الحسن بن جعفر بن محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني المكي، أبو الفتوح:
أمير مكة. ولى إمرتها مدة سنين. وذكر شيخنا ابن خلدون: أنه ولى إمرتها بعد أخيه عيسى، في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. ودامت ولايته عليها ستا وأربعين سنة. انتهى.
وذكر جماعة من المؤرخين: أن أبا الفتوح هذا، خرج عن طاعة الحاكم العبيدى صاحب مصر، ودعا إلى نفسه، وخطب له بالخلافة، وتلقب بالراشد. وسبب ذلك: أن الحاكم قتل أبا الوزير أبي القاسم، المعروف بابن المغربي؛ لأنه اتهمه أنه يضرب بينه وبين وجوه دولته، وقتل معه ولده أخا أبي القاسم، وهرب أبو القاسم وأنفذ وراءه فلم يدركه، وقصد أبو القاسم آل الجراح الطائى بالرملة. ولزم حسان بن مفرج، فأجاره ومنع الطلب عنه. وفي ذلك يقول أبو القاسم الوزير من قصيدة له [من الطويل]:
فإني أتيت ابن الكريم مفرج | فأطلق من أسر الهموم عقالى |
وغير ذلك.
وحمل الوزير أبو القاسم آل الجراح على مباينة الحاكم. وكان الحاكم قد ولى مملوك أبيه يارختكين الرملة بعد هروب الوزير أبي القاسم إليها، وسير معه جيشا إليها وجعله المقدم عليهم.
ولما بلغ ذلك الوزير أبا القاسم، حسن لحسان بن مفرج قتاله. فأغار عليهم وقاتلهم وأسر مقدمهم، وحمله أسيرا وامتهنه. وسمع غناء جواريه وحظاياه وهو مقيد معه في المجلس، وارتكب منه فواحش عظيمة، وذبحه صبرا بين يديه.
فعند ذلك قال الوزير أبو القاسم، لحسان بن مفرج: الآن قد قطعت ما بينك وبين الحاكم، ولم يبق لصلحك معه موضع، ولا لك إلى الرجوع إلى طاعته مكان. فقال له: وما الرأي؟ قال: هذا أبو الفتوح أمير مكة والحجاز، في بيته وفضله وكرمه بمكان رفيع، تنصبه إماما، وتقوم معه على الحاكم، فأمر حسان الوزير أبا القاسم، بالتوجه إلى أبي الفتوح إلى مكة.
فلما وصل إليه أطمعه في الرئاسة والخلافة، وضمن له الوفاء بما بذله حسان بن المفرج من الطاعة له. فشكى أبو الفتوح إلى أبي القاسم قل ما بيده من المال، فأشار عليه الوزير أبو القاسم بأخذ ما في خزانة الكعبة من المال، وما عليها من أطواق الذهب والفضة، وضربه دراهم ودنانير، ففعل ذلك، وهي الدراهم التي يقال لها الفتحية، ثم سار أبو الفتوح وأبو القاسم قاصدين آل الجراح، ومعه نحو ألف فارس من بنى حسن، ونحو ألف عبد من قواده.
فلما قرب الرملة، تلقاه حسان وأبوه المفرج وسائر وجوه العرب، وقبلوا الأرض بين يديه، ونزل في دارهم، وخطب على منبر الرملة الخطيب ابن نباتة، ولما بلغ ذلك الحاكم، اشتد عليه وقلق. وعلم أن أبا الفتوح أهلا لما أهل له من الخلافة، فعدل عن الحرب إلى الخدعة، وعلم أن آل الجراح بينهم اختلاف في الرئاسة والرعاية، فأرسل إليهم الأموال إلى الصغير والكبير والعظيم والحقير، وبعث إلى حسان ابن المفرج بخمسين ألف دينار، وكتب إليه يغالطه في أمر يارختكين ويسهله. فأصبح أبو الفتوح، وقد عرف تغير نياتهم. فقال للوزير أبي القاسم: أغويتنى وأخرجتنى إلى هؤلاء القوم الغدارين، وأخرجتنى من بلدى ونعمتى وإمارتى، وجعلتنى في أيدي هؤلاء ينفقون سوقهم بى عند الحاكم، ويبيعونى بيعا بالدراهم، فيجب عليك أن تخلصنى كما أوقعتنى، وتسهل سبيلى بالعودة إلى الحجاز، فإني راض من الغنيمة بالإياب، ومتى لم تفعل، اضطررت إلى أن أركب فرسى، وأركب التغرير في طلب النجاة، فشجعه وثبته، وأخذ يفكر في خلاصه، وطال الأمر على أبي الفتوح، فركب دابته إلى المفرج والد حسان سرا، وقال له: إنى فارقت نعمتى وكاشفت الحاكم، وذلك لركونى إلى ذمامكم، وسكونى إلى مقامكم، ولى في عنقك مواثيق، وأنت أحق من وفى، لمكانك من قومك ورئاستهم، وإن خير ما ورثه الإنسان ولده، ما يكون له به الحمد والشكر وحسن الذكر، وأرى حسانا ولدك قد أصلح نفسه مع الحاكم، وأتبعه أكثر أصحابه، وأنا خائف من غدره بى، وما أريد إلا العود إلى الوطن، فوعده المفرج بالسلامة، وركب معه وسيره إلى وادى القرى، فتلقاه أصحابه.
[...].
وذكر صاحب الدول المنقطعة هذه القضية، وفيها مخالفة لما سبق ذكره مع زيادة فوائد. وقد رأيت أن أذكر كلامه لذلك.
ذكر أن الوزير أبا القاسم بن المغربي بعد قتل الحاكم لأبيه، سار إلى الرملة، واجتمع ببنى الجراح الطائى، ثم سار إلى مكة، واجتمع بأبى الفتوح، وأفسد نيته على الحاكم وحرضه على طلب الخلافة، فأظهر ذلك، وبايعه أهل الحرمين، وفارقه الوزير من مكة وسار إلى الرملة، فاجتمع بمفرج بن دغفل بن الجراح الطائى، وبنيه حسان ومحمود وعلى، وبايعهم لأبي الفتوح. ولما تقرر ذلك، طلع على المنبر يوم الجمعة وخطب الناس، فقال أول ما استفتح به في تحريض الناس على خلع الحاكم، أن قرأ وهو يشير إليهم:
{طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقومٍ يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}.
ولما فرغ من أخذ البيعة على آل الجراح، عاد إلى مكة وحمل أبو الفتوح على المسير معه إلى الرملة، فسار فيمن معه من الأعراب، فتلقاه مفرج وأولاده، وترجلوا له وقبلوا الأرض، ومشوا في ركابه. ودخل الرملة وتغلب على أكثر بلاد الشام، فبعث الحاكم إليهم جيوشه، مع مملوك أبيه ياروخ تكين، فحمل الوزير أبو القاسم حسان بن المفرج على أن اعترضه عند فج داروم، وواقعه وأسره ونقله إلى الرملة أسيرا وانتهبه، وسمع غناء جواريه وحظاياه وهو مقيد معه في مجلسه، وارتكب منه فواحش عظيمة، ثم قتله صبرا بين يديه، وبقى الشام أكلة لبنى الجراح، ولم يمكن الحاكم أخذهم إلا بالملاطفة، فسير إلى حسان يلاطفه بما يبذله على أن يخذل أبا الفتوح، وترددت الرسل حتى تقرر أنه يدفع إليه خمسين ألف دينار عينا، ولكل واحد من إخوته كذلك، سوى هدايا وثيابا وحظايا، تهدى إليه وإلى إخوته، وسير جميع ذلك إليهم، فمالوا عن أبي الفتوح، ودخلوا في طاعة الحاكم، ولما أحس أبو الفتوح بذلك، ركب بنفسه إلى الوزير أبي القاسم، وقال له: أنت أوقعتنى فخلصنى، فركب معه إلى مفرج وأخبراه بخبر أولاده، فقال لهما: وما تريدان منى؟ قال له العلوي، وهو أبو الفتوح: إن لي عليك حقا، وأريد أن تجاوبنى
عليه، بأن تبعث معى من يوصلنى إلى مكة، ولا تحوجنى إلى أن أركب فرسا أملس وأهرب بنفسى، فتخطفنى العرب. فضمن له مفرج ذلك، وبعث معه جماعة من طيئ، ولم يزالوا معه حتى بلغ مكة. انتهى.
وفى هذا الخبر مخالفة للخبر الأول من أوجه.
وذكر الذهبي هذا الخبر، وفيما ذكره فوائد ليست في غيره فيما سبق، مع مخالفة في بعض ذلك. وقد رأيت أن أذكر كلامه لما في ذلك من الفائدة.
قال في أخبار سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة: وكان أمير مكة الحسن بن جعفر، أبو الفتوح العلوي، فاتفق أن أبا القاسم المغربي حصل عند حسان بن المفرج الطائى، فحمله على مباينة الحاكم صاحب مصر. وقال له: لا مغمز في نسب أبي الفتوح، والصواب أن تنصبه إماما، فوافقه، فمضى أبو القاسم إلى مكة، فأطمع صاحبها أبا الفتوح بالخلافة، وسهل عليه الأمر، فأصغى لقوله وبايعه شيوخ الحسنيين، وحسن له أبو القاسم أخذ ما على الكعبة من فضة، وضربه دراهم، واتفق موت رجل بجدة معه أموال عظيمة وودائع، فأوصى منها بمائة ألف لأبي الفتوح، ليصون بها تركته والودائع، فاستولى أبو الفتوح على ذلك كله، فخطب لنفسه وتسمى بالراشد بالله، وسار لا حقا بآل الجراح.
فلما قرب من الرملة، تلقته الأعراب، وقبلوا له الأرض وسلموا عليه بالخلافة. وكان متقلدا سيفا، وزعم أنه ذو الفقار، وفي يده قضيب ذكر أنه قضيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه جماعة من بنى عمه، وبين يديه ألف عبد أسود. فنزل الرملة ونادى بإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فانزعج لذلك صاحب مصر، وكتب إلى آل حسان الطائى متلطفا، وبذل لهم أموالا جزيلة، وكتب إلى ابن عم أبي الفتوح فولاه الحرمين، وأنفذ لشيوخ بنى حسان أموالا، فقيل إنه بعث إلى حسان خمسين ألف دينار، وأهدى إليه جارية جهزها بمال عظيم، فأذعن للطاعة. وعرف أبو الفتوح الحال، وضعف وركب إلى المفرج الطائى مستجيرا به، فأجاره وكتب فيه إلى الحاكم، فرده إلى مكة. انتهى.
وكلام الذهبي يقتضى أن هذه الحادثة في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وهو وهم؛ لأن الحاكم لم يكن إذ ذاك خليفة، وإنما كان الخليفة بمصر أبوه العزيز. وبعده ولى الخلافة في سنة ست وثمانين وثلاثمائة.
وقد ذكر سبط ابن الجوزي في «المرآة»، وغيره من المؤرخين، أنها في سنة إحدى وأربعمائة، وعليه يدل كلام ابن أبي منصور في كتابه «الدول المنقطعة».
ورأيت في تاريخ شيخنا ابن الفرات: أن عصيان أبي الفتوح على الحاكم كان في سنة اثنتين وأربعمائة، وأن فيها قتل الحاكم أحمد بن أبي العلاء، مولى أبي الفتوح أمير مكة؛ لأنه كان يستوشى أخباره وينقلها إلى مولاه. وكان مولاه أقامه لذلك، وأقر عليه بذلك عطار.
وذكر بيبرس الدوادار في تاريخه: أن عصيان أبي الفتوح للحاكم، كان في سنة خمس وأربعمائة.
وذكر النويري في تاريخه، ما يقتضى أنها في سنة ثلاث وأربعمائة؛ لأنه ذكر أن أبا الفتوح لما بلغه استمالة الحاكم صاحب مصر لآل الجراح عنه، قال لهم: إن أخى قد خرج في مكة، وأخاف أن يستأصل ملكى، فأعادوه إلى مكة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعمائة.
وذكر شيخنا ابن خلدون في تاريخه: أن آل الجراح، قبضوا على أبي الفتوح وأسلموه إلى الحاكم، وأنه راجع الطاعة فعفى عنه.
وما ذكره من أن آل الجراح أسلموا أبا الفتوح للحاكم، غريب لم أره لغيره. وذكر أن أبا الفتوح سار إلى المدينة النبوية وأزال عنها إمرة بنى مهنا. وذلك سنة تسعين وثلاثمائة بأمر الحاكم، ثم رجع إلى مكة وقد عظم شأنه.
وذكر أن القادر العباسي، أرسل إلى أبي الفتوح يأمره بالطاعة له، ويعده ببقاء الإمرة فيه وفي ذريته. فأرسل كتبه إلى الحاكم بن العزيز بن المعز صاحب مصر، فأرسل إليه بالمال والخلع. فقسم ذلك في قومه.
وذكر ابن الجزري في تاريخه، حكاية اتفقت لأبي الفتوح صاحب مكة بالمدينة، نقلها عن تاريخ ابن النجار البغدادي.
وقد رأيت أن أذكرها لغرابتها:
أنبئت عمن أنبأه الحافظ ابن النجار، قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن المبارك المغربي، عن أبي المعالى صالح بن شافع الجيلي، قال: أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن محمد المعلم، قال: أنبأنا أبو القاسم عبد الحكيم بن محمد المقري الزاهد، قال: أشار بعض الزنادقة على الحاكم العبيدى بنبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه وحملهم إلى مصر، وقال له: متى تم هذا الأمر، شد الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر، فكانت منقبة يعود
جمالها على مصر وساكنيها، فدخل ذلك عقل الحاكم، فنفذ إلى أبي الفتوح يأمره بذلك. فسار أبو الفتوح حتى قدم المدينة، وحضر إليه جماعة من أهلها؛ لأنه كان بلغهم ما قدم بسببه، وكان حضر معهم قارئ يعرف بالركيانى. فقرأ بين يدي أبي الفتوح:
{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون. ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرةٍ أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم}، قال: فماج الناس وكادوا أن يقتلوا أبا الفتوح ومن معه من الأجناد، وما منعهم إلا أن البلاد كانت للحاكم.
فلما رأي أبو الفتوح ما الناس عليه، قال لهم: الله أحق أن يخشى، والله لا أتعرض لشيء من ذلك، ودع الحاكم يفعل في ما أراد، ثم استولى عليه ضيق الصدر وتقسيم الفكر كيف أجاب، فما غابت الشمس في بقية ذلك اليوم، حتى أرسل الله تعالى من الريح ما كادت الأرض تزلزل منه، وتدحرجت الإبل بأقتابها والخيل بسروجها، كما تدحرج الكرة على وجه الأرض، وهلك خلق كثيرون من الناس، وانفرج هم أبي الفتوح لما أرسل الله تعالى تلك الرياح التي شاع ذكرها في الآفاق، لتكون له حجة عند الحاكم من الامتناع من نبش القبور الكريمة. انتهى.
وذكر أبو عبيد البكري: أن الحاكم أنفذ إلى أبي الفتوح هذا أيضا، سجلا تنقص فيه بعض الصحابة رضي الله عنهم. وجرح به بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأنفذه الأمير - يعنى أبا الفتوح - إلى القاضي الموسوى، أظنه إبراهيم بن إسماعيل السابق، وهو قاضي مكة وما والاها، وأمره بقراءته على الناس، فغضب لذلك المجاورون من القاطنين وغيرهم من قبائل العرب. فلما بلغ ذلك القاضي، أرجأ الخروج وتباطأ، وذلك في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
واتفق بمكة في ولاية أبي الفتوح عليها قضية أخرى عجيبة، ذكرها جماعة من المؤرخين منهم الذهبي، قال في أخبار سنة ثلاث عشرة وأربعمائة: فيها عمد بعض المصريين إلى الحجر الأسود، فضربه بدبوس كسر منه قطعا، فقتله الحاج، وثار أهل مكة بالمصريين، فنهبوهم وقتلوا منهم جماعة، ثم ركب أبو الفتوح الحسن بن جعفر، فأطفأ الفتنة وردهم عن المصريين.
وهذه الحادثة مذكورة بأكثر من هذا في كتابنا شفاء الغرام ومختصراته، فأغنى عن ذكر هاهنا.
وذكر أبو عبيد البكري، في كتاب «المسالك والممالك» أن أبا الفتوح هذا، في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، حشد قبائل العرب وحارب رجلا من بنى حرام، استولى على مدينة حلى، خالف صاحب اليمن، ودعا إلى نفسه، فأخذها أبو الفتوح منه وغلب الحرامى. انتهى.
وكانت وفاة أبي الفتوح هذا في سنة ثلاثين وأربعمائة، على ما ذكر ابن الأثير.
أبو الفتوح صاحب مكة:
هو الحسن بن جعفر بن محمد الحسني.