التصنيفات

عثمان بن حنيف الأنصاري كان عامل أمير المؤمنين علي عليه السلام على البصرة ولاه إياها سنة 36 بعد ما بويع بالخلافة فسار ولم يرده أحد عن دخولها ولم يجد لابن عامر في ذلك رأيا ولا استقلالا بحرب وكان عبد الله بن عامر عامل عثمان عليها خرج منها ولم يول عثمان عليها أحدا وافترق الناس بها فاتبعت فرقة القوم ودخلت فرقة في الجماعة وقالت فرقة ننظر ما يصنع أهل المدينة فنصنع كما صنعوا وذكر ابن الأثير في حوادث سنة 37 إن عبد الله بن عباس كان عامل علي على البصرة فيكون توليته البصرة بعد حرب صفين. وأما الكتاب الذي كتبه علي عليه السلام إلى عثمان بن حنيف المذكور في نهج البلاغة فالظاهر أنه كتبه إليه من المدينة ولما أقبل أصحاب الجمل إلى البصرة قاتلهم عثمان وهو القائل في رواية الأصمعي:

وهي أبيات تروى لغيره.
قال الفضل بن شاذان: هو من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ع. وعمل لعمر ثم لعلي، ولاه عمر مساحة الأرضين وجبايتها بالعراق وضرب الخراج والجزية على أهلها، وولاه علي على البصرة، وإليه كتب كتابه الشهير حين قبل دعوة أحد أثرياء البصرة إلى وليمة أقامها له.
ولما أقبلت عائشة وطلحة والزبير ومن معهما إلى البصرة كان هو عامل علي عليه السلام عليها، وأدق الروايات في تفصيل الأحداث التي سبقت معركة الجمل هي ما رواه أبو مخنف، وعليه نعتمد في سرد تلك التفاصيل:
الناكثون على أبواب البصرة
لما وصل الناكثون إلى ضواحي البصرة عسكروا في الموضع المسمى بحفير أبي موسى الأشعري وكتبوا إلى عثمان بن حنيف إن أخل لنا دار الإمارة، فلما وصل الكتاب إلى ابن حنيف بعث إلى الأحنف بن قيس يستشيره فقال الأحنف: إنهم جاءوك بعائشة للطلب بدم عثمان، وهم الذين ألبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه، وأراهم والله لا يزايلوننا حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا، وأظنهم والله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة فإنك اليوم الوالي عليهم وأنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس وبادرهم قبل إن يكونوا معك في دار واحدة فتكون الناس لهم أطوع منهم لك.
فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيت، لكنني أكره الشر وإن أبدأهم به وأرجو العافية والسلامة إلى إن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به.
ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي، فاقرأه كتاب طلحة والزبير فقال له مثل قول الأحنف، وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف.
فقال له حكيم: فائذن لي حتى أسير إليهم بالناس، فان دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلا نابذتهم على سواء، فقال له عثمان: لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي، فقال حكيم: أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر لينقلن قلوب كثير من الناس إليهم وليزيلنك عن مجلسك هذا، وأنت أعلم. فأبى عليه عثمان.
علي يكتب إلى ابن حنيف
وكتب علي إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف.
أما بعد فان البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا وتوجهوا إلى مصرك وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا، فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فان أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين، وكتبت كتابي إليك هذا من الربذة وأنا معجل السير إليك إن شاء الله.
عثمان يفاوضهم
فلما وصل كتاب علي عليه السلام إلى عثمان أرسل إلى أبي الأسود الدئلي وعمران بن الحصين الخزاعي فأمرهما إن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم فانطلقا حتى أتيا حفير أبي موسى وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة فوعظاها وأذكراها وناشداها الله.
فقالت لهما ألقيا طلحة والزبير، فلقيا الزبير فكلماه، فقال لهما أنا جئنا للطلب بدم عثمان وندعو الناس إلى إن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم. فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم وأين هم، وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه وأعظمهم إغراء بدمه فأقيدوا من أنفسكم. وأما إعادة أمر الخلافة شورى، فكيف وقد بايعتم عليا طائعين غير مكرهين، وأنت يا أبا عبد الله، لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت أخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه وامتنعت من بيعة أبي بكر. فأين ذلك الفعل من هذا القول؟!
فقال لهما: إذهبا فالقيا طلحة، فقاما إلى طلحة فوجداه خشن الملمس شديد العريكة قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب. فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه، وقال له أبو الأسود:
يا ابن حنيف قد أتيت فانفر وأبرز لها مستلئما وشمر فقال ابن حنيف أي والحرمين لأفعلن، وامر مناديه فنادى في الناس: السلاح، السلاح، فاجتمعوا إليه وقال أبو الأسود:
الناكثون في البصرة
وأقبل القوم فلما انتهوا إلى المربد قام رجل من بني جشم فقال: أنا فلان الجشمي وقد أتاكم هؤلاء القوم، فان كانوا أتوكم من المكان الذي يا من فيه الطير والوحش وإن كانوا إنما أتوكم بطلب دم عثمان، فغيرنا ولي قتله فأطيعوني أيها الناس وردوهم من حيث أقبلوا فإنكم إن لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس والفتنة الصماء التي لا تبقي ولا تذر.
فحصبه ناس من أهل البصرة فامسك. واجتمع أهل البصرة إلى المربد حتى ملأوه مشاة وركبانا. فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكون ليخطب فسكتوا بعد جهد. فتكلم بكلام برر فيه قدومهم وأعلن إنهم قدموا للطلب بدم عثمان بن عفان واستنجد بالناس على هذا الأمر، وأعلن إنهم بعد الظفر يتركون أمر الخلافة شورى. وتبعه الزبير فتكلم بمثل كلامه.
فقام إليهما ناس من أهل البصرة، فقالوا لهما: ألم تبايعا عليا فيمن بايعه، ففيم بايعتما ثم نكثتما؟! فادعيا أنهما بايعا مكرهين. فقال ناس: قد صدقا وأحسنا القول، وقال ناس ما صدقا ولا أصابا في القول حتى ارتفعت الأصوات. ثم إن عائشة تكلمت بما لا يخرج عن مضمون كلام طلحة والزبير.
أهل البصرة يردون
فماج الناس واختلطوا فمن قائل إن القول ما قالت، ومن قائل يقول: وما هي وهذا الأمر، وارتفعت الأصوات حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصا. ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فريقين: فريق مع عثمان بن حنيف وفريق مع عائشة وأصحابها. وحدث الأشعث بن سوار: قال لما نزل طلحة والزبير المربد أتيتهما فوجدتهما مجتمعين، فقلت ناشدتكما الله وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما الذي أقدمكما أرضنا هذه؟ فلم يتكلما فأعدت عليهم، فقالا بلغنا إن بأرضكم هذه دنيا فجئنا نطلبها.
طلائع المعركة
لما أقبل طلحة والزبير من المربد يريدان عثمان بن حنيف وجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك فمضيا بمن معهما حتى انتهوا إلى موضع الدباغين فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم أصحاب عائشة بالرماح فحمل عليهم حكيم بن جبلة فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من السكك ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة فأخذوا إلى مقبرة مازن فوقفوا بها مليا حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الرابوقة ثم أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها.
مواجهة طلحة
وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه فقال لطلحة أيا أبا محمد أما هذه كتبك إلينا؟! قال: بلى، قال فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه!! فلعمري ما هذا رأيك، لا تريد إلا هذه الدنيا، مهلا إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة فبايعته طائعا ماضيا، ثم نكثت بيعتك، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك. فقال إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس، فعلمت لو لم اقبل ما عرضه علي لم يتح لي، ثم يغري بي من معه.
ابن حنيف يعظهما
وفي الصباح من غد صفا للحرب وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه فناشدهما الله والإسلام وأذكرهما بيعتهما لعلي فقالا لا نطلب بدم عثمان، فقال لهما، وما أنتما وذاك، أين بنوه، أي بنو عمه الذين هم أحق به منكم، كلا والله، ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له، وهل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما! فشتماه شتما قبيحا وذكرا أمه. فقال للزبير: أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله، فإنها أدنتك إلى الظل، وإن الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة يعني طلحة أعظم من القول لأعلمتكما من أمركما ما يسؤوكما. اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين.
الهدنة
واقتتل الناس قتالا شديدا، ثم تحاجزوا واصطلحوا على إن يكتب بينهم كتاب صلح فكتب:
هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما: إن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر. وإن لطلحة والزبير ومن معهما إن ينزلوا حيث شاؤوا من البصرة ولا يضار بعضهم بعضا في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة ولا مرفق حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فان أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة وإن أصبوا لحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة. وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة.
وختم الكتاب. ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة، وقال لأصحابه: إلحقوا رحمكم الله بأهلكم وضعوا سلاحكم وداووا جراحكم فمكثوا كذلك.
الغدر
ثم إن طلحة والزبير قالا: إن قدم علي ونحن على هذا الحال من القلة والضعف ليأخذن بأعناقنا، فاجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب. فأرسلا إلى وجوه الناس وأهل الرئاسة والترف يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان وخلع علي وإخراج ابن حنيف من البصرة فبايعهم على ذلك الأزد وضبة وقيس بن غيلان كلها إلا الرجل والرجلين من القبيلة كرهوا امرهم فتواروا عنهم. وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم فجاءه طلحة والزبير إلى داره فتوارى عنهما، فقالت له أمه: ما رأيت مثلك، أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما، فلم نزل حتى ظهر لهما وبايعهما ومعه بنو عمرو بن تميم كلهم وبنو حنظلة إلا بني يربوع فان عامتهم كانوا شيعة لعلي (عليه السلام). وبايعهم بنو دارم كلهم إلا نفرا من بني مجاشع ذوي دين وفضل.
فلما استوثق لطلحة والزبير امرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع وظاهروا فوقها بالثياب فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه، وأقيمت الصلاة، فتقدم عثمان ليصلي بهم فاخره أصحاب طلحة والزبير، وقدموا الزبير، فجاءت السيابجة وهم الشرط حرس بيت المال فاخرجوا الزبير وقدموا عثمان فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير وأخروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس إن تطلع. وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون أصحاب محمد وقد طلعت الشمس. وغلب الزبير فصلى بالناس فلما انصرف من صلاته، صاح بأصحابه إن يأخذوا عثمان بن حنيف، فأخذوه بعد إن تضارب هو ومروان بن الحاكم بسيفيهما.
فلما أسر ضربوه ضرب الموت ونتفوا حاجبيه وأشفار عينيه وكل شعرة في رأسه ووجهه. وأخذوا السيابجة وهم سبعون رجلا فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة.
فقالت عائشة لابان بن عثمان بن عفان: اخرج إليه فاضرب عنقه فان الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله. فنادى عثمان بن حنيف: يا عائشة ويا طلحة ويا زبير: إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقى أحد منكم. فكفوا عنه وخافوا إن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة فتركوه.
عائشة تأمر بالمذبحة
وأرسلت عائشة إلى الزبير إن اقتل السيابجة فإنه قد بلغني الذي صنعوه بك، قال: فذبحهم والله الزبير كما يذبح الغنم، ولي ذلك منهم ابنه عبد الله، وهم سبعون رجلا. وبقيت طائفة منهم مستمسكين ببيت المال، قالوا لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين. فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا.
قال أبو مخنف: فحدثنا الصقعب بن زهير قال: كانت السيابجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل. قال: فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام. وكان السيابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا.
ولما وصل عثمان بن حنيف إلى علي ورآه بكى وقال: فارقتك شيخا وجئتك امرد. فقال علي: أنا لله وأنا إليه راجعون، قالها ثلاثا.
عثمان يموت في الكوفة
وسكن عثمان بن حنيف الكوفة بعد وفاة علي عليه السلام ومات بها في زمن معاوية.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 8- ص: 139