السيد جمال الدين ويقال محمد جمال الدين

ابن السيد صفدر الحسيني الهمذاني الأسدآبادي الشهير بالسيد جمال الدين الأفغاني ولد في شعبان سنة 1254 في أسدآباد من توابع همذان وتوفي في شوال سنة 1314 أو سنة 1315 في استانبول وصلي عليه في جامع التشويقية ودفن في مقبرة شيخلر مزارلغي أي مقبرة المشايخ التي تختص بقبور الأولياء والعلماء على مقربة من الجامع المذكور.

(والأسد آبادي) نسبة إلى أسدآباد قرية على بعد سبعة فراسخ من مدينة همذان إلى جهة العراق بين همذان وكرمانشاه فيها نحن 800 بيت وعدد سكأنها نحو 4000 نسمة.

سبب وفاته

اختلف في سبب وفاته على أقوال لا يرجع أكثرها إلى مستند فتلميذه صادق خان البروجردي الآتي ذكره يقول فيما نقله عنه السيد صالح الشهرستاني في مجلة العرفان: لما وصلت إلى الآستانة علمت أنه مات مسموما في فنجان قهوة، وجرجي زيدان والشرقاوي يقولان انه توفي بمرض السرطان الذي أصابه في فكه، والشيخ مصطفى عبد الرزاق المصري يقول إنه لقح في شفته بمادة سامة سببت له حالة تشبه السرطان، والسيد هبة الدين الشهرستاني يقول في بعض مذكراته: اتهم السلطان عبد الحميد بالايعاز إلى الطبيب الذي اجرى له في حلقه عملية جراحية فقطع منه الوريد. ويقول الأمير شكيب أرسلان فيما علقه على كتاب حاضر العالم الإسلامي انه ظهر في حنكه مرض السرطان فأمر السلطان عبد الحميد كبير جراحي القصر قمبور زاده إسكندر باشا وهو مقرب عند السلطان عبد الحميد جدا إن يجري له عملية جراحية لم تنجح ومات بعد أيام قلائل فقيل إن العملية لم تعمل على الوجه اللازم لها عمدا وقيل لم تلحق بالتطهيرات الواجبة فنا، وينقل عن صديقه الكونت لاون استروروع المستشرق انه حدثه في لوزان إن المترجم كان صديقه فدعاه إليه بعد اجراء العملية الجراحية وقال له إن السلطان أبى إن يتولى العملية إلا جراحه الخاص وانه هو رأى حاله ازدادت شدة بعد العملية فيرجو منه إن يرسل إليه جراحا فرنسويا طاهر الذمة لينظر في عقب العملية فأرسل إليه الدكتور (لاردي) فوجد إن العملية لم تجر على وجهها ولم تعقبها التطهيرات اللازمة وان المريض قد أشفى، قال: وقال لي واحد ممن كانوا في خدمة عبد الحميد وقد رويت له هذه القصة إن قمبور زاده إسكندر باشا كان أطهر وأشرف من إن يرتكب مثل تلك الدناءة لكن كان رجل عراقي اسمه جارح طبيب أسنان يتردد كثيرا على جمال الدين ويعاين له أسنانه وكانت نظارة الضابطة قد جعلت جارحا هذا جاسوسا على المترجم، قال لي صاحب هذه الرواية فأردت إن امنع جارحا من الاختلاط بجمال الدين فأشار إلي ناظر الضابطة إن أتركه ولم تمض أشهر حتى ظهر السرطان في فك المترجم من الداخل وأجريت له عملية جراحية فلم تنجح، وجارح هذا ملازم للمريض، وبعد موته كنا نراه دائما حزينا كئيبا كاسف البال واجم الوجه خزيان بما جعلنا نشتبه في إن يكون ذا يد في إفساد الجرح أو في توليد المرض نفسه، لا أجزم بكونه هكذا فعل لكنني أجزم بأنه كان جاسوسا على المترجم وكل هذه الأقوال المتضاربة حدس وتخمين لا يستند واحد منها إلى دليل ويقع مثلها من الناس في أمثال هذه المقامات والظاهر أنه مات حتف انفه بمرض السرطان أو غيره.

هو إيراني لا أفغاني

أما نسبته إلى الأفغان واشتهاره بالأفغاني فمن المشهورات التي لا أصل لها -ورب مشهور لا أصل له- وسبب اشتهاره بذلك انه نسب نفسه إلى الأفغان في مصر وخلافها لا إلى إيران تعمية للأمر، ولولا ذلك لما سمي بحكيم الإسلام وفيلسوف الشرق، ولا كانت له هذه الشهرة الواسعة، ولا انزله الصدر الأعظم علي باشا في استانبول منزلة الكرامة، ولا اقبل عليه بما لم يسبق لمثله، ولا عظمه الوزراء والأمراء ولا عين عضوا في مجلس المعارف ولا اجرت له حكومة مصر ألف قرش مصري مشاهرة ولا عكف عليه الطلبة للتدريس في مصر، ولا تمكن الشيخ محمد عبده إن يصاحبه ويأخذ عنه ويتخذه مرشدا وصديقا حميما إلى غير ذلك مما يأتي. ومع ذلك فقد انتدب بعض المصريين لذمه في كتاب مطبوع رأيت اسمه ولم أره سماه فيه بكلب العجم.

ويقال انه سئل عن سبب قوله انه أفغاني فأجاب بان ذلك للتخلص من مضايقة مأموري إيران في الخارج ولكن الصواب ما مر. ومن هنا يلزم إن لا يعتمد على المشهورات دينية كانت أو عادية قبل البحث والتنقيب والتحقيق والتمحيص، خصوصا ما يوافق الميول المذهبية والعقائد الخاصة. فهذا الرجل قد ترجمه تلميذه وخريجه الشيخ محمد عبده المشهور في صدر رسالة المترجم في الرد على الدهرية، وبالطبع قد تلقى هذه المعلومات من أستاذه المذكور كما يدل عليه قوله الآتي: وأنا نذكر مجملا من خبره نرويه عن كمال الخبرة وطول العشرة قال في جملة ما قال: هو من بيت عظيم في بلاد الأفغان يتصل نسبه بالسيد علي الترمذي المحدث المشهور ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي. وآل هذا البيت عشيرة وافرة العدد تقيم في خطة (كنر) من أعمال كابل تبعد عنها مسيرة ثلاثة أيام ولهذه العشيرة منزلة علية في قلوب الأفغانيين لحرمة نسبها وكانت لها سيادة على جزء من الأراضي الأفغانية تستقل بالحكم فيها وإنما سلب الإمارة من أيديها دوست محمد خان أحد أمراء الأفغان وأمر بنقل السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل وانه ولد السيد جمال الدين في قرية (أسعدآباد) الصواب أسدآباد - من قرى (كنر) وانتقل بانتقال أبيه إلى مدينة كابل وانه دخل في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان ولما زحف الأمير إلى هراة ليفتحها على السلطان أحمد شاه صهره وابن عمه سار السيد جمال الدين معه في جيشه ولازمه مدة الحصار إلى إن توفي الأمير وفتحت المدينة وتقلد الإمارة ولي عهدها شير علي خان سنة 1280 وأشار عليه وزيره محمد رفيق خان إن يقبض على اخوته وكان منهم في الجيش ثلاثة محمد أعظم ومحمد اسلم ومحمد أمين وكان هوى السيد جمال الدين مع محمد أعظم فأحسوا بذلك وفروا كل إلى ولايته التي كان يليها أيام أبيه وبعد مجالدات عنيفة عظم أمر محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن وتغلبا على عاصمة المملكة وأنقذا محمد أفضل والد عبد الرحمن من سجن غزنة وسمياه أميرا على أفغانستان ومات بعد سنة وقام في الإمارة بعد شقيقه محمد أعظم وارتفعت منزلة السيد جمال الدين عنده فاحله محل الوزير الأول وعظمت ثقته به فكان يلجأ لرأيه في العظائم وما دونها - على خلاف ما تعوده أمراء تلك البلاد من الاستبداد المطلق وعدم التعويل على رجال حكومتهم - وكادت تخلص حكومة الأفغان لمحمد أعظم بتدبير السيد جمال الدين لولا سوء ظن الأمير بالأغلب من ذوي قرابته الذي حمله على تفويض مهمات الأعمال إلى أبنائه الأحداث فساق الطيش أحدهم وهو حاكم قندهار على منازلة عمه شير علي في هراة، فلما تلاقى مع جيش عمه دفعته الجرأة على الانفراد عن جيشه في مائتي جندي واخترق بها صفوف أعدائه فأوقع الرعب في قلوبهم وكادوا ينهزمون لولا إن يعقوب خان قائد شير علي التفت فوجد ذلك الغر المتهور منقطعا عن جيشه فكر عليه وأخذ ه أسيرا وتشتتت جند قندهار وحمل شير علي على قندهار واستولى عليها وبعد حروب هائلة تغلب شير علي وانهزم محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن فذهب عبد الرحمن إلى بخارى وذهب محمد أعظم إلى إيران ومات بعد أشهر في نيسابور وبقي السيد جمال الدين في كابل ولم يمسه الأمير بسوء احتراما لعشيرته إلا انه لم ينصرف عن الاحتيال للغدر به فرأى السيد جمال الدين خيرا له إن يفارق بلاد الأفغان فاستأذن للحج فإذن له على شرط إن لا يمر ببلاد إيران كيلا يلتقي فيها بمحمد أعظم فارتحل عن طريق الهند سنة 1285 إلى إن قال: أما مذهبه فحنيفي حنفي طبعا لأن الغالب على الأفغانيين المذهب الحنفي قال وهو وان لم يكن في عقيدته مقلدا لكنه لم يفارق السنة الصحيحة مع ميل إلى مذهب الصوفية "انتهى محل الحاجة".

وكل ذلك لا نصيب له من الصحة بل يشبه قصص ألف ليلة وليلة والظاهر إن جمال الدين كان يملي هذه القصص على تلميذه الشيخ محمد عبده مبالغة في تعميةالأمر وإغراقا في اثبات انه أفغاني. فالرجل إيراني أسدآبادي همذاني لا أفغاني ولا كابلي ولا كنري بل لعله لم ير الأفغان ولا كابل في عمره، وعشيرته في أسدآباد حتى اليوم لم تكن لها سيادة على جزء من ارض الأفغان ولا دخل الأفغان واحد منها.

قال السيد صالح الشهرستاني فيما كتبه في مجلة العرفان ج 24: لا يزال يوجد في أسدآباد من أفراد قبيلة وأولاد وأعمام وعمات وأخوان وأخوات السيد جمال الدين ما ينيف على الخمسين نسمة بين ذكر وأنثى ومنهم أحد أحفاد أخي السيد جمال الدين وهو السيد محمود ابن السيد كمال ابن السيد مسيح المتوفي عام 1300 أخي السيد جمال الدين ابن السيد صفدر. وهو مدرس مدرسة القرية عام 1351 قال ولا تزال الغرفة التي ولد فيها السيد جمال الدين في دار والده الواقعة في محلة (سيدان) أي السادات على حالها حتى اليوم، وتعرف أسدآباد عند أهل القرى المجاورة بقرية السيد جمال الدين. وقال: إن السيد محمود المذكور أهداه نسخة من كتاب فارسي فيه تاريخ حياة السيد جمال الدين منذ ولادته حتى وفاته بقلم ابن أخت السيد جمال الدين الميرزا لطف الله الأسدآبادي، وأمه هي السيدة طيبة بيگم بنت السيد صفدر أخت جمال الدين وهو صاحب المذكرات عن خاله المذكور بالفارسية المطبوعة في برلين.

وكل ما بني على كونه أفغانيا من دخوله في سلك رجال الحكومة الأفغانية وحضوره بعض حروبها وميله إلى بعض أمرائها وحلوله عند محل الوزير وإرادة بعضهم الغدر به وخروجه منها بحجة الحج كله لا أصل له أريد به تكميل القصة المخترعة تمهيدا لكيفية وصوله إلى مصر وغيرها وبيانا لسببها المخترع ولعله كان لا يحب إن يظهر انه منفي من قبل شاه إيران أو كان يريد إن يبالغ في تحقيق أفغانيته التي البس نفسه إياها، ومذهبه شيعي كما هو مذهب آبائه وأجداده وعشيرته وأهل بلده، حنيفي جعفري لا حنفي، فانظر إلى هذاالأمر الذي اشتهر وشاع بين الناس في كل صقع وقطر ودون في الكتب المطبوعة التي طبع منها الألوف وانتشرت في أقطار الدنيا في عصر المترجم وليس له أصل، تعلم صدق القول بأنه رب مشهور لا أصل له مع كون رب للتكثير لا للتقليل، هذا في أمر لا أهمية له فما ظنك بما يكون له نصيب مما يسمونه السياسة والملك ونصرة العقيدة والنحلة وأمثال ذلك. ولعلها إذا مضت مدة طويلة يصبح كونه إيرانيا أو أفغانيا من الأمور المختلف فيها وينتصر لكل فريق.

ولا ندري هل كان الشيخ محمد عبده يعرف حقيقة حاله ويخفيها لخوفه مما خاف منه جمال الدين بصحبته له وأخذ ه عنه أو كان يجهلها، الله اعلم.

وفي كتاب حاضر العالم الإسلامي تأليف (لوتروت ستودارد) الأميركي وتعريب عجاج نويهض ج 11 ص 135 إن السيد جمال الدين ولد في (أسدآباد) بالقرب من همذان في بلاد فارس وهو أفغاني الأرومة لا فارسي ينحدر نسبا - كما يدل عليه لقبه هذا - من العترة النبوية الطاهرة ويجري في عروقه الدم العربي البحت الكريم.

فتراه قد نطق بالصواب من كونه ولد في بلاد إيران في أسدآباد بالقرب من همذان وجمع بين ذلك وبين كونه أفغانيا كما يدل عليه لقبه بأن أصل آبائه من الأفغان والذي دعاه إلى ذلك اعتقاده إن هذا اللقب لقب صحيح. أما بعد ما عرفت عدم صحة هذا اللقب فتعرف فساد هذا الجمع.

وقال الأمير شكيب أرسلان فيما علقه على كتاب حاضر العالم الإسلامي: إن كل من عرفوا السيد جمال الدين علموا منه انه من أفغانستان، وانه من سادات كنر الحسينية المشهورين في تلك الديار ووالده السيد صفتر وكان مولده في أسدآباد بقرب كنر سنة 1254 هجرية وفق 1838 ميلادية وكذلك عرف به كبير تلاميذه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في صدر رسالة رد الدهريين تأليف السيد جمال الدين. ولقد لقيت في المدينة المنورة قبل الحرب العامة بأشهر السيد حسينا أحد ولاة أفغانستان، ومن سادات كنر المشار إليهم ومن أفاضلهم وعلمت منه إن السيد جمال الدين رحمه الله هو منهم، كما إني سمعت ذلك من جميع رجال الدولة الأفغانية وسفرائها الذين جمعتنا بهم التقادير في أوروبا بعد تأسيس سفاراتهم بها، فلا اعلم كيف تتفق كل هذه الروايات من أهل تلك الديار على كون المترجم أفغاني الدار علويا حسينيا من أسرة نسبتهم كالشمس ومقامهم في بلاد الأفغان أشهر من إن ينوه به، ويكون في الحقيقة من همذان ومولودا بها (ونقول) هكذا ينشأ من الأخبار التي لا صحة لها إذا جمعت مع الأخبار الصحيحة تناقضات يعجز الافهام توجيهها أو توجه بتوجيهات باردة فاسدة وشواهد ذلك كثيرة للمتتبع لو أمكنتنا الفرصة لأشرنا إلى جملة منها. أما ما ذكره الأمير شكيب من أنه علم من السيد حسين أحد ولاة أفغانستان ومن سادات كنر إن السيد جمال الدين منهم وأنه سمع ذلك من جميع رجال الدولة الأفغانية وسفرائها في أوروبا فيشبه خبر "كذبت سمعي وبصري وصدقت القرآن" والظاهر إن هؤلاء الجماعة أرادوا الافتخار بانتساب السيد جمال الدين إلى بلادهم فصدقوه بدون علم ولم يشاؤوا إن يتبروا من هذه المنقبة مع عدم جزمهم بفسادها لجهلهم حقيقة الحال. أقوال المترجمين فيه

كان السيد جمال الدين ذكيا متوقد الذكاء فصيح الكلام بليغه عالي الهمة قليل النوم كثير التفكير سريع البديهة حسن الأخلاق يتقن اللغات العربية والفارسية والإنكليزية وآدابها وقليلا من التركية والفرنسية، له جاذبية لكل من حادثه وجالسه، ميالا بطبعه إلى الحركة ومعارضة الحكام والدعوة إلى الإصلاح وترك القديم جريئا. ويكشف عن بعض نفسيته، تلونه في لباسه فقد رأينا صورته في مجلة العرفان تارة بالعمامة الإيرانية السوداء الكبيرة والعباءة وأخرى بالكفية

-أو الكوفية- والعقال اللف وثالثة بالعمامة البيضاء والطربوش والجبة ورابعة بالطربوش بدون عمامة. وقال السيد صالح الشهرستاني فيما كتبه في مجلة العرفان ولعله أخذه من الكتاب الفارسي الذي قال إن فيه ترجمته: إن السيد صفدر والد السيد جمال الدين جاء إلى طهران مع ولده جمال الدين أوائل عام 1266 وبعدما مكثا فيها ما يزيد على خمسة أشهر سافرا إلى العراق ودخلا النجف في عصر الشيخ مرتضى الأنصاري فاعتنى الأنصاري بجمال الدين وبقي السيد صفدر في النجف مدة شهرين ثم عاد إلى أسدآباد وبقي جمال الدين في النجف أربع سنوات درس في السنتين الأوليتين منها العلوم الأولية والمتوسطة من دينية وعربية وفي السنتين الأخيرتين العلوم العالية من التفسير والحديث والفقه والأصول والكلام والمنطق والحكمة الإلهية والرياضيات والطبيعيات ومقدمات الطب والتشريح والهيئة والنجوم وغيرها والذي يعرفه المتأمل إن من أراد إن يدرس كل هذه العلوم في ضمن أربع سنوات يكون قد أضاع الأربع السنوات من عمره مهما بلغ في الذكاء والفطنة والذي نظنه انه قرأ في هذه المدة العلوم العربية والمنطق وشيئا من الكلام والهيئة. والرجل كان ذكيا منطقيا استطاع بذكائه وفطنته وفصاحة لسانه وقوة بيانه إن ينخرط في سلك العلماء الكبار بعلم قليل حصله في هذه المدة. ثم يقول الشهرستاني إن الشيخ مرتضى كان يوليه لطفا وعطفا وحبا ويبشر أباه في رسائله إليه بحسن مستقبله فحسده على ذلك بعض الطلاب من زملائه واضمر له السوء فاطلع الأنصاري على ذلك فأرسل جمال الدين إلى الهند مع بعض خواصه المسمى البير فأوصله إلى بمبئي وهو لم يتجاوز الخمسة عشر عاما وهذا كسابقه لا يساعد عليه النظر الصادق والذي يلوح انه بعد ما بقي في النجف أربع سنين تاقت نفسه إلى السفر بما طبع عليه من حب الأسفار. وفي كتاب حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروت ستودارد الأميركي وترجمة عجاج نويهض ج 1 ص 135 كان جمال الدين سيد النابغين الحكماء، وأمير الخطباء البلغاء وداهية من أعظم الدهاة دامغ الحجة قاطع البرهان ثبت الجنان متوقد العزم شديد المهابة كان في ناسوته اسرار المغنطيسية فلهذا كان المنهاج الذي نهجة عظيما. وكانت سيرته كبيرة فبلغ من علو المنزلة في المسلمين ما قل إن يبلغ مثله سواه. وكان سائحا جوابا، طاف العالم الإسلامي قطرا قطرا وجال غربي أوروبا بلدا فاكتسب من هذه السياحات الكبرى ومن الاطلاع العميق والتبحر الواسع في سير العالم والأمم علما راسخا واكتنه اسرار خفية واستبطن غوامض كثيرة، فاعانه ذلك عونا كبيرا على القيام بجلائل الأعمال التي قام بها. وكان جمال الدين بعامل سجيته وطبعه وخلقه داعيا مسلما كبيرا فكأنه على وفور استعداده ومواهبه إنما خلقه الله في المسلمين لنشر الدعوة فحسب فانقادت له نفوسهم وطافت متعاقدة من حوله قلوبهم فليس هناك من قطر من الأقطار الإسلامية وطئت ارضه قدما جمال الدين إلا وكانت فيه ثورة فكرية اجتماعية لا تخبو نارها ولا يبرد أوارها وكان يختلف عن السنوسي منهاجا فجمال الدين كان أول مسلم أيقن بخطر السيطرة الغربية المنتشرة في الشرق الإسلامي وتمثل عواقبها فيما إذا طال عهدها وامتدت حياتها ورسخت في تربة الشرق قدمها وأدرك شؤم المستقبل وما سينزل بساحة الإسلام والمسلمين من النائبة الكبرى إذا لبث الشرق الإسلامي على حال مثل حاله التي كان عليها، فهب جمال يضحي نفسه ويفني حياته في سبيل ايقاظ العالم الإسلامي وانذاره بسوء العقبى، ويدعوه إلى اعداد ذرائع الدفاع لساعة يصيح فيها النفير. فلما اشتهر شأن جمال خشيت الحكومات الاستعمارية أمره وحسبت له ألف حساب، فنفته بحجة انه هائج المسلمين ولم تخف دولة جمالا وتضطهده مثل ما خافته واضطهدته الدولة البريطانية، فسجنته في الهند مدة ثم أطلقت سراحه. فجاء إلى مصر حوالي سنة 1880 وكانت له يد في الثورة العرابية التي أوقدت نارها في وجه الغربيين فلما احتل الإنكليز مصر 1882 نفوا جمالا للحال، فزايل مصر وأنشأ يسيح في مختلف البلدان حتى وصل إلى القسطنطينية فتلقاه عبد الحميد بطل الجامعة الإسلامية بالمبرة والكرامة، وقربه منه ورفع منزلته، فسحر جمال السلطان الداهية بتوقد ذكائه ونفسه الكبيرة فقلده رياسة العمل في سبيل الدعوة للجامعة الإسلامية، ويغلب إن ما ناله السلطان عبد الحميد من النجاح في سياسته في سبيل الجامعة الإسلامية إنما كان على يد جمال الدين المتوقد الهمة المشتعل العزم، والتحق جمال الدين بالرفيق الأعلى سنة 1896 شيخا وعاملا كبيرا في سبيل النهضة الإسلامية حتى النفس الأخير من أنفاسه.

وقال الأمير شكيب فيما علقه على كتاب حاضر العالم الإسلامي:

السيد محمد بن صفتر صوابه صفدر من أعاظم رجال الإسلام في القرن التاسع عشر، كان بحسب رأي براون فيلسوفا كاتبا خطيبا صحفيا، وقبل كل شيء كان رجلا سياسيا يرى فيه مريدوه وطنيا كبيرا، وأعداؤه مهيجا خطيرا. وقد كان له تأثير عظيم في حركات الحرية والمنازع الشوروية التي جدت في العشرات الأخيرة من هذه السنين في الحكومات الإسلامية وكانت حركته ترمي إلى تحرير هذه الممالك من السيطرة الأوروبية وانقاذها من الاستغلال الأجنبي والى ترقية شؤونها الداخلية بتأسيس إدارات حرة. وكذلك كان يفكر في جمع هذه الحكومات بأجمعها ومن جملتها إيران الشيعية حول الخلافة الإسلامية لتتمكن بذلك الاتحاد من منع التدخل الأوروبي في أمورها، فجمال الدين بقلمه ولسانه أصدق ممثل لفكرة الجامعة الإسلامية.

وقال الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في ترجمته التي صدر بها رسالة السيد جمال الدين في الرد على الدهرية بعد حذف ما يتعلق بكونه أفغانيا مما مر: يحملنا على ذكر شيء من سيرة هذا الرجل الفاضل ما رأيناه من تخالف الناس في أمره وتباعد ما بينهم في معرفة حاله وتباين صوره في مخيلات اللاقفين لخبره حتى كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله والرجل في صفاء جوهره وزكاء مخبره لم يصبه وهم الواهمين ولم يمسه ضرر الخراصين وأنا نذكر مجملا من خبره نرويه عن كمال الخبرة وطول العشرة هو السيد محمد جمال الدين ابن السيد صفتر - الصواب صفدر - ولد في أسعدآباد -الصواب أسدآباد- سنة 1254 هجرية وفي السنة الثامنة من عمره اجلس للتعلم وعني والده بتربيته وأيد العناية به قوة في فطرته وإشراق في قريحته وذكاء في مدركته فأخذ من بدايات العلوم ولم يقف دون نهاياتها تلقى علوما جمة برع في جميعها فمنها العلوم العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عام وخاص ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوف ومنها علوم عقلية من منطق وحكمة عملية سياسية ومنزلية وتهذيبية وحكمة نظرية طبيعية والاهية ومنها علوم رياضية من حساب وهندسة وجبر وهياة أفلاك ومنها نظريات الطب والتشريح أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين على الطريقة المعروفة في تلك البلاد وعلى ما في الكتب الإسلامية المشهورة واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من سنه ثم عرض له سفر إلى البلاد الهندية فأقام بها سنة وبضعة أشهر ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الأوروبية الجديدة أما مقصده السياسي الذي قد وجه إليه أفكاره وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله فهو انهاض دولة إسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام على شؤونها حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة والدولة بالدول القوية فيعود للإسلام شانه وللدين الحنيفي مجده ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقية وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية وله في عداوة الإنكليز شؤون يطول بيانها. أما منزلته من العلم وغزارة المعارف فليس يحدها قلمي إلا بنوع من الإشارة إليها: لهذا الرجل سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وابرازها في صورها اللائقة بها كان كل معنى قد خلق له، وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش فنظرة منه تفكك عقدها، كل موضوع يلقى إليه يدخل للبحث فيه كأنه صنع يديه فيأتي على أطرافه ويحيط بجميع أكنافه ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع كأن ذهنه عالم الصنع والابداع وله لسن في الجدل وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيهما أحد إلا إن يكون في الناس من لا نعرفه وكفاك شاهدا على ذلك أنه ما خاصم أحدا إلا خصمه ولا جادله عالم إلا ألزمه وقد اعترف له الأوروبيون بذلك بعد ما أقر له الشرقيون وبالجملة فاني لو قلت إن ما آتاه الله من قوة الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة هو أقصى ما قدر لغير الأنبياء لكنت غير مبالغ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

أما أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفائه وله حلم عظيم يسع ما شاء الله إن يسع إلى إن يدنو منه أحد ليمس شرفه أو دينه فينقلب الحلم إلى غضب تنقض منه الشهب فبينما هو حليم أواب إذا هو أسد وثاب. وهو كريم يبذل ما بيده قوي الاعتماد على الله لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر عظيم الأمانة سهل لمن لاينه صعب على من خاشنه طموح إلى مقصده السياسي الذي قدمناه إذا لاحت له بارقة منه تعجل السير للوصول إليه وكثيرا ما كان التعجل علة الحرمان وهو قليل الحرص على الدنيا بعيد من الغرور بزخارفها ولوع بعظائم الأمور عزوف عن صغارها شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه إلا انه حديد المزاج وكثيرا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة إلا انه صار اليوم في رسوخ الأطواد وثبات الأفناد فخور بنسبه إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم لا يعد لنفسه مزية ارفع ولا عزا امنع من كونه سلالة ذلك البيت الطاهر وبالجملة ففضله كعلمه والكمال لله وحده.

أما خلقه فهو يمثل لناظره عربيا محضا من أهالي الحرمين فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز حماه الله. ربعة في طوله وسط في بنيته قمحي في لونه عصبي دموي في مزاجه عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين عظيم الأحداق ضخم الوجنات رحب الصدر جليل في النظر هش بش عند اللقاء قد وفاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خلقه. بقي علينا إن نذكر له وصفا لو سكتنا عنه سئلنا عن إغفاله وهو انه كان في مصر يتوسع في اتيان بعض المباحات كالجلوس في المتنزهات العامة، والأماكن المعدة لراحة المسافرين، وتفرج المحزونين، لكن مع غاية الحشمة وكمال الوقار. وكان مجلسه في تلك المواضع لا يخلو من الفوائد العلمية، فكان بعيدا عن اللغو منزها عن اللهو، وكان يوافيه فيها كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم. وهذا الوصف ربما عده عليه بعض حاسديه، لكن الله يحب إن تؤتى رخصه كما يحب إن تؤتى عزائمه، وأي غضاضة على المرء المؤمن في إن يفرج بعض همه بما أباح الله له. هذا مجمل من أحوال السيد جمال الدين الأفغاني اتينا به دفعا لما افتراه عليه الجاهلون، ولو سلكنا في تاريخه مسلك التفصيل لأدى بنا إلى التطويل. ثم اتبع الشيخ محمد عبده ذلك بما كتبه سليم العنحوري تخطئة لنفسه فيما نقله في شرح سحر هاروت قال: والمطلع ما كتبناه يعلم خطأه في جل ما رواه، وهذا ما نشره العنحوري في جريدة لسان الحال وغيرها بحروفه، قال:

لا يخفى اننا كنا اتينا في حاشية كتابنا (سحر هاروت) على شيء من ترجمة الحكيم الشرقي الغزير المادة السيد جمال الدين الأفغاني الطائر الصيت وأبنا في عرض قصصنا لمحة مما تلقيناه عن بعض المصريين والسوريين من سوء عقيدته ووهن دينه، مما كان مدعاة أسفنا وباعث استغرابنا، ثم أسعدنا البخت بان التقينا هاته الأيام بصديقنا المحلي بحلية الفضل الحائز قصب السبق في مضماري العقل والنقل الشيخ محمد عبده أعز اخلاء الحكيم المشار إليه فجال بيننا حديث أفضى إلى البحث بما يرويه عنه بعض الناس ورويناه نحن عنهم فأوضح لنا بدلائل ناهضة وبراهين داحضة إن ما تتناقله الألسن من هذا القبيل ما كان إلا من آثار ما رماه بعض من غمرتهم أياديه فجازوه بالكنود يعني بهم قوما كفرة تزلفوا إليه فاغتر ببراقيش ألسنتهم، ووطأ لهم جانب الأنس، سالكا في سبيل اسعادهم كل سبيل، فلما دارت عليه الدوائر وتحولت الأحوال أخذوا يتحججون بالتلمذة عليه، وينسبون ما اشربوا من الكفر إليه. وبين لنا بأجلى أسلوب إن المباحث التي كان يدور بها لسانه أثناء مناظرته الجدلية في بيان عقائد المعطلين كان المراد منها اظهار حقائق النحل والبدع بمعزل عن الاعتقاد بها والجنوح إليها بل مع تعقيبها بالرد عليها وإقامة الحجج على بطلأنها، ثم تأييدا لمقالة هذا وقفنا على رسالة منسوجة بقلم السيد المشار إليه سواء بها أصحاب المبادئ المعطلة من أي فريق كانوا، وبين قبح طريقتهم بعبارة حنيف عريق بالإسلام، نثبت هنا منها مبحثه في طريقة اعتقاد الألوهية لسعادة الإنسان. قال بعد بيان وجوه زعموها كافية لصلاح النوع البشري، ورد ما زعموا: (فاذن لم يبق للشهوات قامع ولا للأهواء رادع إلا الايمان بان للعالم صانعا عالما بمضمرات القلوب ومطويات الأنفس سامي القدرة واسع الحول والقوة، مع الاعتقاد بأنه قد قدر للخير والشر جزاء يوفاه مستحقه في حياة بعد هذه الحياة السرمدية. ) ثم قال: (فلم تبق ريبة في إن الدين هو السبب الفرد لسعادة الإنسان، فلو قام الدين على قواعدالأمر الإلهي الحق ولم يخالطه شيء من أباطيل من يزعمونه ولا يعرفونه، فلا ريب يكون سببا في السعادة التامة والنعيم الكامل ويذهب بمعتقديه في جواد الكمال الصوري والمعنوي ويصعد بذويه إلى ذروة الفضل الظاهري والباطني، ويرفع أعلام المدنية لطلابها، بل يفيض على المتمدنين من ديم الكمال العقلي والنفسي ما يظفرهم بسعادة الدارين. ) ثم أتى بعد هذا في مزايا الدين الإسلامي خصوصا بما يطول بيانه، ويعلمه من اطلع على تلك الرسالة هذا كله بعد ما قال في وصف الماديين: (انهم كيفما ظهروا وفي أي صورة تمثلوا وبين أي قوم نجموا كانوا صدمة شديدة على بناء قومهم وصاعقة مجتاحة لثمار أممهم وصدعا متفاقما في بنية جيلهم، يميتون القلوب الحية بأقوالهم وينفثون السم في الأرواح بآرائهم ويزعزعون راسخ النظام بمساعيهم، فما رزئت بهم أمة ولا مني بشرهم جيل إلا انتكث فتله وتبددت آحاده وفقد قوام وجوده. ) ثم أطال في بيان ذلك إلى حد لم يبق معه محل للريبة في كمال اعتقاده وجلاء يقينه، فأخذتنا لذلك خفة الطرب، وسارعنا لإذاعته بلسان الصحف شان المؤرخ العادل وقياما بحق الأدب وضنا بفضل هذا الرجل الخطير من إن تتناوله السنة من لا يعرفه خطأ وافتراء، والله يتولى الصادقين.

أخباره

قال الشيخ محمد عبده في ترجمته المتقدمة إليها الإشارة: انه سافر إلى الهند وعمره 18 سنة أي سنة 1272، فأقام بها سنة وبضعة اشهر، وأتى بعد ذلك الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج، وطالت مدة سفره إليها نحو سنة وهو ينتقل من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر حتى وافى مكة المكرمة سنة 1273 فوقف على كثير من عادات الأمم التي مر بها في سياحته واكتنه أخلاقهم وأصاب من ذلك فوائد غزيرة، ثم رجع بعد أداء فريضة الحج إلى بلاده. وفي سنة 1285 سافر إلى الحج على طريق الهند فلما وصل إلى التخوم الهندية تلقته حكومة الهند بحفاوة في اجلال إلا إنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، ولم تأذن للعلماء في الاجتماع عليه إلا على عين من رجالها، فلم يقم أكثر من شهر، ثم سيرته من سواحل الهند في أحد مراكبها على نفقتها إلى السويس فجاء إلى مصر واقام فيها نحو أربعين يوما تردد فيها على الجامع الأزهر وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين ومالوا إليه كل الميل وسألوه إن يقرأ لهم شرح الإظهار، فقرأ لهم بعضا منه في بيته، ثم تحول عزمه عن الحجاز، وسارع بالسفر إلى الآستانة، وبعد أيام من وصوله إليها أمكنته ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا، ونزل منه منزلة الكرامة وعرف له الصدر فضله وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله وهو مع ذلك بزيه الأفغاني قباء وكساء وعمامة عجراء، وحومت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم وتناقلوا الثناء على علمه ودينه وأدبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم، وبعد ستة أشهر سمي عضوا في مجلس المعارف، فأدى حق الاستقامة في آرائه، وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه على الذهاب إليها رفقاؤه. ومن تلك الطرق ما احفظ عليه قلب شيخ الإسلام لتلك الأوقات حسن فهمي أفندي لأنها كانت تمس شيئا من رزقه، فأرصد له العنت حتى كان رمضان سنة 1287 فرغب إلى مدير دار الفنون تحسين أفندي إن يلقي فيها خطابا للحث على الصناعات، فاعتذر إليه بضعفه في اللغة التركية فالح عليه تحسين أفندي، فأنشأ خطابا طويلا كتبه قبل القائه وعرضه على وزير المعارف، وكان صفوة باشا وعلى شرواني زاده وكان مشير الضابطية وعلى دولتلو منيف باشا ناظر المعارف - وكان عضوا في مجلس المعارف - واستحسنه كل منهم وأطنب في مدحته، فلما كان اليوم المعين لاستماع الخطاب تسارع الناس إلى دار الفنون واحتفل له جمع غفير من رجال الحكومة وأعيان أهل العلم وأرباب الجرائد وحضر في الجمع معظم الوزراء وصعد السيد جمال الدين على منبر الخطابة وألقى ما كان أعده وأرسل حسن فهمي أفندي أشعة نظره في تضاعيف الكلام ليصيب منه حجة للتمثيل به وما كان يجدها لو طلب حقا ولكن كان الخطاب في تشبيه المعيشة الإنسانية ببدن حي وان كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن يؤدي من المنفعة في المعيشة ما يؤديه العضو في البدن فشبه الملك مثلا بالمخ الذي هو مركز التدبير والإرادة. والحدادة بالعضد والزراعة بالكبد والملاحة بالرجلين ومضى في سائر الصناعات والأعضاء حتى أتى على جميعها ببيان ضاف واف ثم قال هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية ولا حياة لجسم إلا بروح وروح هذا الجسم أما النبوة وأما الحكمة ولكن يفرق بينهما بان النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب يختص الله بها من يشاء من عباده والله أعلم حيث يجعل رسالاته. أما الحكمة فمما يكتسب بالفكر والنظر في المعلومات وبأن النبي معصوم من الخطا، والحكيم يجوز عليه الخطا بل يقع فيه وان احكام النبوات آتية على ما في علم الله لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فالأخذ بها من

فروض الايمان، أما آراء الحكماء فليس على الذمم فرض اتباعها إلا من باب ما هو الأولى والأفضل على شريطة إن لا تخالف الشرع الإلهي. هذا ما ذكرناه متعلقا بالنبوة وهو منطبق على ما اجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية إلا إن حسن فهمي أفندي أقام من الحق باطلا ليصيب غرضه من الانتقال فأشاع إن الشيخ جمال الدين زعم إن النبوة صنعة واحتج لتثبيت الإشاعة بأنه ذكر النبوة في خطاب يتعلق بالصناعة (وهكذا تكون حجج طلاب العنت)، ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد إن يذكروا ذلك محفوفا بالتفنيد والتنديد، فاهتم السيد جمال الدين للمدافعة عن نفسه واثبات براءته مما رمي به، ورأى إن ذلك لا يكون إلا بمحاكمة شيخ الإسلام (وكيف يكون ذلك) واشتد في طلب المحاكمة وأخذ ت منه الحدة مبلغها وأكثرت الجرائد من القول في المسالة، فمنها نصراء الشيخ جمال الدين، ومنها أعوان لشيخ الإسلام، فأشار بعض أصحاب السيد عليه إن يلزم السكون ويغضي على الكريهة وطول الزمان يتكفل باضمحلال الإشاعات وضعف اثرها، فلم يقبل ولج في طلب المخاصمة فعظم الأمر، وآل إلى صدور أمر الصدارة إليه بالجلاء عن الآستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب، ثم يعود إن شاء، ففارق الآستانة مظلوما في حقه مغلوبا لحدته وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر، فجاء إليها في أول محرم سنة 1288. هذا مجمل أمره في الآستانة، وما ذكره سليم العنحوري في شرح شعره المسمى (سحر هاروت) مما يخالف ذلك خلط من الباطل لا شائبة للحق فيه. مال السيد جمال الدين إلى مصر على قصد التفرج بما يراه من مظاهرها ومناظرها، ولم تكن له عزيمة على الإقامة بها حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا، فاستمالته مساعيه إلى المقام وأجرت عليه الحكومة وظيفة الف قرش مصري كل شهر نزلا أكرمته به لا في مقابلة عمل واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم واستوروا زنده فاورى واستفاضوا بحره ففاض درا وحملوه على تدريس الكتب فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية طبيعية وعقلية وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الإسلامي وكانت مدرسته بيته من أول ما ابتدأ إلى أخر ما اختتم ولم يذهب إلى الأزهر مدرسا ولا يوما واحدا نعم كان يذهب إليه زائرا وأغلب ما كان يزوره يوم الجمعة. عظم أمر الرجل في نفوس طلاب العلوم واستزجلوا فوائد الأخذ عنه وأعجبوا بدينه وأدبه وانطلقت الألسن بالثناء عليه وانتشر صيته في الديار المصرية ثم وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول فنشطت لذلك الباب واستضاءت بصائر وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وانشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه، وكان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله فكري باشا وخيري باشا ومحمد باشا وسيد أحمد، على ضعف فيه ومصطفى باشا وهبي، على اختصاص فيه، ومن عدا هؤلاءفأما ساجعون في المراسلات الخاصة، وأما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها. ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري لا يشق غبارهم ولا يوطأ مضمارهم وأغلبهم احداث في السن شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته أو قلد المتصلين به، ومنكر ذلك مكابر وللحق مدابر. هذا ما حسده عليه أقوام واتخذوا سبيلا للطعن عليه من قراءته بعض الكتب الفلسفية، أخذا بقول جماعة من المتأخرين في تحريم النظر فيها، على إن القائلين بهذا القول لم يطلقوه، بل قيدوه بضعفاء العقول قصار النظر خشية على عقائدهم من الزيغ، أما الثابتون في ايمانهم فلهم النظر في علوم الأولين والآخرين من موافقين لمذاهبهم أو مخالفين، فلا يزيدهم ذلك إلا بصيرة في دينهم وقوة في يقينهم، ولنا في أئمة الملة الإسلامية الف حجة تقوم على ما نقول، ولكن تمكن الحاسدون من نسبة ما أودعته كتب الفلاسفة إلى رأي هذا الرجل وأذاعوا ذلك بين العامة، ثم أيدهم أخلاط من الناس من مذاهب مختلفة كانوا يطرقون مجلسه فيسمعون ما لا يفهمون، ثم يحرفون في النقل عنه ولا يشعرون، غير إن هذا كله لم يؤثر في مقام الرجل من نفوس العقلاء العارفين بحاله، ولم يزل شأنه في ارتفاع والقلوب عليه في اجتماع إلى إن تولى خديوية مصر حضرة خديويها المغفور له توفيق باشا، وكان السيد من المؤيدين لمقاصده الناشرين لمحامده، إلا إن بعض المفسدين ومنهم (مستر فيفيان) قنصل انكلترا الجنرال سعى فيه لدى الجناب الخديوي ونقل المفسد عنه ما الله يعلم أنه برئ منه حتى غير قلب الخديوي عليه، فأصدر أمره بإخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبو تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة 1296 وأقام بحيدرآباد الدكن، وفيها كتب هذه الرسالة في نفي مذهب الدهريين، ولما كانت الفتنة الأخيرة بمصر دعي من حيدرآباد إلى كلكتة وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها حتى انقضى أمر مصر وفثأت الحرب الانكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد فاختار الذهاب إلى أوروبا، وأول مدينة اصعد إليها مدينة لوندرة أقام بها أياما قلائل ثم انتقل منها إلى باريز وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات وافيناه في أثنائها، ولما كلفته جمعية العروة الوثقى إن ينشئ جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية أيدها الله، سألني إن أقوم على تحريرها، فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عددا، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموما والمسلمين خصوصا ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبواب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في اعنات من تصل إليهم فيه. ثم بقي بعد ذلك مقيما بأوروبا أشهرا في باريز وأخرى في لندرة إلى أوائل شهر جمادي الأولى سنة 1303، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية. وفي تعليق الأمير شكيب أرسلان على حاضر العالم الإسلامي قد زعم (ويلفريد سكافن بلوتت) وهو مما لم يذكره غيره من مترجميه إن جمال الدين ذهب من الهند إلى أمريكا، وانه منها جاء إلى لندرة سنة 1883 قال: وذكر (غولد سيهر) مناقشة جمال الدين مع رنان في أمر قابلية الإسلام للعلم، فقال ما يأتي بالحرف:

"وقد فتحت له أشهر الجرائد وأعظمها نفوذا أبواب المراسلة فنشر فيها مقالات ممتعة عظيمة القيمة على السياسة الشرقية التي كانت تتنازعها انكلترة وروسيا، وعلى أحوال تركيا ومصر، وعلى معنى حركة المهدي السوداني. وفي ذلك الوقت جرت بينه وبين أرنست رنان المناظرة التي أساسها محاضرة ألقاها رنان في السور بون على الإسلام والعلم، فجمال الدين الذي أراد تفنيد مزاعم رنان بعدم قابلية الإسلام للتوليد العلمي، وذلك في مقالة في جريدة (الدبا) ترجمت إلى الألمانية. ثم بعد ذلك بقليل عربت محاضرة رنان. -مصحوبة برد من قلم حسن أفندي عاصم" الخ. . وقال الأمير شكيب أيضا: وأول أثر ظهر لجمال الدين في ميدان السياسية هو الحركة التي هبت في أواخر أيام الخديوي إسماعيل باشا، و آلت إلى خلعه من الخديوية، وكان للسيد اليد الطولى فيها، ولما جلس توفيق باشا على كرسي مصر شكر لجمال الدين مساعيه، لكن لم يطلالأمر حتى دبت عقارب السعاية في حقه، وجاء من دس إلى الخديوي الجديد إن السيد لم يقف عند هذا الحد، وقد تحدثه نفسه بثورة ثانية وبإقامة حكم جمهوري وما أشبه ذلك، فصدرالأمر فجأة بنفي جمال الدين، وأخرج إلى السويس ومنها ذهب إلى الهند، ولم يدخل بعدها مصر. وجرت الحركة العرابية في غيابه، وأحتل الإنكليز مصر. ثم يقول: وفي سنة 1885 ذهب جمال الدين إلى أوروبا، وأول مدينة صعد إليها لندرة، ثم تحول منها إلى باريز حيث وافاه الشيخ محمد عبده أكبر تلاميذه، وأكمل وعاة علومه، فأصدر فيها (العروة الوثقى) التي بلغت من أيقاظ الشرق وهز أعصاب العالم الإسلامي ما لم تبلغه صحيفة سيارة قبلها ولا بعدها، ولكن لم يسعفهما الوقت إن يصدرا منها إلا بضعة عشر عددا، فعاد الشيخ محمد عبده إلى بيروت حيث كان منفاه على اثر الحادثة العرابية، وبقي جمال الدين في أوروبا يجول في مدنها ويجالس أهل العلم فيها، ثم عاد إلى إيران.

وهنا اختلفت الرواية فيما علقه الأمير شكيب على الكتاب المذكور في سبب عوده إليها، فعلى رواية إن الشاه اجتمع به في (ميونخ) عاصمة (بافاريا)، فدعاه الشاه إن يكون بمعيته لما شاهده من وفرة علمه وفضله، وتقدم إليه في الذهاب معه إلى طهران، فلبى السيد دعوته. وعلى رواية أخرى إن الشاه ناصر الدين دعاه بالبرق سنة 1886 م إلى حاضرة ملكه طهران، فأكرم مثواه وبالغ في الاحتفاء به، ولكن خشية الرقباء حملت جمال الدين على الاستئذان من الشاه والذهاب إلى الروسية حيث أقام مدة وصارت له علاقات كثيرة. ويفهم مما كتبه السيد صالح الشهرستاني في مجلة العرفان نقلا عن الميرزا صادق خان البروجردي -أحد أصحاب السيد جمال الدين- إن خروجه إلى الروسية كان بأمر من ناصر الدين شاه سنة 1304 والله أعلم. وقال الميرزا صادق: وفي أواخر عام 1307 وأوائل عام 1308 عاد إلى طهران من روسية ونزل في دار الحاج محمد حسن كمباني أمين دار الضرب، وكان في جميع مجالسه وأحاديثه ينتقد السلطان ناصر الدين ووزيره يومئذ ميرزا علي أصغر خان الملقب أمين السلطان، ويدعو إلى الإصلاح ومقاومة الاستبداد، وبلغ ذلك الوزراء فأبلغوه الشاه وأقنعوه باصدار أوامره سرا إلى الحاج محمد حسن كمباني ليعتذر من السيد جمال الدين بعذر مشروع في مفارقته ليخرج من داره فأخبر صاحب الدار بان أخاه التاجر في أوروبا مريض ويضطره ذلك إلى السفر لملاحظته، فعرف المترجم مقصوده وأجابه بإنني أيضا لا ارغب في البقاء في طهران، وسافر في اليوم الثاني إلى مشهد السيد عبد العظيم الذي يبعد عن طهران نحوا من فرسخ، فبقي فيه ما يزيد عن سبعة أشهر لا يفتر فيها عما كان يبثه في طهران، وبالطبع كان ذلك كله يبلغ مسامع ناصر الدين ووزرائه، فأمر بابعاده إلى كرمانشاه ومنها إلى خارج إيران - العراق - وفي ليلة من ليالي شعبان سنة 1308 جاء إليه المدعو آقا باقر خان سردار مع ستة من أهل البلد وأخبره بان الشاه لا يرى صلاحا في بقائه بإيران وان الحصان حاضر فليتفضل ويركبه، فأجابه باني أنا كنت غير راغب في المجئ إلى طهران والبقاء فيها، ولكن الشاه نفسه هو الذي أصر علي بالمجئ إليها، ولا تزال كتبه الكثيرة التي يدعوني فيها للعودة إلى إيران محفوظة عندي، وطلب إن يسمح له بزيارة عبد العظيم فسمح له بذلك، فلما دخل المشهد أطال المكث فيه، فأمر باقر خان من معه بإخراجه قهرا، فأخرج بصورة قبيحة، وقد صادفوه خارجا.

هذه رواية تلميذه الميرزا صادق البروجردي التي رواها عنه السيد صالح الشهرستاني، والذي يلوح انه احتمى بمشهد عبد العظيم وامتنع عن الخروج فأخرج قهرا بتلك الصورة وكتابه إلى الميرزا الشيرازي الآتي يصرح بذلك، حيث يقول فيه: أمر بسحبي من حضرة عبد العظيم، وأما غير ميرزا صادق من مؤرخي الإيرانيين وغيرهم فيقولون: إن الشاه أرسل خمسمائة فارس من الجنود فقبضوا عليه وساقوه إلى قم، وصحبه منهم هناك خمسون فارسا إلى كرمانشاه ثم إلى ما وراء الحدود الإيرانية. والذي يلوح إن رواية الخمسمائة الفارس مبالغ فيها مبالغة يراد بها تعظيم أمره، وإلا فلا نظن إن مثل ذلك يحتاج إلى أكثر من عشرة جنود، فان زاد فإلى خمسين، والذي يظهر إن الذين أخرجوه من المشهد هم الستة من أهل البلد وأخذ وه من هناك إلى دار الحكومة، ومنها اصحبوه ببعض الجند والله أعلم. ثم أوصلوه إلى خانقين، ومن هناك استلمته الشرطة العثمانية حتى أوصلته إلى بغداد ثم أرسل إلى البصرة. وكان ذلك في سنة ورودنا إلى النجف لطلب العلم وهي سنة 1308. وكتب وهو في البصرة كتابا إلى الميرزا الشيرازي بالعربية الفصيحة -مما يدل على أنه كان قد اتقنها، وذلك دليل علو همته- يستفزه فيه ويستصرخه ويحمسه ويستنجده بأنواع العبارات المهيجة المؤثرة في النفوس، وشاع هذا الكتاب في ذلك الوقت وجاءت نسخته إلى النجف وقرأناه وقرأه الناس، ولكن الميرزا الشيرازي لم يظهر منه شيء في هذا الباب من أجل هذا الكتاب، وهذه صورته:

كتاب السيد جمال الدين للميرزا الشيرازي

{بسم الله الرحمن الرحيم}. حقا أقول: إن هذا الكتاب خطاب إلى روح الشريعة المحمدية أينما وجدت وحيثما حلت، وضراعة تعرضها الأمة على نفوس زكية تحققت بها شؤونها كيفما نشأت، وفي أي قطر نبغت، إلا وهم العلماء فأحببت عرضه على الكل وان كان عنوانه خاصا.

حبر الأمة، وبارقة أنوار الأئمة، دعامة عرش الدين، واللسان الناطق عن الشرع المبين، الحاج الميرزا حسن الشيرازي صان الله به حوزة الإسلام، ورد به كيد الزنادقة اللئام.

لقد خصك الله بالنيابة عن الحجة الكبرى، واختارك من العصابة الحقة وجعل بيدك أزمة سياسة الأمة بالشريعة الغراء. وحراسة حقوقها بها، وصيانة قلوبها عن الزيغ والارتياب فيها، وأحال إليك من بين الأنام وأنت وارث الأنبياء مهام أمور تسعد بها الملة في دارها الدنيا، وتحظى بها في العقبى، ووضع لك أريكة الرياسة العامة على الأفئدة والنهى، إقامة لدعامة العدل، وإنارة لمحجة الهدى، وكتب عليك بما أولاك به من السيادة على خلقه حفظ الحوزة، والذود عنها والشهادة دونها على سنن من مضى، وان الأمة قاصيها ودانيها، وحاضرها وباديها، ووضيعها وعإليها، قد أذعنت لك بهذه الرياسة السامية الربانية، جاثية على الركب، خارة على الأذقان تطمح نفوسها إليك في كل حادثة تعروها، وتطل بصائرها عليك في كل مصيبة تمسها وهي ترى إن خيرها وسعدها منك، وان فوزها ونجاتها بك، وان أمنها وأمانيها فيك، فإذا لمح منك غض نظر، أو نأيت بجانبك لحظة، وأهملتها وشإنها لمحة، ارتجفت أفئدتها، وانتكثت عقائدها وزغات ابصارها، وانهدت دعائم ايمانها، نعم لا برهان للعامة فيما دانوا، إلا استقامة الخاصة فيما أمروا، فان وهن هؤلاء في فريضة أو قعد بهم الضعف عن إماطة منكر، اعتور أولئك الظنون والأوهام ونكص كل على عقبيه مارقا عن الدين القويم، حائدا عن الصراط المستقيم. وبعد هذا وذاك أقول:

أن الأمة الإيرانية بما دهمها من عراقيل الحوادث التي آذنت باستيلاء الضلال على بيت الدين، وتطاول الأجانب على حقوق المسلمين، ووجوم الحجة الحق (إياك أعني) عن القيام بناصرها، وهو حامل الأمانة والمسؤول عنها يوم القيامة، قد طارت نفوسها شعاعا، وطاشت عقولها وتاهت أفكارها، ووقفت موقف الحيرة وهي بين انكار واذعان، وجحود وايقان، لا تهتدي سبيلا وهامت في بيداء الهواجس، في عتمة الوساوس، ضالة عن رشدها لا تجد إليه دليلا، وأخذ القنوط بمجامع قلوبها، وسد دونها أبواب رجائها وكادت تختار -يأسا منها- الضلالة على الهدى، وتعرض عن محجة الحق وتتبع الهوى، وان آحاد الأمة لا يزالون يتساءلون شاخصة أبصارهم عن أسباب قضت على حجة الإسلام (إياك أعني) بالسبات والسكوت وحتم عليه إن يطوي الكشح عن إقامة الدين على أساطينه واضطره إلى ترك الشريعة وأهلها إلى أيدي زنادقة يلعبون بها كيف ما يريدون ويحكمون فيها بما يشاؤون، حتى إن جماعة من الضعفاء زعموا إن قد كذبوا، وظنوا في الحجة ظن السوء. وحسبوا انالأمر أحبولة الحذق، وأسطورة المذق، وذلك لأنها ترى -وهو الواقع- إن لك الكلمة الجامعة، والحجة الساطعة، وان امرك في الكل نافذ، وليس لحكمك في الأمة منابذ، وانك لو أردت إن تجمع آحاد الأمة بكلمة منك وهي كلمة تنبثق من كيان الحق إلى صدر أهله لترهب به عدو الله وعدوهم وتكف عنهم شر الزنادقة، وتزيح ما حاق بهم من العنت والشقاء، وتنشلهم من ضنك العيش إلى ما هو أرغد وأهنأ فيصير الدين بأهله منيعا حريزا، والإسلام بحجته رفيع المقام عزيزا هذا هو الحق انك رأس العصابة الحقة، وانك الروح الساري في آحاد الأمة، فلا يقوم قائم إلا بك، ولا تجتمع كلمتهم إلا عليك لو قمت بالحق نهضوا جميعا ولهم الكلمة العليا، ولو قعدت تثبطوا وصارت كلمتهم هي السفلى، ولربما كان هذا السير والدوران حينما غض حبر الأمة طرفه عن شؤونهم، وتركهم هملا بلا راعي، وهمجا بلا رادع ولا داع يقيم لهم عذرا فيما ارتابوا، خصوصا لما رأوا إن حجة الإسلام قد اتقى فيما أطبقت الأمة خاصتها وعامتها على وجوبه، وأجمعت على حظر الاتقاء فيه خشية لغوبه، إلا وهو حفظ حوزة الإسلام، الذي به بعد الصيت، وحسن الذكر، والشرف الدائم والسعادة التامة، ومن يكون أليق بهذه المزايا وأحرى بها ممن اصطفاه الله في القرن الرابع عشر، وجعله برهانا لدينه وحجة على البشر.

أيها الحبر الأعظم! إن الملك قد وهنت مريرته فساءت سيرته وضعفت مشاعره فقبحت سريرته، فعجز عن سياسة البلاد وإدارة مصالح العباد، فجعل زمام الأمور كلها وجزئيها بيد. . . أثيم غشوم، ثم بعد ذلك. . . يسب الأنبياء في المحافل جهرا، ولا يقيم لشريعة الله امرا، ولا يرى لرؤساء الدين وقرا، يشتم العلماء، ويقذف الأتقياء، ويهين السادة الكرام، ويعامل الوعاظ معاملة اللئام، وانه بعد رجوعه من البلاد الإفرنجية قد خلع العذار وتجاهر. . . وموالاة الكفار ومعاداة الأبرار هذه أفعاله الخاصة في نفسه ثم إنه باع الجزء الأعظم من البلاد الإيرانية ومنافعها لأعداء الدين المعادن والسبل الموصلة إليها والطرق الجامعة بينها وبين تخوم البلاد والخانات التي تبنى على جوانب تلك المسالك الشاسعة التي تتشعب فروعها إلى جميع ارجاء المملكة وما يحيط بها من البساتين والحقول نهر كارون والفنادق التي تنشأ على ضفتيه إلى المنبع وما يستتبعها من الجنائن والمروج والجادة من الأهواز إلى طهران وما على أطرافها من العمران والفنادق والبساتين والحقول والتنباك وما يتبعه من المراكز ومحلات الحرث وبيوت المستحفظين والحاملين والبائعين انى وجد وحيث نبت وحكر العنب للخمور وما يستلزمه من الحوانيت والمعامل والمصانع في جميع أقطار البلاد والصابون والشمع والسكر ولوازمها من المعامل والبنك وما إدراك ما البنك وهو اعطاء الأهالي كلية بيد عدو الإسلام واسترقاقه لهم واستملاكه إياهم وتسليمهم له بالرياسة والسلطان، ثم إن الخائن البليد أراد إن يرصي العامة بواهي برهانه فحبق قائلا، إن هذه معاهدات زمانية ومقاولات وقتية، لا تطول مدتها أزيد من مائة سنة، يا لله من هذا البرهان الذي سوله خرق الخائنين، وعرض الجزء الباقي على الدولة الروسية حقا لسكوتها لو سكتت مرداب رشت وأنهر طبرستان والجادة من انزلي إلى خراسان وما يتعلق بها من الحدود والفنادق والحقول، ولكن الدولة الروسية شمخت بأنفها وأعرضت عن قبول تلك الهدية، وهي عازمة على استملاك خراسان والاستيلاء على آذربيجان ومازندران إن لم تنحل هذه المعاهدات ولم تنفسخ هذه المقاولات القاضية بتسليم المملكة تماما بيد ذلك العدو هذه هي النتيجة الأولى لخيانة هذا الأخرق، وبالجملة إن هذا المجرم قد عرض اقطاع البلاد الإيرانية على الدول ببيع المزاد وانه يبيع ممالك الإسلام ودور محمد وآله عليهم السلام للأجانب ولكنه لخسة طبعه ودناءة فطرته لا يبيعها إلا بقيمة زهيدة ودراهم بخسة معدودة، نعم هكذا يكون إذا امتزجت اللامة والشره بالخيانة والسفه.

وانك أيها الحجة إن لم تقم بناصر هذه الأمة ولم تجمع كلمتهم ولم تنزع السلطة بقوة الشرع من يد هذا الأثيم، لأصبحت حوزة الإسلام تحت سلطة الأجانب يحكمون فيها ما يشاؤون، ويفعلون فيها ما يريدون، وإذا فاتتك هذه الفرصة أيها الحبر ووقعالأمر وأنت حي لما أبقيت ذكرا جميلا بعدك في صحيفة العالم وأوراق التواريخ وأنت تعلم إن علماء إيران كافة والعامة بأجمعهم ينتظرون منك - وقد حرجت صدورهم وضاقت قلوبهم - كلمة واحدة ويرون سعادتهم بها ونجاتهم فيها، ومن خصه الله بقوة كيف يسوغ له إن يفرط فيها ويتركها سدى. ثم أقول للحجة قول خبير بصير: إن الدولة العثمانية تتبجح بنهضتك على هذاالأمر وتساعدك عليه لأنها تعلم إن مداخلة الإفرنج في الأقطار الإيرانية واستيلاءها عليها تجلب الضرر إلى بلادها لا محالة، وان وزراء إيران وأمراءها كلهم يبتهجون بكلمة تنبض بهذا الشأن، لأنهم بأجمعهم يعافون هذه المستحدثات طبعا ويسخطون من هذه المقاولات جبلة، ويجدون بنهضتك مجالا لإبطالها وفرصة لكف الشره الذي رضي بها وقضي عليها، ثم إن العلماء -وان كان كل صدع بالحق وجبه هذا الأخرق الخائن بسوء أعماله- ولكن ردعهم للزور وزجرهم عن الخيانة ونهرهم المجرمين ما قرت كسلسلة المعدات قرارا ولا جمعتها وحدة المقصد في زمان واحد، وهؤلاء لتماثلهم في مدارج العلوم وتشاكلهم في الرياسة وتساويهم في الرتب غالبا عند العامة، لا ينجذب بعضهم إلى بعض، ولا يصير أحد منهم لصقا للآخر ولا يقع بينهم تأثير الجذب وتأثر الانجذاب، حتى تتحقق هيأة وحدانية وقوة جامعة يمكن بها دفع الشر وصيانة الحوزة، كل يدور على محوره وكل يردع الزور وهو في مركزه هذا هو سبب الضعف عن المقاومة، وهذا هو سبب قوة المنكر والبغي. وأنك وحدك أيها الحجة بما أوتيت من الدرجة السامية و المنزلة الرفيعة علة فعالة في نفوسهم، وقوة جامعة لقلوبهم، وبك تنتظم القوى المتفرقة الشاردة وتلتئم القدر المتشتتة الشاذة، وان كلمة تأتي منك بوحدانية تامة، يحق لها إن تدفع الشر المحدق بالبلاد، وتحفظ حوزة الدين، وتصون بيضة الإسلام، فالكل منك وبك واليك، وأنت المسؤول عن الكل عند الله وعند الناس.

ثم أقول إن العلماء والصلحاء في دفاعهم فرادى عن الدين وحوزته قد قاسوا من ذلك. . . شدائد ما سبق لها منذ قرون مثيل وتحملوا لصيانة بلاد المسلمين عن الضياع وحفظ حقوقهم عن التلف كل هوان وكل صغار وكل فضيحة! ولا شك إن حبر الأمة قد سمع ما فعله أدلاء الكفر وأعوان الشرك بالعالم الفاضل الصالح الواعظ الحاج ملا فيض الله الدربندي، وستستمع قريبا ما فعله الطغاة الجفاة بالعالم المجتهد التقي البار الحاج السيد علي أكبر الشيرازي، وستحيط علما بما فعله بحماة الملة والأمة من قتل وكي وضرب وحبس ومن جملتهم الشاب الصالح الميرزا محمد رضا الكرماني الذي قتله ذلك. . . في الحبس، والفاضل الكامل البار الحاج سياح، والفاضل الأديب النيجب الميرزا محمد علي خان، والفاضل المتفنن اعتماد السلطنة وغيرهم.

وأما قصتي وما فعله ذلك. . . الظلوم معي، فمما يفتت أكباد أهل الأيمان ويقطع قلوب ذوي الايقان، ويقضي بالدهشة على أهل الكفر وعبدة الأوثان، إن ذلك اللئيم أمر بسحبي وأنا متحصن بحضرة عبد العظيم عليه السلام في شدة المرض على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن أن يتصور مثلها في الشناعة، هذا كله بعد النهب والغارة، أنا لله وأنا إليه راجعون ثم حملتني زبانيته الأوغاد وأنا مريض على برذون مسلسلا في فصل الشتاء وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية، وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين، وصحبني جمع من الشرطة إلى بغداد، ولقد كاتب الوالي من قبل والتمس منه أن يبعدني إلى البصرة علما منه انه لو تركني ونفسي لاتيتك أيها الحبر وبثثت لك شأنه وشأن الأمة وشرحت لك ما حاق ببلاد الإسلام من شر هذا. . . ودعوتك أيها الحجة إلى عون الدين، وحملتك على إغاثة المسلمين وكان على يقين إني لو اجتمعت بك لا يمكنه إن يبقى على دست وزارته المؤسسة على خراب البلاد، وإهلاك العباد، واعلاء كلمة الكفر، ومما زاده لؤما على لؤمه ودناءة على دناءته أنه دفعا لثرثرة العامة وتسكينا لهياج الناس نسب تلك العصابة التي ساقتها غيرة الدين وحمية الوطن إلى المدافعة عن حوزة الإسلام، وحقوق الأهالي بقدر الطاقة والإمكان إلى الطائفة البابية كما أشاع بين الناس أولا قطع الله لسانه إني كنت غير مختون، وا إسلاماه! ما هذا الضعف، ما هذا الوهن؟ كيف أمكن إن صعلوكا دنيء النسب، ووغدا خسيس الحسب، قدر إن يبيع المسلمين وبلادهم بثمن بخس دراهم معدودة، ويزدري العلماء ويهين السلالة المصطفوية ويبهت السادة المرتضوية البهتان العظيم، ولا يد قادرة تستأصل هذا الجذر الخبيث، شفاء لقلوب المؤمنين، وانتقاما لآل سيد المرسلين عليه السلام، ثم لما رأيت نفسي بعيدا عن تلك الحضرة أمسكت عن بث الشكوى، ولما قدم العالم المجتهد القدو الحاج السيد علي أكبر إلى البصرة طلب مني إن اكتب إلى الحبر الأعظم كتابا أبث فيه هذه الغوائل والحوادث والكوارث، فبادارت إليه امتثالا وعلمت إن الله تعالى سيحدث بيدك أمرا، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

السيد الحسيني

ويقول الأمير شكيب في تعليقه على حاضر العالم الإسلامي فكان هذا النداء من أعظم أسباب الفتوى التي أفتاها ذلك الإمام ببطلان هذا الامتياز، واضطرت الحكومة الفارسية خوف انتقاض العامة إلى إلغائه.

ولكن الحقيقة إن الميرزا الشيرازي أفتى بتحريم تدخين التنباك حينما بلغه اعطاء الامتياز إلى الدولة البريطانية قبل إن يرسل له السيد جمال الدين هذا الكتاب ولم يكن افتاؤه بتأثير كتاب جمال الدين، ولو لم يكن له مؤثر ديني من نفسه عظيم لم يؤثر فيه كتاب جمال الدين، ولكن الناس اعتادوا إذا مالوا إلى شخص إن يسندوا كل وقائع العالم إليه.

وجاء في بعض أسفاره إلى البحرين ولعله ذهب إليها من البصرة فنزل في دار بعض تجارها وذهب إلى الشيخ عيسى بن علي آل خليفة أمير البحرين ثم عاد من مجلسه وسافر بعد يومين. وكان يذم الشيخ ويتأسف على رئاسة أمثاله على المسلمين. (قال) الأمير شكيب وكان السلطان عبد الحميد قد دعا السيد جمال الدين إلى الآستانة وذلك في سنة 1892 فجاءها وكانت هذه المرة الثانية لدخوله هذه العاصمة. إذ كان قد عرف الآستانة مرة قبلها في زمن السلطان عبد العزيز (أقول) إن صح انه دخل الآستانة مرة قبلها في زمن عبد العزيز كانت هذه المرة الثالثة لدخوله إياها فإنه قد دخلها في زمن عبد الحميد مرتين يقينا ففي المرة الأولى جاءها من الهند فأقام بها بين سنة ونصف وسنتين والمرة الثانية دخلها بعد رجوعه من مصر إلى إيران ونفي ناصر الدين له سنة 1308 واستدعاء عبد الحميد له ربما كان في المرة الثانية قال: ولما ورد السيد جمال الدين الآستانة أنزله السلطان منزلا كريما في دار ضيافة خصه بها في نشاش طاش، وأجرى عليه الأرزاق الوافرة، وكان يدخل على السلطان ويصلي صلاة الجمعة معه. وقال: ومضت مدة وجمال الدين حظي عند السلطان عبد الحميد وكان الجو لم يصف بينه وبين الشيخ أبي الهدى الصيادي فأنشأ ذلك اجل القصص والوشايات بحقه إلى السلطان ولكن السلطان بحسب قول جمال الدين - لم يحفل بهذه الوشاية. وهذا الخلاف مع أبي الهدى لم يزعزع مكانة جمال الدين من السلطان وربما زاد لديه زلفى، وإنما أدى إلى وحشة السلطان منه استمراره في مجالسه التي كانت تنتابها الناس دائما على القدح في شاه العجم فحمل ذلك سفير إيران على رفع الشكوى إلى السلطان فاستدعى السلطان إليه جمال الدين وقال له إن السفير سألني إن أتكلم معك في الكف عن الوقيعة في الشاه وأنا بناء على املي فيك وعدته بأنك تكف عنه، قال شكيب: وقد روى لي السيد هذه القصة عندما رجعت من أوروبا إلى الآستانة في أواخر سنة 1892 فقال لي هكذا بالحرف: "فقلت للسلطان ما كنت ناويا إن اترك شاه العجم حتى أنزله في قبره، ولكن بعد إن أمر أمير المؤمنين بالكف عنه فلا بد من طاعته".

ثم ذكر الأمير شكيب إن رجلا إيرانيا بأبي المذهب اسمه آقا رضا خان وجد مع جمال الدين في حبس قزوين وتأكدت بينهما المودة فبعد مجئ جمال الدين إلى الآستانة زاره هذا الرجل فيها وان جمال الدين حمله على قتل الشاه فذهب فقتله وقال له ما ترجمته: خذها من يد جمال الدين، فسر جمال الدين لقتل الشاه في كلام طويل هذا حاصله، فغضب السلطان عبد الحميد غضبا شديدا لقتل الشاه وشدد المراقبة على المترجم، فأرسل إلى فيس موريس مستشار سفارة انكلترة يلتمس منه ايصاله إلى باخرة ليخرج من الآستانة فتعهد له بذلك وان السلطان أرسل إلى جمال الدين يناشده بأسم الإسلام إن لا يمس كرامة الخليفة بطلب حماية أجنبية، فثارت في نفسه الحمية الإسلامية وأرسل إلى المستشار انه عدل عن السفر، وبعد اشهر ظهر في حنكه مرض السرطان وجرى ما قدمناه عند ذكر سبب وفاته. بعض ما يؤثر عنه من الكلمات القصار

ذكرها الشهرستاني فيما كتبه في العرفان: من لا معاش له لا معاد له. اعرف ربك. حب وطنك. فكر في شؤون حياتك. وله كلمات بالفارسية هذه ترجمتها: أعظم ركن في بقاء الإنسانية معرفة حقوق ذوي الحقوق. أطلب الراحة لرفقائك وتحمل المشاق في سبيلهم إن وطننا العزيز إيران يسير في سياسته في طريق معوج وفي ديانته في طريق معوج. أيها الناس تمسكوا بحقائق الدين المحمدي إن الذي تتمسكون به الآن هو شريعة الملالي وهي غلط فقد كتب كل ملا كتابا على مقدار تفكيره وليس ذلك الملا مقصرا فيما كتب إذ إن مقدار تفكيره ومعلوماته كانت محدودة إلى هذه الدرجة ولو أننا جمعنا كل هذه الكتابات وأضفناها إلى بعضها لما تمكنت إن تزيد في عظمة الإسلام بل بالعكس تصغره وإذا تأملت في هذا الكلام الأخير وجدته خاليا من المعنى فحقائق الدين المحمدي أما ضرورية أو نظرية والضرورية لا تؤخذ من الذين سماهم الملالي والنظرية لا سبيل إلى معرفتها إلا من العلماء فقوله الذي تتمسكون به هو شريعة الملالي وهي غلط غلط.

مؤلفاته

(1) تاريخ الأفغان

(2) انتقاد الفلاسفة الطبيعيين، طبعا بمصر

غير مرة

(3) رسالة الرد على الدهريين ألفها في حيدرآباد الدكن بالفارسية ونقلها من الفارسية إلى العربية الشيخ محمد عبده بمساعدة أبي تراب صاحب جمال الدين الذي سماه عارف أفندي الأفغاني أبا تراب، والظاهر أن أفغانيته كأفغانية جمال الدين، فكان أبو تراب يترجمها من الفارسية إلى العربية ومحمد عبده يضع عباراتها، مطبوعة بمصر

(4) مجموعة جريدة العروة الوثقى بمشاركة الشيخ محمد عبده مطبوعة في مجلد (5) حقائق جمالي (الحقائق الجمالية) فارسي، يقول السيد صالح الشهرستاني عن الميرزا صادق خان البروجردي أنه فقد بعض أبعاده من مشهد عبد العظيم وكان يلقي منه دروسا على خواص تلاميذه الذين كنت أنا أحدهم.

تلاميذه

أشهرهم الشيخ محمد عبده الشهير مفتي الديار المصرية فهو قد تخرج به وصحبه وكان صديقه الحميم وصاحبه في السراء والضراء ومن تلاميذه السيد عبد الله نديم. ومنهم الميرزا صادق خان البروجردي كما حكاه عنه السيد صالح الشهرستاني وغيرهما كثيرون من المشاهير.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 4- ص: 206