الرئيس ابن سينا الحسين بن عبد الله بن سينا، أبو علي، شرف الملك: الفيلسوف الرئيس، صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات الإلهيات. أصله من بلخ، ومولده في إحدى قرى بخارى. نشأ وتعلم في بخارى، وطاف البلاد، وناظر العلماء، واتسعت شهرته، وتقلد الوزارة في همذان، وثار عليه عسكرها ونهبوا بيته، فتوارى. ثم صار إلى أصفهان، وصنفه بها أكثر كتبه. وعاد في أواخر أيامه إلى همذان، فمرض في الطريق، ومات بها. قال ابن قيم الجوزية: (وكان ابن سينا - كما اخبر عن نفسه - هو وابوه، من أهل دعوة الحاكم، من القرامطة الباطنيين). وقال ابن تيمية (تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات، والنبويات، والمعاد، والشرائع، لم يتكلم بها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم، ولا بلغتها علومهم؛ فأنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما يأخذ عن الملاحدة المنتسين إلى الأسلام كالأسماعيلية؛ وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من اتباع الحاكم العبيدي الذي كان هو وأهل بيته معروفين عند المسلمين بالألحاد) صنف نحو مئة كتاب، بين مطول ومختصر، ونظم الشعر الفلسفي الجيد، ودرس اللغة مدة طويلة حتى بارى كبار المنشئين. أشهر كتبه (القانون - ط) كبير في الطب، يسميه علماء الفرنج (Canonmedicina) بقي معولا عليه في علم الطب وعلمه، وستة قرون، وترجمه الفرنج إلى، وكانوا يتعلمونه في مدارسهم، وطبعوه بالعربية في رومة وهم يسمون ابن سينا Avicenne وله عندهم مكانة رفيعة. ومن تصانيفه (المعاد - خ) رسالة في الحكمة، و (الشفاء - ط) في الحكمة، أربعة أجزاء، والسياسة و (أسرار الحكمة المشرقية - ط) ثلاث مجلدات، وأرجوزة في (المنطق - ط) ورسالة (حي بن يقظان - ط) وهي غير رسالة ابن الطفيل المسماة بهذا الأسم، و (أسباب حدوث الحروف - ط) رسالة، و (الأشارات - ط) و (الطير في الفلسفة، و (أسرار الصلاة - ط) في ماهية الصلاة وأحكامها الظاهرة وأسرارها الباطنية الخ، و (لسان العرب) عشر مجلدات في اللغة، و (الانصاف - خ) في الحكمة، والنبات والحيوان - خ) رسالة، ورسالة في (الهيئة - خ) و (اسباب الرعد والبرق - خ) رسالة، و (الدستور الطبي - خ) قطعة منه، و (اقسام العلوم - خ) رسالة و (الخطب - خ) رسالة، و (العشق - ط) رسالة في فلسفته. وأشهر شعره عينيته التي مطلعها: (هبطت إليك من المحل الأرفع) وقد شرحها كثيرون. ولجميل صليبا (ابن سينا - ط) ولجورج شحاتة قنواتي كتاب (مؤلفات ابن سينا - ط) المخطوط منها والمطبوع، ولعباس محمود العقاد (الشيخ الرئيس ابن سينا - ط) ولبولس مسعد (ابن سينا الفيلسوف - ط) ولحمود عزابة (ابن سينا الدين والفلسفة - ط)

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 2- ص: 241

الحسين بن عبد الله أبو علي ابن سينا الحسين بن عبد الله أبو علي، ابن سينا.
تفقه في المذهب على الإمام أبي بكر ابن الإمام أبي عبد الله الزاهد.
وأتقن الفنون، وصنف ما يقارب مائة مصنف. منها كتاب ’’الشفاء’’ وكتاب ’’النجاة’’ وكتاب ’’الإشارات’’ وكتاب ’’الغيض’’ وكتاب ’’القانون’’ و’’ميزان النظر’’ ورسالة حي بن يقظان ورسالة’’سلامان’’ ورسالة ’’الطير’’
ونظم في الفنون: الطب وغيره.
ولد سنة سبعين وثلاثمائة.
ويقال: تاب في مرض موته، وتصدق بما معه، ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة.
ومات بهمدان يوم الجمعة، في شهر رمضان، سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.

  • دار القلم - دمشق-ط 1( 1992) , ج: 1- ص: 162

ابن سينا الحسين بن عبد الله.

  • دار القلم - دمشق-ط 1( 1992) , ج: 1- ص: 346

ابن سينا اسمه الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 266

الرئيس بن سينا الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري، أبو علي، الشيخ الرئيس فيلسوف الإسلام.
قال أبو عبيد عبد الواحد الجوزجاني: ذكر الرئيس، قال: كان أبي رجلا من أهل بلخ، وانتقل إلى بخارى أيام نوح بن منصور، واشتغل بالتصوف، وأحضر لي معلم القرآن، ومعلم الأدب، وكملت العشر من العمر، وقد أتيت على القرآن، وعلى كثير من الأدب، فكان يقضى مني العجب. وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل، على الوجه الذي يقولونه، وكذلك أخي، وربما تذاكرا به وأنا أسمعهما، وأدرك ما يقولانه ولا تقبله نفسي، وابتدءوا يدعونني إليه. ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي، وكان يدعي الفلسفة، فأنزله أبي دارنا رجاء تعليمي منه. وكنت قبل قدومه أشتغل بالفقه، والتردد فيه إلى إسماعيل الزاهد، وأبحث وأناظر فيه.
ثم ابتدأت بكتاب: إيساغوجي على الناتلي. ولما ذكر لي حد الجنس أنه هو المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو، واخذته في تحقيق الحد بما لم يسمع مثله، وتعجب مني كل العجب، وحذر والدي من شغلي بغير العلم. وكان أي مسألة قالها لي، أتصورها خيرا منه حتى قرأت ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبر. ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي، وأطالع الشروح حتى أحكمت المنطق، وكذلك كتاب أقليدس، فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت من نفسي حل بقية الأشكال بأسره. ثم انتقلت إلى المجسطي، ولما فرغت من مقدماته، وانتهيت إلى الأشكال الهندسية، قال لي الناتلي: تول قراءتها وحلها بنفسك، ثم اعرضها علي لأبين لك صوابه من خطئه. وما كان الرجل يقوم بالكتاب. وأخذت أحل ذلك الكتاب، فكم من شكل ما عرفه إلا وقت ما عرضته عليه وفهمته إياه.
ثم فارقنا الناتلي، واشتغلت أنا بتحصيل العلم من الفصوص والشروح من الطبيعي والإلهي، فصارت أبواب العلم تنفتح علي.
ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب فليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرءون علي علم الطب، وتعهدت المرضى، فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة. ثم توفرت على العلم والقرآن سنة ونصفا، وأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة. وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهورا، فكل حجة أنظر فيها، أثبت مقدمات قياسية، ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت عساها تنتج، وراعيت شروط مقدماته، حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة. وكلما كنت أتحير في مسألة، ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق منه وتيسر المتعسر.
وكنت أشتغل بالنهار والليل، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما أخذني أدنى نوم، أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام، وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني. ودل ما علمته ذلك الوقت فهو كما هو عليه؛ لم أزدد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأت كتاب: ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظا، وأنا مع ذلك لا أفهمه، ولا أعلم ما المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا في يوم من الأيام، قد حضرت الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه علي، فرددته رد متبرم به، معتقد أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي: اشتر مني هذا فإنه رخيص فاشتريته بثلاثة دراهم، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب: ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي وقرأته، فانفتح علي به في ذلك الوقت أغراض ذلك الكتاب، بسبب أنه قد كان لي على ظهر قلب، وفرحت بذلك، وتصدقت ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء شكرا لله تعالى.
وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت نوح بن منصور الساماني، فاتفق أن مرض مرضا تكع الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على العلم والقراءة، فأجروا ذكري بين يديه، فأمر بإحضاري وشاركتهم في مداواته، وتوسمت بخدمته، فسألته يوما دخولي دار كتبهم، ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب، فأذن لي، فدخلت دارا ذات بيوت، في كل بيت صناديق كتب منضدة، بعضها على البعض؛ في بيت: العربية والشعر، وفي آخر: الفقه، وكل بيت كتب علم مفرد.
فطالعت فهرست كتب الأوائل، وطلبت ما احتجت إليه، ورأيت هناك من الكتب ما لم يقع إلي اسمه، فقرأت تلك الكتب وظفرت بفوائدها. فلما بلغت ثمانية عشر من عمري فرغت من هذه العلوم، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.
وكان في جواري رجل يقال له أبو الحسن العروضي، فسألني أن أصنف له كتابا جامعا في هذا العلم، فصنفته له وهو: كتاب المجموع، وسميته به، وأتيت فيه على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة.
وكان في جواري أيضا رجل يقال له أبو بكر الخوارزمي البرقي، فقيه النفس، متوجه في التفسير، فصنفت له كتاب: الحاصل والمحصول، في قريب من عشرين مجلدا، وصنفت له في الأخلاق كتاب: البر والإثم، وهذا الكتابان فلا يوجدان إلا عنده.
ثم مات والدي، وتصرفت في الأعمال، وتقلدت شيئا من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الإخلال ببخارى، لما اضطربت أحوال الدولة السامانية، والانتقال إلى كركانج، وقدمت إلى الأمير بها؛ وهو علي بن المأمون، وكنت على زي الفقهاء بطيلسان وتحت الحنك. وتنقلت في البلاد إلى جرجان، وكان قصدي الأمير قابوس، فاتفق في أثناء هذا، أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته، فمضيت إلى دهستان ومرضت، وعدت إلى جرجان، فاتصل بي أبو عبيد الجوزجاني، وأنشدت في حالي قصيدة فيها البيت القائل:

قال أبو عبيد: هذا ما حكاه لي. وأما ما شاهدته أنا من أحواله، فإنه كان بجرجان رجل يقال له أبو محمد الشيرازي يحب هذه العلوم، فاشترى للشيخ دارا في جواره، وأنزله إليه، وأنا أختلف إليه في كل يوم أقرأ المجسطي، وأستملي المنطق؛ فأملى علي: المختصر الأوسط، وصنف لأبي محمد كتاب: المبدأ والمعاد وكتاب الأرصاد الكلية. وصنف هناك كتبا كثيرة؛ كأول القانون و مختصر المجسطي وكثيرا من الرسائل.
ثم صنف في أرض الجبل بقية كتبه، وذكر منها جملة. ثم انتقل إلى الري، واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة، وعرفوه بسبب كتب وصلت معه، تتضمن تعريف قدره. وكان بمجد الدولة إذ ذاك علة السوداء فاشتغل بمداواته، وصنف هناك كتاب المعاد. ثم اتفقت له أسباب أوجبت خروجه إلى قزوين ومنها إلى همذان واتفقت له معرفة شمس الدولة، وحضر مجلسه بسبب قولنج أصابه، وعالجه فشفاه الله، وفاز من ذلك المجلس بخلع كثيرة وصار من ندمائه.
وسألوه تقلد الوزارة فتقلدها، ثم اتفق تشويش العسكر عليه، وأشفقوا على أنفسهم منه، فكبسوا داره، وأخذوه إلى الحبس، وأغاروا على أسبابه وجميع ما يملكه، وساموا الأمير قتله، فامتنع. وعزل نفسه عن الدولة طلبا لمرضاتهم، وتوارى أربعين يوما؛ فعاود شمس الدولة القولنج، فأحضره مجلسه، واعتذر الأمير شمس الدولة إليه بكل عذر، واشتغل بمعالجته، وأقام عنده مكرما مبجلا، وأعيد إلى الوزارة ثانيا، وسألته أن يشرح لي كتب أرسطو، فذكر أن لا فراغ له في ذلك الوقت، ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فيه ما صح عندي من هذه العلوم، بلا مناظرة مع المخالفين، ولا الاشتغال بالرد عليهم، فعلت ذلك، فرضيت منه بذلك. فابتدأ بالطبيعيات من كتاب سماه: الشفاء، وكان قد صنف الأول من: القانون فكنا نجتمع كل ليلة في دار طلبة العلم وكنت أقرأ من الشفاء نوبة ويقرأ غيري من القانون نوبة، فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وعبئ مجلس الشراب بآلاته، وكنا نشتغل به. وكان التدريس بالليل؛ لعدم الفراغ بالنهار خدمة للأمير، فقضينا على ذلك زمنا. ثم توجه شمس الدولة لحرب أمير الطرم، وعاوده القولنج، وانضاف إلى ذلك أمراض أخرى جلبها سوء تدبيره، وعدم قبول إشارات الشيخ، فخاف العسكر وفاته؛ فرجعوا به وتوفي في الطريق. وبويع ابن شمس الدولة، وطلبوا وزارة الشيخ؛ فأبى عليهم، وكاتب علاء الدولة أبا جعفر ابن كاكويه سرا، يطلب خدمته والمسير إليه، وأقام في دار أبي غالب العطار متولي المهذب، فطلبت منه إتمام كتاب الشفاء، فطلب الكاغد والمحبرة، وكتب في قريب من عشرين جزءا رؤوس المسائل، فكتبها كلها بلا كتاب يحضره ولا أصل يرجع إليه، وفرغ منها في يومين. ثم ترك تلك الأجزاء بين يديه وأخذ الكاغد، فكان ينظر في كل مسألة ويكتب شرحها، فكان يكتب كل يوم خمسين ورقة، حتى أتى على جميع طبيعيات الشفاء والإلهيات ما خلا كتاب: الحيوان. وابتدأ بالمنطق، وكتب منه جزءا. ثم اتهمه تاج الملك بمكاتبة علاء الدولة، فحث في طلبه، فدل عليه بعض أعدائه وودوه إلى قلعة يقال لها فردجان، وأنشد هناك قصيدة منها:
وبقي فيها أربعة أشهر، ثم قصد علاء الدولة همذان وأخذها، وانهزم تاج الملك، ثم رجع علاء الدولة عن همذان. وعاد تاج الملك وابن شمس الدولة إلى همذان، وحملوا الشيخ معهم إلى همذان. ونزل في دار العلوي، واشتغل بتصنيف المنطق من كتاب: الشفاء، وكان قد صنف بالقلعة كتاب: الهدايات، ورسالة: حي بن يقظان، وكتاب: القولنج. وأما الأدوية القلبية فإنما صنفها أول وروده إلى همذان. وتقضى على هذا زمان وتاج الملك يمنيه بمواعيد جميلة.
ثم عن له التوجه إلى إصبهان فخرج متنكرا، وأنا وأخوه وغلامان معه في زي الصوفية، فقاسينا شدائد إلى أن قربنا من إصبهان، فخرج أصدقاؤه وندماء علاء الدولة وخواصه، وحملوا إليه المراكب الخاصة والثياب الفاخرة، وأنزل في مكان فيه من الآلات جميع ما يحتاج إليه، ورسم له في ليالي الجمع بمجالس النظر بين يديه، ويحضره العلماء على اختلاف طبقاتهم، فما كان يطاق في شيء من العلوم.
وتمم بإصبهان كتاب: الشفاء، ففرغ من المنطق والمجسطي. وكان قد اختصر: أقليدس، والأرثماطيقي، والموسيقى، وأورد في كل كتاب من الرياضيات زيادات، رأى أن الحاجة إليها داعية. أما في المجسطي؛ فأورد فيه عشرة أشكال في اختلاف المنظر، وأورد في آخر المجسطي في الهيئة إيرادات لم يسبق إليها. وأورد في أقليدس شبها وفي الأرثماطيقي حسنة. وفي الموسيقى مسائل غفل عنها الأولون، وتم الكتاب المعروف بالشفاء، ما خلا كتاب: النبات، وكتاب: الحيوان فإنهما صنفا في السنة التي توجه فيها علاء الدولة إلى سابور في الطريق، وصنف في الطريق أيضا كتاب: النجاة.
واختص بعلاء الدولة، ونادمه إلى أن عزم علاء الدولة على قصد همذان، وخرج الشيخ صحبته، فجرى ليلة بين يدي علاء الدولة ذكر الخلل الحاصل في التقاويم المعمولة بحسب الأرصاد القديمة، فأمر الشيخ بالاشتغال برصد هذه الكواكب، وأطلق له من الأموال ما يحتاج إليه. وولاني اتخاذ آلاتها، واستخدام صناعتها، حتى ظهر كثير من المسائل، وكان يقع الخلل في الرصد لكثرة الأسفار وعوائقها، وصنف: الكتاب العلائي.
وكان الشيخ يوما جالسا بين يدي الأمير علاء الدولة وأبو منصور حاضر، فجرى في اللغة مسألة، فتكلم فيها الشيخ بما حضره، فالتفت أبو منصور إلى الشيخ، وقال: ’’نقول إنك حكيم وفيلسوف، ولكن لم تقرأ من اللغة ما يرضي كلامك فيها’’، فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفر على درس كتب اللغة ثلاث سنين، واستهدى كتاب: تهذيب اللغة من خراسان، وبلغ في اللغة طبقة قلما يتفق مثلها، ونظم ثلاث قصائد وضمنها ألفاظا غريبة، وكتب بها ثلاثة كتب؛ أحدها: على طريقة الصابي، والأخرى: على طريقة الصاحب، والأخرى: على طريقة ابن العميد، وجلدها وأخلق جلدها وورقها، ثم أوعز الأمير علاء الدين، فعرض تلك المجلدات على أبي منصور، وقال: ’’ظفرنا بها في الصيد في الصحراء، فتقول لنا ما فيها’’. فنظر فيها أبو منصور، وأشكل عليه كثير مما فيها. فقال له الشيخ: ’’إن ما تجهله من هذا فهو مذكور في الموضع الفلاني من كتاب فلان، وذكر له كتبا كثيرة من اللغة المعروفة، ففطن أبو منصور أن تلك من وضع الشيخ، وأن الذي حمله؛ ما جبهه به ذلك اليوم فتنصل، واعتذر إليه. ثم صنف الشيخ كتابا سماه: لسان العرب، لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض، حتى توفي، ولم يهتد أحد إلى تربيته.
وكان قد حصل له تجارب كثيرة فيما باشرها من المعالجات، وعزم على تدوينها في كتاب: القانون، وكان قد علقها في أجزاء، فضاعت قبل تمامه كتاب القانون؛ من ذلك أنه صدع يوما، فتصور أن مادة تريد النزول إلى حجاب رأسه، وأنه لا يأمن ورما يحصل فيه، فأمر بإحضار ثلج كثير، ودقه ولفه في خرقة، وتغطية رأسه بها، ففعل ذلك حتى قوي الموضع، وامتنع من قبول مادته، وعوفي.
ومن ذلك امرأة مسلولة بخوارزم، أمرها أن لا تتناول شيئا من الأدوية سوى الجلنجبين السكري، حتى تناولت على الأيام مقدار مائة من وشفيت المرأة.
وكان قد صنف بجرجان المختصر الأوسط في المنطق، وهو الذي وضعه بعد ذلك أول: النجاة ووقعت نسخة إلى شيراز، فنظر فيها جماعة من أهل العلم هناك، فوقعت لهم شبه في مسائل منها، فكتبوها في جزء، وكان قاضي شيراز من جملة القوم، فأنفذ الجزء إلى أبي القاسم الكرماني صاحب إبراهيم بن بابا الديلمي، المشتغل بعلم المناظر، وأنفذها على يدي ركابي قاصد، فعرض الجزء على الشيخ عند اصفرار الشمس في يوم صائف، فترك الجزء بين يديه، ونظر فيه والناس يتحدثون، ثم خرج أبو القاسم فأمرني بإحضار البياض، وقطع أجزاء منها، فشددت خمسة أجزاء كل واحد عشرة أوراق بالربع الفرعوني، وصلينا العشاء، وقدم الشمع، وأمر بإحضار الشراب، وأجلسني وأخاه، وأمرنا بمناولة الشراب، وابتدأ هو بجواب تلك المسائل، وكان يكتب ويشرب إلى نصف الليل، حتى غلبني وأخاه النوم فأمرنا بالانصراف، وعند الصباح، قرع الباب، فإذا رسول الشيخ يستحضرني، فحضرته وهو على المصلى، وبين يديه الأجزاء الخمسة، فقال: خذها، وصر بها إلى الشيخ أبي القاسم الكرماني، وقل له: استعجلت في الإجابة عنها لئلا يتعوق الركابي، فصار هذا الحديث تاريخا بينهم.
ووضع في حال الرصد آلات ما سبق إليها، وصنف فيها رسالة، وبقيت أنا ثماني سنين في خدمة الرصد، وكان غرضي تبين ما يحكيه بطليموس عن نصبه في الأرصاد، وصنف الشيخ كتاب: الإنصاف.
وكان أبو علي قوي المزاج، يغلب عليه حب النكاح حتى أنهكه ملازمة ذلك، وأضعفه، ولم يكن يداري مزاجه، وعرض له قولنج، فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات، فقرح بعض أمعائه، وظهر به سحج، واتفق سفره مع علاء الدولة، فحدث له الصرع الحادث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كرفس، في جملة ما يحقن به، وخلطه بها طلبا لكسر الرياح، فقصد بعض الأطباء الذي كان يتقدم هو إليه بمعالجته، وطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم، لست أدري فعله عمدا أو خطأ؛ لأنني لم أكن معه، فازداد السحج به من حدة ذلك البزر، وكان يتناول المثرود يطوس لأجل الصرع، فقام بعض غلمانه وطرح فيه شيئا كثيرا من الأفيون، وناوله فأكله، وكان سبب ذلك خيانتهم له في مال كثير من خزانته، فتمنوا إهلاكه؛ ليأمنوا عاقبة أعمالهم.
ونقل الشيخ إلى إصبهان، فاشتغل بتدبير نفسه، وكان من الضعف بحيث لا يقدر على القيام، ولم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي، وحضر مجلس علاء الدولة، ولكنه مع ذلك لا يتحفظ، ويكثر التخليط في أمر المجامعة، ولم يبرأ كل البرء، وكان ينتكس كل وقت ويبرأ.
ثم قصد علاء الدولة همذان، فسار معه الشيخ، فعاودته تلك العلة في الطريق إلى أن وصل همذان، وعلم أن قوته قد سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض؛ فأهمل مداواة نفسه، وقال: ’’المدبر الذي كان يدبر بدني، قد عجز عن التدبير، فلا تنفع المعالجة’’.
ثم اغتسل وتاب، وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة.
ثم انتقل إلى جوار ربه عز وجل يوم الجمعة في شهر رمضان، سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وعمره ثمانية وخمسون سنة، وكان مولده في صفر سنة سبعين وثلاثمائة. انتهى.
قلت: ولم يأت في الإسلام بعد أبي نصر الفارابي، من قام بعلوم الفلسفة مثل الشيخ الرئيس أبو علي، إلا أن عبارته أفصح وأعذب وأحلى وأجلى. وما كان كلام الأطباء قبله إلا كلام عجائز، حتى جاء الرئيس. وأتى بالقانون، فكأنه خطب لبلاغة معانيه وفصاحة ألفاظه.
وكان الإمام فخر الدين لا يطلق لفظ الشيخ إلا عليه، وكان يحفظ الإشارات التي له، بالفاء والواو، ويكتبها من حفظه وحكايته مع القطب المصري فيما يدل على تعظيم الرئيس. مرت في ترجمة قطب الدين إبراهيم بن علي المصري.
ولما اختصر الإمام فخر الدين الإشارات التي للرئيس، جاء إلى: مقامات العارفين، وأورده بلفظه؛ لأنه لم يقدر على الإتيان بأحلى من تلك العبارة، وقال: ’’هذا الباب لا يقبل الانتخاب لأنه في غاية الحسن، وما محاسن شيء كله حسن؟ ’’.
وجاء في كلام الرئيس في النمط التاسع أن قال: ’’جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد؛ ولذلك فإن ما يشتمل عليه هذا الفن؛ ضحكة للمغفل، عبرة للمحصل، فمن سمعه فاشمأز عنه، فليتهم نفسه، فلعله لا يناسبه وكل ميسر لما خلق له. ’’ انتهى.
قلت: وقد رأيت القاضي الفاضل رحمه الله، قال في بعض فصوله: وقال ابن سينا- قلقل الله أنيابه بكلاليب جهنم: جل جناب الحق، أن يكون شرعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد. وأخذ يعاكسه، ويظن أجساد ألفاظه، تكون لهذه الأرواح هياكل، أو أن كلماته المزوقة تكون للباب هذه المعاني قشورا، فتشدق وتفيهق، وتمطى وتمطق:
إلا أن الرئيس أبا علي كان من فلاسفة الإسلام، وعده العلماء في الحكماء.
قال تاج الدين محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل:
’’المتأخرون من فلاسفة الإسلام مثل: يعقوب بن إسحاق الكندي، وحنين بن إسحاق، ويحيى النحوي، وأبي الفرح المفسر، وأبي سليمان السجزي، وأبي سليمان محمد بن مسعر المقدسي، وأبي بكر ثابت بن قرة الحراني، وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري، وأبي زيد أحمد بن سهل البلخي، وأبي محارب الحسين بن سهل بن محارب القمي، وأحمد بن الطيب السرخسي، وطلحة بن محمد النسفي، وأبي حامد أحمد بن محمد الإسفراييني، وعيسى بن علي بن عيسى الوزير، وأبي علي أحمد بن محمد بن مسكويه، وأبي زكريا يحيى ابن علي الصيمري، وأبي الحسن العامري، وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي وغيرهم. وإنما علامة القوم: أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا؛ كلهم قد سلكوا طريقة أرسطاليس في جميع ما ذهب إليه، وانفرد به، سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون، والمتقدمين. ولما كانت طريقة ابن سينا أدق ونظره في الحقائق أغوص، اخترت نقل طريقته من كتبه على إيجاز واختصار، فإنها عيون كلامه ومتون مرامه، وأعرضت عن نقل طرق الباقين. وكل الصيد في جوف الفرا’’.
وقال القاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم المعروف بابن أبي الدم في كتاب: الفرق الإسلامية’’ ’’إلا أنه لم يقم أحد من هؤلاء بعلم أرسطاليس مثل مقام أبي نصر الفارابي، وأبي علي بن سيناء، ولا صنف أحد منهم مثل تصانيفهما، وكان الرئيس أبو علي بن سينا أقوم الرجلين بذلك وأعلمهما به’’.
ثم قال فيما بعد: ’’واتفق العلماء على أن ابن سينا، كان يقول بقدم العالم، ونفى المعاد الجسماني، وأثبت المعاد النفساني. ونقل عنه أنه قال: إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات بعلم جزئي، وإنما يعلمها بعلم كلي. وقطع علماء زمانه، ومن بعده الأئمة المعتبرة أقوالهم أصولا وفروعا من الحق، بكفره وبكفر أبي نصر الفارابي بهذه المسائل الثلاث، واعتقاده فيها بما يخالف اعتقاد المسلمين’’.
قلت: وكان رأيه في الفروع رأي الإمام أبي حنيفة.
ذكر تصانيفه: كتاب: الشفاء جمع فيه العلوم الأربعة، وصنف طبيعياته وإلهياته، في مدة عشرين يوما بهمذان، ولا مزيد لأحد على ما فيه من المنطق، كتاب: اللواحق يذكر أنه شرح للشفاء، كتاب: الحاصل والمحصول، صنفه أول عمره في قريب من وعشرون مجلدة، كتاب: البر والإثم، مجلدان، كتاب: الإنصاف، جمع فيه كتب أرسطو جميعها، وأنصف فيه بين المشرقيين والمغربيين، ضاع في نهب السلطان مسعود، وهو في عشرين مجلدا، كتاب: المجموع، ويعرف بالحكمة العروضية، صنفه لأبي حسن العروضي، وعمره إحدى وعشرين سنة، كتاب: القانون، صنف بعضه بجرجان وتممه بالري، وعول على أن يعمل له شرحا.
قلت: وكان ينبغي أن يسمى هذا القانون: كتاب الشفاء لكونه في الطب وعلاج الأمراض. وأن يسمى: كتاب الشفاء: كتاب القانون؛ لأن الشفاء فيه العلوم الأربع، التي هي: الحكمة. والقانون هو الأمر الكلي الذي ينطبق على جميع جزئيات ذلك الشيء.
كتاب: الأوسط الجرجاني في المنطق، كتاب: المبدأ والمعاد في النفس، كتاب: الأرصاد الكلية، كتاب المعاد، كتاب: لسان العرب في اللغة، عشر مجلدات لم ينقله من البياض، كتاب: الإشارات والتنبيهات، وهو آخر ما صنف وأجوده.
وقد سقت في ترجمة محمد بن محمد الشرواني سندا بهذا الكتاب، كتاب: الهداية في الحكمة، صنفه وهو محبوس بقلعة مردوخان لأخيه علي، كتاب: القولنج، صنفه بهذه القلعة، كتاب: الأدوية القلبية، رسالة: حي بن يقظان، صنفها بهذه القلعة. وقد عارضها جماعة؛ منهم: ابن رشد المغربي وغيره، مقالة في النبض، بالفارسية، مقالة في مخارج الحروف، مقالة في القوى الطبيعية، رسالة: الطير، مرموزة فيما يوصل إلى علم الحق، كتاب: الحدود، كتاب عيون الحكمة، يجمع العلوم الثلاث، مقالة في: عكوس ذوات الجهة، الخطبة التوحيدية في الإلهيات، والموجز الكبير في المنطق؛ وأما الموجز الصغير، فإنه منطق النجاة، القصيدة المزدوجة في المنطق، مقالة في تحصيل السعادة تعرف بالحجج العشر، مقالة في القضاء والقدر، مقالة في الهندباء، مقالة في الإشارة إلى علم المنطق، مقالة في تقاسيم العلوم والحكمة، رسالة في السكنجبين، مقالة في أن لا نهاية، تعاليق علقها عنه بعض الأفاضل، مقالة في خواص خط الاستواء، المباحثات، سؤال بهمنيار تلميذه وجوابه له، عشر مسائل أجاب عنها لأبي الريحان البيروني، جواب ست عشرة مسألة لأبي الريحان، مقالة في هيئة الأرض وكونها في الوسط، كتاب: الحكمة المشرقية، ولم يتم، مقالة في تعقب المواضع الجدلية، المدخل إلى صناعة الموسيقى، وهو غير الذي في النجاة، مقالة في الأجرام السماوية، مقالة في الخطأ الواقع في التدبير الطبي، مقالة في كيفية الرصد ومطابقته مع العلم الطبيعي، مقالة في الأخلاق، رسالة في الكمياء، مقالة في آلة رصدية، صنفها عند عمل الرصد لعلاء الدولة، مقالة في غرض قاطيغورياس، الرسالة الأصحوية في المعاد، معتصم الشعراء في العروض، مقالة في حد الجسم، الحكمة العرشية، وهو كلام متفرع في الإلهيات، عهد له مع الله عاهد به نفسه، مقالة في أن علم زيد غير علم عمرو، كتاب: تدبير الجند والممالك والعساكر وأرزاقهم وخراج الممالك، مناظرات جرت له مع أبي علي النيسابوري في النفس، خطب وتحميدات وأسجاع، جواب يتضمن الاعتذار عما نسب إليه في الخطب، مختصر أوقليدس، مقالة الأرثماطيقي، عشر قصائد وأشعار في الزهد ووصف أحواله، رسالة بالفارسي والعربي، مخاطبات ومكاتبات وهزليات، تعاليق مسائل حنين في الطب، قوانين ومعالجات طبية، عشرون مسألة سألها أهل العصر، مسائل عدة طبية، مسائل ترجمها بالتذكير، جواب مسائل كثيرة، رسالة إلى علماء بغداد يسألهم الإنصاف بينه وبين رجل ادعى الحكمة، رسالة إلى صديق له يسأله الإنصاف بينه وبين الهمذاني الذي يدعي الحكمة، كلام له في تبيين ماهية الحروف، شرح كتاب النفس لأرسطو؛ يقال إنه من الإنصاف، مقالة في النفس تعرف بالفصول، مقالة في إبطال علم النجوم، كتاب: الملح في النحو، فصول إلهية في إثبات الأول، فصول في النفس وطبيعيات، رسالة إلى أبي سعد بن أبي الخير في الزهد، مقالة في أنه لا يجوز أن يكون الشيء جوهرا وعرضيا، مسائل جرت بينه وبين بعض الفضلاء في فنون العلوم، تعليقات استفادها أبو الفرج الطبيب الهمذاني من مجلسه وجوابات، مقالة في الممالك وبقاع الأرض، مختصر في أن الزاوية التي من المحيط والمماس لا كمية لها، كتاب تعبير الرؤيا.
قال ابن أبي الدم: وروي أنه روي بعد موته، فقيل له: ما الخبر؟ فأنشد:
وقال ابن خلكان: كان الشيخ كمال الدين بن يونس رحمه الله يقول: إن مخدومه سخط عليه واعتقله، ومات في السجن، وكان ينشد:
يريد بالحبس: انحباس البطن الذي أصابه.
ومن شعر الرئيس أبي علي بن سينا:
ومن شعره يصف النفس، ولم يكن لغيره مثلها:
وقد خمسها جماعة، ونظم في معناها جماعة. وتقدم في ترجمة شهاب الدين السهروردي محمد بن حبش. أبيات قافية في هذه المادة.
وينسب إليه البيتان اللذان أوردهما الشهرستاني في أول نهاية الإقدام، وهما:
ونسب إليه أيضا:
ونسب إليه أيضا:
ونسب إليه أيضا:
ونسب إليه أيضا:
ونسب إليه أيضا:
ونسب إليه أيضا:
قلت: لا يقال: طفاه ولكن أطفأه والرئيس يحاشى من ذلك.
وينسب إليه الأبيات، التي يقولها بعض الناس عند رؤية عطارد عند وقت شرفه، ويعتقد أنها تفيد علما وخيرا، وهي:
وينسب إليه القصيدة الرائية: وهي:
منها بعدما ذكر خراب البلاد:
منها، وقد ذكر ولده:
قلت: يريد بالقران العاشر على ما زعمه المنجمون: قران المشتري بزحل في برج الجدي، وهو أنحس البروج؛ لكونه برج زحل، وزحل نحس أكبر.
وقد طنطن ابن أبي أصيبعة وأعجب بصحة ما حكم فيها. والذي أراه، أن الذي نظم القصيدة العينية في النفس، ما ينظم مثل هذه القصيدة الساقطة الركيكة السمجة التركيب، وأنها نظم بعض العوام، أراد أن يحكي ما جرى، ولم تنظم هذه القصيدة- والله أعلم- إلا بعد خراب بغداد، ولم يقل ابن سينا منها كلمة واحدة، ولا عرف هذه الوقائع قبل حدوثها بمائتين وثلاثين سنة تقريبا. سلمنا أنه علم كلياتها من حساب النجوم، ولا نسلم أن هذا كلامه ولا نظمه {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} ولم أوردها إلا لأن بعض الناس يطنب في أمرها.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 12- ص: 0

ابن سينا الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0

الحسين بن عبد الله بن سينا أبو علي الفيلسوف: مات في سادس شعبان
سنة ثمان وعشرين وأربعمائة عن ثمان وخمسين سنة. حدث بخبره صاحبه أبو عبيد الجوزجاني عنه قال: كان أبي رجلا من أهل بلخ فانتقل إلى بخارى، وتولى عملا في أيام نوح بن منصور الساماني بقرية يقال لها خرميثن، وتزوج أبي من قرية تلاصقها يقال لها أفشنة، وبها ولدت. ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن والأدب، فأكملت العشر وقد حفظت القرآن. وقدم علينا أبو عبد الله الناتلي، وكان يدعي معرفة علم الفلسفة، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه، فقرأت عليه كتاب «إيساغوجي». فكان إذا مرت مسألة تصورتها خيرا منه حتى قرأت عليه ظواهر المنطق، ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق وإقليدس، ثم انتقلت إلى المجسطي فقال لي الناتلي: تول حله بنفسك، ثم اعرضه علي لأبين لك صوابه من خطئه، فحللت الكتاب وعرضته عليه فكم من مشكل ما عرفه إلا وقت عرضي عليه، ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أنني برزت فيه في أقل مدة حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون علي، وتعهدت المرضى فانفتح لي من المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف. هذا وأنا أختلف إلى الفقه وأناظر فيه وأحكمه. وكنت حينئذ من أبناء ست عشرة سنة، وما نمت في هذه المدة ليلة بطولها. وكان إذا أشكل علي شيء بت وأنا مهموم فأراه في المنام فيتضح لي في الأحلام حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي. ثم عدت إلى العلم الإلهي، وقرأت منه كتاب «ما بعد الطبيعة» فما كنت أفهمه، وألتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة، فصار لي محفوظا وأنا لا أفهمه، ويئست منه وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه ألبتة.
فحضرت يوما في الوراقين والمنادي ينادي على كتاب في الحكمة، وعرضه علي فأعرضت عنه، فقال لي: اشتره فصاحبه محتاج فاشتريته بثلاثة دراهم، وإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب «ما بعد الطبيعة» فطالعته ففهمت الكتاب وتصدقت على الفقراء بشيء كثير، شكرا لله تعالى على ذلك. وكان إذا استغلق علي شيء من العلوم، قصدت الجامع، وصليت وتضرعت إلى مبدع الكل حتى يسهله
علي. وكان سلطان بخارى نوح بن منصور قد مرض في تلك الأيام مرضا عجز عنه أطباؤه، وكان اسمي قد اشتهر بينهم فحضرني وشكرني في مداواته وصلح. فسألته يوما الإذن لي في دخول دار كتبهم ومطالعتها فأذن لي فدخلت دارا عظيمة فيها كتب كثيرة تفوت العد والحصر، وطالعت كتب الحكمة التي بها ووقع لي بها ما لم أكن رأيت قبلها ولا بعدها، وظفرت بفوائدها. فلما بلغت ثماني عشرة سنة أتقنت هذه العلوم كلها. وكان في جيراننا رجل يقال له أبو الحسن العروضي يسألني أن أصنف له كتابا جامعا في هذه العلوم، فصنفت له المجموع، وسميته به، وأتيت فيه على جميع العلوم، ولي حينئذ إحدى وعشرون سنة، وصنفت كتاب «الحاصل والمحصول» في قريب من عشرين مجلدة. وصنفت في الأخلاق كتابا سميته كتاب «البر والإثم» وهذان الكتابان قل أن يوجدا. ثم مات والدي وتصرفت في أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الانتقال عن بخارى إلى كركانج، وأبو الحسن السهلي المحب لهذه العلوم بها وزير، ثم انتقلت إلى نسا وقصدت الأمير قابوس بن وشمكير صاحب جرجان فاتفق أني وصلتها وقد مات، فرجعت إلى دهستان، ثم عدت إلى جرجان، وأنشأت في حالي قصيدة شعر منها:

ولأبي علي أشعار منها:
وكان بجرجان رجل يقال له أبو محمد الشيرازي أنزل الرئيس في دار له في جواره، فصنف له كتاب «المبدأ والمعاد» وكتاب «الأرصاد». وصنف كتبا كثيرة كأول «القانون» و «مختصر المجسطي» وكثيرا من الرسائل. ثم صنف في أرض الجبل بقية كتبه، ثم انتقل إلى الري، واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة وكانت السوداء تغلب على مجد الدولة فاشتغل بمداواته. وصنف هناك كتاب «المعاد». ثم اتفقت أسباب أوجبت خروجه إلى همذان واتصل بخدمة كذيانويه والنظر في أسبابها. وأصاب شمس الدولة أبا طاهر ابن مجد الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه قولنج كان سببا لاتصال الرئيس به فعالجه حتى شفاه الله تعالى ففاز من مجلسه بخلع ودنانير، وصار من ندمائه. واتفق نهوض الأمير بويه إلى قرمسين لحرب عناز والشيخ صحبته، ثم توجه إلى همذان منهزما والشيخ صحبته، وسألوه تقليد الوزارة فتقلدها، ثم اتفق شغب العسكر عليه، وكبسوا داره، وأغاروا على أمواله، وساموا الأمير قتله، فامتنع عنه، وعدل إلى نفيه عن حضرته طلبا لمرضاتهم، فتوارى في دار لبعض أصحابه أربعين يوما، فعاود الأمير شمس الدولة علة القولنج، وطلبه فحضر مجلسه، واعتذر إليه، ثم عالجه حتى صلح، وأعيدت الوزارة إليه ثانيا. وكان مع ذلك يجتمع إليه في كل ليلة طلاب العلم فيقرأون، فإذا فرغوا حضر المغنون وهيء المجلس للشراب، ويشتغل به، ثم توجه الأمير شمس الدولة إلى طارم لحربها، وعاوده القولنج، وانضاف إلى ذلك أمراض أخر جلبها سوء تدبيره، وقلة قبوله من الشيخ، ومات في الطريق، وولوا ابنه أمير الأمراء أبا الحسن عليا، وهو طفل، وطلبوا إلى الرئيس أن يتولى وزارته فأبى عليهم، وكاتب علاء الدولة أبا جعفر محمد بن أبي العباس المعروف بابن كاكويه سرا يطلب خدمته، والانضمام إليه، وكان خال السيدة أم مجد الدولة، وابنه أبو جعفر من قبلها بأصبهان مستول عليها، ثم نمي إلى تاج الملك بهرام بن شيرزاد، وكان مستوليا على شمس الدولة وهو متقدم الختلية وصاحب جيشه والمستولي بعده على الأمر والقائم بأمر ولده، أنه قد كاتب علاء الدولة فجد في طلبه حتى أخذه وأودعه قلعة بردوان، فقال قصيدة فيها:
وبقي هناك أربعة أشهر حتى قصد علاء الدولة همذان وأخذها، وهزم تاج الملك، ومضى إلى تلك القلعة بعينها، ورجع علاء الدولة عن همذان، وعاد تاج الملك وابن شمس الدولة إلى همذان، وحملوا معهم أبا علي فأقام هناك، وخرج متنكرا وأنا وأخوه وغلامان في زي الصوفية إلى أصبهان، واستقبلنا أصحاب علاء الدولة والوجوه، وحمل إلينا الثياب والمال، وأنزلنا أكرم منزل. وكان يحضر مجلس المناظرة بين يدي علاء الدولة، فما كان يطاق في شيء من العلوم. واختص بعلاء الدولة وصار من ندمائه. وكان الشيخ يوما بين يدي الأمير وأبو منصور الجبائي حاضر فجرى في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فالتفت إليه الشيخ أبو منصور، وقال له: أنت فيلسوف وحكيم، وليس الكلام في هذا من صناعتك، فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفر على درس كتب اللغة ثلاث سنين، واستدعى كتاب «تهذيب اللغة» من تصنيف أبي منصور الأزهري من خراسان، فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلما يتفق مثلها، وصنف ثلاثة كتب وكتبها: أحدها على طريقة ابن العميد، والثاني على طريقة الصاحب، والثالث على طريقة الصابي، وجلدها وأخلق جلودها. وسأل الأمير عرض تلك المجلدات على أبي منصور الجبائي، وذكر أنه ظفر بتلك المجلدات في الصحراء وقت الصيد، فنظر فيها الجبائي، وأشكل عليه كثير مما فيها. فقال له الشيخ: إن الذي جهلته من هذا الكتاب مذكور في الكتاب الفلاني من كتب اللغة، وذكر له كتبا معروفة، ففطن الجبائي لما أريد، وأن الذي حمله على ذلك ما جبهه به فتنصل واعتذر إلى الشيخ، ثم صنف الشيخ كتابا في اللغة سماه «لسان العرب» لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى توفي، فبقي على مسودته لا يهتدي أحد إلى موضعه .
وكان قد حصل له تجارب كثيرة فيما باشره من المعالجات عزم على تدوينها في كتاب «القانون» وكان قد علقها على أجزاء، فضاعت قبل تمام الكتاب، منها أنه صدع يوما فتصور أنه من مادة تريد النزول إلى حجاب رأسه، وأنه لا يأمن ورما يحصل فيه. فأمر بإحضار ثلج كثير ودقه ولفه في خرقة، وغطى رأسه بها، فعل ذلك حتى
قوي الموضع، وامتنع عن قبول تلك المادة، وعوفي من ذلك. ووضع في حال الرصد آلات ما سبق إليها.
وكان قوي القوى كلها، وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب.
وكان كثيرا ما يشتغل به فأثر في مزاجه حتى صار في السنة التي حارب فيها علاء الدولة ابن فراس على باب الكرخ أخذ الشيخ قولنج، ولحرصه على برئه إشفاقا من هزيمة يدفع إليها لا يتأتى له المسير فيها مع المرض حقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات حتى تفرح بعض أمعائه، وظهر به سحج وأحوج إلى المسير مع علاء الدولة نحو إيذج فظهر به علة الصرع الذي يتبع علة القولنج، ومع ذلك كان يدير نفسه ويحقن نفسه لأجل السحج ولبقية القولنج، فأمر يوما باتخاذ دانقين من بزر الكرفس في جملة ما يحقن به، وخلطه بها لكسر ريح القولنج به، فقصد بعض الأطباء الذي كان يتقدم إليه يعالجه وطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم إما عمدا أو خطأ، فازداد السحج بذلك من حدة التبرز. وكان يتناول مثرود طوس لأجل الصرع، فقام بعض غلمانه، وطرح شيئا كثيرا من الأفيون فيه وناوله فأكله، وكان سبب ذلك خيانتهم في مال كثير من خزانته، فتمنوا هلاكه ليأمنوا عاقبة أفعالهم.
ونقل الشيخ إلى أصفهان فاشتغل بتدبير نفسه، وكان من الضعف بحيث لا يقدر على القيام، فلم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي، وحضر مجلس علاء الدولة، لكنه مع ذلك لا يتحفظ، ويكثر من التخليط في أمر المجامعة، ولم يبرأ من العلة كل البرء، فكان ينتكس ويبرأ كل وقت. فلما قصد علاء الدولة سار معه إلى همذان فعاودته تلك العلة، فلما استقر بهمذان وعلم أن قوته قد سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض فأهمل مداواة نفسه، فأخذ يقول: المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع الحكمة والمعالجة. وبقي على هذا أياما، ثم انتقل إلى جوار ربه.
ومن شعره:
وله أيضا:
ومصنفاته: كتاب المجموع مجلدة. كتاب الحاصل والمحصول عشرون مجلدة. كتاب البر والإثم مجلدتان. كتاب الشفاء ثماني عشرة مجلدة. كتاب القانون في الطب ثماني عشرة مجلدة. كتاب الأرصاد الكلية مجلدة. كتاب الإنصاف عشرون مجلدة. كتاب النجاة ثلاث مجلدات. كتاب الهداية مجلدة.
كتاب الإشارات مجلدة. كتاب المختصر الأوسط مجلدة. كتاب العلائي مجلدة.
كتاب القولنج. كتاب لسان العرب في اللغة عشر مجلدات. كتاب الأدوية القلبية مجلدة. كتاب الموجز مجلدة. كتاب بعض الحكمة المشرقية مجلدة. كتاب بيان ذوات الجهة مجلدة. كتاب المعاد مجلدة. كتاب المبدأ والمعاد مجلدة .
ورسائله: رسالة القضاء والقدر. رسالة في الآلة الرصدية. رسالة عرض قاطيغورياس. رسالة المنطق بالشعر. قصائد في العظة والحكمة. رسالة في نعوت المواضيع الجدلية. رسالة في اختصار إقليدس. رسالة في مختصر النبض بالفارسية.
رسالة في الحدود. رسالة في الأجرام السماوية. كتاب الإشارة في علم المنطق.
كتاب أقسام الحكمة. كتاب النهاية. كتاب عهد كتبه لنفسه. كتاب حي بن يقظان. كتاب في أن أبعاد الجسم ذاتية له: كتاب خطب. كتاب عيون الحكمة.
كتاب في أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد جوهريا وعرضيا. كتاب في أن علم زيد غير علم عمرو. رسائل إخوانية وسلطانية. مسائل جرت بينه وبين بعض العلماء .

  • دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 3- ص: 1063

ابن سينا العلامة الشهير الفيلسوف، أبو علي، الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، البلخي ثم البخاري، صاحب التصانيف في الطب والفلسفة والمنطق.
كان أبوه كاتبا من دعاة الإسماعيلية، فقال: كان أبي تولى التصرف بقرية كبيرة، ثم نزل بخارى، فقرأت القرآن وكثيرا من الأدب ولي عشر، وكان أبي ممن آخى داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية.
ثم ذكر مبادىء اشتغاله، وقوة فهمه، وأنه أحكم المنطق وكتاب إقليدس إلى أن قال: ورغبت في الطب، وبرزت فيه، وقرؤوا علي، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه، وأناظر ولي ست عشرة سنة.
ثم قرأت جميع أجزاء الفلسفة، وكنت كلما أتحير في مسألة، أو لم أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المنغلق منه، وكنت أسهر، فمهما غلبني النوم، شربت قدحا. إلى أن قال: حتى استحكم معي جميع العلوم، وقرأت كتاب ’’ما بعد الطبيعة’’، فأشكل علي حتى أعدت قراءته أربعين مرة، فحفظته ولا أفهمه، فأيست. ثم وقع لي مجلد لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ’’ما بعد الحكمة الطبيعية’’، ففتح علي أغراض الكتب، ففرحت، وتصدقت بشيء كثير.
واتفق لسلطان بخارى نوح مرض صعب، فأحضرت مع الأطباء، وشاركتهم في مداواته، فسألت إذنا في نظر خزانة كتبه، فدخلت فإذا كتب لا تحصى في كل فن، فظفرت بفوائد. إلى أن قال: فلم بلغت ثمانية عشر عاما، فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه معي اليوم أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي شيء، وصنفت ’’المجموع’’، فأتيت فيه على علوم، وسألني جارنا أبو بكر البرقي وكان مائلا إلى الفقه والتفسير والزهد، فصنفت له الحاصل والمحصول في عشرين مجلدة، ثم تقلدت شيئا من أعمال السلطان، وكنت بزي الفقهاء إذ ذاك؛ بطيلسان محنك، ثم انتقلت إلى نسا، ثم أباورد وطوس وجاجرم، ثم إلى جرجان.
قلت: وصنف الرئيس بأرض الجبل كتبا كثيرة، منها ’’الإنصاف’’؛ عشرون مجلدا، ’’البر والإثم’’؛ مجلدان، ’’الشفاء’’، ثمانية عشر مجلدا، ’’القانون’’؛ مجلدات. ’’الإرصاد’’، مجلد، ’’النجاة’’، ثلاث مجلدات، ’’الإشارات’’، مجلد، ’’القولنج’’، مجلد، ’’اللغة’’، عشر مجلدات، ’’أدوية القلب’’، مجلد، الموجز مجلد، ’’المعاد’’ مجلد، وأشياء كثيرة ورسائل.
ثم نزل الري وخدم مجد الدولة وأمه، ثم خرج إلى قزوين وهمذان، فوز بها، ثم قام عليه الأمراء، ونهبوا داره، وأرادوا قتله، فاختفى، فعاود متوليها شمس الدولة القولنج، فطلب الرئيس، واعتذر إليه، فعالجه، فبرأ، واستوزره ثانيا، وكانوا يشتغلون عليه، فإذا فرغوا، حضر المغنون، وهيىء مجلس الشراب. ثم مات الأمير، فاختفى أبو علي عند شخص، فكان يؤلف كل يوم خمسين ورقة، ثم أخذ، وسجن أربعة أشهر، ثم تسحب إلى أصبهان متنكرا في زي الصوفية هو وأخوه وخادمه وغلامان. وقاسوا شدائد، فبالغ صاحب أصبهان علاء الدولة في إكرامه، إلى أن قال خادمه: وكان الشيخ قوي القوى كلها، يسرف في الجماع، فأثر في مزاجه، وأخذه القولنج حتى حقن نفسه في يوم ثمان مرات، فتقرح معاه، وظهر به سحج، ثم حصل له الصرع الذي يتبع علة القولنج، فأمر يوما بدانقين من بزر الكرفس في الحقنة، فوضع طبيبه عمدا أو خطأ زنة خمسة دراهم، فازداد السحج، وتناول مثروذيطوس لأجل الصرع، فكثره غلامه، وزاده أفيون، وكانوا قد خانوه في مال كثير، فتمنوا هلاكه، ثم تصلح، لكنه مع حاله يكثر الجماع، فينتكس، وقصد علاء الدولة همذان، فسار معه الشيخ، فعاودته العلة في الطريق، وسقطت قوته، فأهمل العلاج، وقال: ما كان يدبر بدني عجز، فلا تنفعني المعالجة. مات بهمذان بعد أيام وله ثلاث وخمسون سنة.
قال ابن خلكان: ثم اغتسل وتاب، وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم، وأعتق مماليكه، وجل يختم القرآن في كل ثلاث، ثم مات يوم الجمعة في رمضان سنة ثمان وعشرين وأربع مائة.
قال: ومولده في صفر سنة سبعين وثلاث مائة.
قلت: إن صح مولده، فما عاش إلا ثمانيا وأربعين سنة وأشهرا، ودفن عند سور همذان، وقيل: نقل تابوته إلى أصبهان.
ومن وصية ابن سينا لأبي سعيد، فضل الله الميهني: ليكن الله تعالى أول فكر له وآخره، وباطن كل اعتبار وظاهره، ولتكن عينه مكحولة بالنظر إليهن وقدمه موقوفة على المثول بين يديه، مسافرا بعقله في الملكوت الأعلى وما فيه من آيات ربه الكبرى، وإذا انحط إلى قرارهن فلينزه الله في آثاره، فإنه باطن ظاهر تجلى لكل شيء بكل شيء، وتذكر نفسه، وودعها، وكان معها كأن ليس معها، فأفضل الحركات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وأنفع البر والصدقة، وأزكى السر الاحتمال، وأبطل السعي الرياء، ولن تخلص النفس عن الدون ما التفتت إلى قيل وقال وجدال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما انفرج عن علم، ومعرفة الله أول الأوائل، إليه يصعد الكلم الطيب. إلى أن قال: والمشروب فيهجر تلهيا لا تشفيا، ولا يقصر في الأوضاع الشرعية، ويعظم السنن الإلهية.
قد سقت في تاريخ الإسلام أشياء اختصرتها، وهو رأس الفلاسفة الإسلامية، لم يأت بعد الفارابي مثله، فالحمد لله على الإسلام والسنة.
وله كتاب ’’الشفاء’’، وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب ’’المنقذ من الضلال’’، وكفر الفارابي.
وقال الرئيس: قد صح عندي بالتواتر ما كان بجوزجان في زماننا من أمر حديد لعله زنة مائة وخمسين منا نزل من الهواء، فنشب في الأرض، ثم نبا نبوة الكرة، ثم عاد، فنشب في الأرض، وسمع: له صوت عظيم هائل، فلما تفقدوا أمرهن ظفرا به، وحمل إلى والي جوزجان، فحاولوا كسر قطعة منه، فما عملت فيه الآلات إلا بجهد، فراموا عمل سيف منه، فتعذر. نقله في ’’الشفاء’’.
ذو القرنين، المحاملي:

  • دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 13- ص: 199

الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا الرئيس أبو علي الحكيم المشهور، أحد فلاسفة المسلمين، ونادرة العصر في الذكاء والفطنة والعلم، بحيث صار ممن تضرب به الأمثال، وتعقد الخناصر عليه فحول الرجال.
ذكره الحافظ الذهبي، في ’’ تاريخ الإسلام ’’، وشرح أحواله مفصلة، وأسند أكثر ذلك إلى حكايته عن نفسه، والمرء أدرى بأحواله، وأعرف بأفعاله وأقواله.
قال: قال، كان أبي رجلا من أهل بلخ، فسكن بخارى في دولة نوح بن منصور، وتولى العمل والتصرف بقرية كبيرة، وتزوج بأمي فأولدها أنا وأخي، ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب، وأكملت عشرا من العمر، وقد أتيت على القرآن، وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي مني العجب.
وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل، وكذلك أخي، فربما تذاكروا وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي، وأخذوا يدعونني إليه، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة والحساب، وأخذ يوجهني إلى من يعلمني الحساب.
ثم قدم بخارى أبو عبد الله الناتلي الفيلسوف، فأنزله أبي دارنا، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فيه إلى الشيخ إسماعيل الزاهد، وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت المناظرة والبحث، ثم ابتدأت على الناتلي بكتاب ’’ إيساغوجي ’’، ولما ذكر لي أحد أن حد الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع، وأخذته في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، تعجب مني كل التعجب، وحذر والدي من شغلي بغير العلم، وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيرا منه، حتى قرأت ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبر.
ثم أخذت أقرأ الكتب لى نفسي، وأطالع الشروح، حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب أقليدس، فقرأت من أوله إلى خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حل باقيه، وانتقلت إلى المجسطي، ولما فرغت من مقدماته، واتهيت إلى الأشكال الهندسية، قال لي الناتلي: حلها وحدك، ثم اعرضها علي، لأبين لك. فكم من شكل ما عرفه الرجل إلا وقت عرضته عليه، وفهمته إياه.
ثم سافر، وأخذت في الطبيعي والإلهي، فصارت الأبواب تنفتح علي، ورغبت في الطب، وبرزت فيه في مديدة، حتى بدأ الأطباء يقرأون علي، وتعهدت المرضى، فانفتح على أبواب المعالجات النفسية من التجربة مالا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه، وأناظر فيه، وعمري ست عشرة سنة.
ثم أعدت قراءة المنطق، وجميع أجزاء الفلسفة، ولازمت العلم سنة ونصفا، في هذه المدة ما نمت ليلة واحدة في بطولها، ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهورا، فكل حجة أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية، ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيها عساها تنتج، وراعيت شروط مقدماته حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة، وكلما كنت أتحيز في مسألة، أو لم أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق منه، وتيسر المتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، واشتغل بالكتابة والقراءة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما غلبني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها.
ثم إن كثيرا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام، حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني، وكل ما علمته في ذلك فهو كما علمته، لم أزد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأت كتاب ’’ ما بعد الطبيعة ’’ فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت ’’: هذا كتاب لا سبيل إلى تفهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادى عليه، فعرضه علي فردته رد متبرم، فقال: أنه رخيص بثلاثة دراهم. فاشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ’’ ما بعد الحكمة الطبيعة ’’، ورجعت إلى بيتي، وأسرعت قراءته، فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، ففرحت وتصدقت بشيء يسير، شكرا لله تعالى.
واتفق لسلطان بخارى، نوح بن منصور، مرض صعب فأجى الأطباء ذكرى بين يديه، فأحضرت وشاركتهم في مداواته، وسألته الإذن في دخول خزانة كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من الكتب، وكتبها، فأذن لي، ودخلت فإذا كتب لا تحصى في كل فن، ورأيت كتبا لم تقع أسماؤها إلى كثير من الناس، فقرأت تلك الكتب، وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه، فلما بلغت ثمانية عشر عاما من العمر، فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه معي اليوم انضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.
وسألني جارنا أبو الحسين العروضي، أن أصنف له كتابا جامعا في هذا العلم، فصنفت له ’’ المجموع ’’، وسميته به، وأتيت به على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة.
وسألني جارنا الفقيه أبو بكر البرقي الخوارزمي وكان مائلا إلى الفقه والتفسير والزهد، شرح الكتب له، فصنفت له كتاب ’’ الحاصل والمحصول ’’ في عشرين مجلدة، أو نحوها، وصنفت كتاب ’’ البر والإثم ’’، وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، ولم يعرفهما أحدا.
ثم مات والدي، وتصرفت في الأحوال، وتقلدت شيئا من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الإحلال ببخارى، والانتقال إلى كركانج، وكان أبو الحسن السهلي المحب لهذه العلوم بها وزيرا، وقدمت الأمير بها علي بن المأمون، وكنت على زي الفقهاء، إذا ذاك مطيلسا تحت الحنك، وأثبتوا لي مشاهرة دارة تكفيني.
ثم انتقلت إلى نسا، ومنها إلى باورد، وإلى طوس، ثم إلى جاجرم رأس خراسان، ومنها إلى جرجان، وكان قصدي الأمير قابوس، فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه، فمضيت إلى دهستان، فمرضت بها، ورجعت إلى جرجان، فاتصل بي أبو عبيد الجوزجاني.
ثم قال أبو عبيد الجوزجاني: فهذا ما حكاه لي الشيخ عن لفظه.
وصنف ابن سينا بأرض الجبل كتبا كثيرة، وهذه فهرست كتبه: كتاب ’’ المجموع ’’ مجلدة، ’’ الحاصل والمحصول ’’ عشرون مجلدة، ’’ البر والإثم ’’ مجلدان ’’ الشفا ’’ ثمانية عشر مجلدا، ’’ القانون ’’ أربعة عشر مجلدا، ’’ الأرصاد الكلية ’’ مجلد، كتاب ’’ النجاة ’’ ثلاث مجلدات، ’’ الهداية ’’ مجلد، ’’ الإشارات ’’ مجلد، ’’ المختصر ’’ مجلد، ’’ الإشارات ’’ مجلد، ’’ المختصر ’’ مجلد، ’’ العلائي ’’ مجلد، ’’ القولنج ’’ مجلد، ’’ لسان العرب ’’ عشر مجلدات، ’’ الأدوية القلبي ’’ مجلد، ’’ الموجز ’’ مجلد، ’’ بعض الحكمة المشرقية ’’ مجلد، ’’ بيان ذوات الجهة ’’ مجلد، كتاب ’’ المعاد ’’ مجلد، كتاب ’’ المبدأ والمعاد ’’ مجلد.
ومن رسائله: القضاء والقدر ’’، ’’ الآلة الرصدية ’’، ’’ غرض قاطيغور ياس ’’، ’’ المنطق ’’ بالشعر، رجز، ’’ قصيدة في العظة والحكمة ’’، ’’ تعقب المواضع الجدلية ’’، ’’ مختصر أقليدس ’’، ’’ مختصر في النبض ’’ بالعجمية، ’’ الحدد ’’، ’’ الأجرام السماوية ’’، ’’ الإشارة إلى علم المنطق ’’، ’’ أقسام الحكمة ’’، ’’ في النهاية وأن لا نهاية ’’، ’’ عهد ’’ كتبه لنفسه، ’’ حي بن يقظان ’’، ’’ في أن أبعاد الجسم غير ذاتية له ’’، ’’ خطب ’’، ’’ الكلام في الهندبا ’’، ’’ في أن الشيء الواحد لا يكون جوهريا عرضيا ’’، ’’ في أن علم زيد غير علم عمرو ’’، ’’ رسائل إخوانية وسلطاني ’’، ’’ مسائل جرت بينه وبين الفضلاء ’’.
ثم انتقل إلى الري، وخدم السيدة وابنها مجد الدولة، وداواه من السوداء، فأقام إلى أن قصد شمس الدولة بعد قتل هلال بن بدر، وهزيمة جيش بغداد.
ثم خرج إلى قزوين، وإلى همذان، ثم عالج شمس الدولة من القولنج، وصار من ندمائه، وخرج في خدمته.
ثم رد إلى همذان، ثم سألوه تقلد الوزارة، فتقلدها، ثم اتفق تشويش العسكر عليه، واتفاقهم عليه خوفا منه، فكبسوا داره ونهبوها، وسألوا الأمير قتله، فامتنع وأرضاهم بنفيه، فتوارى في دار الشيخ أبي سعد أربعين يوما، فعاود شمس الدولة القولنج، فطلب الشيخ فحضر، فاعتذر إليه الأمير بكل وجه، فعالجه، وأعاد إليه الوزارة ثانيا.
قال أبو عبيد الجوزجاني: ثم سألته شرح كتب أرسطو طاليس، فقال: لا فراغ لي، ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فيه ما صح عندي من هذه العلوم بلا مناظرة ولا رد فعلت. فرضيت منه، فبدأ بالطبيعيات من كتاب ’’ الشفا ’’ وكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم، وكنت أقرأ من ’’ الشفا ’’ نوبة، وكان غيري يقرأ من ’’ القانون ’’ نوبة، فإذا فرغنا حضر المغنون، وهيئ مجلس الشراب بآلاته، فكنا نشتغل به، فقضينا على ذلك زمنا، وكان يشتغل بالنهار في خدمة الأمير.
ثم مات الأمير وبايعوا ولده، وطلبوا الشيخ لوزارته، فأبى، وكاتب علاء الدولة سرا، يطلب المصير إليه، واختفى في دار أبي غالب العطار، فكان يكتب كل يوم خمسين ورقة تصنيفا في كتاب ’’ الشفا ’’ حتى أتى منه على جميع كتاب الطبيعي والإلهي ما خلا كتابي الحيوان والنبات، ثم اتهمه تاج الملك بمكاتبة علاء الدولة، وأنكر عليه ذلك، وحث على طلبه، فظفروا به وسجنوه بقلعة فردجان، وفي ذلك يقول قصيدة، منها:

فبقي فيها أربعة أشهر، ثم قصد علاء الدولة همذان، فأخذها، وهرب تاج الملك، وأتى تلك القلعة، ثم رجح تاج الملك وابن شمس الدولة إلى همذان لما انصرف عنها علاء الدولة، وحملا معهما الشيخ إلى همذان، ونزل في دار العلوي، وأخذ يصنف المنطق من كتاب ’’ الشفا ’’، وكان قد صنف بالقلعة رسالة ’’ حي بن يقظان ’’، وكتاب ’’ الهدايات ’’، وكتاب ’’ القولنج ’’.
ثم أنه خرج نحو أصبهان متنكرا، وأنا وأخوه وغلامان له في زي الصوفية، إلى أن وصلنا إلى طبران، وهي على باب أصبهان، وقاسينا شدائد، فاستقبلنا أصدقاء الشيخ وندماء الأمير علاء الدولة وخواصه وحملوا إليه الثياب والمراكب، وبالغ علاء الدولة في إكرامه وصار من خاصته.
وقد خدمت الشيخ وصحبته خمسا وعشرين سنة وجرت مناظرة، فقال له بعض اللغويين: إنك لا تعرف اللغة. فأنف الشيخ، وتوفر على درس اللغة ثلاث سنين، فبلغ طبقة عظيمة من اللغة وصنف بعد ذلك كتاب ’’ لسان العرب ’’، ولم يبيضه.
قال: وكان الشيخ قوي القوى، وكان قوة المجامعة من قوات الشهوانية أقوى وأغلب، وكان كثيرا ما يشتغل، فأثر في مزاجه، وكان يعتمد على قوة مزاجه حتى صار أمره إلى أن أخذه القولنج وحرص على برئه حتى حقن نفسه في يوم ثمان مرات، فتقرح بعض أمعائه، وظهر به سحج، وسار مع علاء الدولة، فأسرعوا نحو إذج، فظهر به هناك الصرع الذي قد يتبع علة القولنج، ومع ذلك كان يدبر نفسه ويحقن نفسه لأجل السحج، فأمر يوما باتخاذ دانقين من بزر الكرفس، في جملة ما يحتقن به، طلبا لكسر الرياح، وقصد بعض الأطباء الذي كان هو يتقدم إليه بمعالجته، فطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم، لست أدري أعمد فعله أم خطأ، لأني لم أكن معه، فازداد السحج به من حدة البزر وكان يتناول المنزود يطوس؛ لأجل الصرع، فقام بعض غلمانه وطرح فيه شيء كثيرا من الأفيون فناوله فأكله وكان سبب ذلك خيانتهم في مال كثير من خزانته، فتمنوا هلاكه ليأمنوا، فنقل الشيخ إلى أصبهان وبقي يدبر نفسه، واشتد ضعفه ثم عالج نفسه حتى قدر على المشي لكنه مع ذلك يكثر المجامعة فكان ينتكس.
ثم قصد علاء الدولة همذان، فسار الشيخ معه، فعاودته تلك العلة في الطريق، إلى أن وصل همذان، وعلم أنه قد سقطت قوته، وإنها لا تفي بدفع المرض، فأهمل مداواة نفسه، وأخذ يقول: المدبر الذي كان يدبر قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع المعالجة. وبقى على هذا أياما، ومات عن ثلاث وخمسين سنة. انتهى قول أبي عبيد.
وقبره تحت سور همذان. وقيل: إنه نقل إلى أصبهان بعد ذلك.
وقال ابن خلكان، في ترجمة ابن سينا: ثم اغتسل وتاب، وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرفه، وأعتق مماليكه، وجعل يختم كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات بهمذان، يوم الجمعة، في رمضان، وولد في صفر، سنة سبعين وثلاثمائة.
قال: وكان الشيخ كمال الدين ابن يونس يقول: إن مخدومه سخط عليه، ومات في سجنه، وكان ينشد:
وصية ابن سينا لأبي سعيد بن أبي الخير الصوفي الميهي
ليكن الله تعالى أول فكر له وآخره، وباطن كل اعتبار وظاهره، ولتكن عين نفسه مكحولة بالنظر إليه، وقدمها موقوفة على المثول بين يديه، مسافر بعقله في الملكوت الأعلى، وما فيه من آيات ربه الكبرى، وإذا انحط إلى قراره، فلينزه الله في آثاره، فإنه باطن ظاهر، تجلى لكل شيء بكل شيء.
فإذا صارت هذه الحال له ملكه انطبع فيها نقش الملكوت، وتجلى له قدس اللاهوت، فألف الأنس الأعلى، وذاق اللذة القصوى، وأخذ عن نفسه من هو بها أولى، وفاضت عليه السكينة، وحقت له الطمأنينة، وتطلع على العالم الأدنى اطلاع راحم لأهله، مستوهن لحبله، مستخف لثقله، مستخس به لعلقه، مستضل لطرفه، وتذكر نفسه وهي بها لهجة، وببهجتها بهجة، فتعجب منها ومنهم تعجبهم منه وقد ودعها، وكان معها كأن ليس معها.
وليعلم أن أفضل الحكات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وانفع البر الصدقة، وأزكى السر الاحتمال، وأبطل السعي المراءاة، وأن تخلص النفس عن الدرن ما التفتت إلى قيل وقال، ومنافسة وجدال، وانفعلت بحال من الأحوال، وخير العلمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما ينفرج عن جناب علم، والحكمة أم الفضائل، ومعرفة الله أول الأوائل، (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).
إلى أن قال: وأما المشروب فيهجر شربه تلهيا، بل تشفيا وتداويا، ويعاشر كل فرقة بعادته ورسمه، ويسمح بالمقدور والتقدير من المال، ويركب لمساعدة الناس كثيرا مما هو خلاف طبعه، ثم لا يقصر في الأوضاع الشرعية، ويعظم السنن الإلهية، والمواظبة على التعبدات البدنية.
إلى أن قال: عاهد الله أنه يسير بهذه السيرة، ويدين بهذه الديانة، والله ولي الذين آمنوا.
ومن شعره القصيدة الطنانة، التي قالها في النفس، وولع الناس بشرحها، وحل رموزها، وكشف غوامضها، وهي هذه:
تبكي إذا ذكرت ديارا بالحمى بمدامع تهمى ولما تقلع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها قفص عن الأوج الفسيح الأريع
هجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وله أيضا:
وله، وهو يجود بنفسه:
وينسب إليه أيضا البيتان اللذان ذكرهما الشهرستاني، في أول كتاب ’’ نهاية الإقدام ’’.
وهما:
قال ابن خلكان: ومن المنسوب إليه أيضا، ولا أتحقق قوله:
وفضائل ابن سينا كثيرة، وتصانيفه شهيرة، والناس في اعتقاده فرقتان، له، وعليه، والظاهر أنه تاب قبل موته، والله تعالى أعلم بحاله، رحمه الله تعالى.

  • دار الرفاعي - الرياض-ط 0( 1983) , ج: 1- ص: 248

الحسين بن عبد الله بن سيناء، أبو علي الرئيس. ما أعلمه روى شيئا من العلم، ولو روى لما حلت الرواية عنه، لانه فلسفي النحلة ضال.
[قلت: قد روى في قانونه في طب النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث].

  • دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان-ط 1( 1963) , ج: 1- ص: 539

الحسين بن عبد الله بن سينا، الرئيس، أبو علي
شيخ الفلاسفة. له كتاب ’’الحاوي’’ في اللغة، في عشرة أسفار كبار مات سنة سبع وعشرين وأربعمئة بأصفهان.
في سنة ثلاث وسبعين وخمسمئة أخرجه السلطان محمد بن المظفر من قبره وأحرقه.

  • جمعية إحياء التراث الإسلامي - الكويت-ط 1( 1986) , ج: 1- ص: 18

  • دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع-ط 1( 2000) , ج: 1- ص: 120

الحسين بن عبد الله، أبو عليّ، ابن سينا الحكيم الفيلسوف.
كان مع كونه حكيما، قيّما بعلم اللّغة والعربية، وقد صنّف فيها كتابا، وكان عنده أدب وكتابة، وله رسائل مدوّنة.
وكانت وفاته في سادس شعبان من سنة ثمان وعشرين وأربع مائة عن ثمان وخمسين سنة.
نقل عنه أنه قال: كان أبي من أهل بلخ، وانتقل إلى بخارى، وتولّى عملا في أيام نوح بن منصور الساماني، وتزوّج هناك، فولدت ببخارى، ونشأت بها، وحفظت القرآن، وقرأت الأدب. وقدم علينا أبو عبد الله الناتليّ، وكان يعرف الفلسفة والفقه، فقرأت عليه كتاب إيساغوجي فتصوّرته خيرا منه، فشرعت أقرأ الكتب على نفسي، وأطالع الشّروح حتى أحكمت علم المنطق والفلسفة واقليدس، ثم قرأت المجسطيّ. ثم رغبت في علم الطبّ، فأدركته في أقلّ مدة؛ لأنه ليس من العلوم الصّعبة، وتعهّدت المرضى، فانفتح عليّ من المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف. ومع هذا اختلفت إلى الفقهاء، واشتغلت بالفقه، وأناظر فيه حتى أحكمته، وما كنت أنام ليلة بطولها قطّ، وكنت إذا أشكل عليّ شيء أبيت مهموما فأراه في المنام وقد اتّضح لي.
ولمّا أحكمت المنطق والعلم الطبيعيّ والرّياضيّ عدت إلى العلم الإلهي، وقرأت منه ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهمه، والتبس عليّ غرض واضعه، حتّى أعدت قراءته أربعين مرة، فصار لي محفوظا وأنا لا أفهمه، فأيست منه وقلت: هذا لا سبيل إلى فهمه. فحضرت يوما في الورّاقين، فعرض عليّ كتاب في الحكمة، وطلب ثمنه ثلاثة دراهم، فابتعته، وهو لأبي نصر الفارابيّ في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة.
فطالعته، ففهمت الكتاب فتصدّقت على الفقراء بشيء كثير شكرا لله تعالى. وكان إذا أشكل عليّ شيء من العلوم قصدت الجامع وصلّيت وتضرّعت إلى مبدع الكلّ، فإذا انكشف لي تصدّقت. فمرض سلطان بخارى نوح بن منصور مرضا عجز عنه أطباؤه، فأحضرني فعالجته فصلح، فسألته أن يأذن لي في دخول دار كتبه ومطالعتها، وكانت دارا عظيمة تفوت كتبها العدّ والحصر، فطالعت كتب الحكمة، فظفرت منها بفوائد عظيمة ولي من العمر ثمان عشرة سنة، فسألني جار لنا يعرف بأبي الحسن العروضي أن أصنّف له كتابا جامعا، فصنّفت له مجموعا وسمّيته به، وأتيت فيه على جميع العلوم الرّياضية، ولي حينئذ إحدى وعشرون سنة. وسألني رجل آخر يعرف بأبي بكر البرقيّ الخوارزمي، كان فقيها، تصنيف كتاب، فصنّفت له كتاب الحاصل والمحصول: في نحو عشرين مجلّدا، وصنّفت له في الأخلاق كتابا سمّيته: كتاب البرّ والإثم.
ثم مات والدي وتصرّفت في أعمال السلطان. ثم خرجت من بخارى وقصدت طوس. ثم انتقلت إلى جرجان، وقصدت قابوس بن وشمكير فأخذ وحبس. فرجعت إلى دهستان فتصدّيت للتصنيف، فصنّفت كتاب المبدإ والمعاد، وكتاب الأرصاد، وأول القانون، ومختصر المجسطي، وكثيرا من الرسائل.
قال: ثم انتقلت إلى الرّيّ ثم إلى قزوين ثم إلى همذان، فأصاب شمس الدولة طاهر بن بويه قولنج فعالجته فبرأ، فأصبت مالا كثيرا، وأقمت هناك أربعة أشهر حتى [...] علاء الدّولة أبو جعفر ابن كاكويه وأخذها.
وأخبار ابن سينا غريبة عجيبة، قد ذكرتها مستوفاة في كتاب مفرد، وليس هذا الكتاب بصدد أخبار المصنّفين، بل المقصود التعريض بذكر نبذة من أخبارهم، وذكر تصانيفهم.
وقد تقدّم من تصانيف ابن سينا: كتاب المجموع: مجلّد، وكتاب الحاصل والمحصول عشرون مجلّدا، وكتاب البرّ والإثم مجلدان، وله أيضا كتاب الشّفاء ثمانية عشر مجلّدا، وكتاب القانون أربع عشرة مجلّدة، وكتاب الأرصاد الكلّية مجلّدة، وكتاب الإنصاف عشرون مجلّدا، وكتاب النّجاة ثلاث مجلّدات، وكتاب الهداية مجلّد، وكتاب الإشارات مجلّد، وكتاب المختصر الأوسط مجلّد، وكتاب العلائي مجلّد، وكتاب القولنج مجلّد، وكتاب لسان العرب: في اللّغة، عشر مجلّدات، وكتاب الأدوية القلبية مجلّد، وكتاب الموجز مجلّد، وكتاب بعض الحكمة الشّرقية مجلّد، وكتاب بيان ذوات الجهة مجلّد، وكتاب المعاد مجلّد، وكتاب المبدإ والمعاد مجلّد، وكتاب رسالة القضاء والقدر، ورسالة في الآلة الرّصدية، ورسالة في المنطق، وقصائد شعر في العظة والحكمة، ورسالة في تعقّب المواضع الجدلية، ورسالة في مختصر النّبض: بالفارسيّة، وكتاب القانون الصّغير: مجلّد لطيف، ورسالة الصّلاة، ورسالة النّفس، ورسالة الطّير، ورسالة في الحدود، ورسالة في الأجرام السّماوية، ورسالة في الإشارة إلى علم المنطق، وكتاب أقسام الحكمة، وكتاب في النّهاية ولا نهاية، وكتاب عهد كتبه لنفسه، وكتاب حيّ بن يقظان، وكتاب في أنّ أبعاد الجسم غير ذاتية له، وكتاب في الهندباء، وكتاب في أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد جوهرا وعرضا، وكتاب في أنّ علم زيد غير علم عمرو، وكتاب عيون الحكمة، وله رسائل: إخوانية وسلطانية، ومسائل جرت بينه وبين بعض الفضلاء.
ومن شعره: [وافر]

  • دار الغرب الإسلامي - تونس-ط 1( 2009) , ج: 1- ص: 353