السيرافي الحسن بن عبد الله المرزبان السيرافي، أبو سعيد: نحوى، عالم بالأدب. أصله من سيراف (من بلاد فارس) تفقه في عمان، وسكن بغداد، فتولى نيابة الفضاء، وتوفي فيها. وكان معتزليا، متعففا، لا يأكل إلا من كسب يده، ينسخ الكتب بالأجرة ويعيش منها. له (الإقناع) في النحو، أكمله بعده ابنه يوسف، و (أخبار النحويين البصريين - ط) و (صنعة الشعر) و (البلاغة) و (شرح المقصورة الدريدية) و (شرح كتاب سيبويه - خ)

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 2- ص: 195

الحسن بن عبد الله السيرافي الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي النحوي.
قرأ القرآن على ابن مجاهد، واللغة على ابن دريد، والنحو على السراج. ودرس في القراءات، والفقه، والفرائض، والنحو، واللغة، والحساب، والكلام، والعروض، والقوافي.
وشرح كتاب سيبويه فأجاد فيه وله كتاب ألفات القطع والوصل وكتاب الإقناع في النحو لكن أكمله ولده يوسف وجزء أخبار النحاة توفي في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة.

  • دار القلم - دمشق-ط 1( 1992) , ج: 1- ص: 154

السيرافي الحسن بن عبد الله.

  • دار القلم - دمشق-ط 1( 1992) , ج: 1- ص: 359

السيرافي النحوي الحسن بن عبد الله بن المرزبان أبو سعيد السيرافي النحوي، القاضي نزيل بغداد. حدث عن أبي بكر بن زياد النيسابوري، وابن دريد، ومحمد بن أبي الأزهر. وروى عنه جماعة. وكان إماما كبير الشأن.
كان أبوه مجوسيا أسلم وسموه عبد الله. تصدر أبو سعيد لإقراء القراءات والنحو واللغة والفقه والفرائض والحساب والعروض. وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، عارفا بفقه أبي حنيفة.
قرأ القرآن على أبي بكر بن مجاهد، وأخذ اللغة عن ابن دريد، والنحو عن أبي بكر بن السراج.
وكان لا يأكل إلا من كسب يده تدينا؛ فكان لا يجلس للقضاء ولا الاشتغال حتى ينسخ كراسا يأخذ أجرته عشرة دراهم.
قال ابن أبي الفوارس: كان يذكر عنه الاعتزال ولم يظهر منه شيء وأفتى في جامع المنصور خمسين سنة وصام أربعين سنة.
شرح كتاب سيبويه، وألفات القطع والوصل، والإقناع في النحو، وكمله ولده يوسف، وأخبار النحاة، والوقف والابتداء، وصناعة الشعر والبلاغة، وشرح مقصورة ابن دريد، والمدخل إلى كتاب سيبويه، وجزيرة العرب.
وكانت بينه وبين أبي الفرج صاحب الأغاني منافسة جرت العادة بمثلها بين الفضلاء؛ فقال أبو الفرج:

وجرت بينه وبين متى بن يونس القنائي الفيلسوف مناظرة طويلة قد ساقها ياقوت في معجم الأدباء، وهي طويلة، وطول ترجمته إلى الغاية أيضا.
وتوفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة. وكان أبو حيان التوحيدي يعظمه، وقد ملأ تصانيفه بذكره والثناء عليه، وذكر فضائله.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 12- ص: 0

السيرافي النحوي اسمه الحسن بن عبد الله بن المرزبان. وابنه يوسف بن الحسين.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0

الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي أبو سعيد النحوي القاضي

وسيراف بليد على ساحل البحر من أرض فارس، رأيته أنا، وبه أثر عمارة قديمة وجامع حسن، إلا أنه الآن الغالب عليه الخراب. وكان قد ولي القضاء على بعض الأرباع ببغداد، ومات رحمه الله يوم الاثنين ثاني رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة في خلافة الطائع، ودفن في مقابر الخيزران، وكان أبوه مجوسيا اسمه بهزاد فسماه أبو سعيد عبد الله. وكان أبو سعيد يدرس ببغداد القرآن والقراءات وعلوم القرآن والنحو واللغة والفقه والفرائض، وكان قد قرأ على أبي بكر ابن مجاهد القرآن، وعلى أبي بكر ابن دريد اللغة، ودرسا جميعا عليه النحو، وقرأ على أبي بكر ابن السراج وأبي بكر المبرمان النحو، وقرأ أحدهما عليه القرآن ودرس الآخر عليه الحساب.

قال الخطيب: وكان رحمه الله زاهدا ورعا لم يأخذ على الحكم أجرا إنما كان يأكل من كسب يمينه، فكان لا يخرج إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس حتى ينسخ عشر ورقات يأخذ أجرتها عشرة دراهم تكون بقدر مؤونته ثم يخرج إلى مجلسه. وصنف كتبا: منها شرح كتاب سيبويه.

قال أبو حيان التوحيدي: رأيت أصحاب أبي علي الفارسي يكثرون الطلب لكتاب «شرح سيبويه» ويجتهدون في تحصيله، فقلت لهم: إنكم لا تزالون تقعون فيه وتزرون على مؤلفه فما لكم وله؟ قالوا: نريد أن نرد عليه ونعرفه خطأه فيه. قال أبو حيان: فحصلوه واستفادوا منه ولم يرد عليه أحد منهم، أو كما قال أبو حيان فإني لم أنقل ألفاظ الخبر لعدم الأصل الذي قرأته منه.

وكان أبو علي وأصحابه كثيري الحسد لأبي سعيد، وكانوا يفضلون عليه الرماني، فحكى ابن جني عن أبي علي أن أبا سعيد قرأ على ابن السراج خمسين ورقة من أول الكتاب ثم انقطع، قال أبو علي: فلقيته بعد ذلك فعاتبته على انقطاعه فقال لي: يجب على الانسان أن يقدم ما هو أهم، وهو علم الوقت من اللغة والشعر والسماع من الشيوخ، فكان يلزم ابن دريد ومن جرى مجراه من أهل السماع.

وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني صاحب «كتاب الأغاني» يهجو أبا سعيد السيرافي:

وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: قال لي أبو محمد ولد أبي سعيد:

ولد أبي بسيراف، وفيها ابتدأ بطلب العلم، وخرج عنها قبل العشرين، ومضى إلى عمان فتفقه بها، ثم عاد إلى سيراف ومضى إلى العسكر فأقام بها مدة (قال المؤلف: وبها قرأ فيما أحسب على المبرمان) قال: كان فقيها على مذهب العراقيين، وورد إلى بغداد فخلف أبا محمد ابن معروف قاضي القضاة على قضاء الجانب الشرقي، وكان أستاذه في النحو، ثم استخلفه على الجانبين؛ ومولده قبل التسعين ومائتين، وله من الكتب: كتاب شرح سيبويه. ألفات القطع والوصل. كتاب أخبار النحويين البصريين. كتاب شرح مقصورة ابن دريد. كتاب الإقناع في النحو، لم يتم، فتممه ابنه يوسف. وكان يقول: وضع أبي النحو في المزابل ب «الاقناع» يريد أنه سهله حتى لا يحتاج إلى مفسر. كتاب شواهد كتاب سيبويه. كتاب الوقف والابتداء. كتاب صنعة الشعر والبلاغة. كتاب المدخل إلى كتاب سيبويه. كتاب جزيرة العرب.

قرأت بخط أبي حيان التوحيدي في كتابه الذي ألفه في «تقريظ عمرو بن بحر»، وقد ذكر جماعة من الأئمة كانوا يقدمون الجاحظ ويفضلونه فقال: ومنهم أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ وإمام الأئمة معرفة بالنحو والفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة، أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وجد له خطأ ولا عثر منه على زلة، وقضى ببغداد، وشرح «كتاب سيبويه» في ثلاثة آلاف ورقة بخطه في السليماني، فما جاراه فيه أحد ولا سبقه إلى تمامه إنسان، هذا مع الثقة والديانة والأمانة والرواية، صام أربعين سنة وأكثر الدهر كله. قال لنا الأندلسي: فارقت بلدي في أقصى الغرب طلبا للعلم وابتغاء مشاهدة العلماء، فكنت إلى أن دخلت بغداد ولقيت أبا سعيد وقرأت عليه «كتاب سيبويه» نادما سادما في اغترابي عن أهلي ووطني من غير جدوى في علم أو حظ من دنيا، فلما سعدت برؤية هذا الشيخ علمت أن سعيي قرن بسعدي، وغربتي اتصلت ببغيتي، وأن عنائي لم يذهب هدرا، وأن رجائي لم ينقطع يأسا.

قرأت بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ، قرأنا على أبي سعيد الحسن بن عبد الله في «كتاب ما يلحن فيه العامة» لأبي حاتم «هو الشمع مفتوح الشين والميم» فسألناه عما يحكى عن أبي بكر ابن دريد أنه قال: «شمع بكسر الشين» فقال: لا يعاج عليه، قلنا له: فهو صحيح عن ابن دريد؟ فقال: نعم هو عنه بخطي في «كتاب الجمهرة». قال: وكان أبو الفتح ابن النحوي وأبو الحسن الدريدي سألاني عن ذلك فاستعفيت من الإجابة لئلا أنسب إلى أبي بكر حرفا أجمع الناس على خلافه.

وقال أبو حيان في «كتاب محاضرات العلماء» قال: وحضرت مجلس شيخ الدهر، وقريع العصر، العديم المثل، المفقود الشكل، أبي سعيد السيرافي، وقد أقبل على الحسين بن مردويه الفارسي يشرح له ترجمة «المدخل إلى كتاب سيبويه» من تصنيفه، فقال له: علق عليه، واصرف همتك إليه، فإنك لا تدركه إلا بتعب الحواس، ولا تتصوره إلا بالاعتزال عن الناس. فقال: أيد الله القاضي، أنا مؤثر لذلك، ولكن اختلال الأمر وقصور الحال يحول بيني وبين ما أريده، فقال له: ألك عيال؟ قال: لا، قال: عليك ديون؟ قال: دريهمات، قال: فأنت ريح القلب حسن الحال ناعم البال، اشتغل بالدرس والمذاكرة والسؤال والمناظرة واحمد الله تعالى على خفة الحاذ وحسن الحال، وأنشده:

قال: وكان يقرأ على أبي سعيد السيرافي «الكامل» للمبرد فجاءه أبو أحمد ابن مردك، وكان هذا من ساوة واستوطن بغداد وولد له بها، وكان له قرب ومنزلة من أبي سعيد يوجب حقه ويرعى له، فقال له يوما: أيها الشيخ عندي ابنة بلغت حد التزويج، وجماعة من الغرباء والبغداديين يخطبونها، فما ترى؟ ممن أزوجها؟

فقال: ممن يخاف الله تعالى وأكثرهم تقية وخشية منه، فإن من يخاف الله إن أحبها بالغ في إكرامها، وإن لم يحبها تحرج من ظلمها، فاستحسنا ذلك وأثبتناه. ثم قال: لا تنسبوا هذا إلي إنما هذا قول الحسن.

قال: وشبيه هذه الحكاية أن رجلا وقف على الحسن فقال: علمني ما يقربني إلى الله تعالى وإلى الناس، قال: أما ما يقربك إلى الله فمسألته، وأما ما يقربك إلى الناس فترك مسألتهم.

وقال: وتأخر بعض أصحابه عن مجلسه في يوم السبت، وكان يرعى حق أبيه فيه لأنه كان وجيها شريفا، فلما كان يوم الأحد قال له: ما الذي أخرك؟ فأشار إلى شرب الدواء ولأجله تأخر عن المجلس فأنشدنا:

قال: ولما قبل ابن معروف شهادته عاتبه على ذلك بعض المختصين به وقال: أيها الشيخ إنك إمام الوقت وعين الزمان والمنظور إليه والصدر، وإذا حضرت محفلا كنت البدر، قد اشتهر ذكرك في الأقطار والبلاد، وانتشر علمك في كل محفل وناد، والألسنة مقرة بفضلك، فما الذي حملك على الانقياد لابن معروف، واختلافك إلى مجلسه، وصرت تابعا بعد أن كنت متبوعا، ومؤتمرا بعد أن كنت آمرا؟

وضعت من قدرك، وضيعت كثيرا من حرمتك، وأنزلت نفسك منزلة غيرك، وما فكرت في عاقبة أمرك، ولا شاورت أحدا من صحبك، فقال: اعلموا أن هذا القاضي سبب اكتساب ذكر جميل، وصيت حسن، ومباهاة لأقرانه، ومنافسة لإخوانه، ومع ذلك له من السلطان منزلة، وبلغني أنه يستضيء برأيه ويعده من جملة ثقاته وأوليائه، وعرض لي وصرح في الأمر مرة بعد أخرى وثانية عقب أولى، فلم أجب إليه، ولم أسلس قيادي له، فخفت مع كثرة الخلاف اعتمادي بما أستضر به وينتفع به غيري وإذا اتفق أمران فاتباع ما هو أسلم جانبا وأقل غائلة أولى، وقد كان الآن ما كان، والكلام فيه ضرب من الهذيان. فلما كان بعد هذا بأيام ورد عليه من آمد صاحب أبي العباس ابن ماهان بكتاب يهنئه فيه بما تلبس به من العدالة، وكان الكتاب يشتمل على كلمات وجيزة وألفاظ حسنة ومعان منتقاة، وكان أبو العباس هذا من أصحاب أبي سعيد، وممن لازمه سنين عدة، وعلق عنه- على ما ذكره الشاشي- زهاء عشرة آلاف ورقة على شرحه لكتاب سيبويه وغيره درسا ومذاكرة، وكانت له أيضا بضاعة قوية في علم الهيئة وبصر تام بمذهب الكوفيين في النحو حتى ما كان يطاق. وكان من أصدر الكتاب على يده رجلا كرديا عليه جبة ثقيلة فوقها جباعة عظيمة، قد أضرت به شمس الهواجر، ومقاساة السفر، وقطع المهامه والمفاوز، وكان الشيخ يبين لبعض أصحابه الفرق في قوله تعالى: {مثل ما إنكم تنطقون} والاحتجاج عمن نصبه ورفعه، والكردي ما يفهم منه القليل ولا الكثير، ثم التفت إلى أبي سعيد وقال: يا شيخ في أي شيء أنت؟ وفي ماذا تتكلم؟ فقال: أتكلم في شيء لا يعرفه كل أحد، ولا يتصوره كثير من الناس، قال: ففسره لي لعلي أفهمه، قال: لا يكون ذلك أبدا، قال: أنت عالم ومن اقتبس منك علما لزمك الجواب، فقال له: عليك بمجلس يجري فيه حديث الفرض والنفل والسنن وظواهر أمر الشريعة لتستفيد منه وتنتفع به، فأخذ الكردي في المطاولة وإيراد الهذيان وما لا محصول له، وسكت عنه أبو سعيد وصمت هو أيضا، وجعل أبو سعيد على عادته يبين ويوضح ويتكلم وينثر الدر ولا يهدأ ولا يفتر لسانه ولا يجف ريقه، والكردي ملازمه، وكأنه كالمتبرم به والمستثقل لجلوسه وملازمته إياه إلى أن قام ومضى؛ ثم قال أبو سعيد: ما ظننت أن ثقيلا تمكن من أحد تمكن هذا منا اليوم، وإن ألم ثقله خلص إلى الروح والبدن كما خلص إلي، لقد هممت تارة بضربه فقلت: ربما ضربني أيضا، ثم هممت بالقيام فقلت: ضرب من الخرق، ثم كدت أصيح فقلت: نوع من الجنون، ثم بقيت أدعو سرا وأرغب إلى الله تعالى في صرفه، فتفضل الله الكريم علي بذلك، ومع هذه الحالة لم تزل أبيات محمد بن المرزبان تتردد بين لهاتي ولساني، فقلنا له: وما الأبيات؟ فقال:

قال: وكان قد ظهر بالعراق رجل من الجراد فأضرت بالزروع والأثمار وغلت الأسعار وأثرت في أحوال الناس، فحضرنا مجلس أبي سعيد السيرافي وكل منا شكا حاله وذكر خلته، وكان فينا رجل مزارع ذكر أنه زرع بنواحي النهروان أربعة آلاف جريب ملكا وضمانا وإجارة رجاء الفائدة، وقد أتى عليها الجراد، وهلك ذلك الرجل لأجله، ثم قال أبو سعيد: لا يهولنك أمرها فأنها جند من جنود الله مأمور، بلغنا أن جرادة سقطت بين يدي عبد الله بن عباس رضي الله عنه فأخذها ونشر جناحها وقال:

أتعلمون ما هو مكتوب عليها ؟ قالوا: لا، قال: مكتوب عليها أنا مغلي الأسعار مع تدفق الأنهار. وأورد في ذكر الجراد ما حير الناظرين ثم قال: ومن أحسن ما وصف به الجراد قول بعض الخطباء حيث يقول: إن الله سبحانه خلق خلقا وسماها جرادا، وألبسها أجلادا، وجندها أجنادا، وأدمجها إدماجا، وكساها من الوشي ديباجا، وجعل لها ذرية وأزواجا، إذا أقبلت خلتها سحابا أو عجاجا، وإذا أدبرت حسبتها قوافل وحجاجا، مزخرفة المقاديم، مزبرجة المآخير، مزوقة الأطراف، منقطعة الأخفاف، منمنمة الحواشي، منمقة الغواشي، ذات أردية مزعفرة، وأكسية معصفرة، وأخفية مخططة، معتدلة قامتها، مؤتلفة خلقتها، مختلفة حليتها، موصولة المفاصل، مدرجة الحواصل، تسعى وتحتال، وتميس وتختال، وتطوف وتجتال، فتبارك خالقها، وتعالى رازقها، من غير حاجة منها إليها، رحمة منه عليها، أوسعها رزقا، وأتقنها خلقا، وفتق منها رتقا، ووشح أعراقها، وألجم أعناقها، وطوقها أطواقها، وقسم معايشها وأرزاقها، تنظر شزرا من ورائها، وترقب النازل من سمائها، وتحرس الدائر من حوبائها، سلاحها عتيد، وبأسها شديد، ومضرتها تعديد، وتدب على ست وتطير، فسبحان من خلقها خلقا عجيبا، وجعل لها من كل ثمر وشجر نصيبا، وجعل لها إدبارا وإقبالا، وطلبا واحتيالا، حتى دبت ودرجت، وخرجت ودخلت، ونزلت وعرجت، مع المنظر الأنيق، والعصب الدقيق، والبدن الرقيق: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} ثم قال: وماذا تقولون في طير إذا طار بسط، وإذا دنا من الأرض لطع، رجلاه كالمنشار، وعيناه كالزجاج، عينه في جنبه، ورجله أطول من قامته، ألا وهي الجرادة. ثم قال: وأحسن منه: جيدها كجيد البقر، ورأسها كرأس الفرس، وقرنها كقرن الوعل، ورجلها كرجل الجمل، وبطنها كبطن الحية، تطير بأربعة أجنحة، وتأكل بلسانها، فتبارك الله ما أحسنها.

وأحسن ما فيها أنها طعام ونقل، طاهر حيا وميتا، تجدب أقواما وتخصب آخرين.

فقلنا له: ما معنى قولك: «تجدب أقواما وتخصب آخرين» ؟ قال: إنها إذا حلت البوادي والفيافي ومواضع الرمال فهي خصب لهم وميرة، وإذا حلت بمأوى الزرع والأشجار فهي تجدب، لأنها تأتي على الشوك والشجر والرطب واليابس فلا تبقي ولا تذر.

قال: وقال أيضا في تضاعيف كلامه: خادم الملك لا يتقدم في رضاه خطوة إلا استفاد بها قدمة وحظوة.

قال: وما رأيت أحدا من المشايخ كان أذكر لحال الشباب وأكثر تأسفا على ذهابه منه، فإنه إذا رأى أحدا من أقرانه قد عاجله الشيب تسلى به، ولم يزل يسأله عن حاله كيف كانت في أيام الشباب وزمن الصبا، وإذا ذكر بين يديه ما يتعلق بالشيب والشباب بكى وجدا وحن، وشكا وأن، وتذكر عهد الشباب. وكان كثيرا ما ينشد مقطعات محمود الوراق في الشيب ويبكي عليها، وأنشد يوما:

قال وأنشدنا لمحمود الوراق في الشيب وعيناه تدمعان:

قال أبو حيان: وكان أبو سعيد يفتي على مذهب الإمام أبي حنيفة وينصره، فجرى حديث تحليل النبيذ عنده، فقال له بعض الخراسانيين: أيها الشيخ دعنا من حديث أبي حنيفة وقول الشافعي، ما ترى أنت في شرب النبيذ والقدر الذي لا يسكر ويسكر؟

فقال: أما المذهب فمعروف لا عدول عنه، وأما الذي يقضيه الرأي ويوجبه العقل ويلزم من حيث الاحتياط والأخذ بالأحسن والأولى فتركه والعدول عنه، فقال له: بين لنا عافاك الله، فقال: اعلم أنه لو كان المسكر حلالا في كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان يجب على العاقل رفضه وتركه بحجة العقل والاستحسان، فإن شاربه محمول على كل معصية، مدفوع إلى كل بلية، مذموم عند كل ذي عقل ومروءة، يحيله عن مراتب العقلاء والفضلاء والأدباء، ويجعله من جملة السفهاء، ومع ذلك فيضر بالدماغ والعقل والكبد والذهن، ويولد القروح في الجوف، ويسلب شاربه ثوب الصلاح والمروءة والمهابة حتى يصير بمنزلة المخبط المخريق والمثبج، يقول بغير فهم، ويأمر بغير علم، ويضحك من غير عجب، ويبكي من غير سبب، ويخضع لعدوه، ويصول على وليه، ويعطي من لا يستحق العطية، ويمنع من يستوجب الصلة، ويبذر في الموضع الذي يحتاج فيه أن يمسك، ويمسك في الموضع الذي يحتاج فيه أن يبذر، يصير حامده ذاما وأفعاله ملومة، عبده لا يوقره، وأهله لا تقربه، وولده يهرب منه، وأخوه يفزع عنه، يتمزغ في قيئه، ويتقلب في سلحه، ويبول في ثيابه، وربما قتل قريبه، وشتم نسيبه، وطلق امرأته، وكسر آلة البيت، ولفظ بالخنا، وقال كل غليظة وفحش، يدعو عليه جاره، ويزري به أصحابه، عند الله ملوم، وعند الناس مذموم، وربما تستولي عليه في حال سكره مخايل الهموم، فيبكي دما، ويشق جيبه حزنا، وينسى القريب، ويتذكر البعيد، والصبيان يضحكون منه، والنسوان يفتعلن النوادر عليه، ومع ذلك فبعيد من الله قريب من الشيطان، قد خالف الرحمن في طاعة الشيطان، وتمكن من ناصيته، وزين في عينه إتيان الكبائر وركوب الفواحش واستحلال الحرام وإضاعة الصلاة والحنث في الايمان، سوى ما يحل به عند الافاقة من الندامة، ويستوجب من عذاب الله يوم القيامة. فقال الرجل: والله إن قولك ووصفك له أعلق بالقلب من كل دليل واضح وبرهان لائح، وحجة وأثر، وقول وخبر، فقال له: لولا ذهاب الوقت ولا عوض له لاستدللت لكل خصلة ذكرتها ولفظة أوردتها بآية من كتاب الله أو خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يقال: إن هذه الألفاظ مشتقة من ذاك مستنبطة منه، ولكن الأمر في ذلك أظهر وأشهر من أن يبين ويوضح. ولأبي حنيفة مسائل لا أرتضيها له، قد خالفه فيها أعيان الصحابة والناقلة لمذهبه، ولكن لكل أريب هفوة، ولكل جواد كبوة، والكلام إذا كثر لا يخلو من الخطأ، والقول إذا تتابع لا يعرى من التناقض، والله المعين على أمر الدنيا والدين.

قال أبو حيان، قال أبو سعيد: دخلت مسجدا بباب الشام يوما أنظر أبا منصور العمدي، فرأيت عربيا قد استلقى ومخلاته تحت رأسه، وهو يترنم بهذه الأبيات، بحلق أطيب ما يكون، وصوت أندى ما يسمع:

فقلت له: أعد الأبيات، فقال لي: دخلت علي وشغلتني عما كنت عليه، خلوت بنفسي في هذا المسجد أتمنى أماني دونها خرط القتاد، فأفسدتها علي، فحفظت الأبيات من قوله وانصرفت وتركته.

قال أبو حيان: وأنشدنا أبو سعيد السيرافي في المشيب:

ثم قال: ما رأيت أحدا كان أحفظ لجوامع الزهد نظما ونثرا، وما ورد في الشيب والشباب، من شيخنا أبي سعيد، وذاك أنه كان دينا ورعا تقيا زاهدا عابدا خاشعا، له دأب بالنهار من القراءة والخشوع، وورد بالليل من القيام والخضوع، صام أربعين سنة الدهر كله. قال: وقال لي أبو إسحاق المدائني: ما قرأت عليه خبرا ولا شيئا قط فيه ذكر الموت والقبر والبعث والنشور والحساب والجنة والنار والوعد والوعيد والعقاب والمجازاة والثواب والانذار والاعذار وذم الدنيا وتقلبها بأهلها وتغيرها على أبنائها إلا وبكى منها وجزع عندها، وربما تنغص عليه يومه وليلته، وامتنع من عادته في الأكل والشرب. وكان ينشدنا ويورد علينا من أمثاله ما كنا نستعين به ونستفيد منه ما نجعله حظ يومنا. ورأيته يوما ينشد ويبكي:

قال: ووصى يوما بعض أصحابه وكان يقرأ عليه «شرح الفصيح» لابن درستويه: كن كما قال الخليل بن أحمد: اجعل ما في كتبك رأس مالك، وما في صدرك للنفقة. قال: وأنشدنا:

قال أبو حيان: وشكا أبو الفتح القواس إليه طول عطلته، وكساد سوقه، ووقوف أمره، وذهاب ماله، ورقة حاله، وكثرة ديونه وعياله، وتجلف صبيانه، وسوء عشرة أهله معه، وقلة رضاهم به، ومطالبتهم له بما لا يقوم به، وأنه يقع ويقوم ويدخل كل مدخل حتى يحصل لنفسه وعياله بعض كفايتهم، فقال: ثق بالله خالقك، وكل أمرك إلى رازقك، وأقلل من شغبك، وأجمل في طلبك، واعلم أنك بمرأى من الله ومسمع، قد تكفل برزقك فيأتيك من حيث لا تحتسبه، وضمن لك ولعيالك قوتهم فيدر عليك من حيث لا ترتقبه، وعلى حسب الثقة بالله يكون حسن المعونة، وبمقدار عدولك عن الله إلى خلقه يكون كل المؤونة، وأنشد وذكر أنه لبعض المحدثين:

قال أبو حيان: وكان يختلف إلى مجلس أبي سعيد علي بن المستنير، وكان هذا ابن بنت قطرب، وكان أبو سعيد يعرف له تقدمه على كثير من أصحابه، وكان يرجع إلى وطأة خلق، وحسن عشرة، وحلاوة كلام، وفقر مدقع، وضر ظاهر، وحالة سيئة، وأمر مختل، ومعيشة ضيقة، وكثرة عيال ومؤونة، مع نشاط القلب، وثبات النفس، وطلاقة الوجه، والطرب والارتياح. وقرأ يوما على أبي سعيد «ديوان المرقش» وأخذ خطه بذلك وعجل الانصراف من عنده، فقال له أبو سعيد: أين عزمت؟ قال: أذهب لأصلح أمر العيال، وأتمحل وأحتال، فدعا له بالرزق والسعة والمعونة والكفاية، وهو مع ذلك ضاحك السن قرير العين، فلما انصرف قلنا له: هذا الرجل مع ما فيه لا يعرف الحزن في وجهه، ولا يشتد همه، ولا يقدر على دفعه، فالتفت بعضهم فقال: أيها الشيخ وراءه حال يخفيها عنا ويطويها منا، قال: ما أظن الأمر على ذلك، لكن الرجل عاقل، والعاقل يعلو عليه همه وحزنه فيقهرهما بعقله وعلمه، والجاهل يشتد همه وحزنه ويرى ذلك في وجهه ولا يقدر على دفعه لجهله، فاستحسنا ذلك وأثبتناه.

قال في «كتاب الامتاع»: فقال لي الوزير أين أبو سعيد من أبي علي، وأين علي بن عيسى منهما؟ وأين ابن المراغي أيضا من الجماعة؟ وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه، فكان من الجواب: أبو سعيد أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب، وأدخل في كل باب، وأخرج عن كل طريق، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق، وأروى للحديث، وأقضى في الأحكام، وأفقه في الفتوى، وأحضر بركة على المختلفة، وأظهر أثرا في المقتبسة، ولقد كتب إليه نوح بن نصر- وكان من أدباء ملوك آل سامان- سنة أربعين وثلاثمائة كتابا خاطبه فيه بالإمام، وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة، الغالب عليها الحروف وما أشبه الحروف، وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأله عنها، وكان هذا الكتاب مقرونا بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بامام المسلمين ضمنه مسائل في القرآن وأمثالا للعرب مشكلة. وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتابا خاطبه فيه بشيخ الاسلام، سأل عن مائة وعشرين مسألة أكثرها في القرآن وباقي ذلك في الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة. وكتب إليه ابن حنزابة من مصر كتابا خاطبه فيه بالشيخ الجليل وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف، وقال لي الدارقطني سنة سبعين: أنا جمعت ذلك لابن حنزابة على طريق المعونة. وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتابا خاطبه فيه بالشيخ الفرد، سأل عن سبعين مسألة في القرآن ومائة كلمة في العربية وثلاثمائة بيت من الشعر، هكذا حدثني به أبو سليمان، وأربعين مسألة في الأحكام، وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين. قال الوزير: وهذه المسائل والجوابات عندك؟ قلت: نعم، قال: في كم تقع؟ قلت: لعلها تقع في ألف وخمسمائة ورقة لأن أكثرها في الظهور، قال: ما أحوجنا إلى النظر إليها والاستمتاع بها والاستفادة منها، وأين الفراغ وأين السكون ونحن في كل يوم ندفع إلى طامة تنسي ما سلف وتوعد بالداهية. ثم قال: صل حديثك، قلت: وأما أبو علي فأشد تفردا بالكتاب، وأكثر إكبابا عليه، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد وأطرافا لغيره، وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد وبالحسد له: كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لأن هذا شيء ما تم للمبرد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه، مع سعة علمهم وفيض بيانهم، ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل، ولكنه قعد عن الكتاب على النظم المعروف.

وحدثني بعض أصحابنا أن أبا علي اشترى شرح أبي سعيد بالأهواز في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستين لاحقا بالخدمة المرسومة به والندامة الموقوفة عليه بألفي درهم، وهذا حديث مشهور وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به إلا من يزعم أنه أراد النقض عليه واظهار الخطأ فيه. وقد كان الملك السعيد هم بالجمع بينهما فلم يقض ذلك لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة. وأبو علي يشرب ويتخالع ويفارق هدي سجية أهل العلم وطريقة الديانين، وأبو سعيد يصوم الدهر ولا يصلي إلا في الجماعة، ويفتي على مذهب أبي حنيفة، ويلي القضاء سنين، ويتأله ويتحرج، وغيره بمعزل عن هذا، ولولا الإبقاء على الحرمة لأهل العلم لكان القلم يجري بما هو خاف، ويخبر بما هو مجمجم، ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى، والإعراض عن ما يوجب اللائمة أحرى. وكان أبو سعيد حسن الخط، ولقد أراده الصيمري أبو جعفر على الانشاء والتحرير فاستعفى. وقال: هذا يحتاج فيه إلى دربة وأنا عار منها، وإلى سياسة وأنا غريب فيها.

ومن العناء رياضة الهرم

وحدثنا النصري أبو عبد الله وكان يكتب النوبة للمهلبي قال: كنت أخط بين يدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد، فالتمسني يوما لأن أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته، فظن أنه لفضل العلم أقوم بالجواب من غيره، فتقدم إليه أن يكتب ويجيب، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح، ثم أخذ يحرر والصيمري يقرأ ما يكتبه، فوجده مخالفا لجاري العادة لفظا، مباينا لما يؤثره ترتيبا، قال: ودخلت في تلك الحال فتمثل الصيمري بقول الشاعر:

ثم قال لأبي سعيد: خفف عليك أيها الشيخ وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه، فخجل من هذا القول، فلما ابتدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد ثم قال للصيمري: أيها الأستاذ ليس بمستنكر ما كان مني ولا بمستكثر ما كان منه، إن مال الفيء لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذ، والكتاب جهابذة الكلام، والعلماء مستخرجوه، فتبسم الصيمري وأعجبه ما سمع وقال: على كل حال ما أخليتنا من فائدة. وكان أبو سعيد بعيد القرين لأنه كان يقرأ عليه القرآن والتفسير والفقه والفرائض والشروط والنحو واللغة والعروض والقوافي والحساب والهندسة والشعر والحديث والأخبار، وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط.

وأما علي بن عيسى فعلي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق، وعيب به لأنه لم يسلك طريق واضع المنطق بل أفرد صناعة وأظهر براعة، وقد عمل في القرآن كتابا نفيسا، هذا مع الدين الثخين والعقل الرزين.

وأما ابن المراغي فلا يلحق بهؤلاء، مع براعة اللفظ وسعة الحفظ، وقوة النفس، وبلل الريق وغزارة النفث، وكثرة الرواية، ومن نظر له في «كتاب البهجة» عرف ما أقول واعتقد فوق ما وصفت.

وأما المرزباني وابن شاذان والقرميسيني وابن الخلال وابن حيويه فلهم رواية وجمع ، ليس لهم في شيء من ذلك نقط ولا إعجام، ولا إسراج ولا إلجام.

وحدثني الشيخ الامام علم الدين القاسم بن أحمد الأندلسي شيخنا قال: حدثني تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي شيخنا، قال: بلغني أن أبا سعيد دخل على ابن دريد وهو يقول: أول من أقوى في الشعر أبونا آدم عليه السلام في قوله:

فقال أبو سعيد: يمكن إنشاده على وجه لا يكون فيه إقواء، فقال: وكيف ذلك؟

قال: بأن تنصب بشاشة على التمييز، وترفع الوجه المليح بقل، ويكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف في قوله:

وقال أبو حيان: جرى ليلة ذكر أبي سعيد السيرافي في مجلس ابن عباد، وكان ابن عباد يتعصب له، ويقدمه على أهل زمانه، ويزعم أنه حضر مجلسه، وأبان عن نفسه، وصادف من أبي سعيد بحر علم وطود حلم، فقال أبو موسى الخشكي: إلا أنه لم يعمل في «شرح كتاب سيبويه» شيئا، فنظر إليه ابن عباد متنمرا ولم يقل حرفا، فعجبت من ذلك، ثم إني توصلت ببعض أصحابه حتى سأل عن حلمه عن أبي موسى مع ذبه عن أبي سعيد فقال: والله لقد ملكني الغيظ على ذلك الجاهل حتى عزب عني رأيي ولم أجد في الحال شيئا يشفي غيظي وغلتي منه، فصار ذلك سببا لسكوتي عنه، فشابهت الحال الحلم، وما كان ذلك حلما، ولكن طلبا لنوع من الاستخفاف لائق به، فو الله ما يدري ذلك الكلب ولا أحد ممن خرج من قريته ورقة من ذلك الكتاب، وهل سبق أحد إلى مثله من أول الكتاب إلى آخره مع كثرة فنونه وخوافي

أسراره؟! وكان أبو موسى هذا من طبرستان، فعد هذا التعصب من مناقب ابن عباد، وحجب أبا موسى بعد ذلك.

ومن عجيب ما مر بي ما قرأته في «كتاب الانتصار المنبي عن فضائل المتنبي» لأبي الحسين محمد بن أحمد بن محمد المغربي راوية المتنبي وكان قد رد فيه على بعض من زعم أن شعر المتنبي مسروق من أبي تمام والبحتري، وله قصيدة عارض بها بعض قصائد المتنبي، وأخذ المغربي يرد عليه فقال: ورأيته وقد استشهد بأبي سعيد السيرافي مؤدب الأمير أبي إسحاق ابن معز الدولة أبي الحسين ابن بويه وذكر أنه أعطاه خطه بأن قصيدته خير من قصيدة أبي الطيب، قال: ومن جعل الحكم في هذا إلى أبي سعيد؟ إنما يحكم في الشعر الشعراء لا المؤدبة، وبمثل هذا جرت سنة العرب في القديم، كانت تضرب للنابغة خيمة من أدم بسوق عكاظ وتأتي الشعراء من سائر الآفاق فتعرض أشعارها عليه فيحكم لمن أجاد، وخبره مع حسان وغيره معروف، ولو كان أعلم الناس بالنحو أشعرهم لكان أبو علي الفسوي أشعر الناس، وما عرف له نظم بيت ولا أبيات ولا سمع ذلك منه. وأما إعطاء أبي سعيد خطه فيوشك أن يكون من جنس ما حدثني به المعروف بابن الخزاز الوراق ببغداد وأبو بكر القنطري وأبو الحسين ابن الخراساني، وهما وراقان أيضا من جلة أهل هذه الصنعة أن أبا سعيد إذا أراد بيع كتاب استكتبه بعض تلامذته حرصا على النفع منه ونظرا في دق المعيشة كتب في آخره، وإن لم ينظر في حرف منه: «قال الحسن بن عبد الله قد قرئ هذا الكتاب علي وصح» ليشترى بأكثر من ثمن مثله. قلت: وهذا ضد ما وصفه به الخطيب من متانة الدين، وتأبيه من أخذ رزق على القضاء، وقناعته بما يحصل من نسخه هذه، والله أعلم بما كان.

مناظرة جرت بين متى بن يونس القنائي الفيلسوف وبين أبي سعيد السيرافي رحمة الله عليه

قال أبو حيان: ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى واختصرتها، فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئا يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه. فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة، فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلاثمائة قال الوزير ابن الفرات للجماعة- وفيهم الخالدي وابن الاخشيد والكندي وابن أبي بشر وابن رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى بن الجراح وأبو فراس وابن رشيد وابن عبد العزيز الهاشمي وابن يحيى العلوي ورسول ابن طغج من مصر والمرزباني صاحب بني سامان-: أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق، فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق، وملكناه من القيام به، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، واطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا، فقال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعدكم في العلم بحارا، وللدين وأهله أنصارا، وللحق وطلابه منارا، فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما؟! فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال:

اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة، والعيون المحدقة، والعقول الجامة، والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء والحياء مغلبة، وليس البراز في معركة غاصة، كالصراع في بقعة خاصة. فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار لنفسك راجع على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمره هجنة، والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير، ونعوذ بالله من زلة القدم، وإياه نسأل حسن التوفيق في الحرب والسلم. ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به، فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطأه على سنن مرضي وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان فإني أعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح. فقال له أبو سعيد: أخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والاعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية؛ وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إن كنا نبحث بالعقل. وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن من لك بمعرفة الموزون أهو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص، وأراك بعد معرفة الوزن فقيرا إلى معرفة جوهر الموزون، وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها، فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك، إلا نفعا يسيرا من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول.

حفظت شيئا وضاعت منك أشياء

وبعد، فقد ذهب عليك شيء ها هنا: ليس كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال، وفيها ما يذرع، وفيها ما يمسح، وفيها ما يحزر، وهذا وإن 14.

كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه أيضا على ذلك في المعقولات المقررة .

والاحساسات ظلال العقول، وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة. ودع هذا: إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه حكما لهم وعليهم، وقاضيا بينهم، ما شهد لهم به قبلوه وما أنكره رفضوه؟.

قال متى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم وكذلك ما أشبهه.

قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة أنهما ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا، ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة في مثل هذا التمويه، ولكن ندع هذا أيضا: إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال: نعم، قال: أخطأت، قل في هذا الموضع بلى، قال متى: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا. قال أبو سعيد: فأنت إذن لست تدعونا إلى علم المنطق بل إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها، وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها ؟ على أنك تنقل من السريانية فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية؟

قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة قد حفظت الأغراض وأدت المعاني وأخلصت الحقائق.

قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقومت وما حرفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام، وإن كان هذا لا يكون، وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول بعد هذا: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وصفوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.

قال متى: لا ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة، والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر، وانتشر ما انتشر، وفشا ما فشا، ونشا ما نشا من أنواع العلم وأصناف الصناعة، ولم نجد هذا لغيرهم.

قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن العلم مبثوث في العالم، ولهذا قال القائل:

وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض، ولهذا غلب علم في مكان دون مكان، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة، وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة، ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة والفطرة الظاهرة والبنية المخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا، وأن السكينة نزلت عليهم، والحق تكفل بهم، والخطأ تبرأ منهم، والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم وهذا جهل ممن يظنه بهم، وعناد ممن يدعيه

عليهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال، وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عمن قبله، كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير، وله مخالفون منهم ومن غيرهم. ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه، هيهات هذا محال، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان قبل منطقه، وامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع، لأنه مفتقد بالفطرة والطباع، وأنت فلو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها وتجارينا فيها وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعبارة أصحابها لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان. وها هنا مسألة: أتقول إن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة؟ قال متى: نعم، قال: وهذا التفاوت والاختلاف بالطبيعة أو الاكتساب؟ قال: بالطبيعة، قال فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيء يرتفع به الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي؟ قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفا، قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع، وبيان ناصع؟ ودع هذا: أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه- وهو الواو- وما أحكامه وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه واحد أو وجوه؟

فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه لأن لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.

قال أبو سعيد: أخطأت لأن المنطق والنحو واللفظ والإفصاح والإعراب والإنباء والحديث والاخبار والاستخبار والعرض والتمني والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة، ألا ترى أن رجلا لو قال: نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ، لكان في جميع هذا مخرفا ومناقضا وواضعا للكلام في غير حقه، ومستعملا للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره. والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائدا على الزمان يقفو أثر الطبيعية بأثر آخر من الطبيعية، ولهذا كان المعنى ثابتا على الزمان لأن مستملي المعنى عقل، والعقل إلهي، ومادة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت. وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسما فتعار، ويسلم لك ذلك بمقدار، وإن لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضا من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة لك.

قال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.

قال أبو سعيد: أخطأت لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها، وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة. على أن ها هنا سرا ما علق بك ولا أسفر لعقلك وهو: أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها، بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وتحقيقها وتشديدها وتخفيفها وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ووزنها وميلها وغير ذلك مما يطول ذكره، وما أظن أحدا يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف؟ بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية. على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما أن اللغات تكون فارسية ولا عربية ولا تركية. ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، إلا إحكام اللغة، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطاطاليس بها مع جهلك بحقيقتها؟! وحدثني عن قائل قال لك:

حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق أنظر كما نظروا، وأتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد، ما تقول له؟ أتقول لا يصح له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت، ولعلك تفرح بتقليده لك وإن كان على باطل، أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حق، وهذا هو الجهل المبين والحكم غير المستبين.

ومع هذا: فحدثني عن الواو ما حكمه فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئا وأنت تجهل حرفا واحدا من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية، ومن جهل حرفا واحدا أمكن أن يجهل اللغة بكاملها، فإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه. وهذه رتبة العامة أو هي رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير، فلم يتأبى على هذا ويتكبر ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان؟ وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالتجوز؟

سمعتكم تقولون «في» لا يعلم النحويون مواقعها وإنما يقولون هي للوعاء كما يقولون: إن الباء للإلصاق؛ وإن «في» تقال على وجوه: يقال الشيء في الوعاء، والإناء في المكان، والسائس في السياسة والسياسة في السائس. أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها، ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب؟ فهذا جهل من كل من يدعيه، وخطل من القول الذي أفاض فيه.

النحوي إذا قال: «في» للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل، ومثل هذا كثير وهو كاف في موضع التكنية .

فقال ابن الفرات. أيها الشيخ الموفق، أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون أشد في إفحامه، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ومع ذلك فهو متشبع به.

فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع منها: معنى العطف في قولك أكرمت زيدا وعمرا، ومنها القسم في قولك والله لقد كان كذا وكذا، ومنا الائتناف كقولك:

خرجت وزيد قائم، لأن الكلام بعده ابتداء وخبر، ومنها معنى رب التي هي للتقليل نحو قوله:

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

ومنها أن تكون أصلية في الاسم كقولك: واقد واصل وافد، وفي الفعل كقولك وجل يوجل، ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه} أي ناديناه، ومثله قول الشاعر:

المعنى: انتحى بنا، ومنها معنى الحال في قوله عز وجل: {ويكلم الناس في المهد وكهلا} أي يكلم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته، ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة.

فقال ابن الفرات لمتى: يا أبا بشر أكان هذا في نحوك؟

ثم قال أبو سعيد: دع هذا، ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي، ما تقول في قول القائل: زيد أفضل الاخوة؟ قال: صحيح، قال فما تقول إن قال: زيد أفضل إخوته، قال: صحيح، قال: فما الفرق بينهما مع الصحة؟ فبلح وجنح وعصب ريقه. فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة. المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلا عن وجه صحتها، والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضا ذاهبا عن وجه بطلانها. قال متى: بين ما هذا التهجين. قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت، ليس هذا مكان التدريس، هو مجلس إزالة التلبيس مع من عادته التمويه والتشبيه، والجماعة تعلم أنك أخطأت، فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ لا في المعنى والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ؟ هذا كان يصح لو أن المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني ويرتب ما يريد في الوهم السياح والخاطر العارض والحدس الطارئ، وأما وهو يريغ أن يبرز ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر فلا بد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده، ويكون طباقا لغرضه، وموافقا لقصده.

قال ابن الفرات: يا أبا سعيد تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس والتبكيت عاملا في نفس أبي بشر. فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال مل. فقال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة، فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال أبو سعيد: إذا قلت زيد أفضل إخوته لم يجز، وإذا قلت:

زيد أفضل الاخوة جاز، والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج من جملتهم، ودليل ذلك أنه لو سأل سائل فقال: من إخوة زيد لم يجز أن تقول زيد وعمرو وبكر وخالد، وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم، فإذا كان زيد خارجا عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن يكون أفضل إخوته كما لم يجز أن يكون حمارك أفضل البغال لأن الحمار غير البغال، كما أن زيدا غير إخوته فإذا قلت: زيد أفضل الاخوة جاز لأنه أحد الاخوة والاسم يقع عليه وعلى غيره فهو بعض الاخوة، ألا ترى أنه لو قيل من الاخوة؟ عددته فيهم فقلت: زيد وعمرو وبكر وخالد، فيكون بمنزلة قولك حمارك أفره الحمير، فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس، فتقول زيد أفضل رجل وحمارك أفره حمار، فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال، وكما في عشرين درهما ومائة درهم.

فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار .

فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغا بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عنهم، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم، فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون، وجعلوا تلك الترجمة صناعة وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.

ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال: ألا تعلم يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب؟ مثال ذلك أنك تقول هذا ثوب، والثوب يقع على أشياء بها صار ثوبا، لأنه نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دون لحمته، ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته، ورقة سلكه كرقة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوب ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه.

قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره والحق الذي لا يبصره .

قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال: لهذا علي درهم غير قيراط، ولهذا الآخر علي درهم غير قيراط؟ قال متى: ما لي علم بهذا النمط. قال: لست نازعا عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق، ها هنا ما هو أخف من هذا: قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين؟ بين هذه المعاني التي تضمنها لفظ لفظ. قال متى: لو نثرت أنا أيضا عليك من مسائل المنطق شيئا لكان حالك كحالي.

قال أبو سعيد: أخطأت لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت، ثم لا أبالي أن يكون موافقا أو مخالفا، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متصلا باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد- على ما حشوتم به كتبكم- رددته أيضا، لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها. ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسلب والإيجاب، والموضوع والمحمول، والكون والفساد، والمهمل والمحصور، وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العي أقرب وفي الفهاهة أذهب، ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة، وتدعون الشعر ولا تعرفونه، وتدعون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب، وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان، فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب؟ وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان فهي أيضا ماسة إلى ما بعد البرهان، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه؟ هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق، وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلا وتستذلوا عزيزا، وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص، وتقولوا: الهلية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسية والنفسية، ثم تنمطون وتقولون: جئنا بالسحر في قولنا لا (أ) في شيء من (ب) و (ج) في بعض (ب) فلا (أ) في بعض (ج) و (أ) لا في كل (ب)، و (ج) في بعض (ب) فاذن: لا (أ) في كل (ج). هذا بطريق الخلف، وهذا بطريق الاختصاص، وهذه كلها جزافات وترهات ومغالق وشبكات، ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله، بعون الله وفضله، وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنية ومواهبه السنية يختص بها من يشاء من عباده، وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجها، وهذا الناشئ أبو العباس قد نقض عليكم وتتبع طريقكم وبين خطأكم وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال، وما زدتم على قولكم: لم يعرف أغراضنا ولا وقف على مرادنا وإنما تكلم على وهم. وهذا منكم لجاجة ونكول، ورضى بالعجز والكلول، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض: هذا قولكم في فعل وينفعل لم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم فيهما بوقوع الفعل من يفعل وقبول الفعل من ينفعل، ومن وراء ذلك غايات خفيت عليكم ومعارف ذهبت عنكم، وهذا حالكم في الإضافة، فأما البدل ووجوهه والمعرفة وأقسامها والنكرة ومراتبها وغير ذلك مما يطول ذكره فليس لكم فيه مقال ولا مجال.

وأنت إذا قلت لإنسان كن منطقيا فإنما تريد: كن عقليا أو عاقلا أو اعقل ما تقول لأن أصحابك يزعمون أن المنطق هو العقل، وهذا قول مدخول لأن المنطق على وجوه أنتم منها في سهو. وإذا قال لك آخر: كن نحويا لغويا فصيحا فإنما يريد: افهم عن نفسك ما تقول ثم رم أن يفهم عنك غيرك وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه وقدر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه- هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به، فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فاجل اللفظ بالروادف الموضحة والأشباه المقربة والاستعارات الممتعة، وشد المعاني بالبلاغة، أعني لوح منها شيئا حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وجل، وكرم وعلا، واشرح منها شيئا حتى لا يمكن أن يمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرج عنه لاغتماضه فبهذا المعنى يكون جامعا لحقائق الأشياء ولأشباه الحقائق، وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس. على أني لا أدري أيؤثر فيك ما أقول أم لا.

ثم قال: حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين، أو رفعتم بالخلاف بين اثنين، أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه والحق ما تقوله؟! هيهات، ها هنا أمور ترتفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم، وتدق عن عقولهم وأذهانهم. ودع هذا: ها هنا مسألة قد أوقعت خلافا، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك، قال قائل: لفلان من الحائط إلى الحائط، ما الحكم فيه وما قدر المشهود به لفلان، فقد قال ناس: له الحائطان معا وما بينهما، وقال آخرون: له ما بينهما، وقال آخرون: له النصف من كل واحد منهما، وقال آخرون: له أحدهما، هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأنى لك بهما، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك. ودع هذا أيضا: قال قائل: من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم كذب، ومنه ما هو خطأ، فسر هذه الجملة، واعترض عليه عالم آخر فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض، وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل، فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته والآخر لم أحصل على اعتراضه قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملا له، ثم أوضح الحق منهما، لأن الأصل مسموع لك حاصل عندك، وما يصح به أو يطرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة. فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل، والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة، وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به وينصب عليه سورا ولا يدع شيئا من داخله أن يخرج ولا شيئا من خارجه أن يدخل خوفا من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل ويشبه الباطل بالحق، وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بهذا المنطق. وأنت لو عرفت العلماء والفقهاء ومسائلهم ووقفت على غورهم في نظرهم، وغوصهم في استنباطهم وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكنايات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة، لحقرت نفسك وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوا عليه أقل في عينك من السها عند القمر، ومن الحصى عند الجبل. أليس الكندي- وهو علم في أصحابك- يقول في جواب مسألة: «هذا من جواب عدة» فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب حتى وضعوا له مسائل من هذا الشكل وغالطوه بها وأروه أنها من الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد أنه مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوش اللب، قالوا له:

أخبرنا عن الاسطقسات الأجرام واصطكاك تضاغط الأركان هل يدخل في باب وجوب الإمكان أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟ وقالوا له أيضا:

ما نسبة الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولانية؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان أو مزايلة له على غاية الإحكام؟ وقالوا له: ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله؟ وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف والفساد والفسالة والسخف، ولولا التوقي من التطويل لسردت ذلك كله. ولقد مر بي في خطه: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفروع، وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النكرة، على أن النكرة والمعرفة من باب الألسنة العارية من ملابس الأسرار الإلهية، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال البشرية. ولقد حدثني أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى، ويشمت العدو ويغم الصديق، وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق، ونسأل الله عصمة وتوفيقا نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل، إنه سميع مجيب.

قال أبو حيان: هذا اخر ما كتبت عن علي بن عيسى الشيخ الصالح باملائه، وكان أبو سعيد روى لمعا من هذه القصة، وكان يقول: لم أحفظ عن نفسي كل ما قلت، ولكن كتب ذلك القوم الذين حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضا، وقد اختل علي كثير منه.

قال علي بن عيسى: وتقوض المجلس وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد ولسانه المتصرف ووجهه المتهلل وفوائده المتتابعة. وقال له الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيها الشيخ، فقد نديت أكبادا، وأقررت عيونا، وبيضت وجوها، وحكت طرازا لا تبليه الأيام ولا يتطرقه الحدثان.

قال: قلت لعلي بن عيسى: وكم كان سن أبي سعيد يومئذ؟ قال مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشيب بلهازمه، هذا مع السمت والوقار والدين والجد، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم، وقل من تظاهر به وتحلى بحليته إلا جل في العيون، وعظم في الصدور والنفوس، وأحبته القلوب وجرت بمدحه الألسنة.

وقلت لعلي بن عيسى: أكان أبو علي الفسوي حاضرا في المجلس؟ قال: لا، كان غائبا وحدث بما كان، وكان يكتم الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور والثناء المذكور.

قال أبو حيان: وقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكرتني شيئا كان في نفسي وأحببت أن أسألك عنه وأقف عليه، أين أبو سعيد من أبي علي وأين علي بن عيسى منهما وأين المراغي أيضا من الجماعة وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه؟ (فكان من الجواب ما تقدم ذكره) .

ونظير خبر أبي سعيد مع متى خبره أيضا مع أبي الحسن العامري الفيلسوف النيسابوري، ذكره أبو حيان أيضا قال: لما ورد أبو الفتح ابن العميد إلى بغداد وأكرم العلماء استحضرهم إلى مجلسه ووصل أبا سعيد السيرافي وأبا الحسن علي بن عيسى الرماني بمال كما ذكرنا في باب أبي الفتح علي بن محمد بن العميد. قال أبو حيان: انعقد المجلس في جمادى الأولى سنة أربع وستين وثلاثمائة وغص بأهله، فرأيت العامري وقد انتدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال: ما طبيعة الباء من بسم الله، فعجب الناس من هذه المطالبة ونزل بأبي سعيد ما كاد يشده به، فأنطقه الله بالسحر الحلال، وذلك أنه قال: ما أحسن ما أدبنا به بعض الموفقين المتقدمين، فقال:

والله يا شيخ لعينك أكبر من فرارك، ولمرآك أوفى من دخلتك، ولمنثورك

أبين من منظومك، فما هذا الذي طوعت له نفسك، وسدد عليه رأيك؟ اني أظن أن السلامة بالسكوت تعافك، والغنيمة بالقول ترغب عنك، والله المستعان، فقال ابن العميد وقد أعجب بما قال أبو سعيد:

والتفت إلى العامري فقال:

ثم أقبل على ابن فارس معلمه فقال: لسنا من كلام أصحابك في الفرضة والشط .

قال أبو حيان: فلما خرجنا قلت لأبي سعيد: أرأيت أيها الشيخ ما كان من هذا الرجل الخطير عندنا الكبير في أنفسنا؟ قال: ما دهيت قط بمثل ما دهيت به اليوم، لقد جرى بيني وبين أبي بشر صاحب «شرح كتاب المنطق» سنة عشرين وثلاثمائة في مجلس أبي الفضل ابن الفرات مناظرة كانت هذه أشوس وأشرس منها.

  • دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 2- ص: 911

السيرافي العلامة، إمام النحو، أبو سعيد، الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، صاحب التصانيف، ونحوي بغداد.
حدث عن: أبي بكر بن دريد، وابن زياد النيسابوري، ومحمد بن أبي الأزهر.
حدث عنه: علي بن أيوب القمي، ومحمد بن عبد الواحد بن رزمة، وطائفة.
وكان أبوه مجوسيا فأسلم.
وكان أبو سعيد صاحب فنون، من أعيان الحنفية، رأسا في نحو البصريين، تصدر لإقراء القراءات، واللغة، والفقه، والفرائض، والعربية، والعروض، وقرأ القرآن على ابن مجاهد، وأخذ اللغة عن ابن دريد، والنحو عن أبي بكر بن السراج، وكان دينا متورعا، لا يأكل إلا من كسب يده، وولي القضاء ببعض بغداد، وكان ينسخ كل يوم كراسا أجرته عشرة دراهم لحسن خطه.
قال ابن أبي الفوارس: كان يذكر عنه الاعتزال ولم يظهر منه.
وقد جود شرح ’’كتاب سيبويه’’، وله ’’ألفات القطع والوصل’’ وكتاب ’’الإقناع’’ في النحو الذي كمله ولده يوسف، وله جزء مروي في ’’أخبار النحاة’’، وسمعنا من طريقه جزءا من أخبار الزبير بن بكار، وكان وافر الجلالة، كثير التلامذة.
عاش أربعا وثمانين سنة، ومات في رجب سنة ثمان وستين وثلاث مائة.
ومات ابنه يوسف سنة خمس وثمانين كهلا.
وكان إماما في العربية، صاحب تصانيف، فيه دين وورع.

  • دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 12- ص: 286

الحسن بن عبد الله بن المرزبان أبو سعيد القاضي السيرافي النحوي سكن بغداد، وحدث بها عن محمد بن أبي الأزهر البوشنجي، وأبي عبيد بن حربويه الفقيه، وعبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري، وأبي بكر ابن دريد، ونحوهم.
وولي القضاء ببغداد، وكان أبوه مجوسيا اسمه بهزاد، فسماه أبو سعيد عبد الله.
وعن رئيس الرؤساء شرف الوزراء، جمال الورى، أبي القاسم علي بن الحسن، قال: إن أبا سعيد السيرافي، كان يدرس القرآن، والقراءات، وعلوم القرآن، والنحو، واللغة، والفقه، والفرائض، والكلام، والشعر، والعروض والقواع، والقوافي، والحساب. وذكر علوما سوى هذه. وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وينتحل في الفقه مذهب أهل العراق.
قال رئيس الرؤساء: وقرأ على أبي بكر ابن مجاهد القرآن، وعلى أبي بكر ابن دريد اللغة، ودرسا جميعا عليه النحو، وقرأ على أبي بكر ابن السراج، وعلى أبي بكر المبرمان النحو، وقرأ عليه أحدهما القرآن، ودرس عليه الآخر الحساب.
قال: وكان زاهدا، لا يأكل إلا من كسب يده، فذكر جدي أبو الفرج عنه، أنه كان لا يخرج إلى مجلس الحكم، ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم، إلا بعد أن ينسخ عشر ورقات، يأخذ أجرتها عشرة دراهم، وتكون قدر مؤنته، ثم يخرج إلى مجلسه.
وقال ابن أبي الفوارس: وكان أبو سعيد نزها، عفيفا، جميل الأمر، حسن الأخلاق.
وقال محمد بن العباس بن الفرات: كان أبو سعيد السيرافي، عالما فاضلا، منقطع النظير في علم النحو خاصة، وكانت سنة يوم توفي ثمانين سنة.
وعن هلال بن المحسن، أنه توفي يوم الاثنين، الثاني من رجب، سنة ثمان وستين وثلاثمائة، عن أربع وثمانين سنة.
قال أبو حيان التوحيدي، في ’’ تفريط الجاحظ ’’ له: أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ، وإمام الأئمة، معرفة بالنحو، والفقه، واللغة، والشعر، والعروض، والقوافي، والقرآن، والفرائض، والحديث، والكلام، والحساب، والهندسة، افتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وجد له خطأ، ولا عثر له على زلة، وقضى ببغداد، هذا مع الثقة والديانة والأمانة والرزانة، صام أربعين سنة أو أكثر، الدهر كله.
وقال في ’’ محاضرات العلماء ’’: شيخ الدهر، وقريع العصر، العديم المثل، المفقود الشكل، ما رأيت أحفظ منه لجوامع الزهد نظما ونثرا، وكان دينا، ورعا، تقيا، نقيا، زاهدا، عابدا، خاشعا، له داب في القراءة والخشوع، وورد بالليل من القيام والخضوع، ما قرئ عليه شيء قط فيه ذكر الموت والبعث ونحوه، إلا بكى وجزع، ونغص عليه يومه وليلته، وامتنع عن الأكل والشرب، وما رأيت أحدا من المشايخ كان أذكر لحال الشباب، وأكثر تأسفا على ذهابه منه، وكان إذا رأى أحدا من أقرانه عاجله الشيب تسلى به.
وقال في ’’ الإمتناع والمؤانسة ’’: هو أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب، وأدخل في كل باب، وأخرج من كل طريق، وألزم للجادة الوسطى في الخلق والدين، وأروى للحديث، وأقضى في الأحكام، وأفقه في الفتوى، كتب إليه ملوك عدة كتبا مصدرة بتعظيمه، يسأله فيها عن مسائل في الفقه والعربية واللغة.
وكان حسن الخط، طلب أن يقرر في ديوان الإنشاء فامتنع، وقال: هذا أمر يحتاج إلى دربة، وأنا عار منها، وسياسة وأنا غريب فيها.
وفي ’’ الدر الثمين ’’ أن أبا سعيد لما شهد عند قاضي القضاة ابن معروف، وقبل شهادته، وصار من جملة عدوله، عاتبه على ذلك أحد المختصين به، وقال له: إنك إمام الوقت، وعين الزمان، والمنظور إليه، والمقتبس من علمه، تضرب إليك أكباد الأبل، ويفتقر إليك الخاص والعام، والرعايا والسلطان، فإذا توسطت مجلسا كنت المنظور في الصدر، وإذا حضرت محفلا كنت البدر، قد اشتهر ذكرك في الأقطار والبلاد، وانتشر علمك في كل محفل وناد، والألسنة مقرة بفضلك، فما الذي حملك على الانقياد لابن معروف واختلافك إليه؟ فصرت تابعا بعد أن كنت متبوعا، ومؤتمرا بعد أن كنت آمرا، وضعت من قدرك، وضيعت كثيرا من حرمتك، وأنزلت نفسك منزلة غيرك، وما فكرت في عاقبة أمرك، ولا شاورت أحدا من صحبك.
فقال: اعلم أن هذا القاضي مراده اكتساب ذكر جميل، وصيت حسن، ومباهاة لمن تقدمه، ومع ذلك فله من السلطان منزلة رفيعة، وقوله عنده مسموع، وأمره لديه متبوع، ورأيته يستضئ برأيي، ويعدني من جملة ثقاته وأوليائه، وقد عرض لي وصرح مرة بعد أخرى، وثانية عقب أولى، فلم أجب، فخفت مع كثرة الخلاف أن يكون تكرار الامتناع موجبا للقطيعة، وتوقع أضرار، وإذا اتفق أمران، فاتباع ما هو أسلم جانبا، وأقل غائلة أولى، وقد كان ما كان، والكلام بعد ذلك ضرب من الهذيان.
وكان أبو علي الفارسي وأصحابه يحسدونه كثيرا.
وله من التصانيف ’’ شرح كتاب سيبويه ’’ لم يسبق إلى مثله، وحسده عليه أبو علي وغيره من معاصريه، ’’ وشرح الدريدية ’’ و ’’ ألفات القطع والوصل ’’، و ’’ الإقناع ’’ في النحو، لم يتمه، فأتمه ولده يوسف، وكان يقول، وضع والدي النحو في المزابل بالإقناع. يعني أنه سهله جدا، فلا يحتاج إلى مفسر، و ’’ شواهد سيبويه ’’، و ’’ المدخل إلى كتاب سيبويه ’’، و ’’ الوقف والابتداء ’’، و ’’ صنعة الشعر والبلاغة ’’، و ’’ أخبار النحاة البصريين ’’، و ’’ كتاب جزيرة العرب ’’.
وهجاه أبو الفرج الأصبهاني لمنافسة كانت بينهما، بقوله:

قال أبو حيان التوحيدي: رأيت أبا سعيد، وقد أقبل على الحسين بن مردويه الفارسي، وهو يشرح له ’’ مدخل كتاب سيبويه ’’ ويقول له: اصرف همتك إليه، فإنك لا تدركه إلا بتعب الحواس، ولا تتصوره إلا بالاعتزال عن الناس. فقال: يا سيدي، أنا مؤثر لذلك، ولكن اختلال الأمور، وقصور الحال، يحول بيني وبين ما أريد، فقال: ألك عيال؟ قال: لا. قال: عليك ديون؟ قال: دريهمات. قال: فأنت ريح القلب، حسن الحال، ناعم البال، اشتغل بالدرس والمذاكرة، والسؤال والمناظرة، واحمد الله تعالى على خفة الحال. وأنشده:
وكان له خبز وملح ففيهما له بلغة حتى تجئ الفوائد
واستشارة أبو أحمد بن مزدك في تزويج ابنته، وذكر له أنه خطبها جماعة. قال له: اختر منهم من يخشى الله تعالى، فإنه إن أحبها بالغ في إكرامها، وإن لم يحبها تحرج من ظلمها.
وتأخر بعض أصحابه عن مجلسه في يوم السبت، فسأله عن سبب تأخره، فاعتذر بشرب دواء، فأنشد:

  • دار الرفاعي - الرياض-ط 0( 1983) , ج: 1- ص: 229

أبو سعيد السيرافي
وأما أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزباني السيرافي النحوي، فإن كان من أكابر الفضلاء، وأفاضل الأدباء، زاهداً، لا نظير له في علم العربية، وكان أبوه مجوسياً.
وصنف تصانيف كثيرة؛ أكبرها شرح كتاب سيبويه، ولم يشرح كتاب سيبويه أحد أحسن منه؛ ولو لم يكن له غيره لكفاه ذلك فضلاً.
قال محمد بن العباس بن الفرات: كان أبو سعيد عالماً فاضلاً، معدوم النظير في علم النحو خاصة.
وذكر رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن أن أبا سعيد السيرافي كان يدرس القرآن والقراءات وعلوم القرآن، والنحو، واللغة، والفقه، والفرائض، والكلام، والشعر، والعروض والقوافي والحساب؛ وذكر علوماً سوى هذه. وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وينتحل في الفقه مذهب أهل العراق.
وقال رئيس الرؤساء: وقرأ على ابن مجاهد القرآن، وقرأ على أبي بكر بن السراج، وعلى أبي بكر مبرمان، وقرأ أحدهما عليه النحو، وقرأ الآخر عليه الحساب.
وكان زاهداً يأكل من كسب نفسه، وكان لا يخرج إلى مجلس القضاء إلا بعد أن ينسخ عشر ورقات، يأخذ أجرتها عشرة دراهم، تكون بقدر مئونته. ثم يخرج إلى مجلسه. وكان نزيهاً عفيفاً، جميل الطريقة حسن الأخلاق.
وذكر محمد بن أبي الفوارس أنه كان يذكر عنه الاعتزال، ولم يظهر عنه شيءٌ من ذلك.
قال هلال بن المحسن: توفي أبو سعيد السيرافي يوم الاثنين ثاني رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة، في خلافة الطائع لله تعالى بن المطيع لله تعالى. ودفن بمقبرة الخيرزان ببغداد، بعد صلاة العصر من ذلك اليوم.

  • مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن-ط 3( 1985) , ج: 1- ص: 227

  • دار الفكر العربي-ط 1( 1998) , ج: 1- ص: 266

  • مطبعة المعارف - بغداد-ط 1( 1959) , ج: 1- ص: 211

الحسن بن عبد الله بن المرزبان، القاضي أبو سعيد السيرافي
ولي قضاء بغداد، وسكن الجانب الشرقي، وكان أبوه مجوسيا، واسمه بهزاد، فأسلم، فسماه ابنه عبد الله.
قرأ النحو على ابن السراج وعلى أبي بكر مبرمان واللغة على أبي بكر
ابن مجاهد وابن دريد وكان ورعا عالما، يأكل من كسب يده، ولا يخرج من بيته إلى الحكم إلا بعد نسخ عشر ورقات، يأخذ أجرتها عشرة دراهم، وكان يتجاهر بالاعتزال، وله تآليف منها: ’’شرح كتاب سيبويه’’ وأحسن فيه.
مات سنة 368

  • جمعية إحياء التراث الإسلامي - الكويت-ط 1( 1986) , ج: 1- ص: 16

  • دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع-ط 1( 2000) , ج: 1- ص: 115

الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد السّيرافيّ.
وسيراف المنسوب إليها: بلد على ساحل البحر من أرض فارس، به الآن آثار عمارة قديمة وجامع حسن، إلاّ أنّ الغالب عليه الخراب.
ولي قضاء بعض أرباع بغداد، وكان أبوه مجوسيّا اسمه بهزيار، فسمّاه ابنه أبو سعيد: عبد الله. وكان أبو سعيد هذا يدرس ببغداد القرآن وعلومه، والنّحو واللّغة، والفقه على مذهب أبي حنيفة والفرائض. قرأ القرآن على ابن مجاهد، واللّغة على ابن دريد، والنّحو على ابن السرّاج. وكان زاهدا ورعا لم يأخذ على القضاء أجرا، بل كان يأكل من أجرة نسخه، فكان لا يخرج من داره حتى ينسخ عشر ورقات أجرتها ثلاثة دراهم.
وصنّف كتبا، منها: كتاب شرح «سيبويه»: في ثلاثة آلاف ورقة، وكتاب ألفات القطع والوصل، وكتاب أخبار النّحويّين البصريّين، وكتاب شرح مقصورة ابن دريد، وكتاب الإقناع في النّحو: لم يتمّه وتمّمه ابنه يوسف، وكان يقول: وضع أبي النّحو على المزابل بكتاب الإقناع، يريد أنه سهّله حتى لا يحتاج إلى مفسّر، وكتاب شواهد كتاب سيبويه، وكتاب الوقف والابتداء، وكتاب صنعة الشّعر والبلاغة، وكتاب المدخل إلى «كتاب سيبويه»، وكتاب جزيرة العرب.
وقد أثنى عليه أبو حيّان التوحيديّ فقال: كان شيخ المشايخ، وإمام الأئمة، عارفا بالنّحو، واللّغة والشّعر، والعروض، والقوافي، والفقه، والفرائض، والحساب، والقرآن، والحديث، أفتى في جامع الرّصافة خمسين سنة، فما وجد منه خطأ، ويسّر له الصوم أربعين سنة. وقال التوحيديّ أيضا: رأيت أبا سعيد وقد أقبل على الحسين بن مردويه الفارسيّ وهو يشرح له مدخل «كتاب سيبويه» ويقول له: اصرف همتك إليه، فإنك لا تدركه إلاّ بتعب الحواسّ، ولا تتصوّره إلاّ بالاعتزال عن الناس، فقال: يا سيدي، أنا مؤثر لذلك، ولكنّ اختلال الأمور، وقصور الحال، تحول بيني وبين ما أريد، فقال: ألك عيال؟ قال: لا، قال: عليك ديون؟ قال: دريهمات، قال: فأنت ريح القلب، حسن الحال، ناعم البال، اشتغل بالدرس والمذاكرة، والسؤال والمناظرة، واحمد الله تعالى على خفّة الحاذ. وأنشده: [طويل]

واستشاره أبو أحمد بن مردك في زوج ابنته، وذكر له أنه خطبها جماعة، قال له: اختر منهم من يخاف الله تعالى، فإنه إن أحبّها بالغ في إكرامها، وإن لم يحبّها تحرّج من ظلمها.
وتأخّر بعض أصحابه عن مجلسه في يوم السبت، فسأله عن سبب تأخّره، فاعتذر بشرب دواء، فأنشد [وافر]
ولما شهد أبو سعيد عند قاضي القضاة ابن معروف، وقبل شهادته، وصار من جملة عدوله، عاتبه على ذلك أحد المختصّين به فقال: إنّك إمام الوقت، وعين الزمان، والمنظور إليه، والمقتبس من عمله، تضرب إليك أكباد الإبل، ويفتقر إليك الخاصّ والعامّ، والرعايا والسّلطان. فإذا توسّطت مجلسا كنت المنظور في الصّدر، وإذا حضرت محفلا كنت البدر، قد اشتهر ذكرك في الأقطار والبلاد، وانتشر علمك في كلّ محفل وناد، والألسنة مقرّة بفضلك، فما الذي حملك على الانقياد لابن معروف واختلافك إليه؟ فصرت تابعا بعد أن كنت متبوعا، ومؤتمرا بعد أن كنت آمرا؟ وضعت من قدرك! وضيّعت كثيرا من حرمتك، وأنزلت نفسك منزلة غيرك، وما فكّرت في عاقبة أمرك، ولا شاورت أحدا من صحبك. فقال: اعلم أنّ هذا القاضي مراده اكتساب ذكر جميل، وصيت حسن، ومباهاة لمن تقدّمه، ومع ذلك فله من السّلطان منزلة رفيعة، وقوله عنده مسموع، وأمره لديه متبوع، ورأيته يستضيء برأيي ويعدّني من جملة ثقاته وأوليائه، وقد عرض لي وصرّح مرة بعد أخرى، وثانية عقب أولى، فلم أجب، فخفت مع كثرة الخلاف أن يكون تكرار الامتناع موجبا للقطيعة، وتوقّع إضرار. وإذا اتفق أمران فاتّباع ما هو أسلم جانبا وأقلّ غائلة أولى، وقد كان ما كان، والكلام بعد ذلك ضرب من الهذيان.
وكانت وفاة السّيرافيّ يوم الاثنين ثاني شهر رجب من سنة ثمان وستين وثلاث مائة في خلافة الطائع لله، ودفن في مقبرة الخيزران.

  • دار الغرب الإسلامي - تونس-ط 1( 2009) , ج: 1- ص: 332