أبو نواس الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن صباح الحكمى بالولاء، أبو نواس: شاعر العراق فى عصره. ولد فى الأهواز (من بلاد خوزستان) ونشأ بالبصرة، ورحل إلى بغداد فاتصل فيها بالخلفاء من بنى العباس، ومدح بعضهم، وخرج إلى دمشق، ومنها إلى مصر، فمدح أميرها الخصيب، وعاد إلى بغداد فأقام إلى أن توفى فيها. كان جده مولى للجراح بن عبد الله الحكمى، أمير خراسان، فنسب إليع. وفى تاريخ ابن عساكر أن أباه من أهل دمشق، من الجند، من رجال مروان بن محمد، انتقل إلى الألأهواز فتزوج امرأة من أهلها اسمها جلبان فولدت له ولدين أحدهما أبو نواس. قال الجاحظ: ما رأيت رجلا أعلم باللغة ولا أفصح لهجة من أبى نواس. وقال أبو عبيدة: كان أبو نواس للمحدثين كامرئ القيس للمتقدمين. وأنشد له النظام شعرا ثم قال: هذا الذى جمع له الكلام فاختار أحسنه. وقال كلثوم العتابى: لو أدرك أبو نواس الجاهلية ما فضل عليه أحد. وقال الإمام الشافعى: لولا مجون أبى نواس لأخذت عنه العلم. وحكى أبو نواس عن نفسه قال: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب. فما طنك بالرجال؟ وهو أول من نهج للشعر طريقته الحضرية وأخرجه من الهجة البدوية. وقد نظم في جميع أنواع الشعر، وأجود شعره خكرياته. له (ديوان شعر - ط) وديوان آخر سمى (الفكاهة والائتناس فى مجون أبى نواس - ط) منظور كتاب سماه (أخبار أبى نواس - ط) فى جزأين صغيرين، ولعبد الرحمن صدقى (ألحان الحان فى حياة أبى نواس - ط) ولعباس مصطفى عمار (أبو نواس - ط) ومثله لعمر فروخ. ولزكى المحاسنى (النواسى - ط) ولابن هفان عبد الله المهزمى (أخبار أبى نواس - ط). وفى تاريخى ولادته ووفاته خلاف، قيل فى ولادته 130و136و141و145و146 وقيل فى وفاته 195و196و198هـ
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 2- ص: 225
أبو نواس اسمه الحسن ابن هانئ ابن عبد الأول بن الصباح. وفي لسان الميزان الحسين بن هانئ بن جناح بن عبد الله بن الجراح.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 439
الحسن بن هانئ أبو علي الحكمي
المعروف بأبي نواس الشاعر المشهور
مولده ووفاته ومدة عمره
ولد بالأهواز سنة (145) أو (140) أو (141) أو (136) أو (148) أو (149) على اختلاف الأقوال بالقرب من الجبل المقطوع وقيل: بكورة من كورخوزستان ولا تنافي بينهما فالأهواز هي خوزستان. في معجم البلدان: الأهواز جمع هوز أصله حوز مصدر حان لأنه ليس في كلام الفرس حاء مهملة فإذا نطقوا بها جعلوها هاء وكان اسمها في أيام الفرس خوزستان. والجبل المقطوع لم أجد تفسيره وقيل: ولد بالبصرة والصحيح هو الأول. وتوفي ببغداد سنة (195) أو (196) أو (197) أو (198) أو (199) أو (200) وقال ابن منظور: قيل مات قبل دخول المأمون بغداد بثمان سنين (انتهى) والمأمون دخل بغداد سنة 202 فتكون وفاة أبي نواس سنة 194 وقال جامع ديوانه أنه توفي أخر سنة 199 أو أول سنة 200 ودفن في مقابر الشونيزية على شاطي فهو عيسى وعمره 59 سنة بناء على أن مولاه (136) ووفاته (195) وقيل: (52) سنة وقيل: (55) والله أعلم. وفي فهرست ابن النديم: توفي في الفتنة قبل قدوم المأمون من خراسان سنة 200 وقال ابن قتيبة سنة 199 (انتهى).
والفتنة بين الأمين والمأمون ابتدأت سنة 194 وانتهت سنة 198 فقوله أنه توفي سنة 200 وقول ابن قتيبة سنة 199 ينافي كونه توفي في الفتنة. ثم أنه سيأتي عند ذكر تشيعه عن العيون وغيره أن أبا نواس رأى الرضا خارجا من عند المأمون وصل والمأمون أرسل فأحضر الرضا من الحجاز إلى خراسان سنة 200 وبايع له بولاية العهد سنة 201 فإذا كان أبو نواس قد لقي الرضا ومدحه وهو مع المأمون كما تدل عليه روايات الصدوق وغيره الآتية لا بد أن يكون ذلك في خراسان بعد قتل الأمين فيكون قد ذهب إلى خراسان بعد قتل الأمين وانحاز إلى المأمون وإن لم يصرح بذلك أحد من المؤرخين سوى ما تقتضيه هذه الروايات وإذا كان أبو نواس قد مات ببغداد ودفن بالشونيزية فلا بد أن يكون عاد إليها مع المأمون ثم مات بها وإذا كان عود المأمون لبغداد سنة 202 يكون موت أبي نواس بعد هذا التاريخ وهو مناف لجميع الأقوال المتقدمة الناصة على أنه توفي في بغداد سنة 200 أو قبلها كما ينافيها ما دل على أن وفاته بعد رجوع المأمون إلى بغداد وما دل على مدحه الرضا لأنه لا بد أن يكون سنة 200 أو 201 ثم أن أبا نواس كان معروفا بالانحياز إلى الأمين وذكر المؤرخون أنه بقي معه إلى أن قتل سنة 198 فذهاب أبي نواس إلى المأمون لا بد أن يكون بعد هذا التاريخ وهو ينافي جميع الأقوال القائلة بأن وفاته قبل هذا التاريخ ويأتي عند الكلام على تشيعه قول ابن خلكان وفيه -أي في الرضا- يقول: وله ذكر في شذور العقود سنة إحدى أو إثتين ومائتين فإذا أراد أنه قال هذا الشعر بذلك التاريخ نافى أيضا ما قيل أن وفاته قبل هذا التاريخ ويأتي عند الكلام على الزيادة والنقيصة في شعره ما يدل على أنه بقي إلى زمان ربوع المأمون لبغداد وفاته لذلك ظاهرة فأقوال المؤرخين والرواة في وفاة أبي نواس وفي لقائه الرضا والمأمون ومجيء الرضا إلى خراسان فيها تناف ظاهر فلا بد إما من كون هذه الروايات غير صحيحة أو كون تلك الأقوال في تاريخ وفاته غير صحيحة. ولما كانت هذه الروايات قد رواها الثقات بأسانيدهم الصدوق وغيره تعين عدم صحة تلك التواريخ والله أعلم.
سبب وفاته
قيل في سبب وفاته أنه هجا بني نوبخت. عن ابن منظور في الجزء الثاني من كتابه (أخبار أبي نواس) الذي لا يزال مخطوطا أنهم داسوا بطنه حتى مات، قال: وحدث بعض بني نوبخت فقال: شنع علينا الناس في قتل أبي نواس وذلك باطل ولكن تحدثوا أن أبا نواس مازح علي ابن أبي سهل النوبختي ولم يكن يجري مجرى عبد الله بن سليمان النوبختي والعباس أخيه فقال أبو نواس:
أبو الحسين كنيته بحق | فإن صحفت قلت أبو الخشين |
فوثب عليه فهرب أبو نواس فلحقه علي فصرعه وبرك عليه فأخذ من تحته واعتد بعد ذلك علته التي مات فيها فعاده بنو نوبخت وتوفي بعد ثلاثة أيام من علته فبعثوا بأكفانه وقيل: إن إسماعيل ابن أبي سهل سمه لأنه كان قد هجاه وذكره بالقول الفاحش فلم يقتله السم إلا بعد أربعة أشهر (أقول) يشبه أن يكون هذا إلى الحدس منه إلى الحس وأوصى إلى زكريا العشاري ودفن بالتل المعروف بتل اليهودي على شاطئ نهر عيسى في مقابر الشونيزي.
نسبه
في تاريخ بغداد عن عبد الله ابن أبي سعد الوراق هو الحسن ابن هانئ بن صباح بن عبد الله بن الجراح بن هنب ابن دده ابن غنم بن سليم بن حكم بن سعد العشيرة بن مالك ابن عمرو بن الغوث بن طيء بن أدد بن شبيب بن عمر بن سبيع ابن الحارث بن زيد بن عدي بن عوف بن زيد بن هميع ابن عمر بن يشجب بن عريب بن ريد بن كهلان بن سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشد ابن سام بن نوح قال: وقيل هو الحسن بن هانئ بن الصباح مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان (انتهى) وقال ابن منظور في أخبار أبي نواس هو الحسن بن هانئ ابن عبد الأول بن الصباح بن الجراح بن عبد الله بن حماد ابن أفلح بن زيد بن هنب بن دده بن غنم بن سليمان ابن حكم بن سعد العشيرة ابن مالك (انتهى) وسعد العشيرة سمي بذلك لأنه لم يمت حتى ركب معه من ولده وولد ولده مائة رجل وفي تاريخ دمشق وهيب بدل هنب وهو تصحيف. وقال ابن خلكان أنه الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح وفي الشذرات قال ابن الفرات أبو نواس الحسن بن هانئ البصري مولى الحكم بن سعد العشيرة (انتهى) وفي لسان الميزان هو الحسن بن هانئ بن جناح بن عبد الله بن الجراح يكنى أبا علي الحكمي (انتهى) وكأن جناح تصحيف صباح. قال ابن خلكان روي أن الخصيب صاحب ديوان الخراج بمصر سأل أبا نواس عن نسبه فقال: أغناني أدبي عن نسبي فأمسك عنه.
القدح في نسبه
قال ابن منظور قال أبو عمرو: خرجت مع الأصمعي بالبصرة فمررنا بدار فقال: كان فيها طراز حائك وكان فيها إنسان فارسي تزوج امرأة فولدت غلاما ثم تعلم الصبي ابن الحائك القرآن ثم قال الشعر وخرج إلى بغداد وادعى اليمن وتولاهم فسألته عنه فقال: هو أبو نواس وإنما ادعى جاء وحكم في آخر أمره وهما قبيلتان من اليمن. وذكر أنه مولى لهم لأن منهم بالبصرة قوما فذكر أن جده مولى أولئك (انتهى). واستدل بعض لخلطه في دعوته بقوله للخصيب كما مر: أغناني أدبي عن نسبي ولا دليل فيه لجواز أن يريد الاختصار في الجواب. وقال ابن منظور أيضا كان أبو نواس دعيا يخلط في دعوته فمن ذلك قوله يهجو عرب البصرة:
ألا كل بصري يرى إنما العلى | مكمهة سحق لهن جرين |
فإن تغرسوا نخلا فإن غراسنا | ضراب وطعن في النحور سخين |
وإن أك بصريا فإن مهاجري | دمشق ولكن الحديث شجون |
مجاور قوم ليس بيني وبينهم | أواصر إلا دعوة وظنون |
إذا ما دعا العريف باسمي أجبته | إلى دعوة مما علي تهون |
ثم هجا اليمن في هذه القصيدة بقوله:
لازد عمان بالمهلب نزوة | إذا افتخر الأقوام ثم تلين |
وبكر ترى أن النبوة أنزلت | على مسمع في الرحم وهو جنين |
وقالت تميم لا نرى أن واحدا | كأحنفنا حتى الممات يكون |
فما لمت قيسا بعدها في قتيبة | وفخر به أن الفخار فنون |
وقال ابن منظور أن أبا نواس ادعى أولا أنه من ولد رجل من تيم اللات فقيل له أنه مات ولا ولد له فاستحيا وهرب ثم ادعى للنزارية وأنه من ولد الفرزدق ثم انقلب على النزارية وادعى اليمانية وأنه من جاء وحكم واعتذر إلى هاشم بن حديج الكندي من هجائه له ومدحه فقال:
أهاشم خذ مني وفاك وإن أبى | رضاك على نفسي فغير ملوم |
فأقسم ما جاورت بالشم والدي | وعرفي وما مزقت غير أديمي |
فعذت بحقوي هاشم فأعاذني | كريم أراه فوق كل كريم |
وإن امرأ اغضى على مثل زلتي | وإن جرحت فيه لجد حليم |
تطاول فوق الناس حتى كأنما | يرون به نجما أمام نجوم |
إذا امتازت الأحساب يوما بأهلها | أناخ إلى عادية وصميم |
إلى كل معصوب به التاج مقول | إليه أتاوى عامر وتميم |
نسبته
(الحكمي) بفتح الحاء المهملة والكاف وبعدها ميم قال ابن خلكان هذه النسبة إلى الحكم بن سعد العشيرة قبيلة كبيرة باليمن منها الجراح بن عبد الله الحكمي أمير خراسان كان جد أبي نواس مولى الجراح هذا ونسبته إليه (انتهى) وفي خزانة الأدب ومقتضى ما مر في نسبه أنه من ولد الحكم بن سعد العشيرة لا من مواليه فتكون نسبته إليه صلبية.
كنيته
يكنى أبا علي ولكن غلب عليه أبو نواس بضم النون وفتح الواو المخففة كغراب وفي شرح الشفا لعلي القاري: نواس بضم النون وفتح الهمزة ويبدل (انتهى) وقال ابن منظور هو بضم النون وتخفيف الواو ويروى بفتح النون وفتح الواو مخففة أيضا ولكنه ذكر في موضع آخر أن سفيان ابن عيينة كان يقول لقد أحسن بصريكم هذا أبو نواس وفتح النون وشدد الواو وقال ابن خلكان: إنما قيل له أبو نواس لذؤابتين كانتا له تنوسان على عاتقيه (انتهى) ومثله في خزانة الذهب وفيها أيضا والذؤابة بهمزة بعد الذال المضمومة الضفيرة من الشعر إذا كانت غير ملوية فإن كانت ملوية فهي عقيصة والذؤابة أيضا طرف العمامة وناس ينوس إذا تدلى وتحرك والعاتق ما بين المنكب والعنق وهو موضع الرداء. وقيل أن خلفا الأحمر كان له ولاء في اليمن وكان أميل الناس إلى أبي نواس فقال له يوما أنت من اليمن فتكن باسم ملك من ملوكهم الأذواء فاختار له أبا نواس فكناه أبا نواس بحذف صدره وغلبت عليه (انتهى) وقال بجامع ديوانه قال أبو الحسن الطوسي كان لخلف الأحمر ولاء في اليمن وكان من أميل خلق الله إلى أبي نواس وهو الذي كناه بهذه الكنية (انتهى) وفي معاهد التنصيص كان لخلف الأحمر ولاء في اليمن في الأشاعرة وكان عصبيا وكان من أميل خلق الله إلى أبي نواس وهو الذي كناه بهذه الكنية أنه قال له أنت من أهل اليمن فتكن باسم من أسامي الذوين ثم أحصى له أسماءهم وخيره فقال ذو جدين وذو كلال وذو يزن وذو كلاع وذو نواس فاختار ذا نواس فكناه أبا نواس فصارت له وغلبت على أبي علي كنيته الأولى (انتهى).
وقال ابن منظور: سئل عن كنيته ما أراد منها من كناه بها فقال نواس وجدن ويزن وكلال أسماء جبال لملوك حمير والجبل الذي لهم يقال له نواس قال وسئل مرة أخرى فقال سبب تكنيتي أن رجلا من جيراني دعا إخوانا له فأبطأ عليه واحد منهم فخرج من بابه يطلب من يبعثه إليه فوجدني ألعب مع صبيان وكان لي ذؤابة في وسط رأسي فصاح بي يا حسن امض إلى فلان جئني به فمضيت أعدو وذؤابتي تتحرك فلما جئت بالرجل قال لي أحسنت يا أبا نواس لتحرك ذوابتي فلزمتني هذه الكنيه قال وسئل مرة أخرى من كناك بأبي نواس فقال أنا كنيت نفسي بذلك لأني من قوم لا يشتهر فيهم إلا من كان اسمه فردا وكانت كنيته لسبعة فكنيت بأبي نواس (انتهى) وأراد بالسبعة الأذواء ملوك اليمن من قضاعة ذو يزن ذو رعين ذو قائش ذو جدن ذو نواس ذو أصبح ذو كلاع.
أبوه وأمه
قال غير واحد من المؤرخين: كان أبوه من أهل دمشق من جند مروان بن محمد (الملقب بالحمار) آخر ملوك بني أمية وأمه أهوازية تسمى جلبان (بجيم مضمومة ولام مشددة مفتوحة ومعناه وردة على غصن) وكان أبوه خرج من دمشق إلى الأهواز للمرابطة بها فرأى جلبان فتزوجها وأولدها عدة أولاد منهم أبو نواس وأبو معاذ واسمه أحمد وأخت لهما كانت عند فرج القصار قال ابن منظور: كان أبو معاذ مؤدب أولاد فرج الرخجي وكان عطلا من مذاهب أخيه أبي نواس لا يحسن شيئا إلا أنه يعيش بأنه أخ لأبي نواس (انتهى) وقال ابن منظور أيضا: كان أبوه كاتبا لمسعود المادراني على ديوان الخراج وقيل كان راعي غنم وكان اسمه هنى ولم يكن له ولد ولا خلف غير أبي نواس فلما كبر أبو نواس وأدب غير اسم أبيه من هنى إلى هانئ وقيل كان أبوه حائكا وقيل كان من جند مروان إلى آخر ما هو قال وقيل إن أمه يقال لها شحمة من قرية من قرى الأهواز تدعى بباب آذر وكانت تعمل الصوف وتنسج الجوارب والأخراج وكان أبوه قد رآها على شاطئ نهر من أنهار قرى الأهواز وهي تغسل الصوف وقيل كانت تصنع الخيزران (انتهى).
صفته
قال ابن منظور: كان أبو نواس حسن الوجه رقيق اللون أبيض حلو الشمائل ناعم الجسم وكان في رأسه سماجة وتسفيط (أي رأسه كالسفط) وكان ألثغ بالراء يجعلها غينا وكان نحيفا وفي حلقه بحة لا تفارقه (انتهى) وفي روضات الجنات عن بعض التواريخ كان حسن الوجه نحيف البدن في حلقه بحة دائمة وفي قامته قصر وفي رأسه سماجة وبسبب ذلك كان لا ينزع العمامة عن رأسه وكان نظيفا طريفا كثير المجون والخلاعة.
وقال وهو يصف نفسه:
في انقباض وحشمة فإذا | صادفت أهل الوفاء والكرم |
أرسلت نفسي على سجيتها | وقلت ما قلت غير محتشم |
أقوال العلماء فيه
كان أبو نواس متميزا في عدة علوم وكان غلب عليه الشعر فغطى على منزله في العلم وكثر في شعره المجون فدنى منزلته بين الناس وستعرف قول إسماعيل بن نوبخت ما رأيت قط أوسع علما من أبي نواس. كان أبو نواس لغويا نحويا اتخذ اللغة والنحو عن أبي زيد الأنصاري سعيد ابن أوس النحوي وعن أبي عبيدة عامر بن المثنى وأخذ النحو أيضا عن يونس بن حبيب النحوي بالبصرة وعن خلف الأحمر ونظر في نحو سيبويه قال وارتقت به همته فخرج إلى البادية فأقام بها سنة يتعلم اللغة والغريب وستعرف أنه كان ينتصف من تلاميذ يونس في النحو إذا جلس معهم في حلقته وأنه لولا المجون في شعره لاحتجوا به في كتبهم لأنه محكم القول لا يخطئ وأن الجاحظ ما رأى أعلم باللغة منه وكان مؤرخا أخذ التاريخ عن أبي عبيدة. وكان راويا للحديث رواه عن عدة من المشايخ كما يأتي عند تعداد مشايخه وذكر النجاشي في ترجمة فارس بن سليمان الأرجاني أنه صنف كتاب مسند أبي نواس. وروى عنه الحديث وغيره جماعة يأتي ذكرهم عند ذكر تلاميذه. وكان قارئا للقرآن مجيدا حتى شهد له شيخه يعقوب الحضرمي أنه أقرأ أهل البصرة كما ستعرف ونظر في علم الكلام وكان متكلما جدلا كما يأتي. وكان شاعرا مقدما اتفق الكل على تقديمه وناهيك في تقدمه في الشعر ومعرفته الغريب أن الرشيد لما اختار الكسائي ليعلم الأمين النحو اختار معه أبو نواس لينشد الأمين الشعر النادر ويحدثه الغريب كما سيأتي عند الكلام على أخباره مع الأمين. ويكفيك في الدلالة على مكانته بين العلماء أن جماعة منهم أفردوا أخباره ومسنده بالتأليف أمثال ابن الداية وأبي هفان وابن الرشا وابن عمار وآل المنجم والسميساطي، وأن كتاب السميساطي في فضله والرد على الطاعن في شعره كما يأتي عند الكلام على شعره. وممن أفرد أخباره بالتصنيف عبد العزيز بن يحيى الجلودي ذكر النجاشي أن له كتاب أخبار أبي نواس وممن أفرد أخباره بالتصنيف أيضا أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عماد الثقفي الكاتب ذكره ابن النديم ومنهم ابن منظور صاحب لسان العرب له أخبار أبي نواس مطبوع وفات المعاصر ذكره في مؤلفات الشيعة فإن ابن منظور شيعي. ويأتي أن فارس بن سليمان صنف سند أبي نواس. وعده ابن شهراشوب في المعالم من شعراء أهل البيت المقتصدين من أصحاب الأئمة عليهم السلام. وفي التعليقة: كان في زمن الرضا عليه السلام ومدحه كثيرا وربما يظهر من مدائحه حسن عقيدته ويظهر ذمه مما يأتي في سهل بن يعقوب الملقب بأبي نواس أيضا حيث قال الهادي عليه السلام لسهل بن يعقوب: أنت أبو نواس الحق من تقدمك أبو نواس الغي والباطل (انتهى) ولكن هذا الذم الظاهر رجوعه إلى تعاطيه المجون وهجاء الناصر وغير ذلك لا إلى عقيدته وذكره المرزباني في النبذة المختارة من كتاب تلخيص أخبار شعراء الشيعة التي ذكر فيها ثمانية وعشرين شاعرا وذكر أبا نواس الخامس والعشرين منهم: أبو نواس الحسن بن هانئ أما في فضله وشعره فمشهور وأما في مذهبه فكان شيعيا إماميا حسن العقيدة وهو القائل في علي بن موسى الرضا عليه السلام وقد عوتب في ترك مدحه:
قيل لي أنت أوحد الناس طرا | في روي تأتي به وبديه |
فلماذا تركت مدح ابن موسى | والخصال التي تجمعن فيه |
قلت لا أهتدي لمدح إمام | كان جبريل خادما لأبيه |
وفي تاريخ بغداد ولد بالأهواز ونشأ بالبصرة واختلف في طلب الحديث فسمع من جماعة وقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي واختلف إلى أبي زيد النحوي فكتب عنه الغريب والألفاظ وحفظ عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أيام الناس ونظر في نحو سيبويه وانتقل إلى بغداد فسكنها إلى حين وفاته. وقال ابن خلكان قال إسماعيل بن نوبخت ما رأيت قط أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلة كتبه ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطرا فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو لا غير. وشهد له الجاحظ بأنه أعلم الناس باللغة وأفصحهم لهجة وأحلاهم عبارة وأبعدهم عن الاستكراه في ألفاظه وفي تاريخ بغداد بإسناد جل رجاله من أئمة الأدب وعظمائهم قال أخبرني الحسن بن علي الصيمري حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المزرباني حدثني الحكيمي حدثني ميمون بن هارون الكاتب عن أبي عثمان الجاحظ قال ما رأيت أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة للاستكراه وزاد في نزهة الألباء وقال الشعر وكان يستشهد بشعره "انتهى". والمراد الاستشهاد به في غير إثبات اللغة وأحكام النحو لأنهم لحنوه في قوله: (صغرى وكبرى) وقال أيضا كما ستعرف عند الكلام على تقديمه على الشعراء لا أعرف من كلام الشعراء كلاما هو أوقع ولا أحسن من كلام أبي نواس في أبيات له. وفي شذرات الذهب في حوادث سنة 196 فيها توفي أبو نواس الحسن بن هانئ الحكمي الأديب شاعر العراق قال ابن الأهدل كان أبوه من جند مروان الصغير الأموي فتزوج امرأة من الأهواز فولدت أبا نواس فلما ترعرع أصحبته أبا أسامة الشاعر فنشأ على يديه وقدم به بغداد فبرع في الشعر وعداده في الطبقة الأولى من المولدين وشعره عشرة أنواع وقد اعتنى بشعره جماعة فجمعوه ولهذا يوجد ديوانه مختلفا وأثنى عليه ابن عيينة وعلماء عصره بالفصاحة والبلاغة وله نوادر حسان رائقة واقترح عليه الرشيد مرات أن ينظم له على قضايا خفية يعرفها في داره ونسائه فيأتي على البديهة بما لو حضرها وعاينها لم يزد على ذلك (انتهى كلام ابن الأهدل) قال صاحب الشذرات والحسن أحد المطبوعين وكان كثير المجون (انتهى) والأمور التي ذكر أن الرشيد اقترح عليه أن ينظم فيها ذكرها صاحب مرآة الجنان وغيره وهي أمور غرامية مجونية لا يليق ذكرها مع الظن بأنه لا حقيقة لها وإنما هي موضوعة مخترعة اخترعها أصحابها ونسبوها إلى أبي نواس والله العالم. وفي تاريخ دمشق قال ابن يونس الحسن ابن هانئ الشاعر بصري سكن بغداد وقدم مصر على الخصيب أمير مصر وحمل عنه ديوانه جماعة من أهل مصر. وفيه قال الجماز كان أبو نواس يجلس معنا في حلقة يونس فينتصف منا في النحو. وفيه كان أبوه من أهل دمشق من الجند من رجال مروان بن محمد فصار إلى الأهواز فتزوج امرأة من أهلها يقال لها جلبان فولدت له أبا نواس وأخاه أبا معاذ ثم صار أبو نواس إلى البصرة فتأدب في مسجدها ولزم خلفا الأحمر وصحب يونس بن حبيب الجرمي النحوي (انتهى) وفي خزانة الأدب: أبو نواس هو أبو علي الحسن ابن هانئ عبد الأول بن الصباح الحكمي مولده بالبصرة سنة 145 وقيل سنة 136 وقيل ولد بالأهواز وقيل بكورة من كور خوزستان سنة 141 ومات ببغداد سنة 195 وقيل سنة 196 وقيل سنة 198 ونقل إلى البصرة وعمره سنتان ونشأ بالبصرة ثم خرج إلى الكوفة وقدم بغداد مع والبة بن الحباب الشاعر وبه تخرج وعرض القرآن على يعقوب الحضرمي وأخذ اللغة عن أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة ومدح الخلفاء والوزراء وشعره عشرة أنواع وهو مجيد في الكل وقال أبو عمرو الشيباني لولا أن أبا نواس أفسد شعره بهذه الأقذار -يعني الخمور- وفي رواية لولا ما أخذ فيه من الآرفاث لاحتججنا به (في كتبنا) لأنه كان محكم القول لا يخطئ (انتهى) وهذا محمول على نوع من المبالغة لأن أبا نواس ليس ممن يحتج بشعره فقد لحنه النحويون في قوله:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها | حصباء در على أرض من الذهب |
قالوا لأن صغرى وكبرى مؤنث أصغر وأكبر وأفعل التفضيل لا يستعمل إلا مضافا أو معه آل أو بعده من جارة للمفضول إلا أن يراد الاستشهاد به في غير ذلك. وفي معاهد التنصيص قيل أنه ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة مع والبة بن الحباب ثم صار إلى بغداد وقيل أنه ولد بالأهواز وقيل ولد بكورة من كور خوزستان ونقل إلى البصرة فنشأ بها ثم انتقل إلى بغداد وقد زاد سنه على الثلاثين ولم يلحق بها أحدا من الخلفاء قبل الرشيد وقال الأصمعي ما أروي لأحد من أهل هذا الزمان ما أرويه لأبي نواس. وذكره الذهبي في ميزانه فقال أبو نواس الشاعر المفلق اسمه الحسن بن هانئ شعره في الذروة ولكن فسقه ظاهر وتهتكه واضح فليس بأهل أن يروى عنه له رواية عن حماد بن سلمة وغيره توفي سنة نيف وتسعين ومائة "انتهى" أقول نعم أن أبا نواس لا ينبغي أن تقبل روايته لظهور ما ينافي العدالة منه وأقله هجاء المؤمنين ولكن الذهبي الذي يقبل هو وشيوخه رواية المغيرة بن شعبة الذي شهد عليه ثلاثة بالزنا حسبة لله ولم يصرح الرابع التصريح التام لما لمح له إلى ذلك فحد الثلاثة، ويقبل رواية الوليد بن عقبة شارب الخمر والمصلي الصبح بأهل الكوفة وهو سكران ومروان بن الحكم وبسر ابن أرطأة لكونهم قيل عنهم أنهم صحابة وجميعهم عدول وعمر بن سعد قاتل الحسين وعمران بن حطان مادح عبد الرحمن بن ملجم وأضرابهم لا ينبغي له أن يتوقف في رواية أبي نواس. وفي لسان الميزان أرخ ابن الجوزي وفاته سنة 195 وقيل عاش إلى رأس المائتين وقيل قبلها بسنة أو سنتين وهو الحسن بن هانئ بن صباح بن عبد الله بن الجراح يكنى أبا علي الحكمي ولد بالأهواز ونشأ بالبصرة وتأدب بأبي زيد وأبي عبيدة وتلمذ لوالبة بن الحباب وكان شيخه أبو عبيدة يقول هو للمستحدثين كامرئ القيس للمتقدمين واشتهر بالتقدم في وصف الخمر حتى كان لا يوجد لأحد من أهل عصره شيء في وصفه الخمر إلا نسب لأبي نواس وأكثر من النظم في المجون ولا سيما في الغلمان ويصرح بالفاحشة وزعم ابن المعتمر أنه لم يقع منه ذلك مع اشتهاره بالفسق وقال ابن الجوزي غلب عليه اللهو فلا أحبه أن أذكر شيئا من أفعاله المذمومة لأنه ذكر عنه التوبة في آخر عمره ويقال أنه عاش ستين سنة إلا سنة "انتهى" وفي فهرست ابن النديم: أبو نواس ويستغنى بشهرته عن استقصاء نسبه وخبره "انتهى". وعن كتاب تلخيص الآثار أنه قال عند ذكر بغداد ومنها أبو نواس الحسن بن هانئ الشاعر المفلق كان نديما لمحمد بن زبيدة "انتهى". وقال ابن منظور حدث جماعة من الرواة ممن شاهد أبا نواس قالوا كان أقل ما في أبي نواس قول الشعر وكان فحلا راوية عالما "انتهى" ولم يذكره صاحب الأغاني إلا عرضا فقال: أخبار أبي نواس وجنان خاصة إذ كانت أخباره قد أفردت وفي نسخة قد ذكرت مقدما. قال محمد بن مكرم المعروف بابن منظور الأنصاري صاحب لسان العرب في كتابه أخبار أبي نواس لم أجد لأبي نواس ترجمة مفردة في نسخ الأغاني التي وقفت عليها وما أدري هل أغفل أبو الفرج ذكره من كتابه أم أسقطت ترجمته من كتابه فمن ذكر على أن أبا الفرج ليس ممن يجهل قدر أبي نواس في فضله ونبله وجده وهزله وسائر فنونه من صدقه ومجونه وأنه لطراز الكتب بل علم أهل الأدب "انتهى". وقال ابن منظور أيضا عن الجاحظ: أنه لما كبر تأدب وصحب أهل المسجد والمجان واشتهر بالكلام فقعد إلى أصحابه فتعلم منهم شيئا من الكلام ثم دعاه ذلك إلى الزندقة ثم مجن في شعره وشخص إلى مدينة السلام فأقام بها وعاشر الملوك فحط منه مجونه ووصفه خبث لسانه وكثرة شغبه وعبثه قال وكان ينادم ولد المهدي ويلازمهم فلم يلف مع أحد من الناس غيرهم ثم نادم القاسم بن الرشيد وألقي منه أشياء كرهها وكرهت له ففارقه ثم جلس أبو نواس إلى الناشئ الراوية وقرأ عليه شعر ذي الرمة فأقبل الناشئ على أبيه هانئ وقال له أن عاش ابنك هذا وقال الشعر ليقولنه بلسان مشقوق "انتهى" وقوله ثم دعاه ذلك إلى الزندقة غير صواب فسيأتي أن شعره صريح في صحة اعتقاده وقوله أن الناشئ أقبل على أبيه ينافي ما استظهرناه سابقا من أن أباه كان قد توفي وهو صغير وقال ابن منظور في أخبار أبي نواس: كان أبو نواس متكلما جدلا راوية فحلا رقيق ثاقب الفهم في الكلام اللطيف ويدل على معرفته بالكلام قوله وذكر الأبيات الآتية عند ذكر أتباعه طرائق جديدة في الشعر. واعلم أنه قد وقع لصاحب رياض العلماء سهو في ترجمة أبي نواس فإنه نسب إلى تاريخ ابن خلكان في موضعين أن فيه أن أبا نواس أخذ الأدب عن أبي عمرو الزاهد وتوفي سنة 355 ثم استشكل ذلك بأن أبا نواس كان في زمن الرشيد والمأمون فكيف يبقى إلى هذا العصر والذي قال عنه ابن خلكان أنه أخذ الأدب عن أبي مرد الزاهد هو توزون جامع ديوان أبي نواس وهو الذي قال عنه أنه توفي سنة 355 لا أبو نواس ذكر ذلك في آخر ترجمة أبي نواس فيظهر أن نسخته من تاريخ ابن خلكان كانت ناقصة.
مبدأ أمره
قد عرفت قول الخطيب وغيره أنه ولد بالأهواز ونشأ بالبصرة وقال ابن خلكان ذكر محمد بن داود كتاب الورقة أن أبا نواس ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة مع والبة بن الحباب ثم صار إلى بغداد وقال غير أنه ولد بالأهواز ونقل منها وعمره سنتان وقال ابن منظور نقلت أبا نواس أمه إلى البصرة وهو ابن ست سنين قال ابن خلكان أن أبا نواس أسلمته أمه إلى بعض العطارين وحكى ابن منظور عن الجاحظ أنه لما شب أسلمته أمه إلى براء يبري عود البخور "انتهى" ولا منافاة بينهما لأن البخور من أنوع الطيب.
اتصاله بوالبة بن الحباب
قال ابن خلكان أن أبا نواس لما أسلمته أمه إلى بعض العطارين رآه أبو أسامة والبة بن الحباب فقال إني أرى فيك مخايل أرى أن لا تضيعها وستقول الشعر فأصحبني أخرجك فقال له ومن أنت فقال أنا أبو أسامة والبة بن الحباب فقال: نعم أنا والله في طلبك ولقد أردت الخروج إلى الكوفة بسببك لآخذ عنك وأسمع منك شعرك فصار أبو نواس معه فقدم به بغداد فكان أول ما قاله من الشعر وهو صبي:
حامل الهوى تعب | يستخفه الطرب |
إن بكى يحق له | ليس ما به لعب |
تضحكين لاهية | والمحب ينتحب |
تعجبين من سقمي | صحتي هي العجب |
(انتهى) قال ابن منظور: كان ابتداء صلة أبي نواس بوالبة بن الحباب الأسدي أن والبة جاء من الأهواز إلى البصرة إلى سوق العطارين يشتري حوائج وبخورا فاشترى معه عودا هنديا وكان أبو نواس وهو غلام يبري العود فاحتاج إليه في بري ذلك العود وتنقيته فحمله والبة إلى الأهواز وقدم به الكوفة فشاهد منه أدباؤها أدبا جما قال وقيل في اجتماعه بوالبة غير ذلك وهو أن النجاشي (أبا بجير) الأسدي والي الأهواز للمنصور أحتاج إلى عطر يعمل له فلم يجد في الأهواز من يعمله فبعث إلى البصرة فحمل عطارين فيهم أستاذ أبي نواس وأبو نواس معه فكانوا يعملون في داره وقدم عليه والبة بن الحباب الأسدي الشاعر وهو ابن عمه فرأى أبا نواس فأصحب بظرفه فقال له إني أرى فيك مخايل فلاح وأرى لك أن لا تضيعها وستقول الشعر وتعلو فيه فأصحبني حتى أخرجك فقال له ومن أنت قال أبو أسامة قال والبة قال نعم قال أنا والله -جعلت فداك- في طلبك وقد أردت الخروج إلى الكوفة وإلى بغداد من أجلك فمضى معه "انتهى" ثم فارقه ورجع إلى البصرة قال ابن منظور: لما رجع أبو نواس من الكوفة إلى البصرة وفارق والبة قيل له أرغبت عن والبة ومللت الكوفة فقال هي أجدى وأطيب من أن تمل ووالبة ممن لا يرغب عنه ولكني نزحت إلى الأوطان واشتقت إلى الأخوان "انتهى" ثم ذهب إلى بغداد وبعض المؤرخين يقول أنه ذهب إلى بغداد مع والبة ولم تعلم مدة بقائه في البصرة ثانيا بعد عوده إليها من الكوفة ولكن من المحقق أن وجوده عند العطار كان في زمن طفولته ويظهر أن ذهابه مع والبة كان بعد ما ترعرع شيئا ما وأن بقاءه في البصرة ثانيا كان مدة طويلة طلب فيها العلم والأدب وروى الحديث يدل على ذلك أن مشايخه الذين أخذ عنهم كانوا من أهل البصرة أمثال أبي عبيدة وخلف الأحمر وحماد ابن مسلمة ويونس وأبي زيد الأنصاري وغيرهم وهؤلاء كلهم بصريون وقد مر قول صاحب المعاهد أن ذهابه إلى بغداد كان بعدما زاد سنه على الثلاثين ومر أن عمره يوم ذهابه إلى البصرة أولا كان سنتين أو ست سنين فإلى أن تجاوز الثلاثين يكون قد قضى بعض هذه المدة في البصرة وهو أكثرها حتى تمكن من أخذ ما أخذه فيها عن العلماء وبعضها في الكوفة ومن ذلك يعرف قصور عبارة ابن خلكان عند بيان أول أمره. ويظهر أن أبا نواس وهو عند العطار كان مائلا إلى غير تلك الصناعة ويطلب الشعراء والأدباء ويسأل عنهم ويتعرف أحوالهم ويخالط العلماء والأدباء بالبصرة ويستفيد منهم ما تسمح به حاله في ذلك الوقت بدليل قوله لوالبة لما أخبره باسمه أنا والله في طلبك ولقد أردت الخروج إلى الكوفة بسببك آخذ عنك وأسمع منك شعرك كما مر وأنه إنما تعاطى تلك الصنعة في صغر سنه فلما ترعرع ونما إدراكه عافها وسمت نفسه إلى ما هو أعلى منها وقال ابن منظور: نشأ أبو نواس بالبصرة وقرأ القرآن على يعقوب الحمم فلما حذق القرآن رمى إليه يعقوب بخاتمه وقال له إذهب فأنت أقرأ أهل البصرة "انتهى".
خروجه إلى البادية وأخذه عن العرب
قال ابن منظور ثم سأله والبة أن يخرج إلى البادية مع وفد بني أسد ليتعلم العربية والغريب فأخرجه مع قوم فأقام بالبادية سنة ثم قدم ففارق والبة ورجع إلى بغداد "انتهى" والظاهر أن خروجه إلى البادية كان من الكوفة بدليل سؤاله ذلك من والبة لكن قوله ففارق والبة ورجع إلى بغداد يظهر منه أن خروجه إلى البادية كان من بغداد ثم رجع إليها ولعل والبة كان في بغداد فسأله ذلك ويظهر من مجموع ما مر أن أبا نواس ربي يتيما لما مات أبوه بالأهواز فانتقلت به أمه إلى البصرة وعمره سنتان أو ست سنين ومن هنا وقع التوهم بأنه ولد بالبصرة فنشأ وترعرع بالبصرة فأسلمته أمه إلى عطار بالبصرة وهذا هو الدليل على موت أبيه فإنه لو كان حيا لم تسلمه أمه إلى العطار بل كان أبوه هو الذي يسلمه وهذا يدل على أن أباه كان فقيرا لم يخلف ثروة وما هي ثروة جندي يهاجر من وطنه بدمشق إلى الأهواز فيرابط بها لا سيما إن كان أصله راعيا أو حائكا وأمه فقيرة خاملة تغزل الصوف وتنسجه جوارب وأخراجا وإلا لم تتزوج بجندي غريب فقير ولكن أبا نواس بفضل فطنته وذكائه وطلبه العلوم وجده في طلبها وروايته الحديث وأخذه عن العلماء من مشاهير علماء البصرة وغيرها ومعاناته اللغة والأدب والشعر وعلو همته بخروجه إلى البادية وإقامته بها سنة يتعلم اللغة هذا وهو يتيم فقير لا مربي له ولا مرشد انتقل من أجير عطار إلى تلميذ علماء وأدباء وشعراء ثم إلى أستاذ علماء نبلاء ثم انتقل إلى معاشرة الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء أمثال الرشيد والأمين والبرامكة والخصيب والي مصر وغيرهم فيمدحهم ويأخذ جوائزهم وينال الحظوة عندهم ويتقدم على شعراء عصره ويكون نديم الأمين طول خلافته كما في العمدة. أن رجلا كهذا لهو الرجل العصامي الفذ. وهكذا العلم والفضل يرفع الوضيع والجهل يضع الرفيع.
شاعريته
أبو نواس في طليعة الشعراء المحدثين بل هو مقدم على جميعهم بشهادة جماعات من أكابر العلماء والأدباء وفحول الشعراء ونقده الشعر بل تجاوز بعضهم فجعله أشعر الناس وهو أكثر المحدثين تفننا وأبدعهم خيالا مع وقفة لفظ وبديع معنى وهو شاعر مطبوع برز في كل فن من فنون الشعر وامتاز عن كل الشعراء بخمرياته وما ضارعها من مجونياته ومن تأمل شعره ونظر ما فيه من الرقة والانسجام وعرف تصرفه في شتى المعاني وصياغته العجيبة وابتكاره المعاني الغريبة وما في شعره من السهولة والامتناع والأخذ بمجامع القلوب والتأثير في النفوس وغير ذلك من الأمور التي هي جماع محاسن الشعر عرف أن تقديمه على جميع المحدثين ليس بحائد عن الصواب وأنت ترى في شعره السهولة والانسجام والعذوبة والرقة وعدم التكلف ملموسة محسوسة فهو يلقيه عفوا ويفيض به طبعه فيضا وهذا لا تكاد تراه لشاعر غيره إلا القليل أما هو فتغلب على شعره هذه الصفات حتى لا تكاد تفارقه وناهيك بمن لم يقل الشعر حتى روى لستين امرأة من مشاهير شاعرات العرب أمثال الخنساء وليلى وروى سبعمائة أرجوزة ما تعرف فضلا عن المعروف وحفظ ألف مقطوع للعرب. قال ابن منظور: كان أبو نواس يقول ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنك بالرجال وإني لأروي سبعمائة أرجوزة ما تعرف "انتهى". وفي تاريخ بغداد عن إسحاق بن إسماعيل قال أبو نواس ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى فما ظنك بالرجال "انتهى". وقال ابن منظور: كان استأذن خلفا الأحمر في نظم الشعر فقال لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة فغاب عنه مدة وحضر إليه فقال قد حفظتها فقال أنشدها فأنشده أكثرها في عدة أيام ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر فقال له لا آذن لك إلا أن تنسى هذه الألف كأنك لم تحفظها فقال له هذا أمر يصعب علي فإني قد اتقنت حفظها فقال له لا آذن لك إلا أن تنساها فذهب إلى بعض الديرة وخلا بنفسه وأقام مدة حتى نسيها ثم حضر فقال نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط فقال له الآن انظم الشعر "انتهى" هكذا وردت هذه القصة وفيها نظر وتأمل فالنسيان ليس أمرا اختياريا وإن وقع فلا يكون إلا بطول المدة لبعض ما حفظه لا لكله وما حفظ في الصغر لا ينسى ولو طالت المدة وأبو نواس لما حفظها كان صغيرا. ثم أن الحفظ والنسيان وإن أمكن أن يكو ن له فائدة وهو مرور المعاني على الذهن فيأتي بمثلها وبنسيان ألفاظا يأتي بألفاظ غيرها فيكون أبعد عن النسبة إلى السرقة إلا أن الحفظ مع عدم النسيان ربما يكون أنفع في القدرة على نسب الشعر. وحسبك من مكانته في الشعر أن يتصدى جماعة من أئمة العلم والأدب لجمع شعره أمثال أبي بكر الصولي وعلي ابن حمزة وحمزة بن الحسن الأصبهاني وتوزون الطبري الذي لم يؤلف مؤلفا غير جمع ديوانه وابن السكيت وأبي سعيد السكري بعدما جمعه راويته يحيى بن الفضل وجمع جماعة منهم المختار من شعره أمثال ابن الداية وأبي هفان وابن الوشا وابن عمار وآل المنجم والسميساطي كما يأتي عند الكلام على شعره وكما اعتنى العلماء بجمع شعره اعتنوا بشرحه وتفسيره فقد ذكروا أن أبا الفتح عثمان بن جني أحد أئمة العربية المتوفي سنة 392 فسر أرجوزة أبي نواس وشعار ولعل المراد بها أراجيزه في الطرد فإن له فيه تسعا وعشرين أرجوزة صغارا فيها نعت الكلب والفهد والبازي والزرق والصقر والفرس والديك وحمام يعفور وليث عفرين وهي موجودة في ديوانه وقد بلغ من شغف الناس بشعره أن يعد صاحب خزانة الأدب من نعم الله عليه وجود ديوان أبي نواس عنده كما يأتي عند الكلام على شعره وفيما سنورده من نماذج أشعاره شهادة صادقة بما قلناه.
تقديمه على شعراء عصره
كفي أبا نواس منزلة سامية في الشعر تقديمه على جميع شعراء عصره وفيه من فحول الشعراء المجلين في حلبة الشعر ما لا يحصى كثرة ولا يبارى إجادة كيف لا وهو عصر الرشيد وابنيه الأمين والمأمون الذي راج فيه سوق الشعر والأدب رواجا لم يماثله فيه عصر فقد اتسعت فيه المملكة الإسلامية ودان لها الشرق والغرب ودرت الدنيا بأخلافها على الخلفاء فكانوا يغدقون العطايا على الشعراء ويجيزونهم بأسنى الجوائز ويصرفون قسما وافرا من بيوت الأموال على ويعرفون قدر الشعر حق معرفته ويخطبون مدائح الشعراء ويترنحون لها ويقيمون لها وزنها تفتح اللهى". فممن قدمه على جميع الشعراء المحدثين ابن السكيت ومكانه الرفيع بين أهل الأدب لا ينكر. في تاريخ بغداد: قال ميمون بن هارون الكاتب سألت يعقوب بن السكيت عما يختار لي روايته من أشعار الشعراء فقال: إذا رويت الجاهليين لامرئ القيس والأعشى ومن الإسلاميين لجرير والفرزدق ومن المحدثين لأبي نواس فحسبك (انتهى) فقد قرنه بامرئ القيس والأعشى من الجاهليين وبجرير والفرزدق من الإسلاميين ولم يقرنه بأحد من المحدثين بل جعله متوحدا متفردا فيهم وحسبك بهذا الذي قاله ابن السكيت مدحا وتقديما وممن قدمه على جميع الشعراء شيخه أبو عبيدة معمر بن المثنى -ومنزلته بين أهل العلم واللغة والأدب معروفة- روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده عن أبي عبيدة أنه قال: كان أبو نواس للمحدثين مثل امرئ القيس للمتقدمين وقال ابن منظور قال أبو عبيدة: أبو نواس في المحدثين مثل امرئ القيس في المتقدمين فتح لهم باب هذه الفطن ودلهم على هذه المعاني وأرشدهم إلى طريق الأدب والتصرف في فنونه. قال: وكان أبو عبيدة يقول: ذهبت اليمن بجيد الشعر في قديمه وحديثه امرؤ القيس في الأوائل وحسان بن ثابت وأبو نواس "انتهى" فقرنه بامرئ القيس المقدم على جميع الشعراء وقدمه على جميع المحدثين. وروى جامع ديوانه أنه سئل أبو عبيدة عن أشعر من أدرك فقال بشار وأبو نواس. وسئل فقيل له قد أكثر الناس في أبي نواس فقال: والله لولا تهتكه لفضح جميع الشعراء "انتهى" وقال ابن منظور كان أبو عبيدة يقول: يعجبني من شعر أبي نواس قوله:
بنينا على كسرى سماء مدامة | مكللة حافاتها بنجوم |
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه | إذن لاصطفاني دون كل نديم |
وما ظنك بمن يحسده بشار على قصيدة من شعر وهل يكون الحسد إلا على شيء لا يكون للحاسد مثله قال ابن منظور حدث يحيى بن الجون راوية بشار قال: جاء أبو نواس إلى بشار فأنشده قصيدته اللامية التي يصف فيها النخل فاستحسنها فلما خرج قال بشار: لقد حسدت هذا الغلام على هذا "انتهى". وقرنه أبو الحسن الطوسي بامرئ القيس وحسان قال: جامع ديوان قال أبو الحسن الطوسي: شعراء اليمن ثلاثة امرؤ القيس وحسان وأبو نواس. وحكى ابن خلكان عن إسماعيل بن نوبخت أنه قال هو في الطبقة الأولى من المولدين وقال جامع ديوانه: ما زال العلماء والأشراف يروون شعر أبي نواس ويتفكهون به ويفضلونه على أشعار القدماء وبذلك جاءت الروايات عنهم وكثرت "انتهى" وممن شهد بتقديمه ابن خالويه النحوي قال ابن منظور في أخبار أبي نواس وقد ذكر عنه ابن خالويه من تقريظه ما لم يقله أحد في حق أحد حتى أنه قال في شرحه لأرجوزته التي أولها (وبلدة فيها زور) لولا ما غلب عليه من الهزل لاستشهد بكلامه في كتاب الله تعالى "انتهى" وشهد له سفيان بن عيينة وهو من الفقهاء والمحدثين بأنه أشعر الناس.
روى الخطيب بسنده عن يعقوب بن داود قال: كنا عند سفيان بن عيينة فجاءه ابن مناذر فحدث وأنشد فقال له سفيان: يا أبا عبد الله ظريفكم هذا أشعر الناس قال: كأنك عنيت أبا نواس قال: نعم قال: يا أبا محمد فيم استشعرته قال في شعره في هذه القصيدة:
يا قمرا أبصرت في مأتم | يندب شجوا بين أتراب |
والأبيات الآتية قال ابن منظور كان سفيان بن عيينة يقول: لقد أحسن بصريكم هذا أبو نواس حيث يقول: (يا قمرا أبرزه مأتم) "البيت" والذي بعده ويتعجب من قوله ويلطم الورد بعناب قال: وحدث الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع قال: أنشد سفيان بن عيينة قول أبي نواس:
يبكي فيذري الطل من نرجس | ويلطم الورد بعناب |
فتعجبت منه ثم قال: بعد أن أطرق ساعة آمنت بالذي خلقه "انتهى". قال الثعالبي في خاص الخاص وإذا أعجب به سفيان مع زهده وورعه فما الظن بغيره وروى الخطيب بسنده عن محمد بن مسعر قال: كنا عند سفيان بن عيينة فتذاكروا شعر أبي نواس فقال ابن عيينة: أنشدوني شعره فأنشدوه:
ما هوى إلا له سبب | يبتدي منه وينشعب |
فتنت قلبي محببة | وجهها بالحسن منتقب |
تركت والحسن تأخذه | تنتقي منه وتنتخب |
فاكتست منه طرائفه | واستزادت بعض ما تهب |
فقال ابن عيينة: آمنت بالذي خلقها وشهد له كلثوم ابن عمرو العتابي -وهو من شاع ذكره بين الشعراء والعلماء- بأنه أشعر الناس وأنه لو أدرك الجاهلية ما فضل عليه أحد وود أن يتبين له بجميع شعره. روى ابن عساكر في تاريخ دمشق قال: قال العتابي أشعر الناس أبو نواس حيث يقول:
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت | إلى نداك فقاسته بما فيها |
حتى تهم بإقلاع فيمنعها | خوف العقوبة من عصيان منشيها |
وروى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بسنده عمن سمع كلثوم بن عمرو العتابي يقول لرجل -وتناظرا في شعر أبي نواس-: لو أدرك الخبيث الجاهلية ما فضل عليه أحد "انتهى". وقال جامع ديوانه قال أبو هفان: لما تنسك العتابي نهى أن ينشد شعر أبي نواس رجل معه رقعة فيها:
شهر الصيام غدا مواجهنا | فليعقبن رعية النسك |
أيامه كوني سنين ولا | تفني فلست بسائم منك |
فكتب البيتين وقال: وددت أنهما لي بجميع ما قلته من طارفي وتليدي فقال الرجل: إنهما لأبي نواس فمزق الرقعة ورمى بها. والجاحظ -ومقامه في البلاغة والأدب لا يداني- قرنه ببشار وشهد له -كما مر- بأنه ما رأى أعلم باللغة ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة للاستكراه منه وبأنه لا يعرف أرفع ولا أحسن من شعره وبأن شعره يصل إلى القلب بغير إذن. في تاريخ بغداد قال ميمون بن هارون قال لي إبراهيم ابن المنذر قال الجاحظ: لا أعرف من كلام الشعر كلاما هو أرفع ولا أحسن من كلام أبي نواس (أية نار قدح القادح) وذكر الأبيات الآتية في المواعظ والحكم. وفي معاهد التنصيص قال الجاحظ: لا أعرف بعد بشار مولدا أشعر من أبي نواس "انتهى" وقال جامع ديوان أبي نواس أن للجاحظ فصلا من كتاب ذكر فيه بشارا وأبا نواس فقال: وأما بشار وأبو نواس فمعناهما واحد والعدة اثنان بشار حل من الطبع بحيث لم يتكلف قط قولا ولا تعب من عمل شعر وأبو نواس حل من الطبع بحيث يصل شعره إلى القلب بغير إذن "انتهى". وممن جعله أشعر الناس أبو العتاهية -ومنزلته في الشعر لا تنكر- روى ابن عساكر في تاريخ دمشق أنه قيل لأبي العتاهية من أشعر الناس فقال الشاب العاهر أبو نواس حيث يقول:
أزور محمدا فإذا التقينا | تعاتبت الضمائر في الصدور |
فأرجع لم ألمه ولم يلمني | وقد قبل الضمير من الضمير |
قال الراوي ثم لقيت أبا نواس فقلت له: من أشعر الناس فقال الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول:
الناس في غفلاتهم | ورحى المنية تطعن |
فقلت: فمن أين أخذ هذا جعلت فداءك فقال: من قول الله تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة} "انتهى" وحسبك أن يود أبو العتاهية أن يكون له بيت من شعر أبي نواس بجميع شعره وأن يكون له ثلاثة أبيات بعشرين ألف بيت قالها ففي تاريخ بغداد بسنده عن أبي العتاهية أنه عاتب أبو نواس على مجونه فأنشأ أبو نواس يقول:
لن ترجع الأنفس عن غيها | ما لم يكن منها لها زاجر |
قال أبو العتاهية فوددت أني قلت هذا البيت بكل شيء قلته. وبسنده عن أبي العتاهية أنه قال: قلت عشرين ألف بيت في الزهد ووددت أن لي مكانها الأبيات التي قالها أبو نواس:
يا نواسي توفر | وتعز وتصبر |
إن يكن ساءك دهر | إن ما سرك أكثر |
يا كبير الذنب عفـ | ـو الله من ذنبك أكبر |
قال أبو مسلم كانت هذه الأبيات مكتوبة على أبي نواس وفي تاريخ بغداد بسنده عن مسلمة بن مهدي: لقيت أبا العتاهية فقلت من أشعر الناس فقال: جاهليا أم إسلاميا أم مولدا فقلت: كل قال الذي يقول في المديح:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح | فأنت كما نثني وفوق الذي نثني |
وإن جرت الألفاظ منا بمدحة | لغيرك إنسانا فأنت الذي تعني |
والذي يقول في الزهد:
وما الناس إلا هالك وابن هالك | وذ نسب في الهالكين عريق |
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت | له عن عدو في ثياب صديق |
قال: مسلمة ولقيت العتابي فسألته عن ذلك فرد علي مثل ذلك وأورده ابن منظور في أخبار أبي نواس نحوه أنه قال بدل مسلمة بن مهدي مسلم بن بهرام وزاد فقلت هذا لأبي نواس فقال: هو هو وقال ابن منظور أيضا: كان العتاهية يقول: سبقني أبو نواس إلى ثلاثة أبيات وددت أني سبقته إليها بكل ما قلته فإنه أشعر الناس فيها منها قوله:
يا كبير الذنب عفـ | ـو الله من ذنبك أكبر |
وقوله:
من لم يكن لله متهما | لم يمس محتاجا إلى أحد |
وقوله:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت | له عن عدو في ثياب صديق |
ثم قال: قلت في الزهد ستة عشر ألف بيت وددت أن أبا نواس له ثلثها بهذه الأبيات "انتهى". وقال ابن منظور أيضا قال أبو مخلد الطائي قال لي أبو العتاهية أن أبا نواس لا يخالفك فأسأله أن لا يقول في الزهد شيئا فقد تركت له المديح والهجاء والخمر والرقيق وما فيه الشعراء وللزهد شوقي فقلت لأبي نواس: إن أبا إسحاق من قد عرفت في جلاله وتقدمه وقد أحب أن لا تقول في الزهد شيئا فوجم أبو نواس عند ذلك وقال: يا أبا مخلد قطعت علي ما كنت أحب أن أبلغه من هذا ولقد كنت على عزم أن أقول فيه ما يتوب به كل خليع وقد فعلت ولا أخالف أبا إسحاق فيما رغب إليه "انتهى" ولولا معرفة أبي العتاهية بأن قول أبي نواس في الزهد يغطي على قوله لما رغب إليه أن لا يقول فيه وقال الرشيد أنه لا يعرف لمحدث أهجى من قول أبي نواس:
وما روحتنا لتذب عنا | ولكن خفت مرزءة الذباب |
شرابك في السحاب إذا عطشنا | وخبزك عند منقطع التراب |
وكيف تنال مكرمة ومجدا | وخبزك محرز عند الغياب |
وإبطك قابض الأرواح يرمي | بسهم الموت من تحت الثياب |
وشهد له المأمون ومكانته في العلم والأدب معروفة -تارة بأنه أشعر الشعراء الحاضرين في مجلسه- ولا بد أن يكونوا أشعر أهل عصرهم وأخرى بأنه شيخ الشعراء وثالثة بأنه أشعر الناس في زمانه. في تاريخ بغداد مسندا أنه اجتمع عند المأمون ذات يوم عدة من الشراء فقال: أيكم القائل:
فلما تحساها وتفا كأننا | نرى قمرا في الأرض يبلغ كوكبا |
قالوا أبو نواس قال فالقائل:
إذا نزلت دون اللهاة من الفتى | دعا همه في صدره برحيل |
قالوا أبو نواس قال فالقائل:
فتمشت في مفاصلهم | كتمشي البرء في السقم |
قالوا: أبو نواس قال هو أشعركم إذا. وقال البيهقي في المحاسن والمساوئ أنشد أبو عبد الله الأسواري المأمون أبياتا أولها:
ثجاج مزن شج كأس رحيق | ريق المهفهف فيه أعذب ريق |
فقال المأمون: أحسنت ويحك فمن صاحب هذه الأبيات قلت: فلان يا أمير المؤمنين فقال: أشعر وإلله منه في هذا المعنى شيخ الشعراء أبو نواس حيث يقول:
كفي فلست لعاذل بمطيق | بلغ الهوى بي غاية التحقيق |
قطع الهوى فرط الشباب بباطل | أيدي الزمان وألسن التصديق |
وجداول موصولة بجداول | من صوب غادية ولمع بروق |
تكسو مدامعه الرياض عرائسا | من نرجس متكاثف وشقيق |
باكرتها قبل الصباح بسحرة | قبل ابتكار مجرة العيوق |
من كف أحور ذي عذار أخضر | يسبي القلوب بقده الممشوق |
فكأن ما في الكأس من إبريقه | نار تسلل من فم الإبريق |
وتضوع مسكا في الزجاجة أذفرا | ذوب الشباب معصفرا بخلوق |
قمر عليه من البدائع حلة | يسقيك كأس هوى وكأس رحيق |
ما طاب عيش فتى يطيب بغيرها | لا سيما أن شجها بالريق |
يغنيك عن ورد الرياض وزفرها | منه تورد خده المعشوق |
وفي الكتاب المذكور عن أحمد بن القاسم قال: كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون فقال لعبد الله: يا أبا العباس من أشعر الناس في زماننا فقال أمير المؤمنين: أعرف بهذا قال: قل على كل حال قال الذي يقول :
أيا قبر معن كنت أول حفرة | من الأرض خطت للمكارم مضجعا |
قال أحمد فقلت أشعرهم الذي يقول:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم | إذ كان حظي منك حظي منهم |
فقال المأمون أين أنتما عن قول أبي نواس :
يا شقيق النفس من حكم | نمت عن ليلي ولم أنم |
وحكى ابن خلكان وغيره أن المأمون قال: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفتها بمثل قول أبي نواس (إذا امتحن الدنيا لبيب) البيت المتقدم. وفي تاريخ دمشق قال المأمون: بيتان من الشعر ما سبق قائلهما أحد ولا يلحقهما أحد قول أبي نواس (إذا امتحن الدنيا) (البيت السابق) وقول شريح:
تهون على الدنيا الملامة أنه | حريص على استخلاصها من يلومها |
وقد جعله المأمون أشعر الشعراء في نعت الخمر. في معاهد التنصيمى قال ابن الأعرابي بعث إلي المأمون فسألني عن أشعر الشعراء في نعت الخمر فأنشدته للأعشى ثم للأخطل فلم يحفل بشيء مما أنشدته ثم قال: يا محمد ابن زياد أشعر الناس في نعتها الذي يقول:
فتمشت في مفاصلهم | كتمشي البرء في السقم |
فعلت في اللب إذ مزجت | مثل فعل النار في الظلم |
فاهتدى ساري الظلام بها | كاهتداء السفر بالعلم |
وقرنه أبو تمام ببشار والسيد وقال: إنهم أشعر الناس بعد الطبقة الأولى في تاريخ دمشق قال أبو تمام: أشعر الناس وأسهبهم في الشعر كلاما بعد الطبقة الأولى بشار والسيد وأبو نواس، ومسلم بن الوليد بعدهم "انتهى" وقال فيه أبو تمام أنه أقدم معه من العراق أربعة أبيات لأبي نواس هي أحب إليه من المال. في تاريخ دمشق: لما قدم أبو تمام من العراق قيل له: ما أقدمت في سفرتك هذه قال: أربعمائة ألف درهم وأربعة أبيات شعر هي أحب إلي من المال ثم أنشدها وهي لأبي نواس:
إني وما جمعت من صفد | وحويت من سبد ومن لبد |
همم تصرفت الخطوب بها | فنزعن من بلد إلى بلد |
يا ويح من حسمت قناعته | سبب المطامع من غد فغد |
لو لم يكن لله متهما | لم يمس محتاجا إلى أحد |
وزعم ابن خلكان أن أبا تمام حسده على قصيدته الميمية التي مدح بها الأمين وأولها:
يا دار ما صنعت بك الأيام | لم يبق فيك بشاشة تستام |
فوازنها أبو تمام بقصيدته التي أولها:
دمن ألم بها فقال سلام | كم حل عقدة صبره الإلمام |
وحلف أبو تمام أن يحفظ شعر مسلم بن الوليد وأبي نواس فبقي شهرين حتى حفظ شعرهما. هذا هو المعقول من تدين أبي تمام إماما في الأغاني عن أحمد بن سعيد الجزيري أن أبا تمام حلف أن لا يصلي حتى يحفظ شعر مسلم بن الوليد وأبي نواس فمكث شهرين كذلك حتى حفظ شعرهما قال: ودخلت عليه فرأيت شعرهما بين يديه فقال له: ما هذا فقال: اللات والعزى وأنا أعبدهما من دون الله "انتهى" فمكذوب عليه أو وقع فيه اشتباه من الراوي بأن يكون قال له: هما اللات والعزى إشارة إلى عكوفه على حفظهما فظن الراوي تركه الصلاة ويؤيده ما ذكره ابن منظور قال: سئل حبيب بن أوس عن شعر أبي نواس كيف هو عنده فقال أبو نواس ومسلم بن الوليد اللات والعزى وأنا أعبدهما "انتهى" وقال فيه أبو حاتم السجستاني كما في مرآة الجنان وغيره كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس ولولا أن العامة استبدلت هذين البيتين لكتبتهما بماء الذهب وهما لأبي نواس:
ولو أني استزدتك فوق ما بي | من البلوى لأعوزك المزيد |
ولو عرضت على الموتى حياة | بعيش مثل عيشي لم يريدوا |
وفي الشذرات عن أبي حاتم لو كتبتهما بالذهب لما كثر وفي معناها التنصيص قال ابن دريد سألت أبا حاتم عن أبي نواس فقال: أن جد حسن وإن هزل ظرف وإن وصف يلقي الكلام على عواهنه لا يبالي من حيث أخذه "انتهى" فوصفه بالقدرة التامة على النظم في جميع حالاته وكأنه أراد بالأخير ما في كلامه من المجون وذكر الخمر. وشهده الأصمعي -وله في نقد الشعر معرفة جيدة ومكانة سامية- بأنه أشعر أهل زمانه. في تاريخ دمشق قال الأصمعي: قال لي الفضل بن الربيع من أشعر أهل زمانك يا أصمعي فقلت: أبو نواس حيث يقول:
أما ترى الشمس حلت الحملا | وقام وزن الزمان فاعتدلا |
ومر قول الأصمعي أنه لا يروي لأحد من أهل زمانه ما يرويه له وما ذلك إلا لإعجابه بشعره وتقديمه له على جميع أهل زمانه وقال ابن منظور: كان الأصمعي يقول: يعجبني من شعر الشاطر بيت واحد قد أجاد قالته وهو:
ضعيفة كر الطرف تحسب أنها | قريبة عهد بالإفاقة من سقم |
وإني لآتى الأمر من حيث يتقي | ويعلم سهمي حين أنزع من أرمي |
هكذا في النسخة مع أنهما بيتان. وممن شهد له بأنه أشعر الناس أو من أشعر الناس ابن منظور قال بعضهم: كانت عند ابن الأعرابي -محمد بن زياد- صحيفة لا تفارق كمه فدخل المتهيأ وترك صحيفته تلك في مجلسه فنظرنا فيها فإذا فيها كثير من شعر أبي نواس في الخمر وقد كنا إذا ذكرنا أبا نواس بحضرته استخف به فأعدنا عليه ذكره، وعرف في وجوهنا وقوفنا على ما في الصحيفة - فقال: أو قد قرأتم الصحيفة قلنا: أجل وعجبنا من ازدرائك بأبي نواس مع تدوينك شعره فقال: إنه من أشعر الناس وما يمنعنا من رواية شعره إلا تبذله وسخفه فكتبنا ما في الصحيفة لأمرين (أحدهما) أن نكون راوية ابن الأعرابي (والآخر) لعلمنا أن ذلك من جيد شعره لأنه اختيار ابن الأعرابي لنفسه وقال ابن منظور أيضا قال ابن الأعرابي يوما لجلسائه ما أشعر ما قال أبو نواس في الخمر فقال بعضهم قوله:
إذا عب فيها شارب القوم خلته | يقبل في داج من الليل كوكبا |
وقال آخر بل قوله:
كأن كبرى وصغرى من فواقعها | حصباء در على أرض من الذهب |
وقال آخر بل قوله :
فكأن في الكؤوس فينا نجوم | دائرات بروجها أيدينا |
وقال آخر بل قوله:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها | لو مسها حجر مسته سراء |
فقال ابن الأعرابي: إن هذا كله لشاعر انفرد بالإحسان فيه وتقدم من سبقه ومن تأخر عنه ولكن أشعر من هذا كله في قوله:
لا ينزل الليل حيث حلت | فدهر شرابها نهار |
وفي تاريخ دمشق قال ابن الأعرابي أبو نواس أشعر الناس في قوله:
تغطيت من دهري بظل جناحه | فعيني ترى دهري وليس يراني |
فلو تسأل الأيام ما أسمي لما درت | وأين مكاني ما عرفن مكاني |
وقال: إنه ختم بشعره فما روى لشاعر بعده وما ذاك إلا لأنه لا يرى لشاعر بعده ما يراه له. في معاهد التنصيص قال ابن الأعرابي: قد ختمت بشعر أبي نواس فما رويت لشاعر بعده. وممن شهد له بأنه أشعر الناس من المحدثين وأنه لو قسم إحسانه على جميع الناس لوسعهم وأنه أشعر من مسلم ابن الوليد: البحتري. وحسبك بهذه الشهادة من مثل البحتري ففي معاهد التنصيص قال أبو الغيث ابن البحتري: سألت أبي لما حضرته الوفاة من أشعر الناس فقال: أعن المتقدمين تسأل أم عن المحدثين فقلت عن المحدثين فقال: يا بني لو قسم إحسان أبي نواس على جميع الناس لوسعهم (الخبر) وهذا دليل على شدة اهتمام أهل ذلك العصر بالشعر فابن البحتري لم يجد عند وفاة أبيه أهم من أن يسأله عن أشعر الناس. وقال جامع ديوان أبي نواس: حكى ابن الرومي قال: حضرت مع البحتري منزل عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وقد سئل البحتري عن أبي نواس ومسلم أيهما أشعر فقال أبو نواس: أشعر فقال عبيد الله: إن أبا العباس ثعلبا ليس يطابقك على قولك ويفضل مسلما فقال البحتري: ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله إنما يعلم ذلك من قد وقع في مسلك طرق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته فقال له عبيد الله: وريت بك زنادي يا أبا عبادة فلقد شفيت من برحائي وقد وافق حكمك في أبي نواس حكم أخيك بشار في جرير والفرزدق فإن دعبلا حدثني عن أبي نواس عن والبة بن الحباب أنه حضر بشارا وقد سئل عن جرير والفرزدق فقال جرير: أشعرهما لأنه يشتد متى شاء ويلين إذا شاء والفرزدق يشتد أبدا قيل له: فإن يونس وأبا عبيدة يفضلان الفرزدق فقال: ليس ذا من عمل أولئك القوم إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله وإن في الشعر ضروبا لم يحسنها الفرزدق "انتهى" وشهد له ابن الجراح بأنه من أجود الناس بديهة وأرقهم حاشية وبالقدرة التامة على الشعر في كل حين. وشهد له المبرد بأنه أحذق المحدثين في الشعر روى جامع ديوانه بسنده عن المبرد أنه قال: ما تعاطى قول الشعر أحد من المحدثين أحذق من أبي نواس فإنه شبب ومدح في أربعة أبيات فقال:
تقول غداة البين إحدى نسائهم | لي الكبد الحرى فسر ولك الصبر |
وقد خنقتها عبرة فلدمعها | على خدها خد وفي نحرها نحر |
وقالت إلى العباس قلت فمن إذا | وما لي عن العباس معدى ولا قصر |
فهل يكلفن إلا براحته الندى | وهل يزهون إلا بأوصافه الشكر |
قال: فقوله فلدمعها على خدها خد من بديع القول الذي لم يسبق إلى مثله. وفي خاص الخاص للثعالبي قال هارون بن علي بن يحيى المنجم أجمع أهل العلم بالشعر على أن أجود بيت للمحدثين في المدح قول أبي نواس:
وكلت بالدهر عينا غير غافلة | بجود كفك تأسو كلما جرحا |
وقال غيره بل قوله:
أنت على ما بك من قدرة | فلست مثل الفضل بالواجد |
ليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
قال: ومما يجمع الظرف والإعجاب والإطراب قوله:
أربعة مذهبة | لكل هم وحزن |
تحيا بها عين ورو | ح وفؤاد وبدن |
الماء والبستان والـ | ـقهوة والوجه الحسن |
وفضله جامع ديوانه في مقدمته على من قبله ومن في عصره ومن بعده فقال: إن هذا الرجل مع افتتانه في تعاطي القريض وتأتيه بحسن القول في المدح والنسيب العذب والغزل الرقيق وتناوله ما استصعب على من رام مرامه وطمح في أن يبلغ إحسانه حتى أتى بما لم يأت به أحد قبله ولا في عصره ولا من غبر بعده انتشر شعره حتى نسب أكثر الرواة له غير ما هو له. وشهد له ابن مناذر بالإجادة والإحسان لما سمع قطعة من شعره قبل أن يعرف أنها له فلما عرف أنها له لعنه وندم على مدحه شعره فدل ذلك على شيء في نفسه وأن استحسانه أولا كان في محله. في تاريخ بغداد بسنده عن مسعود بن بشر قال: لقيت ابن مناذر بمكة وكان عالما بالشعر زاهدا في الدنيا فقلت له: من أشعر الناس فذكر جريرا وأورد من شعره ثم ذكر أبو العتاهية وأورد شيئا من شعره فقلت: أنا أنشدك أحسن مما أنشدتني فقال: هات فأنشدته:
ذكرتم من الترحال أمرا فغمنا | فلو قد فعلتم صبح الموت بعضنا |
زعمتم بأن البين يحزنكم نعم | سيحزنكم عندي ولا مثل حزننا |
تعالوا نقارعكم لنعلم أينا | امض قلوبا أم من أسخن أعينا |
أطال قصير الليل يا رحم عندكم | فإن قصير الليل قد طال عندنا |
وما يعرف الليل الطويل وهمه | من الناس إلا من ينجم أو أنا |
خليون من أوجاعنا يعذلوننا | يقولون لم تهوون؟ قلنا بذنبنا |
فلو شاء ربي لابتلاهم بمثل ما أبـ | ـتلانا فكانوا لا علينا ولا لنا |
يقومون في الأقوام يحكون فعلنا | صفاته أبشار وسخرية بنا |
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد | هواكم لعل الفضل يجمع بيننا |
أمير رأيت المال في نعماته | مهانا مذل النفس بالضيم موقنا |
وللفضل أجرا مقدما من ضياغم | إذا لبس الدرع الحصينة واكتنى |
إليك أبا العباس من بين من مشى | عليها امتطينا الحضرمي الملسنا |
قلائص لم تحمل حنينا على طلى | ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا |
فقال أحسن واحد صاحبك في التشبيب وأغرب علينا في صفته النعال وتصييره إياها مطايا فمن هذا. قلت أبو نواس قال لعن الله أبا نواس وندم على ما مدح من شعره. وقال ابن رشيق في العمدة: شبه قوم أبا نواس بالنابغة لما اجتمع له من الجزالة مع الرشاقة وحسن الديباجة والمعرفة بمدح الملوك (انتهى) وفضله ابن الرومي على جميع الناس بعد بشار روى ابن المعتز في الاختيار عن ابن الخصيب عن أبي المنذر قال كان علي بن العباس الرومي يزعم أنه ليس بشار أشعر من أبي نواس وبشار أنشر الناس جميعا ممن تقدم وتأخر وكثيرا ما يتبعه أبو نواس ويصب من قوالب معانيه (انتهى) ويأتي عند ذكر رأيه في الشعراء ورأي بعضهم فيه قول العباس بن الأحنف أن شعر أبي نواس أرق من الوهم وأنفذ من الفهم وأمضى من السهم. وممن على جميع الشعراء العتبي قال ابن منظور: قيل للعتبي من أشعر الناس قال أعند الناس أم عندي قيل عند الناس قال امرؤ القيس قيل فعندك قال أبو نواس. وممن جعله أشعر المحدثين وجعل من لم يرو شعره غير تام الأدب عبد الله بن محمد المعروف بابن عائشة قال ابن منظور: سئل ابن عائشة من أشعر المحدثين فقال الذي يقول: (وهو أبو نواس):
كأن ثيابه أطلعـ | ـن من أزرارء قمرا |
يزيد وجهه حسنا | إذا ما زدته نظرا |
بعين خالط التفتيـ | ـر من أجفانها الحورا |
ووجه سابري لو | تصوب ماؤه قطرا |
وقد خطت حواضنه | له من عنبر طررا |
وقال ابن منظور أيضا قال عبد الله بن محمد بن عائشة من طلب الأدب فلم يرو شعر أبي نواس فليس بتام الأدب. وجعل إبراهيم بن العباس الصولي حفظ شعره عنوان الأدب ورائد الظرف وقال ابن منظور قال إبراهيم بن العباس الصولي: إذا رأيت الرجل يحفظ شعر أبي نواس علمت أن ذلك عنوان أدبه ورائد ظرفه وجعل أبو عمرو الشيباني إسحق بن مرار أشعر الناس في وصف الخمر ثلاثة هو أحدهم قال ابن منظور كان أبو عمرو الشيباني يقول أشعر الناس في وصف الخمر ثلاثة الأعشى والأخطل وأبو نواس. واعترف له سفيان الثوري -من أهل الحديث- بالتقدم على من بعده. قال ابن منظور قال أبو ذكوان كنا عند الثوري فذكرت عنده أبا نواس فوضع منه بعض الحاضرين فقال له الثوري أتقول هذا لرجل يقول:
يخافه الناس ويرجونه | كأنه الجنة والنار |
ويقول:
فما فاته جود ولا حل دونه | ولكن يصير الجود حيث يصير |
ويقول:
فتمشت في مفاصلهم | كتمشي البرء في السقم |
إلى ما سوى ذلك والله لقد لحق من قبله وفات من بعده. وشهد له النظام بأنه جمع له الكلام فاختار أحسنه في خبر يرويه الخطيب البغدادي عن جملة من أئمة أهل الأدب يرويه عن الصيمري عن المرزباني عن محمد بن العباس -هو اليزيدي إمام النحو والأدب- عن المبرد عن الجاحظ عن النظام - وقد أنشد شعرا لأبي نواس في الخمر فقال: هذا الذي جمع له الكلام فاختار أحسنه (انتهى). وشهد له الشريف المرتضى في أماليه بالتقدم في الشعر فإنه عند ذكر قوله:
فكأنها مصغ لتسمعه | بعض الحديث بأذنه وقر |
قال أنه أحسن في هذا البيت غاية الإحسان ثم قال: وإني لأستحسن القصيدة التي من جملتها هذا البيت لأنها دون العشرين بيتا وقد نسب في أولها ثم وصف الناقة بأحسن وصف ثم مدح الرجل الذي قصد مدحه واقتضاه حاجته كل ذلك بطبع يتدفق ورونق يترقرق وسهولة مع جزالة (انتهى) وتأتي القصيدة عند ذكر أخباره مع الخصيب. وقد شهد له السيد الرضي بالتقدم في الشعر بقوله في وصف قصيدة له:
كأن أبا عبادة شق فاها | وقبل ثغرها الحسن بن هاني |
وفضله أبو المنذر على جميع الشعراء بما في شعره من البديع قال ابن المعتز في كتاب الاختيار من شعر المحدثين عن إبراهيم بن الخصيب عن أبي المنذر قال فضل أبو نواس جميع الشعراء بما كان يأتي به من البديع وبالغ أحمد ابن يوسف الكاتب بأن شعره في وصف الخمر لجودته يكاد يطغي العلماء. قال جامع ديوانه قال أحمد بن يوسف الكاتب لقد وصف أبو نواس الخمر بصفة لو سمعها الحسنان لهاجرا إليها واعتكفا عليها يعني الحسن البصري وابن سيرين (انتهى) وشهد له محمد بن صالح بن بيهس الكلابي بأنه غلب على أهل الأدب وقدموه على غيره. قال ابن منظور قال محمد بن صالح بن بيهس الكلابي لما دخلت العراق صرت إلى مدينة السلام فسألت عمن بها من الشعراء المحسنين فقيل لي غلب عليهم فتى من أهل البصرة يقال له الحسن بن هانئ ويعرف بأبي نواس فسألت فتى من أهل الأدب هل تروي لأبي نواسكم هذا شيئا قال أروي له أبياتا في الزهد وليس هو من طريقته وهي (أخي ما بال قلبك ليس ينقى) "الأبيات الآتية" فقلت له أحسن والله قال أفلا أنشدك أحسن من هذا قلت بلى فأنشدني في رثاء محمد الأمين (طوى الموت ما بيني وبين محمد) "الأبيات الآتية" فقلت بحق ما غلب هذا على أهل الأدب وقدموه على غيره (انتهى). هذا ما وقفنا عليه من أقوال العلماء وأدباء في حقه وفي وصف شعره وناهيك بهذه الأقوال من دلالة على قدر من قيلت في حقه ومكانته من الفضل فهؤلاء أئمة الأدب في أرقى عصور الأدب وفحول الشعراء منهم من قدمه على جميع الشعراء المحدثين كابن السكيت وأبي عبيدة والمبرد وابن المنجم وابن نوبخت وابن عائشة. ومنهم من جعله أشعر الناس كالعتابي والجاحظ وأبي العتاهية وأبي تمام والبحتري وابن الأعرابي والأصفهاني جامع ديوانه وأبي المنذر. ومنهم من استثنى بشارا كابن الرومي وشاركهم في ذلك من الفقهاء والمحدثين سفيان بن عيينة وسفيان الثوري ومن الملوك المأمون وأشار إلى موافقتهم في ذلك بشار وأبو حاتم السجستاني وابن خالويه وابن الجراح والعباس بن الأحنف والنظام وأبو الحسن الطوسي وهارون المنجم وأحمد بن يوسف الكاتب والسيد والرضي وإبراهيم بن العباس الصولي وغيرهم. ومنهم من جعله أحد ثلاثة هم أشعر الناس في وصف الخمر كأبي عمرو الشيباني فهل يبقى بعد هذا مجال في تقديمه على الشعراء.
ما قاله عن نفسه
حكى جامع ديوانه عنه أنه قال شعري أشبه شيء بشعر جرير قال وحكي عن محمد بن داود بن الجراح في كتاب الورقة عن اليزيدي عبد الله بن محمد عن أخيه سمعت أبا نواس يقول: سفلت عن طبقة من كان قبلي وعلوت على طبقة من جاء بعدي فأنا نسيج وحدي "انتهى" وقال ابن منظور: كان أبو نواس يقول عن نفسه سفلت عن طبقة من تقدمني من الشعراء وعلوت عن طبقة من معي ومن يجيء بعدي فأنا نسيج وحدي.
اختياره أحسن الألفاظ وأبدع المعاني
مر قول النظام كأن هذا الفتى جمع له الكلام فاختار أحسنه وقول أبي حاتم كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس. وقال ابن منظور قال بعضهم كأن المعاني حبست عليه فأخذ منها حاجته وفرق الباقي على الناس. قال وقال المكي ما زالت مكنوزة في الأرض حتى جاء أبو نواس فاستخرجها.
اتباعه طرائق جديدة في الشعر
اتبع أبو نواس طرائق جديدة في الشعر ولم يتقيد بطريقة الجاهليين والعرب الأقدمين بل ولا بطريقة المحدثين فجاء في شعره بأمور كثيرة تخالف طريقة القدماء أو هم والمحدثين ومخالفة طريقة المتقدمين وإن لم ينفرد بها أبو نواس بل شاركه فيها غيره ممن تقدم عليه من المحدثين إلا أنه هو قد توسع في ذلك كثيرا وأتى بما لم يشاركه فيه من سبقه واتبعه عليه من لحقه وربما قصر عنه وذلك من وجوه: (أولا) أنه أكثر في شعره من ذم طريقة الشعراء القدماء والمحدثين في وصف الفيافي والقفار والرمال وبكاء الديار والأطلال ونعت الركاب والنياق والوحش والغزلان ومخاطبة الرفاق والخلان وكان ذلك الذم منه تطرفا وتملحا فهو لاشتهاره بوصف الخمر يدعي أنها أحق بالوصف من الفيافي والقفار والركائب والوحش وأولى بالبكاء من المنازل والأطلال وقد يمشي قليلا على طريقتهم في ذلك فمن شعره الذي دعا فيه إلى ترك تلك الطريقة وأبدع طريقة وصف الصهباء قوله:
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة | كانت تحل بها هند وأسماء |
حاشا لدرة أن تبني الخيام لها | وأن تروح عليها الإبل والشاء |
وقوله:
سقيا لغير العلياء فالسند | وغير أطلال مي بالجرد |
كأنه يشير إلى قول القائل:
=يا دار مية بالعلياء فالسند
ويا صبيب السحاب إن كنت قد جد | ت اللوى مرة فلا تعد |
لا تسقين بلدة إذا عددت البلـ | ـدان كانت زيادة الكبد |
إن أتحرز من الغراب بها | يكن مفري منه إلى الصرد |
بحيث لا تجلب الرياح إلى | أذنيك إلا تصايح النقد |
أحسن عندي من انكبابك بالفهـ | ـر ملحا به على الوتد |
وقوف ريحانة على أذن | وسير كأس إلى فم بيد |
يسقيكها من بني العباد رشا | منتسب عيده إلى الأحد |
أشرب من كفه الشمول ومن | فيه رضابا تجري على برد |
فذاك خير من البكاء على الربـ | ـع وأنمى في الروح والجسد |
وقوله من أبيات:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند | واشرب على الورد من حمراء كالورد |
لا تبك رسما بجانب السند | ولا تجد بالدموع للجرد |
ولا تعرج على معطلة | ولا أثاف خلت ولا وتد |
ومل إلى مجلس على شرف | بالكرخ بين الحديق معتمد |
ممهد صففت نمارقه | في ظل كرم معرش خضد |
قد لحفتك الغصون أردية | فيومك الغض بالنعيم ندي |
ثم اصطبح من أميرة حجبت | عن كل عين بالصون والرصد |
محجوبة في مقيل حوبتها | تعين عاما محسوبة العدد |
لم تعرف الشمس أنها خلقت | ولا اختلاف الحرور والصرد |
وقوله:
يا واصف البيد والقفار ويا | ناعت أسرابها ومكاها |
وواصف الربع والرياض وما | أشرف من نبتها وبهاها |
أحسن من ذاك نبت صافية | تنزو إذا ما تدرعت ماها |
وقوله:
أعرض عن الربع إن مررت به | واشرب من الخمر أنت أصفاها |
وقوله:
أيا باكي الأطلال غيرها البلى | بكيت بعين لا يجف لها غرب |
أتنعت دارا قد عفت وتغيرت | فإني لما سالمت من نعتها حرب |
وقوله:
دع الأطلال تسفيها الجنوب | وتبكي عهد جدتها الخطوب |
وخل لراكب الوجناء أرضا | تحث بها النجيبة والنجيب |
ولا تأخذ عن الأعراب لهوا | ولا عيشا فعيشهم جديب |
ذر الألبان يشربها أناس | رقيق العيش عندهم غريب |
بأرض نبتها عشر وطلح | وأكثر صيدها ضبع وذيب |
إذا راب الحليب فبل عليه | ولا تحرج فما في ذاك حوب |
فأطيب منه صافية شمول | يطوف بكأسها ساق أريب |
فهذا العيش لا خيم البوادي | وهذا العيش لا اللبن الحليب |
فأين البدو من إيوان كسرى | وأين من الميادين الزروب |
وقوله:
دع الربع ما للربع فيك نصيب | وما أن سبتني زينب ولعوب |
ولكن سبتني البابلية أنها | لمثلي في طول الزمان سلوب |
وقوله:
عد عن رسم وعن كثب | واله عنه بابنة العنب |
وقوله:
أعدل عن الطلل المحيل وعن هوى | نعت الديار ووصف قدح الأزند |
ودع العريب وخلها مع بؤسها | لمحارف ألف الشقاء مزند |
واقصد إلى شط الفرات وعاطني | قبل الصباح وعاص كل مفند |
صفراء تحكي التبر في حافاتها | عقد الحباب كلؤلؤ متبدد |
فلأشربن بطارف وبتالد | بنت الكروم برغم أنف الحسد |
كرخية كصفاء وجه مشوقة | مرهاء ترغب عن سواد الأثمد |
حسنت مكاتمة فبين جفونها | رقراق دمع فاض أو فكأن قد |
وتخاف تحدره فترفع جفنها | فالدمع بين تحدر وتصعد |
وقوله:
صاح مالي وللرسوم القفار | ولنعت المطي والأكوار |
شغلتني المدام والقصف عنها | بقرع الطنبور والأوتار |
فدعوني فذاك أشهى وأحلى | من سؤال التراب والأحجار |
وقوله:
تداو من الصغيرة بالكبير | وخذها من يدي ساق غرير |
ودعني من بكائك في عراص | وفي أطلال منزلة ودور |
وقوله:
دعني من الناس ومن لؤمهم | وأحس ابنة الكرم مع الحاسي |
وابك على ما فات منها ولا | تبك على ربع بأوطاس |
وقوله:
قل لمن يبكي على رسم درس | واقفا ما ضر لو كان جلس |
تصف الربع ومن كان به | مثل سلمى ولبينى وخنس |
اترك الربع وسلمى جانبا | واصطبح كرخية مثل القبس |
وقوله:
وعلى ذكرى حبيب فاسقني | لا على ذكر محل قد درس |
وقوله:
لست لدار عفت بوصاف | ولا على ربعها بوقاف |
ولا أسلي الهموم في غسق الل | يل بحاد في البيد عساف |
لكن بوجه الحبيب أشربها | بين ندامى وبين ألاف |
فذاك أشهى من الوقوف على | رسم لأسماء آيه عاف |
وقوله:
دع الوقوف على رسم وأطلال | ودمنة كسحيق اليمنة البالي |
وعج بنا نصطبح صفراء واقدة | في حمرة النار أو في رقة الآل |
وعندها قمر في طرفه حور | في دله خفر في حسن تمثال |
يسقيك من يده خمرا وناظره | سحرا ومن فمه سكرا على حال |
فذاك أهنأ من ربع وراحلة | ومن وقوف على رسم وأطلال |
وقوله:
سقيا لغير الخيام والطلل | وغير عيرانة من الإبل |
عجبت من نعتها وناعتها | وأي نعت يكون في الجمل |
أحسن من نعته وناعته | نعتك كأسا جرت على عجل |
فدع لأي ناقة مساكنه | وملعبا للضباب والورل |
وقوله:
أله عما أنت طالبه | من جواب النؤي والطلل |
ببنات الشمس لو منعت | نفسها من كف مبتذل |
وقوله:
لقد جن من يبكي على رسم منزل | ويندب أطلالا عفون بجرول |
فإن قيل ما يبكيك قال حمامة | تنوح على فرخ بأصوات معول |
تذكرني حيا حلالا بقفرة | وآخية شجت بفهر وجندل |
ولكنني أبكي على الراح أنها | حرام علينا في الكتاب المنزل |
وقوله:
دع المعلى يبكي على طلله | وخل عوفا يقول في جمله |
واغد على اللهو غير متئد | عنه فهذا أوان مقتبله |
وقوله وفيها أيضا وصف النخل والتمر:
ما لي بدار خلت من أهلها شغل | ولا شجاني لها شخص ولا طلل |
ولا رسوم ولا أبكي لمنزلة | للأهل عنها وللجيران منتقل |
ولا قطعت على حرف مذكرة | في مرفقيها إذا استعرضتها فتل |
بيداء مقفرة يوما فأنعتها | ولا سرى بي فأحكيه بها جمل |
ولا شتوت بها عاما فأدركني | فيها المصيف فلي عن ذاك مرتحل |
ولا شددت بها من خيمة طنبا | جاري بها الضب والحرباء والورل |
لا الحزن مني برأي العين أعرفه | وليس يعرفني سهل ولا جبل |
لا أنعت الروض إلا ما رأيت به | قمرا منيفا عليه النخل مشتمل |
فهاك من صفتي إن كنت مختبرا | ومخبرا نغرا عني إذا سألوا |
نخل إذا جليت أبان زينتها | لاحت بأعناقها أعذاقها النخل |
حتى إذا لقحت أرخت عقائصها | فمال منتشرا عرجونها الرجل |
فبينما هي والأرواح تنفحها | شهرين بارحة وهنا وتنتحل |
أرخت عقودا من الياقوت مدمجة | صفرا وحمرا بها كالجمر يشتعل |
فلم تزل بمدود الليل ترضعه | حتى تمكن في أوصاله العسل |
يا هيب تلك عروسا في مجاسدها | لو كان يصلح منها الشم والقبل |
خلالها شجر في فيئة نقد | لا يرهب الذئب فيها الكبش والحمل |
إن جئت زائرها غناك طائرها | برجع ألخنة في صوتها هدل |
من بلبل غرد ناداك من غصن | يبكي لبلبلة أودى بها خبل |
هذا فصفه وقل في وصفه سددا | مدت لواصفه في عمره الطول |
ما بين ربع ولا رسم ولا طلل | أقوى وبيني في حكم الهوى عمل |
ما لي وعوسجها بالقاع جانبها | أفعى يقابلها عن حجره ورل |
إني امرؤ همتي والله يكلؤني | أمران ما فيهما شرب ولا آكل |
حب النديم وما في الناس من حسن | كفي إليه إذا راجعته خضل |
وقوله:
أبخل على الدار بتسليم | فما لديها رجع تسليم |
والعن غراب البين بغضا له | فإنه داعية الشوم |
وعج إلى النرجس عن عوشج | والأس عن شيح وقيصوم |
وقوله:
لا تبك ربعا عفا بذي سلم | وبز آثاره يد القدم |
وعج بنا نجتلي مخدرة | نسيمها ربح عنبر ضرم |
من كف ظبي أغن ذي غنج | أكمل من قرنه إلى القدم |
وقوله:
أحب إلي من وخد المطايا | بموماة يتيه بها الظليم |
ومن نعت الديار ووصف ربع | تلوح به على القدم الرسوم |
رياض بالشقائق مونقات | تكنف نبتها نور عميم |
ومجلس فتية طابوا وطابت | مجالسهم وطاب بها النعيم |
تدار عليهم فيها عقار | معتقة بها يصبو الحليم |
يحث بها كخوط البان ساق | له من قلبي الحظ الجسيم |
لطرفي منه ميعاد بطرف | وفي قلبي بلحظته كلوم |
وقوله:
راح الشقي على الربوع يهيم | والراح في راحي ورحت أهيم |
وقوله:
دع الأطلال واجتنب الرسوما | فما راق بها يرقى الكلوما |
ورح للراح والتمس المطايا | لها إن رحت ذا صدع وسيما |
وقوله:
خل للأشقياء وصف الفيافى | واسقنيها سلافة بسلام |
وقوله:
فهذا العيش لا وصف الفيافى | ولا نعت المنازل والرسوم |
وقوله:
فهدا العيش كل العيش عندي | وهذا الوصف لا وصف المغاني |
وقوله:
أحسن من وصف دارس الدمن | ومن حمام يبكي على فنن |
ومر ديار عفت معالمها | ريحانة ركبت على أذن |
وقهوة لا القذى يخالطها | تأتيك من معدن ومن عطن |
من كف ظبي أغن ذي غنج | أبدع فيه طرائف الحسن |
فتلك أشهى من نعت دعبلة | ومن صفات الطلول والدمن |
وقوله:
سقيا لذا الوصف حيث كان ولا | سقيا لدار أقوت مغانيها |
وقوله
اترك الأطلال لا تعبأ بها | إنها من كل بؤس دانيه |
وقوله:
دعني من الدار أبكيها وأرثيها | إذا خلت من حبيب في مغانيها |
ذر الروامس تمحو كلما درست | آثارها ودع الأمطار تبكيها |
إن كان فيها الذي أهوى أقمت بها | وإن عداها فإني سوف أقليها |
أمكنت عاذلتي في الخمر من أذن | يغني صداها جوابا من يناديها |
يا ألبق الناس كفا حين يمزجها | وحين يشربها صرفا ويسقيها |
إن كانت الخمر للألباب سالبة | فإن عينك تجري في مجاريها |
في مقلتيك صفات السحر ساطعة | باللفظ واحدة شتى معانيها |
ومخطف الخصر في أردافه عمم | يميس في حلة رقت حواشيها |
إذا نظرت إليه تاه عن نظري | فإن تزيدت ذلا زادني تيها |
وقوله:
لا تبك للذاهبين في الطعن | ولا تقف بالمطي في الدمن |
وعج بنا نصطبح معتقة | من كف ظبي يسقيها فطن |
تخبر عن طيبه محاسنه | مكحل ناظريه بالفتن |
ما أمت العين منه ناحية | إلا أقامت منه على حسن |
حتى إذا ما الجمال تم له | والطرف قالا له كذا فكن |
وقوله:
عاج الشقي غلى رسم يسائله | وعجت أسأل عن خمارة البلد |
يبكي على طلل الماضين من أسد | لا در درك قل لي من بنو أسد |
ومن تميم ومن قيس ولفهما | ليس الأعاريب عند الله من أحد |
لا جف دمع الذي يبكي على حجر | ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد |
كم بين ناعت خمر في دساكرها | وبين باك على نؤي ومنتضد |
دع ذا عدمتك واشربها معتقة | صفراء تفرق بين الروح والجسد |
من كف مضطمر الزنار معتدل | كأنه غصن بان غير ذي أود |
أما رأيت وجوه الأرض قد نضرت | وافتر عيشك عن لذاتك الجدد |
حاك الربيع بها وشيا وجللها | بيانع الزهر من مثنى ومن وحد |
فاشرب وجد بالذي تحوي يداك لها | لا تذخر اليوم شيئا خوف فقر غد |
يا عاذلي قد أتتني منك بادرة | فإن تغمدها عفوي فلا تعد |
لو كان لومك نصحا كنت أقبله | لكن لومك موضوع على الحسد |
وقوله:
صفة الطلول بلاغة القدم | فاجعل صفاتك لابنة الكرم |
إلى أن قال:
فعلام تذهل عن مشعشعة | وتهيم في طلل وفي رسم |
تصف الطلول على السماع بها | إن العيان أشد في العلم |
وإذا نعت الشيء متبعا | لم تخل عن خطأ وعن وهم |
وقال كما في الديوان ويظهر من البيت الأخير والذي قبله أن الخليفة نهاه عن ذكر الخمر في شعره وحمله على وصف الأطلال والدمن:
أعر شعرك الأطلال والدمن القفرا | فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا |
دعاني إلى وصف الطلول مسلط | يضيق ذراعا أن أجوز له أمرا |
فسمعا أمير المؤمنين وطاعة | وإن كنت قد جشمتني مركبا وعرا |
ومن شعره الذي اتبع فيه طريقة غيره في بكاء الأطلال ووصف الديار والقفار وهو قليل في شعره قوله:
لمن طلل عاري المحل دفين | عفا عهده إلا خوالد جون |
كما اقتربت عند المبيت حمائم | غريبات تمشي ما لهن وكون |
ديار التي أما جني شفاهها | فيحلو وإما مسها فيلين |
وما أنصفت ماء الشحوب فظاهر | بوجهي وإما وجهها فمصون |
ودوية للريح بين فروجها | فنون لغات مشكل ومبين |
رميت بها العيدي حتى تحجلت | نواظر فيها وانطوين بطون |
وقوله:
قف بربع الظاعنينا | وابك إن كنت حزينا |
واسأل الدار متى | فارقت الدار القطينا |
قد سألناها وتأبى | أن تجيب السائلينا |
(ثانيا) إنه أتى في شعره بألفاظ العلماء وأهل الفنون وعبارات الحكماء والمنجمين والفلاسفة وأصحاب الطبائع فمن شعره الذي استعمل فيه عبارات فلسفية حكمية فيها ألفاظ علمية قوله:
حتى بدت حركاتي | مخلوقة من سكون |
قال ابن منظور قال النظام: لما سمعت هذه الأبيات نبهتني لشيء كنت غافلا عنه حتى وضعت كتابا في الحركة والسكون وعن الجاحظ في البيان والتبيان أنه قال قد تحسن ألفاظ المتكلمين في مثل شعر أبي نواس:
وذات خد مورد | قوهية فضية المتجرد |
تأمل العين منها | محاسنا ليس تنفذ |
فبعضها قد تناهى | وبعضها يتولد |
والحسن في كل عضو | منها معاد مردد |
فإن النفاد والتناهي والتولد ومعاد ومردد هي من ألفاظ العلماء والعبارات التي فيها هي عبارات الفلاسفة والحكماء وقال ابن منظور: يدل على معرفته بالكلام أشياء من شعره منها قوله وذكر الأبيات الأربعة قال ومنها قوله:
يا عاقد القلب عني | هلا تذكرت حلا |
تركت مني قليلا | من القليل أقلا |
يكاد لا يتجزى | أقل مني في اللفظ من لا |
(أقول) فهذه العبارات عبارات الفلاسفة والتجزي من كلماتهم وقال ابن منظور أيضا حدث بعض آل نوبخت قال جاء النظام يوما فسألنا عن منزل أبي نواس فقلنا له أنه يسكن تلك الغرفة فاستأذن عليه وقال له أنشدني قولك: (تركت مني قليلا) والبيت الذي بعده فأنشده فقال له النظام أنت أشعر الناس في هذا المعنى، والجزء الذي لا يتجزأ منذ دهرنا الأطول نخوض فيه ما خرج لنا فيه من القول ما جمعته أنت فيه في بيت واحد (قال) ومنها قوله في امرأة اسمها حسن:
إن اسم حسن لوجهها صفة | ولا أرى ذا في غيرها اجتمعا |
فهي إذا سميت فقد وصفت | فيجمع الاسم معنيين معا |
(أقول) لعله إشارة إلى مسألة كلامية وهي أن الصفة هل هي عين الموصوف أو غيره (قال) ومنها قوله فيما يتعلق بالحكمة:
قل لزهير إذا حدا وشدا | أقلل أو أكثر فأنت مهذار |
سخنت من شدة البرودة حتى | صرت عندي كأنك النار |
لا يعجب السامعون من صفتي | كذلك الثلج بارد حار |
قال: هذا شيء أخذه أبو نواس من مذهب حكماء الهند فإنهم يقولون إن الشيء إذا أفرط في البرودة انقلب حارا وقالوا: إن الصندل يحك منه اليسير فيبرد فإذا أكثر منه سخن ومن استعماله ألفاظ المنجمين قوله:
ألم تر الشمس حلت الحملا | وقام وزن الزمان فاعتدلا |
وغنت الطير بعد عجمتها | واستوفت الخمر حولها كملا |
والشمس تنتقل إلى برج الحمل في أول فصل الربيع في الثامن من آذار ويستوي حينئذ الليل والنهار ويعتدل الهواء وتعود الأطيار بعد سكوتها في فصل الشتاء واستكمال الخمر حولها لأنها عصرت في ذلك الوقت من تمر أو زبيب صدفة لا لأن ذلك وقت عصرها وقوله من قصيدة:
مضى أيلول وارتفع الحرور | وأخبت نارها الشعرى العبور |
ومن استعماله ألفاظ المنجمين قوله:
كأنها الشمس إذا صفقت | وبينها الكبش أو الحوت |
ومن استعماله ألفاظ الفلاسفة والحكماء قوله:
فاتتك في صور تداخلها البلى | فأزالهن وأثبت الأشباحا |
فإن الصور والأشباح من ألفاظهم ومن استعماله ألفاظهم أيضا قوله:
حتى إذا أمرها تلاشى | وخلص السر والنجار |
آلت إلى جوهر لطيف | عيان موجودة ضمار |
فإن التلاشي والجوهر اللطيف من ألفاظهم. وذكر في شعره القضاء والقدر فقال:
فوا حرباه من عيني | بلذتها جنت ضرري |
فإن عاتبتها عنه | أحالتني على القدر |
فتخمصني فأسكت لا | أحير القول كالحجر |
وقوله في صفة الخمر:
لم تقم في الوهم إلا | كذبت عين اليقين |
فمتى تدرك ما لا | يتحرى بالعيون |
ومن تشبيهاته البديعة في الخمر:
وندمان سقيت الراح صرفا | وستر الليل منسدل السجوف |
صفت وصفت زجاجتها عليها | كمعنى دق في ذهن لطيف |
وقوله:
معتقة صاغ المزاج لرأسها | أكاليل در ما لناظمها سلك |
جرت حركات الدهر فوق سكونها | فذابت كذوب التبر أخلصه السبك |
وقد خفيت من لطفها فكأنها | بقايا يقين كاد يذهبه الشك |
(ثالثا) أنه كان للشعراء الأقدمين ألفاظ محدودة وأساليب معينة فتجاوزها أبو نواس. قال ابن رشيق في العمدة: وللشعراء ألفاظ معروفة وأمثلة مألوفة لا ينبغي للشاعر أن يعدوها ولا أن يستعمل غيرها كما أن الكتاب اصطلحوا على ألفاظ بأعيانها سموها الكتابية لا يتجاوزونها إلى سواها إلا أن يريد شاعر أن يتطرق باستعمال لفظ أعجمي فيستعمله في الندرة وعلى سبيل الحظرة كما فعل الأعشى قديما وأبو نواس حديثا "انتهى" وظاهره أنه حصر تجاوز أبي نواس في استعمال لفظ أعجمي وهو غير صواب فقد تجاوز بما هو أوسع من ذلك كثيرا.
(رابعا) التصرف في المعاني فقد تصرف أبو نواس في المعاني ما شاء كما أشار إليه أبو حاتم السجستاني بقوله كما مر: كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس. فمن تصرفه في المعاني قوله الذي جعله به ابن الأعرابي أشعر الناس كما مر (تغطيت من دهري) البيتان السابقان عند الكلام على تقديمه على الشعراء فإن كونه تغطى عن الدهر بظل جناح الممدوح فصار يرى الدهر والدهر لا يراه والأيام لا تدري اسمه ولا مكانه فلا تناله بصروفها ومحنها ومصائبها لهو من المعاني الغريبة الطريفة التي لم يسبق إليها والكنايات البديعة التي تصرف فيها أحسن تصرف. ومن تصرفه في المعاني قوله:
أقول للسقم كم ذا قد لهجت به | فقال لي مثل ما تهواه أهواه |
حلفت للسقم أني لست أذكره | وكيف يذكره من ليس ينساه |
ومن تصرفه في المعاني قوله:
براه الله من ذهب ودر | فأحسن خلقه لما يراه |
فلما خطه بشرا سويا | حذا حور الجنان على حذاه |
وقوله:
صيغ هذا الناس من حمأ | وبراه الله من ذهب |
عجبا لم يثنه حرج | دون قتلي عف عن سلبي |
وقوله:
أصبني منك يا أملي بذنب | تتيه على الذنوب به ذنوبي |
ومن تصرفه في المعاني ما قاله فيمن دخلت لي مأتم كما في تاريخ دمشق:
يا منسي المأتم أشجانه | لما أتاه في المعزينا |
استقبلتهن بيمنى لها | فقمن يضحكن ويبكينا |
حق لهذا الوجه أن يزدهي | من حزنه من كان محزونا |
وقال في جارية تبكي ميتا كما في تاريخ دمشق:
كأن صفاء الدمع في حمرة الخد | حكى الدر منثورا على ورق نضر |
فيا نور عيني لو كففت عن البكا | وناديت من أبكاك قام من القبر |
وقال في باكية في مأتم:
يا قمرا أبصرت في مأتم | يندب شجوا بين أتراب |
أبرزه المأتم لي كارها | برغم دايات وحجاب |
يبكي فيذري الطل من نرجس | ويلطم الورد بعناب |
فقلت لا تبك قتيلا مضى | وابك قتيلا لك بالباب |
لا زال موتا دأب أحبابه | ولا تزل رؤيته دابي |
ومن ذلك قوله وقد رأى جارية خرجت من قصر فكلمها فقالت له بهذا الوجه؟! فقال كما في تاريخ دمشق:
وقصرية أبصرتها فهويتها | هوى عروة الغوري والعاشق النهدي |
فلما تدانى هجرها قلت واصلي | فقالت بهذا الوجه تبغي الهوى عندي |
فقلت لها لو أن في السوق أوجها | تباع بنقد أو تباع سوى نقد |
لبدلت وجهي واشتريت مكانه | لعلك أن تهوين ودي من بعد |
فإن كنت ذا قبح فإني شاعر | فقالت وإن أصبحت نابغة الجعد |
وقوله:
تنازعه القلوب إلى هواها | فتغتصب القلوب به القلوب |
وقوله:
يا من حوى الحسن محضا | واهتز كالغصن غضا |
لو أسخطتك حياتي | قتلت نفسي لترضى |
ومن بديع تصرفه في المعاني قوله في وصف الخمر:
مدام تبدت في مقام مشرف | تلوح لنا أنوارها ثم تختفي |
ولما شربناها ودب دبيبها | إلى موضع الأسرار قلت لها قفي |
مخافة أن يسطو علي شعاعها | فيطلع جلاسي على سري الخفي |
ومن تصرفاته في المعاني قوله:
أفنيت فيك معاني الشكوى | وصفات ما ألقى من البلوى |
قلبت آفاق الكلام فما | أبصرتني أغفلت من معنى |
وأعد ما لا أشتكي غبنا | فأعود فيه مره أخرى |
فلو إنما أشكو إلى بشر | لأراحنى ظنى من الشكوى |
لكنما أشكو إلى حجر | تنبو المعاول منه أو أقسى |
ظبي بمبكاه ومضحكه | فينا تنير وتظلم الدنيا |
(خامسا) كثرة النكات في شعره فإنه كثيرا ما يأتي بالنكات النادرة والنوادر المستملحة في شعره ويتصرف فيها تصرفات لا تكاد توجد لغيره ويستشهد بالأمور الدينية في الغزل وغيره. في تاريخ بغداد قال حسن بن الداية دخلت على أبي نواس في مرضه الذي مات فيه فقلت له: عظني فرفع رأسه إلي وأنشأ يقوله:
تكثر ما استطعت من الخطايا | فإنك بالغ ربا غفورا |
ستبصر إن وردت عليه عفوا | وتلقى سيدا ملكا كبيرا |
تعض ندامة كفيك مما | تركت مخافة النار السرورا |
فقلت له: ويلك في مثل هذه الحال تعظني بمثل هذه الموعظة فقال: اسكت حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (قال) أدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "انتهى". قال ابن خلكان: ما أحسن ظن أبي نواس بربه حيث يقول: وأورد الأبيات ثم قال: وهذا من أحسن المعاني وأغربها "انتهى" ويمكن القول بأن هذه الأبيات أقرب إلى حسن النكتة منها إلى حسن الظن بربه تعالى فإن حسن الظن له أسلوب آخر غير هذا الأسلوب ومن استشهاده بالأمور الدينية في غزله ومجونه قوله:
كسر الجرة عمدا | وسقى الترب شرابا |
قلت والإسلام ديني | ليتني كنت ترابا |
وقوله:
اشرب وعق الوالديـ | ـن ولا تبقي من أثامه |
وإذا حججت احجج على | ظهر الغلام أو الغلامة |
فالنار في شغل بمن | حجب الوصي عن الإمامة |
(سادسا) تفننه في وصف الخمر كما ستعرف عند ذكر نموذج من خمرياته.
(سابعا) إكثاره من غزل المذكر الذي لم تكن تعرفه العرب.
(ثامنا) تعاجمه في شعره قال ابن منظور كان قبل أن ينتمي لليمن ويدعي النزارية يتعاجم في شعره "انتهى" وأنا أظن أن تعاجمه هذا من جملة تفننه في الشعر لا ميلا إلى العجم فمن ذلك قوله:
فاسقنيها وغن صو | تا لك الخير أعجما |
ليس في نعت دمنة | لا ولا جزر أشأما |
وقوله: (تدار علينا الراح) الأبيات وقوله:
تراث أبي ساسان كسرى ولم تكن | مواريث ما أبقت تميم ولا بكر |
الأوقات التي كان ينظم فيها أبو نواس الشعر
قال ابن منظور: كان أبو نواس يقول لا أكاد أقول شعرا جيدا حتى تكون نفسي طيبة وأكون في بستان موفق وعلى حال أرتضيها من صلة أوصل بها أو وعد بصلة وقد قلت وأنا على غير هذا الحال أشعارا لا أرضاها.
تهذيبه شعره وإسقاط ما لا يرضاه
قال ابن منظور: كان أبو نواس يعمل القصيدة ثم يتركها أياما ثم يعرضها على نفسه فيسقط كثيرا منها ويترك صافيها ولا يسره كل ما يقذف به خاطره. ولم يكن في الشعر بالبطيء ولا بالسريع بل كان في منزلة وسطى.
رأيه في شعر نفسه
قال ابن منظور قال سليمان ابن أبي سهل قلت لأبي نواس: ما الذي أستجيد من أجناس شعرك فقال: أشعاري في الخمر لم يقل مثلها وأشعاري في الغزل فوق أشعار الناس وهما أجود شعري إن لم يزاحم غزلي ما قلته في الطرد. وقال ابن منظور أيضا قال أبو حاتم السجستاني سهل ابن محمد سئل أبو نواس عن شعره فقال: إذا أردت أن أجد قلت مثل قصيدي:
أيها المنتاب عن عفره | لست من ليلي ولا سمره |
وإذا أردت العبث قلت مثل قصيدي:
طاب الهوى لعميده | لو لا اعتراض صدوده |
فأما الذي أنا فيه وحدي وكله جد فإذا وصفت الخمر. وقال ابن منظور أيضا كان أبو نواس يقول: لو أن شعرا يملأ الفم ما تقدمني أحد .
رأيه في الشعراء ورأي بعضهم فيه
في معاهد التنصيص: كان أبو نواس يعجبه شعر النابغة ويفضله على زهير تفضيلا شديدا ثم يقول الأعشى ليس مثلهما وكان يتعصب لجرير على الفرزدق ويقول: ويأتم ببشار ويقول غزير الشعر كثير الافتنان ويقول: وثمنت قراءة شعر الكميت فوجدت قشعريرة ثم قرأت شعر الخزيمي فتشققت علي حمى مبردة ثم قال يوما: شعري أشبه بشعر جرير فقيل له: فما تقول في الأخطل قال إمامي فقيل الفرزدق قال: ذاك الأب الأكبر "انتهى". واجتمع أبو نواس مع العباس بن الأحنف في مجلس فقام العباس في حاجة فسئل أبو نواس عن رأيه فيه وفي شعره فقال: لهو أرق الوهم وأنفذ من الفهم وأمضى من السهم ثم عاد العباس وقام أبو نواس لحاجة فسئل العباس عن رأيه فيه فقال: إنه لأقر للعين من وصل بعد هجر ووفاء بعد غدر وإنجاز وعد بعد يأس (إلى أن قال) وانصرف العباس أبو نواس فسئل عن العتابي والعباس فقال العتابي يتكلف والعباس يتدفق طبعا وكلام هذا سهل عذب وكلام ذاك متدفق كز وفي شعر هذا ماء ورقة وحلاوة وفي شعر ذاك جساوة وفضاضة.
رأيه في العلماء
قال ابن خلكان في ترجمة أبي عبيدة معمر بن المنى: كان أبو نواس يتعلم من أبي عبيدة ويصفه ويشنأ (ويسب) الأصمعي ويهجوه فقيل له: ما تقول في الأصمعي قال بلبل في قفص قيل له: فما تقول في خلف الأحمر فقال: علوم الناس ونهمها قيل فما تقول في أبي عبيدة فقال: ذاك أديم طوي على علم وذكر نحوه ابن منظور.
حسد الشعراء له
قال ابن منظور قال محمد بن عمر لم يكن شاعر في عصر أبي نواس إلا وهو يحسده لميل الناس إليه وشهوتهم لمعاشرته وبعد صيته وظرف لسانه "انتهى" وكفى بذلك دليلا على تقدمه في الشعر.
تشيعه
قد عرفت أن ابن شهراشوب في المعالم عده من شعراء أهل البيت المقتصدين من أصحاب الأئمة عليهم السلام وقال محمد بن مكرم المعروف بابن منظور الأنصاري صاحب لسان العرب في كتابه أخبار أبو نواس ما لفظه: ومن خلال أبي نواس المأثورة أنه كأن يميل مع أهل البيت سرا لا يجسر على المجاهرة به وقال قيل له في إعراضه عن مدحهم لقد ذكرت كل معنى في شعرك وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئا فقال: وأنا ما تركت ذلك إلا إعظاما له وليس قدر مثلي أن يقول في مثله وأنشد:
أنا لا أستطيع مدح إمام | كان جبريل خادما لأبيه |
ومر عند ذكر أقوال العلماء فيه قول المرزباني أما في مذهبه فكان شيعيا إماميا حسن العقيدة وهو القائل في علي ابن موسى الرضا عليه السلام وقد عوتب في ترك مدحه (قيل لي أنت أشعر الناس طرا) الأبيات الثلاثة المتقدمة هناك وقال ابن خلكان في ترجمة الرضا عليه السلام وفيه يقول أبو نواس وذكر الأبيات الثلاثة المتقدمة وزاد عليها بيتا مع بعض المخالفة في الباقي.
قيل لي أنت أحسن الناس طرا | في فنون من الكلام النبيه |
لك من جيد القريض مديح | يثمر الدر في يدي مجتيه |
فعلام تركت مدح ابن موسى | والخصال التي تجمعن فيه |
قلت لا أستطيع مدح إمام | كان جبريل خادما لأبيه |
قال وكان سبب قولة هذه الأبيات أن بعض أصحابه قال له: ما رأيت أوقح منك ما تركت خمرا ولا طردا ولا معنى إلا قلت فيه شيئا وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئا فقال: والله ما تركت ذلك إلا إعظاما له وليس قدر مثلي أن يقول في مثله ثم أنشأ بعد ساعة هذه الأبيات. قال وفيه يقول أيضا وله ذكر في شذور العقود في سنة إحدى أو اثنتين ومائتين المطهرون نقيات جيوبهم) الأبيات الأربعة الآتية. وفي عيون أخبار الرضا: حدثنا أحمد بن يحيى المكتب حدثني أبو الطيب أحمد بن محمد الوراق حدثنا علي ابن هارون الحميري حدثنا علي بن محمد بن سليمان النويلي قال: إن المأمون لما جعل علي بن موسى الرضا عليه السلام ولي عهده وأن الشعراء قصدوا المأمون ووصلهم بأموال جمة حين مدحوا الرضا عليه السلام وصوبوا رأي المأمون في الأشعار دون أبي نواس فإنه لم يقصده ولم يمدحه ودخل إلى المأمون فقال له: يا أبا نواس قد علمت مكان علي بن موسى الرضا مني وما أكرمته به فلماذا ادخرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع دهرك فأنشأ يقول:
قيل لي أنت أوحد الناس طرا | في فنون من الكلام النبيه |
لك من جوهر الكلام بديع | يثمر الدر في يدي مجتنيه |
فعلام تركت مدح ابن موسى | والخصال التي تجمعن فيه |
قلت لا أهتدي لمدح إمام | كان جبريل خادما لأبيه |
فقال له المأمون: أحسنت ووصله من المال بمثل ما وصل به كافة الشعراء وفضله عليهم وروى محمد ابن أبي القاسم في كتابه بشارة المصطفى قال: أخبرنا الشيخ محمد ابن شهريار الخازن في ذي القعدة سنة 510 قراءة عليه بمشهد مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عند باب العباس الدرويستي قال: حدثنا العباس الدرويستي بذلك المشهد المقدس في شعبان سنة 458 وهو متوجه إلى مكة للحج قال: حدثني أبي محمد بن أحمد حدثني الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه حدثني أبي عن علي بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن ياسر الخادم قال: لما جعل المأمون علي بن موسى الرضا عليه السلام ولي عهده وضربت الدراهم باسمه وخطب له على المنابر قصده الشعراء من جميع الآفاق فكان في جملتهم أبو نواس الحسن بن هانئ فمدحه كل شاعر بما عنده إلا أبو نواس فإنه لم يقل فيه شيئا فعاتبه المأمون وقال له: يا أبا نواس أنت مع تشيعك وميلك إلى أهل هذا البيت تركت مدح علي بن موسى مع اجتراع خصال الخير فيه فأنشأ يقول: (قيل لي أنت أشعر الناس طرا) الأبيات وزاد فيها:
قصرت ألسن الفصاحة عنه | ولهذا القريض لا يحتويه |
فدعا بحقة لؤلؤ فحشا فاه لؤلؤا "انتهى". وفي العيون أيضا حدثنا الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن همام المكتب حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه حدثنا أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام ذات يوم وقد خرج من عند المأمون على بغلة له فدنا منه أبو نواس فسلم عليه وقال يا ابن رسول الله قد قلت فيك أبياتا فأحب أن تسمعها مني فقال: هات فأنشأ يقول:
مطهرون نقيات ثيابهم | تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا |
من لم يكن علويا حين تنسبه | فما له في قديم الدهر مفتخر |
فالله لما بدا خلقا وأتقنه | صفاكم واصطفاكم أيها البشر |
فأنتم الملا الأعلى وعندكم | علم الكتاب وما جاءت به السور |
فقال له الرضا عليه السلام: قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد ثم قال: يا غلام هل معك من نفقتنا شيء فقال: ثلثمائة دينار فقال: أعطها إياه ثم قال: لعله استقلها يا غلام سق إليه البغلة. ورواه صاحب كتاب بشارة المصطفى بالسند الآتي عن ياسر الخادم مثله وزاد فدنا منه أبو نواس في الدهليز وأنه بعد إنشاده قال له الرضا عليه السلام: أحسن الله جزاءك. وفي رياض العلماء: روى الحموي في كتاب فرائد السمطين عن الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي عن الحاكم أبي عبد الله النيشابوري عن علي بن محمد بن عيسى عن الصدوق عن الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتب إلى آخر السند والحديث السابقين وفي العيون أيضا حدثنا أبو نصر محمد بن الحسن بن إبراهيم الكرخي الكاتب بإيلاق حدثني أبو الحسن محمد بن صفوان (سفيان) الغساني حدثنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي سمعت أبا العباس محمد ابن يزيد المبرد يقول: خرج أبو نواس ذات يوم من دار فبصر براكب قد حاذاه فسأل عنه ولم ير وجهه فقيل إنه علي ابن موسى الرضا فأنشأ يقول:
إذا أبصرتك العين من بعد غاية | وعارض فيك الشك أثبتك القلب |
ولو أن قوما أمموك لقادهم | نسيمك حتى يستدل بك الركب |
وفي رياض العلماء وروى الحموئي أيضا بإسناده عن أبي بكر محمد بن يزيد المبرد يقول: خرج أبو نواس إلى آخر الحديث السابق. ومر عند الكلام على تاريخ وفاته منافاة تاريخها لهذه الأخبار فلا بد من القول إما بعدم صحة هذه الأخبار أو عدم صحة هذه التواريخ وأنه لما كانت هذه الأخبار قد روتها الثقات تعين الثاني والله أعلم. كما مر أن المؤرخين لم يذكروا مجيء أبي نواس إلى خراسان وأنه كان ملازما للأمين حتى مات فرثاه وذلك ينافي هذه الأخبار فراجع. ثم إن ابن شهراشوب في المناقب ذكر أنه قال هذه الأبيات مع بعض زيادة وتغيير في أبيه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام قال عند ذكر سيرة الإمام موسى بن جعفر ولقيه أبو نواس فقال:
إذا أبصرتك العين من غير ريبة | وعارض فيك الشك أثبتك القلب |
ولو أن قوما أمموك لقادهم | نسيمك حتى يستدل بك الركب |
جعلتك حسبي في أموري كلها | وما خاب من أضحى وأنت له حسب |
وعليه فيرتفع التنافي بين التاريخين لكن الأخبار الدالة على ملاقاة أبي نواس للرضا وللمأمون بخراسان كثيرة يصعب ردها والله أعلم وأورد له ابن شهراشوب في المناقب هذه الأبيات ويظهر أنها في الإمام الباقر عليه السلام لأنه أوردها عند ذكر سيرته عليه السلام فقد قال أبو نواس:
فهو الذي قدم الله العلي له | أن لا يكون له في فضله ثاني |
وهو الذي استحسن الله القلوب به | عما يجمجمن من كفر وإيمان |
وإن قوما رجوا إبطال حقكم | أمسوا من الله في سخط وعصيان |
لم يدفعوا حقكم إلا بدفعهم | ما أنزل الله من آي وقرآن |
فقلدوها لأهل بيت أنهم | صنو النبي وأنتم غير صنوان |
ولكن ابن شهراشوب نفسه نسب في المعالم البيت الرابع إلى علي بن محمد بن عمار البرقي فدل على أن الباقي له ومر عند الكلام على كثرة النكات في شعره وخلطه الجد بالهزل قوله:
فالنار في شغل بمن | حجب الوصي عن الإمامة |
ومما يشير إلى تشيعه قوله وقد قدم الكوفة واستطابها وأقام بها مدة:
ذهبت بنا كوفان مذهبها | وعدمت عن أربابها صبري |
ما ذاك إلا أنني رجل | لا أستخف صداقة البصري |
وأهل الكوفة معروفون بالتشيع وأهل البصرة بخلافه وأورد له ابن شهراشوب في المناقب ثلاثة أبيات في أمير المؤمنين عليه السلام أولها: (قيل لي قل في علي مدحا) لم نطمئن من صحة نسبتها فتركناها وأورد له ابن شهراشوب في المناقب بعد الأبيات الأربعة الآتية التي أولها (يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة) قوله:
متمسكا بمحمد وبآله | إن الموفق من بهم يستعصم |
ثم الشفاعة من نبيك أحمد | ثم الحماية من علي أعلم |
ثم الحسين وبعده أولاده | ساداتنا حتى الإمام المكتم |
سادات حر ملجأ مستعصم | بهم ألوذ فذاك حصن محكم |
ولكن عدم ذكر غيره لهذه التتمة مع كونها ليست في قوة أشعاره يوجب الظن بأنها قد ألحقت بأبياته إلحاقا والله أعلم. وأورد له ابن شهراشوب في المناقب في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام هذه الأبيات التي مزج فيها الجد بالهزل:
ومدامة من خمر عانة قرقف | صفراء ذات تلهب وتشعشع |
رقت كدين الناصبي وقد وصفت | كصفا الولي الخاشع المتشيع |
باكرتها وجعلت أنشق ريحها | وأمص درتها كدرة مرضع |
في فتية رفضوا سوى آل الهدى | وعنوا بأروع في العلوم مشفع |
وتيقنوا أن ليس ينفع في غد | غير البطين الهاشمي الأنزع |
أبو نواس الحق وأبو نواس الباطل
روى الشيخ الطوسي في أماليه أن الإمام الهادي عليه السلام قال لسهل بن يعقوب الكاتب المكنى بأبي نواس أنت أبو نواس الحق ومن تقدمك أبو نواس الباطل "انتهى" وعن الكفعمي في حاشية المصباح عن سهل بن يعقوب هذا أن الإمام الهادي عليه السلام كان يقول: إذا سمع من يلقبني بأبي نواس أنت أبو نواس الحق ومن تقدمك أو وذاك إمام الغي والباطل ويأتي ذلك في ترجمة سهل والظاهر أن ذلك لما كان يصدر من أبي نواس المترجم من المجون ووصف الخمر وهجاء الناس لا لسوء في عقيدته وفي مجالس المؤمنين مما نسب إلى أبي نواس الحسن بن هانئ قوله:
إني أحب أبا حفص وشيعته | كما أحب عتيقا صاحب الغار |
وقد رضيت عليا قدوة العلما | وما رضيت بقتل الشيخ في الدار |
كل الصحابة عندي أنجم زهر | فهل علي بهذا القول من عار |
من طريف أخباره ما رواه الخطيب في تاريخ بغداد بسنده عن سليم بن منصور قال: رأيت أبا نواس في مجلس أبي بكى بكاء شديدا فقلت: إني لأرجو أن لا يعذبك الله بعد هذا البكاء أبدا فأنشأ يقول:
لم أبك في مجلس منصور | شوقا إلى الجنة والحور |
ولا من القبر وأهواله | ولا من النفخة في الصور |
لكن بكائي لبكا شادن | تقيه نفسي كل محذور |
ثم قال: أما ترى الغلام الذي عن يمين أبيك إنما بكيت لبكائه. ومن طريف أخباره ما في تاريخ دمشق عن حسين ابن مخلد قال: دعا حائك أبا نواس يوما أن يكون عنده فوعده ولم يقصر الحائك في الاحتفال وجاء أبو نواس فإذا منزل طيب فأكل وشرب وكان الحائك يحب جارية قد شغف بحبها فقال له: يا سيدي قل في حبيبتي شعرا أسر به فقال له: أحضرها لأصفها عن مشاهدة فأحضرها فإذا هي أسمج خلق الله سوداء شمطاء دندانية يسيل لعابها على صدرها فقال له: ما اسمها قال: تسنيم فأنشا يقول:
أسهر لبلي حب تسنيم | جارية في الحسن كالبوم |
كأنما نكهتها كامخ | أو حزما من حزم الثوم |
حبقت من حبي لها حبقة | أفزعت منها ملك الروم |
فقام الحائك يرقص ويصفق سائر يومه ويفرح ويقول: شبهتها والله بملك الروم .
ومن نوادره
ما عن محاضرات الراغب: رئي أبو نواس وهو يصلي في الجماعة فقيل له: ما هذا فقال: أردت أن يرتفع إلى السماء خبر طريف. وقال أبو السفاح قلت لأبي نواس الصلاة، فقال رويدا حتى تذهب حمياها قلت: وما حمياها قال: الركعتان الأولتان لأنهما أطوال.
ومن أخباره
في تاريخ دمشق قال سندي بن صدقة كنا على سطح بمصر ومعنا أبو نواس فأقبلت رفقة يريدون الخصيب فاستدعى أبو نواس بدواة وكتب إلى الخصيب:
قد استزرت عصبة فأقبلوا | وعصبة لم تستزرهم طفلوا |
رجوك في تطفيلهم وأملوا | وللرجاء حرمة لا تجهل |
فأبلهم خيرا فأنت الأفضل | وأفعل كما كنت قديما تفعل |
ومن أخباره ما في كشكول البهائي: حكي أنه ذكر للرشيد قول أبي نواس:
فاسقني المبكر التي اعتجرت | بخمار الشيب في الرحم |
فقال: لمن حضره ما معناه فقال: أحدهم أن الخمرة إذا كانت في دنها كان عليها شيء مثل الزبد وهو الذي أراده وكان الأصمعي حاضرا فقال: يا أمير المؤمنين أن أبا علي رجل خطر وأن معانيه لخفية فاسألوه عن ذلك فأحضروه وسئل فقال: إن الكرم يكون عليه شبيه بالقطن فقال الأصمعي: ألم أقل لكم أن أبا نواس أدق نظرا مما ذكرتم "انتهى" ومن أخباره كما في روضات الجنات أنه خرج مع أصحابه إلى نزهة فمر بهم غلام من أهل البادية يسوق غنما له فقال أبو نواس لأصحابه: ألا أضحككم منه قالوا له: افعل فصاح به وقال:
أيا صاحب الشاء اللواتي يسوقها | بكم ذلك الكبش الذي قد تقدما |
فأجابه الراعي على البديهة:
أبيعكه إن كنت تبغي شراءه | ولم تك مزاحا بعشرين درهما |
فقال له أصحابه: هو والله أشعر منك. ومن أخبار أبي نواس بمصر ما رواه المرتضى في الأمالي بسنده عن إبراهيم ابن الخصيب قال: وقف أبو نواس بمصر على النيل فرأى رجلا قد أخذه التمساح فقال:
أضمرت للنيل هجرانا ومقلية | منذ قيل لي إنما التمساح في النيل |
فمن رأى النيل رأي العين من كثب | فما أرى النيل إلا في البواقيل |
قال: وقد أخطأ الصولي في تفسير أبي نواس بأن البواقيل سفن مغار لأن البواقيل جمع بوقال وهو آلة على هيأة الكوز تعمل من الزجاج وغيره قال: وهذا من قول ابن الرومي:
وأيسر إشفاقي من الماء إنني | أمر به في الكوز مر المجانب |
وأخشى الردى منه على كل شارب | فكيف بأمنيه على نفس راكب |
وانما أراد إنني لا أمر بماء النيل إلا إذا أردت شربه في كوز أو بوقال وما أشبه ذلك وأظن أنه استمر عليه الوهم من جهة قوله فما أرى النيل وصرف ذلك إلى أنه أراد النيل على الحقيقة وإنما أراد ماء النيل وما علمت أن السفن الصغار يقال لها: بواقيل إلا من قول الصولي هذا ولو كان ما ذكره صحيحا من أن ذلك اسم لصغار السفن لكان بيت أبي نواس بما ذكرناه أشبه وأليق وأدخل في معنى الشعر ويدخل شبهة في ذلك مع قوله -فمن رأى النيل رأى العين من كثب- ومن رأى النيل في السفن فقد رآه من كثب ومن رأى ماءه في الآنية على بعد فلا يكون رائيا له من كثب.
روايته الحديث
قد عرفت عند ذكر أقوال العلماء فيه وستعرف عند ذكر مشايخه أنه كان من رواة الحديث وروى عن عدة مشايخ .
ما روي من طريقه
في تاريخ بغداد في ترجمة محمد بن كثير أبو عبد الله الصيرفي البابشامي أنه روي عنه عن أبي نواس الشاعر عن حماد بن سلمة يرفعه إلى أنس بن مالك حديثان سندان إلى النبي صلى الله عليه وسلم (أحدهما) أنه قال: (لا يموتن أحدكم حتى يحسن ظنه باتا فإن حسن الظن باتا ثمن الجنة). ورواه ابن عساكر من طرق متعددة (وثانيهما) أنه قال لكل نبي شفاعة واني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة.
مداعبته مع مشايخ الحديث واللغة
من طريف حال أبي نواس أن يكون راويا للحديث وهو شاعر مستغرق الشعر في المجون والتفنن في الغزل ووصف الخمر وما إلى ذلك ومن هذا دأبه لا يميل إلى رواية الحديث لكن علو همته دعاه إلى الدخول في كل فن والجمع بين ما لا يتناسب فتراه وهو يروي عن عدة مشايخ تزيد على ثمانية يولع بأفانين المجون والغزل ووصف الخمر ولم يترك أبو نواس الظرف والمداعبة في شعره حتى في حال طلبه الحديث ومع أحد مشايخه فيه. روى الخطيب في تاريخ بغداد عن ابن عائشة قال: كنا على باب عبد الواحد بن زياد -أحد مشايخ أبي نواس في الحديث- ومعنا أبو نواس فقال -يعني عبد الواحد- ليسأل كل واحد منكم ثم قال -أي لأبي نواس- سل يا فتى فأنشأ يقول:
ولقد كنا روينا | من سعيد عن قتاده |
عن سعيد بن المسيب | أن سعد بن عباده |
قال من مات محبا | فله أجر الشهادة |
فالتفت إليه عبد الواحد بن زياد وقال: اعزب عني يا خبيث والله لا حدثتك بشيء وأنا أعرفك. ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق مع تغيير وزيادة قال: قال سليمان بن داود بينا نحسن ذات يوم عنا عبد الواحد بن زياد وأبو نواس حاضر فقلنا لبعضنا: ليختر كل واحد منا عشرة أحاديث فاختاروا ولم يختر أبو نواس فقلنا: يا فتى مالك لا تختار فأنشدنا:
ولقد كنا روينا | عن سعيد عن قتاده |
عن سعيد بن المسيب | ثم سعد بن عباده |
وعن الشعبي والشـ | ـعبي شيخ ذو جلاده |
وعن الأخيار يحـ | ـكيه وعن أهل الوفاده |
أن من مات محبا | فله أجر الشهاده |
فقال له عبد الواحد: قم يا ماجن وبلغ ذلك مالك ابن أنس وإبراهيم بن يحيى فقالا: عراقي غث ليس له تمام نسك ولا عقل ولا ظرف فهلا اغتنم ظرفه فقال أبو نواس:
لعمرك ما العبد المؤدي ضريبة | بل العبد عبد الواحد بن زياد |
فليس بذي دنيا ولا ذي ديانة | ولا ذي حجى في علمه وسداد |
وحكى ابن منظور هذا الخبر على نحو آخر فقال: أقبل أبو نواس إلى مجلس عبد الواحد بن زياد بالبصرة وقد كثر عليه أصحاب الأحاديث ليسألوه عنها فقال لهم: ليسأل كل رجل منكم عن ثلاثة أحاديث وليمض ففعل الناس ذلك حتى انتهى إلى أبي نواس فقال: يا غلام سل أنت فقعد بين يديه وقال: هاك الحديث فقال هات فأنشده:
ولقد كنا روينا | عن سعيد عن قتادة |
عن زرارة بن أوفى | أن سعد بن عباده |
قال من لاقى حبيبا | فاز منه بالسعادة |
وإذا مات محبا | فله أجر الشهادة |
والذي يجمع ألـ | ـفين على حسن الإرادة |
بوقار وسكون | وتأت للمراده |
هو في ذاك حكيم | زعمت ذاك جراده |
نية الفاسق فاعلم | هي خير من عباده |
أترى ذاك صوابا | نتبع منه سداده |
قد روى ذاك هشام | عن أبان عن جناده |
فقال له عبد الواحد: قم عليك لعنة الله والله لا أحدثك بعد ذلك ولا أعرف وجهك فقام أبو نواس وقال: والله لا أتيت مجلسك وأنت ترد الصحيح من الأحاديث، وحكى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن عبيد الله بن محمد بن عائشة قال: أتيت إسحاق بن يوسف الأزرق يوما فلما رآني بكى فقلت: ما يبكيك فقال: هذا أبو نواس قلت: ما له قال: يا جارية ائتيني بالقرطاس فإذا فيه مكتوب:
يا ساحر المقلتين والجيد | وقاتلي منك بالمواعيد |
توعدني الوصل ثم تخلفني | يا ويلة لي من خلف موعودي |
حدثني الأزرق المحدث عن شمـ | ـر وعوف عن ابن مسعود |
ما تخلف الوعد غير كافرة | آو كافر في الجحيم مصفود |
كذب والله علي وعلى التابعين وعلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما حدثته والله بهذا قط "انتهى" وهذا يدل على أن إسحاق هذا كان مغفلا. ومن طرائفه التي ترتبط بعلم الحديث ما رواه الخطيب بإسناده أنه لقي شعبة -وهو من رواة الحديث- أبا نواس فقال له: يا حسن حدثنا من طرقك فقال:
حدثنا الخفاف عن وائل | وخالد الحذاء عن جابر |
ومسعر عن بعض أصحابه | يرفعه الشيخ إلى عامر |
قالوا جميعا أيما طفلة | علقها ذو خلق طاهر |
فواصلته ثم دامت له | على وصال الحافظ الذاكر |
كانت لها الجنة مفتوحة | ترتع في مرتعها الزاهر |
وأي معشوق جفا عاشقا | بعد وصال دائم ناضر |
ففي عذاب الله بعدا له | نعم وسحق دائم ذاخر |
فقال له شعبة: إنك لجميل الأخلاق وإني لأرجو لك. فانظر إلى الفرق بينه وبين إسحاق. وروى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده عن عبيد الله بن محمد بن عائشة قال: رأيت أبا نواس في مجلس عبد الواحد بن زياد فقلت: أرجو أن يكون صلح إلى أن قال: فانصرفت إلى منزلي وإذا قد سبقت برقعة وإذا فيها مكتوب:
لولا غزال كغصن بان | يجري مع الشمس في عنان |
ما كنت أسعى إلى فقيه | مباعد الدار غير داني |
أسمع من لفظه فصولا | عنها قد أغنيت بالقرآن |
أنا بوصفي مقدمات | من الأباريق والقناني |
أحذق مني بأن أنادي | حدثنا ثابت البناني |
وعن محاضرات الراغب: كان أبو نواس مولعا بأبي عبيدة النحوي (معمر بن المثنى) فكتب يوما على أسطوانة كان يستند إليها أبو عبيدة:
صلى الإله على لوط وشيعته | أبا عبيدة قل بالله أمينا |
لأنت عندي بلا شك زعيمهم | مذ احتلمت وقد جاوزت ستينا |
فلما رآه أبو عبيدة قال لبعض أصحابه: ويحك اصعد فوقي وحكه فتطأطا له وصعد يحكه فلما ثقل عليه قال: أوجز فقال: حككته كله ولم يبق إلا لوط فقال: ويحك هذا هو المقصود. وفي مروج الذهب: كان أبو عبيدة يقعد في مسجد البصرة إلى سارية من سواريه فكتب أبو نواس عليها في غيبته (صلى الإله على لوط) "البيت" فلما جاء أبو عبيدة إلى تلك السارية قال: هذا فعل الماجن أبي نواس حكوه وإن كان فيه صلاة على نبي. وقال ابن منظور قال محمد ابن هشام كان عند أبي عبيدة في المسجد الجامع ومعنا أبو نواس إذ كتب إنسان على دفتره شيئا وقد لحظ الأسطوانة فقال له أبو عبيدة: ما هذا الذي تكتب فنظرنا فإذا بيت قد قاله أبو نواس وهو (صلى الإله على لوط) "البيت" فقال أبو عبيدة: هذا عمل الخبيث يعني أبا نواس وكنا أربعة أو خمسة فقال أبو عبيدة لكيسان: أيما أحب إليك أن تجبي لي فأمحوه أو أجبي لك فتمحوه أنت قال: أجب لي أنت فانحنى أبو عبيدة وحمل كيسان على ظهره وقال له: حكه قال كيسان فجعلت أحكه وهو يقول لي: ويحك عجل لا نفتضح عند الناس ثم قال لي: قد فرغت قلت قد بقي لوط وحده فقال لي أبو عبيدة: وهل نهرب إلا من لوط حكه فحككته "انتهى" ويظهر أن أبا نواس كتبه في موضع عال لا تناله اليد حتى يصعب حكه. قال ابن منظور: وقيل إن هذا البيت وجد في رقعة في مجلس أبي عبيدة وبعده بيت آخر وهو (فأنت عندي) "البيت المتقدم" فاتهم بذلك أبا محمد اليزيدي (يحيى بن المبارك) وأبا نواس فاعتذر إليه أبو نواس فقبل عذره ولم يعتذر اليزيدي فقال أبو عبيدة: لا فخرت عندي الرباب بأني ذكرتها أبدا فكيف أذكر عبدها وكان اليزيدي مولى لعدي الرباب "انتهى". ومن عبثه بأبي عبيدة ما ذكره ابن منظور قال: جاء أبو نواس بناطف فألقاه على سارية أبي عبيدة وجاء أبو عبيدة فاتكأ على قفاه إلى السارية فلما انتصف النهار واشتد الحر ذاب الناطف فسال على وجه أبي عبيدة وعينيه ولحيته ويحك وثيابه به فقال: قبح الله الماجن الخبيث أبا نواس فإن هذا من عمله قال وقال الجماز: كنا في حلقة أبي عبيدة فوجدنا فيها رقاعا في كل رقعة منها مكتوب:
أمر الأمير بأخذ أولاد الزنا | فتفرقوا لا تؤخذوا فتعاقبوا |
فقال أبو عبيدة من فعل هذا لعنه الله فقال أبو نواس: لو علمت من فعل هذا لأهجونه فضحك أبو عبيدة وقال: ومحترس من مثله وهو حارس.
أخباره مع والبة بن الحباب
قال جامع ديوانه: خرج أبو نواس يوما مع والبة ابن الحباب من الكوفة يريدان الحيرة وهما يمشيان وأرجلهما تغرق في الرمل وقد جاعا فقال أبو نواس:
يا ليت فيما بيننا ستة | أرغفة ما بينها وزه |
فقال والبة:
من وز أرض الصين نؤتى بها | مشوية تتبعها رزة |
فقال أبو نواس:
جواذبه تؤخذ من بعدها | خمر من الحيرية المزه |
فقال والبة:
يديرها ساق وقد شابها | من ماء مزن جوف فأفزه |
فقال أبو نواس:
معه جوار كالمها زانها | نضم جمان مع نقابزه |
فقال والبة:
وكلنا للبيض يهوى كما | كثير كان هوى عزه |
طاب لنا العيش ولكننا | أرجلنا في الرمل مرتزه |
فقال والبة:
مع عرق منسكب حائل | يجري من النحر إلى الحزه |
خبره مع حمدان بن زكريا الخزاز
قال جامع ديوان أبي نواس قال الهيثم الخثعمي الكوفي: قدم علينا أبو نواس الكوفة يريد الحج فاستزرته فزارني فرأى عندي دفترا فيه شعر حمدان بن زكريا الخزاز فنظر فيه فاستبرده فدعا بكوز ماء فصبه عليه وقال: هذا حق هذا الشعر فبلغ الخبر حمدان فجائني رسوله برقعة فيها:
قل للنواسي لقد جاءني | منك لعمري خبر نادر |
لولا فتى خثعم قرم الورى | صال عليك الأسد الخادر |
فاربع على نفسك وانظر لها | فما عداك المثل السائر |
أنت كما قد قيل فيما مضى | قد ذل من ليس له ناصر |
فأجابه أبو نواس:
قولا لحمدان وما شيمتي | أن أهدي النصح له مخلصا |
ما أنت بالحر فألحى ولا | بالعبد استعتبه بالعصا |
فرحمة الله على آدم | رحمة من عم ومن خصصا |
لو كان يدري أنه خارج | مثلك من أحليله لاختصى |
(الأبيات الآتية) قال: وقد روى النيبختيون خبر هذه الأبيات من جهة أخرى قالوا: حضر أبو نواس مع جماعة سطحا عاليا من سطوح بني نيبخت يطلبون هلال الفطر وكان سليمان ابن أبي سهل في عينيه سوء فقام أبو نواس بإزائه ثم قال: يا أبا أيوب كيف ترى الهلال من بعد وأنت لا تراني من قرب فقال سليمان: قد رأيتك تمشي القهقرى حتى تدخل في حر جلبان فأحفظ ذلك ابا نواس فقال في سليمان:
قل لسليمان وما شيمتي | أن أهدي له النصح مخلصا |
(الأبيات) فأجابه سليمان ابن ابي سهل قال:
إن ابن هاني سفلة خالص | ما وحد الله وما أخلصا |
أغلى بذكري شعره واغتدى | بالقرض في أشباهه مرخصا |
وكان في شعري وتغريده | لخوف من يأتيه قد قلصا |
كالكلب هر الليث حتى إذا | أهوى إليه مخلبا بصبصا |
وقال جامع ديوانه لما قال أبو نواس:
يا رئم هات الدواة والقلما | أكتب شوقي إلى الذي ظلما |
من صار لا يعرف الوصال وقد | زاد فؤادي في حبه ألما |
غضبان قد عزني هواه ولو | يسأل مما غضبت ما علما |
فليس ينفك منه عاشقه | في جمع عذر من غير ما اجترما |
لو نظرت عينه إلى حجر | ولد فيه فتورها سقما |
أظل يقظان في تذكره | حتى إذا نمت كان لي حلما |
عارضه الخزاز فقال:
إن باح قلبي فطالما كتما | ما باح حتى جفاه من ظلما |
وكيف يقوى على الجفاء فتى | قد مات أو كاد أو أراه وما |
أشك أن الهوى سيقتلني | من غير سيف ولا يريق دما |
كيف احتيالي لشادن غنج | أصبح بعد الوصال قد صرما |
ما قلت لما علا الصدود به | يا رئم هات الدواة والقلما |
لكن سفحت الدموع من حزن | لما تمادى الصدود ثم نما |
إن الرسول الذي أتاك بما | أتاك عني قد حرف الكلما |
خبره مع أبي العتاهية
حكى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن إسحاق ابن إبراهيم الموصلي قال: اجتمع عندي أبو نواس وأبو العتاهية وكل واحد منهما لا يعرف صاحبه فعرفت أبا العتاهية بأبي نواس فسلم عليه وجعل أبو نواس ينشد من سفساف شعره فاندفع أبو العتاهية فأنشد فجعل أبو نواس يقول: هذا والله المطمع الممتنع فقال له أبو العتاهية: هذا القول والله منك أحسن من كل ما أنشدت كيف البيت الذي مدحت به الرشيد قال الربيع:
قد كنت خفتك ثم آمنني | من أن أخافك خوفك الله |
قال: لوددت أني كنت سبقتك إليه وزاد ابن الأنباري في أخباره مع مسلم بن الوليد:
فعفوت عنا عفو مقتدر | حلت به نعم فألفاها |
أخباره مع مسلم بن الوليد
قال جامع ديوانه: اجتمع أبو نواس يوما مع مسلم فتلاحيا فقال مسلم: ما أعلم لك بيتا يسلم من سقط فقال أبو نواس: هات فقال قولك:
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا | وأمله ديك الصباح صياحا |
لماذا أمله ديك الصباح وهو يبشره بالصبوح الذي ارتاح إليه فكيف يجتمع ارتياح وملل فقال أبو نواس: أنشدني أنت أي شعرك شئت فأنشده مسلم:
عاصى الشباب فراح غير مفند | وأقام بين عزيمة وتجلد |
فقال أبو نواس: ناقضت ذكرت أنه راح والرواح لا يكون إلا بالانتقال من مكان ثم قلت: وأقام بين عزيمة وتجلد فجعلته منتقلا مقيما وتشاغبا في ذلك ثم افترقا فقال أبو نضلة مهلهل بن يموت بن المزرع ابن أخت الجاحظ: غلط مسلم في معارضته لأبي نواس لأنه إنما ارتاح للشرب ولم يرتح لصوت الديك فلما أكثر مل استماع صياحه "انتهى". وقال ابن منظور: اجتمع أبو نواس ومسلم ابن الوليد في مجلس فقال مسلم لأبي نواس: والله ما تحسن الأوصاف فقال له أبو نواس: لا والله ما أحسن أن أقول:
سلت فسلت ثم سل سليلها | فأتى سليل سليلها مسلولا |
والله لو رحمت الناس في الطرق لكان أحسن لك من هذا.
خبره مع الرقاشي واسمه الفضل بن العميد
قال جامع ديوانه: اجتمع أبو نواس يوما مع الرقاشي في مجلس فتذاكرا الشعر فقال له أبو نواس: لقد سبقتني إلى أبيات وددت أنها لي بجميع شعري قال: وما هي قال قولك:
نبهت ندماني الموفي بذمته | من بعد أتعاب طاسات وأقداح |
فقلت خذ واسقني واشرب وغن لنا | يا دار مثواي بالقاعين فالساح |
فما حسا ثانيا أو بعض ثالثة | حتى استدار ورد الراح بالراح |
فقال له الرقاشي: لكنك أنت سبقتني ببيتين وددت أنهما لي بجميع شعري فقال وما هما قال قولك:
ومستطيل على الصهباء باكرها | في فتية باصطباح الراح حذاق |
فكل شيء رآه ظنه قدحا | وكل شخص رآه قال ذا ساقي |
أخباره مع الرشيد
قال ابن منظور قال أبو نواس: أول اتصالي بالخلفاء أن الرشيد قال ذات ليلة لهرثمة بن أعين أطلب لي رجلا يصلح للحديث وللسمر فخرج هرثمة فسأل فدل علي فأدخلني عليه فسألني الرشيد عن اسمي واسم أبي فأخبرته ثم قال لي يا حسن أرقت في هذه الليلة فخطر ببالي هذان البيتان:
وقهوة كالعقيق صافية | يطير من حسنها لها شرر |
زوجتها الماء كي تذل له | فامتنعت حين مسها ذكر |
فقلت بديها:
كذلك البكر عند خلوتها | يظهر منها الحياء والخفر |
حتى إذا ساسها مملكها | فما لها فيه ثم مزدجر |
قال أحسنت والله وأمر لي بمال وكان سبب اتصالي به. وفي بعض حكاياته معه أنه أمر له بعشرين ألف درهم. قال ابن منظور: كان إسحاق الموصلي يتعصب لأبي نواس ويشيد ذكره ويجهر بتفضيله ويجلب له الرفد من الرشيد ويحط من قدر الأصمعي لتنافس بينهما حتى أخذ أبو نواس المقام الأول بين الندماء وبنى لنفسه وفي نهر طابق الدور التي لم يبن مثلها عظماء الناس بينما الأصمعي يتقرض من أصحابه حاجته من المال. قال وإنما حصل أبو نواس على المكانة عند الرشيد بأنه كان إذا بكر إليه سأل أبو نواس خواص أهل بيت الرشيد عما يكون في نفسه أو يكون جرى له في ذلك الوقت ثم ينشده أشعارا لطيفة في مطابقة ذلك فيطيب بها نفسا قال أبو نواس: ولقد كنت يوما معه بداره وعلمت من بعض خدمه أنه دخل مقصورة جارية على غفلة منها فوجدها تغتسل وقت الظهر فلما رأته تجللت بشعرها فأعجبه ذلك منها فلما دخل أبو نواس أنشده:
نضت عنها القميص لصب ماء | فورد وجهها فرط الحياء |
وقابلت الهواء وقد تعرت | بمعتدل أرق من الهواء |
ومدت راحة كالماء منها | إلى ماء معل في إناء |
فلما أن قضت وطرا وهمت | على عجل إلى أخذ الرداء |
رأت شخص الرقيب على التداني | فأسدلت الظلام على الضياء |
وغاب الصبح منها تحت ليل | وظل الماء يقطر فوق ماء |
فسبحان الإله وقد براها | كأحسن ما يكون من النساء |
فقال الرشيد على سبيل الاستغراب أمعنا كنت قال لا وإنما شيء خطر لي بالبال فقلته فضحك الرشيد ثم أمر له بجائزة وصرفه. قال ابن منظور قال بعض المترجمين ممن يحيط علما بأحوال أبي نواس أن هذه الحكايات من أبي نواس والرشيد موضوعات وأن أبا نواس ما دخل على الرشيد قط ولا رآه وإنما دخل على محمد الأمين وما ملك أبو نواس عشرين ألف نواة فكيف بعشرين ألف درهم "انتهى". (أقول) الرشيد ملك سنة 180 ومات سنة 193 وأبو نواس مر أنه ولد سنة 136 على الأقل و 149 على الأكثر وتوفي سنة 195 على الأقل و 200 على الأكثر وعلى كل حال فيكون قد أدرك خلافة الرشيد ولا بد لمثله في تميزه بين الشعراء أن يكون قد دخل على الرشيد. وملكه عشرين ألف درهم لا وجه لإنكاره في مثاله من الشعراء كان ملوك بني العباس يغدقون لهم العطاء أما هذه القضايا التي تنقل له مع الرشيد فقد أشرنا عند ذكر أقوال العلماء فيه أن بعضها موضوع والحكاية الآنفة الذكر يمكن وقوعها والشعر الذي فيها قال ابن منظور أنه من جيد الشعر وقال القاضي عياض في الشفا قد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله:
وإن يك باقي سحر فرعون فيكمو | فإن عصى موسى بكف خصيب |
وقال له يا ابن اللخناء أنت المستهزئ بعصا موسى وأمر بإخراجه عن عسكره في ليلته "انتهى" (أقول) الخصيب من موالي الرشيد ولاه مصر لما قرأ قول فرعون المحكي في القرآن الكريم: أليس لي ملك مصر فحلف ليولينها مولى من مواليه ولأبي نواس فيه مدائح كثيرة تأتي في أخباره معه. وفي المحاسن والمساوي للبيهقي قيل أدخل الفضل ابن يحيى أبا نواس إلى عند الرشيد فقال له الرشيد أنت القائل:
عتقت في الدن حتى | هي في رقة ديني |
أحسبك زنديقا قال يا أمير المؤمنين قد قلت ما يشهد لي بخلاف ذلك قال وما هو قال قلت:
أية نار قدح القادح | وأي حد بلغ المازح |
(الأبيات الآتية في المواعظ والحكم) فقال الفضل يا سيدي إنه يؤمن بالبعث ويحمله المجون على ذكر ما لا يعتقده (ثم أنشد في مدح الرشيد):
لقد زاد في رسم الديار بكائي | وقد طال تردادي بها وعنائي |
كأني مريغ في الديار طريدة | أراها أمامي مرة وورائي |
فلما بدا لي اليأس عديت ناقتي | عن الدار واستولى علي عزائي |
إلى بيت حان لا تهر كلابه | علي ولا ينكرن طول ثوائي |
فما رمته حتى أتى دون ما حوت | يميني وحتى ريطتي وحذائي |
فإن تكن الصهباء أودت بتالدي | فلم تود لي أكرومتي وحيائي |
وكأس كمصباح السماء شربتها | على قبلة أو موعد بلقاء |
أتت دونها الأيام حتى كأنها | تساقط نور من فتوق سماء |
ترى ضوءها من ظاهر البيت ساطعا | عليك ولو غطيتها بغطاء |
تبارك من ساس الأمور بقدرة | وفضل هارونا على الخلفاء |
نعيش بخير ما انطوينا على التقى | وما ساس دنيانا أبو الأمناء |
أشم طوال الساعدين كأنما | يناط نجادا سيفه بلواء |
فخلع عليه الرشيد ووصله بعشرة آلاف دوهم والفضل بمثلها "انتهى".
ومن مدائحه في الرشيد قوله:
حي الديار إذ الزمان زمان | وإذ الشباك لنا حرى ومعان |
يا حبذا سفوان من متربع | ولربما جمع الهوى سفوان |
وإذا مروت على الديار مسلما | فلغير دار أميمة الهجران |
أنا نسبنا والمناسب ظنة | حتى رميت بنا وأنت حصان |
يقول في وصف الناقة:
لما نزعت عن الغواية والصبا | وخدت بي الشدنية المذعان |
سبط مشافرها دقيق خطمها | وكأن سائر خلقها بنيان |
واحتازها لون جرى في جلدها | بقق كقرطاس هجان |
وقال في مديحها:
وإلى أبي الأمناء هارون الذي | يحيا بصوب سمائه الحيوان |
ومن إغراقه في المبالغة فيها قوله:
ملك تصور في القلوب مثاله | فكأنما لم يخل منه مكان |
ما تنطوي عنه القلوب بفجرة | إلا يكلمه بها اللحظان |
فيظل لاستنبائه وكأنه | عين على ما غيب الكتمان |
حتى الذي في الرحم لم يك صورة | لفؤاده من خوفه خفقان |
حذر امرىء نصرت يداه على العدى | كالدهر فيه شراسة وليان |
يقول قيها:
هارون ألفنا ائتلاف مودة | ماتت لها الأحقاد والأضغان |
في كل عام غزوة ووفادة | تنبت بين حفاهما الأقران |
حج وغزومات بينهما الكرى | باليعملات شعارها الوخدان |
يرمي بهن نياط كل تنوفة | في الله رحال بها ظعان |
حتى إذا واجهن إقبال الصفا | حن الحطيم وأطت الأركان |
لأغر ينفجر الدجى عن وجهه | عدل السياسة حبه إيمان |
يصلى الهجير بغرة مهدية | لو شاء صان أديمها الأكنان |
لكنه في الله مبتذل لها | أن التقي مسدد ومعان |
ألفت منادمة الدماء سيوفه | فلقلما تحتازها الأجفان |
متبرج المعروف عريض الندى | حصر بلا من فم ولسان |
للجود من كلتا يديه محرك | لا يستطيع بلوغه الإسكان |
وقال يمدح الرشيد من قصيدة:
نفسي فداؤك يوم دابق منعما | لولا عواطف حلمه لم أطلق |
حرمت من لحمي عليك محللا | وجمعت من شتى إلى متفرق |
فاقذف برجلك في جناب خليفة | سباق غايات بها لم يسبق |
يقول فيها في وصف الناقة:
أنا إليك من الصليت فداسم | طلع النجاد بنا وجيف الأينق |
يتبعن مأثرة الملاط كأنما | ترنو بعيني مقلة لم تفرق |
خنساء ترنو جؤذرا بخميلة | وبها إليه صبابة كالأولق |
حتى إذا وجدته لم تر عنده | إلا مجر أهابه المتمزق |
ثم عاد إلى مدح الرشيد فقال:
أسدى لهارون الخلافة عنصر | محض تمكن في المصاص المعرق |
ملك تطيب طباعه ومزاجه | عذب المذاق على فم المتذوق |
يحميك مما تستسر بفعله | ضحكات وجه لا يريبك مشرق |
حتى إذا أمضى عزيمة رأيه | أخذت بسمع عدوه والمنطق |
إني حلفت عليك جهد ألية | قسما بكل مقصر ومحلق |
لقد اتقيت الله حق تقاته | وجهدت نفسك فوق جهد المتقي |
وأخفت أهل الشرك حتى أنه | لتخافك النطف التي لم تخلق |
وبضاعة الشعراء إن أنفقتها | نفقت وإن أكسدتها لم تنفق |
أخباره مع الخصيب والي مصر
هو الخصيب بن عبد الرحمن (وفي أمالي المرتضى ابن عبد الحميد) العجمي ثم المرادي وقال جامع ديوان أبي نواس: هو دهقان من أهل المذار شريف الآباء وليس بابن صاحب نهر الخصيب ذاك عبد للمنصور يقال له مرزوق الرازي ثم انتقل إلى الإمارة "انتهى". والخصيب هذا كان واليا على مصر من قبل الرشيد ومر سبب توليته إياه. وخرج أبو نواس إلى الخصيب من بغداد إلى دمشق إلى فلسطين إلى مصر ومدحه بعدة قصائد ثم هجاه على عادة الشعراء قال ابن منظور: لما قدم أبو نواس على الخصيب بمصر أذن له وعنده جماعة من الشعراء فاستنئده فقال له هنا جماعة من الشعراء هم أقدم مني وأسن فائذن لهم في الإنشاد فإن كان شعري نظير أشعارهم أنشدت وإلا أمسكت فاستنشدهم الخصيب فأنشدوا مديحا في الخصيب فلم تكن أشعارهم مقاربة لشعر أبي نواس فتبسم أبو نواس ثم قال أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصا موسى تتلقف ما يأفكون فأنشده هذه القصيدة وابتدأها بالغزل لكن على غير العادة المألوفة وهي من غرر الشعر فلذلك أوردناها بتمامها قال:
أجارة بيتينا أبوك غيور | وميسور ما يرجى لديك عسير |
وإن كنت لا خلما ولا أنت زوجة | فلا برحت دوني عليك ستور |
وجاورت قوما لا تزاور بينهم | ولا وصل إلا أن يكون نشور |
فما أنا بالمشغوف ضربة لازب | ولا بكل سلطان علي قدير |
وإني لطرف العين بالعين زاجر | فقد كدت لا يخفى علي ضمير |
كما نظرت والريح ساكنة لها | عقاب بأرساغ اليدين ندور |
طوت ليلتين القوت عن ذي ضرورة | أزيغب لم ينبت عليه شكير |
فأوفت على علياء حين بدا لها | من الشمس قرن والضريب يمور |
تقلب طرفا في حجاجي مغارة | من الرأس لم يدخل عليه ذرور |
تقول التي من بيتها خف مركبي | عزيز علينا أن نراك تسير |
أما دون مصر للغنى متطلب | بلى إن أسباب الغنى لكثير |
فقلت لها واستعجلتها بوادر | جرت فجرى في جريهن عبير |
ذريني أكثر حاسديك برحلة | إلى بلد فيه الخصيب أمير |
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا | فأي فتى بعد الخصيب تزور |
فتى يشتري حسن الثناء بماله | ويعلم أن الدائرات تدور |
فما جازه جود ولا حل دونه | ولكن يصير الجود حيث يصير |
فلم تر عيني سؤددا مثل سؤدد | يحل أبو نصر به ويسير |
وأطرق حياة البلاد لحية | خصيبة التصميم حين تسور |
سموت لأهل الجور في حال أمنهم | فأضحوا وكل في الوثاق أسير |
إذا قام غنته على الساق حلية | لها خطوة عند القيام قصير |
فمن يك أمسى جاهلا بمقالتي | فإن أمير المؤمنين خبير |
وما زلت توليه النصيحة يافعا | إلى أن بدا في العارفين قتير |
إذ غاله أمر فأما كفيته | وأما عليه بالكفاة تشير |
ثم قال يصف سفره إليه من بغداد إلى مصر:
إليك رمت بالقوم هوج كأنما | جماجمها تحت الرحال قبور |
رحلن بنا من عقر قوف وقد بدا | من الصبح مفتوق الأديم شهير |
فما نجدت بالماء حتى رأيتها | مع الشمس في عيني أباغ تغور |
وغمرن من ماء النقيب بشربة | وقد حان من ديك الصباح رسير |
ووافين إشراقا كنائس تدمر | وهن إلى رعن المدخن صور |
يؤممن أهل الغوطتين كأنما | لها عند أهل الغوطتين ثؤور |
وأصبحن بالجولان يرضخن صخرها | ولم يبق من أجراحهن شطور |
وقاسين ليلا دون بيسان لم يكد | سنا صبحه للناظرين ينير |
وأصبحن قد فوزن عن نهر فطرس | وهن عن البيت المقدس زور |
طوالب بالركبان غزة هاشم | وفي الفرما من حاجهن شقور |
ولما أتت فسطاط مصر أجارها | على ركبها أن لا تزال مجير |
من القوم بسام كأن جبينه | سنا الفجر يسري ضؤوه وينير |
زهابا لخصيب السيف والرمح في الوغى | وفي السلم يزهو منبر وسرير |
جواد إذا الأيدي كففن عن الندى | ومن دون عورات النساء غيور |
له سلف في الأعجمين كأنهم | إذا استؤذنوا يوم السلام بدور |
وإني جدير إذ بلغتك بالمنى | وأنت بما أملت منك جدير |
فإن تولني منك الجميل فأهله | وإلا فإني عاذر وشكور |
وهذا من أكاذيب الشعراء، يقول هذا وفي نفسه:
فإن تولني مالا سلمت من الهجا | وإلا فهجوي ما بقيت كثير |
ومع أنه أولاه الجميل فلم يعذر ولم يشكر وهجاه كما يأتي . قال ابن منظور: ولما قال أبو نواس:
ذريني أكثر حاسديك برحلة | إلى بلد فيه الخصيب أمير |
قال له الخصيب إذن يكثر حسادها وتبلغ أملها وأمر له بألف دينار . وقال يمدح الخصيب أيضا:
لم تدر جارتنا ولا تدري | أن الملامة إنما تغري |
هبت تلومك غير عاذرة | ولقد بدا لك أوسع العذر |
واستبعدت مصرا وما بعدت | أرض يحل بها أبو نصر |
ولقد وصلت بك الرجاء ولي | مندوحة لو شئت عن مصر |
وكذاك نعم السوق أنت لمن | كسدت عليه تجارة الشعر |
أنت المبرز يوم سبقهم | أن الجواد بعرفه يجري |
علم الخليفة أن نعمته | حلت بساحة طيب النشر |
كاف إذا عصب الأمور به | ماضي العزيمة جامع الأمر |
فانقع بسيبك غلة نزحت | بي عن بلادي وارتهن شكري |
وقال يمدح الخصيب أمير مصر أيضا:
ذكر الكرخ نازح الأوطان | فصبا صبوة ولات أوان |
ليس لي مسعد بمصر على الشو | ق إلى أوجه هناك حسان |
نازلات من السراة فكرخا | يا إلى الشط ذي القصور الدواني |
إذ لباب الأمير صدر نهاري | ورواحي إلى بيوت القيان |
واعتمالي الكؤوس في الشرب تسعى | مترعات كخالص الزعفران |
يا ابنتي إبشري بميرة مصر | وتمني وأسرفي في الأماني |
أنا في ذمة الخصيب مقيم | حيث لا تعتدي صروف الزمان |
كيف أخشى علي غول الليالي | ومكاني من الخصيب مكاني |
قد علقنا من الخصيب حبالا | أمنتنا طوارق الحدثان |
كل يوم علي منه سماء | ثرة تستهل بالعقيان |
واذا هزه الخليفة للجلى | مضاها كالصارم الهندواني |
قادني نحوك الرجاء فصدقـ | ـت رجائي واخترت حمد لساني |
إنما يشتري المحامد حر | طاب نفسا لهن بالأثمان |
وقال يمدح الخصيب أيضا وهي القصيدة التي مدحها المرتضى في الأمالي بأحسن مدح كما مر في أقوال العلماء فيه:
يا منة أمنتها السكر | ما ينقضي منى لها الشكر |
أعطتك فوق مناك من قبل | من قيل أن مرامها وعر |
يثني إليك بها سوالفه | رشا صناعة عينه السحر |
ظلت حميا الكاس تبسطنا | حتى تهتك بيننا الستر |
فى مجلس ضحك السرور به | عن ناجذيه وحلت الخمر |
ثم قال في وصف الناقة:
ولقد تجوب بي الفلاة إذا | صام النهار وقالت العفر |
شدنية رعت الحمى فأتت | ملء الحبال كأنها قصر |
تثني على الحاذين ذا خصل | تعماله الشذران والخطر |
أما إذا رفعته شامذة | فتقول رنق فوقها نسر |
أما إذا وضعته خافضة | فتقول أرخي دونها ستر |
وتسف أحيانا فتحسبها | مترسما يقتاده إثر |
فإذا قصرت لها الزمام سما | فوق المقادم ملطم حر |
فكأنها مصغ لتسمعه | بعض الحديث بإذنه وقر |
ثم تخلص إلى المدح فقال:
يرمي إليك بها ذوو أمل | عتبوا فأعتبهم بك الدهر |
أنت الخصيب وهذه مصر | فتدفقا فكلاكما بحر |
لا تقعدا بي عن مدى أملي | شيئا فما لكما به عذر |
ويحق لي إذ صرت بينكما | أن لا يحل بساحتي فقر |
قال ابن منظور: فقال له الخصيب إذن لا يخيب أملك ولا ينقطع مرادك ثم أمر له بألف دينار أخرى قال وكان أهل مصر قد شنعوا على الخصيب لزيادة في أسعارهم فقال أبو نواس دعني أيها الأمير أكلمهم قال ذاك إليك فخرج حتى وافى المسجد الجامع وقد تواعدوا أن يجتمعوا فيه فأنشد قوله من أبيات:
منحتكم يا أهل مصر نصيحتي | ألا فخذوا من ناصح بنصيب |
فإن يك باق إفك فرعون فيكم | فإن عصى موسى بكف خصيب |
ويقال إنه ارتجلها على المنبر فلما سمعوها تفرقوا وعاد إلى مجلس الخصيب فأمر له بألف دينار أخرى ويقال إن الرشيد قال له إلا تلت (فباق عصى موسى خصيب) فقال له هذا يا أمير المؤمنين أحسن ولكنه لم يقع لي وعلى هذا فيكون الخصيب قد أجاز أبا نواس بثلاثة آلاف دينار في ثلاث دفعات ومع ذلك فقد هجاه ولم يقع إلي سبب هجائه إياه قال:
خبز الخصيب معلق بالكوكب | يحمى بكل مثقف ومشطب |
جعل الطعام على بنيه محرما | قوتا وحلله لمن لم يسغب |
فإذا هم رأوا الرغيف تطربوا | طرب الصيام إلى آذان المغرب |
أخباره مع الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك
كانت دولة الرشيد في يد البرامكة فقد استوزر الرشيد يحيى بن خالد والد الفضل هذا وقال له قد قلدتك أمر الرعية فاحكم فيها بما ترى واعزل من رأيت واستعمل من رأيت ودفع إليه خاتمه. وكان الأولى بالرشيد -لو كان يتقي الله- أن يقول له فاحكم بالعدل وبتقوى الله. ثم نكب الرشيد البرامكة وقتلهم لتشيعهم في الباطن -على الصحيح- ودفعهم القتل عن بعض العلويين وتم تصديق قول: من أعان ظالما بلي به. وإذا كان يحيى بهذه المنزلة من الرشيد يكون لولديه الفضل وجعفر أعلى منزلة في دولة الرشيد -وقد كانا كذلك- ويكون أبو نواس يتقرب بالطمع إلى الفضل ويمدحه لينال جوائزه وكان الفضل من كرام الدنيا وأجود أهل عصره فمن مدائح أبي نواس في الفضل قوله من قصيدة:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد | هواك لعل الفضل يجمع بيننا |
وهذا المخلص مما عيب عليه فيه وهو محل العيب يقول فيها:
إليك أبا العباس من دون من حشا | عليها امتطينا الحضرمي الملسنا |
قلائص لم تسقط جنينا من الوجى | ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا |
نزور عليها من حرام محرم | عليه بأن يعدو بزائره الغنى |
وفي أنوار الربيع: دخل أبو نواس على الفضل بن يحيى فأنشده قصيدته التي أولها:
أربع البلى أن الخشوع لبادي | عليك وإني لم أخنك ودادي |
فتطير الفضل من هذا الابتداء فلما انتهى إلى قوله فيها:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتمو | بني برمك من رائحين وغادي |
استحكم تطيره واشمأز وقال نعيت إلينا أنفسنا فلم يمض إلا أسبوع حتى نزلت بهم النازلة وقد قيل -والله أعلم- أن أبا نواس قصد التشاؤم لهم وكان في نفسه من جعفر "انتهى".
أخباره مع الفضل بن الربيع وولديه العباس ومحمد
كان أبوه الربيع بن يونس بن محمد بن كيسان أبي فروة مولى عثمان بن عثمان لقيطا أو لغير رشدة فيما يقال وكان وزيرا للمنصور ثم حاجبا لابنه محمد المهدي ثم وزيرا لابنه موسى الهادي ثم قتله الهادي وهو غير الربيع بن الحسن ابن عثمان الذي كان حاجبا للمهدي وابنه الفضل هذا كان حاجبا للمنصور والمهدي والهادي والرشيد وكان شهما خبيرا بأحوال الملوك وآدابهم فلما نكب الرشيد البرامكة استوزره بعدهم بعدما كان حاجبه قال ابن الطقطقي وكان أبو نواس من شعرائه المنقطعين إليه ومن مدائح أبي نواس في الربيع وابنه الفضل وحفيده العباس قوله:
ساد الملوك ثلاثة ما منهم | أن حصلوا إلا أغر قريع |
ساد الربيع وساد فضل بعده | وعلت بعباس الكريم فروع |
عباس عباس إذا احتدم الوغى | والفضل فضل والربيع ربيع |
وعن محاضرات الراغب أن الفضل بن الربيع غضب على أبي نواس فقال أنت القائل:
يا أحمد المرتجى في كل نائبه | قم سيدي نعص جبار السموات |
فقال نعم فسأل جماعة الفقهاء عنه فقال كل يحل دمه فقال أبو نواس إن قلتم ذلك بعقولكم فقبحا لها وإن قلتم تخمينا فما أبعدكم من العقل هل للسماء من يجبرها وهل بها كسر فاحتيج إلى أن تجبر. وفي تاريخ دمشق: حبس الفضل أبا نواس في حبس له وكان السجان يقال له سعيد وكان يعامله معاملة غليظة فكتب إلى الفضل:
أبا العباس زد رجلي قيودا | وثن علي سوطا أو عمودا |
ووكل بي وبالأبواب حولي | من الأقوام شيطانا مريدا |
واعف محاجري من شخص فدم | ثقيل جده يدعى سعيدا |
فقد ترك الحديد علي ريشا | وأوقر ثقله قلبي حديدا |
فلما وصلته الأبيات أطلقه وفي تاريخ بغداد كتب أبو نواس إلى الفضل بن الربيع:
ما من يد في الناس واحدة | إلا أبو العباس مولاها |
نام الثقات على مضاجعهم | فسرى إلى نفسي فأحياها |
قد كنت خفتك ثم آمنني | من أن أخافك خوفك الله |
فعفوت عنا عفو مقتدر | حلت به نعم فألفاها |
وقال يمدح الفضل بن الربيع من قصيدة:
وعظتك واعظة القتير | ونهتك أبهة الكبير |
ورددت ما كنت استعر | ت من الشباب إلى المعير |
صور إليك مؤنثا | ت الدل في زي الذكور |
عطل الشوى ومواضع الـ | ـأزرار منها والنحور |
أرهفن إرهاف الأعنة | والحمائل والسيور |
مثل الظباء سمت إلى | روض صوادر من غدير |
فالآن صرت إلى النهى | وبلوت عاقبة السرور |
يا فضل جاوزت المدى | فجللت عن شبه النظير |
أنت المعظم والمكبر | في العيون وفي الصدور |
فإذا العقول تفاطنتـ | ـك عرضن في كرم وخير |
وإذا العيون تأملتـ | ـك صدرن عن طرف حسير |
ما زلت في عقل الكبيـ | ـر وأنت في سن الصغير |
حتى تعصرت الشبييـ | ـة واكتسيت من القتير |
عف المداخل والمخا | رج والغريزة والضمير |
والله خص بك الخليـ | ـفة فاصطفاك على بصير |
فإذا ألات بك الأمو | ر كفيته قحم الأمور |
من قاس غيركم بكم | قاس الثماد إلى البحور |
وقال يمدح الفضل بن الربيع أيضا من أبيات:
قد عذب الحب هذا القلب ما صلحا | فلا تعدن ذنبا أن يقال صحا |
أبقيت في لتقوى الله باقية | ولم أكن كحريص لم يدع مرحا |
وحاجة لم تكن كالحاج واحدة | كلفتها العزم والعيرانة السرحا |
يطلبن بالقوم حاجات تضمنها | بدر بكل لسان يلبس المدحا |
لقد نزلت أبا العباس منزلة | ما أن ترى خلفها الأبصار مطرحا |
وكلت بالدهر عينا غير غافلة | من جود كفك تأسو كلما جرحا |
وقال يمدح الفضل بن الربيع أيضا من أبيات:
مضى أيلول وارتفع الحرور | وأخبت نارها الشعرى العبور |
فقوما فألحقا خمرا بماء | فإن نتاج بينهما السرور |
نتاج لا تدر عليه أم | بحمل لا تعد له الشهور |
رأيت الفضل يأتي كل فضل | فقل له المشاكل والنظير |
ولم تك نفسه نفسين منه | ليفصل بين رأييه مشير |
تقيلت الربيع ندى وباسا | وحزما بين تحزبك الأمور |
وقال يمدح الفضل بن الربيع أيضا من أبيات:
يا ربع شغلك إني عنك في شغل | لا ناقتي فيك لو تدري ولا جملي |
يا فضل غاية خلق الله كلهم | إذا ضربنا بجود غاية المثل |
كم قائل لك من داع وقائلة | نفسي فداء أبي العباس من رجل |
يفديانك ما أسطاعا يجهدهما | ويسألان لك التأخير في الأجل |
وقال يمدح الفضل بن الربيع أيضا ويساويه بالأمين لولا الخلافة وهو يدل على سقوط نفس الأمين:
لعمرك ما غاب الأمين محمد | عن الأمر يعنيه إذا شهد الفضل |
ولولا مواريث الخلافة إنها | له دونه ما كان بينهما فضل |
فإن تكن الأجسام فيها تباينت | فقولهما قول وفعلهما فعل |
وقال يمدح العباس بن الفضل بن الربيع من قصيدة:
نم بما كنت لا أبوح به | على لسان بالدمع منطيق |
شوقا إلى حسن صورة أثرت | من سلسبيل الجنان بالريق |
تشوب عزا بذلة فلها | ذل محب وعز معشوق |
وردفها كالكثيب نيط إلى | خصر دقيق اللحاء ممشوق |
أمشي إلى جنبها أزاحمها | عمدا وما بالطريق من ضيق |
كقول كسرى فيما تمثله | من فرصة اللص ضجة السوق |
وقال يمدح العباس بن الفضل أيضا من قصيدة:
هل منك للمكتوم إظهار | أم منك تغبيب وإنكار |
وفتية ما مثلهم فتية | كلهم للقصف مختار |
نادمتهم يوما فلما دجا | ليل وصاروا في الذي صاروا |
قمت إلى مبرك عيدية | انتخب الفره وأختار |
لا والذي أفنى لرضوانه | سارون حجاج وعمار |
ما عدل العباس في جوده | رام بدفاعيه تيار |
يا ابن أبي العباس أنت الذي | سماؤه بالجود مدرار |
يرجو ويخشى حالتيك الورى | كأنك الجنة والنار |
تقيلا منك أباك الذي | جرت له في الخير آثار |
كأنه أبيض ذو رونق | أخلصه الصيقل بتار |
من عصم الناس وقد أسنتوا | ومن هدى الناس وقد حاروا |
كأنما أوجههم رقة | لها من اللؤلؤ أبشار |
وقال يمدح العباس المذكور أيضا ويعرض بالبرامكة وابتدأ مدحه بشيء غير متعارف وأتى به سهلا ممتنعا بغير تكلف فقال:
الحمد الله ليس لي نشب | فخف ظهري وقل زواري |
وأحسنت نفسي التعزي عن | شيء تولى ومتن أوطاري |
فلست أخشى نفسي على طمع | أخاف منه دريكة العار |
من نظرت عينه إلي فقد | أحاط علما بما حوت داري |
خيري من البيت كامن وعلى | مدرجة الشانئين أسراري |
إن انتجعت العباس ممتدحا | وسيلتي جوده وأشعاري |
إني حري بأن يبدلني | جود يديه يسرا بإعسار |
عن خبرة حيث لا مخاطرة | وبالدلالات يهتدي الساري |
تلك المعالي إن كنت مفتخرا | لا شرف النوبهار والنار |
وقال يمدح العباس بن الفضل أيضا من قصيدة وابتدأ ببكاء الدار فقال:
الدار أطبق أخراس على فيها | واعتناقها صمم عن صوت داعيها |
ولي من الحسين عين ليس يمنعها | طول الملامة أن تجري مآقيها |
يا دمنة سلبت منها بشاشتها | وألبست من ثياب المحل باقيها |
أبدت عواصي من دمع أطعن لها | لما رميت بطرفي في نواحيها |
ثم أخذ في وصف الخمر فقال:
لأعطن على الصهباء عن دمن | لم يبق من عهدها إلا أثافيها |
عاطيتها صاحبا صبابها كلفا | حربا لعائفها سلما لحاسيها |
فأعنقت بي أمون فات غاربها | قود الزمام وقاد السوط هاديها |
إلى أبي الفضل عباس وليس | هذا ولا ذا دعت نفسي دواعيها |
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت | إلى نداه فقاسته بما فيها |
حتى تهم بإقلاع فيمنعها | خوف العقوبة في عصيان منشيها |
بنى الربيع له والفضل واحتشدا | غايات ملك رفيعات لبانيها |
وشمراه فلما شمراه لها | جرى فقال كذا قالا له إيها |
وقال يمدح العباس المذكور من أبيات:
لئن سميت عباسا | فما أنت بعباس |
لدى الجود ولكنك | عباس لدى الباس |
وبالفضل لك الفضل | أبا الفضل على الناس |
وقال يمدح محمد بن الفضل بن الربيع وهي من غرر شعره:
لمن طلل ألم أشجه وشجاني | وهاج الهوى أو هاجه لأوان |
بل فازدهتني للصبا أريحية | يمانية أن السماح يماني |
وخرق يجل الكأس عن منطق الخنا | وينزلها منه بكل مكان |
تراه لما ساء الندامى ابن علة | وللشيء لذوه رضيع لبان |
إذا هو لقي الكأس يمناه خانه | أما ويت فيها وارتعاش بنان |
تمنعت منه ثم أقصر باطلي | وصممت كالجاري بغير عنان |
وعنس كمرداة القذاف ابتذلتها | لبكر من الحاجات أو لعوان |
فلما قضت نفسي من السير ما قضت | على ما بلت من شدة وليان |
أخذت بحبل من حبال محمد | أمنت به من نائب الحدثان |
تغطيت من دهري بظل جناحه | فعيني ترى دهري وليس يراني |
فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت | وأين مكاني ما عرفن مكاني |
أذل صعاب المشكلات محمد | فأصبح ممدوحا بكل لسان |
يغبك معروف السماء وكفه | تجود بسح العرف كل أوان |
وإن شبت العرب العوان سما لها | بصولة ليث في مضاء سنان |
فلا أحد أسخى بمهجة نفسه | على الموت منه والقنا متداني |
خلفت أبا عثمان في كل صالح | وأقسمت لا يبني بناءك بان |
أخباره مع الأمين
قال ابن منظور: كان الأمين معجبا بشعر أبي نواس محبا لمنادمته وفي ديوانه أنه وصف الفضل بن الربيع أبا نواس للأمين وكان قد عرفه الأمين أيام أبيه فلما أدخله عليه قام فأنشد:
يا دار ما فعلت بك الأيام | ضامتك والأيام ليس تضام |
عرم الزمان على الذين عهدتهم | بك قاطنين وللزمان عرام |
أيام لا أغشى لأهلك منزلا | إلا مراقبة علي ظلام |
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم | وأسمت سرح اللهو حيث أساموا |
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه | فإذا عصارة كل ذاك أثام |
وتجشمت بي هول كل تنوفة | هوجاء فيها جرأة أقدام |
تذر المطي وراءها فكأنها | صف تقدمهن وهي أمام |
وإذا المطي بنا بلغن محمدا | فظهورهن على الرجال حرام |
قربننا من خير من وطىء الحصى | فلها علينا حومة وذمام |
رفع الحجاب لنا فلاح لناظر | قمر تقطع دونه الأوهام |
ملك إذا علقت يداك بحبله | لا يعتريك البؤس والإعدام |
ملك توحد بالمكارم والعلى | فرد فقيد الند فيه همام |
فالبهو مشتمل ببدر خلافة | لبس الشباب بنوره الإسلام |
ملك إذا اعتسر الأمور مضى به | رأي يفل السيف وهو حسام |
داوى به الله القلوب من العمى | حتى أفقن وما بهن سقام |
أصبحت يا ابن زبيدة ابنة جعفر | أملا لعقد حباله استحكام |
فسلمت للأمر الذي ترجى له | وتقاعست عن يومك الأيام |
فوصله بألف دينار وأمره بملازمة الدار وكان الناس قبل الفرزدق وأبي نواس من الشعراء وغيرهم يقولون عن الناقة إذا بلغت بهم المقصود لينحرنها قال ابن خلكان في ترجمة غيلان: الأصل في هذا المعنى قول الأنصارية المأسورة بمكة وكانت قد نجت على ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أني نذرت أن نجوت عليها أن أنحرها قال: لبئسما جزيتها. وقال ذو الرمة في بلال ابن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري:
إذا ابن أبي موسى بلال بلغته | فقام بغاس بين وصليك جازر |
وأخذ هذا من قول الشماخ في عرابة الأوسي:
إذا بلغتني وحملت رحلي | عرابة فاشرقي بدم الوتين |
قال ابن خلكان: وتفسير هذا المعنى إنني لست أحتاج أن أرحل إلى غيرك فقد كفيتني وأغنيتني فلما جاء أبو نواس غير هذا المعنى إلى ما هو أحسن فحرم الركوب على ظهرها وأراحها من الكد في الأسفار فهو أتم في المقصود لكونه أحسن إليها في قبالة إحسانها إليه حيث أوصلته إلى الممدوح فقال:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا | فظهورهن على الرجال حرام |
"انتهى" وقد سبق أبا نواس إلى ذلك الفرزدق حيث يقول:
علام تلفتين وأنت تحتي | وخر الناس كلهم أمامي |
متى تأتي الرصافة تستريحي | من الإسراع والدبر الدوامي |
قال أبو نواس: فكنت مائلا لقول الشماخ إلى أن سمعت قول الفرزدق فتبعته وقلت:
أقول لناقتي إذ بلغتني | لقد أصبحت عندي باليمين |
فلم أجعلك للغربان نحلا | ولا قلت اشرقي بدم الوتين |
وقال يمدح الأمين وهو ولي عهد من قصيدة:
أقول والعيس تعروري الفلاة بنا | صعر الأزمة من مثنى ووحدان |
لذات لوث عفرناة عذافرة | كأن تضبيرها تضبير بنيان |
يا ناق لا تسأمي أو تبلغي ملكا | تقبيل راحته والركن سيان |
مد الإله عليه ظل مملكة | يلقى القصي بها والأقرب الداني |
أن يمسك القطر لا تمسك مواهبه | ولي عهد يداه تستهلان |
هو الذي قدر الله القضاء له | أن لا يكون له في فضله ثان |
هو الذي امتحن الله القلوب به | عما تجمجم من كفر وإيمان |
وإن قوما رجوا إبطال حقكم | أمسوا من الله في سخط وعصيان |
لن يدفعوا حقكم إلا بدفعكم | ما أنزل الله من آي وبرهان |
فقلدوها بني العباس أنهم | صنو النبي وأنتم غير صنوان |
وإن لله سيفا فوق هامهم | بكف أبلج لا ضرع ولا وان |
يستيقظ الموت منه عند هزته | فالموت من نائم فيه ويقظان |
محمد خير من يمشي على قدم | ممن برا الله من إنس ومن جان |
وعن محاضرات الراغب قال أبو نواس لما نهاه الأمين عن شرب المدام:
أعاذل بعت الجهل حيث يباع | وأبرزت رأسا ما عليه قناع |
نهاني أمير المؤمنين عن الصبا | وأمر أمير المؤمنين مطاع |
ولهو لتأنيب الأمير تركته | وفيه للآه منظر وسماع |
وقال ابن منظور لما عمل أبو نواس قصيدته التي أولها (ومستعبد إخوانه بثرائه) وتأتي في المواعظ والحكم وفيها يقول:
فوالله لايبدي لساني بحاجة | إلى أحد حتى أغيب في قبري |
فلا يطمعن في ذاك مني طامع | ولا صاحب التاج المحجب في القصر |
بلغت الأمين فبعث إليه وعنده سليمان ابن أبي جعفر فقال له بعد كلام أفحش فيه أنت تكتسب بشعرك أوساخ أيدي الناس اللئام وتقول: (ولا صاحب التاج المحجب في القصر) أما والله لا نلت مني شيئا بعد ذلك أبدا فقال له سليمان ابن أبي جعفر أي والله.
رميه بالثنوية
قال سليمان: ثم هو مع هذا من كبار الثنويه -فرقة من المجوس يعبدون النار والظلمة- وكان يرمي بذلك فقال الأمين وهل يشهد عليه شاهد بذلك فأتاه سليمان بعدة نفر فشهدوا عليه أنه شرب في يوم مطير فوضع قدحه تحت السماء في المطر فقالوا له: ما تصنع بذلك ويحك قال: أنتم تزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك فكم تراني أشرب الساعة من الملائكة ثم شرب ما في القدح فغضب محمد وأمر به إلى السجن فذلك قول أبي نواس:
يا رب أن القوم قد ظلموني | وبلا اقتراف معطل حبسوني |
وإلى الجحود بما عرفت خلافه | ربي إليك بكذبهم نسبوني |
ما كان إلا الجري في ميدانهم | في كل خزي والمجانة ديني |
لا العذر يقبل لي ويفرق شاهدي | منهم ولا يرضون حلف يميني |
ما كان لو يدرون -أول مخبأ | في دار منقصة ومنزل هون |
أما الأمين فلست أرجو دفعه | عني فمن لي اليوم بالمأمون |
فبلغت أبياته المأمون فقال: والله لئن لحقته لأغنيته غنى لا يؤمله فمات قبل دخول المأمون بغداد "انتهى" وما أشد جهل الأمين بتصديق نسبة الثنوية إليه بهذه القصة إن ثبتت فنزول ملك مع كل قطرة لو فرض أنه مروي وثابت ليس من ضروريات الدين حتى ينسب منكره إلى الخروج عن الدين على أن قول أبي نواس كم تراني اشرب الساعة من الملائكة خارج مخرج الظرف والمزاح الذي اعتاده أبو نواس في كل شيء لا يوجبه قدحا في عقيدة ولا خروجا عن ملة وهو ما يحكى عن بعض العلماء أنه سئل عن إلقاء الحصاة من المسجد فقال: لا بأس به قيل له: أنه يقال إنها لا تزال تصيح حتى تعاد إلى المسجد قال: فدعها تصيح حتى تنشق بطنها "انتهى" أفترانا نحكم على هذا القائل بالكفر لقوله هذا كلا وقال ابن منظور: انتهى إلى محمد بن زبيدة أن أبا نواس شرب الخمر فحبسه ثلاثة أشهر ثم دعا به وأراد قتله فأنشأ يقول وأجاد:
تذكر أمين الله والعهد يذكر | مقامي وإنشاديك والناس حضر |
ونثري عليك الدر يا در هاشم | فيا من رأى درا على الدر ينثر |
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله | وعمك موسى الصفوة المتخير |
وجدك مهدي الهدى وشقيقه | أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر |
ومن مثل منصور يك منصور هاشم | ومنصور قحطان إذا عد مفخر |
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلى | وعبد مناف والداك وحمير |
تحسنت الدنيا بوجه خليفة | هو البدر إلا أنه الدهر مقمر |
إمام يسوس الملك تسعين حجة | عليه له منه رداء ومئزر |
يشير إليه الجود من وجناته | وينظر من أعطافه حين ينظر |
أيا خير مأمول يرجى أنا امرؤ | أسير رهين في سجونك مقبر |
مضت لي شهور مذ حبست ثلاثة | كأني قد أذنبت ما ليس يغفر |
فإن كنت لم أذنب ففيم حسبتني | وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكبر |
(أقول) لا بد من أن يكون السبب في حبسه غير هذا فالأمين الذي يشرب الخمر لا يحبس نديمه لأنه بلغه أنه شربها. وقال ابن منظور أيضا: لما وقع الخلاف بين الأمين والمأمون كان ذو الرياستين يخطب بمساوئ الأمين وقد أعد رجلا يحفظ شعر أبي نواس فيقوم بين يديه ويقول: ومن جلسائه رجل ماجن كافر متهزئ متهكم يقول كذا وكذا وينشد قوله:
ألا فاسقني خمرا وقل هي الخمر | ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر |
وينشد أيضا قوله:
يا أحمد المرتجى في كل نائبة | قم سيدي نعص جبار السماوات |
وغير ذلك من قبائح شعره ومجونه ويذكر أهل العراق فيقول: أهل فسق وفجور وخمور وماخور ويلعنهم من يحضر المجلس من أهل خراسان فكتب بذلك إلى محمد الأمين عيونه فبرع له وأمر بقتل أبي نواس فكلمه فيه الفضل وغيره فأطلقه ولما أحضره للقتل أحضر الفقهاء بعد أن جمعوا له كل من يحسده من الشعراء والفضلاء وغيرهم ثم قيل له: ألست (القائل يا أحمد المرتجى في كل نائبة) الخ قال: بلى يا أمير المؤمنين قال: كافر ثم قال للفقهاء: ما تقولون يا معشر الفقهاء والشعراء قالوا: كفر يا أمير المؤمنين فقال أبو نواس: يا أمير المؤمنين إن كانوا قالوا هذا بعقولهم فما أنقصها وإن كانوا قالوا: بآرائهم فما أجهلهم أيكون زنديقا مقر بأن للسماوات جبارا؟ قال: لا والله ولقد صدقت قم فقام وأطلقه وقيل أنه قال له: يا أمير المؤمنين اجمع كل زنديق في الأرض فإن زعموا أن في السماء إلها واحدا فاضرب عنقي ولكني صحبت قوما جهالا لا يعرفون المزح والجد وأنا يا أمير المؤمنين الذي أقول:
قد كنت خفتك ثم آمنني | من أن أخافك خوفك الله |
وفي تاريخ بغداد بسنده عن أبي نواس قال: دخلت على (الأمين) فقال: يا حسن بن هانئ إنك زنديق فقلت: يا أمير المؤمنين وأنا أقول مثل هذا الشعر:
أصلي صلاة الخمس في حين وقتها | وأشهد بالتوحيد لله خاضعا |
وأحسن غسلا أن ركبت جنابة | وإن جاءني المسكين لم أك مانعا |
وفي كل عام صوم شهر أقيمه | وما زلت للأنداد والشرك خالعا |
وإني وإن حانت من الكأس دعوة | إلى بيعة الساقي أجبت مسارعا |
فاشربها صرفا على لحم ماعز | وجدي كثير الشحم أصبح راضعا |
فضحك وأمر لي بجائزة وانصرف وذكر نحوه ابن منظور في أخبار أبي نواس وزاد البيت الثالث قال القاضي عياض في شرح الشفا قال القتيبي إن مما أخذ على أبي نواس وكفر فيه أو قارب قوله في محمد الأمين وتشبيهه إياه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها | خلقا وخلقا كما قد الشراكان |
"انتهى" (أقول) لا شك أن في هذا سوء أدب من أبي نواس مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن الإسراع إلى التكفير بمثله أمر عظيم والعجب ممن يروي قصة الغرانيق وإن الشيطان أجرى على لسانه في الأصنام: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى وإن النساء كانت تغني بين يديه وتضرب بالدفوف حتى قال: اسكتن فقد جاء رجل لا يحب الباطل وأنه صلى الله عليه وسلم سحر وإنه سها في الصلاة ولا يأخذون على راويه ولا يرونه كفرا أو قريبا منه ويأخذون على شاعر في مدح خليفة هاشمي يحمل لقب إمارة المؤمنين. ومن أخباره مع الأمين ما حكاه ابن منظور عن أبي نواس قال: أمر الرشيد الكافي أن يختلف إلى محمد بعد ما ولاه العهد (يعلمه النحو) وأن يحضرني إذا حضر لأنشد محمدا الشعر النادر وأحدثه الغريب وكان خادم من قبل الرشيد موكلا بمحمد فجرى بين الخادم وبين محمد يوما كلام وأنا حاضر فأمرني محمد بهجو الخادم فخفته إن هجوته أن يغتابني عند الرشيد فيقتلني وإن لم أهجه خفت محمدا أن يقتلني فقلت للكسائي: يا أبا الحسن ما يحتال في هذا غيرك فأصلح بين الخادم ومحمد وبعث إلي محمد فصرت إليه وقلت له: بلغني إنك تهددني بالقتل قال: نعم قال: فما قلت في ذلك فحضرني على المكان:
بك أستجير من الردى | وأعوذ من سطوات باسك |
من ذا يكون أبا نوا | سك أن قتلت أبا نواسك |
فتبسم ثم قال: لا يكون وأمر لي بتخت ثياب.
وكان للأمين زورقان يسير بهما في دجلة أحدهما على صورة الأسد والآخر على صورة العقاب فقال فيهما أبو نواس:
سخر الله للأمين مطايا | لم تسخر لصاحب المحراب |
فإذا ما ركابه سرن بحرا | سار في الماء راكبا ليث غاب |
أسدا باسطا ذراعيه يعدو | أهرت الشدق كالح الأنياب |
لا يعانيه باللجام ولا السو | ط ولا غمز رجله في الركاب |
عجب الناس إذ رأوك على صو | رة ليث يمر مر السحاب |
سبحوا إذ رأوك سرت عليه | كيف لو أبصروك فوق العقاب |
ذات زور ومنسر وجناحيـ | ـن تشق العباب بعد العباب |
تسبق الطير في السماء إذا ما اسـ | ـتعجلوها بجيئة وذهاب |
ملك تقصر المدائح عنه | هاشمي موفق للصواب |
وكان له زورق ثالث على صورة الدلفين فقال فيه أبو نواس:
قد ركب الدلفين بدر الدجى | مقتحما للماء قد لججا |
فأشرقت دجلة من نوره | وأسفر الشطان واستبهجا |
لم تر عيني مثله مركبا | أحسن إن سار وإن عرجا |
إذا استحثته مجاذيفه | أعنق فوق الماء أو هملجا |
خص به الله الأمين الذي | أضحى بتاج الملك قد توجا |
وقال أيضا في الثلاثة من أبيات:
ألا ترى ما أعطي الأمين | أعطي ما لم تره العيون |
ولم تكن تبلغه الظنون | الليث والعقاب والدلفين |
وقال يمدح الأمين:
ألا يا خير من رأت العيون | نظيرك لا يحس ولا يكون |
وفضلك لا يحد ولا يجارى | ولا تحوي حيازته الظنون |
فأنت نسيج وحدك لا شبيه | نحاشيه عليك ولا خدين |
خلقت بلا مشاكلة لشيء | فأنت الفوق والثقلان دون |
كأن الملك لم يك قبل شيئا | إلى أن قام بالملك الأمين |
ومن جرأة أبي نواس أنه قال: يهزأ من الأمين ويتطير بتدبيره:
احمدوا الله كثيرا | يا جميع المسلمينا |
ثم قولوا لا تملوا | ربنا أبق الأمينا |
صبر الخصيان حتى | جعل التصبير دينا |
فاقتدى الناس جميعا | بأمير المؤمنينا |
وقال يمدح العباس بن عبيد الله ابن أبي جعفر المنصور وهي مشتملة على مقاصد متنوعة أجاد في جميعها فابتدأها بما ينحو الحكم والأداب فقال:
أيها المنتاب من عفره | لست من ليلي ولا سمره |
لا أذود الطير عن شجر | قد بلوت المر من ثمره |
فاتصل إن كنت متصلا | بقوى من أنت من وطره |
خفت مأثور الحديث غدا | وغدا أدنى لمنتظره |
خاب من أسرى إلى ملك | غير معلوم مدى سفره |
فامض لا تمنن علي يدا | منك المعروف من كدره |
وثنى يذكر الأصحاب فقال وأبدع:
رب فتيان ربأتهم | مسقط العيوق من سحره |
فاتقوا بي ما يريبهم | إن تقوى الشر من حذره |
ثم ذكر بني العم فقال:
وابن عم لا يكاشفنا | قد لبسناه على غمره |
كمن الشنآن منه لنا | ككمون النار في حجره |
ثم تغزل فقال وأجاد:
ورضاب بت أرشفه | ينقع الظمآن من خصره |
علنيه خوط أسلحة | لان متناه لمهتصره |
ثم وصف البيد والقفار فقال:
ذا ومغبر مخارمه | تحسر الأبصار عن قطره |
لا ترى عين البصير به | ما خلا الآجال من بقره |
ثم وصف يبس النبات فقال:
ثم تذروه الرياح كما | طار قطن الندف عن وتره |
ثم أخذ في المديح فقال:
ثم أدناني إلى ملك | يأمن الجاني لدى حجره |
كيف لا يدنيك من أمل | من رسول الله من نفره |
فاسل عن نوء تومله | حسبك العباس من مطره |
ملك قل الشبيبه له | لم تقع عين على خطره |
وإذا مج القنا علقا | وتراءى الموت في صورة |
راح في ثنيي مفاضته | أسدا يدمي شبا ظفره |
تتأتى الطير غدوته | ثقة بالشبع من جزره |
يا كريم الخال من يمن | وكريم العم من مضره |
قد لبست الدهر لبس فتى | أخذ الآداب عن غيره |
فادخر خيرا تشاب به | كل مذخور لمدخره |
قال ابن منظور: لما أنشد أبو عبد الله ابن الأعرابي هل القصيدة قال: أحسن والله لو تقدم هذا الشعر في صدر الإسلام لكان في صدر الأمثال السائرة قال أبو الأصغر وكان من رواة أبي نواس: لما أنشدني أبو نواس هذه القصيدة فلما بلغ إلى قوله:
وإذا مج القنا علقا | وتراءى الموت في صوره |
راح في ثنيي مفاضته | أسدا يدمي شبا ظفره |
تتأتى الطير غدوته | ثقة بالشبع من جزره |
قلت له: أحسنت والله وجاوزت الإحسان هذا والله ما لا يحسنه أحد ولم يبلغه متقدم ولا يلحقه متأخر فلما أنشدني:
كيف لا يدنيك من أمل | من رسول الله من نفره |
علمت أنه كلام رديء موضوع في غير موضعه وأنه مما يعاب به لأن حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجدر أن يضاف إليه ولا يضاف هو إلى أحد فلما رأى ذلك في وجهي قال لي: ويلك إنما أردت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبيل الذي هو منه كما قال حسان بن ثابت:
وما زال في الإسلام من آل هاشم | دعائم عز لا ترام ومفخر |
بها ليل منهم جعفر وابن أمه | علي ومنهم أحمد المتخير |
فقال منهم: كما قلت من نفره أي من النفر الذي العباس منهم فما تعيب من هذا فعلمت أنه ضرب من الاحتيال ولكن قد أحسن المخرج منه "انتهى" وفي رواية علي القاري في شرح الشفا أن أبا نواس قال: ما يعيب هذا البيت إلا جاهل بكلام العرب. ومن غرر مدائحه في العباس ابن عبيد الله ابن أبي جعفر قوله من أبيات:
غرد الديك الصدوح | فاسقني طاب الصبوح |
واسقني حتى تراني | حسنا عندي القبيح |
قهوة تذكر نوحا | حين شاد الفلك نوح |
نحن نخفيها ويأبى | طيب ربح فتفوح |
أنا في دنيا من العبا | س أغدو وأروح |
هاشمي عبد لي | عنده يغلو المديح |
علم الجود كتاب | بين عينه يلوح |
بح صوت المال مما | منك يشكو ويصيح |
صور الجود مثالا | فله العباس روح |
فهو بالمال جواد | وهو بالعرض شحيح |
وقال يمدح العباس هذا أيضا من أبيات قال جامع ديوانه وأنشد فيها علي بن سليمان الأخفش عن جده عن أبي نواس:
حلت سعاد وأهلها سرفا | قوما عدى ومحلة قذفا |
وكأن سعدى إذ تودعنا | وقد اشرأب الدمع أن يكفا |
فانظر إلى قوله وقد اشرأب الدمع ما أحلاه وأملحه وأعذبه:
رشا تواصين القيان به | حتى عقدن بإذنه شنفا |
وتنوفة تمشي الرياح بها | حسرى ويقسم ماؤها نطفا |
كلفتها أجدا تخال بها | مرحا من الخيلاء أو صلفا |
وهب الجديل لها مدارعه | والقمة العلياء والشعفا |
قد قلت للعباس معتذرا | عن ضعف شكريه ومعترفا |
لا تسدين إلي عارفة | حتى أقوم بشكر ما سلفا |
وقال يمدح العباس أيضا من قصيدة:
يقولون في الشيب الوقار لأهله | وشيبي بحمد الله غير وقار |
إذا كنت لا أنفك عن طاعة الهوى | فإن الهوى يرمي الفتى ببوار |
فها إن قلبي لا محالة مائل | إلى رشأ يسعى بكأس عقار |
كأن بقايا ما عفا من حبابها | تفاريق شيب في سواد عذار |
تردت به ثم انفرى عن أديمها | تفري ليل عن بياض نهار |
حلفت يمينا برة لا يشوبها | فجار وما دهري يمين فجار |
لقد قوم العباس للناس حجهم | وساس برهبانية ووقار |
وعرفهم أعلامهم وأراهم | منار الهدى موصولة بمنار |
وأطعم حتى ما بمكة آكل | وأعطى عطايا لم تكن بضمار |
وحملان أبناء السبيل تراهم | قطارا إذا راحوا أمام قطار |
أبت لك يا عباس نفس سخية | بزبرج دنيانا وعتق نجار |
وانك للمنصور منصور هاشم | وما بعده من غاية لفخار |
فجداك هذا خير قحطان واحدا | وهذا إذا ما عد خير نزار |
إليك غدت بي حاجة لم أبح بها | أخاف عليها شامتا فأداري |
فأرخ عليها ستر معروفك الذي | سترت به قدما علي عواري |
وقال يمدح الفضل بن يحيى البرمكي من قصيدة وقد عيب عليه فيها قبح المطلع:
أربع البلى أن الخشوع لبادي | عليك وإني لم أخنك ودادي |
وإن كنت مهجور القنا فبما رمت | يد الدهر عن قوس المنون فؤادي |
وإن كنت قد بدلت بؤسي بنعمة | فقد بدلت عيني قذى برقاد |
سأرحل من قود المهاري شملة | مسخرة لا تستحث بحادي |
فكم حطمت من جندل بمفازة | وخاضت كتيار الفرات بوادي |
رأيت لفضل في السماحة همة | أطالت لعمري غيظ كل جواد |
ترى الناس أفواجا إلى باب داره | كأنهم رجلا دبى وجراد |
فيوما لإلحاق الفقير بذي الغنى | ويوما رقاب بوكرت بحصاد |
تردى له الفضل بن يحيى بن خالد | بماضي الظبي يزهاه طول نجاد |
أمام خميس أرجوان كأنه | قميص محوك من قنا وجياد |
فما هو إلا الدهر يأتي بصرفه | على كل من يشقى به ويعادي |
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم | بني برمك من رائحين وغاد |
بفضل بن يحيى أشرقت سبل الهدى | وأمن ربي خوف كل بلاد |
فدونكها يا فضل مني كريمة | ثنت لك عطفا بعد عز قياد |
خليلية في وزنها قطربية | نظائرها عند الملوك عتادي |
وما ضرها أن لا تعد لجرول | ولا للفتى كعب ولا لزياد |
(خليلية) منسوبة في وزنها إلى الخليل بن أحمد مخترع العروض وقطربية منسوبة في النحو إلى قطرب أحد علماء النحو (وجرول) هو الحطيئة (وكعب) هو ابن زهير ابن أبي سلمى صاحب بانت سعاد (وزياد) هو زياد الأعجم وكلهم من مشاهير شعراء العرب وفي هذه القصيدة قبح المطلع لأنه مما يتطير به ويجب على الشاعر أن يتجنب ذلك ولكن مثله قد يقع من حذاق الشعراء غفلة فإن الجواد قد يكبو والصارم قد ينبو أو لأمر يريده الله. وفي أنوار الربيع: واعلم أنه يجب على الناظم والناثر النظر في أحوال المخاطبين والممدحين والتجنب لما يكرهون سماعه ويتطيرون منه خصوصا الملوك ومن يتصل بهم فإنهم أشد الناس تطيرا من المكروهات وعثرة الناظم في ذلك لا تقال.
أخباره مع كلثوم بن عمرو العتابي
في مروج الذهب: حدث غوث بن المزرع حدثني خالد عن عمرو بن بحر الجاحظ قال كان كلثوم العتابي يضع من قدر أبي نواس وهو الذي يقول:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح | فأنت كما نثني وفوق الذي نثني |
وإن جرت الألفاظ منا بمدحة | لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني |
قال العتابي هذا سرقه من قول أبي الهذيل الجمحي:
وإذا يقال لبعضهم نعم الفتى | فأين المغيرة ذلك النعم |
عقم النساء فلا يجئن بمثله | إن النساء بمثله عقم |
قال لقد أحسن في قوله:
وما خلقت إلا لبذل أكفهم | وأقدامهم إلا لأعواد منبر |
قال سرقه من قول مروان بن أبي حفصة:
وما خلقت إلا لبذل أكفهم | وألسنهم إلا لتحبير منطق |
فيوما يبارون الرياح سماحة | ويوما لبذ الحاطب المتشدق |
فسكت الراوية ولو أتى بشعره كله لقال له سرقه.
أخباره مع بني نوبخت
كان بنو نوبخت ذوي مكانة عالية في بغداد وشأن رفيع في الدولة العباسية وكانوا مع تشيعهم المتسلسل في بيتهم موضع عناية ملوك بني العباس كما كانوا موضع عناية الأمراء والوزراء والكتاب من أرباب الدولة وذلك لما اتصفوا به من الكمال والفضل والمروءة والسخاء ومكارم الأخلاق فكان فيهم العلماء والكتاب والشعراء وتولى بعضهم جليل الولايات ومدحهم الشعراء أمثال البحتري. وكان أبو نواس ممن اتصل بهم ورتع في خوانهم وبقي الأيام العديدة في بيوتهم وأكرموه وقدموه ومع ذلك لم يسلموا من هجائه قال ابن منظور: كان أبو نواس يألف آل نوبخت ولا يفارقهم بقي في بيت إسماعيل ابن أبي سهل بن نوبخت أربعين يوما يأكل ويشرب ولما خرج قال فيه:
خبز إسماعيل كالوشـ | ـي إذا ما شق يرفا |
عجبا من أثر الصنـ | ـعة فيه كيف يخفى |
إن رفاءك هذا | ألطف الأمة كفا |
مثلما جاء من التنـ | ـور ما غادر حرفا |
وله في الماء أيضا | عمل أبدع ظرفا |
مزجه العذب بما | ء البئر كي يزداد ضعفا |
وقال يهجو إسماعيل أيضا:
على خبز إسماعيل واقية البخل | فقد حل في دار الأمان من الأكل |
وما خبزه إلا كعنقاء مغرب | تصور في بسط الملوك وفي المثل |
يحدث عنها الناس من غير رؤية | سوى صورة ما أن تمر ولا تحلي |
وما خبزه إلا كليب بن وائل | ومن كان يحمي عزه منبت البقل |
وإذ هو لا يستب خصمان عنده | ولا الصوت مرفوع بجد ولا هزل |
فإن خبز إسماعيل حل به الذي | أصاب كليبا لم يكن ذاك من ذل |
ولكن قضاء ليس يسطاع رده | بحيلة ذي مكر ولا فكر ذي عقل |
وفي ديوانه أنه قال يهجو ثقيلا يقال له روحا العمي ويلقب بالجبل ولكن في مقدمة الديوان ذكر النيبختيون أن أبا نواس عنى بهذه الأبيات أبي عبد الله بن سهل بن نيبخت وكذلك قال ابن منظور إنها في عبد الله هذا فالظاهر أن جامع الديوان لما رأى في أول بيت منها التصريح بأنها في ثقيل ظنه روحا العمي لأن أبا نواس له فيه عدة أهاج مضافا إلى تلقيبه بالجبل ولكن النوبختيين أعرف بمقاصد أبي نواس فعلموا أنها في عبد الله ولذلك أجابه أخوه عنها وأجاب أبو نواس أخاه فلم يبق شك في أنها في عبد الله وهي:
ثقيل يطالعنا من أمم | إذا سره رغم أنفي ألم |
لطلعته وخزة في الحشى | كوقع المشارط في المحتجم |
أقول له إذ أتى لا أتى | ولا نقلته إلينا قدم |
فقدت خيالك لا من عمى | وصوت كلامك لا من صمم |
فأجابه عنه أخوه فقال:
وذي ثروة من قبيح الشيم | صريح الدناءة مولى الكرم |
بعينيه عن كل خير عمى | وبالأذن عن كل حسن صمم |
خفي على أعين المكرمات | وأشهر في ريبة من علم |
إذا رفعت للخنا راية | ألح على ساقه واعتزم |
وإن نهض الناس للمكرمات | فما يحمل الساق منه القدم |
ويعدو بحرفته للصديق | وإن حصنته دروع النعم |
وينمى إلى حكم دعوة | وما أن له سبب في حكم |
كأن الوقاحة قدت له | على وجهه رقعة من أدم |
أحب إلى الناس من قربه | حلول المشيب بهم والسقم |
ولما تطرق أعراضنا | ولم يك في عرفه منتقم |
كتبنا الهجاء على أخدعيه | بمندرج من أكف الخدم |
فبلغت أبا نواس فقال من أبيات يذكر فيها أم إسماعيل بما ننزه كتابنا عن ذكره من جملتها في أولادها:
فعشواء مضليل وأعشى مضلل | وأعور دجال عليه قبوح |
سيبقى بقاء الدهر ما قلت فيكم | وأما الذي قد قلتموه فريح |
وكان إسماعيل ضعيف البصر وأخوه سليمان أعور ولما ولي سليمان الزاب قال يهجوه:
سيروا إلى أبعد منتاب | قد ظهر الدجال بالزاب |
هذا ابن نيبخت له إمرة | صاحب كتاب وحجاب |
وقال يهجو بني نيبخت عموما:
قد قشرت العصى ولم أعلق السيـ | ـر وأعددت للهجاء لساني |
فاحذروا صولتي وموقع شعري | واتقوا أن يزوركم شيطاني |
يا نداماي يا بني نوبخت | لا يضيعن بينكم طيلساني |
مائتا درهم شراه ولكن | ليس ترضي أخاكم المائتان |
إنما زرتكم لموضع ربح | لم أزركم لموضع الخسران |
خبره وجماعة من الشعراء مع يحيى بن المعلى
قال جامع ديوانه: اجتمع أبو نواس والعباس ابن الأحنف والحسين الخليع وشاعر آخر لعله مسلم بن الوليد ومعهم فتى يقال له يحيى بن المعلى فحضرت الصلاة فقام يحيى يصلي بهم فنسي الحمد وقرأ التوحيد ثم ارتج عليه في نصفها فقال أبو نواس:
أكثر يحيى غلطا | في قل هو الله أحد |
وقال العباس:
قام طويلا ساهيا | حتى إذا أعيا سجد |
وقال الآخر:
يزحر في محرابه | زحير حبلى بولد |
وقال الرابع:
كأنما لسانه | شد بحبل من مسد |
خبره مع جماعة من الشعراء
قال جامع ديوانه: اجتمع وهو صغير مع حماد عجرد ومطيع بن أياس ويحيى بن زياد ووالبة بن الحباب فقال ليكن منا اجتماع في دار أحدنا فقال كل منهم أبياتا يدعوهم بها إلى داره ذكرها جامع الديوان وتركناها فقال أبو نواس:
لا تطمعوا في شرابي | فتحصلوا في السراب |
فدون خبزي ولحمي | والخمر شيب الغراب |
ما ينسب إليه من الفسق والخلاعة والمجون والشرب
من نظر إلى عصر أبي نواس وما انتشر فيه من الفسق وشرب الخمر والخلاعة والمجون لا يستبعد صدور مثل ذلك من أبي نواس مع معاشرته ومخالطته للذين عرفوا بهذه الأمور فتلك الأعصار قد كان يصار فيها من الفسق والمجون ما ملأ بطون الكتب ويخجل المرء من نقله أو سماعه وإذا كان الحاملون اسم الخلافة وإمارة المؤمنين يشربون الخمور ويتعاطون الفجور وتغنيهم القيان وتعزف عليهم بالعود والطنبور فما ظنك بباقي الرعية. ولا يلتفت إلى إنكار ابن خلدون ذلك في حق من تسموا بالخلافة استنادا إلى أمور وهمية فإنه كإنكار الشمس الضاحية كما أن نسبة أمثال ذلك في الجملة إلى أبي نواس تكاد تكون متواترة بل قد نقلوا عنه من ذلك أمورا يخجل المرء من سماعها أو قراءتها فضلا عن نقلها في كتاب لا سيما ابن منظور الذي نقل عنه من أشياء مفرطة القبح والشناعة مع والبة بن الحباب وغيره لكنه لا يمكننا الاعتقاد بصحة كل ما نسب إلى أبي نواس من ذلك فإن الرجل إذا اشتهر بشيء كثرت نسبة ما هو من نوع ذلك الشيء إليه بالحق والباطل لا سيما مع معارضته ذلك بأنقال تنافيه وقد مر عند ذكر أقوال العلماء فيه أن ابن المعتمر أنكر وقوع ذلك منه ومر نقل ابن الجوزي أنه تاب في آخر عمره والرجل مع ذلك كله صحيح العقيدة عارف بالله تعالى خائف لعقابه راج لعفوه وثوابه ولا يبعد أن يكون ما يجري على لسانه مما فيه مجون أو خلاعة خارجا مخرج الفكاهة والظرف الذي يتعاطاه الشعراء كثيرا وقد رأينا في عصرنا هذا شاعر العراق بل جميع الآفاق يصف الخمرة وشربها ويتغزل ببعض ما يتغزل به أبو نواس وهو في مقدمة العلماء العاملين الأتقياء الورعين وقد أشار إلى ذلك في بعض موشحاته بقوله:
إنما حاولت نهج الظرفا | عفة النفس وفسق الألسن |
ويدل على ذلك ما في تاريخ دمشق قال محمد ابن أبي عمير سمعت أبا نواس يقول وأنا ما فتحت سراويلي لحرام قط وساعد على هذه النسب إليه إتيانه في شعره بالملح والنوادر حتى فيما يرجع إلى الدين فقد قال على ما في تاريخ دمشق:
يلومني الناس يقولون تب | غرهم كثرة أوزاريه |
في النار أما كنت أو جنة | ماذا عليكم يا بني الزانيه |
مع أنه يقول في بعض شعره:
أبقيت في لتقوى الله باقية | ولم أكن كحريص لم يدع مرحا |
مشايخه
أما مشايخه في الحديث فهم:
1- حماد بن زيد.
2- عبد الواحد بن زياد.
3- معتمر بن سليمان.
4- يحيى بن سعيد القطان.
5- أزهر بن سعد السمان. في تاريخ بغداد أنه اختلف في طلب الحديث فسمع من هؤلاء.
6- حماد بن سلمة من علماء النحو في تاريخ بغداد في ترجمة محمد بن إبراهيم بن كثير البابشامي نسبة إلى باب الشام محلة ببغداد كان ينزلها رواية في سندها أبو نواس عن حماد بن سلمة وذكر روايته عن هؤلاء الستة ابن عساكر في تاريخ دمشق.
7- خلف الأحمر قال ابن منظور أنه كان أكثر أستاذي أبي نواس تأديبا وتخريجا له.
8- يونس بن حبيب النحوي ذكر تأدبه عليهما ابن عساكر مر عن الجماز تتلمذه على يونس.
9- يعقوب الحضرمي قرأ عليه القرآن.
10- أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري النحوي كتب عنه الغريب والألفاظ.
11- أبو عبيدة معمر بن المثنى أخذ عنه التاريخ كما مر عن تاريخ الخطيب وخزانة الأدب.
12- أبو أسامة والبة بن الحباب الشاعر أخذ عنه الشعر والأدب كما مر عن ابن خلكان وخزانة الأدب.
تلاميذه
1- محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي. في تاريخ بغداد في ترجمة محمد المذكور رواية في سندها نبأنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي ببغداد بباب الشام سنة 273 قال نبأنا أبو نواس الحسن بن هانئ وذكر روايته عنه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
2- عبيد الله بن محمد العبسي.
3- محمد بن جعفر غندر.
4- أحمد بن حمزة بن زياد الربعي.
5- عمرو بن بحر الجاحظ.
6- يعقوب بن زيد الفارسي.
7- محمد بن إدريس الإمام الشافعي.
8- عبدوس كان راويته كما في تاريخ دمشق. وجماعة سواهم وفي لسان الميزان روى عنه محمد بن إبراهيم ابن كثير وناس قليل.
ما أثر عنه من النثر
قال جامع ديوانه قال أبو حاتم: سمعت أبا عبيدة يقول استفحصت غلامين في الصبا فزكنت فيهما بلوغ الغاية فيما ينتحلانه فجاءا كما زكنت بلغني أن النظام يتعاطى تعلم الكلام فتلقاني وهو غلام على حمار يطير به فقلت له يا غلام ما طبع الزجاج فالتفت إلي وقال يسرع إليه الكسر ولا يقبل الجبر ثم بلغني أن أبا نواس يتعاطى قرض الشعر فتلقاني ما طر شاربه بعد فقلت كيف فلان عندك فقال ثقيل الظل جامد النسيم فقلت زد فقال مظلم الهواء منتن الفناء قلت زد قال غليظ الطبع بغيض الشكل قلت زد قال وخم الطلعة عسر القلعة قلت زد قال ناتئ الجنباب بارد الحركات فخففت عنه فقال زدني سؤالا أزدك جوابا فقلت كفى من القلادة ما أحاط بالعنق. وقال يموت بن المزرع سمعت خالي الجاحظ يقول سمعت أبا نواس يقول -وقد ذكر رجلا- ما بقي من بصره إلا شفافه ومن حديثه إلا خرافة ومن جسمه إلا خيال يستبينه المتفرس قال وكان في كلام أبي نواس ترسل "انتهى".
أنواع شعره
قال ابن خلكان عن إسماعيل بن نوبخت شعره عشرة أنواع وهو مجيد في العشرة:
1- نقائضه مع الشعراء.
2- المديح.
3- المراثي.
4- العتاب.
5- الهجاء.
6- الزهد.
7- الطرد.
8- الخمر.
9- الغزل.
10- المجون وقال جامع ديوانه في مقدمته أن أنوع شعره إثنا عشر فعد الخمر نوعين والنوع الثاني فيما بين الخمر والمجون وعد الغزل نوعين غزل المذكر وغزل المؤنث وبعد إسقاط هذين النوعين يعد الخمر نوعا واحدا والغزل نوعا واحدا تبقى الأنواع عشرة ومن أنواع شعره الاعتذار وهذا لا يدخل في الأنواع العشرة المذكورة فقد يشتمل على المديح وقد لا يشتمل (ومنها) ذم الأخوان وهو داخل في الهجاء (ومنها) التعازي وتدخل في الرثاء (ومنها) الصفات والتشبيهات والطرد داخل فيها (ومنها) الشيب والشباب والطيف والخيال (ومنها) الشعر القصصي المسمى بالعنوان (ومنها) الأمثال وغير ذلك.
جامعو ديوانه
في مقدمة ديوانه المطبوع بمصر أن جامعة حمزة ابن الحسن الأصبهاني والظاهر أنه غلط لاتفاق الكل على أن جامعه علي بن حمزة الأصبهاني كما ستعرف. قال ابن خلكان وقد اعتنى بجمع شعره جماعة من الفضلاء منهم أبو بكر الصولي وعلي بن حمزة وإبراهيم بن أحمد بن محمد البري المعروف بتوزون فلهذا يوجد ديوانه مختلفا "انتهى". ثم قال ابن خلكان وعلي بن حمزة لم أقف له على ترجمة وتوزون أخذ الأدب عن أبي عمرو الزاهد ودع فيه "انتهى" وتوزون اسمه إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري كان أديبا نحويا ولم يصنفه غير جمعه لشعر أبي نواس كذا قالوا في ترجمته. وفي معجم الأدباء أن إبراهيم بن أحمد أبن محمد توزون جمع شعر أبي نواس وإنها رواية مشهورة بأيدي الناس "انتهى". وفي فهرست ابن النديم: ممن عمل شعر أبي نواس على غير الحروف يحيى بن الفضل راويته وجعله عشرة أصناف ومن العلماء أبو يوسف يعقوب ابن الفضل راويته وجعله عشرة أصناف ومن العلماء أبو يوسف يعقوب بن السكيت وفسره في نحو 800 ورقة وجعله أيضا عشرة أصناف وعمله أبو سعيد السكري ولم يتمه ومقدار ما عمل منه ثلثاه في مقدار ألف ورقة وعمله من أهل الأدب الصولي على الحروف وأسقط المنحول منه وعمله علي ابن حمزة الأصفهاني على الحروف أيضا وعمل يوسف بن الداية أخباره والمختار من سعوه ومحمد أبو هفان أخباره والمختار من شعره وعمل ابن الوهاب أبو الطيب أخباره والمختار من شعره وعمل ابن عمار أخباره والمختار من شعره وعمل أيضا رسالة في مساويه وسرقاته وعمل آل المنجم أخباره ومختار شعره فيما عملوه من كتبهم أشعار المحدثين وقد مضى ذكر ذلك وعمل أبو الحسن السمياطي أخبار أبي نواس والمختار من شعره والانتصار له والكلام على محاسنه "انتهى" والنجاشي قال إن السمياطي هذا له كتاب فضل أبي نواس والرد على الطاعن في شعره وفي خزانة الأدب ديوان شعره مختلف لاختلاف جامعيه فإنه اعتنى بجمعه جماعة منهم أبو بكر الصولي وهو صغير ومنهم علي ابن حمزة الأصبهاني وهو كبير جدا وكلاهما عندي والله الحمد على نعمه ومنهم إبراهيم بن أحمد الطبري المعروف بتوزون ولم أره إلى الآن "انتهى".
عدد قصائده وأبياتها
قال جامع ديوانه في مقدمته أنه جمع ديوان شعره مشتملا من قصائده وأراجيزه ومقطعاته على ألف وخمسمائة وأكثر ويضم من الأبيات ثلاثة عشر ألف بيت وأكثر "انتهى".
الزيادة والنقيصة في شعره
أما الزيادة فقد قال جامع ديوانه في مقدمته أنه نسب أكثر الرواة له غير ما هو له فله بمصر قصائد لا يعرفها أهل العراق ثم قال ما حاصله أن أبا نواس كان تعاطيه الشعر على غير طريق الشعراء لأن جل أشعاره في اللهو والغزل والمجون والعبث ووصف الخمر وأقل أشعاره مدائحه وليس هذا طريق الشعراء الذين في زمانه وبعده فألحق الناس بشعره كل ما وجدوه من جنسه قال وقد وجدت في نسخ شعره شعر شاعرين من شعراء أصبهان وهما منصور بن بازان وعبدة ابن زياد الجرجاني ولما ورد أحمد بن عثمان البري أصفهان رئي أروى خلق الله لشعر أبي نواس جاه وهزله فروى له أبياتا هي مثبتة في نسخ شعر منصور بن بازان العتيقة قال وقد أدخل أهل العراق من شعر أهل الجبل في عامة شعره الكثير خلاف ما ألحقوه من أشعار شعرائهم ومما أضيف إليه من شعر العراقيين قول الحسين بن الضحاك الخليع حين شرب مع إبراهيم بن المهدي فلاحاه على السكر فدعا بالنطع والسيف وهو:
نديمي غير منسوب | إلى شيء من الحيف |
كذا من يشرب الراح | مع التنين في الصيف |
وقد نسبه الناس إلى أبي نواس وأنه كان قد لاحى الأمين على السكر قال وروى يوسف النحاس المعروف بابن الداية المشهور بصحبة أبي نواس أنه لما ورد المأمون بغداد راجعا من خراسان ضرب ابن عائشة الهاشمي بالسياط فحبق تحت الضرب فقال فيه أبو نواس:
وجد ابن عائشة السياط جواعلا | للمرء في عجز العجاز لسانا |
مع أن المأمون ورد بغداد بعد موت أبي نواس سنة 199 (وأما النقيصة) في شعره فقد قال جامع ديوانه في مقدمته أيضا أنه استدل محمد بن عبد الرحمن الثرواني من أشعاره على أنه كان بالعراق أشعار لم تثبت من ذلك مدائحه في جعفر بن يحيى البرمكي وليس في أيدي الناس منها شيء قال وذكر المبرد في كتاب الروضة أنه كان قد مدح هاشم ابن جديع الكندي ولم يقع إلينا من مديحه له شيء وكذلك أرى حاله مع إسماعيل بن صبيح وله في خالد بن مزيد الشيباني أيضا مدح مما دل عليه بعض أخباره معه فكل هذا قد سقط عن الناس قال واستدللت على ذلك بأن له البيت والبيتين مما يدل على أن كل واحد من ذلك من قصيدة فمن ذلك بيت يرويه له المبرد هو:
وجرب حتى لا يزال كأنما | يخاطبه من كل أمر عواقبه |
ويروي له أيضا:
أغر من الغر الكرام ولاؤه | لهاشم فيه الدين والملك والفخر |
يطيف به ليل من النقع راكد | على أن ضوء المشرفي له فجر |
ويروي له أيضا:
وإذا ما السير قصر بي | دون جدواك التي تهب |
كان تأميلك يأخذ لي | منك بالحق الذي يجب |
ويروي له أيضا:
حالق شاربه يمـ | ـشي على الأرض مكبا |
فهو كالذئب إذا ما | عاين الظلماء خبا |
نسبة شعر غيره إليه
جرت العادة أن ينسب إلى كل من اشتهر بشيء ما هو من سنخه وإن لم يكن له قال ابن منظور: كان أبو بحر عبد الرحمن ابن أبي الهداهد شاعرا مجيدا وكان لا يكاد يقول شيئا إلا نسب لأبي نواس وكذلك الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع وقد غلب على كثير من شعرهما فما هو لأبي بحر وقد نسب لأبي نواس الأبيات التي أولها:
وشاطر ماجن الشمائل قد | خالط منه المجون تأنيثا |
قال أبو عبد الله أحمد بن صالح ابن أبي نصر أنشدنيها أبو بحر لنفسه فقلت له إنهم يزعمون أنها لأبي نواس فقال لي أبو نواس بيني وبينك ولكنه قد حظي أن ينسب إليه كل إجادة وملاحة "انتهى" ومر شيء من ذلك.
معارضة شعره
نظرا لما له من المكانة عند الشعراء عارض جملة من قصائده مشاهير الشعراء أمثال أبان بن عبد الحميد اللاحقي والحسين الخليع وابن المعتز ودعبل وغيرهم.
منتخبات من شعره
هذه منتخبات من أنوع شعره المتقدم إليها الإشارة عدى المجون نذكر من كل واحد منها نموذجا يكون مع باقي ما نقلناه من شعره شاهدا على تقدمه في صناعة الشعر ويراد بها ما يعم الردود والمعارضات.
نقائضه مع الشعراء
قال جامع ديوانه: إن نقائضه المجردة عن الأخبار هي مع نيف وأربعين شاعرا وشاعرة "انتهى" ونختار من تلك النقائض والمعارضات ما ننقله عن جامع ديوانه.
مع أبان بن عبد الحميد اللاحقي
قال روى العتبي أن أبان بن عبد الحميد اللاحقي أرسل رقعة إلى الفضل بن يحيى وفيها:
أنا من بغية الأمير وكنز | من كنوز الأمير ذو أرباح |
كاتب حاسب خطيب أديب | ناصح راجح على النصاح |
شاعر مفلق أخف من الريـ | ـشة مما تكون تحت الجناح |
لي في النحو فطنة واتقاد | أنا فيه قلادة بوشاح |
ثم أروى من ابن سيرين للعلـ | ـم بقول منور الإفصاح |
ثم أروى من ابن سيرين للشعـ | ـر وقول النسيب والإمداح |
وطريف الحديث من كل فن | وبصير بترهات الملاح |
كم وكم قد خبأت عندي حديثا | هو عند الملوك كالتفاح |
فبمثلي تخلو الملوك وتلهو | وتناجي في المشكل الفداح |
أيمن الناس طائرا يوم صيد | لغدو دعيت أو لرواح |
أبصر الناس بالجوارح والخيـ | ـل وبالخرد الحسان الصباح |
كل ذا قد جمعت والحمد للـ | ـه على أنني ظريف المزاح |
لست بالناسك المشمر ثوبيـ | ـه ولا الماجن الخليع الوقاح |
لو رمى بي الأمير أصلحه اللـ | ـه رماحا ثلمت حد الرماح |
ما أنا واهن ولا مستكين | لسوى أمر سيدي ذي السماح |
لست بالضخم يا أميري ولا الفد | م ولا بالمجحدر الدحداح |
لحية جعدة ووجه صبيح | واتقاد كشعلة المصباح |
إن دعاني الأمير عاين مني | شمريا كالبلبل الصياح |
فدعا به الفضل وأحسن جائزته وأمره بلزومه فكان يسعى في أبي نواس عنده فقال أبو نواس ناقصا عليه قصيدته:
أنت أولى بقلة الحظ مني | يا مسمى بالبلبل الصياح |
قد رأوا منه حين غنى لديهم | أخرس الصوت غير ذي إفصاح |
ثم بالريش شبه النفس بالخفـ | ـة مما يكون تحت الجناح |
فإذا الشم من شماريخ رضوى | عنده خفة نوى المسباح |
لم يكن فيك من صفاتك شيء | غير خلق مجحدر دحداح |
لحية ثطة ووجه قبيح | وانثناء عن النهي والصلاح |
فيك ما يحمل الملوك على الخر | ق ويرزي بالسيد الجحجاح |
فيك تيه وفيك عجب شديد | وطماح يفوق كل طماح |
بارد الطرف مظلم الكذب ذو حز | ق معيد الحديث نزر المزاح |
فالذي قلت فيك باق صحيح | والذي قلت ذاهب في الرياح |
مع الحسين بن الضحاك الخليع وابن المعتز
قال حكى أحمد بن طاهر أن أبا نواس لما قال:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء | وداوني بالتي كانت هي الداء |
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها | لو مسها حجر مسته سراء |
من كف ذات... | ............... |
قامت بإبريقها والليل معتكر | فلاح من وجهها في البيت لألأ |
فأرسلت من فم الإبريق صافية | كأنما أخذها بالعين إغفاء |
رقت عن الماء حتى ما يلائمها | لطافة وجفا عن شكلها الماء |
فلو مزجت بها نورا لمازجها | حتى تولد أنوار وأضواء |
دارت على فتية دار الزمان بهم | فما يصيبهم إلا بما شاؤوا |
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة | حفظت شيئا وغابت عنك أشياء |
لا تحظر العفو إن كنت أمرا حرجا | فإن حظركه في الدين إزراء |
عارضه الحسين بن الضحاك بقصيدة طويلة من جملتها:
بدلت من نفحات الورد بآلاء | ومن صبوحك در الإبل والشاء |
ففي غد لك من زهراء صافية | بطير ناباذ ماء ليس كالماء |
راح الفرات عليها في جداوله | وباكرتها سحابات بأنواء |
ما زال يهملها كالمستخف بها | غض الشباب كناس غير نساء |
يطري سواها إذا سميت مدافعة | عنها ويوسعها من كل أزراء |
تمازج الروح في أخفي مداخلة | كما تمازج أنوار بأضواء |
ما أطيب العيش لولا ذكر واحدة | فيها مفارقة بين الأحباء |
هذا النعيم ولا عيش تكون به | هند برابية من بعد أسماء |
قال: فيروى أنه تحوكم في هذه القصيدة وقصيدة أبي نواس إلى ابن ميادة بمكة شرفها الله تعالى فكان لا يأتي عيسى بيت من هذه القصيدة إلا قال: جيد حتى أتى عليها كلها ثم استنشد قصيدة أبي نواس فلما بلغه قوله:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها | لو مسها حجر مسته سراء |
قال: إن هذا البيت يفي بقصيدة الخليع. وقد عارضها عبد الله بن المعتز بهذه القصيدة:
أمكنت عاذلتي من صمت أباء | ما زاده النهي شيئا غير إغراء |
أين التورع من قلب يهيم إلى | حانات قطر بل والعود والناء |
وصوت فتانة التغريد ناظرة | بعين ظبي يريد الماء حوراء |
جرت ذيول الثياب البيض حين مشت | كالشمس مسبلة أذيال لألاء |
وقرع ناقوس ديري على شرف | مسبح في سواد الليل دعاء |
وكأس حيرية شكت بمبزلها | أحشاء مشعرة بالقار حواء |
أجرى الفرات عليها من سلاسله | شهرا تمشي على جرعاء ميثاء |
وطاف يكلأها من كل قاطفة | راع بعين وقلب غير نساء |
ثم استقرت ونار الشمس تلفحها | في بطن مختومة بالطين كلفاء |
في حتى إذا برد الليل البهيم لها | وبلها سحر منه بإنداء |
صب الخريف عليها ماء غادية | أقامها فوق طين بعد رمضاء |
تلك التي أن تصادف قلب ذي حزن | تجزل عطيته من كل سراء |
يسقيكها خنث الحقوين ذو هيف | كأن أجفانه أفرغن من داء |
لا يكره الغمز من كف ومن نظر | ولا يلاقي بصد وحي إيماء |
وإنما صب سلسال المزاج على | سبيكة من بنات التبر صفراء |
يا صاح إن كنت لم تعلم فقد طرحت | شرارة الحب في قلبي وأحشائي |
أما ترى البدر قد قام المحاق به | من بعد إشراق أنوار وأضواء |
وقد عست شعرات في عوارضه | تزري على عاشقيه أي إزواء |
أعيت مناقشة إلا على حلم | فكل يوم يغاديها بإحفاء |
فاندب زبرجد خد صار من سبح | ونح وساعد عليه كل بكاء |
يا ليت إبليس خلاني لندبته | ولم يصوب لإلحاظي بأشياء |
ما لي رأيت ملاح الناس قد كثروا | ولم يقدر بهم إبليس إغوائي |
وكيف أفلح مع هذا وذاك وذا | أم كيف يثبت لي في توبة رائي |
ومن الموازنة بين الأبيات التي اشترك أبو نواس وابن المعتز في معانيها أو تقاربا في هاتين القصيدتين يظهر لك سبق أبي نواس وتفوقه قال أبو نواس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء | وداوني بالتي كانت هي الداء |
فقال ابن المعتز في معناه وقصر عنه:
أمكنت عاذلتي من صمت أباء | ما زاده النهي شيئا غير إغراء |
وقال أبو نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها | لو مسها حجر مسته سراء |
فقال ابن المعتز في معناه ولم يلحقه:
تلك التي أن تصادف قلب ذي حزن | تجزل عطيته من كل سراء |
وقال أبو نواس:
#من كف ذات........................فقال ابن المعتز في نظيره ولم يساوه:
يسقيكها خنث الحقوين ذو هيف | كأن أجفانه أفرغن من داء |
وقال أبو نواس:
قامت بإبريقها والليل معتكر | فلاح من وجهها في البيت لألاء |
فقال ابن المعتز في شبهه ولم يدانه:
جرت ذيول الثياب البيض حين مشت | كالشمس مسبلة أذيال لألاء |
وقال أبو نواس:
فأرسلت من فم الإبريق صافية | كأنما أخذها بالعين إغفاء |
فقال ابن المعتز فيها يقاربه ولم يجاره:
وكأس حيرية شكت بمبزلها | أحشاء مشعرة بالقار جوزاء |
وقال أبو نواس في مزجها بالماء:
رقت عن الماء حتى ما يلائمها | لطافا وجفا عن شكلها الماء |
فقال ابن المعز في شبيهه:
وإنما صب سلسال المزاج على | سبيكة من بنات التبر صفراء |
مع دعبل الخزاعي
قال لما قال أبو نواس:
يا شقيق النفس من حكم | نمت عن ليلي ولم أنم |
فاسقني البكر التي اختمرت | بخمار الشيب في الرحم |
ثمت إنصات الشباب لها | بعدما جازت مدى الهرم |
فهي لليوم التي بزلت | وهي ترب الدهر في القدم |
عتقت حتى لو اتصلت | بلسان ناطق وفم |
لاحتبت في القوم مائلة | ثم قصت قصة الأمم |
فرعتها بالمزاج يد | خلقت للسيف والقلم |
في ندامى سادة زهر | أخذوا اللذات من أمم |
فتمشت في مفاصلهم | كتمشي البرء في السقم |
فعلت في البيت إذ مزجت | مثل فعل الصبح في الظلم |
واهتدى ساري الظلام بها | كاهتداء السفر بالعلم |
عارضها دعبل الخزاعي فقال:
عاذلي لو شئت لم تلم | فبسمعي عنك كالصمم |
وادع سرح اللهو مغتديا | غير مستبط ولا سئم |
وأقم بالسوس معتكفا | كاعتكاف الطير بالحرم |
واشرب الراح التي حجبت | عن عيون الدهر في الخيم |
لعناقيد مشكلة | كشعور الزنج في الحمم |
فتهادتها ثمود إلى | قومها من وارثي أرم |
وتختطها العصور فلو | نطقت في الكأس بالكلم |
لأجابت عن ولادتها | بلسان ناطق وفم |
ثم أدت كلما شهدت | من قرون الناس والأمم |
فافتنتها فتية سمح | من أناس سادة هضم |
فاستنارت في أكفهم | كنا النيران في الأجم |
تلك ما تحيا النفوس بها | فمتى أنزل بها أقم |
في نواحي هيكل أرج | عاكفا فيه على صنم |
نقشت بالحسن صورته | من ذرى قرن إلى قدم |
مع مسلم بن الوليد
قال: أن مسلما تلقاه رسول لأبي نواس إلى عنان ومعه رقعة فيها:
لا تأمنن على سري وسركم | غيري وغيرك أوطي القراطيس |
أو طير فيروزج إني سأبعثه | قد كان صاحب تأليف وتدنيس |
وكان هم سليمان ليذبحه | لولا قيادته في أمر بلقيس |
فأخذ مسلم منه الرقعة وخرقها فانصرف الرسول إلى أبي نواس فأخبره فقال أبو نواس:
لم يقو عندي على تخريق قرطاسى | إلا فتى قلبه من صخرة قاسي |
إن القراطيس في قلبي بمنزلة | كموضع السمع والعينين والرأس |
لولا القراطيس مات العاشقون معا | هذا بغم وهذا كم بوسواس |
فليت أن إمام الناس سلطني | فلم أدع خارقا فيه بقرطاس |
حتى أصبحه من حيث مأمنه | كأسا من الموت لم يسلم له حاسي |
ما أعجب الخارق القرطاس أقرأه | يأسا فخرقه من حيرة الياس |
ماذا عليك إذا أحببت كاتبه | ما كان في بطنه يا أحمق الناس |
أليس قد مشقت فيه أنامله | وجاز أقلامه فيها بأنفاس |
فبلغت مسلما فعارضه بقوله:
يا من يلوم على تخريق قرطاس | كم مر مثلك في الدنيا على راسي |
الحزم تخريقه إن كنت ذا حذر | وإنما الحزم سوء الظن بالناس |
فشق قرطاس من تهوى صيانته | فرب مفتضح في خط قرطاس |
إذا أتاك وقد أدوى أمانته | فاجعل كرامته في بطن أرماس |
وشق قرطاس من تهوى وكن فطنا | كم ضيع السر في حفظ لقرطاس |
فأجابه أبو نواس:
ماذا أردت إلى تخريق قرطاسي | هل كان عندك في القرطاس من باس |
سببت كاتبه من غير ما سبب | هل كان فيه سوى شكوى إلى ناسي |
كتبت أشكو بلياتي فساءكم | ما يذكر الناس من شوق إلى ناس |
المديح
قال يمدح رجلا كما مر في تاريخ دمشق ومر أن البيت الثاني في الفضل بن الربيع:
أوجده الله فما مثله | لطالب ذاك ولا ناشد |
ليس على الله بمستنكر | أن بجمع العالم في واحد |
وقال يمدح إبراهيم بن عبيد الله الحجبي:
خليلي هذا موقف من متيم | فعوجا قليلا وأنظراه بسلم |
إذا شئت لم تكثر علي ملامة | وأعنف أحيانا فيكثر لومي |
إذا كان إبراهيم جارك لم تجد | عليك بنات الدهر من متقدم |
هو المرء لا يخشى الحوادث جاره | فخذ عصمة منه لنفسك تسلم |
لقد حط جاري العبدري رحاله | إلى حيث لا نرقى الخطوب بسلم |
وجدنا لعبد الدار جرثوم عزة | وعادية أركانها لم تهدم |
إذا اشتغب الناس البيوت فإنهم | أولو الله والبيت العتيق المحرم |
رأى الله عثمان بن طلحة أهلها | فكرمه بالمستعاذ المكرم |
وأخطرتم دون النبي نفوسكم | بضرب يزيل الهام عن كل مجثم |
يقول في صفة الناقة:
إليك ابن مستن البطاح رمت بنا | مقابلة بين الجديل وشدقم |
مهارى إذا أشرعن بحر تنوفة | كرعن جميعا في إناء مقسم |
نفحن اللغام الجعد ثم ضربنه | على كل خيشوم نبيل المخطم |
إلى ابن عبيد الله حتى لقينه | على السعد لم يزجر لها طير أشأم |
وقال يمدح إبراهيم بن عبيد الله الحجبي أيضا من قصيدة:
هل عرفت الربع أجلى | أهله عنه فزالا |
رب ريم كان فيها | يملأ العين جمالا |
في ظباء يتزاور | ن فيمشين ثقالا |
وقلاة ألبستها | ظلمة الليل جلال |
قد تبطنت بحرف | تقدم العيس العجالا |
مال إبراهيم بالما | ل يمينا وشمالا |
لم يقل أفعل إلا | أتبع القول الفعالا |
وقال يمدح هاشم بن جديح الكندي:
تطاول فوق الناس حتى كأنما | يرون به نجما أمام نجوم |
إذا امتازت الأحساب يوما بأهلها | أناخ إلى عادية وصميم |
إلى كل معصوب به التاج مقول | إليه أتاوى عامر وتميم |
ومن رقيق شعره المنسجم المطبوع السهل الممتنع الذي يدخل الأذن بغير إذن قوله: يخاطب عبد الملك بن إبراهيم من أهل البصرة:
يا ابن إبراهيم يا عبد الملك | واثقا أقبلت بالله وبك |
أنت للمال إذا أمسكته | فإذا أنفقته فالمال لك |
وقال في رهبان دير حنة:
يا دير حنة من ذات الأكيراح | من يصح عنك فإني لست بالصاحي |
يعتاده كل محفو مفارقه | من الدهان عليه سحق أمساح |
لا يدلفون إلى ماء بباطية | إلا اغترافا من الغدران بالراح |
لم يبق فيهم لرائيهم إذا حصلوا | خلاف ما خوفوه أشباح |
الاعتذار
قال: يعتذر إلى الرشيد وهو في حبسه من أبيات:
فلا يتعذرن عليك عفو | وسعت به جميع العالمينا |
فإني لم أخنك بظهر غيب | ولا حدثت نفسي أن أخونا |
وقال يعتذر إلى الأمين حين حبسه ثانيا:
تذكر أمن الله والعهد يذكر | مقامي وإنشاديك والناس حضر |
ونثري عليك الدر يا در هاشم | فيا من رأى درا على الدر ينثر |
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله | وعمك موسى صنوه المتخير |
وجداك مهدي الهدى وشقيقه | أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر |
وما مثل منصوريك منصور هاشم | ومنصور قحطان إذا عد مفخر |
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في الورى | وعبد مناف والداك وحمير |
مضت لي شهور مذ حبست ثلاثة | كأني قد أذنبت ما ليس يغفر |
فإن كنت لم أذنب ففيم تعنتي | وإن كنت ذا ذئب فعفوك أكبر |
وكتب إلى الأمين أيضا:
أرقت وطار عن عيني النعاس | ونام السامرون ولم يواسوا |
أمين الله قد ملكت ملكا | عليك من التقى فيه لباس |
ووجهك يستهل ندى فيحيا | به في كل ناحية أناس |
كأن الخلق في تمثال روح | له جسد وأنت عليه رأس |
فديتك إن غم السجن باس | وقد أرسلت ليس عليك باس |
وكتب إلى الأمين أيضا من أبيات:
من ذا يكون أبا نوا | سك إذ حبست أبا نواس |
إن أنت لم ترفع له | رأسا فديت فنصف راس |
وكتب إلى الفضل بن الربيع من الحبس يذكر أنه زهد وتنسك مبالغة في الظرافة:
أنت يا ابن الربيع ألزمتني النسـ | ـك وعودتنيه والخير عاده |
فارعوى باطلي واقصر حبلي | وتبدلت عفة وزهاده |
لو تراني ذكرت للحسن البصـ | ـري في حسن سمته أو قتاده |
المسابيح في ذراعي والمصـ | ـحف في لبتي مكان القلاده |
وإذا شئت أن ترى طرفة تعـ | ـجب منها مليحة مستفاده |
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي | وتفطن لموضع السجاده |
تر أثرا من الصلاة بوجهي | توقن النفس أنها من عباده |
لو رآها بعض المرائين يوما | لاشتراها بعدها للشهادة |
ولقد طال ما شقيت ولكن | أدركتني على يديك السعاده |
وكتب إلى عبد الله بن نعيم وكان أخوه كاتب الفضل ابن الربيع:
حي الديار وأهلها أهلا | وأربع وقل لمفند مهلا |
إني ندبت لحاجتي رجلا | صافي السماحة واحتوى النبلا |
وسمت به الهمم العظام إلى الر | تب الجسام فباين المثلا |
تلقى الندى في غيره عرضا | وتراه فيه طبيعة أصلا |
كلم أخاك يكلم الفضلا | وليبلني حسنا كما أبلى |
وإذا وصلت بعاقل أملا | كانت نتيجة قولك الفعلا |
وكتب إلى جماعة كثيرين يتوسل بهم ويذكر أنه قد تاب مما حبسه لأجله الأمين يطول الكلام باستيفائهم منهم الحسين بن عيسى بن المنصور:
رفع الصوت ونادى | يا أبا عيسى الجواد |
كن عمادا يا ابن من كا | ن غياثا وعمادا |
وتدارك جسدا قد | مات أو قد قيل كادا |
قل له إذ قال هل تا | ب نعم تاب وزادا |
واضمن التوبة عمن | كلما أطراك عادا |
وكتب إلى عبيد الخادم مولى أم جعفر:
جعلت عبيدا دون ما أنا خائف | وصيرته بيني وبين يد الدهر |
أشار إليه الناس من كل جانب | وقالوا أبو عمر لها وأبو عمرو |
فتى لا يحب الكسب إلا أحله | ولا الكنز إلا من ثناء ومن شكر |
وكتب إلى الحسين الخادم مولى هارون:
يا خليلي ساعة لا تريما | وعلى ذي صبابة فأقيما |
ما مررنا بدار زينب إلا | فضح الدمع سرنا المكتوما |
تتجافى حوادث الدهر عمن | كان في جانب الحسين مقيما |
قال لي الناس إذ هززتك للحا | جة أبشر فقد هززت كريما |
فأسألنه إذا سألت عظيما | إنما يسأل العظيم العظيما |
وكتب إلى الحسين هذا أيضا من أبيات:
أبلغ هديت إلى الإمام رسالة | عني بأني بعدها استعتب |
وشهادتي إني حليف عبادة | فأبلوا على الأيام ذاك وجربوا |
الهجاء
لأبي نواس هجاء موجع وذم وقدح فهو متقدم في الهجاء تقدمه في سائر أنوع الشعر وزاد في هجائه ما في طبع أبي نواس من الظرف واللطف وما في كلامه من النكات والهزل فجاء هجاؤه ممزوجا بالهزل فزاد ذلك في حسنه وحسن موقعه وأنت ترى أنه لم يسلم من هجائه أحد فهجا الأمين وهو شاعره وهزأ به وهجا البرامكة وهم وزراء الرشيد والمتحكمون في دولته وهجا العباسة ابنة المهدي وهجا الخصيب وهجا الحسين الخادم حاجب الرشيد ومولاه سليمان بن المنصور وكل ذلك دليل جرأته وهجا أبا عبيدة وهو شيخه وهجا بني نوبخت مع إحسانهم إليه وهجا أشجع السلمي والنظام وأبا عبيدة وأبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى غير. ذلك مما سيمر عليك وكان الكبراء يهابون هجاءه ويخشون منه. قال ابن منظور: صار أبو نواس في حداثته إلى مجلس الهيثم بن عدي فجلس والهيثم لا يعونه فلم يستدنه ولم يقرب مجلسه فقام مغضبا وتبين الهيثم في وثبته الغضب نسأل عنه فخبر باسمه نقال: إن الله هذه والله بلية لم أحسبها على نفسي توصوا به إليه لنعتذر فصاروا الهيثم الباب عليه وتسمى له فقال: ادخل فقال الهيثم له: المعذرة إلى الله ثم إليك ولا والله ما عونتك وما الذنب إلا إليك حين لم تعرنا نفسك نقضي حقك فأظهر له قبول العذر فقال الهيثم: أنا أستعيذك من قول يبقى منك في قال: وما الذي مضى جعلت فداك قال: بيت مر قال فتنشدنيه فامتنع أبو نواس عن إنشاده فألح الهيثم فأنشده:
إذا نسبت عديا في بني ثعل | فقدم الدال قبل العين في النسب |
وهذا البيت من قصيدة لأبي نواس في الهيثم بن عدي يقول فيها:
الحمد لله هذا أعجب العجب | الهيثم بن عدي صار في العرب |
يا هيثم بن عدي لست للعرب | ولست من طيء إلا على شغب |
إذا نسبت عديا في بني ثعل | فقدم الدال قبل العين في النسب |
كأنني بك فوق الجسر منتصبا | على جواد قريب منك في الحسب |
حتى نراك وقد درعته قمصا | من الصديد مكان الليف والكرب |
لله أنت فما قربي تهم بها | إلا اجتلبت لها الأنساب من كثب |
فعاد إليه الهيثم بن عدي حين بلغته الأبيات فقال له: يا سبحان الله أليس لقيتني وجعلت لي عهدا أن لا تهجوني فقال أبو نواس وإنهم يقولون: ما لا يفعلون. وقال يهجوه أيضا:
أنت من طي ولكن | قبله نون وباء |
وقال يهجو عدنان ويفتخر بقحطان وهي القصيدة التي أطال الرشيد حبسه بسببها وهذه منتخبات منها:
ونحن إذ فارس تدافع بهرا | م قسطنا على مرازبها |
بالخيل شعثا على لواحق كالسيـ | ـدان تعطي مدى مذاهبها |
ويوم ساتيد ما ضربنا بني الأصـ | ـفر والموت في كتائبها |
إذ لاذ بزواز يوم ذاك بنا | والحرب تمري بكف حالبها |
يذود عنه بنو قبيصة بالخـ | ـطي والبيض من قواضبها |
حتى دفعنا إليه مملكة | ينحسر الطرف عن مواكبها |
وفاظ قابوس في سلاسلنا | سنين سبعا وفت لحاسبها |
فافخر بقحطان غير مكتئب | فحاتم الجود من مناقبها |
ولا ترى فارسا كفارسها | إذ زالت الهام عن مناكبها |
عمرو وقيس والأشتران وزيـ | ـد الخيل أسد لدى ملاعبها |
بل مل إلى الصيد من أشاعثها | والسادة الغر من مهالبها |
وحمير تنطق الرجال بما اخـ | ـتارت من الفضل في مراتبها |
أحبب قريشا لحب أحمدها | واعرف لها الجزل من مواهبها |
إن قريشا إذا هي إنتسبت | كان لنا الشطر من مناسبها |
فأم مهدي هاشم أم موسى الـ | ـخير منا فافخر وسام بها |
إن فاخرتنا فلا افتخار لها | إلا التجارات من مكاسبها |
فاهج نزارا وأبر جلدتها | وهتك الستر عن مثالبها |
أما تميم فتغير داحضة | ما سلسل العبد في شواربها |
أول مجد لها وآخره | إن ذكر المجد قوس حاجبها |
وقال يهجو تميما وأسدا ويفتخر بقحطان وفيها إشارة إلى كثير من قصص العرب وأخبار ذكرنا بعضها يقول فيها:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا | فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب |
تفاخر أبناء الملوك سفاهة | وبولك يجري فوق ساقك والكعب |
فنحن ملكنا الأرض شرقا ومغربا | وشيخك ماء في الترائب والصلب |
فلما أبى إلا افتخارا بحاجب | هتمت ثناياه بجندلة الشعب |
تفاخرنا جهلا بظئر نبيبنا | ألا إنما وجه التميمي من هضب |
وضيعتم في العامرين ثاركم | بعمرو بن ضباء المصاب بلا ذنب |
فكان هجاء الجعفري نكيركم | وقد لحبوا منه السنام عن الصلب |
وأنتم شمتم بابن دارة سالم | فجازتكم الأيام نكبا على نكب |
منعتم أخاكم عقبة وهو رامض | وحلأتموه أن يذوق من العذب |
فمتم بأيديكم فلا مات غيركم | وغنى بكم أبناء دارة في الشرب |
وقال يذم البصرة وخلطاءه بها:
أما من كنت بالبصرة | أصفي لهم الودا |
ومن كانوا موالي | ومن كنت لهم عبدا |
ومن قد كنت أرعاه | وإن مل وإن صدا |
شربنا ماء بغداد | فأنساناكم جدا |
تبد لنا بها حورا | لألحان الغنا أدا |
وأبهى منكم شكلا | وأحلى منكم قدا |
فلا ترعوا لنا عهدا | فما نرعى لكم عهدا |
ولما لم يكن بد | وجدنا منكم بدا |
ولا تشكوا لنا فقدا | فما نشكو لكم فقدا |
كلانا واجد في النا | س مما مله ندا |
وقال يهجو هاشم بن خديج من قصيدة:
وردنا على هاشم مرصده | فبارت تجارتنا عنده |
وما كان إيمانكم بالرسول | سوى قتلكم صهره بعده |
وما كان قاتله في الرجال | بحمل لطهر ولا رشده |
وقال يهجوه أيضا:
يا هاشم بن خديج ليس فخركم | بقتل صهر رسول الله بالسدد |
أدرجتم في إهاب العير جثته | فبئس ما قدمت أيديكم لغد |
إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت | حجرا بدارة ملحوب بنو أسد |
وطردوكم إلى الأجبال من أجا | طرد النعام إذا ما تاه في البلد |
وقد أصاب شراحيلا أبو حنش | يوم الكلاب فما دافعتم بيد |
ويوم قلتم لزيد وهو يقتلكم | قتل الكلاب لقد أبرحت من ولد |
وكل كندية قالت لجارتها | والدمع ينهل من مثنى ومن وجد |
ألهي أمرأ القيس تشبيب بغانية | عن ثاره وصفات النؤى والوتد |
وقال يهجوه أيضا:
أتشتم خير ذي حكم بن سعد | لقد لاقيت داهية نؤادا |
سببت ابن الحديج فسب ظلي | لعمر أبيك لا أستوفي وزادا |
ولو في غير مصر سببت ظلي | لقلت ابن الخبيثة كن رمادا |
وقال يهجو إسماعيل بن صبيح كاتب السر للأمين وولاؤه لبني أمية:
ألا يا أمين الله كيف تحبنا | قلوب بني مروان والأمر ما ندري |
وما بال مولاهم لسرك واضعا | وما باله أمسى يشارك في الأمر |
تبين أمين الله في لحظاته | شنان بني العاصي وحقد بني صخر |
وقال يهجو الفضل بن الربيع وهو في حبسه من أبيات:
على مركبي مني الملام وبزتي | وغدوات لهو قد فقدن مكاني |
لحى الله من أمسى يرشح نصره | بفك أسار منه عند يماني |
وما لي وقحطان وبث مديحها | ونصبي لها نفسي بكل مكان |
فإن أمس لا تخشى لسيفي فتكة | فلا تأمنن يا فضل فتك لساني |
وإني لأرجو أن أراك كجعفر | ونصفاك فوق الجسر يقتسمان |
وقال يهجو العباس بن حعفر بن محمد بن الاشعث الخزاعي:
قل لبني الأشعث لن تصلحوا | باللوم عندي أمر عباس |
حتى تردوه إلى ربه | يطبعه خلقا من الراس |
ألوم عباسا على بخله | كأن عباسا من الناس |
وإنما العباس في قومه | كالثوم بين الورد والآس |
وقال يهجو العباسة بنت المهدي:
ألا قل لأمين اللـ | ـه وابن القادة الساسه |
إذا ما ناكث سرك | أن تفقده راسه |
فلا تقتله بالسيف | وزوجه بعباسه |
وقال يهجو إبراهيم بن النظام:
قولا لإبراهيم قولا هترا | غلبتني زندقة وكفرا |
إن قلت ما تشرب قال خمرا | أو قلت ما تترك قال برا |
أو قلت ما تقول قال شرا | أصلاه ربي لهبا وجمرا |
وقال يهجو الفضل بن العميد الرقاشي:
رأيت قدور الناس سودا من الصلى | وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر |
تبين في محراثها أن عوده | سليم صحيح لم يصبه أذى الجمر |
إذا ما تنادوا بالرحيل سعى بها | أمامهم الحولي من ولد الذر |
وقال يهجو الرقاشي أيضا:
قدر الرقاشي مضروب بها المثل | في كل شيء خلا النيران تبتذل |
تشكو إلى قدر جارات إذا التقيا | اليوم في سنة ما مسني بلل |
وقال يهجو الرقاشي أيضا:
أمات الله من جوع رقاشا | فلولا الجوع ما ماتت رقاش |
ولو أشممت موتاهم رغيفا | وقد سكوا القبور إذا لعاشوا |
وقال يهجو الرقاشي أيضا بأبيات منها هذا البيت وكفى به هجوا:
والله لو كنت جريرا لما | كنت بأهجى لك من أصلكا |
وقال فيه أيضا من أبيات:
قد أخذ الله من رقاش على | تركهم المجد بالمواثيق |
وقال يهجو أشجع السلمي:
قل لمن يدعي سليما سفاها | لست منها ولا قلامة ظفر |
إنما أنت من سليم كواو | ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو |
وقال يهجو أبان بن الحميد اللاحقي مولى الرقاشيين:
صحفت أمك إذ | سمتك في المهد أبانا |
صيرت باء مكان التـ | ـاء تصحيفا عيانا |
قد علمنا ما أرادت | لم ترد إلا أتانا |
قطع الله وشيكا | من مسميك اللسانا |
وقال يهجو أحمد بن يسار الجرجائي:
بما أهجك لا أدري | لساني فيك لا يجري |
إذا فكرت في عرضك | أشفقت على شعري |
وقال يهجو عشيقته من أبيات:
أكثري أو فأقلي | قد مللناك فملي |
ما إلى حبك عود | ما دعا الله مصلي |
لم يكن مثلك لولا | سفه الرأي هوى لي |
شخصها شخص قبيح | ولها وجه مولي |
اشهدوا أني بريء | من هواها متخلي |
وقال يهجو ثقيلا بصريا يقال له روحا العمي ويلقب بالجبل:
أيا جبل السماجة والـ | ـذي أرسى فلا يبرح |
ويا من هو من ثهلا | ن لو حملته أفدح |
لقد صورك الله | فما حلى ولا ملح |
وقد طولت تفكيري | فما أدري لما تصلح |
فما تصلح أن تهجى | ولا تصلح أن تمدح |
فيا ليتك أن أمسيـ | ـت إذ أمسيت لا تصبح |
ويا ليتك في اللجة | لا تحسن أن تسبح |
وقال يهجوه:
لي صاحب أثقل من أحد | قرينه ما عاش في جهد |
علامة البغض على وجهه | بينة مذ حل في المهد |
لو دخل النار طفى حرها | فمات من فيها من البرد |
وقال:
رأيت الفضل مكتئبا | يناغي الخبز والسمكا |
فأسبل دمعه لما | رآني قادما وبكى |
فلما أن حلفت له | بأني صائم ضحكا |
وقال:
شهدت البطاقي في مجلس | وكان إلي بغيضا مقيتا |
فقال اقترح بعض ما تشتهي | فقلت اقترحت عليك السكوتا |
وقال يهجو جعفر البرمكى:
لقد غرني من جعفر حسن بابه | ولم أدر أن اللؤم حشو أهابه |
فلست وإن أخطأت في مدح جعفر | بأول إنسان... في ثيابه |
وقال يهجو سعيد بن مسلم:
رغيف سعيد عنده مثل نفسه | يقبله طورا وطورا يلاعبه |
ويخرجه من كمه فيشمه | ويجلسه في حجره ويخاطبه |
وإن جاءه المسكين طلب فضله | فقد ثكلته أمه وأقاربه |
يكر عليه السوط من كل جانب | وتكسر رجلاه وينتف شاربه |
وقال يهجو محمد بن إسماعيل:
فتى لرغيفه فرط وشنف | وخلخالان من خرز وشذر |
إذا فقد الرغيف بكى عليه | بكا الخنساء إذ فجعت بصخر |
ودون رغيفه قلع الثنايا | وحرب مثل وقعة يوم بدر |
ذم الأخوان
وأخ إذ جاءني في حاجة | كان بالإنجاز مني واثقا |
وإذا فاجأته في مثلها | كان بالرد بصيرا حاذقا |
وقال:
وصاحب أخلف ظني به | والخير بالصاحب مظنون |
جاملني بالقول حتى إذا | صار له مال وتمكين |
أعرض عنى لاويا شدقه | كأنه في الكنز قارون |
أنكرتها منه فعاتبته | والنصح في الأخوان مضمون |
فتاه إذ عاتبته شامخا | وأصله في أهله درن |
وقال:
ذهب الناس فاستقلوا وصرنا | خلفا في أراذل النسناس |
في أناس نعدهم من عديد | فإذا فتشوا فليسوا بناس |
كلما جئت أبتغي الفضل منهم | بدروني قبل السؤال بياس |
ربكوا لي حتى تمنيت أني | مفلت عند ذاك راسا برأس |
وقال من أبيات:
فسد الخلائق كلهم | فانظر لنفسك من تؤاخي |
وقال:
يا مادح القوم اللئا | م وطالبا رفد الشحاح |
أشغل قريضك بالنسيـ | ـب وبالفكاهة والمزاح |
حدثت وجوه ليس تأ | لم غير أطراف الرماح |
وأكف قوم ليس ينـ | ـبط ماءها غير المساحي |
ما شئت من مال حمي | يأوي إلى عرض مباح |
المراثي
قال يرثي الأمين:
طوى الموت ما بيني وبين محمد | وليس لما تطوي المنية ناشر |
فلا وصل إلا عبرة نستديمها | أحاديث نفس ما لها الدهر ذاكر |
لئن عمرت دور بمن لا أوده | لقد عمرت ممن أحب المقابر |
وكنت عليه أحذر الموت وحده | فلم يبق لي شيء عليه أحاذر |
وقال يرثي والبة بن الحباب أستاذه في الأدب:
فاضت دموعك ساكبه | جزعا لمصرع والبة |
قامت بموت أبي أسا | مة في الزقاق النادبة |
قامت تبث من المكا | رم غير قيل الكاذبة |
فجعت بنو أسد به | وبنو نزار قاطبة |
بلسانها وزعيمها | عند الأمور الحازبة |
لا تبعدن أبا أسا | مة فالمنية واجبة |
كل امرئ تغتاله | منها سهام صائبة |
كتب الفناء على العبا | د فكل نفس ذاهبه |
كم من أخ لك قد تر | كت همومه بك ناصبة |
قد كان يعظم قبل مو | تك أن تنوب النائبه |
وقال يرثي خلفا الأحمر قبل موته من أبيات وكان أستاذه فعرضها عليه فاستجودها كما في الديوان:
أودى جماع العلم مذ أودى خلف | من لا يعد العلم إلا ما عرف |
قليزم من العياليم الخسف | فكلما تشاء منه تغترف |
وقال يرثيه أيضا من قصيدة:
لما رأيت المنون آخذة | كل شديد وكل ذي ضعف |
بت أعزي الفؤاد عن خلف | وبات دمعي أن لا يفض يكف |
أنسى الرزايا ميت فجعت به | أمسى رهين التراب في جدف |
لا يهم الحاء في القراءة بالخا | ء ولا لامها مع الألف |
ولا يعمي معنى الكلام ولا | يكون إنشاده عن الصحف |
وكان ممن مضى لنا خلفا | فليس منه إذ بان من خلف |
التعازي
في تاريخ دمشق لما مات الرشيد وقام الأمين قال يعزي الفضل:
تعز أبا العباس عن خير هالك | بأكرم حي كان أو هو كائن |
حوادث أيام تدور صروفها | لهن مساو مرة ومحاسن |
وفي الحي بالميت الذي غيب في الثرى | فلا أنت مغبون ولا الموت غابن |
الغزل
قد ذبت غير حشاشة | في النفس تحبسها الأماني |
يا من يلوم على الصبا | دعني فشأنك غير شاني |
أنى ترد علي قلـ | ـبا راح في غلق الرهان |
قلبا إذا كلفته | غير الذي يهوى عصاني |
ومضمخات بالعبيـ | ـر نزلن من غرف الجنان |
أقبلن من باب الرصا | فه كالتماثيل الحسان |
يحففن أحور كالغزا | ل أمر أمرار العنان |
يمشي بردف كالنقى | يختال تحت قضيب بان |
لا يشغلنك غير ما | تهوى فكل العيش فاني |
وقال:
يا نظرة ساقت إلى ناظر | أسباب ما تدعو إلى حتفه |
من حب ظبي حسن دله | يقصر الواصف عن وصفه |
في البدر من صفحته لمحة | ولمحة في الظبي من طرفه |
إذا مشى جاذبه ردفه | كانما يمشي إلى خلفه |
وقال:
ومعشوق الشمائل والدلال | كقرف الشمس في قد الغزال |
تأزر بالملاحة وارتداها | وسربل بالكمال وبالجمال |
ضيا شمس تفرع في قضيب | ودعص نقى ترجرج في اعتدال |
له في خده خال مليح | بنفسي ذاك من خد وخال |
وقال:
يا قضيبا في القوام | وهلالا في التمام |
وبديعا في مثال | جل عن وصف الكلام |
بأبي وشي أنيق | منك في الخد الرخامي |
قد سباني نور خد | كمصبابيح الظلام |
شفني منك قوام | فوق أرداف عظام |
وكتمت الحب حتى | عيل صبري واكتتامي |
الغزل والنسيب
قال من أبيات:
يا من لعين سربه | تفعل فعل الطربه |
قد سلني حبك حتـ | ـى صرت مثل القصبه |
أحببت ريما غنجا | ذا وجنة كالذهبه |
فلست أنسى قوله | من غمز كفي يا أبه |
فليت حظي قبلة | منه شراء أو هبه |
ولائم قلت له | لا تكثرن الجلبه |
إن الذي أحببته | له علي الغلبه |
وقال:
يا مجلسا ضم فتيانا غطارفة | حازوا البشاشة والأنعام والكرما |
وجوههم فيه ريحان لمجلسهم | ولفظهم لؤلؤ في سلكه نظما |
وقال:
للريم عيناه ولفتاته | وللغزال الجيد والنحر |
والخصر قد أوهنه ردفه | فخطوه من ثقله فتر |
لو مس ميتا عاد حيا فلم | يضمه من بعده قبر |
لو مر ذر فوق سرباله | يوما لأدمى جلده الذر |
وقال:
سائل عن الحب تخبر | فالحب صبر وسكر |
إذا علقت غزالا | كأنه البدر يزهر |
فلا عليك أقل الـ | ـعذول أم فيه أكثر |
أظهر هواك فمهما | أخفيته سوف يظهر |
والله ما بلغ الحب | من جميل بن معمر |
ولا من ابن ذريح | قيس وما كان قصر |
بلوغه من فؤادي | لما غدا يتفطر |
وقال:
فوا حرباه من عيني | بلذتها جنت ضرري |
فيا من لم يكن للحب | فيه ميل ذي وطر |
لو أنك ذقت أحيانا | مخلاة من الفكر |
وأنت عليك مغضوب | وقلبك غير مصطبر |
إذا لعلمت أن الحب | يأخذ أخذ مقتدر |
وقال:
وكأس كعين الديك باتت تملني | على وجه معبود الجمال رخيم |
إذا قلت عللني بريتك أقبلت | مراشفه حتى يصبن صميمي |
بنينا على كسرى سماء مدامة | مكللة حافاتها بنجوم |
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه | إذا لاصطفاني دون كل نديم |
وقال:
مقرطقة لم يحنها سحب ذيلها | ولا نازعتها الريح فضل البنائق |
تشارك في الصنع النساء وسلمت | لهن ضروب الحلي غير المناطق |
ومطمومة لم تتصل بذؤابة | ولم تعتقد بالتاج فوق المفارق |
كأن مخط الصدغ فوق خدودها | بقية أنقاس بأصبع لائق |
ندته بماء المزن حتى جرى لها | إلى مستقر بين أذن وعاتق |
تجمع فيها الشكل والزي كله=فليس يوفي وصفها قول ناطق
وقال:
أقول لها وتد هجع الندامى | ألا ردي فؤاد المستهام |
فقالت من فقلت أنا فقالت | متى أدخلت نفسك في الزحام |
فقلت لها غلبت على فؤادي | لما أظهرت من دال ولام |
فقالت لي هجعت رأيت خيرا | أراك رأيت هذا في المنام |
وقال:
إني صرفت الهوى إلى قمر | لم يتحد العيون بالنظر |
إذا تأملته تعاظمك الإقـ | ـرار في أنه من البشر |
ثم يعود الإنكار معرفة | منك إذا قسته إلى الصور |
مباحة ساحة القلوب له | يأخذ منها أطائب الثمر |
ومن بديع غزله قوله:
لو نظرت عينه إلى حجر | ولد فيه فتورها سقما |
وقال كما في تاريخ دمشق:
لم أجن ذنبا فإن زعمت بأن | أذنبت ذنبا فغير ما معمد |
قد يطرف العين كف صاحبها | فلا يرى قطعها من السؤدد |
وقال في جارية تسمى عنان:
عنان يا من تشبه العينا | أنت على الحب تلومينا |
حبك حب لا أرى مثله | قد ترك الناس مجانينا |
وفي تاريخ دمشق قال بعض العلويين: كنت عند أبي نواس وهو ينشد فأقبل أعرابي وهو متوكئ على ابن له فسمعه يقول:
ويلي على نجل العيو | ن النهد ألقب البطون |
الناطقات من الضميـ | ـر لنا بألسنة الجنون |
فقال له الأعرابي: أعد علي فأعاد عليه فقام وقال يا ابن أخي ويلك أنت وحدك في هذا بل أنا وأنت وويل ابني هذا وويل هذه الجماعة وويل جيراننا كلهم. وفي تاريخ دمشق: حكى أبو بكر الصولي عن ابن عائشة أنه قال: رأيت أبا نواس يكلم امرأة في الغلس عند باب المسجد وكنت أعرفه في مجالس الحديث والآداب فقلت له مثلك يقف هذا الموقف لحق أو باطل فاعتذر ثم كتب إلي ذلك اليوم:
إن التي أبصرتني | سحرا أكلمها رسول |
أدت إلي رسالة | كادت لها نفسي تسيل |
من فاتن العينين يتـ | ـعب خصره ردف ثقيل |
متنكب قوس الصبا | يرمي وليس له رسيل |
فلو أن أذنك بيننا | حتى تسمع ما يقول |
لرأيت ما استقبحت من | أمري لديك هو الجميل |
ومن شعره في الغزل قوله كما في تاريخ دمشق:
وفاتن بالنظر الرطب | يضحك عن ذي أشر عذب |
خاليته في مجلس لم يكن | ثالثنا فيه سوى الرب |
وقال لي والكأس في كفه | بعد التجني منه والعتب |
تحبني قلت مجيبا له | أوفر ما جن من الحب |
قال فتصبو قلت يا سيدي | وأي شيء منك لا يصبي |
قال اتق ودع ذا الهوى | فقلت إن طاوعني قلبي |
وله أيضا:
فديتك ليس لي عنك انصراف | ولا في الهوى منك انتصاف |
وصالك عندى الشهد المصفى | وهجرك عندي السم الزعاف |
وقائلة متى عهد التسلي | فقلت لها إذا شاب الغداف |
أطوف بقصركم في كل يوم | كأن بقصركم خلق الطواف |
ولولا حبكم ألزمت بيتي | وكان به اتساع وائتلاف |
وأول شعره قاله أبو النواس وهو صبى قوله:
حامل الهوى تعب | يستخفه الطرب |
إن بكى يحق له | ليس ما به لعب |
تضحكين لاهية | والمحب ينتحب |
كلما انقضى سبب | منك جاءني سبب |
تعجبين من سقمي | صحتي هي العجب |
وقال:
يا أيها الظبي الذي لحظاته | تصمي الفؤاد إلا ترق وترحم |
هلا تفي فيكون فضلك غامرا | صبا بغير لقاك لا يتنعم |
وقال:
يا ناظرا ما أقلعت نظراته | حتى تشحط بينهن قتيل |
بكمال صورتك التي في مثلها | يتخير التشبيه والتمثيل |
وقال:
وذات وجه كأن البدر حل به | يهدي لك الورد والتفاح خداها |
ومن رقائق شعره في الغزل هذه الأبيات وفي تاريخ بغداد أن عبد الصمد بن المعذل قال له لقد أبدعت في قولك:
جريت مع الصبا طلق الجموح | وهان علي مأثور القبيح |
رأيت ألذ عاقبة الليالي | قران العود بالنغم الفصيح |
ومسمعة إذا ما شئت غنت | متى كان الخيال بذي طلوح |
تزود من شاب ليس يبقى | وصل بعرى الغبوق عرى الصبوح |
وخذها من مشعشعة كميت | تنزل درة الرجل -الشحيح |
تخيرها لكسرى رائداه | لها حظان من طعم وريح |
ألم ترني ألجت اللهو عيني | ومص مراشف الظبي المليح |
وأيقن رائدي أن سوف تنأى | مسافة بين جثماني وروحي |
وقال من أبيات:
قد كسر الشعر واوات ونضده | فوق الجبين ورد الصدغ بالفاء |
عيناه تقسم داء في محاجرها | وربما نفعت في صولة الداء |
وقال:
طفلة خود رواح | هام قلبي بهواها |
قدها أحسن قد | فاسألوا من قد رآها |
ما براها الله إلا | فتنة حين براها |
ربما أغضيت عنها | بصري خوف سناها |
هي همي ومنائي | ليتني كنت مناها |
وقال:
فتنت قلبي محجبة | ووجهها بالحسن منتقب |
خليت والحسن تأخذه | تنتقي منه وتنتخب |
فاكتست منه طرائقه | واستزادت فضل ما تهب |
وقال:
خود يجور وشاحها | في طي مئزرها كثيب |
وإذا تقوم لحاجة | تمشي بأعلاها قضيب |
والوجه بدر مشرق | بالسعد ليس به ندوب |
وقال:
يا خاليا عني | علمت قلبي النحيبا |
ما مسك الطيب إلا | أصبحت للطيب طيبا |
ترى الذي أنا فيه | من برح حبي ذنوبا |
أقام دمعي على ما | يطوي الضمير رقيبا |
وقال:
إني عشقت وما بالعشق من بأس | ما مر مثل الهوى على شيء على راسي |
مالي وللناس كم يلحونني سفها | ديني لنفسي ودين الناس للناس |
ما للعداة إذا ما زرت مالكتي | كأن أوجههم تطلى بأنقاس |
الله يعلم ما تركي زيارتكم | إلا مخافة أعدائي وحراسي |
ولو قدرت على الإتيان جئتكم | سعيا على الوجه أو مشيا على الراس |
وقد قرأت كتابا من صحائفكم | لا يرحم الله إلا راحم الناس |
وقوله:
لو كان فعلك مثل وجهك لم تكن | عني إليك شفاعة لا تشفع |
وقال:
وظبي تقسم الآجا | ل بين الناس عيناه |
وتوري البث والاشجا | ن في القلب ثناياه |
ويحكي البدر وقت التم | للأعين خداه |
تعالى الله ما أحسـ | ـن ما صوره الله |
ولو مثل نفس الحسـ | ـن شخصا ما تعداه |
كفاني أن جنح الليـ | ـل يغشاني ويغشاه |
وقال:
غريب الحسن ليس له ضريب | بعيد في مطالبه قريب |
تفرد بالجمال بغير مثل | وأخلته المذمة والعيوب |
تنازعه القلوب إلى هواها | فتغتصب القلوب به القلوب |
له شمس تزيد بديع حسن | على خديه ليس لها غروب |
تأمله العيون فحيث حلت | وخيم لحظها حسن غريب |
فإن أسرفن في نظر إليه | تبدت في سوالفه ندوب |
قضيب حين يقبل في اعتدال | فإن ولى فسائره كثيب |
فيا من ليس يغفل عن صدود | وما لي في تعطفه نصيب |
أرى للهجر منك لنا رقيبا | فما للوصل ليس له رقيب |
وقال:
ما حطك الواشون من رتبة | عندي ولا ضرك مغتاب |
كأنما أثنوا ولم يشعروا | عليك عندي بالذي عابوا |
كأنما أنت وإن لم تكن | تكذب في الميعاد كذاب |
إن جئت لم تأت وأن لم أجيء | جئت فهذا منك لي داب |
وقال:
لك وجه محاسن الخلق فيه | مائلات تدعو إليه القلوبا |
فإذا ما رأتك عين رأت حيـ | ـن ترنو إليك حسنا غريبا |
يا حبيبا شكوت ما بي إليه | فحكى حين صد ظبيا ربيبا |
وتثنى موليا كهلال | فوق غصن يجر دعصا كئيبا |
بأبي أنت لي شفاء وداء | وطبيب إذا عدمت الطبيبا |
وقال:
فديت من تم فيه الظرف والأدب | ومن يتيه إذا ما مسه الطرب |
ما طار طرفي إلى تحصيل صورته | إلا تداخلني من حسنها عجب |
وردفه في قضيب فوقه قمر | نور خديه ماء الحسن ينسكب |
نفسي فداؤك يا من لا أبوح به | علقت منك بحبل ليس ينقضب |
كم ساعة منك خطتها ملائكة | أزهو على الماس بالذنب الذي كتبوا |
وقال:
أيا من طرفه سحر | ومن مبسمه در |
تجاسرت فكاشفتـ | ـك لما غلب الصبر |
وما أحسن في مثلـ | ـك أن يهتك الستر |
لئن عنفني الناس | ففي وجهك لي عذر |
ودعني من مواعيد | ك إذ ساعتك الدهر |
ومن قولك آتيك | إذا صليت الظهر |
فلا والله لاتبر | ح حتى يبرم الأمر |
فأما الهجر والذم | وأما الوصل والشكر |
وقال:
بدر تم في قضيب مورق | من رأى بدرا على الأرض متى |
جل عنه اللحظ في وصفي له | فأغض الطرف عنه دهشا |
وقال:
وعاري النفس من حلل العيوب | غدا في ثوب فتان ربيب |
تفرد بالجمال وقال هذا | من الدنيا ولذتها نصيبي |
براه الله حين برا هلالا | وخفف عنه منقطع القضيب |
فيهتز الهلال على قضيب | ويهتز القضيب على كثيب |
وقال:
وأهيف الخصر مهضوم الحشى غنج | يصبو إليه الذي قد صام أو عبدا |
في طرفه حور في وجهه قمر | كأنه غصن بان جانب الأودا |
والثغر در وخداه ووجنته | تبر أضاءت عليه الشمس فاتقدا |
الحاجبان فمخطوطان من حمم | كان عطفهما نونان قد عقدا |
يا قادح النار في قلبي بمقلته | وموثقي بحبال الحب مضطهدا |
سقيا لوجهك يا من لج في قسم | أن لا ينول خيرا عاشقا أبدا |
أظمأت عبدك حتى ما به رمق | أما يحين له المسكين أن يردا |
لولا شقاوة جدي ما شغفت بكم | ولا مددت إلى من لا ينيل يدا |
ولا ضرعت إلى من ليس يرحمني | ولا عرفت البكا والشوق والسهدا |
وقال:
إلا أن من أهواه ضن بوده | وأعقبني من بعد ذاك بصده |
فواحزنا بعد المودة إنه | ليبخل عني بالسلام ورده |
دعاني إليه حسنه وجماله | وسحر بعينه وخال بخده |
كأن فرند المرهفات بخده | ويختال ماء الورد تحت فرنده |
فلم أر مثلى صار عبدا لمثله | ولا مثله يوما أضر بعبده |
خمرياته
نظم أبو نواس في وصف الخمر فأكثر وأبدع في ذلك. ونحن ننقل قسما من منظوماته في ذلك لما فيها من البلاغة والفصاحة وجودة الوصف لأن ذلك مما يستفاد منه وإن كان في ذكر معنى فاسد وإنما الأعمال بالنيات في مروج الذهب حدث أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق المعروف بابن الوكيل البغدادي أنه رأى المستكفي في بعض الأيام وعنده جماعه من ندائمه وقد تذاكروا الخمر فقال بعض من حضر (إلى أن قال) وقد أتى أبو نواس في وصفها وصفه آلاتها وأحوالها بما يكاد يعلو به باب وصفها وقد وصف نورها فقال:
فكأنه في كفه | شمس وراحته قمر |
فعلت في البيت إذ مزجت | مثل فعل الصبح في الظلم |
فاهتدى ساري الظلام بها | كاهتداء السفر بالعلم |
إذا عب فيها شارب القوم خلته | يقبل في داج من الليل كوكبا |
ترى حيثما كانت من البيت مشرقا | وما لم تكن فيه من البيت مغربا |
وكأن شاربها لفرط شعاعها | في الكأس يقرع في ضيا مقباس |
فقلت له ترفق بي فإني | رأيت الصبح من خلل الديار |
فقال تعجبا مني أصبح | ولا صبح سوى ضوء العقار |
وقام إلى الدنان فسد فاها | فعاد الليل مصبوغ الإزار |
وصفراء بعد المزج حمراء دونه | كأن شعاع الشمس يلقاك دونها |
كأن نارا بها محرشة | تهابها تارة وتخشاها |
حمراء لولا انكسار الماء لاختطفت | نور النواظر من بين الحماليق |
ينقض منها شعاع كلما مزجت | كالشهب تنقض في أثر العفاريت |
عتقت في الدنان حتى استفادت | نور الشمس الضحى وبرد الظلام |
يجودها حتى عيانا يرى لها | إلى الشرف الأعلى شعاعا مطنبا |
قال ابغني المصباح قلت له اتئد | حسبي وحبك ضوؤها مصباحا |
فسكبت منها في الزجاجة شربة | كانت لنا حتى الصبح صباحا |
وقال في أبيات:
بكر اللائم ينـ | ـهاني فأغرى ما استطاعا |
وهو مضمون قوله: (دع عنك لومي فإن اللوم إغراء)
وقال من أبيات:
فأجابني والسكر يخفض صوته | والصبح يدفع في قفا الظلماء |
وفي شذرات الذهب من لطيف شعره قوله بديها وهو ألطف بديهة وأبدعها وقال ابن منظور: كان الجاحظ يقول: ما أعرف لأبي نواس شعرا يفضل هذه القصيدة:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا | بها أثر منهم جديد ودارس |
مساحب من جر الزقاق على الثرى | وأضغاث ريحان جني ويابس |
حبست بها صحبي فجددت عهدهم | وإني على أمثال تلك لحابس |
ولم أدر منهم غير ما شهدت به | بشرقي ساباط الديار البسابس |
أقمنا بها يوما ويوما وثالثا | ويوما له يوم الترحل خامس |
تدار علينا الراح في عسجدية | حبتها بأنواع التصاوير فارس |
قرارتها كسرى وفي جنباتها | مهى تدريها بالقسي الفوارس |
فللراح ما زرت عليه جيوبها | وللماء ما دارت عليه القلانس |
وقد اختلفوا في معنى أقمنا بها يوما الخ فقال ابن هشام في المغنى: إن الأيام ثمانية وقال الدماميني: إنها سبعة لأن يوم الترحل ليس من أيام الإقامة وقال ابن الأثير: مراده أنهم أقاموا أربعة أيام ويا عجبا له يأتي بمثل هذا البيت السخيف على المعنى الفاحش قال الصفدي: أبو نواس أجل قدرا من أن يأتي بمثل هذه العبارة بغير معنى طائل وهو له مقاصد يراعيها ومذاهب يسلكها فإن المفهوم منه أن المقام كان سبعة أيام لأنه قال وثالثا ويوما آخر له اليوم الذي رحلنا فيه خامس وابن الأثير لو أمعن النظر في هذا وبما كان يظهر له (قال المؤلف) لا معنى لاختلافهم في معنى أقمنا بها "البيت" فإنه واضح ظاهر أنهم أقاموا بها أربعة أيام خامسها يوم الترحل كما قاله ابن الأثير وما حمله عليه الصفدي وصاحب المغني والدماميني لم يخطر ببال أبي نواس ولكن العلماء متى وجهوا نظرهم إلى شيء توسعوا في التشقيق وإبداء الاحتمالات بما لا يحتمل وهم هنا لم يلتفتوا إلى أنه لو كان مراده أنهم أقاموا سبعة أو ثمانية لكان الكلام غير صحيح فاليوم الأخير لا يصح جعله خامسا لليوم الذي بعد الثالث وهو الرابع وإن جعل ابتداء حساب الخمسة من اليوم الرابع فجعل أول الخمسة فإن قولنا هذا اليوم خامس لليوم الفلاني معناه أن اليوم الفلاني رابع وهذا خامس بعده بلا فاصل نعم يصح أن نقول يوم الأربعاء مثلا خامس للأيام التي أولها السبت أي هو الخامس منها وهو لم يقل ذلك ولا يصح أن نقول يوم الأربعاء خامس ليوم السبت وهذا واضح وهو كما قالوا في بيت مجنون ليلى:
أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها | اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا |
إنه كان يعد الركعات على أصابعه فوجد أصبعين مضمومتين وثمانية مفتوحة فلم يدر أن عده كان بالمضموم أو المفتوح والحقيقة أن مراده أني إذا ذكرتها تاه عقلي فلا أدري كم صليت وجاء بالثماني لمراعاة القافية ولم يخطر بباله شيء مما قالوه (وأما) قول ابن الأثير أنه أتى بمثل هذا البيت السخيف على المعنى الفاحش فهو من السخافة فأبو نواس أراد أن يبين كثرة الأيام فعدها واحدا بعد واحد ولو قال: أقمنا بها أربعة أيام ورحلنا لما أفاد هذا المعنى فهو نظير قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} فإن الألف لها شأن في العدد بخلاف تسعمائة وخمسين. وقال ابن منظور قال الجاحظ: نظرنا في الشعر القديم والمحدث فوجدنا المعاني تقلب وبعض يأخذ من بعض وقل معنى من معاني الشعر القديم تفرد بإبداعه شاعر إلا ورأيت من الشعراء من زاحمه فيه واشتق منه شيئا غير قول عنترة من المتقدمين يصف ذبابا خلا في دار عبلة وذلك قوله:
وقف الذباب بها فليس ببارح | غردا كفعل الشارب المترنم |
هزجا يحك ذراعه بذراعه | قدح المكب على الزناد الأجذم |
وقول أبي نواس من المحدثين:
قراراتها كسرى وفي جنباتها | مهى تدريها بالقسي الفوارس |
فللراح ما زرت عليه جيوبها | وللماء ما دارت عليه القلانس |
وفي تاريخ دمشق وجد بخط أبي نواس على حائط حجرة بمصر كان يسكنها أيام كونه بمصر:
قم حي بالراح قوما | نووا صلاة وصوما |
لم يطعموا لذة العيـ | ـش منذ ثلاثين يوما |
ومن خمرياته قوله أنشده جحظته كما في تاريخ دمشق:
هلا استعنت على الهموم | صفراء من حلب الكروم |
ووهبت للعيش الحميـ | ـد بقية العيش الذميم |
بمجالس فيها الأوا | نس والمزاهر كالنجوم |
يهدي التحية بينهم | نظر النديم إلى النديم |
وقوله كما في تاريخ دمشق:
ومدامة تنفي القذى عن وجهها | فالوهم ليس يحدها بصفات |
إن شئت قلت شعاع نفسي دونها | لفواقع منها على الحانات |
كان الزمان يذود عنها صرفه | فأتى بها عطلا من الآفات |
وقوله وفيه وصف النخل وابتداء خروج الطلع إلى زمان صيرورته تمرا وجنائه وقد أجاد فيه وهي مذكورة في ديوانه وأكثرها مذكور في تاريخ دمشق مع غلط في الموضعين أصلحناه بقدر الإمكان:
لنا خمر وليس بخمر كرم | ولكن من نتاج الباسقات |
كرائم في السماء ذهبن طولا | ففات ثمارها أيدي الجناة |
قلائص في الرؤوس لها فروع | تدر على أكف الحالبات |
صحائح لا تعد ولا تراها | عجافا في السنين الماحلات |
مسارحها المذار فبطن جوخى | إلى شاطي الأبلة فالفرات |
تراثا عن أوائل أولينا | بني الأحرار أهل المكرمات |
تذب بها يد المعروف عنا | وتصبر للحقوق اللازمات |
فحين بدا لك السرطان يتلو | كواكب كالنعاج الراتعات |
بدا بين الذوائب في ذراها | نبات كالأكف الطالعات |
فشققت الأكف فخلت فيها | لآلئ في السلوك منظمات |
وما زال الزمان بحافيتها | وتلقيح الرياح اللاقحات |
فعاد زمردا وامتد حتى | تخال به الكباش الناطحات |
فلما لاح للساري سهيل | قبيل الصبح من وقت الغداة |
بدا الياقوت وانتسبت إليه | بحمر أو بصفر فاقعات |
فلما عاد آخرها جنيا | بعثت جناتها بمعقفات |
وقلت استنزلوا فاستنزلوها | برفق من رؤوس السامقات |
وقلت استعجلوا فاستعجلوها | بضرب بالسياط محدرجات |
فضمن صفو ما يجنون منها | خوابي كالرحال مقيرات |
ذوائب أمها جعلت سياطا | تحث فما تناهى ضاربات |
فولدت السياط لها هديرا | كترجيع الفحول الهائجات |
فلما قيل قد بلغت ولما | ويوشك أن تقر وأن تواتي |
نسجت لها غمائم من تراب | ومن ماء فجاءت محكمات |
سترت الجو خوفا من أذاه | فباتت من أذاه آمنات |
فلما قيل قد بلغت كشفنا الـ | ـعمائم عن وجوه مشرقات |
حساها كل أروع شيظمي | كريم الجد محمود مواتي |
تحية بينهم أفديك خذها | وآخر قولهم أفديك هات |
وفي تاريخ دمشق قال حسين بن الضحاك كنت أساير أبا نواس يوما بالكوفة فمررنا بكتاب وإذا صبي يقرأ من سورة البقرة: {كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} فقال: أي معنى يستخرج من هذا في الخمر فقلت: ويحك ألا تتقي الله بكتاب الله فلما كان من الغد أنشدني:
وسيارة ضلت عن القصد بعدما | ترادفهم جنح من الليل مظلم |
فأصغوا إلى صوت ونحن عصابة | وفينا فتى من سكره يترنم |
فلاحت لهم منا على النأي قهوة | كأن سناها ضوء نار تضرم |
إذا ما حسوناها أقاموا بظلمة | وإن مزجت حثوا الركاب وأمموا |
وقال يصف مجلسا له مع أبي عيسى بن المنصور بالقصف بقوا فيه أسبوعا كما قاله ابن منظور:
يا طيبنا بقصور القصف مشرقة | فيها الدساكر والأنهار تطرد |
لما أخذنا بها الصهباء صافية | كأنها النار وسط الكاس تتقد |
جاءتك من بيت خمار بطينتها | صفراء مثل شعاع الشمس ترتعد |
فقام كالغصن قد شدت مناطقه | ظبي يكاد من التهييف ينعقد |
فاستهلها من فم الإبريق فانبعثت | مثل اللسان جرى واستمسك الجسد |
فلم نزل في صباح السبت نأخذه | والليل أجمعه حتى بدا الأحد |
ثم ابتدأنا الطلابا لهو من أمم | في نعمة غاب عنها الضيق والنكد |
حتى بدت غرة الاثنين واضحة | والسعد معترض والطالع الأسد |
وفي الثلاثاء أعملنا المطي بها | صهباء ما قرعتها بالمزاج يد |
والأربعاء كسرنا حد سورتها | والكاس يضحك في تيجانها الزبد |
ثم الخميس وصلناه بليلته | قصفا وتم لنا بالجمعة العدد |
في مجلس حوله الأشجار محدقة | وفي جوانبه الأنهار تطرد |
لا تستخف بساقينا لغرته | ولا يرد عليه حكمه أحد |
عند الأمير أبي عيس الذي كملت | أخلاقه فهي كالأوراق تنتقد |
وقال:
جلت عن الوصف حتى ما يطالبها | وهم فتخلفها في الوصف أسماء |
قسمتها ظنون الفكر إذ خفيت | كما تقسمت الأديان آراء |
وقال:
صفراء تسليك الهموم إذا بدت | وتعير قلبك حلة السراء |
كتب المزاج على مقدم تاجها | سطرين مثل كتابة العسراء |
نمت على ندمانها بنسيمها | وضيائها في الليلة الظلماء |
وقال: وفيها صفعة النحل والعسل:
لا يصرفنك عن قصف واصباء | مجموع رأي ولا تشتيت أهواء |
واشرب سلافا كعين الديك صافية | من كف ساقية كالريم حوراء |
تنزو فواقعها منها إذا مزجت | نزو الجنادب من مرج وأفياء |
ليست إلى النخل والأعناب نسبتها | لكن إلى العسل الماذي والماء |
نتاج نحل خلايا غير مقفرة | خصت بأطيب مصطاف ومشتاء |
نرعى أزاهير غيطان وأودية | وتشرب الصفو من غدر وأحساء |
فطس الأنوف مقاريف مشمرة | خوص العيون بريئات من الداء |
تغدو وترجع ليلا عن مساربها | إلى ملوك ذوي عز وإحباء |
كل بمعقله تمضي حكومته | في حزبه بجميل القول والراء |
فاشرب هديت وغن القوم مبتدئا | على مساعدة العيدان والناء |
لو كان زهدك في الدنيا كزهدك في | وصلي مشيت بلا شك على الماء |
وقال:
ومختلس القلوب بطرف ريم | وجيد مهاة بر ذي هضاب |
إذا امتحنت محاسنه فأبدت | غرائب حسنه من كل باب |
تقاصرت العيون له وأغفت | عن اللحظات خاضعة الرقاب |
يعللنا بصافية ووجه | كبدر لاح من خلل السحاب |
وقال:
شمر ثيابك في قتلي وتعذيبي | فقد تسربلت ثوب الحسن والطيب |
عيناي تشهد أني عاشق لكم | يا دمية صوروها في المحاريب |
جربت منك أمورا صدعت كبدي | نعم وأودت بما تحت الجلابيب |
إفهم فديتك بيتا سائرا مثلا | من أول كان يأتي بالأعاجيب |
لا تحمدن امرأ من غير تجربة | ولا تذمنه إلا بتجريب |
وقهوة مثل عين الديك صافية | من خمر عانة أو من خمرة السيب |
كأن أحداقها والماء يفرعها | في ساحة الكاس إحداق اليعاسيب |
يسعى بها مثل قرن الشمس ذو كفل | يشفي الضجيع بذي ظلم وتشنيب |
كأنه كلما حاولت نائله | ذو نخوة قد نشا بين الأعاريب |
يسطو علي بحسن لست أنكره | يا من رأى حملا يسطو على ذيب |
وقال:
لا أستزيد حبيبي من مواتاتي | وإن عنفت عليه في الشكايات |
قالوا ظفرت بمن تهوى فقلت لهم | الآن أكثر ما كانت صباباتي |
وداهري سما في فرع مكرمة | من معشر خلقوا في الجو غايات |
فقلت والليل يجلوه الصباح كما | يجلو التبسم عن غر الثنايات |
وهاكها قهوة صهباء صافية | منسوبة لقرى هيت وعانات |
ألزه بحمياها وأزجره | باللين طورا وبالتشديد تارات |
حتى تغنى وما تم الثلاث له | حلو الشمائل محمود السجيات |
يا ليت حظي من مالي ومن ولدي | أني أجالس لبني بالعشيات |
وقال:
وفتية كمصابيح الدجى غرر | شم الأنوف من الصيد المصاليت |
دار الزمان بأفلاك السعود لهم | وعاج يحنو عليهم عاطف الليت |
نادمتهم قرقف الاسفنط صافية | مشمولة سبيت من خمر تكريت |
في فيلق للدجى كاليم ملتطم | طام يجاريه من هوله النوتي |
إذا بكافرة شمطاء قد برزت | في زى مختشع لله زميت |
قالت من القوم قلنا من عرفتهم | من كل سمح بفرط الجود منعوت |
حلوا بدارك مجتازين فاغتنمي | بذل الكرام وقولي كيفما شيت |
فقد ظفرت بصفو العيش غانمة | كغنم داود من أسلاب جالوت |
فأحيي بربحهم في ظل مكرمة | حتى إذا ارتحلوا عن داركم موتي |
قالت فعندي الذي تبغون فانتظروا | عند الصباح فقلنا بل بها إيتي |
هي الصباح يحل الليل صفوتها | إذا رمت بشرار كاليواقيت |
رمي الملائكة الرصاد إذ رجمت | في الليل بالنجم مرار العفاريت |
قلنا لها كم لها في الدن إذ حجبت | قالت قد اتخدت من عهد طالوت |
كانت مخبأة في الدن قد عنست | في الأرض مدفونة في بطن تابوت |
كأنها بزلال المزن إذ مزجت | شباك در على ديباج ياقوت |
يديرها قمر في طرفه حور | كأنما اشتق منه سحر هاروت |
وعندنا ضارب يشدو فيطربنا | يا دار هند بذات الجزع حييت |
حتى إذا الشيب فاجأني بطلعته | أقبح بطلعة شيب غير مبخوت |
عند الغواني إذا أبصرت طلعته | آذن بالصرم من ود وتشتيت |
فقد ندمت على ما كان من خطل | ومن إضاعة مكتوب المواقيت |
أدعوك سبحانك اللهم فاعف كما | عفوت يا ذا العلى عن صاحب الحوت |
وقال من أرجوزة:
يا أيها العاذل دع ملحاتي | والوصف للموماة والفلاة |
دارسة وغير دارسات | وأنف هموم النفس باللذات |
بنات كسرى خير ما بنات | جلبن من هيت ومن عانات |
محتجبات غير باديات | إلا بأن يجلبن بالطاسات |
إلى أباريق مقدمات | يصغين للكؤوس راكعات |
فهي إذا شجت على العلات | ببارد الماء من الفرات |
تخال فيها ألسن الحيات | أو وقد نيران على الحافات |
أفديك خذها من يدي وهات | عذبني حب غلاميات |
ذوات أصدغ معقربات | مقومات القد مهضومات |
وقال:
اسقني والليل داج | قبل أصوات الدجاج |
اسقني صهباء صرفا | لم تدنس بمزاج |
ما رأت منذ عصور | نار ضوء للسراج |
نتجت من كرم كسرى | قبل أبان النتاج |
هي لدفع الهم والـ | ـأحزان من خير علاج |
حبذا ذاك لقاحا | في أباريق الزجاج |
وغزال من بني الـ | ـأصفر معصوب بتاج |
شخصه مني بعيد | وهو مني كالمناجي |
كلما أسقاك غنى | كل ضيق لانفراج |
وقال:
وفتية كنجوم الليل أوجههم | من كل أغيد للغماء فراج |
طرقت صاحب حانوت بهم سحرا | والليل منسدل الظلماء كالساج |
ومر ذا فرح يسعى بمسرجه | فاستل غدرا لم تبرز لأزواج |
مصونة حجبوها في مخدرها | عن العيون لكسرى صاحب التاج |
يديرها خنث في لهوه دمث | من نسل أذبن ذو قرط ودواج |
يزهى علينا بأن الليل طرته | والشمس غرته واللون للعاج |
وقال:
ذكر الصبوح بسحره فارتاحا | وأمله ديك الصباح صياحا |
أوفى على شرف الجدار بسدفه | غردا يصفق بالجناح جناحا |
بادر صباحك بالصبوح ولا تكن | كمسوفين غدوا عليك شحاحا |
وخدين لذات معلل صاحب | يقتات منه فكاهة ومزاحا |
نبهته والليل ملتبس به | وأزحت عنه نقابه فانزاحا |
قال ابغني المصباح قلت له اتئد | حسبي وحسبك ضوؤها مصباحا |
من قهوة جاءتك قبل مزاجها | عطلا فألبسها المزاج وشاحا |
عمرت يكاتمك الزمان حديثها | حتى إذا بلغ السآمة باحا |
وقال:
جريت مع الصبا طلق الجموح | وهان علي مأثور القبيح |
وجدت ألذ عارية الليالي | قران النغم بالوتر الفصيح |
ومسمعة إذا ما شئت غنت | متى كان الخيام بذي طلوح |
تمتع من شباب ليس يبقى | وصل بعرى الغبوق عرى الصبوح |
وخذها من معتقة كميت | تنزل درة الرجل الشحيح |
تخيرها لكسرى رائدوه | لها حظان من طعم وريح |
ألم ترني أبحت الراح عرضي | وعض مراشف الظبي المليح |
وإني عالم أن سوف تنأى | مسافة بين جثماني وروحي |
وقال:
دع البساتين من ورد وتفاح | واعدل هديت إلى ذات الأكيراح |
أعدل إلى نفر دقت شخوصهم | من العبادة إلا نضو أشباح |
يكررون نواقيسا مرجعة | على الزبور بإمساء وإصباح |
يا طيبة وعتيق الراح تتحفهم | كل نوع من الطاسات رحراح |
يسقيكها مدمج الخصرين ذو هيف | أخو مدارع صوف فوق إمساح |
وقال:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند | واشرب على الورد من حمراء كالورد |
كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها | أجدته حمرتها في العين والخد |
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة | في كف جارية ممشوقة القد |
تسقيك من يدها خمرا ومن فمها | خمرا فمالك من سكرين من بد |
لي نشوتان وللندمان واحدة | شيء خصصت به من بينهم وحدي |
وقال:
باكر صبوحك فهو خير عتاد | واخلع قيادك قد خلعت قيادي |
لا تنس لي يوم العروبة وقعة | تودي بصاحبها بغير فساد |
يوما شربت وأنت في قطربل | خمرا تفوق أردة المرتاد |
لما وردناها نلم بشيخها | علج يحدث عن مصانع عاد |
قلنا السلام عليك قال عليكم | مني سلام تحية ووداد |
ما رمتم قلنا المدام فقال قد | وفقتم يا إخوتي لرشاد |
عندي مدام قد تقادم عهدها | عصرت ولم يعلم بها أجدادي |
فأكيل قلنا بعد خبر أننا | لا نشتري سمكا ببطن الوادي |
وقال في أبيات:
واخترت أخوة صدق | من خير هذي العباد |
شريف ابن شريف | جواد ابن جواد |
فقلت لذوا بنفسي | أفديكم وفؤادي |
والهوا نهارا وليلا | إلى نداء المنادي |
ونفروا الليل عنكم | بلذة وسهاد |
وناقلوا الكاس ظبيا | ما يرتعي بالبوادي |
لكن بديوان يحيى | بفيه لطخ مداد |
تخاله ذا رقاد | وما به من رقاد |
وقال من أبيات:
وأحور ذمي طرقت فناءه | بفتيان صدق ما ترى منهم نكرا |
فأطلق عن أبوابه غير هائب | وأطلع من أزراره قمرا بدرا |
ومر أمام القوم بسحب ذيله | يجادب منه الردف في مشيه الخصرا |
وقال:
أدرها علينا قبل أن نتفرقا | وهات اسقنا منها سلافا مروقا |
فقدهم وجه الصبح أن يضحك الدجى | وقدهم ثوب الليل أن يتمزقا |
وقال:
حتى توافينا إلى مجلس | تضحك ألوان رياحينه |
والنرجس الغض لدى ورده | والورد قد حف بنسرينه |
وطاف بالكاس لنا شادن | يدميه مس الكف من لينه |
يكاد من إشراق خديه أن | تختطف الأبصار من دونه |
(الطرد)
ويراد به ما يتعلق بالصيد والقنص. في ديوانه: أخبر الرواة أن أبا نواس لم يقل في الطرد إلا تسعا وعشرين أرجوزة وأربع قصائد ما زاد على هذا العدد فهو منحول فمنها قوله ينعت الكلب في أرجوزة:
أنعت كلبا ليس بالمسبوق | مطهما يجري على العروق |
جاءت به الأملاك من سلوق | فالوحش لو مرت على العيوق |
أنزلها دامية الحلوق | ذاك عليه أوجب الحقوق |
وقال ينعته أيضا من أرجوزة:
لما تبدى الصبح من حجابه | كطلعة الأشمط من جلبابه |
وانسدل الليل إلى مآبه | كالحبشي أفتر عن أنيابه |
هجنا بكلب طالما هجنا به | كان متينه لدى أسلابه |
متنا شجاع لج في انسيابه | تراه في الحضر آذاها هابه |
يكاد من يخرج من أهابه | ترى سوام الوحش تجتوى به |
وقال وهو ينعته أيضا من قصيدة:
ربما أغدو معي كلبي | طالبا للصيد في صحبي |
تلك لذاتي وكنت فتى | لم أقل من لذة حسبي |
وقال ينعته أيضا في أرجوزة:
أحكم في تأديبه صغيرا | حتى توفي الستة الشهورا |
وعرف الايحاء والصفيرا | والكف أن تؤمئ أو تشيرا |
فأمتع الله به الأميرا | ولا يزال فرحا مسرورا |
مكرما في غبطة مبرورا | يزين المنبر والسريرا |
وقال ينعته أيضا في أرجوزة:
لما غدا الثعلب في اعتدائه | والأجل المقدور من ورائه |
صب عليه الله من أعدائه | سوط عذاب من سمائه |
نرى لمولاه على جرائه | تحدب الشيخ على أبنائه |
خصخص طبيبه على أمعائه | وشد نابيه على علبائه |
كأنما يطلب في عنائه | دينا له لا بد من قضائه |
ففحص الثعلب في دمائه | يا لك من غاد إلى حوبائه |
وقال ينعته أيضا من أرجوزة:
يا رب خرق نازح جديب | أخضله السحاب بالصبيب |
غزوته بمخطف وثوب | مضمر الكشحين كاليعسوب |
رأى ظباء ذعر القلوب | نائية عن نظر المهيب |
صكا هوى منه إلى شعوب | فصكه بزوره الرحيب |
قال ينعت البازي من أرجوزة:
لما رأيت الليل قد تشزرا | عني وعن معروف صبح أسفرا |
أعددت للبغثان حتفا ممقرا | أبرش بطنان الجناح أقمرا |
كأن عينيه إذا ما أثأرا | فصان قيضا من عقيق أحمرا |
في هامة علياء تهدي منسرا | كعطفة الجيم بكف أعسرا |
يقول من فيها بعقل نكرا | لو زادها عينا إلى فاءورا |
وقال ينعت الفرس أيضا من أرجوزة:
قد أغتدي والليل في إهابه | أدعج ما جرد من خضابه |
مدثر لم يبد من حجابه | كالحبشي انسل من ثيابه |
بهيكل قوبل في أنسابه | مردد الأعوج في أصلابه |
حتى إذا الصبح بدا من بابه | وكشرت أشداقه عن نابه |
أطاعه الحوذان في أسرابه | قائده من أرن يشقى به |
فلاح كالحاجب من سحابه | أو كالمنيع إستل من قرابه |
فانصاع كالأجدل في أنصبابه | أو كالحريق في هشيم غابه |
ملتهبا يستن في التهابه | كأنما البيداء من نهابه |
وقال ينعت الفرس أيضا من أرجوزة:
قد أغتدي والصبح محمر الطور | والليل تحدوه تباشير السحر |
وفي تواليه نجوم كالشرر | بسحق الميعة ميال العذر |
أقنى يظل طيره على حذر | يلذن منه تحت أفنان الشجر |
الصفات
قال يصف السير والفلاة والناقة من قصيدة:
وتنوفة يجري السراب بها | شارفتها والظل قد مصحا |
ببويزل تزداد جرأته | أضما إذا ماليته رشحا |
ولقد ذعرت الوحش يحملني | متواتر التقريب قد ترحا |
عتد يطير إذ هبطت به | وإذا رضيت بعقوه سبحا |
وهب الجديل له ترائبه | وأعاره التحجيل والقرحا |
يثني العجاج على مغارته | بمعقب لم يعد أن وقحا |
صفة النرد
في مروج الذهب أنشدني كشاجم لأبي نواس في النرد:
ومأمورة بالأمر تأتي بغيره | ولم تتبع في ذاك غيا ولا رشدا |
إذا قلت لم تفعل وليست مطيعة | وأفعل ما قالت فصرت لها عبدا |
وأنشد في الوصف بالطيب:
من شراب ألذ من نظر المعـ | ـشوق في وجه عاشق بابتسام |
وله أيضا:
وألذ من أنعام خلة عاشق | زارته بعد تمنع وشماس |
التشبيه
من بديع تشبيهاته قوله:
ذاك الأمير الذي طالت علاوته | كأنه ناظر في السيف بالطول |
وقال في غلام في عينه كوكب:
أحور المقلة من غير دعج | لو عداه نور العين سمج |
تحسب النكتة في ناظره | درة بيضاء في قص سبج |
قال ابن منظور فقال له يوسف النحاس المعروف بابن الداية: قاتلك الله حببت والله بشعرك وظرفك العور إلى البشر ومن محاسن تشبيهاته قوله:
يبكي فيذري الطل من نرجس | ويلطم الورد بعناب |
وقال وفيه تشبيه أربعة بأربعة:
هي الشمس إشراقا ودرة غائص | ومسكة عطار تصان وريم |
وقال في الأثافي:
كما اقتربت عند المبيت حمائم | غريبات تمشي ما لهن وكون |
ومن بديع تشبيهاته قوله في الناقة:
وتسف أحيانا فتحسبها | مترسما بقتاده أثر |
تشبيهات مختلفة
كأن مخط الصدغ فوق خدودها | بقية أنقاس بأصبع لائق |
له عقربا صدغ على ورد خده | كأنهما نونان من كف ماشق |
كان خديه في بياضهما | أشربتا وجنتاهما بدم |
كأن صدغيه في سوادهما | خطا على الوجنتين بالقلم |
رياض بالشقائق مونقات | تكنف نبتها نور عميم |
كأن بها الأقاحي حين تضحي | عليها الشمس طالعة نجوم |
أرى نرجسا غض القطاف كأنه | إذا ما منحناه العيون عيون |
تشبيهاته في الخمر
كأن سطورا فوقها حميرية | تكاد وإن طال الزمان تببن |
أراد بها الحباب:
وصفراء قبل المزج بيضاء بعده | كأن شعاع الشمس يلقاك دونها |
كأن يواقيتا رواكد حوالها | وزرق سنانير تدير عيونها |
صفت وصفت زجاجتها عليها | كمعنى دق في ذهن لطيف |
وقد خفيت من لطفها فكأنها | بقايا يقين كاد يذهبه الشك |
وكأن أقدار الزجاج إذا جرت | وسط الظلام كواكب الجوزاء |
كأنها ولسان الماء يقرعها | نار تأجج في آجام قصباء |
كأن مازجها بالماء طوقها | منزوع جلدة ثعبان وأفعاء |
أقول لما تحاكيا شبها | أيهما للتشابه الذهب |
هما سواء وفرق بينهما | أنهما جامد ومنسكب |
كأن صغرى وكبرى من فواقعها | حصباء در على أرض من الذهب |
كأن تركا صفوفا في جوانبها | تواتر الرمي بالنشاب من كثب |
كأنها دمعة في عين غانية | مرهاء رقرقها ذكر المصيبات |
تنزو إذا مسها قرع المزاج كما | تنزو الجنادب أوقات الظهيرات |
وتكتسي لؤلؤات من تعطفها | عند المزاج شبيهات بواوات |
كأنها بزلال المزن إذ مزجت | شباك در على ديباج ياقوت |
ثم شجت فأدارت | فوقها طوقا فدارا |
كاقتران الدر بالدر | صغارا وكبارا |
فإذا ما اعترضته الـ | ـعين من حيث استدارا |
خلتها في جنبات الـ | ـكأس واوات صغارا |
فإذا علاها الماء ألبسها | حببا شبيه جلاجل الحجل |
حتى إذا سكنت جوامحها | كتبت بمثل أكارع النمل |
سطرين من شتى ومجتمع | غفل من الأعجام والشكل |
الشيب والشباب
يقولون في الشيب الوقار لأهله | وشيبي بحمد الله غير وقار |
إذا كنت لا أنفك في أريحية | إلى رشا يسعى بكأس عقار |
حتى إذا الشيب وافاني بطلعته | أقبح طلعة شيب غير مبخوت |
عند الغواني إذا أبصرن طلعته | آذن بالصرم من ود وتشتيت |
وإذا عددت سني كم هي لم أجد | للشيب عذرا في النزول براسي |
كان الشباب مطية الجهل | ومحسن الضحكات والهزل |
كان الجمال إذا ارتديت به | ومشيت أخطر صيت النعل |
فالآن صرت إلى مقاربة | وحططت عن ظهر الصبا رحلي |
ضحك الشيب في نواحي الظلام | وارعوى عنك زاجر اللوام |
شبت طفلا ولم يحسن لي مشيب | غير أن الهوى رأى أن أشيبا |
شيب رأسي الهوى على صغر | وليس شيبي من باطن الكبر |
الطيف والخيال
وطيف سرى والهم ملق جرانه | علي وأقران الدجى لم تصرم |
فقلت له أهلا وسهلا بزائر | ألم بنا والليل بالليل يرتمي |
وقال:
إذا التقى في المنام طيفانا | عاد لنا الوصل كما كانا |
يا قرة العينين ما بالنا | نشقى ويلتذ خيالانا |
لو شئت إذ أحسنت في الكرى | أتممت إحسانك يقظانا |
يا عاشقين اصطلحا في الكرى | وأصبحا غضبى وغضبانا |
كذلك الأحلام غرارة | وربما تصدق أحيانا |
وقال:
قد قلت لما زارني طيفكم | أهلا بهذا الطيف إذ زارا |
نفسي فدت طيفك من زائر | لو زرتني يقظان ما زارا |
شعره القصصي
قال ابن منظور قال أبو الأصبع ذؤيب بن ربعي: كنت أنا وصباح بن خاقان المنقري ويحيى الأرقط وعيسى ابن فصين وابن الكهل مولى بني تميم وعبيد العاشقين ومعنا أبو نواس نتنزه بنهر الأبله بالبصرة فجاء أعرابي عليه عمامة كأنها فسطاط فاستثقله أبو نواس وهرب وقال في ذلك وقال أنه أول شعر قاله ولكن مر عند ذكر الغزل أن أول شعر قاله هو غير هذا:
كنت في قرة عين | مع عيسى بن غصين |
وابن كهل وابن خا | قان النجيب الأبوين |
والفتى الأرقط يحيى | وعبيد العاشقين |
وابن ربعي الفتى السمـ | ـح الجواد الراحتين |
عندنا الصهباء صرفا | في قوارير اللجين |
وندامى سادة كلـ | ـهم زين لزين |
وحديث كان أشهى | من أياب بعد بين |
ونغني حين نلهو | لغريض وحنين |
إذ أتى الله بأحد | أو كأحد مرتين |
بفتى قظ غليظ | ساقه الله لحيني |
حال من شقوة جدي | بين إخوإني وبيني |
ما كتبه على باب داره
في تاريخ دمشق كتب على باب داره:
في سعة الأرض وفي طولها | مستبدل بالخل والجار |
فمن دنا منا فأهلا به | ومن تولى فإلى النار |
الغريب
#جل شعر أبي نواس سهل ممتنع واضح وقد ينحو به مناحي العرب الأوائل ويستعمل غريب الألفاظ كقوله من قصيدة يرثي بها خلفا الأحمر:لا تئل العصم في الهضاب ولا | شغواء تغذو فرخين في لجف |
تحنو بجوشوشها على ضرم | كقعدة المنحني من الخرف |
ولا شبوب باتت تورقه النثـ | ـرة منها بوابل قصف |
ديدنه ذاك طول ليلته | حتى إذا انجاب حاجب السدف |
غدا كوقف الهلوك ينهفت الـ | ـقطقط عن منبتيه والكتف |
وأخدري صلب النواهق صلصا | ل أمين الفصوص والوظف |
ما ترك الموت من أولى شبحا | بادت بتلك القلال والشغف |
وقوله من قصيدة يرثي بها أبا البيداء الرياحي وكان راويته:
هل مخطئ حتفه عفر بشاهقة | رعى بأخيافها شثا وطباقا |
وقوله:
ولا نقنق حامي البضيع صمحمح | من الأكلات النار تأتج في الفحم |
ولا أعصل النابين حامل مخطم | به حجن طورا وطورا به فقم |
ومثل هذا كثير في ديوانه يجده المطالع فلا داعي إلى الإكثار منه.
الأمثال
وإني لطرف العين بالعين زاجر | فقد كدت لا يخفي علي ضمير |
ليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
قد يطرف العين كف صاحبها | فلا يرى قطعها من السؤدد |
ولو عرضت على الموتى حياتي | بعيش مثل عيشي لم يريدوا |
لو كان لومك نصحا كنت أقبله | لكن لومك موضوع على الحسد |
وإذا نعت الشيء متبعا | لم تخل عن خطا وعن وهم |
إلا رب ذي عينين لا تنفعانه | وهل تنفع العينان من قلبه أعمى |
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة | حفظت شيئا وغابت عنك أشياء |
أنت للمال إذا أمسكته | فإذا أتلفته فالمال لك |
لا أذود الطير عن شجر | قد بلوت المر من ثمره |
خفت مأثور الحديث غدا | وغدا أدنى لمنتظره |
خاب من أسرى إلى بلد | غير معلوم مدى سفره |
فادخر خيرا تثاب به | كل مذخور لمدخره |
إنما يشتري المحامد حر | طاب نفسا لهن بالأثمان |
وإذا وصلت بعاقل أملا | كانت نتيجة قولك الفعلا |
إن في التعريض للعا | قل تفسير البيان |
وأراك قدام الصغار كبومة | عمياء وسط جماعة الغربان |
من يأمن الذيب على معزه | أهل لأن يخفره الذيب |
إنما يعرف الصبابة من با | ت على سخطة من الأحباب |
وغيرك الزمان وكل شيء | يصير إلى التغير والذهاب |
كأهل النار أن نضجت جلود | أعيدت للشقاء لهم جلود |
لقد قرطتني قرطا | سيبقى آخر الأبد |
رأيت تداني الدار ليس بنافع | إذا كان ما بين القلوب بعيد |
الصبر يحسن في مواضعه | ما للفتى المشتاق والصبر |
قصد الفتى في كل ما رامه | أن يبلغ الغاية أو يعذرا |
أنا العبد المقر بطول رق | وليس عليك من عبد خلاف |
لو كان من قال نار أحرقت فمه | لما تفوه باسم النار مخلوق |
زل الحمار وكانت تلك منيته | في الطين أن حمار السوء موحول |
إنما يفتضح الـ | ـعاشق في وقت الرحيل |
ما الهجر إلا بلاء | يشقى به العاشقونا |
قالت جننت على رأي فقلت لها | الحب أعظم مما بالمجانين |
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه | وإنما يصرع المجنون في الحين |
كذلك الأحلام غرارة | وإنما تصدق أحيانا |
ومن غاب عن العين | فقد غاب عن القلب |
للناس عيد عمهم واحد | وصار لي عيدان في عيد |
إن العيون على القلوب إذا جنت | رجعت مضرتها على الأجساد |
إلى أن قيل يا من في النـ | ـخالة يضرب الوتدا |
تلاعب الحب بقلبي كما | تلاعب السنور بالفاره |
لي صبوة وله السلو | إذا سهرت وغمضا |
وقال فما على رجل | أسيء به فما انتقما |
فسد الخلائق كلهم | فانظر لنفسك من تواخي |
ولو أن بعضي رابني لقطعته | فكيف تراني للعدو أصير |
ألهى امرأ القيس تشبيب بغانية | عن ثأره وصفات النؤي والوتد |
سيبقى بقاء الدهر ما قلت فيكم | وأما الذي قد قلتموه فريح |
إنما أنت من سليم كواو | ألحقت بالهجاء ظلما بعمرو |
أظنك من بقيه قوم موسى | فهم لا يصبرون على طعام |
لو دخل النار طفى حرها | فمات من فيها من البرد |
فقال اقترح بعض ما تشتهي | فقلت اقترحت عليك السكوتا |
لدوا للموت وابنو للخراب | فكلكم يصير إلى ذهاب |
وبالناس كان الناس قدما ولم يزل | من الناس مرغوب إليه وراغب |
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل | خلوت ولكن قل علي رقيب |
وما الناس إلا هالك وابن هالك | وذو نسب في الهالكين عريق |
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت | له عن عدو في ثياب صديق |
وقد زادني تيها على الناس أنني | أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر |
صرت كالتين يشرب الماء فيما | قال كسرى بعلة الريحان |
أو كما قيل إياك أعني | فاسمعوا يا معاشر الجيران |
والخمر قد يشربها معشر | ليسوا إذا عدوا بأكفائها |
وجانب الشح أن الشح داعية | إلى البليات والأحزان والكرب |
والدهر ليس يلاقي شعب منتظم | إلا رماه بتفريق وإزعاج |
ولقد جزعت فلم أمت حزنا | ولقد فرحت فلم أطر فرحا |
يا حبذا الجهر بأمر الصبا | ما كنت من ربك في ستر |
مثل مبتاع بطرف | سبق الخيل حمارا |
الأمثال في شطر بيت
لا تذخر اليوم شيئا خوف فقر غد | أن تقوى الشر من حذره |
منك المعروف من كدره | وبالدلالات يهتدي الساري |
إن الجواد بعرفه يجري | وآخر الداء العياء الكي |
من ذا يعادل بالطرف البراذينا | إن العيان أشد في العلم |
إن الشباب مطية الجهل | رب شهادات لدعوى زور |
يا من رأى حملا يسطو على ذيب | لن ينطق اللهو حتى ينطق العود |
ولا تدع لذة يوم لغد | متى أدخلت نفسك في الزحام |
أراك رأيت هذا في المنام | كذا صروف ليال الدهر ألوان |
الآن حين تعاطى القوس باريها | رب جد جره اللعب |
فما أبالي أطال الليل أم قصرا | لا يرحم الله إلا راحم الناس |
ما أضيق العذر لولا كثرة العلل | ولن ترى عاشقا إلا على وجل |
واليأس يبطل لولا قوة الرجل | يا ميتة لم تك من بالي |
الله عاتب في انتهار السائل | وقليلا ما تصدق الأحلام |
رب قول تشفي به الأسقام | ما أضعف العبد عن مواليه |
وكيف يخفي ما الدمع مبديه | هيهات تضرب في حديد بارد |
شعره في الآداب والمواعظ والحكم
لله در الشيب من واعظ | وناصح لو قبل الناصح |
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى | ومنهج الحق له واضح |
فاعمد فاسم بعينيك إلى نسوة | مهورهن العمل الصالح |
لا يجتلي الحوراء من خدرها | إلا امرؤ ميزانه راجح |
من اتقى فذاك الذي | سيق إليه المتجر الرابح |
شمر فما في الدين أغلوطة | ورح لما أنت له رائح |
وقال:
أيا رب وجه في التراب عتيق | ويا رب حسن في التراب رقيق |
ويا رب حزم في التراب ونجدة | ويا رب رأي في التراب وثيق |
فقل لمقيم الدار أنك ظاهر | إلى منزل نافي المحل سحيق |
وما الناس إلا هالك وابن هالك | وذو نسب في الهالكين عريق |
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت | له عن عدو في ثياب صديق |
وقال:
إن يكن ساءك دهر | فلما سرك أكثر |
يا كبير الذنب عفـ | ـو الله من ذنبك أكبر |
أكبر العصيان في | أصغر عفو الله يصغر |
ليس للإنسان إلا | ما قضى الله وقدر |
ليس للمخلوق تد | بير بل الله المدبر |
وقال:
أيها الغافل المقيم على اللهـ | ـو ولا عذر في المعاد لللاه |
لا بأعمالنا نطيق خلاصا | يوم تبدو السمات فوق الجباه |
غير أني على الإساءة والتفـ | ـريط راج لحسن عفو الإله |
وقل كما في تاريخ دمشق:
لا أعير الدهر سمعا | أن يعيبوا لي حبيبا |
لا ولا أحفظ عندي | للأخلاء العيوبا |
قال: وقال أبو شراعة للرياشي أن أبا العباس الأعرج قد هجاه فقال:
إن الرياشي عباسا تعلم بي | حوك القصيد وهذا أعجب العجب |
يهدي لي الشعر حينا من سفاهته | كالتمر يهدي لذات الليف والكرب |
فقال الرياشي: إلا رددتم عليه أما سمعتم قول أبي نواس وذكر البيتين وقال أبو نواس:
خل جنبيك لرام | وامض عنه بسلام |
مت بداء الصمت خير | لك من داء الكلام |
ربما استفتحت بالـ | ـمزح مغاليق الحمام |
رب لفظ ساق آ | جال فئام وفئام |
إنما العاقل من ألـ | ـجم فاه بلجام |
فالبس الناس على الصـ | ـحة منهم والسقام |
وعليك القصد أن الـ | ـقصد أبقى للجمام |
شبت يا هذا وما تتـ | ـرك أخلاق الغلام |
والمنايا آكلات | شاربات للأنام |
وفي تاريخ دمشق أن بشار بن موسى الخفاف مر له حديث فقيل له: إن يحيى بن معين ينكر هذا الحديث فقال: ترى ما شذ على يحيى من الحديث من ربعه خمسه سدسه حتى بلغ عشره ثم قال: تدرون ما كان يقول عندنا ظرف يقال له الحسن بن هانئ وأنشد هذه الأبيات ثم قال: نعم الموعد نلتقي أنا ويحيى "انتهى" وقال أبو نواس وفيه ذم الكبر:
لا تفرغ النفس من شغل بدنياها | رأيتها لم ينلها من تمناها |
إنا لننفس في دنيا مولية | ونحن قد نكتفي منها بأدناها |
حذرتك الكبر لا يعلقك ميسمه | فإنه ملبس نازعته الله |
يا بؤس جلد على عظم مخرقة | فيه الخروق - إذا كلمته تاها |
يرى عليك به فضلا يبين به | إن نال في العاجل السلطان والجاها |
مثن على نغمه راض بسيرتها | كذبت يا خادم الدنيا ومولاها |
إني لأمقت نفسي عند نخوتها | فكيف آمن مقت الله إياها |
أنت اللئيم الذي لم تعد همته | إيثار دنيا إذا نادته لباها |
يا راكب الذنب قد شابت مفارقه | أما تخاف من الأيام عقباها |
في تاريخ بغداد: دخل أبو عمر الضرير على بعض الوزراء فاستخف بحقه فكتب إليه إذا تفرغت للنظر في كتب جدك وجدت فيها قول الحسن بن هانئ (حذرتك الكبر) "البيت والذي بعده" وإذا نشطت للنظر في كتاب أحمد ابن سيار إلى بعض الولاة رأيت فيه:
لا تشرهن فإن الذل في الشره | والعز في الحلم لا في الطيش والسفه |
وقل لمغتبط في التيه من حمق | لو كنت تعلم ما في التيه لم تته |
وكتب على دفتر في دكان وراق كما في تاريخ دمشق:
سبحان من خلق الخلـ | ـق من ضعيف مهين |
يسوقه من قرار | إلى قرار مكين |
يحور شيئا فشيئا | في الحجب دون العيون |
حتى بدت حركاتي | مخلوقة من سكون |
وقال كما في تاريخ دمشق:
نموت ونبلى غير أن ذنوبنا | إذا نحن متنا لا تموت ولا تبلى |
ألا رب ذي عينين لا تنفعانه | وهل تنفع العينان من قلبه أعمى |
وقال كما في تاريخ بغداد:
لو أن عينا وهمتها نفسها | يوم الحساب ممثلا لم تطرف |
سبحان ذي الملكوت أية ليلة | مخضت صبيحتها بيوم الموقف |
كتب الفناء على البرية ربها | فالناس بين مقدم ومخلف |
وقال:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى | كأنك لا تظن الموت حقا |
ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا | أما والله ما ماتوا لتبقى |
وما لك فأعلمن بها مقام | إذا استكملت آجالا ورزقا |
وما لك غير ما قدمت زاد | إذا جعلت إلى اللهوات ترقى |
وما أحد بزادك منك أحظى | وما أحد بزادك منك أشقى |
وقال:
وعظتك واعظة القتير | ونهتك أبهة الكبير |
ورددت ما كنت استعر | ت من الشباب إلى المعير |
وقال:
أنت للمال إذا أمسكته | فإذا أنفقته فالمال لك |
وقال:
كن مع الله يكن لك | واتق الله لعلك |
لا تكن إلا معدا | للمنايا فكأنك |
إن للموت لسهما | واقعا دونك أو بك |
فعلى الله توكل | وبتقواه تمسك |
نحن نجري في أفا | نين سكون وتحرك |
في حلي سوف تبلى | وقيود سوف تفكك |
وقال في القناعة والاستغناء عن الناس:
ومستعبد إخوانه بثرائه | لبست له كبرا أبر على الكبر |
إذا ضمني يوما وإياه محفل | رأى جانبي وعرا يزيد على الوعر |
أخالفه في شكله وأجره | على المنطق المنزور والنظر الشزر |
لقد زادني تيها على الناس إنني | أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر |
فو الله لا يبدي لساني بحاجة | إلى أحد حتى أغيب في القبر |
فلا يطمعن في ذاك مني سوقة | ولا ملك الدنيا المحجب في القصر |
فلو لم أرث فخرا لكان صيانتي | فمي عن سؤال الناس حسبي من الفخر |
وقال:
عليك باليأس من الناس | إن الغنى ويحك في الياس |
كم صاحب قد كان لي وامقا | إذ كان في حالات إفلاس |
أقول لو قد نال هذا الغنى | أقعدني حبا على الراس |
حتى إذا صار إلى ما اشتهى | وعده الناس من الناس |
قطع بالقنطير حبل الصفا | مني ولما يرض بالفاس |
وقال:
يا نفس خافي الله واتئدي | واسعي لنفسك سعي مجتهد |
من كان جمع المال همته | لم يخل من غم ومن كمد |
يا طالب الدنيا ليجمعها | جمحت بك الآمال فاقتصد |
وأراك تركب ظهر مطمعة | تطوي بها بلدا إلى بلد |
لو لم تكن لله متهما | لم تمس محتاجا إلى أحد |
فاقصد فلست بمدرك أملا | إلا بعون الواحد الصمد |
والقصد أحسن ما عملت به | فاسلك سبيل الخير واجتهد |
ولقل من يشجى بغصته | إلا ذوو الآمال والعدد |
ولرب ساع فات مطلبه | لم يؤت من حزم ولا جلد |
ومشمر في الرزق خطوته | ظفرت يداه بمرتع رغد |
أو ما ترى الآجال راصدة | لتحول بين الروح والجسد |
وإذا المنية أممت أحدا | لم تنصرف عنه ولم تحد |
لو أن دون النفس واقية | لفديتها بالمال والولد |
يا من أقام على خطيئته | سدت عليك مذاهب الرشد |
منتك نفسك أن تتوب غدا | أو ما تخاف الموت دون غد |
الموت ضيف فاستعد له | قبل النزول بأفضل العدد |
وأعمل لدار أنت جاعلها | دار المقامة آخر الأمد |
يا نفس موردك الصراط غدا | فتأهبي من قبل أن تردي |
ما حجتي يوم الحساب إذا | شهدت علي بما جنيت يدي |
وقال:
إن مع اليوم فانظرن غدا | فانظر بما ينقضي مجيء غده |
ما ارتد طرف امرئ بلذته | إلا وشيء يموت من جسده |
وقال:
متى ترضى من الدنيا بشيء | إذا لم ترض منها بالمزاج |
ألم تر جوهر الدنيا المصفى | ومخرجه من البحر الأجاج |
وقال:
ما محل لعل طرفك لا ير | تد حتى تجوزه بمحل |
يا نعيم الدنيا خلطت علينا | أنا مستقبل وأنت مول |
وقال:
كل على الدنيا له حرص | والحادثات وثوبها غفص |
ليد المنية في تلمسها | عن ذخر كل نفيسة فحص |
وكأن من وارته حفرته | لم يبد منه لناظر شخص |
تبغي من الدنيا زيادتها | وزيادة الدنيا هي النقص |
وقال:
لا تأمن الموت في طرف ولا نفس | وإن تمتعت بالحجاب والحرس |
فما تزال سهام الموت نافذة | في جنب مدرع منها ومحترس |
أراك لست بوقاف ولا حذر | كالحاطب الخابط الشجراء في الغلس |
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها | إن السفينة لا تجري على اليبس |
وقال:
طوتك خطوب دهرك بعد نشر | كذاك خطوبه نشرا وطيا |
وكانت في حياتك لي عظات | وأنت اليوم أوعظ منك حيا |
وقال:
ألا تأتي القبور صباح يوم | فتسمع ما تخبرك القبور |
فإن سكونها حرك تنادي | كأن بطون غائبها ظهور |
وقال:
يا بني النقص والعبر | وبني الضعف والخور |
وبني البعد في الطبا | ع على القرب في الصور |
والشكول التي تبا | ين في الطول والقصر |
أحتساء من الحرا | م وختما على الصرر |
أين من كان قبلكم | من ذي البأس والخطر |
سائلوا عنهم المدا | ئن واستبحثوا الخبر |
سبقونا إلى الرحيـ | ـل وأنا على الأثر |
من مضى عبرة لنا | وغدا نحن معتبر |
إن للموت أخذة | تسبق اللمح بالبصر |
فكأني بكم غدا | في ثياب من المدر |
قد نقلتم من القصو | ر إلى ظلمة الحفر |
حيث لا تضرب القبا | ب عليكم ولا الحجر |
حيث لا تظهرون فيـ | ـه للهو ولا سمر |
رحم الله مسلما | ذكر الله فازدجر |
غفر الله ذنب من | خاف فاستشعر الحذر |
وقال:
يا سائل الله فزت بالظفر | وبالنوال الهني لا الكدر |
فارغب إلى الله إلى بشر | منتقل في البلى وفي الغير |
وارغب إلى الله لا إلى جسد | منتقل من صبا إلى كبر |
إن الذي لا يخيب سائله | جوهره غير جوهر البشر |
مالك بالترهات مشتغلا | أفي يديك الأمان من سقر |
وقال:
لو صح عقلي قل أشباهي | أجل ولم أله مع اللاهي |
أعوذ بالله وأسمائه | من عاجز التركيب تياه |
لا تتناهى النفس عن غيها | ما لم يكن منها لها ناه |
لله در الموت من خطة | فيها استوى الأحمق والداهي |
إنا لننساها وقد مرنت | منا بأسماع وأفواه |
أكثرت في الأمر وتصريفه | ما الأمر إلا خشية الله |
وقال:
كم ليلة قد بت ألهو بها | لو دام ذاك اللهو للاهي |
حرمها الله وحللتها | فكيف بالعفو من الله |
وقال:
كل ناع فسينعى | كل باك فسيبكى |
كل مدخور سيفنى | كل مذكور سينسى |
ليس غير الله يبقى | من علا فالله أعلى |
إن شيئا قد كفينا | ه له نسعى ونشقى |
إن للشر وللخير | لسيما ليس تخفى |
كل مستخف بسر | فمن الله بمرأى |
لا ترى شيئا على اللـ | ـه من الأشياء يخفى |
وقال:
ألم ترني أبحت اللهو نفسي | وديني واعتكفت على المعاصي |
كأني لا أعود إلى معاد | ولا أخشى هنالك من قصاص |
وقال:
أفنيت عمرك والذنوب تزيد | والكاتب المحصي عليك شهيد |
كم قلت لست بعائد في سوءة | ونذرت فيها ثم صرت تعود |
حتى متى لا ترعوي عن لذة | وحسابها يوم الحساب شديد |
وكأنني بك قد أتتك منية | لا شك أن سبيلها مورود |
وقال:
يا رب ذنب تؤود المال قيمته | حر الشتاء صريح حيث ينتسب |
لا يقرع المرء منه سنه ندما | ولا يزال به في القوم ينتصب |
إذا تذكره اختالت مخايله | حتى يخالطه من نخوة غضب |
قد حررته بأيديها ملائكة | علي لا تنسخ الأيام ما كتبوا |
وقال:
رضيت لنفسك سوآتها | ولم تأل جهدا لمرضاتها |
وحسنت أقبح أعمالها | وصغرت أكبر زلاتها |
وكم من طريق لأهل الصبا | سلكت سبيل غواياتها |
فأي دواعي الهوى عفتها | ولم تجر في طرق لذاتها |
وأي المحارم لم تنتهك | وأي الفضائح لم تأتها |
وهذي القيامة قد أشرفت | تريك مخاوف فزعاتها |
وقد أقبلت بمواعيدها | وأهوالها فادع لوعاتها |
وإني لفي بعض أشراطها | وآياتها وعلاماتها |
تبارك رب دحا أرضه | وأحكم تقدير أقواتها |
وصيرها محنة للورى | تغر الغوي بغراتها |
فما نرعوي لأعاجيبها | ولا لتصرف حالاتها |
ننافس فيها وأيامها | تردد فينا بآفاتها |
أما يتفكر أحياؤها | فيعتبرون بأمواتها |
وقال:
الموت منا قريب | وليس عنا بنازح |
في كل يوم نعي | تصيح منه الصوائح |
تشجي القلوب وتبكي | مولولات النوائح |
حتى متى أنت تلهو | في غفلة وتمازح |
والموت في كل يوم | في زند عيشك قادح |
فأعمل ليوم عبوس | من شدة الهول كالح |
ولا يغرنك دنيا | نعيمها عنك نازح |
وبغضها لك زين | وحبها لك فاضح |
وقال:
اصبر لمر حوادث الدهر | فلتحمدن مغبة الصبر |
وامهد لنفسك قبل ميتتها | واذخر ليوم تفاضل الذخر |
فكأن أهلك قد دعوك فلم | تسمع وأنت محشرج الصدر |
وكأنهم قد عطروك بما | يتزود الهلكى من العطر |
وكأنهم قد قلبوك على | ظهر السرير وظلمة القبر |
يا ليت شعري كيف أنت على | ظهر السرير وأنت لا تدري |
أوليت شعري كيف أنت إذا | غسلت بالكافور والسدر |
أوليت شعري كيف أنت إذا | وضع الحساب صبيحة الحشر |
ما حجتي فيما أتيت وما | قولي لربي بل وما عذري |
أن لا أكون قصدت رشدي أو | أقبلت ما استدبرت من أمري |
با سوأتا مما اكتسبت ويا | أسفي على ما فات من عمري |
وقال:
أف للدنيا فليست لي بدار | إنما الراحة في دار القرار |
أبت الساعة إلا سرعة | في بلى جسمي بليلي ونهاري |
وقال:
كل امرئ في نفسه متكايس | متجبر متكبر متنافس |
جهل ابن آدم لا أبالك نفسه | وهو المدبر والفقير البائس |
لا بد من موت ففكر واعتبر | وانظر لنفسك وانتبه يا ناعس |
وقال:
يا أيها الرجل المعرض دينه | إحراز دينك خير شيء تصطنع |
والحق أجود ما قصدت سبيله | والله أجود من تزور وتنتجع |
والله أرحم بالفتى من نفسه | فاعمل فما كلفت ما لم تستطع |
طوبى لمن رزق القناعة لم يرد | ما كان في يد غيره فيرى ضرع |
ولئن طمعت لتضرعن فلا تكن | طمعا فإن الحر عبد ما طمع |
إنا لنلقى المرء تشره نفسه | فيضيق عنه كل أمر متسع |
والمرء يمنع ما لديه ويبتغي | ما عند صاحبه فيغضب إن منع |
وقال:
عدوك ذو العقل خير من الصـ | ـديق لك الوامق الأحمق |
وما ساس أمرا كذي شيبة | بصير بما ساس مستوثق |
وما أحكم الرأي مثل امرئ | يقيس بما قد مضى ما بقي |
وصمتك من غير عي اللسـ | ـان أزين من هذر المنطق |
وقال:
صد عن الحق أتباع الهوى | وزين الباطل طول الأمل |
كأن ما فات إذا ما مضى | حلم وما كان كأن لم يزل |
بادر فقد أصبحت في مهلة | بالعمل الصالح قبل الأجل |
وكن على علم فإن الفتى | يقدم يوما ما على ما عمل |
وقال:
سهوت وغرني أملي | وقد قصرت في عملي |
ومنزلة خلقت لها | جعلت لغيرها شغلي |
يظل الدهر يطلبني | وينحوني على عجل |
فأيامي تقربني | وتدنيني إلى أجلي |
وقال:
الناس من محسن له صفة | ومن مسيء يكفيكه عمله |
والمرء ما عاش عامل نصب | لا ينقضي حرصه ولا أمله |
يرجو أمورا عند مغيبة | جهلا ومن دون ما رجا أجله |
وقال:
سكن يبقى له سكن | ما لهذا يؤذن الزمن |
نحن في دار يخبرنا | ببلاها ناطق لحن |
دار سواء لم يدم فرح | لامرئ فيها ولا حزن |
كل حي عند ميتته | حظه من ماله الكفن |
وقال:
يا من بين باهية وزق | وعود في يدي غان مغني |
إذا لم تنه نفسك عن هواها | وتحسن صونها فإليك عني |
فإني قد شبعت من المعاصي | ومن إدمانها وشبعن مني |
ومن أسوأ وأقبح من لبيب | يرى متطريا في مثل سني |
وقال:
صل من صفت لك في الدنيا مودته | ولا تصل بإخاء حبل حذاذ |
يعوذ بالله إن أصبحت ذا عدم | وليس منك إذا تثري بمعتاذ |
وقال من قصيدة:
كفى حزنا أن الجواد مقتر | عليه ولا معروف عند بخيل |
ألم تر أن المال عون على التقى | وليس جواد معدم كبخيل كذا |
وقال من قصيدة:
أصبر إذا عضك الزمان ومن | أصبر عند الزمان من رجله |
من ذا الذي هذبت خلائقه | في ريثه أن أتى وفي عجله |
حقوق الصحبة
قال:
حقوق الصحب والندمان خمس | فأولها التزين بالوقار |
وثانيها مسامحة الندامى | وكم حمت السماحة من ذمار |
وثالثها وإن كنت ابن خير الـ | ـبرية محتدا ترك الفخار |
ورابعها فللندمان حق | سوى حق القرابة والجوار |
إذا حدثته فاكس الحديث الذ | ي حدثته ثوب اختصار |
وخامسها يدل به أخوه | على كرم الطبيعة والنجار |
كلام الليل ينساه نهارا | له بإقالته عند العثار |
تلبيات الحج
أبو نواس مجيد في كل ما ينظم، في نظمه تلبيات الحج قلما يجيد الشاعر في مثلها. قال أبو نواس حين حج كما في الديوان وتاريخ دمشق وهي في الثاني أكثر:
إلهنا ما أعدلك | مليك كل من ملك |
لبيك قد لبيت لك | لبيك أن الحمد لك |
والملك لا شريك لك | ما خاب عبد سألك |
أنت له حيث سلك | لولاك يا رب هلك |
لبيك أن الحمد لك | والملك لا شريك لك |
والليل لما أن حلك | والسابحات في الفلك |
على مجاري المنسلك | كل نبي وملك |
وكل من أهل لك | سبح أو صلى فلك |
لبيك أن الحمد لك | والملك لا شريك لك |
يا خاطئا ما أغفلك | اعمل وبادر أجلك |
واختم بخير عملك | لبيك أن الحمد لك |
وقال كما في تاريخ دمشق وليس في الديوان منها إلا ثلاثة أبيات:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل | خلوت ولكن قل علي رقيب |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة | ولا أن ما يخفي عيه يغيب |
لهونا لعمر الله حتى تتابعت | ذنوب على آثارهن ذنوب |
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى | ويأذن في توباتنا فنتوب |
أقول إذا ضاقت علي مذاهبي | وحل بقلبي للهموم ندوب |
لطول جناياتي وعظم خطيئتي | هلكت وما لي في المتاب نصيب |
وأغرق في بحر المخافة تائها | وترجع نفسي تارة فتتوب |
ويذكرني عفو الكريم عن الورى | فأحيا وأرجو عفوه فأنيب |
فأخضع في قولي وأرغب سائلا | عسى كاشف البلوى علي يتوب |
قال أبو الفرج ابن المعافى: استشهد ببعض هذه الأبيات طائفة من النحويين في مواضع من فصول النحو. وفي تاريخ دمشق قال ثعلب أحمد بن يحيى: دخلت على أحمد بن حنبل إلى أن قال: فقال -أي ابن حنبل- مررت بالبصرة وجماعة يكتبون عن رجل الشعر وقيل لي: هذا أبو نواس وتخلفت الناس ورائي فلما جلست أملى علي (إذا ما خلوت الدهر) (البيت) "انتهى" ونظم حديث الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فقال:
إن القلوب لأجناد مجندة | لله في الأرض بالأهواء تعترف |
فما تعارف منها فهو مؤتلف | وما تناكر منها فهو مختلف |
البديع في شعر أبي نواس
قال ابن رشيق في العمدة: قالوا أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد وابن هرمة وهو ساقة العرب وآخر من يستشهد بشعره ثم اتبعها مقتديا بهما كلثوم بن عمرو العتابي ومنصور النمري ومسلم بن الوليد وأبو نواس "انتهى".
حسن التخلص
قال:
وإذا جلست إلى المدام وشربها | فاجعل حديثك كله في الكأس |
وإذا نزعت عن الغواية فليكن | لله ذاك النزع لا للناس |
وإذا أردت مديح قوم لم تمن | في مدحهم فامدح بني العباس |
وقال:
حل على وجهه الجمال كما | حل يزيد معالي الرتب |
تجاهل العارف
كدنا على علمنا والشك نسأله | أراحنا نارنا أم نارنا الراح |
ما عيب على أبي نواس
قال ابن منظور أن مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني عاب على أبي نواس قوله:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه | لتخافك النطف التي لم تخلق |
قال وهذا من الإغراق المستحيل في العقول. وعاب عليه قوله:
يجل أن تلحق الصفات به | فكل خلق لخلقه مثل |
وقوله:
#بريء من الأشياء ليس له مثلفقال: أنه تخطى من صفة المخلوق إلى صفة الخالق. وقال ابن منظور أيضا: لقي العتابي أبا نواس فقال: يا أبا علي أما خفت الله تعالى في شعرك حيث تقول:
وأخفت أهل الشرك حتى أنها | لتخافك النطف التي لم تخلق |
فقال له أبو نواس: وأنت أما خفت الله حيث تقول:
ما زلت في غمرات الموت مطرحا | يضيق عني وسيع الرأي من حيلي |
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي | حتى اختلست حياتي من يدي أجلي |
فقال العتابي: قد علم الله وعلمت أن هذا ليس مثل قولك ولكنك أعددت لكل قائل جوابا.
سرقات أبي نواس
قال ابن منظور: مما قيل عن أبي نواس أن الشعر إنما هو بين المدح والهجاء وأبو نواس لا يحسنهما وأجود شعره في الخمر والطرد وأحسن ما فيهما مأخوذ ليس له (أقول) دعوى أن أبا نواس لا يحسن المدح والهجاء دعوى غريبة في بابها وكيف يقال لا يحسن لمن يقول:
ليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
وأما هجاؤه فكاد أن يكون فيه منفردا وقد عرفت تفوقه في المدح والهجاء عند ذكر ما اخترناه منهما. أما السرقات فقال ابن منظور في تتمة كلامه السابق مثل قوله: (وداوني بالتي كانت هي الداء) أخذه من قول الأعشى: (وأخرى تداويت منها بها) وقوله: (إن الشباب مطية الجهل) أخذه من قول النابغة الجعدي (فإن مطية الجهل الشباب) وقوله:
لما تبدى الصبح من حجابه | كطلعة الأشمط من جلبابه |
أخذه من قول أبي النجم (كطلعة الأشمط من كسائه).
قال ابن منظور: ولكن رزق أبو نواس في شعره وحمله الناس وقدمه أهل عصره وإن له عللا لأشياء حسان لا يدفعها ولا يطرحها إلا جاهل بالكلام أو حاسد.
ما قاله عند وفاته
وفيه ما يدل على حسن ظنه بالله تعالى
في تاريخ بغداد في ترجمة محمد بن إبراهيم بن كثير: أخبرنا هلال بن محمد نبأنا إسماعيل بن علي نبأنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن كثير قال: دخلنا على أبي نواس نعوده في مرضه الذي مات فيه فقال له عيسى بن موسى الهاشمي: يا أبا علي أنت في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة وبينك وبين الله هنات فتب إلى الله فقال أبو نواس: أسندوني فلما استوى جالسا قال: إياي تخوف بالله حدثني حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس ابن مالك قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي شفاعة وإني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة) أفترى لا أكون منهم "انتهى" ولكن الخطيب قال: إنه لم يرو عن محمد ابن إبراهيم هذا إلا إسماعيل بن علي الخزاعي وإسماعيل غير ثقة ورواه الشيخ في المجالس عن الخفار عن إسماعيل ابن علي الدعبلي عن محمد بن إبراهيم بن كثير مثله وفي تاريخ بغداد بسنده عن الشافعي دخلنا على أبي نواس وهو يجود بنفسه فقلنا له: ما أعددت لهذا اليوم فقال:
تعاظمني ذنبي فلما قرنته | بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل | تجود وتعفو منة وتكرما |
ولولاك لم يغو بإبليس عابد | وكيف وقد أغوى صفيك آدما |
وبسنده عن علي بن محمد بن زكريا دخلت على أبي نواس وهو يكيد بنفسه أي يجود بها فقال: تكتب فقلت: نعم فأنشأ يقول:
دب في الفناء سفلا وعلوا | وأراني أموت عضوا فعضوا |
ذهبت شرتي بجدة نفسي | فتذكرت طاعة الله نضوا |
ليس من ساعة مضت بي إلا | نقصتني بمرها بي جذوا |
لهف نفسي على ليال وأيا | م تقضت من قبل لعبا ولهوا |
وأسأنا كل الإساءة يا رب | فصفحا عنا إلهي وعفوا |
وفي نزهة الألباء رواية ذلك عن محمد بن زكريا وفي تاريخ بغداد بسنده عن محمد بن نافع أو رافع أنه وجدت رقعة تحت وسادته كتبها قبل وفاته وفيها:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة | فلقد علمت بأن عفوك أعظم |
إن كان لا يرجوك إلا محسن | فمن الذي يرجو ويدعو المجرم |
أدعوك رب كما أمرت تضرعا | فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم |
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا | وجميل عفوك ثم إني مسلم |
وفي روضات الجنات عن بعض التواريخ حكى الجماز قال: دخلت على أبي نواس في مرض موته أعوده فقلت له: اتق الله وتب فكم من محصنة قذفت وسيئة اقترفت فقال لي: صدقت يا أبا عبد الله ولكني لا أفعل فقلت: ولم قال: مخافة أن تكون توبتي على يديك يا ماص بظر أمه وذلك أشد علي من عذاب الله قال: ثم أن جماعة دخلوا عليه فقالوا: ما أشد ما بك من الألم فقال لهم: الذنوب وأرجو لها المغفرة "انتهى". وفي تاريخ دمشق قال عيس ابن المهدي: دخلت على أبي نواس وهو عليل فقلت: كيف تجدك فقال:
ينقص مني كل يوم شي | والجسم مني ثابت وحي |
والمرء يبلى نشره والطي | وكم عساه أن يدوم ألفي |
وقال في مرض موته كما في الديوان وتاريخ دمشق عدى الأخير:
كن مع الله يكن لك | واتق الله لعلك |
لا تكن إلا معدا | للمنايا فكأنك |
إن للموت لسهما | واقعا دونك أو بك |
فعلى الله توكل | وبتقواه تمسك |
نحن نجري في ترا | كيب سكون وتحرك |
في حلي سوف تبلى | وقيود سوف تفكك |
وقال في اليوم الخامس من مرضه كما في تاريخ دمشق، عن عبدوس راوية أبي نواس:
يا ناظرا يرنو بعيني راقد | ومشاهد للأمر غير مشاهد |
منتك نفسك ضلة فأبحتها | طرق الحمام وضنت غير مراصد |
تصل الذنوب إلي الذنوب وترتجى | درك الجنان بها وفوز العابد |
ونسيت أن الله أخرج آدما | منها إلى الدنيا بذنب واحد |
وقال في اليوم السادس كما في الكتاب المذكور عن المذكور (دب في السقام سفلا وعلوا) "الأبيات الأربعة المتقدمة". قال عبدوس: فلما كان في اليوم الثامن جئت لأدخل فلقيني الغلام ومعه رقعة مختومة فسألته عنه فقال: أعظم الله أجرك في أبي نواس توفي وقد كان كتب إليك هذه الرقعة قبل موته فقرأتها فإذا فيها:
شعر حي أتاك من لفظ ميت | صار بين الحياة والموت وقفا |
لو تأملتني وأبصرت وجهي | لم تجد من مثال رسمي حرفا |
نفس خافت وجسم نحيل | أرمضته الأسقام حتى تعفى |
فجئت معه إلى منزل أبي نواس فإذا هو قد مات ونظرت فيما خلف فإذا هو مقدار ثلثمائة درهم وإذا بين مخدتيه رقعة مكتوبة فيها (يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة) "الأبيات الأربعة المتقدمة". فوقفت حتى جهزناه وصلينا عليه ودفناه. وقال إسماعيل بن نوبخت مات عندي أبو نواس وكان يختلف إليه طبيب (اسمه سعيد) فدخلت عليه يوما ومعي الطبيب نظر إليه ثم غمزني بعينه فقام وابتعد فقال لي: إن الرجل ذاهب فلما رجعت قال: ماذا قال لك الطيب فقلت: قال لا بأس عليه وهو اليوم عندي أصلح فأنشأ يقول:
سألتك بالمودة والجوار | وقرب الدار مع قرب المزار |
بما ناجاك إذ ولى سعيد | فقد أوحشت من ذاك السرار |
وفي غير تاريخ دمشق ثم قال: واندماه على ما فرطت واسوأتاه مما قدمت ثم أنشد (دب في السقام) "الأبيات السابقة" وقال في مرض موته كما في ديوانه وهو دال على حسن عقيدته:
أراني مع الأحياء حيا وأكثري | على الدهر ميت قد تخرمه الدهر |
فيا رب قد أحسنت عودا وبدأة | إلي فلم ينهض بإحسانك الشكر |
فمن كان ذا عذر لديك وحجة | فعذري إقراري بأن ليس لي عذر |
وفي حواشي مصباح الكفعمي نقلا عن كتاب لسان المحاضر والنديم وبستان المسافر والمقيم جمع الشيخ علي ابن محمد بن يوسف بن ثابت قال: روي أن بعضهم دخل على أبي نواس في مرضه الذي توفي فيه فقال له: لو أحدثت توبة يغفر لك الله بها فإن حدث بك حدث لقيت الله وأنت تائب فحول وجهه إلى الحائط ساعة ثم قال:
يا رب إني لم أزل | كمثل حال السحره |
حتى استلاذوا بعرى الـ | ـدين وكانوا كفره |
فوحدوا يوما وفا | زوا بثواب البرره |
ولم أزل أستشعر الـ | ـإيمان يا ذا المقدره |
فاغفر فإني منك أو | لى منهم بالمغفره |
ثم أقام يسيرا فمات فرأيته بعد ذلك في منامي فقلت له: ما صنع الله بك فقال: غفر لي بالأبيات التي قلتها عند الموت.
قال: وروي أنه رئي في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي ببيتين قلتهما وذكر البيتين. ومما يدخل في هذا الباب ويدل على حسن عقيدته قوله كما في ديوانه:
أيا من ليس لي منه مجير | بعفوك من عذابك أستجير |
أنا العبد المقر بكل ذنب | وأنت السيد المولى الغفور |
فإن عذبتني فبسوء فعلي | وإن تغفر فأنت به جدير |
أفر إليك منك وأين إلا | إليك يفر منك المستجير |
وصيته
في روضات الجنات عن بعض التواريخ لم يسمه أنه لما حضرته الوفاة أخذ ورقة وكتب فيها بعد البسملة: هذا ما أوصى به المسرف على نفسه المغتر بأجله المعترف بذنبه الحسن بن هانئ وهو يشهد أن لا إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن ما جاء به كله حق وعلى ذلك عاش وعليه يموت وإنه لا يرجو الخلاص إلا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم والاعتراف بذنوبه والثقة بعفو ربه. وأوصى إلى أبي زكريا القشوري أن يتولى تجهيزه وقضاء دينه ثم مات من يومه "انتهى" وفي ديوانه أنه أمر أن يودع هذان البيتان في كفنه: (يا رب قد أحسنت) "البيتان المتقدمان".
ما صنعه بخاتميه عند وفاته
في ديوانه يروي أنه صاغ خاتمين فنقش على أحدهما (يشهد ابن هانئ أن الله أحد) وعلى الآخر:
تعاظمني ذنبي فلما قرنته | بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
فلما حضرته الوفاة تختم بهما في يمناه ويسراه "انتهى". وفي تاريخ بغداد قال دعبل الشاعر كان لأبي نواس خاتمان من فضة وخاتم من عقيق مربع عليه مكتوب:
تعاظمني ذنبي فلما قرنته | بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
والآخر حديد صيني مكتوب عليه (لا إله إلا الله مخلصا) فأوصى عند موته أن تقلع وتغسل وتجعل في فمه.
ما أوصى بكتابته على قبره
في تاريخ بغداد بسنده عن أبي جعفر الآمدي قال: حضر أبا نواس الموت قال: اكتبوا هذه الأبيات على قبري:
وعظتك أجداث صمت | ونعتك أزمنة خفت |
وتكلمت عن أوجه | تبلى وعن صور سبت |
وارتك قبرك في القبو | ر وأنت حي لم تمت |
وفي تاريخ دمشق زيادة هذين البيتين:
لا تشتمن بميت | إن المنية لم تمت |
ولربما انقلب الشما | ت فحل بالقوم الشمت |
هذا ولكن في معاهد التنصيص ما يدل على أن هذه الأبيات لأبي العتاهية لا لأبي نواس حيث قال عن عمرو ابن أبي عمرو الشيباني قال: جاء أبو العتاهية ومسلم وأبو نواس يوما إلى أبي فأنشده أبو العتاهية:
وعظتك أجداث صمت | ونعتك أزمنة خفت |
وارتك قبرك في القبو | ر وأنت حي لم تمت |
وتكلمت عن أعين | تبلى وعن صور شتت |
وحكت لك الساعات سا | عات أتيات بغت |
فلما كان بعد أيام عاد إليه مسلم وأبو النواس فأنشده مسلم حتى بلغ قوله:
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به | كالموت مستعجلا يأتي على مهل |
فقال أبو عمرو أحسنت إلا أنك أخذت قول أبي العتاهية:
وحكت لك الساعات سا | عات أتيات بغت |
فهذا صريح في أن الشعر لأبي العتاهية وظاهر إيصاء أي نواس بكتابته على قبره أنه لم يكن ليوصي بكتابة أبيات أبي العتاهية على قبره وهو أشعر منه فلا بد أن يكون وقع خطأ في أحد النقلين وفي نزهة الألباء رئي على قبره مكتوب:
يا كبير الذنب عفـ | ـو الله من ذنبك أكبر |
وفي ديوانه أنه أمر أن يكتب على قبره:
ألا إنما الدنيا عروس وأهلها | أخو دعة فيها وآخر لاعب |
وذو ذلة فقرا وآخر بالغنى | عزيز ومكظوظ الفؤاد وساغب |
وبالناس كان الناس قدما ولم يزل | من الناس مرغوب إليه وراغب |
وقال: وكان ينبغي وضعه في المواعظ والحكم فأخر سهوا:
لدوا للموت وابنوا للخراب | فكلهم يصير إلى ذهاب |
لمن نبني ونحن إلى تراب | نعود كما خلقنا من تراب |
ألا يا موت لم أر منك بدا | قسوت فما تكف ولا تحابي |
كأنك قد هجمت على حياتي | كما هجم المشيب على الشباب |
وإنك يا زمان لذو صروف | وإنك يا زمان لذو انقلاب |
وهذا الخلق منك على وفاز | وأرجلهم جميعا في الركاب |
وموعد كل ذي عمل وسعي | بما أسدى غدا دار الثواب |
تقلدت العظام من الخطايا | كأني قد أمنت من العقاب |
ومهما دمت في الدنيا حريصا | فإني لا أوفق للصواب |
سأسأل عن أمور كنت فيها | فما عذري هناك وما جوابي |
بأية حجة أحتج يوم الـ | ـحساب إذا دعيت إلى الحساب |
هما أمران فوز أو شقاء | ألاقي حين أنظر في كتابي |
فأما أن أخلد في نعيم | وأما أن أخلد في عذاب |
وقال:
سبحان علام الغيوب | عجبا لتصريف الخطوب |
تعدو على قطف النفو | س وتجتني ثمر القلوب |
حتى متى يا نفس تغـ | ـترين بالأمل الكذوب |
يا نفس توبي قبل أن | لا تستطيعي أن تتوبي |
واستغفري لذنوبك الر | حمن غفار الذنوب |
إن الحوادث كالريا | ح عليك دائمة الهبوب |
والموت شرع واحد | والخلق مختلفوا الضروب |
والسعي في طلب التقى | من خير مكسبة الكسوب |
ولقلما ينجو الفتى | بتقاه من لطخ العيوب |
من المكذوب عليه
ومن المكذوب عليه بلا شبهة ما في شذرات الذهب عن الحصري أنه قال في كتابه قطب السرور قال ابن نوبخت: توفي أبو نواس في منزلي فسمعته يوم مات يترنم بشيء فسألته عنه فأنشدني:
باح لساني بمضمر السر | وذاك إني أقول بالدهر |
وليس بعد الممات منقلب | وإنما الموت بيضة العمر |
والتفت إلى من حوله فقال: لا تشربوا الخمر صرفا فإني شربتها صرفا فأحرقت كبدي ثم طفي "انتهى" فإن هذه الرواية مع تفرد راويها بها يردها ما اتفق عليه الباقون من رواية ضدها عنه على أن إسماعيل بن نوبخت كان يعادي أبا نواس وقد هجاه أبو نواس بأهاج كثيرة مرت في ترجمة إسماعيل فلعله أراد الانتقام منه بما رواه عنه. أما ما رواه الخطيب في تاريخ بغداد بسنده عن الحسن ابن أبي المنذر أنهم كانوا في حانة خمار مع أبي نواس قال: ونحن في أطيب موضع فذكرنا الجنة وطيبها والمعاصي وما يحول عنه منها وأبو نواس ساكت فقال:
يا ناظرا في الدين ما الأمر | لا قدر صح ولا جبر |
ما صح عندي من جميع الذي | تذكر إلا الموت والقبر |
قال: فامتعضنا من قوله وأطلنا توبيخه وأعلمناه إنا نتخوف صحبته فقال: ويلكم إني والله لأعلم بما تقولون ولكن المجون يفرط علي وأرجو أن أتوب ويرحمني الله ثم قال: (أية نار قدح القادح) "الأبيات المتقدمة في المواعظ" ثم قال: هذا عمل الشيطان ألقى الزاهد بهذا الكلام ليفسد يومكم فمع أنه رواية عن فاسق يقر على نفسه بشرب الخمر قد اعترف أبو نواس بأن عقيدته خلافه وإنما ساقه إليه المجون وأنه يرجو لنفسه التوبة والرحمة وأنشد الأبيات الحائية الدالة على حسن العقيدة ومع ذلك خلط الجد بالهزل وقال إنه من عمل الشيطان ليفسد عليكم يومكم.
رؤيته في المنام بعد الموت
في تاريخ دمشق: لما مات رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك فقال: غفر لي بأبيات قلتها في النرجس:
تأمل في نبات الأرض وأنظر | إلى آثار ما فعل المليك |
عيون من لجين ناظرات | وأحداق هي الذهب السبيك |
علي قضب الزبرجد شاهدات | بأن الله ليس له شريك |
وفي معاهد التنصيص حكي عن عبد الله بن المعتز أنه قال: رأيت أبا نواس في المنام فقلت له: لقد أحسنت في قولك:
جاءت بإبريقها من بيت تاجرها | روحا من الخمر في جسم من النار |
فقال: لا بل أحسنت في قولي:
يا قابض الروح من جسم أسى زمنا | وغافر الذنب زحزحني عن النار |
وفي تاريخ بغداد بسنده عن محمد بن نافع أنه رأى أبا نواس في المنام بعد موته فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي بأبيات قلتها هي تحت الوسادة فسأل أهله: هل قال شعرا قبل موته قالوا: دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئا لا ندري ما هو فرفع وسادة فإذا برقعة فيها مكتوب:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة | فلقد علمت بأن عفوك أعظم |
(الأبيات الأربعة المتقدمة) ومر رؤية بعضهم له في المنام وقوله: إن الله غفر له بقوله: من أنا عند الله "الأبيات" وفي شرح الشفا لعلي القاري قال إسحاق التمار: رأيت أبا نواس فيما يرى النائم فقلت له: ما فعل الله بك قال: غفر لي فأنكرت ذلك فقلت: ألست أبا نواس؟ قال: بلى غفر لي ربي بأبيات قلتها وهي في البيت تحت رأسي فبكرت إلى ابنه فسألته عن الرقعة فأدخلني الدار فرفعت الحصير فإذا رقعة مكتوب فيها بخطه: (يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة) "الأبيات".
هذا ما تيسر لنا جمعه من سيرة أبي نواس وقد لاقينا عناء شديدا فيما أخذناه من ديوانه المطبوع فإنه كثير الغلط والتصحيف ولا توجد نسخة أخرى صحيحة يمكن الاعتماد عليها وقد فسر ألفاظه معاصر في بعض الطبعات فلم يكن تفسيره مجديا لأنه اعتمد على النسخة الأولى المغلوطة لذلك احتجنا إلى مراجعة مراجع أخرى ومع ذلك فقد بقي بعض ما في الديوان مستغلقا.
النهاية
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 5- ص: 331
أبو نواس الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح، أبو علي الحكمي- بفتح الحاء المهملة والكاف- المعروف بأبي نواس. كان جده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان.
ولد أبو نواس بالبصرة، ونشأ بها، ثم خرج إلى الكوفة مع والبة بن الحباب، ثم صار إلى بغداد، هكذا قال محمد بن داود بن الجراح في كتاب الورقة.
وقال غيره: إنه ولد بالأهواز، ونقل منها وعمره سنتان، واسم أمه جلبان. وكان أبوه من جند مروان، آخر ملوك بني أمية، وكان من أهل دمشق، وانتقل إلى الأهواز، فتزوج بجلبان وأولدها عدة أولاد منهم: أبو نواس، وأبو معاذ.
قال أبو نواس؛ فأسلمته أمه إلى بعض العطارين، فرآه يوما والبة بن الحباب فاستحلاه، فقال له: ’’إني أرى فيك مخايل أرى أن لا تضيعها، وستقول الشعر فاصحبني أخرجك’’. فقال له: ومن أنت؟ قال: أبو أسامة والبة بن الحباب. قال: ’’نعم، أنا والله، في طلبك، ولقد أردت الخروج إلى الكوفة بسبك لآخذ عنك، وأسمع منك شعرك’’. فصار معه، وقدم به بغداد، فكان أول ما قاله من الشعر وهو صبي:
حامل الهوى تعب | يستخفه الطرب |
إن بكى يحق له | ليس ما به لعب |
تضحكين لاهية | والمحب ينتحب |
تعجبين من سقمي | صحتي هي العجب |
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء | وداوني بالتي كانت هي الداء |
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها | لو مسها حجر مسته سراء |
من كف ذات حر في زي ذي ذكر | لها محبان لوظي وزناء |
قامت بإبريقها والليل معتكر | فظل من وجهها في البيت لألاء |
فأرسلت من فم الإبريق صافية | كأنما أخذها بالعقل إغفاء |
رقت عن الماء حتى لا يلائمها | لطافة وجفا عن شكلها الماء |
وكأس كمصباح السماء شربتها | على قبلة أو موعد بلقاء |
أتت دونها الأيام حتى كأنها | تساقط نور من فنون سماء |
ترى ضوءها من ظاهر الكأس ساطعا | عليك ولو غطيته بغطاء |
ألا دارها بالماء حتى تلينها | فما تكرم الصهباء حتى تهينها |
أغالي بها حتى إذا ما ملكتها | أهنت لإكرام النديم مصونها |
وصفراء قبل المزج بيضاء بعده | كأن شعاع الشمس يلقاك دونها |
ترى العين تستعفيك من لمعانها | وتحسر حتى ما تقل جفونها |
كأنا حلول بين أكناف روضة | إذا ما سلبناها مع الليل طينها |
كأن يواقيتا رواكد حولها | وزرق سنانير تدير عيونها |
أيها المنتاب عن عفره | لست من ليلي ولا سمره |
لا أذود الطير عن شجر | قد بلوت المر من ثمره |
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا | بها أثر منهم جديد ودارس |
مساحب من جر الزقاق على الثرى | وأضغاث ريحان جني ويابس |
أقمنا بها يوما ويوما وثالثا | ويوما له يوم الترحل خامس |
تدور علينا الراح في عسجدية | حبتها بأنواع التصاوير فارس |
قرارتها كسرى وفي جنباتها | مها تدريها بالقسي الفوارس |
فللراح ما زرت عليه جيوبها | وللماء ما دارت عليه القلانس |
وخلا الذباب بها فليس ببارح | غردا كفعل الشارب المترنم |
هزجا يحك ذراعه بذراعه | قدح المكب على الزناد الأجذم |
كتبت بها في يوم لهو وهامتي | تمارس من أهواله ما تمارس |
وعندي رجال للمجون ترجلت | عمائمهم عن هامهم والطيالس |
فللراح ما زرت عليه جيوبها | وللماء ما دارت عليه القلانس |
مساحب من جر الزقاق على القفا | وأضغاث أنطاع جني ويابس |
أباح العراقي النبيذ وشربه | وقال حرامان المدامة والسكر |
وقال الحجازي الشرابان واحد | فحلت لنا من بين قوليهما الخمر |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 12- ص: 0
أبو نواس الحسن بن هانئ.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 27- ص: 0
أبو نواس رئيس الشعراء أبو علي الحسن بن هانئ الحكمي، وقيل: ابن وهب، ولد بالأهواز ونشأ بالبصرة، وسمع من حماد بن سلمة وطائفة. وتلا على يعقوب وأخذ اللغة عن: أبي زيد الأنصاري وغيره.
ومدح الخلفاء والوزراء، ونظمه في الذروة حتى قال فيه أبو عبيدة شيخه: أبو نواس للمحدثين، كامرئ القيس للمتقدمين.
قيل: لقب بهذا، لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقيه أي: تضطرب، وهو من موالي الجراح الحكمي، أمير الغزاة وهو القائل:
سبحان ذي الملكوت أية ليلة | مخضت صبيحتها بيوم الموقف |
لو أن عينا وهمتها نفسها | ما في المعاد محصلا لم تطرف |
ألا كل حي هالك وابن هالك | وذو نسب في الهالكين عريق |
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت | له عن عدو في ثياب صديق |
حامل الهوى تعب | يستخفه الطرب |
إن بكى يحق له | ليس ما به لعب |
تضحكين لاهية | والمحب ينتحب |
تعجبين من سقمي | صحتي هي العجب |
وحياة رأسك لا أعو | د لمثلها من خوف باسك |
من ذا يكون أبا نوا | سك إن قتلت أبا نواسك |
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 8- ص: 48
أبو نواس، الشاعر المفلق. هو الحسن بن هانئ، شعره في الذروة، ولكن فسقه ظاهر وتهتكه واضح، فليس بأهل أن يروى عنه.
له رواية عن حماد بن سلمة وغيره.
توفى سنة نيف وتسعين ومائة.
دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان-ط 1( 1963) , ج: 4- ص: 581
أبو نواس
وأما أبو علي الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس الشاعر؛ فإنه ولد بالأهواز، ونشأ بالبصرة؛ وقيل: كان مولى للجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان.
واختلف إلى أبي زيد الأنصاري وكتب عنه الغريب، وحفظ عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أيام العرب، ونظر في نحو سيبويه.
قال عمرو بن بحر الجاحظ: ما رأيت رجلاً أعلم باللغة من أبي نواس، ولا أفصح لهجةً؛ مع حلاوة ومجانبة للاستكره. وقال الشعر، وكان يستشهد بشعره.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان أبو نواس للمحدثين؛ كامرئ القيس للمتقدمين.
وقال إسحاق بن إسماعيل: قال أبو نواس: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب، منهم الخنساء وليلى؛ فما ظنك بالرجال!
وقال ميمون: سألت أبا يوسف يعقوب بن السكيت عما يختار لي روايته من الشعر، فقال: إذا رويت من أشعار الجاهليين فلامرئ القيس والأعشى، ومن الإسلاميين فلجرير والفرزدق، ومن المحدثين فلأبي نواس، فحسبك.
وقال أبو العباس المبرد عن الجاحظ، قال: سمعت إبراهيم النظام يقول وقد أنشد شعر أبي نواس في الخمر: هذا الذي جمع له الكلام فاختار أحسنه.
وقال في حقه سفيان بن عيينة: هذا أشعر الناس - يعني أبا نواس.
وقال الجاحظ: لا أعرف من كلام الشعراء أرفع من قول أبي نواس:
أية نار قدح القادح | وأي جد بلغ المازح |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته | بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
دب في الفناء سفلاً وعلوا | وأراني أموت عضواً فعضوا |
ذهبت شرتي بحدة نفسي | وتذكرت طاعة الله نضوا |
ليس من ساعة مضت بي إلا | نقصتني بمرها بي جزوا |
وأسأنا كل الإساءة يا ر | ب فصفحاً عنا إلهي وعفوا |
وعظتك أجداثٌ صمت | ونعتك أزمنةٌ عفت |
وتكلمت عن أوجه | تبكي وعن صورٍ سبت |
وأرتك قبرك في القبو | ر وأنت حي لم تمت |
يا كبير الذنب عفو اللـ | ـه عن ذنبك أكبر |
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة | فلقد علمت بأن عفوك أعظم |
إن كان لا يرجوك إلا محسن | فبمن يلوذ ويستجير المجرم |
أدعوك رب، كما أمرت، تضرعاً | فإذا رددت يدي، فمن ذا يرحم |
ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرجا | وجميل عفوك ثم أني مسلم |
مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن-ط 3( 1985) , ج: 1- ص: 65
دار الفكر العربي-ط 1( 1998) , ج: 1- ص: 74
مطبعة المعارف - بغداد-ط 1( 1959) , ج: 1- ص: 49