جعفر البرمكي جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، أبو الفضل: وزير الرشيد العباسي، وأحد مشهوري البرامكة ومقدميهم. ولد ونشأ في بغداد، واستوزره هارون الرشيد، ملقيا إليه أزمة الملك، وكان يدعوه: اخي. فانقادت له الدولة، يحكم بما يشاء فلا ترد أحكامه، إلى أن نقم الرشيد على البرامكة، نقمته المشهورة، فقتله في مقدمتهم، ثم أحرق جثته بعد سنة. وكانت لجعفر توقيعات جميلة. وهو أحد الموصوفين بفصاحة المنطق وبلاغة القول وكرم اليد والنفس، قالوا في وصف حديثه: (جمع الهدوء والتمهل والجزالة والحلاوة، وإفهاما يغنيه عن الإعادة) وكان كاتبا بليغا، يحتفظ الكتاب بتوقيعاته يتدارسونها. والبرامكة يرجعون في أنسابهم إلى الفرس

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 2- ص: 130

البرمكي جعفر بن يحيى.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 10- ص: 0

البرمكي وزير هارون جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك بن جاماس بن يستاسف البرمكي، وزير هارون الرشيد. كان من علو القدر ونفاذ الأمر وبعد الهمة وعظم المحل وجلالة المنزلة عند هارون الرشيد بحالة انفرد بها ولم يشارك فيها. وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر، وأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر، وكان من ذوي الفصاحة المشهورين باللسن والبلاغة، يقال إنه وقع ليلة بحضرة هارون الرشيد زيادة على ألف توقيع ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه. وكان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف الحنفي حتى علمه وفقهه.
إعتذر إليه رجل فقال له جعفر: قد أغناك الله بالعذر منا عن الاعتذار إلينا. وأغنانا بالمودة لك عن سوء الظن بك.
ووقع إلى بعض عماله: كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت.
وبلغه أن الرشيد مغموم لأن منجما من اليهود دخل إليه وزعم أنه يموت في تلك السنة فركب جعفر وأتى إلى الرشيد فقال لليهودي: أن تزعم أن أمير المؤمنين يموت إلى كذا وكذا يوما؟ قال: نعم. قال: وأنت كم عمرك؟ قال: كذا وكذا، أمدا طويلا. فقال للرشيد: حتى تعلم أنه كاذب في أمدك كما كذب في أمده فقتله وذهب ما كان بالرشيد وصلب اليهودي. فقال أشجع السلمي:

ومضى دم المنجم هدرا بحمقه. وحكى ابن الصابئ في كتاب الأماثل والأعيان عن إسحاق النديم الموصلي عن إبراهيم بن المهدي قال: خلا جعفر بن يحيى يوما في داره وأحضر ندماءه وكنت فيهم فلبس الحرير وتضمخ بالخلوق وفعل بنا مثله وتقدم بأن يحجب عنه كل أحد إلا عبد الملك بن بحران قهرمانه فسمع الحاجب عبد الملك دون ابن بحران وعرف عبد الملك بن صالح الهاشمي مقام جعفر بن يحيى في داره فركب إليه فأرسل الحاجب أن قد حضر عبد الملك فقال أدخله فما راعنا إلا دخول عبد الملك بن صالح في سواده ورصافيته فأربد وجه جعفر، وكان ابن صالح لا يشرب النبيذ وكان الرشيد دعاه إليه فامتنع فلما رأى عبد الملك حالة جعفر دعا غلامه فناوله سواده وقلنسوته في باب المجلس الذي كنا فيه وسلم وقال: أشركونا في أمركم وافعلوا بنا فعلكم بأنفسكم. فجاءه خادم فألبسه حريرة واستدعى بطعام فأكل، وبنبيذ فأتى برطل فشرب منه، ثم قال لجعفر والله ما شربته قبل اليوم ليخفف عني. فأمر أن يجعل بين يديه باطية يشرب منها ما يشاء، وتضمخ بالخلوق ونادمنا أحسن منادمة، وكان كلما فعل من هذا شيئا سري عن جعفر، فلما أراد الانصراف قال له جعفر: اذكر حوائجك فإنني ما أستطيع مقابلة ما كان منك، قال: إن في قلب أمير المؤمنين علي موجدة فتخرجها من قلبه وتعيده إلى جميل رأيه في. قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده عنك. فقال: وعلي أربعة آلاف درهم دينا. قال: تقضى عنك وإنها لحاضرة ولكن كونها من مال أمير المؤمنين أشرف لك وأدل على حسن ما عنده لك قال: وإبراهيم ابني أريد أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة، قال زوجه أمير المؤمنين ابنته العالية، قال: وأوثر التنبيه على موضعه برفع لواء على رأسه، قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر. وخرج عبد الملك ونحن متعجبون من قول جعفر وإقدامه من غير استئذان فيه. وركبنا من الغد إلى باب الرشيد ودخل جعفر وقفنا، فما كان بأسرع من أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، ولم يكن بأسرع من خروج إبراهيم والخلع عيه واللواء بين يديه وقد عقد له على العالية بنت الرشيد، وحملت إليه ومعها المال إلى منزل عبد الملك بن صالح وخرج جعفر فتقدم إلينا باتباعه إلى منزله، وصرنا معه. فقال: أظن قلوبكم تعلقت بأول أمر عبد الملك بأحببتم علم آخره، قلنا هو كذلك. فقال وقفت بين يدي أمير المؤمنين وعرفته ما كان من أمر عبد الملك من ابتدائه إلى انتهائه وهو يقول أحسن أحسن فما صنعت معه فعرفته ما كان من قولي فاستصوبه وأمضاه وكان ما رأيتم. فقال إبراهيم بن المهدي: فوالله ما أدري أيهم أعجب فعلا عبد الملك في شربه النبيذ ولباسه ما ليس من لبسه وكان رجل جد وتعفف ووقار وناموس، أو إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم، أو إمضاء الرشيد ما حكم به جعفر. وحكى القادسي في أخبارالوزير أن جعفرا اشترى جارية بأربعين ألف دينار فقالت لبائعها اذكر ما عاهدتني عليه أنك لا تأكل لي ثمنا فبكى مولاها وقال: اشهدوا أنها حرة وقد تزوجتها، فوهب له جعفر المال ولم يأخذ منه شيئا. قال ابن خلكان رحمه الله تعالى: وبلغ من علو المنزلة عنده ما لم يبلغه سواه حتى أن الرشيد اتخذ ثوبا له زيقان فكان يلبسه هو وجعفر جملة ولم يكن للرشيد عنه صبر. وكان الرشيد أيضا شديد المحبة لأخته العباسة ابنة المهدي وهي من أعز النساء عيه ولا يقدر على مفارقتها، وكان متى ما غاب أحدهما لا يتم له سرور. فقال: يا جعفر إنه لا يتم لي سرور إلا بك وبالعباسة وإني سأزوجك منها ليحل لكل منكما أن تجتمعا، ولكن إياكما أن تجتمعا وأنا دونكما. فتزوجها على هذا الشرط. فاتفق أن العباسة أحبت جعفرا وراودته فأبى وخاف فلما أعيتها الحيلة بعثت إلى عتابة أم جعفر أن أرسليني إلى جعفر كأني جارية من جواريك التي ترسلين إليه وكانت أمه ترسل إليه كل جمعة جارية بكرا عذراء وكان لا يطأ الجارية حتى يأخذ شيئا من النبيذ. فأبت عليها أم جعفر فقالت لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي أنك خاطبتيني بكيت وكيت ولئن اشتملت من ابنك على ولد ليكونن لكم الشرف، وما عسى أخي أن يفعل إذا علم أمرنا. فأجابتها أم جعفر وجعلت تعد ابنها أنها تهدي إليه جارية حسناء عندها من هيئتها ومن صفتها وهو يطالبها بالعدة حتى علمت أنه قد اشتاق إليها فأرسلت إلى العباسة أن تهيئ الليلة، فأدخلتها على جعفر وكان لم يثبت صورتها لأنه لم يكن رآها إلا عند الرشيد وكان لا يرجع طرفه إليها مخافة. فلما قضى وطره منها قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك فقال: وأي بنت ملك أنت قالت، أنا مولاتك العباسة فطار السكر من رأسه وذهب إلى أمه وقال يا أماه. بعتيني رخيصا. واشتملت العباسة منه على ولد ولما ولدته وكلت به غلاما يسمى رياشا وحاضنة يقال لها برة ولما خافت ظهور الأمر بعثتهم إلى مكة. وكان يحيى أبو جعفر ينظر على قصر الرشيد وحرمه ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح حتى ضيق على حرم الرشيد فشكته زبيدة إلى الرشيد فقال له: يا أبه مالزبيدة تشكوك؟ قال: أمتهم أنا في حرمك يا أمير المؤمنين؟ فقال لا. قال فلا تقبل قولها في. وزاد يحيى عليها غلظة وتشديدا فشكته إلى الرشيد فقال: يحيى عندي غير متهم في حرمي. قالت فلم لا يحفظ ابنه مما ارتكبه؟ قال وما هو؟ فخبرته بخبر العباسة، فقال: وهل على ذلك دليل، قالت وأي دليل أدل من الولد؟ قال وأين هو؟ قالت بعثته إلى مكة. قال أوعلم بذلك سواك؟ قالت لم يبق بالقصر جارية إلا وعرفت به. فسكت عنها وأظهر الحج فخرج ومعه جعفر فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن ووصل الرشيد إلى مكة فبحث عن أمر الصبي فوجده صحيحا فأضمر السوء للبرامكة.
وقيل بل سلم الرشيد إلى جعفر يحيى بن عبد الله بن الحسين، الخارجي عليه وحبسه عنده فدعا به يحيى إليه وقال له: يا جعفر اتق الله في أمري ولا تتعرضن أن يكون خصمك جدي محمدا صلى الله عليه وسلم، فوالله ما أحدثت حدثا، فرق له جعفر وقال: اذهب حيث شئت من البلاد. قال: أخاف أن أؤخذ فأرد، فبعث معه من أوصله إلى مأمنه. وبلغ الخبر الرشيد فدعا به وطاوله الحديث. فقال: يا جعفر ما فعل يحيى؟ قال: بحاله، قال بحياتي، فوجم وأحجم وقال: لا وحياتك أطلقته حيث علمت أن لا سوء عند. فقال: نعم الفعل، وما عددت ما في نفسي. فلما نهض جعفر أتبعه بصره وقال: قتلني الله إن لم أقتلك.
وقد اختلف الناس اختلافا كثيرا في سبب إيقاع الرشيد بالبرامكة. وسئل سعيد بن سالم عن ذلك فقال: والله ما كان منهم ما يوجب بعض عمل الرشيد بهم، ولكن طالت أيامهم وكل طويل مملول، والله لقد استطال الناس الذين هم خيار الناس، أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما رأوا مثلها عدلا وأمنا وسعة أموال وفتوح، وأيام عثمان رضي الله عنه حتى قتلوهما. ورأى الرشيد مع ذلك أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، ورميهم بأموالهم دونه، والملوك تنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى وطلب مساوئهم، ووقع منهم بعض الإدلال، خاصة جعفر والفضل، دون يحيى، فإنه كان أحكم خبرة وأكثر ممارسة للأمور، ولاذ من أعدائهم بالرشيد، كالفضل بن الربيع. فستروا المحاسن وأظهروا القبائح، حتى كان ما كان.
وقال والواقدي: نزل الرشيد العمر بناحية الأنبار سنة سبع وثمانين ومئة منصرفا من مكة، وغضب على البرامكة، وقتل جعفرا في أول يوم من صفر، وصلبه على الجسر ببغداد، وجعل رأسه على الجسر وفي الجانب الآخر جسده. انتهى. وقال غيره دعا الرشيد ياسرا غلامه وقال: قد انتخبتك لأمر لم أر له محمدا ولا عبد الله ولا القاسم، فحقق ظني، واحذر أن تخالف فتهلك، فقال: لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت، فقال: اذهب إلى جعفر بن يحيى وجئني برأسه الساعة، فوجم لا يحير جوابا، فقال: مالك ويلك؟ فقال: الأمر عظيم، وددت أنني مت قبل وقتي هذا، فقال له: امض لأمري، فمضى حتى دخل على جعفر وأبو زكار يغنيه:
فقال له: يا ياسر سررتني بإقبالك وسؤتني بدخولك من غير إذن، قال: الأمر أكبر من ذلك، قد أمرني أمير المؤمنين بكذا كذا، فأقبل جعفر يقبل قدمي ياسر. وقال: دعني أدخل أوصي قال: لا سبيل إليه أوص بما شئت، قال: لي عليك حق، ولا تقدر على مكافأتي إلا في هذه الساعة فقال تجدني سريعا إلا فيما يخالف أمر أمير المؤمنين، قال: فارجع فأعلمه بقتلي، فإن ندم كانت حياتي على يدك، وإلا أنفذت أمره في، قال: لا أقدر. قال: فأسير معك إلى مضربه وأسمع كلامه ومراجعتك، فإن أصر فعلت، قال: أما هذا فنعم وسارا إلى مضرب الرشيد فلما سمع حسه قال له: ما وراءك؟ فذكر له قول جعفر، قال: يا ماص بظر أمه والله لئن راجعتني لأقدمنك قبله، فرجع وقتله وجاءه برأسه، فلما وضعه بين يديه أقبل عليه مليا وقال: يا ياسر، جئني بفلان وفلان، فلما أتاه بهما قال لهما: اضربا عنق ياسر، فلا أقدر أرى قاتل جعفر. ذكر ذلك ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون وأكثر الشعراء في مراثيهم الأقوال فمن ذلك قول الرقاشي:
منها:
وقال يرثيه وأخاه الفضل:
قال دعبل الخزاعي:
وقال صالح بن طريف:
وقال الأصمعي: وجه إلي الرشيد بعد قتله جعفر فجئت فقال: أبيات أردت أن تسمعها، فقلت إذا شاء أمير المؤمنين فأنشدني:
فعلمت أنها له فقلت: إنها أحسن أبيات في معناها، فقال: إلحق الآن بأهلك يابن قريب إن شئت. وبعث الرشيد، بعد قتلة جعفر، إلى يحيى والفضل أبي جعفر وأخيه وحبسهما في حبس الزنادقة وقتل منهم في يوم واحد على ما قيل ألف وخمسمائة برمكي. وكان الرشيد بعد ذلك إذا ذكروا عنده بسوء أنشد:
وحكى ابن بدرون أن علية بنت المهدي قالت للرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة: يا سيدي ما رأيت لك يوم سرور تام منذ قتلت جعفر، فلأي شيء قتلته؟ قال لها: يا حياتي لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك لمزقته. وقيل إنه رفعت إلى الرشيد قصة لم يعرف رافعها وفيها:
فوقف الرشيد عليها وأضمر له السوء. ولأبي نواس:
وهذا يدل على أن السبب هو ما تقدم من ذكر أخته عباسة. وقال محمد بن غسان بن عبد الرحمن صاحب صلاة الكوفة: دخلت علي والدتي يوم نحر فوجدت عندها امرأة برزة في ثياب رثة فقالت والدتي: أتعرف هذه؟ قلت لا، قالت هذه عتابة أم جعفر البرمكي، فأقبلت عليها بوجهي وأكرمتها، وتحادثنا ساعة ثم قلت: يا أماه ما أعجب ما رأيت، قالت: لقد أتى علي عيد مثل هذا وعلى رأسي أربعمئة وصيفة، وإني لأعد ابني عاقا لي، ولقد أتى علي هذا العيد وما مناي إلا جلد شاتين أفترش أحدهما وألتحف الآخر، قال: فدفعت لها خمسمئة درهم، فكادت تموت فرحا، ولم تزل تختلف إلينا حتى فرق الدهر بيننا. قال المرزباني في معجم الشعراء: كتب الرشيد إليه لثلاث بقين من شعبان في رواية الغلابي:
فصار إليه وقال:
فلما نكبهم قال: ما دمت ولا صانه الله من الحدثان، بل كمنت له كمون الأفعوان في الريحان، فلما قابلني بالشم تلقيته بالسم.
ولما بلغ سفيان بن عيينة خبر جعفر وقتله وما نزل بالبرامكة حول وجهه إلى القبلة وقال: اللهم إنه قد كفاني مؤونة الدنيا فاكفه مؤونة الآخرة. قال الجهشياري: ولم يدفع الرشيد خاتمه بعد نكبة البرامكة إلى أحد. وكانت تختم بحضرته فإذا شغل عن ذلك أمر أبا صالح يحيى بن عبد الرحيم متولي الختم، وربما أمر حمزة بن بزيع بذلك. ولما استقر المأمون بالعراق أحسن إلى أولاد جعفر وإلى عياله وإلى جماعة من عرف حقوقه من البرامكة ومواليهم ورد ضياعهم عليهم ووصلهم. وكان يتذاكر أيامهم ويصفهم ويذكر نضارة أيامهم وحسنها ويشكر جعفر بن يحيى ويعتد له بما كان منه في أمره. واجتهد في اصطناع ابنه الفضل فلم يكن فيه فضل، وقلد موسى بن يحيى السند وأحسن إليه. ولما قصد الفضل بن الربيع فعد قتلة جعفر وولايته الوزارة حفظ خدمة الرشيد في حضرته وإضاعة ما وراء بابه فسد الحال وضاع الأمر وعادت أمور البريد في الأخبار في أيام الرشيد مهملة، وكان مسرور الخادم يتقلد البريد والخرائط ويخلفه ثابت الخادم عليها. قال الفضل بن مروان: حدثني ثابت الخادم أن الرشيد توفي وعنده أربعة آلاف خريطة لم تفض.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 11- ص: 0

البرمكي الوزير الملك أبو الفضل جعفر، ابن الوزير الكبير أبي علي يحيى ابن الوزير خالد بن برمك الفارسي.
كان خالد من رجال العالم، توصل إلى أعلى المراتب في دولة أبي جعفر، ثم كان ابنه يحيى كامل السؤدد، جليل المقدار، بحيث إن المهدي ضم إليه ولده الرشيد، فأحسن تربيته، وأدبه، فلما أفضت الخلافة إلى الرشيد، رد إلى يحيى مقاليد الأمور، ورفع محله، وكان يخاطبه: يا أبي، فكان من أعظم الوزراء، ونشأ له أولاد صاروا ملوكا، ولا سيما جعفر، وما أدراك ما جعفر؟ له نبأ عجيب، وشأن غريب، بقي في الارتقاء في رتبة، شرك الخليفة في أمواله، ولذاته، وتصرفه في الممالك، ثم انقلب الدست في يوم، فقتل، وسجن أبوه وإخوته إلى الممات، فما أجهل من يغتر بالدنيا!
وقال الأصمعي: سمعت يحيى بن خالد يقول: الدنيا دول، والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة.
قال إسحاق الموصلي: كانت صلة يحيى إذا ركب لمن سأله مائتي درهم، أتيته وقد شكوت إليه ضيقا، فقال: ما أصنع بك؟ ما عندي شيء، ولكني قد جاءني خليفة صاحب مصر، يسأل أن أستهدي صاحبه شيئا، فأبيت، فألح وبلغني أن لك جارية بثلاثة آلاف دينار، فهو ذا أستهديه إياها، فلا تنقصها من ثلاثين ألف دينار شيئا. قال: فما شعرت إلا والرجل قد أتى، فساومني بالجارية، فبذل عشرين ألفا، فلنت، فبعتها، فلما أتيت يحيى، عنفني، ثم قال: وهذا خليفة صاحب فارس، قد جاءني في نحو هذا، فخذ جاريتك مني، فإذا ساومك، لا تنقصها من خمسين ألف دينار. قال: فأتاني، فبعتها بثلاثين ألفا فلما، صرت إلى يحيى، قال: ألم نؤدبك؟ خذ جاريتك. قلت: قد أفدت بها خمسين ألف دينار، ثم تعود إلي، هي حرة، وإني قد تزوجتها.
قيل: إن ولدا ليحيى، قال له وهم في القيود: يا أبة، بعد الأمر والنهي والأموال صرنا إلى هذا؟! قال: يا بني! دعوة مظلوم غفلنا عنها، لم يغفل الله عنها.
مات يحيى مسجونا، بالرقة، سنة تسعين ومائة، عن سبعين سنة.
فأما جعفر، فكان من ملاح زمانه، كان وسيما، أبيض، جميلا، فصيحا، مفوها، أديبا، عذب العبارة، حاتمي السخاء، وكان لعابا، غارقا في لذات دنياه، ولي نيابة دمشق، فقدمها في سنة ثمانين ومائة، فكان يستخلف عليها، ويلازم هارون، وكان يقول: إذا أقبلت الدنيا عليك، فأعط، فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت، فأعط، فإنها لا تبقى.
قال ابن جرير: هاجت العصبية بالشام، وتفاقم الأمر، فاغتم الرشيد، فعقد لجعفر، وقال: إما أن تخرج أو أخرج. فسار، فقتل فيهم، وهذبهم، ولم يدع لهم رمحا، ولا قوسا، فهجم الأمر، واستخلف على دمشق عيسى بن المعلى، ورد.
قال الخطيب: كان جعفر عند الرشيد بحالة لم يشاركه فيها أحد، وجوده أشهر من أن يذكر، وكان من ذوي اللسن والبلاغة. يقال: إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ونظر في جميعها، فلم يخرج شيئا منها عن موجب الفقه، كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف حتى فقه.
وعن ثمامة بن أشرس، قال: ما رأيت أبلغ من جعفر البرمكي، والمأمون.
قيل: اعتذر إلى جعفر رجل، فقال: قد أغناك الله بالعذر منا عن الاعتذار إلينا، وأغنانا بالمودة لك عن سوء الظن بك.
قال جحظة: حدثنا ميمون بن مهران، حدثني الرشيدي، حدثني مهذب حاجب العباس بن محمد -يعني: أخا المنصور: أن العباس نالته إضاقة، فأخرج سفطا فيه جوهر بألف ألف، فحمله إلى جعفر، وقال أريد عليه خمسمائة ألف. قال: نعم، وأخذ السفط. فلما رجع العباس إلى داره، وجد السفط قد سبقه، ومعه ألف ألف، ودخل جعفر على الرشيد، فخاطبه في العباس، فأمر له بثلاثمائة ألف دينار.
وعن إبراهيم الموصلي، قال: حج الرشيد وجعفر وأنا معهم، فقال لي جعفر: انظر لي جارية لا مثل لها في الغناء والظرف. قال: فأرشدت إلى جارية لم أر مثلها، وغنت، فأجادت، فقال مولاها: لا أبيعها بأقل من أربعين ألف دينار. قلت: قد أخذتها. فأعجب بها جعفر فقالت الجارية: يا مولاي، في أي شيء أنت؟ قال: قد عرفت ما كنا فيه من النعمة، فأردت أن تصيري إلى هذا الملك، فتسعدي. قالت: لو ملكت منك ما ملكت مني، ما بعتك بالدنيا، فاذكر العهد -وقد كان حلف أن لا يأكل لها ثمنا- فتغرغرت عيناه، وقال لجعفر: اشهدوا أنها حرة، وأني قد تزوجتها، وأمهرتها داري، فقال جعفر: انهض بنا. فدعوت الحمالين لنقل الذهب، فقال جعفر: والله لا صحبنا منه درهم، وقال لمولاها: أنفقه عليكما.
قيل: كان في خزائن جعفر دنانير، زنة الواحد مائة مثقال، كان يرمي بها إلى أصطحة الناس سكته.

وقيل: بل الشعر لأبي العتاهية، وكان على الدينار صورة جعفر.
قال صاحب ’’الأغاني’’: أخبرنا عبد الله بن الربيع، حدثني أحمد بن إسماعيل، عن
محمد بن جعفر قال: شهدت أبي يحدث جدي وأنا صغير، قال: أخذ بيدي أمير المؤمنين، فأقبل يخترق الحجر، حتى انتهينا إلى حجرة، ففتحها، ودخلنا، فأغلقها، وقعدنا على باب ونقره، فسمعت صوت عود، فغنت امرأة، فأجادت، فطربت والله، ثم غنت، فرقصنا معا، وخرجنا، فقال لي: أتعرف هذه؟ قلت: لا. قال: علية أختي، والله لئن لفظت به لأقتلنك. فقال له جدي: فقد لفظت به، والله ليقتلنك.
وقيل: إن امرأة كلابية أنشدت جعفرا:
قد اختلف في سبب مصرع جعفر على أقوال: فقيل: إن جبريل بن بختيشوع الطبيب قال: إني لقاعد عند الرشيد، فدخل يحيى بن خالد، وكان يدخل بلا إذن، فسلم، فرد الرشيد ردا ضعيفا، فوجم يحيى. فقال هارون: يا جبريل! يدخل عليك أحد بلا إذن؟ قلت: لا. قال: فما بالنا؟ فوثب يحيى، وقال: قدمني الله يا أمير المؤمنين قبلك، والله ما هو إلا شيء خصصتني به، والآن فتبت، فاستحيى الرشيد، وقال: ما أردت ما تكره، ولكن الناس يقولون.
وقيل: إن ثمامة قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد، يعظه، وفيها: إن يحيى لا يغني عنك من الله شيئا، فأوقف الرشيد يحيى على الرسالة، وقال: أتعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم، هو منهم على الإسلام. فسجنه، فلما نكبت البرامكة، أحضره، وقال: أتحبني؟ قال: لا والله. قال: أتقول هذا قال: نعم، وضعت في رجلي القيد، وحلت بيني وبين عيالي بلا ذنب، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله. فأطلقه، وقال: أتحبني؟ قال: لا، ولا أبغضك. فأمر له بمائة ألف، وقال: أتحبني؟ قال: نعم. قال: انتقم الله ممن ظلمك. فقال الناس في البرامكة وكثروا.
وقيل: إن يحيى دخل بعد على الرشيد، فقال للغلمان: لا تقوموا له، فاربد لون يحيى.
وقيل: بل سبب قتل جعفر، أن الرشيد سلم له يحيى بن عبد الله بن حسن العلوي، فرق له، وأطلقه سرا، فجاء رجل ينعته إلى الرشيد، وأنه رآه بحلوان، فأعطى الرجل مالا.
وقيل: بل أنشأ جعفر دارا، أنفق عليها عشرين ألف ألف درهم، فأسرف.
وقيل: اعتمر يحيى بن خالد، فتعلق بالأستار، وقال: رب ذنوبي عظيمة، فإن كنت معاقبي، فاجعل عقوبتي في الدنيا، وإن أحاط ذلك بسمعي، وبصري، ومالي، وولدي، حتى أبلغ رضاك، فقدح الأمير ابن ماهان عند الرشيد في موسى بن يحيى بن خالد، وأعلمه طاعة أهل خراسان له، وأنه يكاتبهم، فاستوحش الرشيد منه، وركبه دين، فاختفى من الغرماء، فتوهم الرشيد أنه سار إلى خراسان، ثم ظهر، فسجنه، فهذا أول نكبتهم، فأتت أمه تلاطف الرشيد، فقال: يضمنه أبوه، فضمنه.
وغضب الرشيد أيضا على الفضل بن يحيى، لتركه الشرب معه، وكان الفضل يقول: لو علمت أن شرب الماء ينقص مروءتي، لتركته، وكان مشغوفا بالسماع، وكان جعفر ينادم الرشيد، ويأمره أبوه بالإقلال من ذلك، فلا يسمع. وقال يحيى: يا أمير المؤمنين! أنا أكره مداخل جعفر معك، فلو اقتصرت به على الإمرة دون العشرة. قال: يا أبت ليس ذا بك، بل تريد أن تقدم الفضل عليه.
ابن جرير: حدثنا أحمد بن زهير، أظنه عن عمه زاهر بن حرب، أن سبب هلاك البرامكة، أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وأخته عباسة، وكان يحضرهما مجلس الشراب، فيقوم هو، فقال: أزوجكها على أن لا تمسها. قال: فكانا يثملان، ويذهب الرشيد، ويثب جعفر عليها، فولدت منه غلاما، فوجهته إلى مكة، فاختفى الأمر، ثم ضربت جارية لها، فوشت بها، فلما حج الرشيد، هم بقتل الطفل، ثم تأثم من ذلك، فلما وصل إلى الحيرة، بعث إلى مسرور الخادم، ومعه أبو عصمة، وأجناد، فأحاطوا بجعفر ليلا، فدخل عليه مسرور وهو في مجلس لهو، فأخرجه بعنف، وقيده بقيد حمار، وأتى به، فأمر الرشيد بقتله.
وعن مسرور قال: وقع على رجلي يقبلها، وقال: دعني أدخل فأوصي. قلت: لا سبيل إلى ذا، فأوص بما شئت فأوصى، وأعتق مماليكه، ثم ذبحته بعد أن راجعت فيه الرشيد، وجئته برأسه. ووجه الرشيد جندا إلى أبيه، فأحاطوا به وبأولاده ومواليه، وأخذت أموالهم وأملاكهم، وبعثت جثة جعفر إلى بغداد، فصلب، ونودي: ألا لا أمان لمن آوى برمكيا، وصلب الرشيد أنس بن أبي شيخ على الزندقة، وكان مختصا بالبرامكة.
عن إبراهيم بن المهدي قال: خلا جعفر يوما بندمائه وأنا فيهم، وتضمخ بالطيب، فجاءه عبد الملك بن صالح، فدخل فاربد وجه جعفر، فدعا عبد الملك غلامه، فنزع سواده، وقلنسوته، وأتى مجلسنا، فألبسوه حريرا، وأطعم وشرب. فقال: والله ما شربته قبل اليوم، فأخف علي، ونادم أحسن منادمة، وسري عن جعفر، وقال: اذكر حوائجك، فإني لا
أستطيع مقابلة ما كان منك. قال: في قلب أمير المؤمنين علي موجدة، فتخرجها. قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين. قال: وعلي أربعة آلاف ألف. قال: قضي دينك. قال: وابني إبراهيم، أحب أن أزوجه. قال: قد زوجه أمير المؤمنين بالعالية بنته. قال: وأوثر أن يولى بلدا. قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، فخرج ونحن متعجبون من إقدام جعفر على هذه الأمور العظيمة، من غير استئذان، وركب إلى الرشيد، فأمضى له الجميع.
قال ابن خلكان: بلغ من أمر جعفر أن الرشيد اتخذ له ثوبا له زيقان يلبسه هو وهو، ولم يكن له عنه صبر، وكانت عباسة أخت الرشيد أعز امرأة عليه، فكان متى غابت أو غاب جعفر تنغص، وقال لجعفر: سأزوجكها لمجرد النظر، فاحذر أن تخلو بها، فزوجه. فقيل: إنها أحبته، وراودته، فأبى، وأعيتها الحيلة، فبعثت إلى والدة جعفر: أن ابعثيني إلى ابنك كأنني جارية لك، تتحفينه بها، فأبت. فقالت: لئن لم تفعلي، لأقولن عنك: إنك دعوتيني إلى هذا، ولئن ولدت من ابنك، ليكونن لكم الشرف، فأجابتها. قال: فافتضها، فقالت: كيف رأيت خديعة بنات الخلفاء، فأنا مولاتك، فطار السكر من رأسه، وقام، وقال لأمه: بعتيني -والله- رخيصا، وحبلت منه، فلما ولدت، وكلت بالولد خادما ومرضعا، وبعثتهم إلى مكة، ثم وشت بها زبيدة، فحج، وتحقق الأمر، فأضمر السوء للبرامكة، وأشار أبو نواس إلى ذلك، فقال:
وسئل سعيد بن سالم عن ذنب البرامكة، فقال: ما كان منهم بعض ما يوجب ما فعل الرشيد، لكن طالت أيامهم، وكل طويل يمل.
وقيل: رفعت القصة إلى الرشيد فيها:
فقرأها، وأثرت فيه.
وقيل: إن أخته قالت له: ما رأيت لك سرورا منذ قتلت جعفرا، فلم قتلته؟ قال: لو علمت أن قميصي يعلم السبب لمزقته.
عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي خطيب الكوفة، قال: دخلت على أمي يوم الأضحى، وعندها عجوز في أثواب رثة، فقالت: تعرف هذه؟ قلت: لا. قالت: هذه والدة جعفر البرمكي، فسلمت عليها، ورحبت بها، وقلت: حدثينا ببعض أمركم. قالت: لقد هجم علي مثل هذا العيد، وعلى رأسي أربعمائة جارية، وأنا أزعم أن ابني عاق لي، وقد أتيتكم يقنعني جلد شاتين، أجعل أحدهما فراشا لي. قال: فأعطيتها خمسمائة درهم، فكادت تموت فرحا.
لم يزل يحيى، وآله محبوسين، وحالهم حسنة، إلى أن سخط الرشيد على ابن عمه عبد الملك بن صالح، فعمهم بسخطه، وجدد لهم التهمة، وضيق عليهم.
ودامت جثة جعفر معلقة مدة، وعلقت أطرافه بأماكن، ثم أحرقت.
وقيل: لم يحبس محمد بن يحيى.
وفي تاريخ ابن خلكان: أن الرشيد دعا ياسرا غلامه، فقال: قد انتخبتك لأمر لم أر له الأمين ولا المأمون، فحقق ظني. قال: لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت. قال: ائتني برأس جعفر، فوجم لها. قال: ويلك ما لك؟ قال: الأمر عظيم، ليتني مت قبل هذا. قال: امض ويلك. فمضى، فأتى جعفرا، فقال: يا ياسر! سررتني بإقبالك، لكن سؤتني بدخولك بلا إذن. قال: الأمر وراء ذلك يا جعفر، قد أمرت بكذا. قال المسكين -وأقبل يقبل قدمه- وقال: دعني أدخل وأوصي. قال: لا سبيل إلى ذلك، فأوص. فقال: لي عليك حق، فارجع إلى أمير المؤمنين، وقل: قتلته، فإن ندم كانت حياتي على يدك. قال: لا أقدر. قال: فآتي معك إلى مخيمه، وأسمع كلامه، وقولك له. قال: أما هذا فنعم، وذهب به، فلما دخل ياسر، قال: ما وراءك؟ فذكر له قول جعفر، فشتمه، وقال: لئن راجعتني، لأقدمنك قبله، فخرج وضرب عنقه، وأتاه برأسه. فقال: يا ياسر جئني بفلان وفلان فلما أتاه بهما قال: اضربا عنقه، فإني لا أقدر أرى قاتل جعفر.
وقال أبو العتاهية:
قال المحدث عبد الله بن روح المدائني: ولدت يوم قتل جعفر بن يحيى، وهو أول صفر، سنة سبع وثمانين ومائة، عاش سبعا وثلاثين سنة، ومات أخوه الفضل في سنة اثنتين وتسعين ومائة، وكان أخا للرشيد من الرضاعة، وأمه بربرية، وكان قد ولي إمرة خراسان، وكان من نبلاء الرجال، وكان أكرم وأجود من جعفر، لكنه كان ذا تيه وكبر عظيم، وصل مرة عمرو بن جميل التميمي بألف ألف درهم، وعاش خمسا وأربعين سنة، وله عدة إخوة.

  • دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 7- ص: 508

جعفر بن يحيى بن خالد، أبو الفضل البرمكي قال الخطيب: كان من علو القدر، ونفاذ الأمر، وعظم المحل، وجلالة المنزلة، عند هارون الرشيد، بحالة انفرد بها، ولم يشارك فيها، وكان سمح الأخلاق، طلق الوجه، ظاهر البشر، فأما جوده وعطاؤه فأشهر من أن يذكر، وأبين من أن يظهر، وكان أيضا من ذوي الفصاحة، المذكورة باللسن والبلاغة، ويقال: إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، نظر في جميعها، فلم يخرج شيء منها عن موجب الفقه.
قال: وكان أبوه يحيى بن خالد قد ضمه إلى أبي يوسف القاضي، حتى علمه وفقهه.
وقال ثمامة بن أشرس: ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون.
وحكى العباس بن الفضل، قال: اعتذر رجل إلى جعفر بن يحيى البرمكي، فقال له جعفر: قد أغناك الله بالعذر [منا] عن الاعتذار إلينا، وأغنانا بالمودة لك عن سوء الظن بك.
وحيث كان يروى عنه في الكرم، وإسداء النعم، وإكرامه جلسائه، والإحسان إلى أوليائه، وتحقيق ظن آمليه، وتفريج كربة سائليه، ما تضيق عنه الدفاتر، وتعجز عن ضبطه الأقلام والمحابر، وتغنى به الركبان، وتتجمل بذكره مجالس الأعيان، فلا بأس أن نذكر منها طرفا يسيرا يكون لأهل الكرم به قدوة، ولضعيف الهمة باعثا على الجميل وموجدا له نحوه، وليعلم أن المرء لا يبقى له بعد موته إلا الذكر الجميل، والثناء الحسن الجزيل.
فمن ذلك ما روى ابن عساكر، عن المهذب صاحب العباس بن محمد، صاحب قطيعة العباس والعباسية، أنه أصابته ضائقة، وألح عليه المطالبون، وعنده سفط فيه جوهر، مشتراة عليه ألف درهم، فحمله إلى جعفر ليبيعه منه، فاشتراه بثمنه، ووزن له ألف ألف، وقبض منه السفط، وأجلسه عنده في تلك الليلة، فلما رجع إلى أهله إذا السفط قد بلغه إلى منزله، فلما أصبح غدا إليه ليتشكر له، فوجده مع أخيه الفضل على باب الرشيد، يستأذن عليه، فقال له جعفر: إني قد ذكرت أمرك للفضل، وقد أمر لك بألف ألف، وما أظنها إلا سبقتك إلى أهلك، وسأفاوض فيك أمير المؤمنين. فلما دخل ذكر أمره له، وما لحقه من الديون، فأمر له بثلاثمائة ألف دينار.
وروى الخطيب أن جعفرا كان ليلة في سمره وعنده أبو علقمة الثقفي صاحب الغريب، فأقبلت خنفساة إلى علقمة، فقال: أليس يقال: إن الخنفساة إذا أقبلت إلى رجل أصاب خيرا؟ قالوا: بلى. فقال جعفر: يا غلام أعطه ألف دينار. ثم نحوها فعادت إليه، فقال: يا غلام، أعطه ألف دينار. فأعطاه.
وروى أيضا أن جعفرا حج مرة مع الرشيد، فلما كانوا بالمدينة، قال لإبراهيم الموصلي: أنظر لي جارية أشتريها، ولا تبق غاية في حذاقتها بالغناء والضرب والكمال، والطرف، والأدب، وجنبني قولهم: صفراء.
قال إبراهيم: فوصفتها على يد من يعرف، فأرشدت إلى جارية لرجل، فدخلت عليه، فرأيت رسوم النعمة عنده، فأخرجها إلي، فلم أر أجمل منها ولا أصبح ولا آدب، قال: ثم تغنت لي أصواتا فأجادتها، قال: فقلت لصاحبها: قل ما شئت، قال: أقول لك قولا لا أنقص منه درهما، قلت: قل. قال: أربعين ألف دينار. قال: قلت قد أخذتها، واشترطت عليك نظرة. قال: ذاك لك.
قال: فأتيت جعفر بن يحيى، فقلت: قد أصبت حاجتك على غاية الكمال والظرف والأدب والجمال ونقاء اللون وجودة الضرب والغناء، وقد اشترطت نظرة فاحمل المال، ومر بنا.
قال: فحملنا المال على حمالين، وجاء جعفر مستخفيا، فدخلنا على الرجل فأخرجها، فلما رآها جعفر أعجب بها، وعرف أن قد صدقته، ثم غنته فازداد بها عجبا، فقال لي: اقطع أمرها. فقلت لمولاها: هذا المال قد نقدناه ووزناه، فإن قنعت وإلا فوجه إلى من شئت لينتقده. فقال: لا، بل أقنع بما قلتم.
قال: فقالت الجارية: يا مولاي، في أي شيء أنت؟
فقال: قد عرفت ما كنا فيه من النعمة، وما كنت فيه من انبساط اليد، وقد انقبضت عن ذلك لتغير الزمان علينا، فقدرت أن تصيري إلى هذا الملك، فتنبسطي في شهواتك وإرادتك.
فقالت الجارية: والله يا مولاي لو ملكت منك ما ملكته مني ما بعتك بالدنيا وما فيها، وبعد فاذكر العهد.
وقد كان حلف لها أن لا يأكل لها ثمنا، فتغرغرت عين المولى، وقال: اشهدوا أنها حرة لوجه الله تعالى، وأني قد تزوجتها، وأمهرتها داري.
فقال لي جعفر: انهض بنا.
فقال: فدعوت الحمالين ليحملوا المال، قال: فقال جعفر: لا والله، لايصحبنا منه درهم.
قال: ثم أقبل على مولاها، فقال: هو لك مباركا لك فيه، أنفقه عليك وعليها. قال: وقمنا وخرجنا.
وروى أنه لما حج اجتاز في طريقه بالعقيق، وكانت سنة مجدبة، فاعتضته امرأة من بني كلاب، وأنشدته:

فأجزل لها العطاء.
ذكر مقتل جعفر، وإيقاع الرشيد به
وبأهل بيته
وذكر السبب في ذلك على وجه الاختصار، فإن فيه عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ، وتنبيها لمن هو غافل عن غدر الدنيا لأرببابها، وإساءتها بعد الإحسان لأصحابها، وقد نقلت ذلك من التواريخ المعتمدة، كتاريخ الخطيب، وتاريخ ابن كثير، وغيرهما.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة، فيها كان مقتل الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، ودمار ديارهم، واندثار آثارهم، وذهاب صغترهم وكبارهم، وقد اختلف في سب ذلك على أقوال، ذكرها أبو جعفر بن جرير، وغيره من علماء التاريخ، فمما قيل: إن الرشيد قد سلم يحيى بن عبد الله بن حسن إلى جعفر البرمكي، فسجنه عنده، قال: فما زال يحيى يترفق له حتى أطلقه جعفر، فنم الفضل بن الربيع على جعفر في ذلك، فقال له الرشيد: ويلك، لا تدخل بيني وبين جعفر، فلعله قد أطلقه على أمري وأنا لا أشعر. ثم سأل الرشيد جعفر عن ذلك فصدقه الحال، فتغيظ عليه الرشيد، وحلف ليقتلنه، وكرة البرامكة، ومقتهم، وقلاهم، بعد ما كانوا أحظى الناس عنده، وأحبهم إليه، وكانت أم جعفر والفضل أمه من الرضاعة، وجعلهم من الرفعة في الدنيا وكثرة المال، بسبب ذلك في شيء كثير لم يحصل لمن قبلهم من الوزراء، ولا لمن بعدهم من الأكابر والرؤساء، بحيث أن جعفرا بنى دارا، وغرم عليها عشرين ألف ألف درهم، وكان ذلك ’’ من جملة ما كبر عليه بسببه ’’.
ويقال: إن الرشيد كان لا يمر ببلد ولا إقليم فيسأل عن قرية أو مزرعة أو بستان، إلا قيل: هذا لجعفر.
وقد قيل: إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد، وإظهار الزندقة، ويؤيد ذلك ما روى أن الرشيد أتى بأنس بن أبي شيخ، وكان يتهم بالزندقة، وكان مصاحبا لجعفر، وذلك ليلة قتل، فدار بينه وبينه كلام، فأخرج سيفا من تحت فراشه، وأمر بضرب عنقه به، وجعل يتمثل ببيت قيل في أنس، قبل ذلك، وهو
فضرب عنقه، فسبق السيف الدم، فقال الرشيد: رحم الله عبد الله بن مصعب. فقال الناس: إن السيف كان سيف الزبير بن العوام، رضي الله تعالى عنه.
وقيل: إنه بسبب العباسة أخته، فإن جعفرا كان يدخل على الرشيد بغير إذن، حتى إنه كان ربما دخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه، وهذه وجاهة عظيمة، ومنزلة عالية، وكان من أحظى العشراء، على الشراب، فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر ملكه المسكر، ’’ وكان المخلف ’’. وكان أحب أهله إليه أخته العباسة بنت المهدي، وكان يحضرها معه، وجعفر البرمكي حاضر أيضا، فزوجه بها، ليحل له النظر إليها، واشترط عليه أن لا يطأها، فكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب، فربما واقعها جعفر، فاتفق حملها منه، فولدت ولدا بعثته مع بعض جواريها إلى مكة، وكان يربى هناك.
وذكر قاضي القضاة ابن خلكان في ’’ الوفيات ’’ صفة أخرى في مقتل جعفر، وذلك أنه لما زوج الرشيد جعفرا من العباسة أخته، أحبته حبا شديدا، فراودته عن نفسه، فامتنع أشد الامتناع من خشية أمير المؤمنين، فاحتالت عليه، وكانت أمه تهدي إليه في كل ليلة جمعة جارية حسناء بكرا، فقالت لأمه: ادخليني عليه في صفة جارية من تلك الجواري. فهابت من ذلك، فتهددتها حتى فعلت، فلما دخلت عليه، وكان لا يتحقق وجهاا من مهابة الرشيد، فواقعها، فقالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: ومن أنت؟ فقالت: أنا العباسة. وحملت منه تلك الليلة، فدخل على أمه، فقال لها: بعتيني والله برخيص.
ثم أن والد يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة، حتى شكته زبيدة إلى الرشيد مرات، ثم أفشت له سر العباسة، فاستشاط غضبا.
ولما أخبرته أن الولد قد أرسلت به إلى مكة، حج عامه ذلك، حتى يتحقق الأمر، ويقال: إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد، فأخبرته بما وقع من الأمر، وأن الولد بمكة، وعنده جوار ومعه أموال، وحلي كثير، فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية، فكشف عن الحال، فإذا هو كما ذكرت الجارية.
وقد حج في هذه السنة يحيى بن خالد الوزير، وقد استشعر الغضب من الرشيد عليه، فجعل يدعو عند الكعبة: اللهم إن كان يرضيك عني سلب مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك بي، وأبق عليهم منهم الفضل. ثم خرج، فلما كان عند باب المسجد رجع، فقال: اللهم والفضل معهم، فإني راض برضاك عني، ولا تستثن منهم أحدا.
وقيل: إن من المحرضات على قتل البرمكة قول بعض الشعراء يخاطب الرشيد:
وروى ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن السبب الذي من أجله أهلك البرامكة، فقال: لو أن قميصي هذا يعلم لأحرقته.
قال ابن كثير: فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة، ثم ركب في السفن إلى العمر، من أرض الأنبار، فلما كانت ليلة السبت، سلخ المحرم من هذه السنة، أعني سنة سبع وثمانين، أرسل مسرور الخادم، ومعه حماد بن سالم أبو عصمة، في جماعة من الجند، فأطافوا بجعفر بن يحيى ليلا، فدخل عليه مسرور الخادم، وعنده بختيشوع المتطبب، وأبو ركاز الأعمى المغني يغنيه:
وقيل: كان يعنيه قول بعضهم:
ولكن المشهور هو الأول.
فقال الخادم: يا أبا الفضل، هذا الموت قد طرقك، أجب أمير المؤمنين. فقام إليه، فقبل قدميه، وأدخل عليه أن يدخل إلى أهله فيوصي إليهم، فقال: أما الدخول فلا سبيل إليه. فأوصى جعفر، وأعتق جماعة من مماليكه، وجاءت رسل الرشيد تستحث الخادم، فأخرجه إخراجا عنيفا يقوده حتى أتى إلى المنزل الذي كان فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد، وأعلم الرشيد بما فعل، فأمره بضرب عنقه، فجاء إلى جعفر، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني أن آتيه برأسك. فقال: يا أبا هاشم، لعل أمير المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتبك على ذلك، فعاوده. فرجع إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، لعلك مشغول. فقال: ويحك يا ماص بظر أمه، إيتني برأسه. فكرر عليه جعفر المعاودة، فقال له: برئت من المهدي لئن لم تأتني برأسه لأبعثن من يأتيني برأسك ورأسه. فرجع إلى جعفر، وحز رأسه، وجاء به إلى الرشيد، فألقاه بين يديه.
وأرسل الرشيد من ليلته البرد في الاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها، ومن كان منهم بسبيل، فأخذوا كلهم عن آخرهم، فلم يفلت منهم أحد، وحبس يحيى بن خالد في منزله، وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر، وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الأموال والموالي والحشم والخدم، واحتيط على أملاكهم.
وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته، ثم قطعت شقين، فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، وشق الجثة عند الجسر الأسفل، وشقها الآخر عند الجسر الآخر، ثم أحرقت بعد ذلك.
ونودي في بغداد: أن لا أمان للبرامكة، ولا لمن والاهم إلا محمد بن يحيى بن خالد، فإنه استثناه من بين البرامكة، لنصيحة الخليفة، وشحنت السجون بالبرامكة، واستلبت أموالهم كلها.
وقد كان الرشيد في اليوم الذي قتل في آخره جعفر، هو وإياه راكبين في الصيد، وقد خلا به دون ولاة العهود، وطيبة في ذلك اليوم، ولما كان وقت المغرب، وودعه الرشيد، ضمه إليه، وقال: لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك، فاذهب إلى منزلك، فاشرب، واطرب لتكون على مثل حالي.
فقال: والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك.
فانصرف عنه جعفر، فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به الباس والنكال، كما تقدم ذكره، وكان ذلك ليلة السبت، آخر ليلة من المحرم، وقيل: إنها كانت ليلة مستهل صفر، سنة سبع وثمانين، وكان عمر جعفر إذ ذاك سبعا وثلاثين سنة.
ولما جاء الخبر إلى أبيه يحيى بقتله قال: قتل الله ابنه. ولما قيل له: خربت دارك. قال: خرب الله دوره.
ويقال: إنه لما نظر إلى داره وقد هتكت ستورها، واستبيحت قصورها، وانتهب ما فيها، قال: هكذا تقوم الساعة.
وقد كتب إليه بعض أصحابه يعزيه فيما وقع، فكتب جواب التعزية: أنا بقضاء الله راض، وبالجزاء منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما الله بظلام للعبيد، وما يغفر الله أكثر، ولله الحمد.
ولقد أكثر الشعراء المراثي في البرامكة، فمن ذلك قول الرقاشي، ويذكر أنه لأبي نواس:
وقال الرقاشي، وقد نظر إلى جعفر وهو مصلوب على جذعه:
فاستدعى به الرشيد، وقال له: ويحك، ما حملك على ما فعلت؟ قال: تحركت نعمته بقلبي فلم أصبر.
قال: كم كان يعطيك جعفر كل عام؟ قال: ألف دينار. فأمر له بألفي دينار.
وروى الزبير بن بكار، عن عمه مصعب بن الزبير، قال: لما قتل جعفر بن يحيى، وقفت امرأة على حمار فاره، فقالت بلسان فصيح: والله لئن صرت اليوم آية، فلقد كنت في الكرم غاية، ثم أنشأت تقول:
قال: ثم حركت حمارها، فكأنها كانت ريحا، لا أثر لها، ولا يعرف أين ذهبت.
وقيل: إن الأبيات هذه للعباس بن الأحنف.
وروى الخطيب أن أبا يزيد الرياحي، قال: كنت قائما عند خشبة جعفر بن يحيى البرمكي أتفكر في زوال ملكه، وحاله التي صار إليها، إذا أقبلت امرأة راكبة لها رواء وهيبة، فوقفت على جعفر، فبكت وأحرقت، وتكلمت فأبلغت، فقالت: أما والله لئن أصبحت للناس آية، لقد بلغت فيهم الغاية، ولئن زال ملكك، وخانك دهرك، ولم يطل به عمرك، لقد كنت المغبوط حالا، الناعم بالا، يحسن بك الملك، وينفس بك الهلك، ’’ ولئن صرت ’’ إلى حالتك هذه، فلقد كنت الملك بحقه، في جلالته ونطقه، فاستعظم الناس فقدك، إذ لم يستخلفوا ملكا بعدك، فنسأل الله الصبر على عظم المصيبة، وجليل الرزية، التي لا تستعاض بغيرك، والسلام عليك وداع غير قال، ولا ناس لذكرك. ثم أنشأت تقول:
ثم سكتت ساعة وتأملته، ثم أنشأت تقول:
وروى الخطيب، أن أبا قابوس النصراني، قال: دخلت على جعفر بن يحيى البرمكي في يوم، فأصابني البرد، فقال: يا غلام، اطرح عليه كساء من أكسية النصارى، فطرح عليه كساء خز قيمته ألف دينار، قال: فانصرفت إلى منزلي، فأردت أن ألبسه في يوم عيد، فلم أصب له في منزلي ثوبا يشاكله، فقالت لي بنية لي: اكتب إلى الذي وهبه لك حتى يرسل إليك بما يشاكله من الثياب، فكتبت إليه هذه الأبيات:
قال: فبعث إليه حين قرأش عره بتخوت خمسة، من كل نوع تختا، قال: فوالله ما انقضت الأيام حتى قتل جعفر وصلب، فرأينا أبا قابوس قائما تحت جذعه يزمزم، فأخذه صاحب الخبر، فأدخله على الرشيد، فقال له: ما كنت قائلا تحت جذع جعفر؟ قال: فقال أبو قابوس: أينجيني منك الصدق؟ قال: نعم.
قال: ترحمت والله عليه، وقلت في ذلك:
قال: فأطرق هارون مليا، ثم قال: رجل أولي جميلا، فقال فيه جميلا، يا غلام، ناد بأمان أبي قابوس، وأن لا يتعرض له. ثم قال لحاجبه: إياك أن تحجبه عني، صرمتي شئت إلينا في مهمك.
وروى ابن عساكر بسنده، من طريق الدارقطني، أنه لما أصيب جعفر، وجدوا له في جرة ألف دينار، زنة كل دينار مائة دينار، مكتوب على صفحة الدينار الواحدة جعفر، ومكتوب على الصفحة الأخرى هذان البيتان:
وروى الخطيب أن جعفرا أمر أن تضرب له دنانير في كل دينار ثلاثمائة مثقال، ويضرب عليها صورة وجهه، فضربت، فبلع أبا العتاهية، فأخذ طبقا فوضع عليه بعض الألطاف، فوجه به إلى جعفر، وكتب إليه رقعة، في آخرها:
فأمر بقبض ما على الطبق، وصير عليه دينارا من تلك الدنانير، ورده إليه.
وعن ثمامة بن أشرس، قال: بت ليلة مع جعفر بن يحيى بن خالد، فانتبه من منامه يبكي مذعورا، فقلت: ما شأنك؟ قال: رأيت شيخا جاء فأخذ بعضادتي هذا الباب، وقال:
قال: فأجبته:
قال ثمامة: فلما كان الليلة المقبلة، قتله الرشيد، ونصب رأسه على الجسر.
قال: ثم خرج الرشيد في بعض الأيام ينظر إليه وهو مصلوب، فأنشأ يقول:
قال: فنظرت إلى جعفر، فقلت: أما لئن أصبحت آية، فلقد كنت في الخير غاية.
قال: فنظر الرشيد كأنه جمل يصول، ثم أنشأ يقول:
ثم حول وجه فرسه، وانصرف.
وعن محمدبن عبد الرحمن الهاشمي صاحب صلاة الكوفة، قال: دخلت على أمي في يوم أضحى، وعندها امرأة برزة: في أثواب دنسة رثة، فقالت لي: تعرف هذه؟ قلت: لا. قالت: هذه عبادة أم جعفر بن يحيى. فسلمت عليها، ورحبت بها، وقلت لها: يا فلانة، حدثيني ببعض أمركم.
قالت: أذكر لكم جملة كافية لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، لقد هجم علي مثل هذا العيد، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن جعفرا ابني عاق لي، ولقد أتيتكم هذا اليوم والذي يقنعني جلدا شاتين، أجعل أحدهما شعارا، والآخر دثارا.
ولنختم أخبار البرامكة بحكاية عجيبة، وقصة غريبة، لا يسمع في باب المكارم مثلها، ولا في أخبار الوفاء بأعجب منها.
ذكر أبو الفرج ابن الجوزي، في كتابه ’’ المنتظم ’’، أن المأمون بلغه أن رجلا يأتي في كل يوم إلى قبور البرامكة، فيبكي عليهم، ويندبهم، فبعث من جاءه به، فدخل عليه وقد يئس من الحياة، فقال له: ويحك، ما حملك على صنيعك هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنهم أسدوا إلي معروفا، وخيرا كثيرا، ولي خبر يطول. فقال: قل.
قال: أنا المنذر بن المغيرة، من أهل دمشق، كنت في نعمة عظيمة، فزالت عني، وأفضى بي الحال إلى أن بعت داري، ولم يبق لي شيء، فأشار بعض أصحابي علي بقصد البرامكة، فأتيت إلى بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة، فأنزلتهن في مسجد، وقصدت مسجد الجامع، فدخلت، فإذا فيه جماعة لم أر أحسن منهم، فجلست إليهم، فجعلت أراود نفسي في طلب قوت منهم لعيالي، فيمنعني من ذلك ذل السوال، فبينا أنا كذلك، إذا بخادم قد أقبل فاستدعاهم، فقاموا كلهم وقمت معهم، فدخلوا دارا عظيمة، فإذا الوزير يحيى بن خالد، فجلسوا حوله، وعقد عقد ابنته عائشة على ابن عم له، ونثروا علينا سحيق المسك، وبنادق العنبر، ثم جاءت الخدم إلى كل واحد من الجماعة بصينية من فضة، فيها ألف دينار، ومعها فتات المسك، فأخذها القوم ونهضوا، وبقيت الصينية التي وضعوها بين يدي، وأنا أهاب أن آخذها من عظمتها عندي، فقال لي بعض الحاضرين: ألا تأخذ وتقوم. فمددت يدي فأخذتها، وأفرغتها في جيبي، وأخذت الصينية يحت إبطي.
وقمت وأنا خائف أن تؤخذ مني، فجعلت التفت والوزير ينظرني ولا أشعر، فلما بلغت الستارة أمر بي فردوني، فيئست من المال، فلما رجعت قال لي: ما شأنك؟ فقصصت عليه خبري، وخبر عيالي، فبكى وقال لأولاده: خذوا هذا فضموه إليكم. فجاءني خادم، فأخذ مني الذهب والصينية، وأقمت عندهم عشرة أيام، من ولد إلى ولد، وخاطري كله عند عيالي ولا يمكنني الإنصراف.
فلما انقضت العشرة، قال لي الخادم: ألا تذهب إلى أهلك، فقلت: بلى والله. فقام يمشي أمامي ولم يعطني الذهب، فقلت في نفسي: يا ليت هذا كان من قبل. فسار أمامي إلى دار لم أر أحسن منها، فإذا فيها عيالي يتمرغون في الذهب والحرير، وقد وصل إليهم مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، وكتاب فيه تمليك الدار بما فيها، وتمليك قريتين جليلتين، فكنت مع البرامكة في أطيب عيش، فلما أصيبوا أخذ مني عمرو بن سعيد القريتين، والزمني بخراجهما، فكلما لحقني فاقة قصدت دورهم وقبورهم، فبكيت عليهم.
فأمر المأمون برد القريتين عليه وخراجهما، فبكى الشيخ بكاء شديدا، فقال له المأمون، ألم أستأنف بك جميلا.
قال: بلى، ولكن هو من البرامكة.
فقال: امض مصاحبا للسلامة، فإن الوفاء مبارك، ’’ وحفظ العهد ’’ من الإيمان.
والله تعالى أعلم.

  • دار الرفاعي - الرياض-ط 0( 1983) , ج: 1- ص: 204