القائد الأعظم محمد علي جناح ولد سنة 1876 م وتوفي سنة 1948 م.
(أسرته)
نشا في اسرة برهمية الأصل أسلمت في القرن الماضي وانتقل جده بعد فتنة سنة 1857 م إلى بومباي ثم كراتشي وكان أبوه ( بونجاجنة) ثاني أبناء أبيه يعمل في شركتهم التجارية واحدا من مديريها وكان معظم أعمالها في تصدير الجلود وملحقاتها ثم لحق بها الكساد من جراء القلاقل السياسية والأزمان الاقتصادية
(دراسته)
تلقى القائد الأعظم تعليمه الأول في كراتشي ثم انتقل إلى بومباي حيث واصل دراسته الابتدائية ثم الثانوية في المدرسة التابعة للجماعة الإسلامية ثم عاد إلى كراتشي ودخل مدرسة السند العليا.
وكان والده تاجرا-كما مر-و كان يرغب أن يدرس ولده مبادئ التجارة ليكون عونا له الا أن صديقا لوالده نصحه بإرسال ولده إلى انكلترا ليتم تحصيله العالي فاقتنع الوالد بهذا الرأي وأرسل ابنه إلى كلية الحقوق في لندن وهو لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره وفي عام 1896 م نال محمد علي جناح شهادة الحقوق وعاد إلى كراتشي وافتتح مكتبا للمحاماة ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى بومباي وفي سنة 1900 م عين قاضيا ثم انصرف إلى العمل الحر.
(في المجلس التشريعي )
وفي عام 1909 انتخب بإجماع الأصوات نائبا في المجلس التشريعي الأعلى لمدينة بومبادي بومباي. ولما انتهت مدة نيابته عام 1913 أقر الحاكم العام تجديد تلك المدة كي يتمكن جناح من إتمام دراسته لمشروع قانون أوقاف المسلمين الذي كان قد بدأ تحضيره في أثناء نيابته. ولما صدر هذا القانون استقبله المسلمون بابتهاج، واعجبوا بهذا المتشرع الكبير الذي وقف يدافع عن مصالحهم، فالتفوا حوله، واعترفوا بجميله، وكانوا يمنحونه ثقتهم باستمرار في الجمعية التشريعية.
وبرزت مواهب جناح الخطابية في المجلس التشريعي، فكان خطيب المجلس، وابرز المناقشين البرلمانيين فيه، فلم يعرض مشروع مهم على المجلس الا تناوله بالبحث العميق، والمنطق المتزن. وكان الناس ينتظرون خطبه بفارغ الصبر، ويقدرونها حق قدرها. ولما انتخب رئيسا للمستقلين في المجلس كان همه أن يحفظ التوازن بين الحكومة والمعارضة. وقد ساعده هذا الموقف المتزن على حل كثير من القضايا المستعصية والمشاريع المختلف عليها.
بين حزب المؤتمر والرابطة الإسلامية
كان حزب المؤتمر الوطني الذي تاسس عام 1850 الهيئة الوحيدة في الهند التي تهتم بمصير البلاد، وتناضل لنيل الحكم الذاتي. وكان هذا الحزب يجمع تحت لوائه طائفتين تختلفان في الرأي: طائفة تنادي بوجوب اتخاذ سياسة العنف والشدة لتحرير البلاد واستقلالها وطائفة تميل إلى 428 الاعتدال واللين. وكان الحرب يضم بين أعضائه نفرا من الشخصيات الإسلامية، وكان دور جناح في هذا النزاع المتواصل بين الطائفتين دور الوسيط الذي يحاول التوفيق بين الرأيين ليحافظ على وحدة الصفوف.
وفي سنة 1906 رأى بعض الزعماء المسلمين ما لم يرتاحوا اليه في سياسة حزب المؤتمر فانسحبوا من عضويته وأسسوا الرابطة الإسلامية لجميع الهند.
الرابطة تعدل سياستها
وفي عام 1910 عقد مؤتمر عام في اللهآباد حضره زعماء المسلمين والهندوس لإيجاد حل للاختلافات التي تنشأ بين الطائفتين. ولكن المؤتمر خاب، ولم يصل إلى نتيجة وألح جناح على حزب الرابطة في جعل همها الأوحد تحقيق الحكم الذاتي للبلاد عن طريق اتباع الأحكام الدستورية. وهنا التقى حزب المؤتمر والرابطة على صعيد واحد وأصبح السيد جناح زعيم الحزبين.
(رسول التوفيق والسلام)
وعقد الحزبان خلال المدة الواقعة بين 1915 و1920 عدة اجتماعات في بمباي، واتاحت هذه الاجتماعات لجناح الذي كان عضو الحزبين أن يعمل كوسيط بينهما، ويبذل جهده لإيجاد تفاهم دائم يستهدف مصلحة الهندوس والمسلمين المشتركة. وكان ابرز نتائج هذه الجهود ميثاق (لكنو) الذي وقعه الحزبان عام 1916 وفي سنة 1917 اصدر الحزبان قرارا مشتركا وقعه تسعة عشر مندوبا عن المسلمين والهندوس، وعرف فيما بعد بقرار التسعة عشر، وقدم إلى الحكومة البريطانية. وقد طالب الحزبان في هذا القرار بان تمنح البلاد الحكم الذاتي ثم تنقل السلطة إلى الهنود.
وفي سنة 1918 اقترحت لجنة (مونتاجو-جيميسفورد) نظاما قريبا مما أقره الحزبان فاعتبرت هذه الخطوة نجاحا طيبا للهنود، وبشير خير للهند بتحقيق بعض مطالبها القومية. وأدرك الهنود أن هذا النجاح الذي أصابوه انما يرجع الفضل فيه إلى كفاءة جناح سفير الوحدة وزعيم الحزبين فكرموه ببناء قاعة عامة في بمباي تحمل اسمه اعترافا بجميله.
وقام غاندي في ذلك الحين يبشر بسياسته الجديدة سياسة ( اللاعنف) وعدم التعاون ومقاطعة الإنكليز. واتخذت هذه السياسة سبيلها بسهولة إلى أذهان الجماهير، وجعلها حزب المؤتمر هدفا اساسيا يسعى بواسطته إلى تحقيق رغباته. ولكن جناح كان يعارض هذه السياسة ويصر على أن تنال البلاد حقوقها الشرعية بالاساليب الدستورية فأعلن انشقاقه عنها ثم استقال من حزب المؤتمر بعد عمل متواصل فيه دام عشرين سنة
مطالب المسلمين
كان جناح قد أوجز سنة 1919 مطالب المسلمين في الهند في مشروعه الشهير ذي الأربعة عشر مطلبا. وكان ابرز تلك المطالب سن دستور اتحادي، ومنح المقاطعات سلطات محلية وحكميا ذاتيا، وإنشاء مقاطعتين جديدتين هما السند وبلوجستان وأن تكون نسبة الممثلين في المجلس التشريعي المركزي 33%من المسلمين، والإبقاء على نظام الدوائر الانتخابية حتى يسن دستور جديد يضمن للمسلمين حرية العبادة والثقافة واللغة، ولقد رأى جناح في ذلك الحين أن هناك مؤسسات هندوسية متعصبة تعمل للقضاء على التراث الإسلامي في الهند وفي طليعة تلك المؤسسات. حزب المهاسبا. ولقد أيد المسلمون جميعهم جناح في مشروعه.
مؤتمر الطاولة المستديرة
منذ سنة 1919 كتب جناح إلى رئيس الوزارة البريطانية السير رامزي ماكدونلد خطابا يلح فيه بدعوة ممثلين عن الهند إلى لندن للبحث معهم في مدى الاصلاحات الدستورية التي يجب أن تمنحهم إياها انجلترة.
واستجابت بريطانية بعد لأي إلى هذه الرغبة، ودعت إلى عقد مؤتمر الطاولة المستديرة في لندن على أن يحضره ممثلون من الإنجليز، وآخرون من الأحزاب الهندية، وممثلون عن الولايات المختلفة وذلك لوضع دستور يتفق ومطالب الهنود. ولما عقد أول مؤتمر بلندن عام 1930 قاطعه زعماء حزب المؤتمر، واشترك فيه ممثلون عن الرابطة الإسلامية وعن سائر الأحزاب.
وفي الدورة الثانية للمؤتمر عام 1932 رضي حزب المؤتمر أن يشترك في الدورة وأوفد غاندي لتمثيله. وظهرت مقدرة جناح السياسية خلال اجتماعات المؤتمر، وأصر على ضرورة اجابة مطالب المسلمين.
تنظيم الرابطة من جديد
كانت الرابطة الإسلامية قد فقدت كثيرا من نفوذها بين الجماهير، بسبب تغيب جناح مدة عن الهند. فلما عاد إليها عمل على اعادة تنظيم الرابطة بهمة لا تعرف الملل. ثم أخذ يتجول في البلاد ويخطب في الجماهير حتى عاد للرابطة نفوذها القديم، وأصبحت قوة هائلة يحسب لها ألف حساب.
وأرادت الرابطة أن تخوض المعركة الانتخابية على أساس الدستور الجديد فألفت لجنة برلمانية مركزية وخولت جناح رئاستها وضم لجان المقاطعات إليها.
وواجهت الرابطة قبل الانتخابات وفي اثنائها صعوبات مالية وتنظيمية عسيرة، فتغلبت عليها، واعتبر النجاح النسبي الذي أحرزته في تلك الانتخابات أبرز دليل على قوتها وإن لم يخولها ذلك القيام بدور حاسم في المجلس التشريعي الجديد.
أما حزب المؤتمر فقد فاز باكثرية ساحقة في جميع المقاطعات ما عدا البنجاب والسند والبنغال. ورفض اقتراح جناح بقيام وزارة ائتلافية يشترك فيها المسلمون.
وفي سنة 1937 عقدت الرابطة الإسلامية مؤتمرا في بلدة لنكهو برئاسة جناح قررت فيه التحول عن مطلبها بان تصبح الهند دومنيون وطالبت بالاستقلال التام ضمن دولة حرة ديمقراطية. فكان هذا القرار نقطة انطلاق في تاريخ نضال المسلمين للفوز بكيان ذاتي منفصل. وانضمت 429 الأحزاب الوزارية في البنجاب والبنغال إلى الرابطة، وبايعت جناح بالزعامة.
وفي سنة 1940 نادى جناح بضرورة قيام باكستان كدولة مستقلة للمسلمين تمكنهم من ممارسة حقوقهم ومعتقداتهم بحرية وأمان، وتسمح لهم بالتطور وفق الشرع الإسلامي
كيف قامت دولة باكستان
نص مشروع القرار الذي قدمه جناح إلى الحكومة البريطانية وأقرته الرابطة الإسلامية على تقسيم الهند إلى حكومتين هما: باكستان وهندستان. على أن تضم باكستان الأقاليم التي تسكنها أغلبية من المسلمين وهي البنجاب والإقليم الشمالي الغربي وبلوجستان والسند وغرب البنغال وشرقه.
وفي آب سنة 1940 صرح المستر امري وزير الدولة البريطاني لشئون الهند في مجلس العموم أن الحكومة البريطانية ستنظر بعين الاعتبار إلى المسألة الهندية بعد انتهاء، ولن تمنح البلاد اية سلطات دستورية ما لم يوافق عليها المسلمون.
وفي عام 1942 صرح المستر كريبس بان انجلترة تقبل دولة خاصة بالمسلمين هي باكستان.
وفي كانون الثاني سنة 1946 أجريت في البلاد الانتخابات التي طالما أجلت مدة الحرب فكانت امتحانا عسيرا لقوة جناح ولنفوذ الرابطة، واختبارا لفكرة قيام دولة باكستان تلك الفكرة التي اعتنقها المسلمون وكانت نقطة الارتكاز في برنامج الرابطة الانتخابي.
وأسفرت تلك الانتخابات عن فوز ساحق للرابطة إذ فازت باربعمائة وسبعة وعشرين مقعدا من أصل اربعمائة واثنين وثمانين مقعدا مخصصة للمسلمين.
( جناح يصمد امام المناورات)
وفي نيسان 1946 عقدت سلسلة من الاجتماعات بين البعثة الوزارية البريطانية من جهة وبين حزب المؤتمر والرابطة الإسلامية من جهة، ثم أعلنت الحكومة البريطانية التقسيم، فاوفدت اللورد لويس مونتباتن لتنفيذ الخطة.
وصل اللورد مونتباتن إلى الهند وحل محل اللورد ويفل الحاكم العام وعقد سلسلة من الاجتماعات مع أعضاء حزب الرابطة وحزب المؤتمر أعلن على أثرها مشروعه في 3 حزيران سنة 1947.
وتسلم القائد الأعظم منصب الحاكم العام للدولة الجديدة باكستان فراح يصرف شئون الدولة بحنكة وكفاءة ونشاط لا يعرف الملل، رغم السبعين التي يحمل اعباءها إلى أن توفاه الله بسكتة قلبية مفاجئة.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 9- ص: 428