الحكم بن هشام
ثم ولى بعده ابنه الحكم، وله اثنتان وعشرون سنة، يكنى أبا العاصي، أمه أم ولد: اسمها زخرف ، وكان طاغياً مسرفاً وله آثار سوء قبيحة، وهو الذي أوقع بأهل الربض الوقعة المشهورة فقتلهم، وهدم ديارهم ومساجدهم، وكان الربض محلة متصلة بقصره فاتهمهم في بعض أمره، ففعل بهم ذلك فسمى الحكم الربضي لذلك.
واتصلت ولايته إلى أن مات في آخر ذي الحجة سنة ست ومائتين.
دار الكاتب المصري - القاهرة - دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان-ط 1( 1989) , ج: 1- ص: 1