أبو القاسم الملقب بالصاحب كافي الكفاة
إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الديلمي الأصفهاني القزويني الطالقاني وزير مؤيد الدولة ثم فخر الدولة وأحد كتاب الدنيا الأربعة
قال ياقوت هكذا نسبه المحدثون ولكن في شعر الرستمي والسلامي أبدال عباد الثانية بعبد الله أقول ولعله للضرورة. قال الرستمي:
يهني ابن عباد بن عباس بن عبـ | ـد الله نعمى بالكرامة تردف |
وقال السلامي:
يا ابن عباد بن عبـ | ـاس بن عبد الله حرها |
مولده ووفاته ومدفنه
ولد لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة 326 باصطخر فارس وقيل بالطالقان طالقان قزوين وتوفي ليلة الجمعة 24 من صفر سنة 385 بالري. هكذا أرخ مولده ابن خلكان وياقوت في معجم الأدباء بل اتفق عليه المؤرخون وتفرد في الذريعة فقال أنه ولد سنة 324 (انتهى) ولعله الموافق لما في اليتيمة من أنه توفي لما بلغت سنوه الستين ليلة الجمعة 24 من صفر سنة 385 فإنه بناء على إن مولده سنة 326 يكون عمره سبعا وخمسين سنة وثلاثة أشهر وثمانية أيام ولا يتم بلوغه الستين إلا إذا كان مولده سنة 324 وفي رسالة لبعض المعاصرين سماها الإرشادهم في أحوال الصاحب بن عباد عن محمد ربيع بن شرفجاه الأردستاني في كتابه أنه ولد سنة 326 وتوفي سنة 387 وعلى هذا أيضا يتم بلوغه الستين لكن تاريخ الذريعة في مولده والأردستاني في وفاته لم يذكره غيرهما ولعله أريد بهما تصحيح ما في اليتيمة من بلوغه الستين ولكن الظاهر إن ما في اليتيمة من بلوغه الستين مبني على المسامحة. ونقل بعد وفاته بالري إلى أصبهان ودفن في قبة بمحلة تعرف بباب درية بفتح الدال المهملة وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبعدها هاء. قال ابن خلكان وهي عامرة إلى الآن وأولاد بنته يتعاهدونها بالتبييض (انتهى) وفي معجم الأدباء باب درية المحلة التي فيها تربته أول ما يستقبلك من أصفهان. وفي روضات الجنات: قلت بل وهي عامرة إلى الآن وكان أصابها تشعث وانهدام فأمر الإمام العلامة الحاج محمد إبراهيم الكرباسي في هذه الأيام بتجديد عمارتها ولا يدع زيارتها مع ما به العجز في الأسبوع والشهر والشهرين وتدعى في زماننا بباب الطوقجي والميدان والعتيق والناس يتبركون بزيارته ويطلبون عند قبره الحوائج من الله تعالى (انتهى) وذكر ابن خلكان وغيره في أخباره عن هلال بن المحسن وغيره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب بن عباد فإنه لما توفي أغلقت له مدينة الري واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيروا لباسهم فلما خرج نعشه إلى الباب على أكتاف حامليه للصلاة عليه قام الناس بأجمعهم إعظاما وصاحوا صيحة واحدة وقبلوا الأرض وخرقوا ثيابهم ولطموا وجوههم وبالغوا في البكاء والنحيب عليه جهدهم وابتدر الديلم إلى تقبيل الأرض قدام جنازته ثم حملت إلى موضع الصلاة وصلى عليه أبو العباس الضبي الذي تولى الوزارة بعده ومشى فخر الدولة إمام الجنازة وقعد للعزاء أياما وبعد إن صلوا عليه علقوا نعشه بالسلاسل في سقف بيت ورفعوه عن الأرض إلى إن حمل إلى أصبهان ودفن هناك (انتهى) وفي لسان الميزان عن ابن أبي طي إن عبد الجبار القاضي لما تقدم للصلاة عليه قال: ما أدري كيف أصلي على هذا الرافضي، قال وإن كانت هذه الكلمة وضعت من قدر عبد الجبار لكونه كان غرس نعمة الصاحب (انتهى) وذلك لأن الصاحب استحضره معه من بغداد وولاه قضاء القضاة كما يأتي.
ولم يكن له من الأولاد غير بنت واحدة وهي التي زوجها من بعض الأشراف كما يأتي عند ذكر سبطه.
لقبه
كان يلقب بالصاحب كافي الكفاة قال ابن خلكان هو أول من لقب بالصاحب من الوزراء لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي علما عليه قال وذكر الصابئ في كتاب التاجي أنه إنما قيل له الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة ابن بويه منذ الصبا وسماه الصاحب فاستمر عليه هذا اللقب واشتهر به ثم سمي به كل من ولي الوزارة بعده (انتهى) وقد جمع بعض الشعراء اسمه وكنيته ولقبه في بيت كما جمع هو الاسم واسم الأب والكنية في شطر بيت. فعن محاضرات الراغب أنه حضر الصاحب أبا الحسين بن سعد
فرأى على عنوان كتاب أبو الحسين أحمد بن سعد فقال الصاحب هذا شعر ثم قال: #قل للإمام الأريحي #الفرد | أبي الحسين أحمد بن سعد |
فقال أبو الحسين علمت بعد ثمانين سنة إن كنيتي ونسبي شعر وعلى ذلك كتب عبد الله الخازن:
حضرة الجليل أبي القا | سم كافي الكفاة إسماعيل |
نسبته
(الديلمي) بدال مهملة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة ولام مفتوحة وميم مكسورة نسبة إلى الديلم. في أنساب السمعاني: وهي بلاد معروفة جماعة من أولاد الموالي ينسبون إليها (انتهى) وفي معجم البلدان: الديلم جيل سموا بأرضهم في قول بعض أهل الأثر وليس باسم لأب لهم (انتهى) والطالقاني في أنساب السمعاني بطاء مهملة ولام ساكنة وقاف وألف ونون نسبة إلى الطالقان بلدة بين مروروذ وبلخ مما يلي الجبال وولاية بين قزوين وابهر وزنجان وهي عدة قرى يقع عليها هذا الاسم ويقال للأولى طالقان خراسان وللثانية طالقان قزوين (انتهى) وفي معجم البلدان وتاريخ ابن خلكان ضبط الطالقان لفتح اللام. والمترجم منسوب إلى طالقان قزوين لا إلى طالقان خراسان كما صرح به السمعاني وياقوت وغيرهما.
آباؤه
كان أبوه وجده من الوزراء قال الثعالبي في اليتيمة سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: إن مولانا الصاحب نشا من الوزارة في حجرها ودب ودرج وكرها ورضع أفاويق درها وورثها عن أبيه كما قال أبو سعيد الرستمي (أحد شعرائه):
ورث الوزارة كابرا عن كابر | موصولة الإسناد بالإسناد |
يروي عن العباس عباد وزا | رته وإسماعيل عن عباد |
وتأتي ترجمة أبيه في بابه إن شاء الله تعالى.
نقش خاتمه
في المجالس عن الشيخ أبي الفتوح الرازي أنه كان له خاتمان نقش أحدهما هذه الكلمات على الله توكلت. وبالخمس توسلت ونقش الآخر هذا البيت:
شفيع إسماعيل في الآخرة | محمد والعترة الطاهرة |
والى ذلك أشار الصدوق في أول العيون بقوله وجعل الله شفعاءه الذين أسماؤهم على نقش خاتمه.
نشأته
نشأ الصاحب في بيت علم وفضل ووجاهة وأقبل على طلب العلم منذ صغره. وفي بغية الوعاة أنه كان في الصغر إذا أراد المضي إلى المسجد ليقرأ تعطيه والدته دينارا ودرهما في كل يوم وتقول له تصدق بهذا على أول فقير تلقاه فكان هذا دأبه في شبابه إلى إن كبر وصار يقول للفراش كل ليلة اطرح تحت المطرح دينارا ودرهما لئلا تنساه فبقي على هذا مدة ثم إن الفراش نسي ليلة من الليالي إن يطرح الدرهم والدينار فانتبه وصلى وقلب المطرح ليأخذ الدرهم والدينار ففقدهما فتطير من ذلك وظن أنه لقرب أجله فقال للفراشين خذوا كل ما هنا من الفراش وأعطوه لأول فقير تلقونه حتى يكون كفارة لتأخير هذا فلقوا أعمى هاشميا يتكئ على يد امرأة فقالوا تقبل هذا قال ما هو فقالوا مطرح ديباج ومخاد ديباج فأغمي عليه فأخبروا الصاحب فأحضره ورش عليه ماء فلما أفاق سأله فقال: أنا رجل شريف لي ابنة من هذه المرأة خطبها رجل فزوجناه ولي سنين أخذ القدر الذي يفضل عن قوتنا أشتري لها به جهازا فلما كان البارحة قالت أمها اشتهيت لها مطرح ديباج ومخاد ديباج فقلت لها من أين لي ذلك وجرى بيني وبينها خصومة فلما قال لي هؤلاء هذا الكلام حق لي أن يغشى علي. فقال لا يكون الديباج إلا مع ما يليق به ثم اشترى له جهازا يليق بذلك المطرح وأحضر زوج الصبية وأعطاه عطية سنية (انتهى).
أقوال المترجمين في حقه
قال الثعالبي في يتيمة الدهر: ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شانه في الجود والكرم وتفرده بغايات المحاسن وجمعه أشتات المفاخر لأن همة قولي تنخفض عن بلوع أدنى فضائله ومعاليه وجهد وصفي يقصر عن السير في فواضله ومساعيه ولكنني أقول هو صدر المشرق وتاريخ المجد وغرة الزمان وينبوع العدل والإحسان ومن لا حرج في مدحه بكل ما يمدح به مخلوق ولولاه ما قامت للفضل في دهرنا سوق وكانت أيامه للعلوية والعلماء والأدباء والشعراء وحضرته محط رحالهم وموسم فضلائهم ومنزع آمالهم وأمواله مصروفة إليهم وصنائعه مقصورة عليهم وهمته في مجد يشيده وإنعام يجدده وفاضل يصطنعه وكلام حسن يصنعه أو يسمعه ولما كان نادرة عطارد في البلاغة وواسطة عقد الدهر في السماحة جلب إليه من الآفاق وأقاصي البلاد كل خطاب جزل وقول فصل وصارت حضرته مشرعا لروائع الكلام وبدائع الإفهام ومجلسه مجمعا لصوب العقول وذوب العلوم وثمار الخواطر ودرر القرائح فبلغ من البلاغة ما يعد في السحر ويكاد يدخل في حد الإعجاز وسار كلامه مسير الشمس ونظم ناحيتي الشرق والغرب واحتف به من نجوم الأرض وأفراد العصر وأبناء الفضل وفرسان الشعر من يربي عددهم على شعراء الرشيد ولا يقصرون عنهم في الأخذ برقاب القوافي وملك رق المعاني. فإنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك مثل ما اجتمع بباب الرشيد من فحولة الشعراء المذكورين كأبي نواس وأبي العتاهية والعتابي والنمري أو مسلم بن الوليد وأبي الشيص ومروان بن أبي حفصة ومحمد بن مناذر، وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان والري وجرجان مثل أبي الحسين السلامي، وأبي بكر الخوارزمي، وأبي طالب المأموني، وأبي الحسن البديهي وأبي سعيد الرستمي وأبي القاسم الزعفراني وأبي العباس الضبي وأبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني وأبي القاسم بن أبي العلاء وأبي محمد الخازن عبد الله بن الحسن الأصبهاني متولي خزانة كتب الصاحب وأبي هاشم العلوي وأبي الحسن الجوهري وبني المنجم وابن بابك وابن القاشاني وأبي الفضل الهمذاني وإسماعيل الشاشي وأبي العلاء الأسدي وأبي الحسن الغويري وأبي دلف الخزرجي وأبي حفص الشهرزوري وأبي معمر الإسماعيلي وأبي الفياض الطبري. ويوجد في بعض النسخ وأبي علي الحسن بن قاسم الرازي اللغوي النحوي صاحب كتاب المبسوطة في اللغة وغيرهم ممن لم يبلغني ذكره أو ذهب عني اسمه. ومدحه مكاتبة الشريف الموسوي الرضي وأبو إسحاق الصابي وابن حجاج وابن سكرة وابن نباتة وما أحسن وأصدق قول الصاحب:
أن خير المداح من مدحته | شعراء البلاد في كل نادي |
(انتهى) وكما مدحه الشريف الرضي في حياته رثاه بعد مماته بقصيدة مذكورة في ديوانه. وفي معجم الأدباء حدث ابن بابك قال: سمعت الصاحب يقول مدحت والعلم عند الله بمئة ألف قصيدة شعرا عربية وفارسية وقد أنفقت أموالي على الشعراء والأدباء والزوار والقصاد فما سررت بشعر ولا سرني شاعر كما سرني أبو سعيد الرستمي الأصفهاني بقوله:
ورث الوزارة كابرا عن كابر | مرفوعة الإسناد بالإسناد |
يروي عن العباس عباد | وزارته وإسماعيل عن عباد |
وقال ياقوت أيضا: مدح الصاحب خمسمائة شاعر من أرباب الدواوين. وقال أيضا: والصاحب مع شهرته بالعلوم وأخذه من كل فن منها بالنصيب الوافر والحظ الزائد الظاهر وما أوتيه من الفصاحة ووفق له من حسن السياسة والرجاحة مستغن عن الوصف مكتف عن الأخبار عنه والوصف ثم قال وللصاحب أخبار حسان في مكارم الأخلاق مع رقاعة كانت فيه (انتهى).
ووصفه له بالرقاعة ظلم منه وسفاهة ورقاعة فأخبار الصاحب شاهدة بضد ما قال.
وقال السمعاني في الأنساب: أبو القاسم بن عباد الطالقاني الوزير المعروف بالصاحب اشتهر ذكره وشعره ومجموعاته في النظم والنثر في الآفاق فاستغنينا عن شرح ذلك (انتهى).
وقال ابن خلكان: كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه (انتهى). وعن تاريخ الوزراء كان الصاحب الكافي إسماعيل بن عباد وحيد عصره وفريد دهره في العلم والفضل والفهم والفطنة مقدما في إصابة الرأي والتدبير وإضاءة الخاطر وصفاء الضمير (انتهى).
وفي بغية الوعاة: كان نادرة عصره وأعجوبة دهره في الفضائل والمكارم حدث وقعد للإملاء وحضر الناس الكثير عنده ولم يجتمع بحضرة أحد من العلماء والشعراء الأكابر ما اجتمع بحضرته وشهرته قد تغني عن الأطناب بذكره (انتهى). وعن تاريخ الوزير أبي سعد منصور بن الحسين الآبي إن أسنة الأقلام وعذبات الأسنة تكل دون أيسر أوصاف الصاحب وأدنى فضائله (انتهى) وفي معجم الأدباء: حدث أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب مشارب التجارب وذكر الصاحب فقال أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس الوزير ابن الوزير ابن الوزير كما قال الرستمي فيه ورث الوزارة البيتين السابقين. قال ومدحه خمسمائة شاعر من أرباب الدواوين وممن كان ببابه قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الأسدآبادي وكان قد فوض إليه قضاء همذان والجبال (انتهى).
وفي لسان الميزان: إسماعيل بن عباد بن عباس الصاحب أبو القاسم الطالقاني المشهور بالفضائل والمكارم والآداب. وكان صدوقا إلا أنه كان مشتهرا بمذهب المعتزلة داعية إليه. وهو أول من سمي من الوزراء بالصاحب ويقال أنه نال من البخاري وقال: كان حشويا لا يعول عليه وكان يبغض من يميل إلى الفلسفة ولذلك أقصى أبا حيان التوحيدي فحمله ذلك على إن جمع مصنفا في مثالبه أكثره مختلق. قال وذكره الرافعي في كتاب التدوين في علماء قزوين فقال: هو أشهر من إن يحتاج إلى وصفه جاها ورتبة وفضلا ودراية وكتبه ورسائله ومناظراته دالة على قدره ولولا إن بدعة الاعتزال وشنعة التشيع شنعت أوجه فضله وغلوه فيهما حطه من علوه لقل من يكافيه من الكبار أو الفضلاء وكان يناظر ويدرس ويصنف ويملي الحديث (انتهى) وفي كتاب محاسن أصفهان لمحمد بن سعد المافروخي: كان والله الفاضل المميز والكامل المبرز ثالث الثلاثة الذين نافس عضد الدولة فيهم أخاه مؤيد الدولة وحسده عليهم وهو إن العضد كان كثيرا ما يقول قولا معناه: قد حبيت بغايات الأماني وأوتيت أقاصي المباغي فلا أحسد ملكا من الملوك على شيء غير أخي على أبي القاسم الثلاثة أبي القاسم إسماعيل بن عباد وأبي القاسم فضل بن سهل وأبي القاسم بن جعفر القاضي المعروف باليزدي وكان كل واحد منهم في فنه نسيج وحده وقريع زمانه منيفا على أهل صناعته وأقرانه وقول البحتري:
ثلاثة جلة إن شووروا | نصحوا أو استعينوا كفوا أو سلطوا عدلوا |
يوهم أنه لم يمدح به غيرهم (انتهى) وفي نزهة الألباء: وأما الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد فإنه كان غزير الفضل متفننا في العلوم أخذ عن أبي الحسين بن فارس وأبي الفضل بن العميد ثم قال: وكان الصاحب صاحب بلاغة وفصاحة سمح القريحة (انتهى).
وقال اليافعي في مرآة الزمان: أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه ثم قال بعد ذكر طرف من أخباره: وأخبار الصاحب بن عباد كثيرة وفضائله بين أهل هذا الفن شهيرة فاقتصرت منها على هذه النبذة اليسيرة (انتهى).
وفي شذرات الذهب: أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني وزير مؤيد الدولة أبي منصور بن بويه وفخر الدولة وصحب أبا الفضل الوزير ابن العميد وأخذ عنه الأدب والشعر والترسل وبصحبته لقب بالصاحب وكان من رجال الدهر حزما وعزما وسؤددا ونبلا وسخاء وحشمة وإفضالا وعدلا (انتهى) وعن المولى محمد تقي المجلسي أنه ذكره في حواشي نقد الرجال ووصفه بكونه من أفقه فقهاء أصحابنا المتقدمين والمتأخرين وأن كلما يذكر من العلم والفضل فهو فوقه وفي مقام آخر: بكونه رئيس المحدثين والمتكلمين علامة وعن ولده المولى محمد باقر أنه قال في مقدمات بحاره والخليل أي الخليل بن أحمد النحوي والصاحب وهذان الرجلان كانا من الإمامية وهما علمان في اللغة والعروض والعربية (انتهى). وذكره القاضي نور الله في مجالس المؤمنين فقال ما ترجمته: صاحب الدولة الذي خلعة نسبه العالي مطرزة بطراز الفضائل والمعالي وطبعه الوقاد يقتطف في رياض العلوم من أزهار الأصول والفروع ولرأيه المصيب في تدبير الأمور قصب السبق على أمثاله وأقرانه وله اليد البيضاء في نظم مصالح الجمهور بفكره الثاقب لا جرم إن أعطيت بكف كفايته ضمانة الأمور العظام وجعلت في قبضته أعنة الحل والعقد وأزمة البسط والقبض لمصالح العباد (انتهى). وذكره الطريحي في مجمع البحرين فقال: جمع بين الشعر والكتابة وفاق فيهما أقرانه، وقال الفاضل الجلبي في حاشية المطول جمع بين الشعر والكتابة وقد فاق فيهما أقرانه إلا أنه فاق عليه الصابي في الكتابة. وفي أمل الآمل: الصاحب الكافي الجليل أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني عالم فاضل ماهر شاعر أديب محقق متكلم عظيم الشأن جليل القدر في العلم والأدب والدين والدنيا ولاجله ألف ابن بابويه عيون الأخبار وألف الثعالبي يتيمة الدهر في ذكر أحواله وأحوال شعرائه وكان شيعيا إماميا أعجميا إلا أنه يفضل العرب على الفرس وبعض العامة يتهمه بالاعتزال وهو برئ منه بعيد عنه (انتهى) والصواب إن قسما كبيرا من اليتيمة فيه وفي شعرائه لا كلها. وقال ابن شهراشوب في معالم العلماء عند ذكر شعراء أهل البيت المجاهرين: الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد الأصفهاني وزير فخر الدولة شهنشاه متكلم شاعر نحوي وقد مدحه الرضي مكاتبة ثم رثاه (انتهى). وقال عبد الرحمن بن محمد الأنباري في نزهة الألباء في طبقات الأدباء كان الصاحب غزير الفضل متفننا في العلوم (انتهى).
وبالجملة فالصاحب علم من أعلام القرن الرابع جمع بين الوزارة والكتابة والسيف والقلم وكان صدرا في العلم والأدب وغاية في الكرم وجلالة القدر وفردا في الرياسة وكثرة الفضائل.
محافظته على الاجتماع بالعلماء
من أخباره الدالة على علو همته ومحافظته على الاجتماع بأهل العلم والفضل والاستفادة منهم ما ذكره صاحب شذرات الذهب وغيره إن أبا أحمد العسكري الحسن بن عبد الله بن سعيد المنسوب إلى عسكر مكرم مدينة من كور الأهواز المتوفى سنة 382 كان أديبا أخباريا علامة صاحب تصانيف مفيدة ككتاب التصحيف والمختلف والمؤتلف وعلم المنطق والحكم والأمثال والزواجر وغيرها وله رواية متسعة وكان الصاحب بن عباد يود الاجتماع به ولا يجد إليه سبيلا فقال لمخدومه مؤيد الدولة بن بويه إن عسكر مكرم قد اختلت أحوالها واحتاج إلى كشفها بنفسي فإذن له في ذلك فلما أتاها توقع إن يزوره أبو أحمد المذكور فلم يزره فكتب الصاحب إليه:
لما أبيتم إن تزوروا وقلتم | ضعفنا فلم نقدر على الوخدان |
أتيناكم من بعد أرض نزوركم | وكم منزل بكر لنا وعوان |
نسائلكم هل من قرى لنزيلكم | بملء ء جفون لا بملء أجفان |
وكتب مع هذه الأبيات شيئا من النثر فجاوبه أبو أحمد عن النثر بنثر مثله وعن هذه الأبيات بالبيت المشهور:
أهم بأمر الحزم لو استطيعه | وقد حيل بين العير والنزوان |
فلما وقف الصاحب على الجواب عجب من اتفا هذا البيت له وقال والله لو علمت أنه يقع له هذا البيت ما كتبت له على هذا الروي (انتهى).
المقايسة بين الصاحب وشيخه ابن العميد
الصاحب هو تلميذ ابن العميد وصنيعته ووارثه في الوزارة والطابع على غراره في السياسة والأدب والمربى عليه في الجود والأبهة.
يتشابه الوزيران في الأدب ومناحيه وأساليبه ويختلفان في العلم والأخلاق فابن العميد طويل الباع في الفلسفة وفروعها غير متمكن من العلوم الدينية راجح العقل قليل الكلام ذو تؤدة وروية في أعماله وأقواله لا يحب التعاظم والتبجح في علمه وعمله. والصاحب عالم في أصول الدين وفروعه يقدم النص على العقل منحرف عن الفلسفة وأصحابها معجب بنفسه فخور بعلمه وأدبه مأخوذ بمظاهر العظمة والخيلاء تياه على الكبراء والرؤساء حاضر البديهة قوي الحجة شديد العارضة طلق اللسان محكم الجواب سريع النكتة كثير الجدل يتكلم بلسانه وأعضائه قال أبو حيان التوحيدي: "كان أبو الفضل بن العميد إذا رأى الصاحب قال: أحسب عينيه ركبتا من زئبق وعنقه عمل بلولب".
وأراد الصاحب إن يسير على سنن أستاذه ابن العميد فكان له ما أراد وفق ما أراد في العلوم الشرعية واللسانية دون علوم الحكمة وفاق ابن العميد في كثرة التأليف. وقال أبو حيان التوحيدي قلت لأبي السلم نجبة بن علي القحطاني الشاعر أين ابن عباد من ابن العميد فقال زرتهما منتجعا وزرتهما جميعا وكان ابن العميد أعقل وكان يدعي الكرم وابن عباد أكرم ويدعي العقل وهما في دعواهما كاذبان وعلى سجيتهما جاريان. أنشدت يوما على باب ذاك قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في ظل دولة | جمال ولا مال تمنى انتقالها |
وما ذاك من بغض لها غير أنه | يؤمل أخرى فهو يرجو زوالها |
فرفع إليه إنشادي فأخذني وأوعدني وقال انج بنفسك فاني إن رأيتك بعد هذا أولغت الكلاب دمك وكنت قاعدا على باب هذا منذ أيام فأنشدت البيتين على سهو فرفع الحديث إليه فدعاني ووهب لي دريهمات وخريقات وقال لا تتمن انتقال دولتنا بعد هذا (انتهى).
ولم ننقل هذا لاعتقادنا أو ظننا بصحته بل هو من وساوس الشعراء الذين يتبعهم الغاوون وإنما نقلناه لاشتماله على المقايسة بين الوزيرين التي نحن بصددها فكان علينا ذكر كل ما يتعلق بها واشتماله على تفضيل الصاحب على ابن العميد في الكرم الذي ربما يكون له صحة.
خبره مع أبي حيان التوحيدي
وقدمنا ذكره هنا على بقية أخباره ليكون توطئة لما يأتي من كلام أبي حيان في حقه الذي هو من تتمة أقوال المترجمين فيه. أبو حيان التوحيدي هو علي بن محمد بن العباس النحوي اللغوي أملى مجلدة في ذم الصاحب بن عباد وذم ابن العميد سماها ثلب الوزيرين أو ذم الوزيرين وقد قيل إن هذا من الكتب المجدودة ما ملكه أحد إلا انعكست أحواله والله أعلم. وله كتاب الإمتاع والمؤانسة جزءان تعرض فيه للصاحب بالمدح والقدح ذكرهما ياقوت في معجم الأدباء وذكرهما غيره وذكر له ياقوت أيضا كتاب أخلاق الوزيرين نقل عنه في ترجمة الصاحب ولم يذكره في ترجمة أبي حيان فيمكن إن يكون هو كتاب ثلب الوزيرين وفي المنقول عن كتاب الثلب وكتاب الإمتاع تحامل كثير على الصاحب وذم له بما هو برئ منه. أما سبب هذا التحامل والذم فقد مر عن لسان الميزان قوله إن الصاحب كان يبغض من يميل إلى الفلسفة ولذلك أقصى أبا حيان التوحيدي فحمله ذلك على إن جمع مصنفا في مثالبه أكثره مختلق. وقال ياقوت في معجم الأدباء إن أبا حيان كان قصد ابن عباد إلى الري فلم يرزق منه فرجع عنه ذاما له وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام فاجتهد في الغض من ابن عباد وكانت فضائل ابن عباد تأبى إلا إن تسوقه إلى المدح وإيضاح مكارمه فصار ذمه له مدحا فمن ذلك أنه بعد إن فرع من الاعتذار عن التصدي لثلبه قال فأول ما أذكر من ذلك ما أدل به على سعة كلامه وفصاحة لسانه وقوة جأشه وشدة منته وإن كان في فحواه ما يدل على رقاعته وانتكاث مريرته وضعف حوله وركاكة عقله وانحلال عقده ثم ذكر ما جرى له لما رجع من همذان وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وقال السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة أبي حيان ما صورته قال الذهبي: كان سيء الاعتقاد ثم نقل قول ابن فارس في كتاب الفريدة والخريدة كان أبو حيان كذابا قليل الدين والورع: ولقد وقف سيدنا الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدخله ويخفيه من سوء الاعتقاد فطلبه ليقتله فهرب والتجأ إلى أعدائه ونفق عليهم بزخرفه وأفكه ثم عثروا منه على سوء عقيدته وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح فطلبه الوزير المهلبي فاستتر منه ومات في الاستتار (انتهى) ويظهر من ذلك سبب آخر لوقيعة في الصاحب غير ما ذكره ياقوت والله أعلم. وقد تعصب أبو حيان كثيرا على الصاحب وسلبه محاسنه والذي يظهر إن أبا حيان لم يرض عن الصاحب أما لأنه كان أمل منه أكثر مما وصله به أو لأنه طبع على التأفف والسخط أو لأنه طلبه ليقتله كما قيل فلما لم يرض عنه هجاه بهذا الذي يأتي نقله عنه وهو ذو لسان ذلق وبلاغة. وقد كان هذا دأب الشعراء يهجون من لم يرضوا عن جوائزه بأقبح الهجو ويمدحون الناس بما فيهم وما ليس فيهم طلبا لجوائزهم وأبو حيان كان كاتبا بليغا أكثر منه شاعرا فهجا الصاحب لما لم يرض عنه بنثره البليغ كما يهجو الشاعر بشعره فذمه للصاحب وابن العميد لا قيمة له في عالم الحقيقة كما لا قيمة لهجو الشعراء في عالمها نعم له قيمته الأدبية التي تترك أثرا في النفوس على ممر الدهور وكيف يصدق أبو حيان في ثلب رجلين هما من أجل أعيان زمانهما ولا يضر ذمه هذا في جلالة قدرهما فما زالت الأمجاد تهجى وتمدح. ونحن ننقل ما حكاه ياقوت في معجم الأدباء عن كتاب الإمتاع لأبي حيان بما فيه من حق وباطل وما ذم به الصاحب وتحامل به عليه مما هو منه برئ ثم نبين بعض ما فيه من مخالفة الواقع قال ياقوت: ووصفه صاحب الإمتاع فقال: كان الصاحب كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان قد نتف من كل أدب شيئا وأخذ من كل فن طرفا والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة وكتابته مهجنة بطرائقهم ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب وهو شديد التعصب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقي والمنطق والعدد وليس له من الجزء إلهي خبر ولا له فيه عين ولا أثر وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ويقول الشعر وليس بذاك وبديهته غزارة وأما رويته فخوارة وطالعه الجوزاء والشعرى فقرينة منه ويتشيع بمذهب أبي حنيفة ومقالة الزبدية ولا يرجع إلى التاله والرقة والرأفة والرحمة والناس كلهم يحجمون عنه لجرأته وسلاطته واقتداره وبطشه شديد العقاب طفيف الثواب طويل العتاب بذئ اللسان يعطي كثيرا قليلا يعني يعطي القليل في دفعات كثيرة مغلوب بحرارة الرأس سريع الغضب بعيد الفيئة قريب الطيرة حسود حقود وحسده وقف على أهل الفضل وحقده سار إلى أهل الكفاية أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته وأما المنتجعون فيخافون جفوته وقد قتل خلقا وأهلك ناسا ونفى أمة نخوة وبغيا وتجبرا وزهوا ومع هذا يخدعه الصبي ويخلبه الغبي لأن المدخل عليه واسع والمأتي إليه سهل وذلك بان يقال: مولانا يتقدم بان أعار شيئا من كلامه ورسائله منظومة ومنثورة فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به وأتعلم البلاغة منه لكأنما رسائل مولانا سور قرآن وفقره فيها آيات فرقان واحتجاجه من أثنائها برهان فسبحان من جمع العالم في واحد وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب ويلهى عن كل مهم له وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق ويسهل الإذن عليه والوصول إليه والتمكن من مجلسه فهذا هذا ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم ويقول له قد نحلتك هذه القصيدة امدحني بها في جملة الشعراء وكن الثالث من المنشدين فيفعل ذلك أبو عيسى وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك فينشد فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه ومدحه من تحبيره أعد أبا عيسى فإنك والله مجيد زه يا أبا عيسى قد صفا ذهنك وزادت قريحتك وتنقحت قوافيك ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي مجالس تخرج الناس وتهب لهم الذكاء وتزيدهم الفطنة وتحول الكودن عتيقا والمحمر جوادا ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية وعطية هنيئة ويغايظ الجماعة من الشعراء وغيرهم لأنهم يعلمون إن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا. قال يوما من في الدار فقيل له أبو القاسم الكاتب وابن ثابت فعمل في الحال بيتين وقال لإنسان بين يديه إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل قد قلت بيتين فان رسمت لي إنشادهما أنشدتهما وأزعم أنك بدهت بهما ولا تجزع من تأففي بك ولا تفزع من تكبري عليك ودفع البيتين إليه وأمره بالخروج إلى صحن الدار وأذن للرجلين حتى وصلا فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما ووقف للخدمة وأخذ يتلمظ يري أنه يقرض شعرا ثم قال: يا مولانا قد حضرني بيتان فان أذنت أنشدت قال له أنت إنسان أخرق سخيف لا تقول شيئا فيه خيرا اكفني أمرك وشعرك قال يا مولانا هي بديهتي وإن كسرتني ظلمتني وعلى كل حال فاسمع فان كانا بارعين وإلا فعاملني بما تحب قال أنت لحوح هات فأنشد:
يا أيها الصاحب تاج العلا | لا تجعلني نهزة الشامت |
لملحد يكنى أبا قاسم | ومجبر يعزى إلى ثابت |
فقال قاتلك الله لقد أحسنت وأنت مسيء قال لي أبو القاسم وكدت اتفقا غيظا لأني علمت أنها من فعلاته المعروفة وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتا ثم حدثني الخادم الحديث بقضه والذي غلطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه أنه لم يجبه قط بتخطئة ولا قوبل بتسوئة لأنه نشأ على إن يقال أصاب سيدنا وصدق مولانا ولله دره ما رأينا مثله من ابن عبد كان مضافا إليه ومن ابن ثوابة نقيسه عليه ومن إبراهيم بن العباس الصولي من صريع الغواني من أشجع السلمي إذا سلك طريقهما قد استدرك مولانا على الخليل في العروض وعلى أبي عمرو بن العلاء في اللغة وعلى أبي يوسف في القضاء وعلى الإسكافي في الموازنة وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات وعلى ابن مجاهد في القراءات وعلى ابن جرير في التفسير وعلى أرسطاطاليس في المنطق وعلى الكندي في الجزوء وعلى ابن سيرين في العبارة وعلى أبي العيناء في البديهة وعلى أبي خالد في الخط وعلى الجاحظ في الحيوان وعلى سهل بن هارون في الفقر وعلى يوحنا في الطب وعلى ابن يزيد في الفردوس وعلى عيسى بن كعب في الرواية وعلى الواقدي في الحفظ وعلى النجار في البدل وعلى بني ثوابة في التقفية وعلى السري السقطي في الخطرات والوساوس وعلى مزيد في النوادر وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى وعلى بني برمك في الجود وعلى ذي الرياستين في التدبير وعلى سطيح في الكهانة وعلى أبي المحياة خالد بن سنان في دعواه هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن كلدة أبي دليجة:
الألمعي الذي يظن بك الظن | كان قد رأى وقد سمعا |
فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويتبسم ويطير فرحا به وينقسم ويقول ولا كذي ثمرة. السبق لهم وقصرنا أن نلحقهم أو نقفو أثرهم وهو في ذلك يتشاجى ويتحايك ويلوي شدقه ويبتلع ريقه ويرد كالآخذ ويأخذ كالمتمنع ويغضب في عرض الرضا ويرضى في لبوس الغضب ويتهالك ويتمالك ويتفاتك ويتمايل ويحاكي المومسات ويخرج في أصحاب السماجات وهو مع هذا يظن أنه خاف على نقاد الأخلاق وجهابدة الأحوال. وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به وتعويله عليه وقلة سماعه من الناصح فيه فازداد دلالا ونزقا وعجبا واندراء على الناس وازدراء للصغار والكبار وجبها للصادر والوارد وفي الجملة آفاته كثيرة وذنوبه جمة ولكن الغنى رب غفور:
ذريني للغنى أسعى فاني | رأيت الناس شرهم الفقير |
وأبعدهم وأهونهم عليهم | وإن أمسى له حسب وخير |
ويقصيه الندي وتزدريه | حليلته وينهره الصغير |
وتلقى ذا الغنى وله جلال | يكاد فؤاد صاحبه يطير |
قليل ذنبه والذنب جم | ولكن الغني رب غفور |
(فإن قيل) كيف تتم له الأمور مع هذه الصفات (قلت) والله لو إن عجوزا بلهاء أو أمة ورهاء أقيمت مقامه لكانت الأمور على هذا السياق لأنه قد
آمن إن يقال له لم فعلت ولم لم تفعل وهذا باب لا يتفق لأحد من خدم الملوك إلا بجد سعيد ولقد نصح صاحبه الهروي في أحوال تاوبة وأمور من النظر عارية فقذف بالرقعة إليه حتى عرف ما فيها ثم قتل الرافع خنقا هذا وهو يدين بالوعيد وقد قال لي الثقة من أصحابه: ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطأ فيقلبه جده صوابا حتى كأنه عن وحي وأسرار الله في خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفية ولو جرت الأمور على موضوع الرأي وقضية العقل لكان معلما في مصطبة على شارع أو في دار لتان فإنه يخرج الإنسان بتفيهقه وتشادقه واستحقاره واستكباره وإعادته وإبدائه وهذه أشكال تعجب الصبيان ولا تنفرهم عن المعلمين ويكون فرحهم به سببا للملازمة والحرص على التعلم والحفظ والرواية والدراية هذا قول صاحب الإمتاع فيه (انتهى) (قال المؤلف) انفرد أبو حيان التوحيدي بهذا الذي ذكره في الحط من شان الصاحب وخالف في ذلك جميع المؤرخين والمترجمين الذين ذكروا الصاحب بكل تعظيم وتبجيل ووصفوه بكل وصف جميل وبالغوا في مدحه والباعث له على ذلك ما مر في صدر الكلام من إتباع طريقة الشعراء في هجو من لم يرضوا جائزته على أنه يفهم من كلام ياقوت هناك إن ثلب الكرام كان طبيعة له وجبلة فهو كالعقرب تلدع النبي والكافر وأبو حيان منسوب إلى التزيد والوضع والمبالغة ولا باس بان نشير إلى بعض ما في كلامه من الخلل والفساد والتحامل على الصاحب بدون استقصاء. يقول التوحيدي: والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة بل هو إمامي كما ستعرف وإن وافق المعتزلة في بعض الأصول المعروفة التي توافقهم فيها الإمامية قال وكتابته مهجنة بطرائقهم وأي تهجين في كتابته بطريقة العدلية التي قد تكون هي الصواب وأمور المذهب لا تهجن ولا تحسن وأي تهجين بذلك وهو يعد من كتاب الدنيا قوله وليس له من الجزء إلهي الخ دعوى بلا برهان قوله وليس بذاك بل شعره مطبوع جيد قوله بديهته غزارة الخ كلام يكذب نفسه فمن يقدر عند البديهة لا يمكن إن يعجز عند الروية وقوله بتشيع بمذهب أبي حنيفة الخ غير صحيح فهو إمامي إثنا عشري لا حنفي ولا زيدي كما ستعرف وقوله لا يرجع إلى التاله الخ محض افتراء فالمنقول من أحواله يدل على تألهه ورقته ورأفته ورحمته وكفى في رحمته عدم معاقبة من قيل عنه أنه وضع سما في الماء كما يأتي وعدم قبوله الوشاية وأما قوله أنه ينخدع بالمدح. فان الكريم إذا خادعته انخدع مع إن ذلك كسابقه لم نعلم صحته وأما زعمه أنه يعمل الشعر ويدفعه إلى أبي عيسى المنجم فيكذبه إن من يقول الثعالبي المعاصر له في حقه كما مر أنه اجتمع ببابه من الشعراء من يربي عددهم على شعراء الرشيد الذي لم يجتمع بباب أحد من الملوك والخلفاء ما اجتمع ببابه ومن مدح بأربعة عشر ألف قصيدة لا يحتاج إن يقول شعرا وينحله أبا عيسى ليمدحه به وأما قوله لأنهم يعلمون إن أبا عيسى لا يقرض مصراعا الخ فيكذبه إن أبا عيسى شاعر أورد له في اليتيمة جملة أشعار منها قوله:
آخ من شئت ثم رم منه | شيئا تلف من دون ما تروم الثريا |
وقوله:
رغيف أبي علي حل خوفا | من الأسنان ميدان السماك |
إذا كسروا رغيف أبي علي | بكى يبكي بكاء فهو باكي |
وبنو المنجم على العموم شعراء أدباء أورد صاحب اليتيمة أشعارا لجملة منهم وأما حديث البيتين الآخرين فحاله حال ما سبق ولو صح لم يكن فيه عيب ولعل الرجلين كانا مستحقين لذلك الذم أو كان من باب المفاكهة فعمل فيهما هذين البيتين ولم يشأ نسبتهما إلى نفسه قوله والذي غلطه الخ فيه إن المخطئ لا بد إن يجبه بالتخطئة إن لم يكن من جميع الناس فمن بعضهم قوله فتراه عند هذا الهذر الخ فيه إن من لا يؤثر فيه المدح لا يؤثر فيه الذم فهو ساقط أما ما أطال به التوحيدي من ألفاظ التشدق بقوله يتشاجى الخ وألفاظ البذاء. من قوله ويحاكي المومسات فناشئ عن شيء في نفسه وعادة أتبعها قوله وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به الخ فيه إن صاحبه لم يكن ليثق به لولا ما رأى من حسن تدبيره وسياسته (قوله) وبالجملة آفاته كثيرة وذنوبه جمة الخ (أقول) كفى في تكذيبه شهادة من سمعت بأنه كثير المحاسن جم الحسنات وأن الغنى لم يكن سببا في غفران سيئاته (وأما قوله) لو إن عجوزا بلهاء الخ فمما يضحك الثكلى فإنه لأي سبب ولما ذا أمن إن يقال له لم فعلت ولم لم تفعل (وأطرف شيء) قوله أنه يدين بالوعيد فمذهبه أشهر من نار على علم وهو بريء من القول بالوعيد براءة الذئب من دم يوسف فقس على هذا القول باقي أقواله (وأما) إسناده التوفيق في أعماله إلى الصواب إلى الحظ فكلام ساقط فمتى كان الحظ يسوق من شرع في أمر على الخطأ إلى الصواب حتى كأنه عن وحي (وأما قوله) لكان معلما في مصطبة الخ فحاله حال ما سبق من تحامله وتجاهله والله ولي عباده.
ومما حكاه عنه أبو حيان وهو يريد ثلبه وتنقيصه ما ذكره ياقوت في معجم الأدباء قال: قال أبو حيان: دخل يوما دار الإمارة الفيرزان المجوسي في شيء خاطبه به فقال له إنما أنت محش مجش مخش لا تهش ولا تبش ولا تمتش فقال الفيرزان: أيها الصاحب برئت من النار إن كنت أدري ما تقول إن كان رأيك إن تشتمني فقل ما شئت بعد إن علم فان العرض لك والنفس لك فداء لست من الزنج ولا من البربر كلمنا على العادة التي عليها العمل والله ما هذا من لغة آبائك الفرس ولا أهل دينك من أهل السواد وقد خالطنا الناس وما سمعنا منهم هذا النمط فقام مغضبا.
قال وكان ابن عباد يقول للإنسان إذا قدم عليه من أهل العلم يا أخي تكلم واستأنس واقترح وانبسط ولا ترع واحسبني في جوف مربعة ولا يروعك هذا الحشم والخدم والغاشية والحاشية وهذه المرتبة والمصطبة وهذا الطاق والرواق وهذه المجالس والطنافس فان سلطان العلم فوق سلطان الولاية فليفرح روعك ولينعم بالك وقل ما شئت وأبصر ما أردت فلست تجد عندنا إلا الإنصاف والاسعاف والاتحاف والأطراف والمواهبة والمقاربة والمؤانسة والمقابسة. ومن كان يحفظ ما كان يهذي به في هذا وفي غيره ويجري في هذا الميدان فيطيل حتى إذا استوفى ما عند ذلك الإنسان بهذه الزخارف والحيل وسار الرجل معه في حدوده على مذهب الثقة فحاجه وضايقه وسابقه ووضع يده على النكتة الفاصلة والأمر القاطع تنمر له وتغير عليه ثم قال يا غلام خذ بيد هذا الكلب إلى الحبس وضعه فيه بعد إن تصب على كاهله وظهره وجنبيه خمسمائة سوط وعصا فإنه معاند ضد يحتاج إن يشد بالقد ساقط هابط كلب وقاح أعجبه صبري وغره حلمي ولقد أخلف ظني وعدت على نفسي بالتوبيخ وما خلق الله العصا باطلا فيقام ذلك البائس على هذه الحالة وليس الخبر كالعيان من لم يحضر ذلك المجلس لم ير منظرا رفيعا ورجلا رفيعا.
وقال أبو حيان: حدثني الجرباذقاني الكاتب أبو بكر وكان كاتب داره قال يبلغ من سخنة عين صاحبنا أنه لا يسكت عما لا يعرف ولا يسالم نفسه فيما لا يفي به ولا يكمل له ويظن أنه إن سكت فطن لنقصه وإن احتال وموه جاز ذلك وخفي واستتر ولا يعلم إن ذلك الاحتيال طريق إلى الإغراء بمعرفة الحال وصدق القائل كاد المريب يقول خذني. وقلت وما الذي حداك على هذه المقدمة؟ قال: قال لي في بعض هذه الأيام: ارفع حسابك فقد أخرته وقصرت فيه وانتهزت سكوتي وشغلي بأمر الملك وسياسة الأولياء والجند والرعايا والمدن وما علي من أعباء الدولة وحفظ البيضة ومشارفة الأطراف النائية والدانية باللسان والعلم والرأي والتدبير والبسط والقبض والتتبع والنقض وما على قلبي من الفكر في الأموال الظاهرة والغامضة وهذا باب لعمري مطمع وإمساكي عنه مغر بالفساد مولع فبادر عافاك الله إلى عمل حساب بتفصيل باب باب يبين فيه أمر داري وما دخل عليه أمر دخلي وخرجي. قلت له هذا كله بسبب قوله هات حسابك كيما نراعيه؟ فقال أي والله ولقد كان أكثر من هذا ولقد اختصرته. قال أبو بكر: فتفردت أياما وحررت الحساب على قاعدته وأصله والرسم الذي هو معروف بين أهله وحملته إليه فأخذه من يدي وأمر عينيه فيه من غير تثبت أو فحص أو مسالة فحذف به إلى وقال: أهذا حساب؟ أهذا كتاب، أهذا تحرير، أهذا تقرير، أهذا تفصيل، أهذا تحصيل، والله لولا أني ربيتك في داري، وشغلت بتخريجك ليلي ونهاري، ولك حرمة الصبي، ويلزمني رعاية الآباء، لأطعمتك هذا الطومار، وأحرقتك بالنفط والقار، وأدبت بك كل كاتب وحاسب، وجعلتك مثلة لكل شاهد وغائب، أمثلي يموه عليه؟ ويطمع فيما لديه، وأنا خلقت الحسابة والكتابة، والله ما أنام ليلة إلا وأحصل في نفسي ارتفاع العراق، ودخل الآفاق، أغرك مني أني أجررت رسنك وأخفيت قبيحك وأبديت حسنك، غير هذا الذي رفعت، وأعرف قبل وبعد ما صنعت، وأعلم
أنك من الآخرة قد رجعت، فزد في صلاتك وصدقتك، ولا تعول على قحتك وصلابة حدقتك. قال فو الله ما هالني كلامه ولا أحاك في هذيانه لأني كنت أعلم جهله في الحسابة ونقصه في هذا الباب. فذهبت وأفسدت وأخرت وقدمت وكابرت وتعمدت ثم رددته إليه فنظر إليه وضحك في وجهي وقال أحسنت بارك الله عليك هكذا أردت وهذا بعينه طلبت لو تغافلت عنك في أول الأمر لما تيقظت في الثاني. فهذا كما ترى أعجب منه كيف شئت.
وقال أبو حيان: قال لي علي بن الحسن الكاتب هجرني الصاحب في بعض الأيام هجرا أضر بي وكشف مستور حالي وذهب علي أمري ولم أهتد إلى وجه حيلة في مصلحتي وورد المهرجان فدخلت عليه في غمار الناس فلما أنشد نوبتين تقدمت فأنشدت فلم يهش إلي ولم ينظر إلى وكنت ضمنت أبياتي بيتا له من قصيدة على روي قصيدتي فلما مر به البيت هب من كسله ونظر إلي كالمنكر علي فطأطأت رأسي وقلت بصوت خفيض لا تلم ولا تزد في القرحة فما علي محمل وإنما سرقت هذا من قافيتك لأزين به قافيتي وأنت بحمد الله تجود بكل علق ثمين وتهب كل در مكنون أتراك تشاحني على هذا القدر وتفضحني في هذا المشهد؟ فرفع رأسه وصوته وقال: يا بني أعد هذا البيت فأعدته فقال: أحسنت يا هذا ارجع إلى أول قصيدتك فقد سهونا عنك وطار الفكر بنا إلى شان آخر والدنيا مشغلة وصار ذلك ظلما بغير قصد منا ولا تعمد. قال: فأعدتها وأمررتها وفغرت فمي بقوافيها فلما بلغت آخرها قال: أحسنت ألزم هذا الفن فإنه حسن الديباجة وكان البحتري استخلفك وأكثر بحضرتنا وارتفع بخدمتنا وابذل نفسك في طاعتنا لكن من وراء مصالحك بأداء حقك والجذب بضيعك والزيادة في قدرك على أقرانك قال: فلم أر بعد ذلك إلا الخير حتى عراه ملل آخر فوضعني في الحبس سنة وجمع كتبي فأحرقها بالنار وفيها كتب الفراء والكسائي ومصاحف القرآن وأصول كثيرة في الفقه والكلام فلم يميزها من كتب الأوائل وأمر بطرح النار فيها من غير تثبت بل لفرط جهله وشدة نزقه فهلا طرح النار في خزانته وفيها كتب ابن الراوندي وكلام ابن أبي العوجاء في معارضة القرآن بزعمه وصالح بن عبد القدوس وأبي سعيد الحصيري وكتب أرسطاطاليس وغير ذلك ولكن من شاء حمق نفسه.
قال وقال علي بن فلان: عطاء ابن عباد لا يزيد على مائة درهم وثوب إلى خمسمائة وما يبلغ إلى الألف نادر وما يوفي على الألف بديع بل قد نال به ناس من عرض جاهه على السنين ما يزيد قدره على هذا بأضعاف وعدد هؤلاء قليل جدا وذلك بابتذال النفس وهتك الستر ولقد بلغ من ركاكته أنه كان عنده أبو طالب العلوي فكان إذا سمع منه كلاما يسجعه وخبرا ينمقه يبلق عينيه وينشر منخريه ويرى أنه قد لحقه غشي حتى يرش على وجهه ماء الورد فإذا أفاق قيل ما أصابك ما عراك ما الذي نالك وتغشاك فيقول ما زال كلام مولاي يروقني ويونقني حتى فارقني لبي وزايلني عقلي وانشرحت مفاصلي وتخاذلت عرى قلبي وذهل ذهني وحيل بيني وبين رشدي فيتهلل وجه ابن عباد عند ذلك وينتفش ويضحك عجبا وجهلا ثم يأمر له بالحباء والتكرمة ويقدمه على جميع بني أبيه وعمه ومن ينخدع هكذا فهو بالنساء الرعن أشبه وبالصبيان الضعاف أمثل.
(أقول) لم ننقل هذا من كلام أبي حيان لأننا نظن أو نحتمل صحته بل نقلناه كما ننقل أشعار الأهاجي لبلاغتها وحسن أسلوبها واعتبارا بها. وكذلك لم ننقل ما سيأتي لأننا نظن صدقه بل حاله حال ما مضى.
وفي معجم الأدباء في ترجمة أبي حيان التوحيدي علي بن محمد قال أبو حيان: وأما حديثي معه يعني مع ابن عباد فإنني حين وصلت إليه قال لي أبو من؟ قلت أبو حيان فقال بلغني أنك تتأدب فقلت تأدب أهل الزمان فقال أبو حيان ينصرف أو لا ينصرف قلت إن قبله مولانا لا ينصرف فلما سمع هذا تنمر وكأنه لم يعجبه وأقبل على واحد إلى جانبه. وقال له بالفارسية سفها على ما قيل لي ثم قال ألزم دارنا وانسخ هذا الكتاب فقلت أنا سامع مطيع. ثم أني قلت لبعض الناس في الدار مسترسلا إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب وزاحمت منتجعي هذا الربيع لأتخلص من حرفة الشؤم فان الوراقة لم تكن ببغداد كاسدة فنمي إليه هذا أو بعضه أو على غير وجهه فزاده تنكرا.
قال أبو حيان في كتاب أخلاق الوزيرين من تصنيفه: طلع ابن عباد علي يوما في داره وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئا قد كان كادني به فلما أبصرته قمت قائما فصاح بحلق مشقوق أقعد فالوراقون أخس من إن يقوموا لنا فهممت بكلام فقال لي الزعفراني الشاعر اسكت فالرجل رقيع فغلب علي الضحك واستحال الغيظ تعجبا من خفته وسخفه لأنه كان قد قال هذا وقد لوى شدقه وشنج أنفه وأمال عنقه واعترض في انتصابه وانتصب في اعتراضه وخرج في تفكك مجنون قد أفلت من دير حنون والوصف لا يأتي على كنه هذه الحال لأن حقائقها لا تدرك إلا باللحظ ولا يؤتى عليها باللفظ.
وقال أبو حيان: قال الصاحب يوما فعل وأفعال قليل وزعم النحويون أنه ما جاء إلا زند وأزناد وفرخ وأفراخ وفرد وأفراد فقلت له أنا أحفظ ثلاثين حرفا كلها فعل وأفعال فقال هات يا مدعي فسردت الحروف ودللت على مواضعها من الكتب ثم قلت ليس لنحوي إن يلزم مثل هذا الحكم إلا بعد التبحر والسماع الواسع وليس للتقليد وجه إذا كانت الرواية شائعة والقياس مطردا وهذا كقولهم فعيل على عشرة أوجه وقد وجدته أنا يزيد على أكثر من عشرين وجها وما انتهيت في التتبع إلى أقصاه. فقال خروجك من دعواك في فعل يدلنا على قيامك في فعيل ولكن لا نأذن لك في اقتصاصك ولا نهب آذاننا لكلامك ولم يف ما أتيت به بجرأتك في مجلسنا وتبسطك في حضرتنا.
وقال أبو حيان: قال لي ابن عباد يوما يا أبا حيان من كناك بأبي حيان قلت أجل الناس في زمانه وأكرمهم في وقته قال ومن هو ويلك قلت أنت قال ومتى كان ذلك قلت حين قلت يا أبا حيان من كناك أبا حيان فاضرب عن هذا الحديث وأخذ في غيره على كراهة ظهرت عليه. قال: وقال لي يوما آخر وهو قائم في صحن داره والجماعة قيام منهم الزعفراني وكان شيخا كثير الفضل جيد الشعر ممتع الحديث والتميمي المعروف بسطل وكان من مصر والأقطع وصالح الوراق وابن ثابت وغيرهم من الكتاب والندماء يا أبا حيان هل تعرف فيمن تقدم من يكنى بهذه الكنية قلت نعم من أقرب ذلك أبو حيان الدارمي حدثنا أبو بكر محمد بن محمد القاضي الدقاق قال حدثنا ابن الأنباري قال حدثنا أبي قال حدثنا ابن ناصح قال دخل أبو الهذيل العلاف على الواثق فقال له الواثق لمن تعرف هذا الشعر:
سباك من هاشم سليل | ليس إلى وصله سبيل |
من يتعاطى الصفات فيه | فالقول في وصفه فضول |
للحسن في وجهه هلال | لا عين الخلق لا يزول |
وطرة ما يزال فيها | لنور بدر الدجى مقيل |
ما اختال في صحن قصر أوس | إلا ليسجى له قتيل |
فان يقف فالعيون نصب | وإن تولى فهن حول |
فقال أبو الهذيل يا أمير المؤمنين هذا الرجل من أهل البصرة يعرف بأبي حيان الدارمي وكان يقول بإمامة المفضول وله من كلمة يقول فيها:
أفضله والله قدمه على | صحابته بعد النبي المكرم |
بلا بغضة والله مني لغيره | ولكنه أولاهم بالتقدم |
وجماعة من أصحابنا قالوا أنشد أبو قلابة عبد الله بن محمد الرقاشي لأبي حيان البصري:
يا صاحبي دعا الملام وأقصرا | ترك الهوى يا صاحبي خساره |
كم لمت قلبي كي يفيق فقال لي | لجت يمين ما لها كفاره |
أن لا أفيق ولا أفتر لحظة | أن أنت لم تعشق فأنت حجاره |
الحب أول ما يكون بنظرة | وكذا الحريق بداؤه بشراره |
يا من أحب ولا اسمي باسمها | إياك أعني فاسمعي يا جاره |
فلما وفيت الشعر ورويت الإسناد وريقي بليل ولساني طلق ووجهي متهلل وقد تكلفت هذا وأنا في بقية من غرب الشباب وبعض ريعانه وملأت الدار صياحا بالرواية والقافية فحين انتهيت أنكرت طرفه وعلمت سوء موقع ما رويت عنده. قال ومن تعرف أيضا قلت روى الصولي فيما حدثنا عنه المرزباني إن معاوية لما احتضر أنشد يزيد عند رأسه متمثلا:
لو إن حيا نجا لفات أبو | حيان لا عاجز ولا وكل |
الحول القلب الأريب وهل | يدفع صرف المنية الحيل |
قال الصولي وهذا كان من المعمرين المغفلين و (انتهى) الحديث من غير هشاشة ولا هزة ولا أريحية بل على اكفهرار وجه ونبو طرف وقلة تقبل. وجرت أشياء أخر كان عقباها أني فارقت بابه سنة 370 راجعا إلى مدينة السلام بغير زاد ولا راحلة ولم يعطني في مدة ثلاث سنين درهما واحدا ولا ما قيمته درهم واحد أحمل هذا على ما أردت ولما نال مني هذا الحرمان الذي قصدني به وأحفظني عليه وجعلني من جميع حاشيته فردا أخذت أملا في ذلك بصدق القول عنه وسوء الثناء عليه والبادئ أظلم وللأمور أسباب وللأسباب أسرار والغيب لا يطلع عليه ولا يقارع لبابه.
وقال أبو حيان: قال لي الصاحب يوما وهو يحدث عن رجل أعطاه شيئا فتلكأ في قبوله ولا بد من شيء يعين على الدهر ثم قال: حالت جماعة عن صدر هذا البيت فما كان عندهم قلت أنا أحفظ ذاك، فنظر بغضب فقال: ما هو؟ قلت نسيت، فقال ما أسرع ذكرك من نسيانك، قلت ذكرته والحال سليمة فلما استحال عن السلامة نسيت، قال وما حيلولتها؟ قلت نظر الصاحب بغضب فوجب في حسن الأدب إلا يقال ما يثير الغضب قال ومن تكون حتى نغضب عليك دع هذا وهات. قلت قول الشاعر:
ألام على أخذ القليل وإنما | أصادف أقواما أفل من الذر |
فإن أنا لم أخذ قليلا حرمته | ولا بد من شيء يعين على الدهر |
فسكت.
قال أبو حيان عند قربه من فراع كتابه في ثلب الوزيرين وقد حكى
عن ابن عباد حكايات وأسندها إلى من أخبره بها عنه ثم قال: فما ذنبي أكرمك الله إذا سالت عنه مشايخ الوقت وأعلام العصر فوصفوه بما جمعت لك في هذا المكان على أني قد سترت شيئا كثيرا من مخازيه أما هربا من الإطالة أو صيانة للقلم عن رسم الفواحش وبث الفضائح وذكر ما يسمج مسموعه ويكره التحدث به هذا سوى ما فاتني من حديثه فاني فارقته سنة 370. وما ذنبي إن ذكرت عنه ما جرعنيه من مرارة الخيبة بعد الأمل وحملني عليه من الإخفاق بعد الطمع مع الخدمة الطويلة والوعد المتصل والظن الحسن حتى كأني خصصت بخساسته وحدي أو وجب إن أعامل به دون غيري. قدم إلى نجاح الخادم وكان ينظر في خزانة كتبه ثلاثين مجلدة من رسائله وقال يقول لك مولانا انسخ هذا فإنه قد طلب منه بخراسان فقلت بعد ارتياع: هذا طويل ولكن لو أذن لي لخرجت منه فقرأ كالغرر وشذورا كالدرر تدور في المجالس كالشمامات والدسثبويات لو رقي بها مجنون لأفاق أو نفث على ذي عاهة لبرئ لا تمل ولا تستغث ولا تعاب ولا تسترك. فرفع ذلك إليه وأنا لا أعلم فقال طعن في رسائلي وعابها ورغب عن نسخها وأزرى بها والله لينكرن مني ما عرف وليعرفن حظه إذا انصرف حتى كأني طعنت في القرآن أو رميت الكعبة بخرق الحيض أو عقرت ناقة صالح أو سلحت في بئر زمزم أو قلت كان النظام مأبونا أو مات أبو هاشم في بيت خمار أو كان عباد معلم صبيان. وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع إن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا. . . حتى أعذره في لومي على الامتناع أينسخ إنسان هذا القدر وهو يرجو بعدها إن يمتعه الله ببصره أو ينفعه ببدنه. ثم ما ذنبي إذ قال لي من أين لك هذا الكلام المفوف المشوف الذي تكتب به إلي في الوقت بعد الوقت؟ فقلت وكيف لا يكون كما وصف وأنا أقطف ثمار رسائله وأستقي من قليب علمه. أشيم بارقة أدبه وأرد ساحل بحره واستوكف قطر مزنه. فيقول كذبت وفجرت لا أم لك ومن أين في كلامي الكدية والشحذ والتضرع والاسترحام كلامي في السماء وكلامك في السماد. هذا أيدك الله وإن كان دليلا على سوء جدي فإنه دليل أيضا على انخلاعه وخرقه وتسرعه ولؤمه.
بل ما ذنبي إذا قال لي هل وصلت إلى ابن العميد أبي الفتح فأقول نعم رأيته وحضرت مجلسه وشاهدت ما جرى له وكان من حديثه فيما مدح به كذا وكذا وفيما تقدم منه كذا وكذا وفيما تكلفه من تقديم أهل العلم واختصاص أرباب الأدب كذا وكذا ووصل أبا سعيد السيرافي بكذا وكذا ووهب لأبي سليمان المنطقي كذا وكذا فينزوي وجهه وينكر حديثه وينجذب إلى شيء آخر مما شرع فيه ولا مما حرك له ثم يقول أعلم أنك إنما انتجعته من العراق فاقرأ علي رسالتك التي توسلت إليه بها وأسهبت مقرظا له فيها فأتمانع فيأمر ويشدد فاقرأها فيتغير ويذهل ثم يقال لي من بعد جنيت على نفسك حين ذكرت عدوه عنده بخير وأثنيت عليه وجعلته سيد الناس.
وقال أبو حيان: وكان ابن عباد شديد الحسد لمن أحسن القول وأجاد اللفظ وكان الصواب غالبا عليه وله رفق في سرد حديث ونيقة في رواية له وله شمائل مخلوطة بالدماثة بين الإشارة والعبارة وهذا شيء عام في البغداديين وكالخاص في غيرهم. حدثت ليلة بحديث فلم يملك نفسه حتى ضحك واستعاده ثم قيل لي بعده أنه كان يقول قاتل الله أبا حيان فإنه نكد وانه وأكره إن أروي ذمي بقلمي وكان ذلك كله حسدا وغيظا بحتا.
وحكى أبو حيان قال: حضرت مائدة الصاحب بن عباد فقدمت مضيرة فأمعنت فيها فقال لي يا أبا حيان أنها تضر بالمشايخ فقلت إن رأى الصاحب إن يدع التطبب على طعامه فعل فكأني ألقمته حجرا وخجل واستحيا ولم ينطق إلى إن فرغنا (انتهى).
ومما أخذه أبو حيان التوحيدي على الصاحب ما حكاه أبو حيان عن الخليلي أنه قال سمعت الصاحب يقول للتميمي الشاعر: كيف تقول الشعر وإن قلت كيف تجيد وإن أجدت فكيف تغزر وإن غزرت فكيف تروم غاية وأنت لا تعرف ما الزهزيق وما الهبلع وما العثلط وما الجلعلع وما القهقب وما القهبلس وما الخيسوب وما الخزعبلة وما القذعملة وما العرموط وما الجرقاس وما اللؤومس وما النعثل وما الطريال وما الفرق بين العرم والردم والحدم والحذم والقضم والخضم والنضح والرضح والفصم والقصم والقصع والفصع وما العنقس وما العكنفس وما الوكال والرومل وما الحيتعور واليستعور وما الستعون وما الجردون وما الحلزون وما الفقندر وما الجمعليل قال الشاعر:
جاءت بخف وحنين ورحل | جاءت تمشي وهي قدام الإبل |
ورأيت بعض الجهال يصحف ويقول وحنين وزجل قال أبو حيان قلت للخليلي من عنى بهذا قال ابن فارس معلم ابن العميد أبي الفتح (انتهى). وإذا صح هذا عن الصاحب فهو من باب المفاكهة والمطايبة والإشارة إلى معرفته بغريب اللغة ووحشيها والتحدث بنعمة العلم وإظهار البراعة في الحفظ والرواية وكان الصاحب عارفا بغريب اللغة وكل من عرف أمرا غريبا من علم أو غيره يجب إن يحدث عنه وليس مراده إن الشاعر يجب إن يدخل في شعره أمثال هذه الألفاظ ليرد عليه إن الشاعر يطلب نظما حلوا وكلمة رشيقة كما أورده الخليلي فيما حكاه أبو حيان. والذي يدل على ذلك إن الصاحب لم يكن يستعمل مثل هذا في رسائله أو شعره بل كان مشهورا باختيار اللفظ المأنوس ولا تكاد تجد له لفظة وحشية في رسائله أو في شعره. كيف وهو في رسالة الكشف عن مساوئ المتنبي ينعى على أبي الطيب استعماله الغريب والوحشي فيقول: واطم ما يتعاطاه بالألفاظ النافرة والكلمات الشاذة حتى كأنه وليد خباء أو غذي لبن ولم يطا الحضر ولم يعرف المدر.
وأبو حيان مع كثرة تحامله على الوزيرين الصاحب وابن العميد واستقصائه في إظهار معائبهما لم يسعه إلا الاعتراف بتفردهما بالفضل وتوحدهما بالنبل فكان بذلك مكذبا لنفسه ورادا عليها فإنه عندما قارب الفراغ من كتابه في أخلاق الوزيرين قال على ما في معجم الأدباء: ولولا إن هذين الرجلين أعني ابن عباد وابن العميد كانا كبيري زمانهما وإليهما انتهت الأمور وعليهما طلعت شمس الفضل وبهما ازدانت الدنيا وكانا بحيث ينشر الحسن منهما نشرا والقبيح يؤثر عنهما أثرا لكنت لا أتسكع في حديثهما هذا التسكع ولا أنحني عليها بهذا الحد ولكن النقص ممن يدعي التمام أشنع والحرمان من السيد المأمول فاقرة والجهل من العالم منكر والكبيرة ممن يدعي العصمة جائحة والبخل ممن يتبرأ منه بدعواه عجيب. ولو أردت مع هذا كله إن تجد لهما ثالثا في جميع من كتب للجبل والديلم إلى وقتك هذا المؤرخ في الكتاب لم تجد (انتهى).
تشيعه
لا ريب في تشيعه وكونه إماميا اثني عشريا فعن السيد رضي الدين علي بن طاوس الحلي العلوي الحسني في كتاب اليقين في فضائل أمير المؤمنين أنه نص على تشيعه. ومر عن المجلسي الأول وصفه بأنه من أفقه فقهاء أصحابنا. ومر عن ولده في مقدمات بحاره أنه كان من الإمامية. وذكره القاضي نور الله في مجالس المؤمنين في عداد وزراء الشيعة. ومر قول صاحب أمل الآمل أنه كان شيعيا إماميا. وعده ابن شهراشوب في شعراء أهل البيت المجاهرين كما مر، ويأتي عند ذكر تلاميذه عد الشهيد الثاني له من أصحابنا. وفي مستدركات الوسائل: نقلنا في ترجمة عبد العظيم الحسني رسالة للصاحب في أحوال عبد العظيم وفيها من الدلالة على إماميته ما لا يخفى على ذي مسكة، ويأتي نقل تلك الرسالة في ترجمة عبد العظيم انش ومر أنه نقش أسماءهم عليه السلام على خاتمه ويأتي ذلك عن الصدوق وقد صرح بالتشيع في أشعاره مكررا في مواضع تنبو عن حد الإحصاء ولا تحتمل التأويل وسيأتي جملة منها. وقال الصدوق المعاصر له والساكن معه في الري في مقدمة كتابه عيون أخبار الرضا: وقع إلى قصيدتان من قصائد الصاحب الجليل كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد أطال الله بقاءه وأدام توفيقه ونعماءه في إهداء السلام إلى الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فصنفت هذا الكتاب لخزانته المعمورة ببقائه إذ لم أجد شيئا آثر عنده وأحسن موقعا لديه من علوم أهل البيت عليه السلام لتعلقه أدام الله عزه بحبلهم واستمساكه بولايتهم واعتقاده لفرض طاعتهم وقوله بإمامتهم وإكرامه لذريتهم وإحسانه إلى شيعتهم قاضيا بذلك حق إنعامه علي ومتقربا به إليه لأياديه الزهر عندي ومننه الغر لدي ومتلافيا بذلك تفريطي الواقع في خدمة حضرته راجيا به قبوله لعذري وعفوه عن تقصيري وتحقيقه لرجائي فيه وأملي والله تعالى ذكره يبسط بالعدل يده ويعلي بالحق كلمته ويديم على الخير قدرته بكرمه وجوده وابتدأت بذكر القصيدتين لأنهما سبب تصنيفي هذا الكتاب وعلى الله التوفيق. قال الصاحب الجليل إسماعيل بن عباد أطال الله بقاءه وأدام دولته ونعماءه وسلطانه وعدله في إهداء السلام إلى الرضا عليه السلام:
يا زائرا قاصدا إلى طوس | مشهر طهر وأرض تقديس |
وذكر القصيدة بتمامها ثم قال وله أيضا أدام الله تأييده في إهداء السلام إلى الرضا عليه السلام:
يا زائرا قد نهضا | مبتدرا قد ركضا |
وأورد القصيدة بتمامها ويأتي ذكرهما "انش" عند ذكر أشعاره ثم أورد أحاديث في فضل قول الشعر فيهم عليه السلام منها ما عن الرضا عليه السلام ما قال مؤمن فينا شعرا يمدحنا الخبر فأجزل الله للصاحب الجليل الثواب على جميع أقواله الحسنة وأفعاله الجميلة وأخلاقه الكريمة وسيره المرضية وسنته العادلة وبلغه كل مأمول وصرف عنه كل محذور وأظفره بكل خير مطلوب وأجاره من كل بلاء ومكروه بمن استجار به من حججه الأئمة عليه السلام بقوله بعض أشعاره فيهم:
إن ابن عباد استجار بمن | يترك عنه الصروف مصروفه |
وقوله في قصيدة أخرى:
إن ابن عباد استجار بكم | فكلما خافه سيكفاه |
وجعل شفعاءه الذين أسماؤهم على نقش خاتمه:
شفيع إسماعيل في الآخرة | محمد والعترة الطاهرة |
وجعل دولته متسعة الأيام متصلة النظام مقرونة بالدوام ممتدة إلى التمام مؤبدة له إلى سعادة الأبد وباقية له إلى غاية الأمد بمنه وفضله (انتهى).
وفي لسان الميزان: قال ابن أبي طي: كان الصاحب إمامي المذهب وأخطأ من زعم أنه كان معتزليا وقد قال عبد الجبار لما تقدم للصلاة عليه:
ما أدري كيف أصلي على هذا الرافضي. وإن كانت هذه الكلمة وضعت من قدر عبد الجبار لكونه كان غرس نعمة الصاحب قال وشهد الشيخ المفيد بان الكتاب الذي نسب إلى الصاحب في الاعتزال وضع على لسانه ونسب إليه وليس هو له (انتهى) وبذلك يظهر النظر فيما سيأتي من إن المفيد نسبه إلى جانب الاعتزال وعن المختار من ديوان رسائل الصاحب أنه كتب إلى الشريف أبي طالب رسالة جاء فيها: فاني له ومنه ومختلط بالولاء معه وقد قال الصادق عليه السلام نحن الأعلون وشيعتنا العلويون وقبله ما روي مولى القوم منهم (انتهى) ويأتي في أشعاره من التصريح بذلك ما لا يقبل التأويل. وفي معاهد التنصيص كان شيعيا جلدا كال بويه معتزليا (انتهى) وقوله معتزليا لا ينافي التشيع لأن المراد موفقة المعتزلة في بعض العقائد المعروفة التي تشاركهم فيها الشيعة.
ما أوجب الريب في تشيعه
وهو أمور
(1) قول ياقوت وابن خلكان عن كتابه في الإمامة أنه في تفضيل علي عليه السلام وتثبيت أو تصحيح إمامة من تقدمه فإنه وإن دل على تشيعه بالمعنى الأعم إلا أنه يدل على أنه ليس إماميا
(2) ما نسب إليه من أنه معتزلي حتى شاع ذلك في الناس بحيث أنه مخدومه فخر الدولة قال له بلغني أنك تقول الدين الاعتزال كما مر وعن السيد رضي الدين علي بن طاوس في كتاب اليقين أنه نقل بعض الروايات عن كتاب الأنوار للصاحب مع التزامه في كتاب اليقين إن لا ينقل إلا روايات أهل السنة إلا أنه اعتذر عن النقل عنه بان الصاحب وإن كان يظهر من تصانيفه ما يقتضي موافقته للشيعة في الاعتقاد إلا إن الشيخ المفيد والسيد المرتضى نسباه إلى جانب الاعتزال. وعنه في كتاب اليقين المذكور أنه قال إن الشريف المرتضى رد في كتابه الإنصاف على الوزير الصاحب إسماعيل بن عباد في تعصبه للجاحظ ونسب الشريف الصاحب إلى جانب الاعتزال. وعنه في كتاب فرج الهموم أنه عده من المعتزلة ويظهر ذلك من رسالته المسماة بالإبانة فان ظاهره فيها إنكار النص على أمير المؤمنين عليه السلام مع قوله بأفضليته وهذا مذهب جماعة من المعتزلة. ففي مستدركات الوسائل بعد ما ذكر أن رسائله في أحوال عبد العظيم الحسني تدل على إماميته قال إلا أنه مع ذلك وقع إلينا منه رسالة الإبانة في مذهب العدلية قال في أواخرها وزعمت العثمانية وطوائف الناصبية إن أمير المؤمنين عليه السلام مفضول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير فاضل واستدلت بان الشيخين وليا عليه وقالت الشيعة العدلية ثم ذكر ما يقتضي أفضليته عليه السلام ثم قال وذهبت طائفة من الشيعة إن عليا عليه السلام كان في تقية فلذلك ترك الدعوة إلى نفسه وزعمت إن عليه نصا جليا لا يحتمل التأويل وقالت العدلية هذا فاسد كيف تكون عليه التقية في إقامة الحق وهو سيد بني هاشم وهذا سعد بن عبادة نابذ المهاجرين وفارق الأنصار ولم يخش مانعا ودافعا وخرج إلى حوران ولم يبايع ولو جاز خفاء النص الجلي على الإمامة وهي أغلى الأمور لجاز إن ينكتم صلاة سادسة وشهر يصام فيه غير شهر رمضان فرضا وكلما أجمع عليه الأمة من أمر الأئمة الذين قاموا بالحق وحكموا بالعدل صواب (انتهى) قال وهذا صريح في مذهب الاعتزال ومن هنا عده السيد رضي الدين علي بن طاوس في كتاب فرج الهموم من المعتزلة (انتهى المستدركات). ويحكى عن الصلاح الصفدي أنه قال: ومن المعتزلة الصاحب بن عباد الزمخشري والفراء النحوي (انتهى) وفي لسان الميزان أنه كان مشتهرا بمذهب المعتزلة داعية إليه وكان مع اعتزاله شافعي المذهب شيعي النحلة ثم حكى عن أبي حيان التوحيدي في كتاب الامتاع أنه قال كان يتشيع بمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية قال وهذا ينافي أنه كان شافعيا (انتهى) ومر عن اليافعي نسبته إلى الاعتزال والتشيع
(3) قول أبي حيان التوحيدي كما مر إن الغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة وأنه يتشيع بمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية وأنه يدين بالوعيد فإنه يدل على أنه زيدي معتزلي في الأصول حنفي في الفروع
(4) استحضاره القاضي عبد الجبار من رؤساء المعتزلة في عصره معه من بغداد إلى الري وجعله قاضي القضاة هذا كل ما يمكن إن يتشبث به لنفي إماميته.
والصحيح الذي لا ريب فيه ما قدمناه من أنه شيعي إثنا عشري لا معتزلي ولا حنفي ولا زيدي والجواب عن الأمور المذكورة أما ما حكي عن كتابه في الإمامة فهو معارض بشعره الدال صريحا على إنكار إمامة من تقدم على علي عليه السلام وحصر الإمامة فيه وفي أولاده الأحد عشر وسيأتي وكلامه الآتي في وصف علي أمير المؤمنين عليه السلام وحينئذ فما حكي عن كتاب الإمامة له وجه غير ما يظهر منه من مداراة ونحوها أو أنه رجع عنه وأما نسبة الاعتزال إليه فهي أما اشتباه أو المراد به موافقة المعتزلة في بعض الأصول المعروفة وبهذا المعنى وقعت نسبة الاعتزال إلى جماعة من أجلاء علماء الإمامية حتى إن الذهبي في ميزانه نسب السيد المرتضى إلى الاعتزال وبذلك يجاب عن قول مخدومه فخر الدولة على أنه خارج مخرج المزاح لا مخرج الحقيقة بدليل اقترانه بجملة مجونية وهي التي لم ننقلها. وأما نسبة المفيد والمرتضى إياه للميل إلى جانب الاعتزال فلعلها لما ظهر منه من التعصب للجاحظ أحد رؤساء المعتزلة ولعله كان يتعصب للجاحظ لأدبه لا لمذهبه حيث تجمعهما صنعة الكتابة والبلاغة كتعصب شريف الرضي للصابي على إن ابن أبي طي حكى عن المفيد كما مر أنه شهد بان الكتاب الذي نسب إلى الصاحب في الاعتزال وضع على لسانه وهو مناف لهذه الحكاية وأما عد ابن طاوس في فرج الهموم له من المعتزلة فلعله تبع فيه المفيد والمرتضى وقد سمعت الجواب عنه أما ما في رسالة الإبانة فيمكن الجواب عنه بما أجيب به عما في كتاب الإمامة كما مر. وفي مستدركات الوسائل يمكن إن يقال مضافا إلى عدم القطع بنسبة الكتاب إليه أنه كان كذلك ثم رجع أو خرج مخرج المداراة والله أعلم (انتهى) أما قول أبي حيان فيه فغير مسموع بعد ما ظهر من تحامله عليه فكأنه أراد إن يبين اضطرابه في مذهبه بكونه معتزليا في الأصول وعيديا وزيديا في الإمامة حنفيا في الفروع فليس كلامه إلا كهجاء الشعراء بالحق والباطل مع عدم المبالاة لا يمكن الاعتماد عليه مع إن كونه حنفيا ينافيه ما مر عن لسان الميزان أنه شافعي وبذلك يتطرق الشك إلى كونه شافعيا أيضا لاختلاف النقل وأما استحضاره عبد الجبار معه من بغداد وتوليته قضاء القضاة فلو دل على كونه معتزليا لأبطل هذه الدلالة قول عبد الجبار ما أدري كيف أصلي على هذا الرافضي كما مر.
أحواله
في معجم الأدباء واليتيمة وتاريخ ابن خلكان وغيرها والمجموع منتزع من المجموع أنه كان في بدء أمره من صغار الكتاب يخدم أبا الفضل ابن العميد على خاصة وكان ابن العميد يعطف على الصاحب ويتوسم فيه النجابة كما كان الصاحب يعجب بابن العميد ويجله وللصاحب فيه مدائح تأتي عند ذكر أشعاره ثم ترقت الحال بالصاحب إلى إن استكتبه ابن العميد لمؤيد الدولة أبي منصور بويه ابن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه الديلمي ومؤيد الدولة حينئذ أمير في عنفوان الشباب وأبوه ركن الدولة لا يزال حيا.
رسالة ابن العميد إلى الصاحب
حين استكتبه لمؤيد الدولة
في معجم الأدباء قال أبو حيان: كان ابن عباد يروي لأبي الفضل بن العميد كلاما في رقعة إليه حين استكتبه لمؤيد الدولة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم مولاي وإن كان سيدا بهرتنا نفاسته، وابن صاحب تقدست علينا رئاسته، فإنه يعدني سيدا ووالدا، كما أعده ولدا واحدا ومن حق ذلك إن يعضد رأيي برأيه ليزداد استحكاما، ونتظاهر عقدا وإبراما، وحضرت اليوم مجلس مولانا ركن الدين ففاوضني ما جري بيني وبين مولاي طويلا ووصل به كلاما بسيطا وأطلعني على إن مولاي لا يزيد بعد الاستقصاء والاستيفاء على التقصي والاستعفاء وألزم عبده إن أكره مولاي إكراه المسالة وأجبره إجبار الطلبة علما بأنه إن دافع المجلس المعمور طلبا للتحرز لم يرد وساطتي أخذا بالتطول وأقول بعد إن أقدم مقدمة مولاي غني عن هذا العمل بتصونه وتصلفه وعزوفه وبهمته عن التكثر بالمال وتحصيله لكن العمل فقير إلى كفايته محتاج إلى كفالته، وما أقول إن مرادي ما يعقد من حساب، وينشأ من كتاب، ويستظهر به من جمع، ويذر من عطاء ومنع، فكل ذلك وإن كان مقصودا، وفي آلات الوزارة معدودا ففي كتاب مولاي من يفي به ويستوفيه، ويوفي عليه ما يسر مساعيه، ولكن ولي النعمة يريد لتهذيب ولده ومن هو ولي عهده من بعده، والمأمول ليومه وغده، أدام الله أيامه، وبلغه فيه مرامه، ولا بد وإن كان الجوهر كريما، والسنخ قديما، والمجد صميما، ومركب العقل سليما، من مناب من تعلم ما السياسة وما الرئاسة وكيف تديير العامة والخاصة وبما ذا تعقد المهابة ومن أين تجتلب الأصالة والإصابة، وكيف ترتب المراتب، ويعالج الخطب إذا ضاقت المذاهب، وتعصى الشهوة لتحرس الحشمة وتهجر اللذة لتحفظ الأمرة، ولا بد من محتشم يقوم في وجه صاحبه فيراده إذا بدر منه الرأي المنقلب، ويراجع إذا جمح به الحجاج المرتكب، ويعاوده إذا ملكه الغضب الملتهب، فلم يكن السبب في إن فسدت ممالك جمة وبلدان عدة إلا إن خفضت أقدار الوزارة، فانقبضت أطراف الإمارة، وليس يفسد على ما أرى بقية الأرض إلا إذا استعين بأذناب على هذا الأمر فلا يبخلن مولاي على ولي نعمته بفضل معرفته فمن هذه الدولة جري ما فضله وفضل الشيخ الأمين من قبله وإن كان مسموعا كلامي وموثوقا باهتمامي فلا يقعن انقباض عني، وأعراض عما سبق مني، ومولاي محكم الإجابة إلى العمل فيما يقترحه وغير مراجع فيما يشترطه وهذا خطي به وهو على ولي النعمة حجة لا يبقى معها شبهة وسأتبع هذه المخاطبة بالمشافهة أما بحضوري لديه، أو بتجشمه إلى هذا العليل الذي قد ألح النقرس عليه (انتهى) قال وكان ابن عباد يحفظ هذه النسخة ويرويها ويفتخر بها.
ثم قال أبو حيان على عادته في ثلب الصاحب قال لي أصحابنا بالري منهم أبو غالب الكاتب الأعرج إن هذه المخاطبة من كلام ابن عباد افتعلها عن ابن العميد إلى نفسه تسوقا بها ونفاقا بذكرها (انتهى) وقد
كذب في ذلك فابن العميد كان يعطف على الصاحب ولا يكثر في حقه إن يخاطبه بمثل هذا ولكن أبا حيان لم يكن يألو جهدا في اختلاق المعائب للصاحب لشيء في نفسه ولم يكن مقام الصاحب في ذلك إلا مقام البدر تنبحه الكلاب وكان اختيار الصاحب كاتبا ومؤدبا لمؤيد الدولة قبل سنة 347 فان الصاحب توجه في تلك السنة مع مؤيد الدولة إلى بغداد كما ستعرف والصاحب يومئذ ابن نحو إحدى وعشرين سنة.
مجيء الصاحب إلى بغداد وما جرى له فيها
في كتاب تجارب الأمم لمسكويه في حوادث سنة 347 قال: وفيها ورد الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة إلى بغداد يخطب ابنة معز الدولة ومعه أبو علي بن أبي الفضل القاشاني وزيرا ومعه أبو القاسم إسماعيل بن عباد يكتب على سبيل الترسل فلما كانت ليلة السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولى زفت بنت معز الدولة إلى أبي منصور بويه ثم حملها إلى أصبهان ولما ورد الصاحب بغداد أعجبته كثيرا ولما رجع دخل على ابن العميد فقال له كيف وجدت بغداد فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد وأنشده الصاحب:
أفاضل الدنيا وإن برزوا | لم يبلغوا غاية استادها |
أما ترى أمصارها جمة | ولا ترى مصرا كبغدادها |
وفي بغداد اجتمع الصاحب بأبي سعيد السيرافي النحوي وغيره من العلماء قال ياقوت في معجم الأدباء وجدت في كتاب الروزنامجة كأنها الكتاب الذي يذكر فيه الوزير أو غيره حوادث السنة كالتي تسمى اليوم الروزنامة والسالنامة إن الصاحب قال: انتهيت إلى أبي سعيد السيرافي وهو شيخ البلد وفرد الأدب وحسن التصرف ووافر الحظ من علوم الأوائل فسلمت عليه وقعدت إليه وبعضهم يقرأ عليه الجمهرة فقال المقت فقلت إنما هو لمقت فدافعني الشيخ ساعة ثم رجع إلى الأصل فوجد حكايتي صحيحة واستمر القارئ حتى أنشد وقد استشهد:
رسم دار وقفت في طلله | كدت أقضي الغداة من جلله |
بتشديد الضاد فقلت أيها الشيخ هذا لا يجوز والمصراعان على هذا النشيد يخرجان من بحرين لأن:
#رسم دار وقفت في طلله #فاعلاتن مفاعلن فعلن #كدت أقضي الغداة من جلله #مفتعلن فاعلاتن مفتعلنفذاك من الخفيف وهذا من المنسرح فقال لم لا تقول الجميع من المنسرح والمصراع الأول مخزوم فقلت: لا يدخل الخزم هذا البحر لأن أوله مستفعلن مفاعلن هذه مزاحفة عنه وإذا حذفنا متحركا بقينا ساكنا وليس في كلام العرب ابتداء به وإنما هو: كدت أقضي الغداة من جلله بتخفيف الضاد فأمر بتغييره ورفعني إلى جنبه وابتدأ فقرئ عليه من كتاب المقتضب باب ما يجري وما لا يجري إلى إن ذكر سحر وأنه لا ينصرف إذا كان لسحر بعينه لأنه معدول عن الأول فقلت ما علامة العدل فيه فقال أنا قلنا السحر ثم قلنا السحر فعلمنا إن الثاني معدول عن الأول قلت لو كان كذلك لوجب إن تطرد العلة في عتمة لأنك تقول العتمة ثم تقول عتمة فضجر واحتد وأربد وادعيت أنه ناقص والتمس التحاكم فكتبت رسالة أخذت فيها خطوط أهل النظر وقد أنفذت درج كتابي نسختها وفيها خط أبي عبد الله بن رذامر عين مشايخهم ورأيت الشيخ بعد ذلك غزيرا فاضلا متوسعا عالما فعلقت عليه وأخذت عنه وحصلت تفسيره لكتاب سيبويه وقرأت صدرا منه وهناك أبو بكر بن مقسم وما في أصحاب ثعلب أكثر دراية ولا أصح رواية منه وقد سمعت مجالسه وفيها غرائب ونكت ومحاسن وطرف من بين كلمة نادرة ومسالة غامضة وتفسير بيت مشكل وحل عقد معضل وله قيام بنحو الكوفيين وقراءتهم ورواياتهم ولغاتهم. والقاضي أبو بكر بن كامل بقية الدنيا في علوم شتى يعرف الفقه والشروط والحديث وما ليس من حديثنا ويتوسع في النحو توسعا مستحسنا وله في حفظ الشعر بضاعة واسعة وفي جودة التصنيف قوة تامة ومن كبار رواة المبرد وثعلب والبحتري وأبي العيناء وغيرهم وقد سمعت صدرا صالحا مما عنده وكنت أحب إن أسمع كلام أهل النظر بالعراق لما تتابع في حذقهم من الأوصاف. وذكر أبا زكريا يحيى بن عدي وغيره ومناظرات جرت هناك يطول شرحها. قال أبو إسحاق الصابي: حضر الصاحب أبو القاسم ابن عباد دار الوزير المهلبي عند وروده إلى بغداد مع مؤيد الدولة فحجب عنه لشغل كان فيه فكتب إلي رقعة لطيفة لم نحب نقلها لما فيها من المجون فاقرأتها الوزير المهلبي فأمر بادخاله وقال: وكان الصاحب عند دخوله إلى بغداد قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه فتثاقل في القيام له وتحفز تحفزا أراه به ضعف حركته وقصور نهضته فاخذ الصاحب بضبعه وأقامه وقال نعين القاضي على قضاء حقوق أخوانه فخجل أبو السائب واعتذر إليه. وفي معجم الأدباء عن القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة إن نظير ذلك جرى لعبد العزيز بن محمد المعروف بابن أبي عمرو السرائي مع أبي السائب المذكور قال فتثاقل في القيام لي فجررت يده حتى أقمته القيام التام وقلت أعين القاضي أيده الله على إكمال البر وتوفية الأخوان حقوقهم وكنت عاتبا عليه وإنما جئته للخصومة فلما رأى الشر في وجهي قال تفضل لاستماع كلمتين ثم قل ما شئت: روينا عن ابن عباس في قوله تعالى {فاصفح الصفح الجميل} قال عفو بلا تقريع فاستحييت وانصرفت (انتهى) وفي معجم الأدباء من كتاب الروزنامجة قال الصاحب: ما زال أحداث بغداد يذاكرونني بابن شمعون المتصوف وكلامه على الناس في مكان الشبلي فجمعت يوما في المدينة وعلي طيلسان ومصمتة ووقفت عليه وقد لبس فوطة قصب وقعد على كرسي ساج بوجه حسن ولفظ عذب فرأيته يقطع مسائله بهوس ويطلبه ويسهب فيه فقلت لا بد من إن أساله عما أقطعه به وابتدرت فقلت يا شيخ ما تقول في {قد سيكونيات} العلم إذا وقعت قبل التوهم فورد عليه ما لم يسمع به فاطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال لم أؤخر إجابتك عجزا عن مسألتك بل لأعطشك إلى الجواب وأخذ في ضرب من الهذيان فلما سكت قلت هذا بعد التوهم وإنما سألتك قبله إلى إن ضجر فانصرفت عنه (انتهى) وكل هذا يدل على علو همة الصاحب فهو قد دخل بغداد لحاجة فلم يكتف حتى حضر مجالس مشاهير العلماء وأخذ عنهم وأفادهم واستفاد منهم وزار الوزراء والقضاة وحضر مجالس أهل النظر ومجالس الصوفية وأخجلهم ولما عاد الصاحب من بغداد أخذ معه أبا الحسن البديهي إلى أصبهان. وكان من جملة العلماء الذين استدعاهم إلى الري قاضي القضاة عبد الجبار الباقلاني المعتزلي فبقي فيها مواظبا على التدريس إلى إن توفي ولكن عبد الجبار لم يشكر ما أسداه إليه الصاحب من النعمة ففعل معه بعد وفاته ما مر وما يأتي في آخر الترجمة. واستهوته محاسن بغداد حتى حسن لفخر الدولة الاستيلاء عليها كما يأتي.
خبر المتنبي مع الصاحب
في مدة كتابة الصاحب لمؤيد الدولة ورد المتنبي على ابن العميد وطمع الصاحب في زيارة المتنبي إياه بأصفهان ومدحه فكتب إليه يلاطفه في استدعائه ويضمن له مشاطرته جميع ماله فلم يعرج المتنبي عليه وتعاظم عن مدحه بعد ما كان يمدح الملوك والوزراء فعمل الصاحب في انتقاده رسالة ذكرت في مؤلفاته وهو وإن كان الباعث له على عملها استياؤه من عدم مدحه إياه إلا أنه لم يظلمه فيها بشيء ولم ينتقد شعره بشيء غير صحيح كما فعل أبو حيان التوحيدي مع الصاحب وقد مر خبر المتنبي مع الصاحب مفصلا في ترجمة المتنبي أحمد بن الحسين في الجزء الثامن من هذا الكتاب.
وزارة الصاحب لمؤيد الدولة وما تقدمها
كان ابن العميد وزيرا لركن الدولة فلما توفي ابن العميد سنة 360 استوزر ركن الدولة ولده أبا الفتح علي بن محمد بن العميد ولما مات ركن الدولة في المحرم سنة 366 وولي ولده مؤيد الدولة بلاده بالري وإصبهان وتلك النواحي وورد من أصبهان إلى الري خلع على أبي الفتح علي ابن أستاذ الصاحب محمد بن العميد الكاتب المشهور وزير أبيه خلع الوزارة وأجراه على ما كان في أيام أبيه وحضر الصاحب مع مؤيد الدولة فكتب إلى أبي الفتح يهنئه بالوزارة كتابا أوله: أنا أهنئ أطال الله بقاء مولاي الوزارة بإلقائها إلى فضله مقادتها. فكره أبو الفتح موضعه وحمل الجند على الشغب حتى هموا بقتل الصاحب وتلطف الصاحب في خلال ذلك لأبي الفتح وقال له: أنا أتظلم منك إليك وأتحمل بك عليك وهذا الاستيحاش سهل الزوال إذا تألفت الشارد من حملك وعطفت على الشائع من ذكرك ولني ديوان الإنشاء واستخدمني فيه ورتبني بين يديك واحضرني بين أمرك ونهيك وسمني برضاك فاني صنيعة والدك واتخذني بهذا صنيعة لك وليس يجمل إن تكر على ما بني ذلك الرئيس فتهدمه وتنقضه ومتى أجبتني إلى هذا وأمنتني فاني أكون خادمك بحضرتك وكاتبا بطلب الزلفة عندك في صغير أمرك وكبيره وفي هذا إطفاء النائرة التي قد ثارت بسوء ظنك وتصديقك أعدائي علي. ومن هذا يظهر إن بعض أعداء الصاحب كانوا قد أوغروا صدر أبي الفتح عليه. فقال أبو الفتح في جوابه والله لا تجاورني في بلد السرير وبحضرة التدبير وخلوة الأمير ولا يكون لك إذن علي ولا عين عندي وليس لك مني رضا إلا بالعود إلى مكانك من أصبهان والسلو عما تحدث به نفسك. فأمر مؤيد الدولة الصاحب بالعودة إلى أصبهان فخرج من الري لثمان خلون من ربيع الأول سنة 366 على صورة قبيحة متنكرا بالليل وذلك أنه خاف الفتك والغيلة وبلغ أصبهان وألقى عصاه بها ونفسه تغلي وصدره يفور والخوف شامل والوسواس غالب. وهم أبو الفتح بانفاذ من يطالبه ويؤذيه ويهينه ويعسفه. قال الوزير أبو سعد سمعت الصاحب يذكر أمره فقال في أثناء كلامه إن مؤيد الدولة قال لي عند خروجي إلى أصبهان إن ورد عليك كتاب بخطي أو جاءك أجل حجابي وثقاتي للاستدعاء فلا تبرح من أصبهان إلى إن يجيئك فلان الركابي فإنه إن اتجهت لي حيلة على هذا الرجل يعني وزيره أبا الفتح بن أبي الفضل بن العميد وأمكنني الله من القبض عليه بادرت به إليك وهو العلامة بيني وبينك. قال فاستعظمت لحداثة سني وغرة الصبي وقلة التجربة ما حكاه الصاحب من قول مؤيد الدولة: إن اتجهت لي حيلة على هذا الرجل وتعجبت منه وأردت الغض من أبي الفتح فقلت وكان لأبي الفتح من القدر إن يصعب حبسه أو يحتاج إلى الاحتيال معه فانتهرني الصاحب وقال يا فلان أنت صبي تحسب إن القبض على الوزراء سهل، فطنت أنه يريد الرفع من شان الوزارة وتفخيم أمرها فعدلت عن كلامي الأول إلى غيره. ولم يمض أكثر من شهر على عودة الصاحب من الري إلى أصبهان حتى أمر مؤيد الدولة بالقبض على وزيره أبي الفتح وحبسه ونكبه حتى مات في حبسه وقيل قتله كما يأتي في ترجمته واستوزر الصاحب واستولى على أموره وحكمه في أمواله. وفي معجم الأدباء: قال غرس النعمة حدث أبو إسحاق إبراهيم بن علي النصيبي قال كان أبو الفتح علي بن الفضل بن العميد قد دبر على الصاحب بن عباد حتى أزاله عن كتبة الأمير مؤيد الدولة وأبعده عن حضرته بالري إلى أصفهان وانفرد هو بتدبير الأمور لمؤيد الدولة كان يدبرها لأبيه ركن الدولة واستدعى يوما ندماءه وعبا لهم مجلسا عظيما وشرب وعمل شعرا غنى به وقال لغلمانه غطوا المجلس لاصطبح في غد عليه فدعاه مؤيد الدولة في السحر فلم يشك أنه لهم فقبض عليه وأنفذ إلى داره من استولى على جميع ما فيها وأعاد ابن عباد إلى وزارته وتطاولت بابن العميد النكبة حتى مات فيها (انتهى).
ولم يزل الصاحب على ذلك حتى توفي مؤيد الدولة بالتاريخ الآتي وظل الصاحب على إخلاصه لابن العميد ولآل العميد حتى توفي ابن العميد ووقع بين الصاحب وبين ابنه أبو الفتح ما وقع فانقلبت تلك الصداقة مع الأب إلى عداوة مع الابن حتى صار الصاحب ينحرف عن كل ما يمت بالصحبة لآل العميد. قال الثعالبي: حدثني أبو الحسين النحوي قال: كان الصاحب منحرفا عن أبي الحسين بن فارس لانتسابه إلى خدمة أبي العميد وتعصبه له فأنفذ إليه من همذان كتاب الحجر من تأليفه فقال الصاحب رد الحجر من حيث جاءك ثم لم تطب نفسه بتركه فنظر فيه وأمر له بصلة مع إن الصاحب تلميذ ابن فارس وفيه يقول: شيخنا أبو الحسين ممن رزق حسن التصنيف وأمن فيه من التصحيف. وفي إحدى رسائل الصاحب ما يدل على موجدته على آل العميد حيث يقول ووضعت ما كانت العميدية والقمية ألزمته من صروف وطالبت به من قروف وفي كلام أبي حيان التوحيدي ما يدل على شدة العداوة بين الصاحب وأبي الفتح ابن العميد على إن ذلك لا يحتاج إلى دليل فالذي فعله أبو الفتح مع الصاحب كما مر يكفي أقله لأعظم عداوة. وأحسن الصاحب في خدمة مؤيد الدولة وحصل له عنده بقدم الخدمة قدم وانس منه مؤيد الدولة كفاية وشهامة فلقبه بالصاحب كافي الكفاة كما مر عن الصابي في كتاب التاجي أنه هو الذي لقبه بالصاحب لصحبته إياه وكان ركن الدولة قبل وفاته عهد بالملك بعده إلى ولده عضد الدولة فناخسرو وجعل لولده فخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل ولولده مؤيد الدولة أصبهان والري وأعمالهما وكان فخر الدولة مداجيا لأخويه وقد كاتبه ابن عمه بختيار بن معز الدولة ودعاه إلى الاتفاق معه على عضد الدولة فأجابه إلى ذلك فعلم عضد الدولة به فحاربه واستولى على بلاده سنه 369 وأضافها إلى أخيه مؤيد الدولة صاحب أصبهان والري وأعمالها فهرب فخر الدولة إلى جرجان والتجأ إلى شمس المعالي قابوس بن وشمكير فأمنه وآواه وفي سنة 370 كان عضد الدولة بهمذان فأرسل إليه مؤيد الدولة الصاحب بن عباد رسولا ببذل الطاعة والموافقة فتلقاه عضد الدولة على بعد من البلد وبالغ في إكرامه ورسم لأكابر كتابه وأصحابه تعظيمه ففعلوا ذلك حتى أنهم كانوا يغشونه مدة مقامه مواصلة ولم يركب هو إلى أحد منهم وذلك يدل على عظم مكانة الصاحب في النفوس وكبر عقل عضد الدولة. وقد كتب الصاحب إلى مؤيد الدولة رسالة يصف فيها ما لقيه من عطف عضد الدولة. من جملتها: فأما إنعام مولانا على عبده وصنيع يده واستقباله بنفسه والدنيا تسير بسيره وخدود النجم مع سنابك خيله وتلقيه إياه بوزراء بابه وأمراء أجناده وعظماء قواده منصرفين مع الإعظام ومتحفين في اللقاء والسلام ثم رتبني به في دخولي إلى الدار المعمورة بالعز وحضوري المجلس المحفوف بالملك والتبليغ بي إلى رتبة لم يقسمها حرس الله ملكه لأحد ممن غشي بابه المأمول من أطراف الأرض وأعيان الشرق والغرب واستجلاسي بحضرته التي يقف بها القمران على النواصي والهام إلى ضروب من الأنعام واستعظم والله وصفها وإن كانت الأخبار قد سارت على متون الرياح بها. وفي ذيل تجارب الأمم كان غرض عضد الدولة بذلك استمالة مؤيد الدولة وتأنيس الصاحب (انتهى) ووردت كتب مؤيد الدولة يستطيل مقام الصاحب ويذكر اضطراب أموره بعده فخلع عضد الدولة على الصاحب الخلع الجليلة وحمله على فرس بمركب ذهب ونصب له دستا كاملا في خركاه يتصل بمضاربه وأجلسه فيه وأقطعه ضياعا جليلة من نواحي فارس وحمل إلى مؤيد الدولة في صحبته ألطافا كثيرة وضم إليه من العسكر المستأمن عن فخر الدولة عددا ليكونوا برسم خدمة مؤيد الدولة. قال أبو حيان: لما رجع الصاحب من همذان سنة 369 بعد إن فارق حضرة عضد الدولة استقبله الناس من الري وما يليها واجتمعوا بساوة وقد كان أعد لكل واحد منهم كلاما يلقاه به عند رؤيته فأول من دنا منه القاضي أبو الحسن الهمذاني من قرية يقال لها أسداباد فقال له: أيها القاضي ما فارقتك شوقا إليك ولا فارقتني وجدا علي ولقد مرت لي بعدك مجالس تقتضيك وتحظيك وترضيك ولو شهدتني بين أهلها وقد علوتهم ببياني ولساني وجدلي وبرهاني لأنشدت قول حسان بن ثابت في ابن عباس وهو:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه | رأيت له في كل مجمعة فضلا |
إذا قال لم يترك مقالا لقائل | بملتقطات لا ترى بينها فصلا |
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع | لذي إربة في القول جدا ولا هزلا |
سموت إلى العلياء من غير خفة | فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا |
ولذكرت أيضا أبها القاضي قول الآخر وأنشدته فإنه قال فيمن وقف بموقفي، وقرف مقرفي وتصرف تصرفي، وانصرف منصرفي، واغترف مغترفي:
إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف | لعي ولم بتن اللسان على هجر |
يصرف بالقول اللسان إذا انتحى | وينظر في أعطافه نظر الصقر |
ولقد أودعت صدر عضد الدولة ما يطيل التفاته إلي، ويكثر حسرته علي، ولقد رأى مني ما لم ير قبله مثله، ولا يرى بعده شكله، والحمد لله الذي أوفدني عليه على ما يسر الولي، وأصدرني عنه على ما يسوء العدو، أيها القاضي! كيف الحال والنفس، وكيف المجلس والدرس، وكيف العرض والحرس، وكيف الدس والعس وكيف والمرس. وكاد لا يخرج من هذا الهذيان لتهيجه واحتدامه وشدة خباله وغلوائه، والهمذاني مثل الفأرة بين يدي السنور وقد تضاءل وقموء لا يصعد له نفس إلا بنزع تذللا وتقللا هذا على كبره في نفسه.
ثم نظر إلى الزعفراني رئيس أصحاب الرأي فقال: أيها الشيخ سرني بقاؤك، ولقد بلغني عداؤك وما خيله إليك خيلاؤك، وأرجو إن لا أعيش حتى يرد عليك غلواؤك، ما كان عندي أنك تقدم على ما أقدمت عليه، وتنتهي في عدوانك لأهل العدل والتوحيد إلى ما انتهيت إليه ولي معك إن شاء الله نهار له ليل، وليل يتبعه ليل وثبور يتصل به ويل، وقطر يدفع ومعه سيل، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار فقال له الزعفراني حسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم أبصر أبا طاهر الحنفي فقال: أيها الشيخ! ما أدري أشكوك أم أشكو إليك: أما شكواي منك، فإنك لم تكاتبني بحرف، كانا لم نتلاحظ بطرف، ولم نتحافظ على ألف، ولم نتلاق على ظرف وأما شكواي إليك فاني ذممت الناس بعدك، وذكرت لهم عهدك وعرضت بينهم ودك. وقدحت عليهم زندك، ونشرت عليهم غرائب ما عندك، فاشتاقوا إليك بتشويقي، واستصفوك بترويقي، وأثنوا عليك بتنميقي وتزويقي، وهكذا عمل الأحباب، إذا نأت بهم الركاب والتوت دونهم الأعناق، واضطرمت في صدورهم نار الاشتياق، فالحمد لله الذي أعاد الشعب ملتئما، والشمل منتظما، والقلوب وادعة والأهواء جامعة، حمدا يتصل بالمزيد، على عادة السادة مع العبيد، عند كل قريب وبعيد، سقى الله ربعا أنت أشدته بنزاهتك وطبعا أنت أطبته ببراعتك، ومغرسا أنت ينعته بنباهتك.
وقال للعيسابازي: أيها القاضي! أيسرك إن اشتاقك وتسلو عني، وان أسأل عنك وتنسل مني، وأن أكاتبك فتتغافل، وأطالبك بالجواب فتتكاسل، وهذا ما لا أحتمله من صاحب خراسان، ولا يطمع في مثله مني ملك بني ساسان. متى كنت منديلا ليد، ومتى نزلت عن هذا الحد لأحد، إن انكفأت علي بالعذر انكفاء، وإلا اندرأت عليك بالعذل اندراء، ثم لا يكون لك فرار بحال، ولا يبقى لك بمكاني استكبار إلا على وبال وخبال.
ثم طلع أبو طالب العلوي فقال له: أيها الشريف: جعلت حسناتك عندي سيئات، ثم أضفت إليها هنات، ولم تفكر في ماض ولا آت، أضعت العهد وأخلفت الوعد، وحققت النحس وأبطلت السعد، وحلت سرابا للحيران، بعد ما كنت شرابا للحران، وظننت انك قد شبعت مني، واعتضت عني، هيهات وانى بمثلي، أو من يعثر في ذيلي، أو له نهار أو ليل كليلي، وهل عائض وإن جل عائض أنا واحد هذا العالم، وأنت بما تسمع عالم، لا إله إلا الله سبحان الله أيها الشريف أين الحق الذي وكدناه أيام كادت الشمس تزول، والزمان علينا يصول، وأنا أقول وأنت تقول والحال بيننا يحول، سقى الله ليلة تشييعك وتوديعك، وأنت متنكر تنكرا يسوء الموالي، وأنا متفكر تفكرا يسر العدو ونحن متوجهون إلى ورأمين، خوفا من ذلك الجاهل المهين. (يعني بالجاهل المهين أبا الفتح ابن أبي الفضل بن العميد).
ثم نظر إلى أبي محمد كاتب الشروط فقال: أيها الشيخ! الحمد لله الذي كفانا شرك، ووقانا عرك وضرك، وأنانا فيحك وحرك دببت الضر إلينا، ومشيت الجمر علينا، ونحن نحيس لك الحيس، ونصفك باللبابة والكيس ونقول ليس مثله ليس، وأنت في خلال ذلك تقابلنا بالويح والويس، لولا أنك قرحان، لسقط بك العشاء على سرحان.
وقال لابن أبي خراسان الفقيه الشافعي: أيها الشيخ! ألغيت ذكرنا عن لسانك، واستمررت على الخلوة بإنسانك، جاريا على نسيانك مشتهرا بفتيانك وافتتانك، غير عاطف على أخدانك وأخوانك، ولولا أنني أرعى قديما قد أضعته، وأعطيتك من رعايتي ما قد منعته لكان لي ولك حديث، أما طيب وأما خبيث، خلفتك محتسبا فألفيتك مكتسبا، وتركتك آمرا بالمعروف فلحقتك راكبا للمنكر، قد تفيل الرأي وتخيب الظن وتكذب الأمل وقد قال الأول:
ألا رب من تغتشه لك ناصح | ومؤتمن بالغيب وهو ظنين |
ثم نظر إلى الشادباشي فقال: يا أبا علي! كيف أنت وكيف كنت، فقال يا مولانا:
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا | كنت إن كنت أدري كيف لم أكن |
فقال أعرب يا ساقط يا هابط، يا من تذهب إلى الحائط بالغائط ليس هذا من تحت يدك، ولا هو مما نشا من عندك، هذا لمحمد بن عبد الله ابن طاهر وأوله:
كتبت تسال عني كيف كنت وما | لاقيت بعدك من هم ومن حزن |
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا | لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن |
وكان ينشد وهو يلوي رقبته وتجحظ حدقته وينزي أطراف منكبيه ويتشايل ويتمايل كأنه الذي يتخبطه الشيطان من المس. هذا آخر حديث الاستقبال وقد أفك فيه أبو حيان في سيء ما قال. وفي سنة 371 طلب عضد الدولة من قابوس بن وشمگير أخاه فخر الدولة الذي كان قد التجأ إليه فأبى إن يسلمه فجهز إليه عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة فسار إلى جرجان ومعه الصاحب في منتصف تلك السنة فانهزم قابوس وفخر الدولة والتجأ بخراسان إلى السامانية واستولى مؤيد الدولة على طبرستان وجرجان وحصل الصاحب في هذه الوقعة على الفيل الذي كان في عسكر العدو فأمر من بحضرته من الشعراء إن يصفوه فوصفوه بالفيليات الآتي ذكرها، وللصاحب ثلاث رسائل كتبها مبشرا بهذا الفتح العظيم مذكورة في ديوان رسائله. وفي سنة 372 في شوال توفي عضد الدولة فسمت نفس أخيه مؤيد الدولة للاستيلاء على بغداد ومملكة عضد الدولة ولكنها عرضت له علة الخوانيق واشتدت به سنة 373 وهو في جرجان فقال الصاحب لو عهد أمير الأمراء عهدا إلى من يراه يسكن إليه الجند إلى إن يتفضل الله تعالى بعافيته وقيامه إلى تدبير مملكته لكان ذلك من الاستظهار الذي لا ضرر فيه فقال له أنا في شغل عن هذا وما للملك قدر مع انتهاء الإنسان إلى مثل ما أنا فيه فافعلوا ما بدا لكم ثم أشفى فقال له الصاحب تب يا مولانا من كل ما دخلت فيه وتبرأ من هذه الأموال التي لست على ثقة من طيبها وحصولها من حلها واعتقد متى أقامك الله وعافاك صرفها في وجوهها ورد كل ظلامة تعرفها وتقدر على ردها ففعل ذلك وتلطف به وتوفي مؤيد الدولة في شعبان سنة 373 بجرجان وهو ابن 43 سنة.
وزارته لفخر الدولة
فلما توفي ولم يعهد بالملك إلى أحد تشاور أكابر دولته فيمن يقوم مقامه فأشار الصاحب بإعادة فخر الدولة إلى مملكته إذ هو كبير البيت ومالك تلك البلاد قبل مؤيد الدولة ولما فيه من آيات الإمارة والملك فكتب الصاحب إليه واستدعاه وهو بنيسابور على حالة مختلة وإضاقة شديدة فسار فخر الدولة إلى جرجان في شهر رمضان سنة 373 فتلقاه الصاحب فرحب به فخر الدولة وبالغ في إكرامه وإعظامه وملكه الصاحب البلاد فاقر الصاحب على وزارته فأراد الصاحب اختباره هل في نفسه عليه شيء مما كان في أيام مؤيد الدولة الذي أوجب هرب فخر الدولة فقال له: قد بلغك الله يا مولاي وبلغني فيك ما أملته لنفسك وأملته لك ومن حقوق خدمتي عليك إجابتي إلى ما أوثره من ملازمة داري واعتزال الجندية والتوفر على أمر المعاد فقال له فخر الدولة: لا تقل أيها الصاحب هذا فاني ما أريد الملك إلا لك ولا يجوز إن يستقيم أمري إلا بك وإذا كرهت ملابسة الأمور كرهت ذاك بكراهتك وانصرفت. كذا في ذيل تجارب الأمم. وفي اليتيمة وغيرها إن الصاحب لما استعفاه قال له فخر الدولة: لك في هذه الدولة من ارث الوزارة كما لنا من ارث الامارة فسبيل كل منا إن يحتفظ بحقه ولم يعفه فقبل الصاحب الأرض شكرا وقال:الأمر أمرك وخلع عليه خلع الوزارة وأكرمه بما لم يكرم بمثله وزير وصدر عن رأيه في جليل الأمور وصغيرها ولم يزل معه إلى إن مات الصاحب والأمور تصدر عن أمره والملك يتدبر برأيه وكان إذا قال فخر الدولة قولا وقال الصاحب قولا امتثل قول الصاحب وترك قول فخر الدولة وكانت وزارته لمؤيد الدولة وأخيه فخر الدولة ثماني عشرة سنة وشهرا واحدا قال ياقوت في معجم الأدباء: وفتح خمسين قلعة سلمها إلى فخر الدولة لم يجتمع عشر منها لأبيه ولا لأخيه (انتهى). وكان مبجلا عند فخر الدولة معظما نافذ الأمر بحيث نقل أنه لم يعظم وزيرا مخدومه ما عظمه فخر الدولة إياه. وقال الثعالبي حدثني عون بن الحسين الهمذاني قال: سمعت أبا عيسى بن المنجم يقول: سمعت الصاحب يقول: ما استؤذن لي على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا انتقل إلى مجلس الحشمة فيأذن لي فيه وما أذكر أنه تبذل بين يدي ومازحني قط إلا مرة واحدة فإنه قال لي في شجون الحديث بلغني أنك تقول الدين دين الاعتزال (وجملة أخرى فيها مجون) فأظهرت الكراهة لانبساطه وقلت بنا من الجد ما لا يفرع معه للهزل ونهضت كالمغاضب فما زال يعتذر إلي مراسلة حتى عاودت مجلسه ولم يعد بعدها لما يجري مجرى الهزل والمزح.
وكان الصاحب قد وقع في نفسه حب بغداد والاستيلاء عليها من يوم جاء إليها خاطبا للأمير بويه ابنة عمه فقد مر أنه قال لابن العميد لما سأله عنها بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد ومر أيضا إن مؤيد الدولة كانت قد سمت نفسه إلى الاستيلاء على بغداد بعد وفاة عضد الدولة فمات قبل إن يتم له ذلك وبعد موت مؤيد الدولة حدثت الصاحب نفسه بالمسير إلى العراق وضمه إلى مملكة فخر الدولة ففي معجم الأدباء عن كتاب لهلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ أنه قال سمعت محدثا يحدث أبا إسحاق أنه سمع الصاحب يقول: ما بقي من أوطاري وأغراضي إلا إن أملك العراق وأتصدر ببغداد وأستكتب أبا إسحاق الصابي ويكتب عني وأغير عليه فقال جدي ويغير علي وإن أصبت (انتهى). ويظهر إن تلك الأمنية تنوقلت عنه واشتهرت حتى صرح بها شعراؤه في مدائحهم له ليسروه قال أبو القاسم الزعفراني من قصيدة يمدحه بها:
لا ذكرت العراق ولا عشت إلا | أن أراه يؤمه في الجنود |
وفي سنة 379 زين الصاحب بفخر الدولة الاستيلاء على العراق ففي ذيل تجارب الأمم: كان الصاحب بن عباد على قديم الأيام وحديثها يحب بغداد والرياسة فيها ويراصد أوقات الفرصة لها فلما توفي شرف الدولة سمت نفسه لهذا المراد وظن إن الغرض قد أمكن فوضع على فخر الدولة من يعظم في عينيه ممالك العراق ويسهل عليه فتحها وأحجم الصاحب عن مفاتحته بذلك خوفا من خطر العاقبة إلى إن قال له فخر الدولة ما الذي عندك أيها الصاحب فيما نحن فيه فقال الأمر لشاهانشاه وما يذكر من جلالة تلك الممالك مشهور لا خفاء به وسعادته غالبة فإذا هم بأمر خدمته فيه وبلغته أقصى مراميه فعزم حينئذ على قصد العراق وسار إلى همذان واستقر العزم على إن يسير الصاحب وبدر بن حسنويه على طريق الجادة ويسير فخر الدولة وبقية العسكر على طريق الأهواز فلما سار الصاحب قيل لفخر الدولة أنه من الغلط مفارقة الصاحب لك لأنك لا تأمن إن يستميله أولاد عضد الدولة فيميل إليهم فاستدعاه إليه ليسير إلى الأهواز فسبق إليها وملكها ولحقه فخر الدولة بعد عشرين يوما وأساء السيرة مع جندها وضيق عليهم ولم يبذل المال فتخاذل الجند وكان الصاحب قد أمسك نفسه تأثرا بما قيل عنه من اتهامه. فلما سمع بهاء الدولة بوصولهم إلى الأهواز سير إليهم العساكر والتقوا هم وعساكر فخر الدولة واتفق إن دجلة الأهواز زادت ذلك الوقت زيادة عظيمة وانفتحت البثوق منها فظنها عسكر فخر الدولة مكيدة وقال بعضهم لبعض وإنما حملنا الصاحب لهذه البلاد طلبا لهلاكنا فانهزموا فقلق فخر الدولة من ذلك وكان قد استبد برأيه فعاد حينئذ إلى رأي الصاحب فأشار ببذل المال واستصلاح الجند وقال له إن الرأي في مثل هذه الأوقات إخراج المال وترك مضايقة الجند فان أطلقت المال ضمنت لك حصول اضعافه بعد سنة فلم يفعل ذلك وتفرق عنه كثير من عسكر الأهواز واتسع الخرق عليه وضاقت الأمور به فعاد إلى الري وعادت الأهواز إلى بهاء الدولة.
أخباره
في معجم الأدباء: دخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه فقال له الصاحب أبو من؟ فأنشد الرجل:
وتتفق الأسماء في اللفظ والكنى | كثيرا ولكن لا تلاقى الخلائق |
فقال له اجلس يا أبا القاسم. وعلى الضد من هذا الرجل ما في معجم الأدباء أيضا أنه ورد إلى الصاحب رجل من أهل الشام فكان فيما استخبره عنه: رسائل من تقرأ عندكم؟ فقال رسائل ابن عبدكان قال ومن؟ قال رسائل الصابي وغمزه أحد جلسائه ليقول ورسائل الصاحب فلم يفطن ورآه الصاحب فقال: تغمز حمارا لا يحس (انتهى) قال في اليتيمة وحدثني أبو نصر النمري بجرجان قال: سمعت القاضي علي بن عبد العزيز يقول: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد وقد استعفيت يوما من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده | وأمده من فعلك الحسن |
فالعز مطلوب وملتمس | وأعزه ما نيل في الوطن |
ثم قال لي قد فرغت من هذا المعنى في العينية فقلت لعل مولانا يريد قولي:
وشيدت مجدي بين قومي فلم أقل | إلا ليت قومي يعلمون صنيعي |
فقال ما أردت غيره والأصل فيه قول الله تعالى يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين. وفي اليتيمة سمعت أبا نصر سهل بن المرزبان يقول: كان الصاحب إذا شرب ماء بثلج أنشد على أثره:
قعقعة الثلج بماء عذب | تستخرج الحمد من أقصى القلب |
ثم يقول: اللهم جدد اللعن على يزيد.
وفي معجم الأدباء قال أبو حيان التوحيدي: كنت بالري سنة 358 وابن عباد بها مع مؤيد الدولة قد ورد في مهمات وحوائج وعقد لابن عباد مجلس جدل وكنا نبيت عنده في داره في باب شير ومعنا الضرير أبو العباس القاضي وأبو الجوزاء البرقي وأبو عبد الله النحوي الزعفراني وجماعة من الغرباء فرأى ليلة في مجلسه وجها غريبا صاحب مرقعة فأحب إن يعرفه ويعرف ما عنده وكان الشاب من أهل سمرقند يعرف بأبي واقد الكرابيسي فقال له يا أخ انبسط واستأنس وتكلم فلك منا جانب وطئ وشرب مرئ ولن
ترى إلا الخير بما تقرف؟ فقال بدقاق قال تدق ماذا؟ قال أدق الخصم إذا زاع عن سبيل الحق فلما سمع هذا تنكر وعجب لأنه مجيء ببديعة فقال دع هذا وتكلم قال أتكلم سائلا ما بي والله حاجة إلى مسالة، أم أتكلم مسؤولا فو الله أني لأكسل عن الجواب. أم أتكلم مقررا فو الله أني لأكره إن أبدد الدر في غير موضعه وإني لكما قال الأول:
لقد عجمتني العاجمات فلم تجد | هلوعا ولا لين المجسة في العجم |
وكاشفت أقواما فأبديت وصمهم | وما للأعادي في قناتي من وصم |
قال له: يا هذا ما مذهبك؟ قال: مذهبي إلا أقر على الضيم ولا أنام على الهون ولا أعطي صمتي لمن لم يكن ولي نعمتي ولم تصل عصمته بعصمتي. قال هذا مذهب حسن ومن ذا الذي يأتي الضيم طائعا ويركب الهون سامعا ولكن ما نحلتك التي تنصرها؟ قال: نحلتي مطوية في صدري لا أتقرب بها إلى مخلوق ولا أنادي عليها في سوق ولا أعرضها على شاك ولا أجادل فيها المؤمن. قال فما تقول في القرآن؟ قال: ما أقول في كلام رب العالمين الذي يعجز عنه الخلق إذا أرادوا الاطلاع على غيبه وبحثوا عن خافي سره وعجائب حكمته فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله وليس له مثل مظنون فضلا عن مثل متيقن. فقال له ابن عباد صدقت ولكن أمخلوق أم غير مخلوق فقال له إن كان مخلوقا كما تزعم فيما يضر خصمك وإن كان غير مخلوق كما يزعم خصمك فما يضرك فقال: يا هذا أبهذا تناظر في دين الله وتقوم على عبادة الله قال إن كان كلام الله نفعني إيماني به وعملي بمحكمه وتسليمي لمتشابهه وإن كان كلام غيره وحاش لله من ذلك ما ضرني فامسك عنه ابن عباد وهو مغيظ ثم قال أنت لم تخرج من خراسان بعد فمكث الرجل ساعة ثم نهض فقال له ابن عباد إلى أين يا هذا قد تكسر الليل بت ههنا فقال أنا بعد لم أخرج من خراسان كيف أبيت بالري وخرج فارتاب به ابن عباد فقفاه بصاحب له وأوصاه بان يتبع خطاه ويبلع مداه من حيث لا يفطن به ولا يراه فما زاع الرجل عن باب ركن الدولة حتى وصل ودخل في ذلك الوقت الفائت إليه فقيل لابن عباد ذلك فطار نومه وقال أي شيطان هبط علينا وأحصى ما كنا فيه بلسان سليط وطبع مريد وكان هذا الكرابيسي عينا لركن الدولة بخراسان فلذلك كان قريبا وكان أحد رجالاته.
وقال أبو حيان حدثنا ابن عباد يوما قال: ما فظعني إلا شاب ورد علينا إلى أصبهان بغدادي فقصدني فأذنت له وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاق فنظرت إلى حاجبي فقال له وهو يصعد إلي اخلع نعلك فقال ولم ولعلي أحتاج إليها بعد ساعة فغلبني الضحك وقلت أتراه يريد إن يصفعني.
قال: ودخل الناس في مذهب ابن عباد وقالوا بقوله رغبة فيما لديه واجتهد بأبي الحسين المتكلم الكلابي إن ينتقل إلى مذهبه فقال الحسين دعني أيها الصاحب أكون مستجدا لك فما بقي غيري فان دخلت في المذهب لم يبق بين يديك من ينبو عليك قبيحة ويبدو للناس عواره فضحك وقال قد أعفيناك يا أبا عبد الله وبعد فما نبخل عليك بنار جهنم أصل بها كيف شئت. وقال يوما صدروا قول الشاعر: والمنزل العذب كثير الزحام فسكتت الجماعة فقال ابن الداري: يزدحم الناس على بابه قال أبو حيان فاقبل عليه بغيظ وقال ما عرفتك إلا متعجرفا جاهلا أما كان لك بالجماعة أسوة (انتهى) وهذا من أكاذيب أبي حيان وافترائه.
طلب ملك خراسان له واعتذاره
قال الثعالبي حدثني أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي قال سمعت الصاحب يقول أنفذ إلي أبو العباس تاش الحاجب رقعة في السر بخط صاحبه نوح بن منصور الساماني ملك خراسان يريدني فيها على الانحياز إلى حضرته ليلقى إلي مقاليد مملكته ويعتمدني لوزارته ويحكمني في ثمرات بلاده فكان فيما اعتذرت به من ترك امتثال أمره والصد عن رأيه ذكر طول ذيلي وكثرة حاشيتي وضمنتي وحاجتي لنقل كتبي خاصة إلى أربعمائة جمل فما الظن بما يليق بي من تجمل مثلي وفي معجم الأدباء كان صاحب خراسان نوح بن منصور الساماني قد أرسل إلى الصاحب في السر يستدعيه إلى حضرته ويرغبه في خدمته وبذل البذول السنية فكان من جملة اعتذاره إن قال كيف يحسن بي مفارقة قوم بهم ارتفع قدري وشاع بين الأنام ذكري ثم كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي وعندي من كتب العلم خاصة ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر.
قال أبو الحسن البيهقي بيت الكتب الذي بالري على ذلك دليل بعد ما أحرق منه السلطان محمود بن سبكتكين فاني طالعت هذا البيت فوجدت فهرست تلك الكتب عشرة مجلدات (انتهى) ويأتي ذكر ذلك عند ذكر خزانة كتبه إن شاء الله تعالى.
وفي هذه القصة ما يدل على شدة وفاء الصاحب وعظم عقله وذياع صيته ومكانته في النفوس ولولا ذلك ما خطب وزارته الساماني.
قال أبو الرجاء الأهوازي لما قدم علينا الصاحب في السنة التي جاء فيها فخر الدولة إلى الأهواز مدحته بقصيدة قلت فيها:
إلى ابن عباد أبي القاسم الصاحب إسماعيل كافي الكفاة.
فقال قد كنت والله أشتهي بان تجتمع كنيتي واسمي ولقبي واسم أبي في بيت فلما انتهيت إلى قولي فيها: (ويشرب الجيش هنيئا بها) قال يا أبا الرجاء أمسك فأمسكت فقال:
ويشرب الجيش هنيئا بها | من بعد ماء الري ماء الصراة |
هكذا هو؟ قلت نعم، قال أحسنت قلت يا مولاي أحسنت أنت عملت أنا هذا في ليلة وأنت عملته في لحظة.
خبره مع نصر بن الحسن بن الفيروزان
في معجم الأدباء عن تاريخ الوزير أبي منصور بن الحسين الآبي كان نصر هذا خال فخر الدولة وكان مقداما شجاعا فعصى على فخر الدولة وتغلب على قطعة من ملكه واحتال على جماعة من عسكره فقتلهم وكسر له عدة عساكر ثم كسرته عساكر فخر الدولة فهرب نحو خراسان ثم سلك المفازة إلى الري فوردها لست بقين من شوال سنة 384 وقصد ليلا باب كافي الكفاة مستجيرا به قال الوزير أبو سعد كنت في هذه الليلة بحضرة كافي الكفاة فاتاه الحاجب وقد مضى هزيع من الليل فأخبره بوقوف نصر على الباب خاشعا متضرعا فرأيته قد تحير في الأمر ثم راسله بان السلطان الأعظم يعني فخر الدولة ساخط عليك ولا يجوز لي إن آذن لك في دخول داري إلا بعد إن تترضاه فإذا عفا عنك فالدار بين يديك فقال إن ما جئت إلى الصاحب لائذا به ومنقطعا إليه ولا أعرف غيره وهو يحتاج إن يدبر أمري فرأيت الصاحب مترددا بين إن يستمر على المنع وبين إن يأذن له ويجعل داره بما فيها من الخزائن له وينتقل هو إلى دار أخرى ثم تقرر رأيه على صرفه واستمر نصر على الإلحاح في الخضوع وطلب الإذن وانتقل من الباب الكبير إلى باب الخاصة وسال واجتهد إلى إن جاءه من قبل فخر الدولة من قبض عليه وحبسه وكان هذا الفعل من الصاحب مستهجنا وأظن أنه لم يفعل لأنه جبن عن الاجتماع معه في دار واحدة مع العداوة المتأكدة بينهما (انتهى).
خبر سبطه عباد
مر إن الصاحب لم يكن له إلا بنت واحدة فزوجها من الشريف أبي الحسين (الحسن) علي بن الحسين الحسيني فولدت منه ولدا سماه أبوه عبادا باسم جده لأمه فلما أتت الصاحب البشارة بسبطه عباد أنشأ يقول:
أحمد الله لبشري | أقبلت عند العشي |
إذ حباني الله سبطا | هو سبط للنبي |
مرحبا ثمة أهلا | بغلام هاشمي |
نبوي علوي | حسني صاحبي |
ثم قال:
الحمد لله حمدا دائما أبدا | إذ صار سبط رسول الله لي ولدا |
فقال أبو محمد الخازن على وزنه ورويه قصيدة أولها:
بشرى فقد أنجز الاقبال ما وعدا | وكوكب المجد في أفق العلا صعدا |
وقد تفرع في أفق الوزارة عن | دوح الرسالة غصن مورق رشدا |
لله أية شمس للعلا ولدت | نجما وغابة عز اطلعت أسدا |
وعنصر من رسول الله وأشجه | كريم عنصر إسماعيل فاتحدا |
وبضعة من أمير المؤمنين زكت | أصلا وفرعا وصحت لحمة وسدى |
ومثل هذي السعادات القوية لا | يحوزها غيره دامت له أبدا |
يا دهره حق إن تزهى بمولده | فمثله منذ كان الدهر ما ولدا |
تعجبوا من هلال العيد يطلع في | شعبان أمر عجيب قط ما عهدا |
فمن موالي يوالي الحمد مبتهلا | ومخلص يستديم الشكر مجتهدا |
وكادت الغادة الهيفاء من طرب | تعطي مبشرها الارهاف والغيدا |
فلا رعى الله نفسا لم تسر به | ولا وقاها وغشاها رداء ردى |
وذي ضغائن طارت روحه شفقا | منه وطاحت شظايا نفسه قددا |
علما بان الحسام الصاحبي غدا | مجردا والشهاب الفاطمي بدا |
وأنه انسد شعب كان منصدعا | به وامرع شعب كان محتصدا |
فارفع المجد أعيانا واسمقه | مجد يناسب فيه الوالد الولدا |
فليهنا الصاحب المولود ولترد السعود | تجلو عليه الفارس النجدا |
لم يتخذ ولدا إلا مبالغة في | صدق توحيد من لم يتخذ ولدا |
وخذ إليك عروسا بنت ليلتها | من خادم مخلص ودا ومعتقدا |
أهديتها عفو طبعي وانتحيت بها | سحرا وإن كنت لم أنفث له عقدا |
وازنت ما قلته شكرا لربك إذ | جاء المبشر بيتا سار واطردا |
الحمد لله شكرا دائما أبدا | إذ صار سبط رسول الله لي ولدا |
وقال أبو الحسين الجوهري يهنئه بقصيدة منها:
كافي الكفاة بقصد من صرائمه | حامي الحماة بحصد من مناصله |
ما زال يخطب منه الدين مجتهدا | قربي توطد من عليا وسائله |
وكان بعد رسول الله كافله | فصار جد بنيه بعد كافله |
هلم للخبر المأثور مسنده | في الطالقان فقرت عين ناقله |
فذلك الكنز عباد وقد وضحت | عنه الإمامة في أولى مخايله |
الصاحبي نجارا في مطالعه | والطالبي غرارا في مقاتله |
يهني الوزير ظبي في وجه صارمه | من صارم وشبا في حد عامله |
قوله هلم للخبر المأثور الخ إشارة إلى ما روته الشيعة إن بالطالقان كنزا من ولد فاطمة والصاحب من الطالقان وقد رزق سبطا فاطميا فرجا الشاعر إن يكون هو المراد بالخبر.
وقال عبد الصمد بن بابك قصيدة منها:
كساك الصوم أعمار الليالي | وأعقبك الغنيمة في المآب |
فلا زالت سعودك في خلود | تباري بالمدى يوم الحساب |
أتاك العز يسحب بردتيه | على ميثاء حالية التراب |
ببدر من بني الزهراء سار | تعرى عنه جلباب السحاب |
تفرع في النبوة ثم ألقى | بضبعيه إلى خير الصحاب |
تلاقت لابن عباد فروع | النبوة والوزارة في نصاب |
فلا تغرر برقدته الليالي | ولا تشحذ له المهم النوابي |
فمن خضعت له الأسد الضواري | ترفع عن مراوغة الذئاب |
وكان الصاحب إذا ذكر عبادا أنشد وقال:
يا رب لا تخلني من صنعك الحسن | يا رب حطني في عباد الحسيني |
ولما فطم عباد قال:
فطمت أيا عباد يا ابن الفواطم | فقال لك السادات من آل هاشم |
لئن فطموه عن رضاع لبانه | لما فطموه عن رضاع المكارم |
ولما كبر عباد زوجه جده الصاحب. حكى ياقوت في معجم الأدباء عن الوزير أبي سعد منصور بن الحسين الآبي في تاريخه أنه قال: خطب كافي الكفاة ابنة أبي المفضل ابن الداعي لسبطه عباد بن أبي الحسن علي بن الحسين الحسني وقع الأملاك في داره يوم الخميس لأربع خلون من ربيع الأول سنة 384 وكان يوما عظيما احتفل فيه كافي الكفاة ونثر من الدنانير والدراهم شيئا كثيرا ولذلك أنفذ فخر الدولة له على يدي أحد حجابه الكبار إلى هناك من النثار ما زاد على مائة طبق عينا ورقا وحضر الفولاذ زماندارية أصحاب فولاذ بن زماندار أحد ملوك الديلم بأسرهم فان الابنة المزوجة كانت ابنة ديكونه بنت الحسن بن الفيروزان خالة فخر الدولة وكان القوم أخوالها وأضافهم الصاحب ونصبت مائدة عظيمة في بيت يزيد على خمسين ذراعا وكانت بطول البيت وأجلس عليها ستة أنفس وكان فولاذ بن زماندار وكبات بن بلقسم في الصدر وبجنب فولاذ أبو جعفر ابن الثائر العلوي وبجنبه الآخر أبو القاسم ابن القاضي العلوي ودون أحد العلويين كاكي بن يشكرزاد ودون الآخر مرداويج الكلاري ووقف أبو العباس الفيروزان وعبد الملك بن ما كان للخدمة ووقف كافي الكفاة أيضا ساعة ووقف جميع أكابر الكتاب والحجاب مثل الرئيس أبي العباس أحمد بن إبراهيم الضبي وأبي الحسين العارض وأخيه أبي علي وابنه أبي الفضل وأبي عمران الحاجب وغيرهم إلى إن فرع القوم من الأكل ثم أكل هؤلاء مع الصاحب على مائدة مفردة وأما قاضي القضاة والأشراف والعدول فإنهم أطعموا على مائدة أخرى في بيت آخر (انتهى) وفي اليتيمة: لما أملك عباد بكريمة بعض أقرباء فخر الدولة أبي الحسن قال أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد الشاشي قصيدة منها:
المجد ما حرست أولاه أخراه | والفخر ما التف أقصاه بأدناه |
والسعي أجلبه للحمد أصعبه | والذكر أعلاه في الأسماع أغلاه |
والفرع أذهبه في الجو أنضره | والأصل أرسخه في الأرض أنقاه |
اليوم أنجزت الآمال ما وعدت | وأدرك المجد أقصى ما تمناه |
اليوم أسفر وجه الملك مبتسما | وأقبلت ببريد السعد بشراه |
اليوم ردت على الدنيا بشاشتها | وأرضي الملك والإسلام والله |
والملك شدت عراه بالنبوة فار | تزت دعائمه واشتد ركناه |
وصار يعزي بنو ساسان في مضر | صنعا من الله أسداه فأسناه |
قد زف من جده كافي الكفاة إلى | من خاله ملك الدنيا شهنشاه |
سبطان سدى رسول الله سلكهما | فالحم الله ما قد كان سداه |
أولاد أحمد ريحان الزمان | ومولانا الوزير من الريحان رياه |
أولاد أحمد منه لا يميزهم | عنه ولاء ولا مال ولا جاه |
متى ابنتي واحد منهم بواحدة | فإنما صافحت يمناه يسراه |
علمه
كان الصاحب عالما بالتوحيد والأصول وألف فيهما فمن مؤلفاته كما يأتي مختصر أسماء الله وصفاته ونهج السبيل في الأصول وكتاب الإمامة وكتاب الزيدية وكان محدثا عارفا بالحديث واقتبس من الحديث في شعره كما يأتي وكان يقول شاركت الطبراني في إسناده ويقال أنه كان يقول عن البخاري هو حشوي لا يعول عليه وقال السمعاني في الأنساب سمع الصاحب الأحاديث من الأصبهانيين والبغداديين والرازيين وحدث وكان يحث على طلب الحديث وكتابته ثم روى عن ابن مردويه أنه سمع الصاحب يقول من لم يكتب الحديث لم يجد حلاوة الإسلام وقال أبو الحسن علي بن محمد الطبري الكيا: لما عزم الصاحب على الإملاء وهو وزير خرج يوما متطلسا متحنكا بزي أهل العلم فقال قد علمتم قدمي في العلم فأقروا له بذلك فقال وأنا متلبس بهذا الأمر وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي ومع هذا فلا أخلو من تبعات أشهد الله وأشهدكم أني تائب إلى الله من ذنب أذنبته واتخذ لنفسه بيتا وسماه بيت التوبة ولبث أسبوعا على ذلك ثم أخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته ثم خرج فقعد للإملاء وحضر الخلق الكثير وكان المستملي الواحد ينضاف إليه ستة كل يبلغ صاحبه فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار وكان عالما باللغة وألف فيها كتابه العظيم المحيط في عشرة مجلدات وجوهرة الجمهرة وهو معدود من الثقات في رواية اللغة وقد جعله الثعالبي أحد أئمة اللغة الذين اعتمد عليهم في كتابه فقه اللغة أمثال الليث والخليل بن أحمد وسيبويه وخلف الأحمر وثعلب والأصمعي وابن الكلبي وابن دريد وأشباههم وروى عنه ذلك الكتاب فصل ترتيب الشرب وباب الحجارة وعده الأنباري في طبقات الأدباء من علماء اللغة وكذلك السيوطي في بغية الوعاة وكان عالما بالعروض وألف فيه كتابين الإقناع ونقض العروض ومشاركا في التاريخ مؤلفا فيه عدة كتب ككتاب المعارف وكتاب الوزراء وأخبار أبي العيناء وتاريخ الملك واختلاف الدول وأخبار عبد العظيم الحسيني وكتاب الزيديين وكان عارفا بالرجال وأهل الفرق ففي مرآة الزمان لليافعي عن الحافظ أبي القاسم بن عساكر أنه قال حكي لي من أثق به إن الصاحب بن عباد كان إذا (انتهى) إلى ذكر الباقلاني وابن فورك والأستاذ أبي إسحاق الأسفرائيني وكانوا متعاصرين من أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري قال الباقلاني بحر مغرق وابن فورك صل مطرق والاسفرائيني نار محرق (انتهى) قال ابن عساكر كان روح القدس نفث في روعه بحقيقة حالهم.
حلمه وكرم أخلاقه الذي لا يكاد يوجد
في غير الأنبياء والمرسلين
في معجم الأدباء مما وجدت في بعض الكتب من مكارم الأخلاق للصاحب أنه استدعى يوما شرابا من شراب السكر فجئ بقدح منه فلما أراد شربه قال له بعض خواصه لا تشربه فإنه مسموم فقال له وما الشاهد على صحة ذلك قال بان تجربه على من أعطاكه قال لا أستجيز ذلك ولا استحله قال فجربه على دجاجة قال إن التمثيل بالحيوان لا يجوز وأمر بصب ما في القدح وقال للغلام انصرف عني ولا تدخل داري بعدها وأقر رزقه عليه وقال لا ندفع اليقين بالشك والعقوبة بقطع الرزق نذالة أقول لو صدر هذا من نبي مرسل أو من أحد أولي العزم من الأنبياء لعد من فضائله ومناقبه فكيف من وزير متسلط والحق إن هذه مرتبة في الحلم ليس فوقها مرتبة أما ما عن الوزير ظهير الدين في كتابه ذيل تجارب الأمم من إن فخر الدولة لما انتظم له الأمر عمل هو والصاحب على أخذ علي بن كأمة وأعماله وعلما أنهما لا يقدران عليه فوافقا شرابيا كان له على سمه وعمل علي بن كأمة دعوة وسألهما الحضور عنده فوعداه ودخل خزانة الشراب يتخير الأشربة فطرح الشرابي السم في بعض ما ذاقه وعلم فخر الدولة خبره فتأخر عن الحضور قال الوزير ظهير الدين وليس العجب من فخر الدولة في سم الرجل كالعجب من الصاحب الذي سال بالأمس الأذن له في ملازمة داره والتوفر على أمر المعاد (انتهى) فان صح هذا فلا بد إن يكون الصاحب غير قادر على منع فخر الدولة عنه أما رضاه به واشتراكه فيه فلا يظن بالصاحب قال ياقوت وحدث أبو الحسن النحوي قال كان مكي المنشد قديم الصحبة والخدمة للصاحب فأساء إليه غير مرة والصاحب يتجاوز له فلما كثر ذلك منه أمر الصاحب بحبسه فحبس في دار الضرب وكانت في جواره فاتفق إن الصاحب صعد يوما سطح داره وأشرف على دار الضرب فناداه مكي فاطلع فرآه في سوء الجحيم فضحك الصاحب وقال اخسئوا فيها ولا تكلمون ثم أمر بإطلاق (انتهى) وفي كتاب محاسن أصفهان للمفضل بن سعد بن الحسين المافروخي حكي الصاحب الجليل كافي الكفاة إسماعيل بن عباد كان في أيام صباه يختلف إلى مدارسه على باب دكان إسكاف وكان الإسكاف كلما مر به الصاحب تسفه عليه وأوسعه لعنا وسبا وتنقصا وثلبا وتعييرا بالاعتزال ورميا بالكفر والضلال وكان يتغافل عنه إلى إن وصل الصاحب إلى المرتبة التي ارتقى إليها فاتفق يوما إن نزل جندي دار الإسكاف ولم يجد الإسكاف وسيلة إلى إزعاجه عن داره إلا رفع أمره إلى الصاحب لكنه تذكر ما سلف منه إليه فأحجم ثم قال في نفسه وما يدريه أني ذلك الرجل ورفع قصته إلى الصاحب فعرفه الصاحب ووقع إلى الأستاذ الرئيس أبي العباس الضبي بقضاء حاجته بما معناه إن لرافعها حقا لا يسع إغفالا وحرمة لا تقتضي إهمالا أوجبنا تسببه إلينا بسبه إيانا (انتهى).
معاقبته الساعي لأخذ المال ظلما
في كتاب محاسن أصفهان للمافروخي قال (انتهى) إلينا أنه رفع إنسان إلى الدولة رقعة يتعهد فيها أنه يستوفي على المستغلات والأملاك بأصفهان خارجا عن المعاملات والحقوق ثلاثمائة ألف درهم يحصلها في خزانة فخر الدولة وكان فخر الدولة في ذلك الوقت محتاجا إلى الأموال لأنه يريد النهوض لمحاربة عساكر خراسان وفتح جرجان فوقع ذلك في روعه فلما دخل عليه ناوله القصة وقال يا أبا القاسم تدبر أمر هذا الرجل وقرره فبنا إلى مثل هذا المال مساس حاجة فقال الصاحب سمعا وطاعة لأمر شاهنشاه ثم انكفأ عن مجلسه إلى غيره واستحضر الرجل وقال له أنت صاحب هذه القصة والضامن استخراج هذا المال من الوجوه المذكورة فقال نعم أيد الله الصاحب فسلمه الصاحب إلى الحسين بن توراب أستاذ الدار وأمره بالاحتفاظ به إلى الغد ليفصل في أمره وأخذ خطوط المتفقهين والقضاة والمعدلين بإنزال أشد العقاب بالساعي وركب من الغد إلى مجلس فخر الدولة وقال علي تحصيل هذا المال من وجهه من غير إن يتوجه إلى الرعية فيه عنت أو ينالهم مكروه واتبع ذلك من المواعظ والنصائح بما استنزله عن رأيه وعاقب الساعي وطلب ذلك المال من عشرة رجال مياسير لم يؤثر فيهم تأثيرا كثيرا (انتهى).
كرمه وسخاؤه
من أظهر صفات الصاحب الكرم وكثرة البذل واصطناع المعروف وقد اعتاد السخاء من صغره بما كانت أمه تعطيه وهو صغير كل يوم دينارا ودرهما ليتصدق بهما على أول فقير يلقاه في طريقه إلى المسجد الذي كان يدرس فيه كما مر ومعلوم إن الخير عادة والشر عادة وطبيعة السخاء تنمو وتقوى بالتعود عليه وفي معجم الأدباء قرأت في كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي قال كان الصاحب يراعي من ببغداد والحرمين من أهل الشرف وشيوخ الكتاب والشعراء وأولاد الأدباء والزهاد والفقهاء بما يحمله إليهم كل سنة مع الحاج على مقاديرهم ومنازلهم فكان ينفذ إلى بغداد من ذلك خمسة آلاف دينار في سنة تفرق على الفقهاء والأدباء وكان يحمل إلى أبي إسحاق الصابي خمسمائة دينار والي ألف درهم جبلية وفي معجم الأدباء عن الوزير أبي سعد منصور بن الحسين الآبي في تاريخه أنه كان ما يخرج لكافي الكفاة في السنة في وجوه البر والصدقات والمبرات وصلات الأشراف وأهل العلم والغرباء الزوار ومن يجري مجرى ذلك مما يتكلفه ونريد به صيت الدنيا وأجر الآخرة يزيد على مائة ألف دينار (انتهى) ومرض الصاحب بالإسهال وهو بالأهواز فكان إذا قام عن الطست ترك إلى جانبه عشرة دنانير حتى لا يتبرم به الخدم فكانوا يودون دوام علته ولما عوفي تصدق بنحو خمسين ألف دينار وأما عطاياه للشعراء فكانت تفوق الحد ولولا ذلك لما مدح مائة ألف قصيدة كما مر وقد سبق أنه عرض على المتنبي إن يشاطره ماله في سبيل قصيدة يمدحه بها كل ذلك يدلنا على إن نفس الصاحب كانت تسمو إلى معالي الأمور وارتفاع الذكر وقد علم إن الجود والكرم من أعظم أسباب الشهرة وامتلاك القلوب وتخليد الذكر وأن لا وسيلة أنجح من ذلك لبلوع تلك الغاية فجاد عن طبع وسيجة وقوى ذلك بالتطبع وما كل من تسمو نفسه إلى معالي الأمور ويعلم إن من أعظم أسبابها الجود تطاوعه نفسه عليه كما قال المتنبي:
وكل يرى طرق الشجاعة والندى | ولكن طبع النفس للنفس قائد |
ولئن لم يكن كل بذل الصاحب طلبا لمرضاته تعالى فلا شك إن كثيرا منه كان كذلك على إن طلب العز والرفعة بالجود يمكن إن يصرف إلى طلب الأجر والثواب وخير مالك ما وقيت به عرضك وفي اليتيمة: حدثني عون عوف بن الحسين الهمذاني التميمي قال كنت يوما في خزانة الخلع للصاحب فرأيت في ثبت الحسابات لكاتبها وكان صديقي مبلغ عمائم الخز التي صارت تلك الشتوة في خلع العلوية والفقهاء والشعراء سوى ما صار منها في خلع الخدم والحاشية ثمانمائة وعشرين وكان يعجبه الخز ويأمر بالاستكثار منه في داره فنظر أبو القاسم الزعفراني يوما إلى جميع من فيها من الخدم والحاشية عليهم الخزور الفاخرة الملونة فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئا فسال الصاحب عنه فقيل أنه في مجلس كذا يكتب فقال: علي به فاستمهل الزعفراني ريثما يكمل مكتوبه فأعجله الصاحب وأمر بان يؤخذ ما في يده من الدرج فقام الزعفراني إليه وقال أيد الله الصاحب: اسمعه من منشده تزدد به عجبا فحسن الورد في أغصانه قال هات يا أبا القاسم أبياتا منها:
سواك يعد الغنى ما اقتنى | ويأمره الحرص إن يخزنا |
وأنت ابن عباد المرتجى | تعد نوالك نيل المنى |
وخيرك من باسط كفه | وممن تناها قريب الجنى |
غمرت الورى بصنوف الندا | فأصغر ما ملكوه الغنى و |
غادرت أشعرهم مفحما | وأشكرهم عاجزا الكنا |
أيا من عطاياه تهدي الغنى | إلى راحتي من ناى أو دنا |
كسوت المقيمين والزايرين | كسا لم يخل مثلها ممكنا |
وحاشية الدار يمشون في | صنوف من الخز إلا أنا |
ولست أذكر لي جاريا | على العهد يحسن إن يحسنا |
فقال الصاحب قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني إن رجلا قال له احملني أيها الأمير فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية ثم قال له لو علمت إن الله خلق مركوبا غير هذه لحملتك عليه. وأنا فقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناك ثم أمر بإدخاله الخزانة وصب تلك الخلع عليه وتسليم ما فضل عن لبسه إلى غلامه.
قال الثعالبي وحدثني أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي قال: سمعت الصاحب يقول: حضرت مجلس ابن العميد عشية من عشايا شهر رمضان وقد حضره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة وأنا إذ ذاك في ريعان شبابي فلما تقوض المجلس وانصرف القوم وقد حل الإفطار أنكرت ذلك فيما بيني وبين نفسي واستقبحت إغفاله الأمر بتفطير الحاضرين مع وفور رياسته واتساع حاله واعتمدت أني لا أخل بما أخل به إذا قمت يوما مقامه فكان الصاحب لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر كائنا من كان فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده وكانت داره لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطلق منها في جميع شهور السنة.
بعض آثاره العمرانية
عن تاريخ المستوفي القزويني إن من جملة آثاره تجديده عمارة سور قزوين الأول بعد ما أشفى على الخراب وكان قد أسسه الرشيد وبناه على ست ومائتي برج وسبعة أبواب وقرر لأصل البلدة أيضا تسعة محلات مذكورة بأسمائها وذلك في حدود سنة 373 بعد أصل بناء البلدة بمئة وعشرين سنة وبني الصاحب أيضا لنفسه في محلة الجوسق عمارات عالية عميت آثارها من بعده فسميت مواضعها بمحلة صاحب آباد (انتهى).
تعصبه للعرب وبغضه الشعوبية
مع أنه فارسي الأصل
الصاحب وإن كان فارسي الأصل فإنه عربي الدين والأدب وقد كان حبه للإسلام واطلاعه على علوم الدين وإعجابه بأدب العرب غالبا على عصبيته لأصله فهو يحب العرب ويبغض الشعوبية ومن شعره في هذا المعنى قوله في رجل يتعصب للفرس على العرب ويعيب العرب في أكل الحيات كما في اليتيمة:
يا عائب الأعراب من جهله | لأكلها الحيات في الطعم |
فالعجم طول الليل حياتهم | تناسب في الأخت وفي الأم |
قال بديع الزمان الهمذاني: كنت عند الصاحب كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد يوما إذ دخل عليه شاعر من الفرس فأنشده قصيدة يفضل بها قومه على العرب وذكر الأبيات الآتية وفي نسخة مخطوطة قديمة جدا من شرح المفصل للزمخشري والشارح غير معلوم رأيناها في كربلاء في مكتبة الشيخ عبد الحسين الطهراني ذكر في أولها في شرح قوله وجبلني على الغضب للعرب ما لفظه: والشعوبية بضم الشين قوم متعصبون على العرب مفضلون عليهم الفرس وإن كان الشعوب جيل الفرس إلا أنه غلبت النسبة إليهم بهذا القبيل ويقال إن منهم معمر بن المثنى له كتاب في مثالب العرب أنشد بعض الشعوبية الصاحب بن عباد:
غنينا بالطبول عن الطلول | وعن عنس عذافرة ذمول |
وأذهلني عقار عن عقاري | ففي إست أم القضاة مع العدول |
فلست بتارك إيوان كسرى | لتوضح أو لحومل فالدخول |
وضب في الفلا ساع وذئب | بها يعوي وليث وسط غيل |
يسلون السيوف لرأس ضب | حراشا بالغداة وبالأصيل |
إذا ذبحوا فذلك يوم عيد | وإن نحروا ففي عرس جليل |
بآية رتبة قدمتموها | على ذي الفضل والرأي الأصيل |
أما لو لم يكن للفرس إلا | نجار الصاحب القوم الجليل |
لكان لهم بذلك خير فخر | وجيلهم بذلك خير جيل |
فلما وصل إلى هذا الموضع من إنشاده قال له الصاحب قدك واشرأب ينظر إلى الزوايا وأهل المجلس قال البديع وكنت جالسا في زاوية فلم يرني فقال أين أبو الفضل فقمت قائما وقبلت الأرض وقلت أمرك فقال أجب عن ثلاثتك قلت ما هي قال أدبك وحسبك ومذهبك فأقبلت على الشاعر وقلت لا فسحة للقول ولا راحة للطبع إلا سردا كما تسمع وأنشدت:
أراك على شفا خطر مهول | بما أودعت رأسك من فضول |
تريد على مكارمنا دليلا | متى احتاج النهار إلى دليل |
ألسنا الضاربين جزى عليكم | وكان الجزي أولى بالذليل |
متى قرع المنابر فارسي | متى عرف الأغمن الحجول |
متى علقت وأنت بها زعيم | أكف الفرس أعراف الخيول |
فخرت بملء ء ماضغتيك فخرا | على قحطان والبيت الأصيل |
وحقك إن تفاخرنا بكسرى | فما ثور ككسرى في الرعيل |
فخرت بان ملبوسا وأكلا | وذلك فخر ربات الحجول |
تفاخرهن في خد أسيل | وشعر في مفارقها رسيل |
وانجد من أبيك إذا أثرنا | عراة كالليوث على الخيول |
وفي نسخة وكالنصول. قال فلما أتممت إنشادي التفت الصاحب فقال له كيف رأيت فقال لو سمعت به ما صدقت قال فإذن جائزتك جوازك إن رأيتك بعدها في مملكتي ضربت عنقك ثم قال لا أرى أحدا يفضل الفرس على العرب إلا وفيه عرق من المجوسية.
جلالة قدره وعظمه في النفوس
في معجم الأدباء: ذكر الوزير أبو سعد منصور بن الحسين الآبي في تاريخه من جلالة قدر الصاحب وعظم محله في النفوس وحشمته ما لم يذكر لوزير قبله ولا بعده مثله قال: توفيت أم كافي الكفاة بأصبهان وورد عليه الخبر فجلس للتعزية يوم الخميس للنصف من المحرم سنة 384 وركب إليه سلطانه وولي نعمته فخر الدولة بن ركن الدين معزيا ونزل وجلس عنده طويلا يعزيه ويسكن منه وبسط الكلام معه بالعربية وكان يفصح بها فسمعته يقول حين أراد القيام أيها الصاحب هذا جرح لا يندمل. فأما سائر الأمراء والقواد مثل منوجهر بن قابوس ملك الجبل وفولاذ بن زماندار أحد ملوك الديلم وأبي العباس الفيروزان ابن خالة فخر الدولة وغيرهم من الأكابر والأماثل فإنهم كانوا يحضرون حفاة حسرا وكان كل واحد منهم إذا وقعت عينه على الصاحب قبل الأرض ثم والى بين ذلك إلى إن يقرب منه ويأمره بالجلوس فيجلس وما كان يتحرك ولا يستوفز لأحد بل كان جالسا على عادته في غير أيام التعزية فلما أراد القيام من المعزى بعد الثالث كان أول أمر إن يقدم إليه اللكا - نوع من الخفاف- منوجهر بن قابوس فإنه قال يحمل إلى أبي منصور ما يلبسه فقدم إليه ومنعه من الخروج من الدار حافيا ثم قدم بعد ذلك الحجاب والحاشية اللكات إلى الجماعة فعتب فولاذ بن زماندار والفولاذ زماندارية عليه وقالوا ميز منوجهر من بين الجماعة فاحتج الصاحب ببيته العظيم ورئاسته القديمة (انتهى) وقال الثعالبي لم يكن الصاحب يقوم لأحد ولا يشير إلى القيام ولا يطمع منه أحد في ذلك كائنا من كان (انتهى) وفي معجم الأدباء عن تاريخ الوزير أبي سعد منصور بن الحسين الآبي المقدم ذكره أنه قال فيه فاما أمر الوزارة في أيام فخر الدولة فكانت أشهر من إن يحتاج إلى ذكرها فان أول وزرائه كافي الكفاة ولولا ما آل إليه أمر الوزارة في هذه الأيام واعتقاد من لم يعلم بحالها في ذلك الزمان بانالأمر لم يزل على ما نراه أو قريبا منه لأمسكنا عن ذكره ولكنا نذكر يسيرا من أحواله فان هؤلاء الذين ذكرناهم من أبناء الملوك والأمراء والقواد وسائر من ساواهم من الزعماء والكبار مثل أولاد مؤيد الدولة وابن عز الدولة وعدد جماعة من أمراء الديلم وملوكهم وغيرهم ثم قال وكان في يد كل واحد من هؤلاء من الإقطاع ما يبلغ ارتفاعه خمسين ألف دينار وما دونها إلى عشرين ألف دينار ومن أكابر القواد ما يطول تعدادهم يحضرون باب داره فيقفون على دوابهم مطرقين لا يتكلم واحد منهم هيبة وإعظاما لموضعه إلى إن يخرج أحد خلفاء حجابه فيأذن لبعض أكابرهم ويصرفهم جملة فكان من يؤذن له في الدخول يظن أنه قد بلغ الآمال ونال الفوز بالدنيا والآخرة فرحا ومسرة وشرفا وتعظيما فإذا حصل في الدار وأذن له في الدخول إلى مجلسه قبل الأرض عند وقوع بصره عليه ثلاث مرات أو أربعا إلى إن يقرب منه فيجلس من كانت رتبته الجلوس إلى إن يقضي كل واحد منهم وطره من خدمته ثم ينصرف بعد إن يقبل الأرض أيضا مرارا، ولم يكن يقوم لأحد من الناس ولا يشير إلى القيام ولا يطمع منه أحد في ذلك ونزل بالصيمرة عند عودته من الأهواز فدخل عليه شيخ من زهاد المعتزلة يعرف بعبد الله بن إسحاق فقام له فلما خرج التفت كافي الكفاة قال ما قمت لأحد مثل هذا القيام منذ عشرين سنة وإنما فعل ذلك به لزهده فإنه كان أحد ابدال دهره. فاما العلم فقد كان يرى من هو أعلم منه فلا يحفل به وأما هيبته في الصدور ومخافته في القلوب وحشمته عند الصغير والكبير والبعيد والقريب فقد بلغت إلى إن كان صاحبه فخر الدولة ينقبض عن كثير مما يريده بسببه ويمسك عما تشره إليه نفسه لمكانه وقد ظهر ذلك للناس بعد موته وانبساط فخر الدولة فيما لم يكن من عادته فعلم أنه كان يذم نفسه لحشمته ثم كان يحله محل الوالد إكراما وإعظاما ويخاطبه بالصاحب شفاها وكتابا فأما أكابر الدولة فكان الواحد إذا رأى أحد حجابه بل أحد الأصاغر من حاشيته فان فرائصه كانت ترتعد وجوانحه تصطفق إلى إن يعلم ما يريده منه ويخاطبه به وتظلمت له امرأة من صاحب لفولاذ بن زماندار وذكرت أنه ينازعها في حق لها فما زاد على إن التفت إلى فولاذ وكان في موكبه يسير خلفه فبهت وتحير وارتعد ووقف ولم يبرح إلى إن سار كافي الكفاة ثم أرسل مع المرأة من أرضاها وأزال ظلامتها ومثل هذا كثير يطول الكلام ببعضه فكيف إن يوضع فيه كله وأما أسبابه وحاشيته وهيبته ورتبته فان من أيسرها إن كان له عدة من الحجاب منهم من على مربطه ثلاثمائة رأس من الدواب أو ما يقاربها وكانت أحوال بلكا الحاجب تزيد من الخيل العتاق الموصوفة وكان لا يستغني عنها لأنه كان مكلفا بحفظ الطرق وطلب الأكراد وأهل العيث وصيانة السابلة (انتهى) وفي معجم الأدباء حدث عن أبي نصر بن خواشاده أنه قال: ما غبطت الصاحب أبا القاسم بن عباد فانا كنا مقيمين بظاهر جرجان مع مؤيد الدولة على حرب الخراسانية فدخل الصاحب إلى داره في البلد آخر نهار يوم لحضور المجلس الذي يعقده لأهل العلم وتحته دابة رهواء وقد أرسل عنانه فرأيت وجوه الديلم وأكابرهم من أولادالأمراء يعدون بين يديه كما تعدوا الركابية وكان عضد الدولة يخاطبه خطابا لا يشترك معه غيره إلا أنه كان يقل مكاتبته وكانت الكتب من عضد الدولة إنما ترد على لسان كاتبه أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف.
رضاه عن نفسه وإعجابه بها
وتواضعه لأهل العلم والزهد وغيرهم
كان يظهر من كثير من أحوال الصاحب رضاه عن نفسه وإعجابه بها وافتتانه بمظاهر الأبهة والعظمة وأنه كان يحب التعاظم والبذخ والخيلاء وذلك ليس بمستغرب من وزير عظيم يعد من أفراد الوزراء الذين علت منزلتهم وسمت درجتهم ووقعت هيبتهم في قلوب الخاصة والعامة وذاع صيتهم في الأقطار وساعدتهم على مرامهم الأقدار وجمعوا إلى سلطان الوزارة سلطان العلم والأدب فقد عرفت أنه كان لا يقوم لأحد وأنه لم يرض إن يتبسط مع مخدومه وسلطانه فخر الدولة وإن فخر الدولة كان يهابه وينكمش عن كثير مما يرومه لمكانه وفي كثير مما مر ويأتي ما يدل على ذلك وليس لنا إن نعد ذلك نقصا فيه ولا أمرا يعاب به فإنه كان مع كل هذه العظمة والمهابة متواضعا حيث يحسن التواضع لينا حيث يلزم اللين فمع أنه كان لا يقوم لأحد فقد قام لبعض زهاد المعتزلة وعلمائهم كما مر عن تاريخ الآبي واليتيمة وكان في جملة من حالاته إلى التواضع أقرب منه إلى التعاظم كقوله لجلسائه كما في اليتيمة نحن بالنهار سلطان وبالليل أخوان وجملة من أخباره الماضية والآتية تدل على ذلك واحتمل من القاضي عبد الجبار عدم ترجله له لأجل شرف العلم ففي معجم الأدباء كان الصاحب جعل القاضي عبد الجبار قاضي القضاة بهمذان والجبال فاستقبله يوما ولم يترجل له وقال له أيها الصاحب أريد إن أترجل للخدمة ولكن العلم يأبى ذلك وكان يكتب في عنوان كتابه إلى الصاحب داعيه عبد الجبار بن أحمد ثم كتب وليه عبد الجبار بن أحمد ثم كتب عبد الجبار بن أحمد فقال الصاحب لندمائه أظنه يؤول أمره إلى إن يكتب الجبار ومر خبره مع الشاب البغدادي الدال على حلمه وكرم أخلاقه وفي خبر الشراب المسموم المتقدم وغيره ما يدل على مكارم أخلاقه وحسن تهذيبه وحلمه وسعة صدره وقد روي عنه أنه كان يلبس القباء تخففا بالوزارة وانتسابا معها إلى الجندية فكان القباء كان من لباس الجند لا من لباس الوزراء فكان يلبس القباء تواضعا وعدم مبالاة بالوزارة وينتسب إلى الجندية التي هي دون الوزارة وحمل ذلك بعضهم على إن هذا نوع من الذهاب بالنفس ظاهره الدماثة وباطنه الزهو وهذا سوء ظن بالناس لا يستند إلى برهان وإن صح ما حكاه عنه أبو حيان التوحيدي في هذا الباب كان أدنى إلى الرقاعة لكن أبا حيان متهم في حقه غير مقبول القول فيه فقد حكى أبو حيان عنه أنه كان يقول أنا واحد هذا العالم وأنت بما تسمع عالم ويقول كان أبو الفضل ابن العميد سيدا ولكن لم يشق غبارنا ولا أدرك شوارنا ولا فسح عذارنا ولا عرف غرارنا لا في علم الدين ولا فيما يرجع إلى نفع المسلمين فاما ابنه فقد عرفتم قدره في هذا وفي غيره طياش قلاش ليس عنده إلا قاش وقماش مثل ابن عياش والهروي الحواش، وولدت والشعري في طالعي ولولا دقيقة لأدركت النبوة وقد أدركت النبوة إذ قمت بالذب عنها والنصرة لها فمن ذا يجارينا أو يبارينا ويغارينا ويسارينا ويشارينا (انتهى) وليس لنا إلى تصديق أبي حيان في هذا سبيل وربما ينسب إليه أنه يتيه على من يتغزل به كقوله:
وشادن جماله | تقصر عنه صفتي |
أهوى لتقبيل يدي | فقلت لا بل شفتي |
ولكن هذا ظلم له فقد جرت عادة الكبراء إن يتغزلوا بمثل ذلك. وقال أبو حيان التوحيدي ناظر الصاحب بالري رأس الجالوت إليهودي في إعجاز القرآن فراجعه إليهودي فيه طويلا وماتنه قليلا وتنكد عليه حتى احتد وكاد ينقد فلما علم أنه قد سجر تنوره واسعط أنفه احتال عليه فقال أيها الصاحب كيف يكون القرآن عندي آية من جهة نظمه وتأليفه فإن كان النظم والتأليف بديعين وكان البلغاء فيما تدعي عنه عاجزين فان رسائلك وكلامك وما تؤلفه وتباده به نظما ونثرا هو فوق ذلك أو مثله أو قريب منه فلما سمع هذا فتر وخمد وقال ولا هكذا يا شيخ كلامنا حسن وبليغ وقد أخذ من الجزالة حظا وافرا ولكن القرآن له المزية التي لا تجهل وأين ما خلقه الله على أتم حسن وبهاء مما يخلقه العبد بطلب وتكلف، هذا كله يقوله وقد خبا حميه مع إعجاب شديد قد شاع في أعطافه وفرح غالب قد دب في أسارير وجهه (انتهى) وحال أبي حيان في هذا كحاله في غيره.
الكتب التي ألفت باسمه
صنفت باسمه كتب عديدة لأعاظم العلماء من الفريقين.
منها كتاب الصاحبي لشيخه أبي الحسن أحمد بن فارس الرازي اللغوي قال في أوله هذا الكتاب الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب وكلامها وإنما عنونته بهذا الاسم لأنني ألفته وأودعته خزانة الصاحب الجليل كافي الكفاة عمر الله عراص العلم والأدب والخير والعدل بطول عمره تجملا بذلك وتحسنا إذ كان ما يقبله كافي الكفاة من علم وأدب مرضيا مقبولا وما يرد له أو ينفيه منفيا مرذولا ولأن أحسن ما في كتابنا هذا مأخوذ عنه ومفاد منه.
ومنها كتاب تهذيب التاريخ للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني قال في خطبته: هذا كتاب قصدت به غرضي دين ودنيا إلى إن قال: وأما غرض الدنيا فان أقيم بفناء الصاحب الجليل أدام الله بهاء العلم بدوام أيامه من يخلفني في تجديد ذكري بحضرته وتكرير اسمي في مجلسه ومن ينوب عني في مزاحمة خدمته على الاعتراف بحق نعمته وعلمت أني لا استخلف من هو أمس به رحما وأقرب منه نسبا وارفع عنده موضعا وألطف منه موقعا وأخص به مدخلا ومخرجا وأشرف بحضرته مقاما وموقفا من العلم الذي يزكو عنده غراسا فيضعف ريعا ويحلو طعما ويطيب عرفا ويحسن اسما فاخترت لذلك هذا الكتاب ثقة بوجاهته وعلما بقرب منزلته وكيف لا يكون عنده وجيها مكينا مقبولا قرينا وإنما هو نتاج تهذيبه وثمرة تقويمه وجناء تمثيله وريع تحريكه فلو لا عنايته لما صدقت النية ولولا إرشادهمه لما نفذت الفطنة ولولا معونته لما استجمعت الآلة وما يبعد به عن إيثار العلوم وتعظيمها وعن تقديمها وتقريبها وهو الذي نصبه الله لها مثالا و أقامه عليها منارا وجعله لها سندا ولإحيائها سببا.
ومنها تاريخ قم للفاضل الحسن بن محمد القمي وذكر في أوله من فضائله ومناقبه وعلمه وتقواه وورعه وسداده وكرمه وإحسانه وتعظيمه للسادة العلوية و إكرامه لهم وسد خلتهم ولم شعثهم شطرا وافيا.
ومنها عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي قال في أوله وقع إلي قصيدتان من قصائد الصاحب الجليل كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد في إهداء السلام إلى الرضا عليه السلام فصنفت هذا الكتاب لخزانته المعمورة ببقائه إلى آخر ما مر في الكلام على تشيعه.
ومنها كتاب للحسين بن علي بن بابويه أخي الصدوق مذكور في الرجال.
ومنها كتاب الديوان المعمور في مدح الصاحب المذكور لمهذب الدين محمد بن علي بن علي بن علي الحلي المزيدي المعروف بأبي طالب بن الخيمي. وفي روضات الجنات ذكروا في ترجمته إن له هذا الكتاب (انتهى) إلى غير ذلك.
خزانة كتبه
جمع له في مدة وزارته وهي ثماني عشرة سنة وشهر من الكتب النفيسة ما لم يجمع لأحد من الوزراء بل الملوك قبله بحيث كانت حمل أربعمائة جمل أو أكثر وبذلك اعتذر إلى نوح بن منصور الساماني حين طلبه لوزارته كما مر وكان المتولي لها أبا محمد الخازن عبد الله بن الحسن الأصبهاني. وفي معجم الأدباء بعد نقل إن كتبه كانت حمل أربعمائة جمل أو أكثر قال: قال أبو الحسن البيهقي وأنا أقول بيت الكتب الذي بالري على ذلك بعد ما أحرقه منه السلطان محمود بن سبكتكين فاني طالعت هذا البيت فوجدت فهرست تلك الكتب عشرة مجلدات فان السلطان محمودا لما ورد إلى الري قيل له إن هذه الكتب كتب الروافض وأهل البدع فاستخرج منها كلما كان في علم الكلام وأمر بحرقه (انتهى) وهذه الكتب التي أحرقها محمود كانت في دولة بني بويه ودخلت فيها خزانة كتب الصاحب بل يدل كلام أبي الحسن البيهقي إن عمدتها تلك الخزانة والسعاية إليه بها وإحراقه بها تعد جريمة عظيمة وما ظنك بمكتبة يكون فهرستها عشرة مجلدات وقد ذكروا في ترجمة صاحب الأغاني إن الصاحب بن عباد كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب ليطالعها فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه استغناء به عنها.
مشايخه
قال اليافعي في تاريخه أخذ العلوم الأدبية عن ابن العميد وأحمد بن فارس اللغوي صاحب المجمل وغيرهما وفي معجم الأدباء روى ابن عباد وقال غيره سمع العلم والحديث من أبيه وجماعة وأخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي النحوي المشهور وعن أبي الفضل العباس بن محمد النحوي الملقب بعرام. ويقال إن كلا من ابن فارس والعباس تلمذ على أحمد بن أبي عبد الله البرقي صاحب كتاب المحاسن وأحد أجلاء رواة الشيعة وعلمائهم وأخذ الصاحب أيضا عن أبي الفضل بن العميد في الري الأدب والشعر والترسل وروى عن البغداديين والرازيين وأخذ عن أبي سعيد السيرافي وأبي بكر بن مقسم والقاضي أبي بكر بن كامل حين ورد بغداد مع الأمير أبي منصور بويه بن ركن الدولة كما مر وفي لسان الميزان أملى مجالس في أيام وزارته حدث فيها عن عبد الله بن جعفر بن فارس وأحمد بن كامل بن شجرة وغيرهما (انتهى) ويأتي عند ذكر أشعاره ما يدل على أنه تلمذ على أبي عمرو الصباع.
تلاميذه
من تلاميذه الشيخ عبد القاهر الجرجاني العالم البياني المشهور ذكر ذلك الفاضل الجلبي في حاشية المطول وقال إن كتب الشيخ عبد القاهر مشحونة بالنقل عنه (انتهى) وفي لسان الميزان روى عنه أبو بكر بن المقري وهو من أقرانه والقاضي أبو الطيب الطبري وأبو بكر بن علي الذكواني وغير واحد (انتهى) ثم حكي عن ابن النجار أنه روى بسنده عن الصاحب حديثا قال في الكلام عليه قد شاركت فيه الطبراني. وقال الشهيد الثاني في شرح درايته عند ذكر طرق التحمل للحديث: وإذا عظم مجلس المحدث وكثر فيه الخلق ولم يمكن إسماعه للجميع تبلغ عنه مستمل روى سامع المستملي عن المملي عند بعض المحدثين لقيام القرائن الكثيرة بصدقه فيما بلغه في مجلس الشيخ عنه ولجريان السلف عنه فقد كان كثير من الأكابر يعظم الجمع في مجالسهم جدا حتى يبلغ ألوفا مؤلفة ويبلغ عنهم المستملون فيكتبون عنهم بواسطة تبلغهم وأجاز غير واحد رواية ذلك عن المملي وأكثر ما بلغنا عن أصحابنا إن الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد قدس الله سره لما جلس للإملاء حضر خلق كثير وكان المستملي الواحد لا يقوم بالإملاء حتى انضاف إليه ستة كل يبلغ صاحبه (انتهى) ومر أنه حدث وقعد للإملاء وحضر الناس الكثير عنده بحيث كان له ستة مستملين فجميع من حضر تلك المجالس هم تلاميذه.
مؤلفاته
هو من أكثر الوزراء تصانيف ولا يخفى أن من يشتغل بأمر الوزارة الداخلية والخارجية والحربية وغيرها ويقود الجيوش ويفتح القلاع يضيق وقته عن التأليف والتصنيف ولكن الصاحب مع كل هذه المشاغل ألف المؤلفات العديدة وزاد على أستاذه ابن العميد في عدد المؤلفات ومؤلفاته استغرقت أكثر العلوم من الكلام واللغة والأدب والتاريخ والعروض والأخبار والأخلاق والنثر والنظم وهذا ما وصل إلينا من أسماء مؤلفاته.
(1) كتاب الوقف والابتداء ألفه في عنوان شبابه فهو من أول مؤلفاته أو أولها وكان أبو بكر ابن الأنباري له كتاب في الوقف والابتداء فأرسل إليه أبو بكر يقول إنما صنفت في الوقف والابتداء بعد إن نظرت في نيف وسبعين كتابا تتعلق بهذا العلم فكيف صنفت هذا الكتاب مع حداثة سنك فقال الصاحب للرسول قل للشيخ: نظرت في النيف والسبعين التي نظرت فيها ونظرت في كتابك أيضا.
(2) المحيط في اللغة قال ابن خلكان وصاحب كشف الظنون سبعة مجلدات كثير اللفظ قليل الشواهد وقال ياقوت في معجم الأدباء عشرة مجلدات مرتب على حروف المعجم (انتهى) يذكر فيه مثلا أولا: ذر ثم رذ ثم ذل ثم لذ يوجد منه مجلد في دار الكتب المصرية ومجلد في بعض مكاتب كربلاء.
(3) كتاب أسماء الله تعالى وصفاته.
(4) كتاب في علم الكلام ونقل أنه ذكر مبحث الإمامة هذه الكلمات في صفة أمير المؤمنين ع: صنوه الذي آخاه وأجابه حين دعاه وصدقه قبل الناس ولباه وهزم الشرك وأخزاه وبنفسه على الفراش فداه ومانع عنه وحماه وأرغم من عانده وقلاه وغسله وواراه وأدى دينه وقضاه وقام بجميع ما أوصاه ذلك أمير المؤمنين لا سواه (انتهى) وهذا الفصل يرشد إلى ما يقال من إيلاع الصاحب بالسجع.
(5) ديوان رسائله عشرة مجلدات كما في معجم الأدباء وقال أبو حيان التوحيدي أنه كلف إن ينسخ من رسائل الصاحب ثلاثين مجلدة وهذا التفاوت لعله من تفاوت المجلدات في الصغر والكبر. ونسخة هذا الكتاب مفقودة إنما يوجد مختاره ولم يعلم جامعه وقد اختاره من جميع أبواب الديوان وهي عشرون بابا فاختار من كل باب عشر رسالات توجد من هذا المختار نسخة بالمكتبة الأهلية في باريس ونسخة مأخوذة عنها بالتصوير الشمسي في دار الكتب المصرية.
(6) الكافي في الرسائل وفي كشف الظنون كافي الرسائل وهو غير ديوان الرسائل المتقدم.
(7) رسالة في فنون الكتابة والرسائل مذكورة في كشف الظنون بقوله: رسالة ابن عباد في فنون الكتابة والرسائل رتبها على خمسة عشر بابا (انتهى) واحتمل بعضهم إن تكون هي كافي الرسائل المتقدم ولكن صاحب كشف الظنون ذكرهما معا.
(8) التذكرة للأصول الخمسة.
(9) كتاب الزيدية.
(10) كتاب الأنوار.
(11) كتاب التعليل.
(12) الإقناع في العروض منه نسخة في المكتبة الأهلية بباريس وأخرى في دار الكتب المصرية.
(13) جوهرة الجمهرة وهو مختصر كتاب الجمهرة لابن دريد.
(14) كتاب الوزراء لطيف.
(15) الكشف عن مساوئ المتنبي مطبوع بمصر في 26 صفحة وقد أوردنا مضامينه في هذا الكتاب.
(16) كتاب الشواهد.
(17) كتاب القضاء والقدر.
(18) كتاب الإمامة قال ياقوت في معجم الأدباء وابن خلكان في تفضيل علي بن أبي طالب وتصحيح وتثبيت إمامة من تقدمه.
(19) كتاب الأعياد وفضائل النيروز.
(20) مقالة في تفصيل أحوال السيد عبد العظيم الحسني المدفون بالري وثواب زيارته.
(21) الإبانة عن مذهب أهل العدل بحجج من القرآن والعقل.
(22) نهج السبيل في الأصول.
(23) أخبار أبي العيناء.
(24) نقض العروض.
(25) تاريخ الملك واختلاف الدول.
(26) الفصول المهذبة للعقول نسبه إليه الكفعمي في كتابه مجموع الغرائب وأورد كلمات حكمية منه فيه.
(27) سفينة نسبها إليه الثعالبي في تتمة اليتيمة ونقل منها أشياء والظاهر أنها بمنزلة الكشكول كالسفائن التي تجمع اليوم تسمى الواحدة سفينة لأنها كسفينة البحر تجمع أشياء غير متناسبة وهذان تفردنا بذكرهما.
(28) عنوان المعارف وذكر الخلائف مختصر يشتمل على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ومن خوطب بالخلافة بعده إلى المطيع العباسي الذي كان في زمانه وقع إلينا منه نسخة مخطوطة بخط جيد صحيحة كتبت في رجب سنة 420 أي بعد وفاة الحاجب بخمس وثلاثين سنة وكأنها كتبت اليوم وفي آخرها ما صورته: نسخ منه أبو النجيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم الكرخي في شهور سنة 528 بلغ مناه في آخرته ودنياه (انتهى) وقد طبعناه في ضمن الجزء الثاني من كتابنا معادن الجواهر وأضفنا إليه باقي الخلفاء العباسية على نحو ما في أصل الكتاب.
(29) رسالة في الطب صغيرة سنذكرها إن شاء الله تعالى.
(30) ديوان شعره منه نسخة مخطوطة في مكتبة أيا صوفيا بالقسطنطينية.
أدبه
وإنما أخرنا ذكره إلى هنا ليرتبط بنثره وشعره على عادتنا في ذكرهما بآخر الترجمة قال الصاحب في مقدمة رسالة الكشف عن مساوئ شعر المتنبي وها أنا منذ عشرين سنة أجالس الشعراء وأكاثر الأدباء وأباحث الفضلاء وعشرين أخرى أخذ عن رواة محمد بن يزيد المبرد وأكتب عن أصحاب أحمد بن يحيى ثعلب فما رأيت من يعرف الشعر حق معرفته وينقده نقد جهابذته غير الأستاذ الرئيس أبي الفضل ابن العميد ويقول الصاحب في انتقاده شعر المتنبي كنت أعجب من كلام أبي يزيد البسطامي في المعرفة وألفاظه المعقدة وكلماته المبهمة حتى سمعت قول شاعرنا في صفة الفرس: سبوح لها منها عليها شواهد وقال في بعض ألفاظه لو وقع في عبارات الجنيد والشبلي لتنازعته المتصوفة دهرا بعيدا وقال الثعالبي في اليتيمة ومن معائب شعر أبي الطيب ومقابحه امتثال ألفاظ المتصوفة واستعمال كلماتهم المعقدة ومعانيهم المغلقة (انتهى) وانتقاد الصاحب والثعالبي ينحصر في استعمال الألفاظ المعقدة والكلمات المبهمة والمعاني المغلقة من أمثال ما يستعمله الصوفية لا مطلق استعمال ألفاظهم حتى يستغرب من أمره وهو الأديب الكاتب الشاعر أنه ينكر على المتصوفة ذوقهم ويعتبر كلامهم مفسدة للشعر فهو إنما يعتبر المعقد المغلق من كلامهم مفسدة للشعر لا مطلق كلامهم وإن كان الإنصاف إن قول المتنبي: سبوح لها منها عليها شواهد ليس منه نعم منه: أحاد أم سداس في أحاد وأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا ابنه. وحمدان حمدون وحمدان حارث وغير ذلك مما انتقده عليه.
نثره
كان أحد كتاب الدنيا الأربعة عبد الحميد وابن العميد والصابئ والصاحب وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
أمخطئا عبد الحميد وهازئا | بابن العميد ولاعبا بالصاحب |
وفضل الثعالبي ابن العميد عليه فقال كان الصاحب يكتب كما يريد والصابئ كما يؤمر وبين الحالين بون بعيد وعن الثعالبي في برد الأكباد قال الصاحب كتاب العصر أربعة الأستاذ الرئيس يعني ابن العميد والأستاذ أبو القاسم يعني عبد العزيز بن يوسف وأبو إسحاق يعني الصابئ ولو شئت لذكرت الرابع يعني نفسه.
وقيل إن أول من قال في خطبته أما بعد هو قس بن ساعدة الأيادي ولكن الصاحب افتتح بعض رسائله بقوله أما قبل وعقبه بقوله أما بعد فكتب إلى بعضهم تهنئة بمتجدد نعمة أما قبل أطال الله بقاء سيدي فالحمد لله مولي النعم ومسدي المنح منه ابتداء الإحسان واليه مرجع الشكر آخر الزمان وصلى الله على النبي محمد وآله الأخيار وأما بعد فهنا الله سيدي الموهبة التي ساقها إليه ومد رواقها عليه. وقال في موضع آخر وبعد وقبل فهذا الشريف حسن الهدى والستر جميل الطريقة والأمر.
ولوعه بالسجع والجناس
كان الصاحب مولعا بالسجع والجناس كثيرا يعلم ذلك من تتبع كلامه كقوله الحشم والخدم والغاشية والحاشية والمرتبة والمصطبة والطاق والرواق والمجالس والطنافس والإنصاف والإسعاف والإتحاف والأطراف والموهبة والمقاربة والمؤنسة والمقابسة وقوله الرأي أقومه أحكمه وأشده أسده وهو يراعي السجع أيضا في أجزاء الجملة كقوله الموهبة التي ساقها إليه ومد رواقها عليه وقوله فأجرى جياده غرا وقرحا وأورى زناده قدحا فقدحا. وقوله: تهضمه شغفا ببلدتك وتظلمه كلفا بأهل جلدتك وقوله أطع سلطان النهي دون شيطان الهوى وقوله ومن أساء جوارها راكبا هواه وأخفى منارها ناكبا عن منحاه.
وفي معجم الأدباء قال أبو حيان التوحيدي: كان كلفه بالسجع في الكلام والقلم عند الجد والهزل يزيد على كلف كل من رأيناه في هذه البلاد قلت لابن المسيبي أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع قال يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة تنحل بموقعها عروة الملك ويضطرب بها حبل الدولة ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل وكلفة صعبة وتجشم أمور وركوب أهوال لما كان يخف عليه إن يفرج عنها ويخليها بل يأتي ويستعملها ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها (انتهى).
وقال صاحب معاهد التنصيص عزل الصاحب عاملا بقم فكتب إليه: أيها العامل بقم قد عزلناك فقم (انتهى) ويقال إن هذا القاضي قال ليس لي ذنب يوجب عزلي وما عزلني إلا السجع وفي معجم الأدباء قال ذو الكفايتين ابن العميد خرج ابن عباد من عندنا من الري متوجها إلى أصفهان ومنزله ورأمين وهي قرية كالمدينة فجاوزها إلى قرية غامرة وماء ملح لا لشيء إلا ليكتب إلينا: كتابي هذا من النوبهار يوم السبت نصف النهار (انتهى) وينقسم نثره لي إلى قسمين أحدهما توقيعاته وأجوبته وكلماته القصار والثاني رسائله.
توقيعاته
له توقيعات ظريفة في اليتيمة حدثني أبو الحسن علي بن محمد الحميري قال رفع الضرابون إلى الصاحب من دار الضرب قصة في ظلامة مترجمة بالضرابون فوقع تحتها في حديد بارد قال وكتب إليه بعضهم رقعة أغار فيها على رسائله وسرق جملة من ألفاظه فوقع تحتها هذه بضاعتنا ردت إلينا ووقع في رقعة استحسنها أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ووقع في كتاب بعض مخالفيه ويل لهم مما كتبت أيديهم وويل مما يكسبون ووقع في رقعة أبي محمد الخازن وكان ذلك مغاضبا ثم كتب إليه يستأذن في معاودة حفرته ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وكتب إليه أبو العباس الضبي يشفع بأبي محمد الخازن فورد إليه هذا التوقيع: ذكر مولاي أدام الله عزه عود أبي محمد الخازن أيده الله للفناء الذي فيه درج والوكر الذي منه خرج وقد علم الله إن إشفاقي عليه في اغترابه لم يكن بأقل منه عند إيابه فان أحب إن يقيم مديدة يقضي فيها وطر الغائب ويضع معها أوزار الآيب فليكن في ظل من مولانا ظليل ورأي منه جميل، وبر من ديواننا جليل وان حفزه الشوق فمرحبا بمن قربته التربية لدينا فأفسدته العزة علينا وردته التجربة إلينا وسبيله إن يرفد بما يزيل شغل قلبه بعياله ويعينه على كل ارتحاله إن شاء الله تعالى. قال وعرض على أبي الحسن الشقيقي البلخي توقيع الصاحب إليه في رقعة من نظر لدينه نظر لدنياه فان آثرت العدل والتوحيد بسطنا لك الفضل والتمهيد وإن أقمت على الجبر فليس لكسرك من جبر ووقع في رقعة بعض خطاب الأعمال: التصرف لا يلتمس بالتكفف إن احتجنا إليك صرفناك وإلا صرفناك ودفع إليه بعض منهي الأخبار إن رجلا ممن ينطوي له على غير الجميل يدخل داره في غمار الناس ثم يتلوم على استراق السمع فوقع: دارنا هذه خان يدخلها من وفى ومن خان قال: سمعت الإمام أبا الفضل الميكالي يقول كتب بعض العمال رقعة إلى الصاحب في التماس شغل وفي الرقعة فان رأى مولانا إن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله، فوقع تحتها: من كتب إشغالي لا يصلح لأشغالي أقول وذلك لأنه يقال شغله لا أشغله لأنه متعد بنفسه قال وسمعت أبا النصر محمد بن عبد الجبار العتبي يقول كتب بعض أصحاب الصاحب رقعة إليه في حاجة فوقع فيها ولما ردت إليه لم ير فيها توقيعا وقد تواترت الأخبار بوقوع التوقيع فيها فعرضها على أبي العباس الضبي فما زال يتصفحها حتى عثر بالتوقيع وهو ألف واحدة وكان في الرقعة فان رأى مولانا إن ينعم بكذا فعل فاثبت الصاحب إمام فعل ألفا يعني افعل وقال حدثني أبو منصور اللجيمي الدينوري قال أهدى العميري قاضي قزوين كتبا وكتب معها:
للعميري عبد كافي الكفاة | ومن اعتد في وجوه القضاة |
خدم المجلس الرفيع بكتب | مفعمات من حسنها مترعات |
فوقع تحتها:
قد قلبنا من الجميع كتابا | ورددنا لوقتها الباقيات |
لست أستغنم الكثير فطبعي | قول خذ ليس مذهبي قول هات |
وقال وكتب إليه بعض العلوية يخبره بأنه رزق مولودا ويسأله إن يسميه ويكنيه فوقع في رقعته أسعدك الله بالفارس الجديد السعيد فقد والله ملأ العين قرة والنفس مسرة مستقرة والاسم علي ليعلي الله ذكره والكنية أبو الحسن ليحسن الله أمره فاني أرجو له فضل جده وسعادة جده وقد بعثت لتعويذه دينارا من مائة مثقال قصدت بها مقصد الفال رجاء أن يعيش مائة عام ويخلص خلاص الذهب الإبريز من نوب الأيام والسلام قال وكتب إليه أبو منصور الجرجاني:
قل للوزير المرتجى | كافي الكفاة الملتجي |
إني رزقت ولدا | كالصبح إذ انبلجا |
لا زال في ظلك ظل | المكرمات والحجى |
فسمه وكنه | مشرفا متوجا |
فوقع تحتها:
هنئته هنئته | شمس الضحى بدر الدجى |
فسمه محسنا | وكنه أبا الرجا |
قال وعرض علي بعض الأصبهانيين رقعة لأبي حفص الوراق الأصبهاني قد أخذ منها البلى وفيها توقيع الصاحب وهذه نسختها: لولا إن الذكرى أطال الله بقاء مولانا الصاحب تنفع المؤمنين وهز الصمصام تعين المصلتين لما ذكرت ذاكرا ولا هززت ماضيا ولكن ذا الحاجة لضرورته يستعجل النجح ويكد الجواد السمح وحال عبد مولانا أدام الله تأييده في الحنطة مختلفة وجرذان داره عنها منصرفة فان رأى إن يخلط عبده بمن أخصب رحله ولم يشد رحله فعل وهذه نسخة التوقيع: أحسنت أبا حفص قولا وسنحسن فعلا فبشر جرذان دارك بالخصب وآمنها من الجدب فالحنطة تأتيك في الأسبوع ولست عن غيرها من النفقة بممنوع إن شاء الله تعالى.
أجوبته وكلماته القصيرة
قال بعض ندمائه كنت يوما بين يديه فقدم البطيخ فقلت لا مترك فقال بالعجلة لمترك وكنت أريد إن أقول لا مترك للبطيخ فسبقني إلى التبادر بهذا التجنيس في القاموس المتر القطع ومتر بسلحه رمى به وكان الصاحب أراد أحد هذين أو غيرهما وفي اليتيمة حدثني أبو منصور البيع قال دخلت يوما على الصاحب فطاولته الحديث فلما أردت القيام قلت لعلي طولت فقال بل تطولت قال وحدثني أبو سعد نصر بن يعقوب قال كان الصاحب يقول بالليالي لجلسائه إذا أراد إن يبسطهم ويؤنسهم نحن بالنهار سلطان وبالليل أخوان قال وحدثني أبو النصر العتبي قال سمعت أبا جعفر دهقان ابن ذي القرنين يقول قدمت إلى الصاحب هدية أصحبنيها الأمين أبو علي محمد بن محمد برسمه واعتذرت إليه بان قلت أنها إذا نقلت إلى حضرته من خراسان كانت كالتمر ينقل إلى كرمان فقال قد ينقل التمر من المدينة إلى البصرة على جهة التبرك وهذه سبيل ما يصحبك وحكي أنه خرج من بديع الزمان الهمذاني ريح في مجلس الصاحب فقال الهمذاني هذا صرير التخت فقال الصاحب أخشى إن يكون صفير التخت فخجل ويقال إن هذه الخجلة كانت سبب مفارقته لتلك الحضرة وخروجه إلى خراسان قال الثعالبي وقرأ بحضرته والعاديات بأقبح قراءة فنام الصاحب تبرما به فخرجت من القارئ ريح انتبه الصاحب لصوتها وقال نومتني بالعاديات ونبهتني بالمرسلات وفي معجم الأدباء قال أبو حيان حدثني محمد بن المرزبان قال كنا بين يديه ليلة فنعس وأخذ إنسان يقرأ سورة الصافات فاتفق إن بعض هؤلاء الأجلاف من أهل ما وراء النهر نعس أيضا فخرجت منه ريح منكرة فانتبه وقال يا أصحابنا نمنا على والصافات وانتبهنا على والمرسلات قال وهذا من نوادره وملاحاته قال وحدثني أيضا قال انفلت ليلة أخرى ريح من بعض الحاضرين وهو في الجدل فقال على حدته كانت بيعة فلان خذوا فيما أنتم فيه يعني فلتة قال وقال قوم من أهل أصبهان لابن عباد لو كان القرآن مخلوقا لجاز إن يموت ولو مات القرآن في آخر شعبان بما ذا كنا نصلي التراويح في رمضان قال لو مات القرآن كان رمضان يموت أيضا ويقول لا حياة لي بعدك ولا تصلي التراويح ونستريح. وقال أبو حفص الوراق للصاحب إن جرذان بيتي يمشين بالعصي هزالا فقال بشرهن بمجيء الحنطة وفي نزهة الألباء يحكى أنه دخل عليه رجل فقال له من أين أنت فقال من پنج ده وهي بالفارسية خمس قرى فقال له الصاحب: يحمق من كان من قرية واحدة فكيف من كان من خمس قرى. وفي اليتيمة: حدثني بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني قال: لما أدخلني والدي إلى الصاحب ووصلت إلى مجلسه واصلت الخدمة بتقبيل الأرض فقال لي: يا بني اقعد كم تسجد كأنك هدهد. قال: وقال يوما لبعض من تأخر عن مجلسه لعله وجدها ما الذي كنت تشتكيه قال الحما قال قه يعني الحماقة فقال وه يعني القهوة قال المؤلف كأنه قال الحما بفتح الحاء وتخفيف الميم وأراد الحمى بضم الحاء وتشديد الميم غلطا وجهلا فلذلك تمم له الصاحب قوله بما دل على الحماقة فاستدرك هو بان ضم إلى قه وه فصار قهوة ليدفع ما أراده الصاحب. وفي النزهة فاستحسن ذلك منه وخلع عليه. ومر أنه قال لرجل من أهل سمرقند ما تقول في القرآن فقال إن كان مخلوقا كما تزعم فما ذا ينفعك وإن كان غير مخلوق كما يزعم خصمك فما ذا يضرك؟ فقال: أنت لم تخرج من خراسان بعد فنهض الرجل وكان ليلا فقال له: إلى أين؟ بت هاهنا فقال أنا لم أخرج من خراسان بعد فكيف أبيت بالري. وفي اليتيمة: سمعت أبا الحسن العلوي الهمذاني الوصي يقول: لما توجهت تلقاء الري في سفارتي إليها من جهة السلطان فكرت في كلام ألقى به الصاحب فلم يحضرني ما أرضاه وحين استقبلني في العسكر وأفضى عناني إلى عنانه جرى على لساني "ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم" فقال: "إني لأجد يح يوسف لولا إن تفندون" ثم قال مرحبا بالرسول ابن الرسول الوصي ابن الوصي. واستأذن عليه الحاجب يوما لإنسان طرسوسي فقال الطر في لحيته والسوس في حنطته. وسأل الصاحب أبا الحسين الربعي عن مسالة فأجاب جوابا أخطأ فيه فقال له أصبت فقبل الأرض بين يديه شكرا فلما رفع رأسه قال عين الخطا. وأنفذ إليه ابن فارس من همذان كتاب الحجر من تأليفه فقال رد الحجر من حيث جاءك ثم لم تطب نفسه بتركه فنظر فيه وأمر له بصلة. وقال لرجل رفع إليه قصة وهو يكثر الكلام: هذا رفع القصص لأرفع القصص الأولى بالكسر والثانية بالفتح.
من كلماته القصيرة
في مسودة الكتاب: ومما يؤثر عنه من الكلمات القصار قوله: من لم تهذبه الإقالة هذبه العثار ومن لم يؤدبه والداه أدبه الليل والنهار.
من اليتيمة
من استماح البحر العذب استخرج اللؤلؤ الرطب، من طالت يده بالمواهب امتدت إليه ألسنة المطالب، من كفر النعمة استوجب النقمة، من نبت لحمه على الحرام لم يحصده غير الحسام من غرته أيام السلامة حدثته ألسن الندامة، من لم يهزه يسير الإشارة لم ينفعه كثير العبارة، رب لطائف أقوال تنوب عن وظائف أموال، الصدر يطفح بما جمعه وكل إناء مؤد ما أودعه اللبيب تكفيه اللمحة وتغنيه اللحظة عن اللفظة الشمس قد تغيب ثم تشرق والروض قد يذبل ثم يورق والبدر يافل ثم يطلع والسيف ينبو ثم يقطع. العلم والجهل بالتناكر. إذا تكرر الكلام على السمع تقرر في القلب. الضمائر الصحاح أبلغ من الألسنة الفصاح. الشيء يحسن في ابانه كما إن الثمر يستطاب في أوانه. الآمال ممدودة والعواري مردودة. الذكرى ناجعة وكما قال الله تعالى نافعة. متن السيف لين ولكن حده خشن ومتن الحية الين ونابها أخشن. عقد المنن في الرقاب لا يبلغ إلا بركوب الصعاب. بعض الحلم مذلة وبعض الاستقامة مزلة. كتاب المرء عنوان عقله بل عيار قدره ولسان فضله بل ميزان علمه. انجاز الوعد من دلائل المجد واعتراض المطل من أمارات البخل وتأخير الإسعاف من قرائن الإخلاف. خير البر ما صفا وضفا وشره ما تأخر وتكدر. فراسة الكرم لا تبطئ وقيافة الشر لا تخطئ. قد ينبح الكلب القمر فليلقم النابح الحجر. كم متورط في عثار رجاء إن يدرك بثار. بعض الوعد كنقع الشراب وبعضه كلمع السراب. قد يبلغ الكلام حيث تقصر السهام. ربما كان الإقرار بالقصور أنطق في لسان الشكور. وربما كان الإمساك عن الإطالة أوضح من الإبانة والدلالة. لكل امرئ أمل ولكل وقت عمل. إن نفع القول الجميل وإلا نفع السيف الصقيل. شجاع ولا معمر ومندوب ولا كصخر. لا يذهبن عليك تفاوت ما بين الشيوخ والأحداث والنسور والبغاث. كفران النعم عنوان النقم. جحد الصنائع داعية القوارع. تلقي الإحسان بالجحود تعريض النعم للشرود. قد يقوى الضعيف ويصحو النزيف ويستقيم المائد ويستيقظ الهاجد. للصدر نفثة إذا أخرج. وللمرء بثة إذا أحوج. ما كل امرئ يستجيب للمراد ويطيع يد الارتياد. قد يصلى البريء بالسقيم ويؤخذ البر بالأثيم. ما كل طالب حق يعطاه ولا كل شائم مزن يسقاه إن الأحداث لا رياضة لهم بتدبير الحوادث إن السنين تغير السنن. من ثقلت عليه النعمة خف وزنه. ومن استمرت به الغرة طال حزنه أطع سلطان النهي دون شيطان الهوى (انتهى).
ومن اليتيمة أيضا
وجدت حرا يشبه قلب الصب ويذيب دماع الضب. علي إن أقول وما علي القبول. لا أعترض بين الشمس والقمر والروض والمطر. أكره إن أمل وقد قصدت إن أجل. واعق وقد قصدت إن أقضي بالحق. مرحبا بزائر لباسه حرير وأنفاسه عبير زائر وجهه وسيم وريحه نسيم وفضله جسيم. فلان بين سكرى الشباب والشراب. غصن طلعه نضير وليس له نظير. خط أحسن من عطفات الاصداع وبلاغة كالأمل آذن بالبلاع. فقر كما جيدت الرياض وفصول كما تغازلت المقل المراض. ألفاظ كما نورت الأشجار ومعان كما تنفست الأسحار. نثر كنثر الورد ونظم كنظم العقد. كتابك رقية القلب السليم. وغرة العيش البهيم كلام يدخل على الأذن بغير أذن. فلان كريم ملء لباسه. موفق مد أنفاسه ذو جد كعلو الجد. وهزل كحديقة الورد. عشرته ألطف من نسيم الشمال على أديم الزلال. وألصق بالقلب من علائق الحب. شكره شكر الأسير لمن أطلقه والمملوك لمن أعتقه. أثنى عليه ثناء العطشان الوارد على الزلال البادر. قلب نغل وصدر دغل. وعده برق خلب وروغان ثعلب. فلان يتعلق بأذيال المعاذير. ويحيل على ذنوب المقادير. وأما شيخنا أبو القاسم الزعفراني أيده الله فصورته لدي صورة الأخ أو وده أرسخ ومحله محل العم أو اشتراكه أعم. وأما قصيدة أبي طاهر بن أبي الربيع فأحسن من الربيع. وإنها وثيقة الجزالة أنيقة الأصالة. تنطق عن أدب ممهد الأسر شديد الأزر. وله عندنا أسلاف بر أرجو إن لا تبقى في ذمتنا حتى نقضيها. فوعد الكريم ألزم من دين الغريم. خط أبي الفرج يبهر الطرف ويفوت الوصف ويجمع صحة الأقسام ويزيد في نخوة الأقلام. فلان أثقل من القدح الأول. هما خليطان من ماء الغمامة والخمر. دارك لي جنة ولكن بوابها مالك الجحيم. وطئ النجم بقدمه وسبق القدر بتقدمه. نشط مولانا لتناول ما يستمد الأنس ويستجلب البشر ويشرح الصدر ما يجمع شمل الأخوان ويفرق نوازع الأحزان. النثر يتطاير تطاير الشرر. والنظم يبقى كالنقش في الحجر. ريق العذول سم قاتل. رب عذول في ظاهر أهل السمت وباطن أهل السبت. وقال في عبد الصمد بن بابك: وأما ابن بابك وكثرة غشيانه بابك. فإنما تغشى منازل الكرام والمنهل العذب كثير الزحام. خط كالمقل المراض. والإقبال بعد الأعراض. ألفاظ كغمزات الألحاظ. ومعان كأنها قلب عان. استعارت حلاوة العتاب بين الأحباب. واستقرت تشاكي العشاق يوم الفراق. ألفاظ لها من الهواء رقته ومن الماء سلاسته. ومن السحر نفثته. ومن الشهد حلاوته. كلام كبر الشباب وبرد الشراب. كلام يهدي إلى القلب روح الوصال. ويهب على النفس هبوب الشمال. ألفاظ حسبتها لرقتها منسوخة من صحيفة الصبي. وظننتها لسلاستها مكتوبة من إملاء الهوى. كلام كما هب نسيم السحر على صفحات الزهر. ولذة طعم الكرى بعد نزح السهر. كلام يقطر صرفا ويمزح الراح لطفا. كلام كنسيم الصبا وعهد الصبي. كلام هو سمر بلا سهر. وصفو بلا كدر. كتاب أوجب من الاعتداد وأوفر من الأعداد. وأودع بياض الوداد سواد الفؤاد. كتاب إنساني سماع الأغاني من مطربات الغواني. كتاب رأيت فيه ساعة
الأوبة على المسافر وبرد الليل على المسامر. كتاب شممته شم الولد وألصقته بالقلب والكبد. كتاب مطلعه مطلع أهلة الأعياد. وموقعه نيل المراد. وقال في شعر عضد الدولة. قرأت الأبيات التي أسفر عنها طبع المجد وألقاها بحر العلم على لسان الفضل. فعلمت كيف تنكسر الزهر على الحدائق. وكيف يغرس الدر في أرض المهاوق. تذكرت أياما فتذكرت سحرا وسيما وعيشا جسيما. وراحا وريحانا وخيرا عميما وابتهاجا مقيما وأياما حسنة فكأنها أعراس وقصيرة فكأنها أنفاس.
ومن ديوان الرسائل
إخاء المودة الخاصة فوق الرحم الماسة.
ومن غير اليتيمة
اعلم الملوك يحتاج إلى وزير. وأشجع الناس يحتاج إلى سلاح. وأجود الخيل يحتاج إلى سوط. وأجود الشفار يحتاج إلى مسن. مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسدا كالماء الصافي النمير العذب الذي فيه التماسيح فلا يستطيع الإنسان وروده وإن كان سابحا والى الماء ظامئا حذرا على نفسه. إذا أدبر الأمر كان العطب في الحيلة. أحسن ما يكون الحسن بجنب القبيح. ثلاثة تدل على عقول أربابها الهدية والكتاب والرسول. ما أحد رأى في ولده ما يحب إلا رأى في نفسه ما يكره. الصبر على حقوق الثروة أشد من الصبر على ألم الحاجة. الرزق مقسوم والحريص محروم والحسود مغموم والبخيل مذموم. إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عينا. وإذا كان الإيجاز مقصرا كان الإكثار أبلغ. الخراج عمود الملك وما استقبل بمثل العدل وما استدبر بمثل الجور. إذا لم أعط إلا مستحقا فكأني أعطيت غريما. مثل الكاتب مثل الدولاب إذا تعطل تكسر. القلم الرديء كالولد العاق وكالأخ المشاق. التصرف أعلى وأسنى والتعلل أعفى وأصفى. ذل العزل يضحك من تيه الولاية. الولاية وكل مدح والعزل وكل ذم. موت في عز خير من حياة في ذل. الحرب سجال وعثرتها لا تقال. المكيدة أبلغ من النجدة والكيد أبلغ من الأيد. المكر حيلة من لا حيلة له. السلاح ثم الكفاح. السلاح زينة وعدة. السلاح جنة الأبدان ووقاية الأنفس. قد يجبن الشجاع بلا سلاح ويشجع الجبان بالسلاح لا تمنع عدوك السبيل في هزيمته. احتل للشمس والريح إن تكونا معك لا عليك. إذا ابتليت بالبيات فعليك بالثبات. محرض خير من ألف مقاتل. الليل جنة الهارب. الفرار في وقته ظفر. الحرب أولها كلام وآخرها اصطلام. إن الجبان حتفه من فوقه. عصا الجبان أطول. القلم أحد اللسانين. عقول الرجال تحت أسنة أقلامهم. صورة الخط في الأبصار سواد وفي البصائر بياض. رداءة الخط زمانة الأدب. القلم صائغ الكلام يفرع ما يجمعه القلب، ويصوع ما يمسكه اللب. من طلب الري من الفرات لم يخش الظمأ في ورده، ومن قصد الكريم برجائه لم يحاذر الخيبة في قصده. من لم يتحرز من المكايد قبل هجومها لم يعنه الأسف عند وقوعها. الناس بالذم أعلق وروائحه بالحفظ أعبق. الاعتدال أعدل والطريق الوسط أمثل. الرأي أقومه أحكمه وأشده أسده. رب اجتهاد أبلغ من جهاد، ومكايد دقيقة المسارب أنكى من حداد صقيلة المضارب، ولطائف أقوال تنوب عن وظائف أموال. وثبات عقول وعقود أوقع من بيات جيوش وجنود. غش الكافي أحمد من نصح الناقص. الثناء الجميل لسان الساعي والبشر الحسن عنوان المعالي. الإحجام في مواطنه كالإقدام في مواضعه والترك في أماكنه كالأخذ في مواضعه. الراحة حيث تعب الكرام أودع لكنها أوضع، والقعود حيث قام الأحرار أسهل لكنه أسفل. اللبيب من الإيماء يكفيه والإيحاء يغنيه واللفظة تجزيه واللمحة تؤثر فيه. السيد لا يروع القطيع بأرضه، والأسد لا يعدو على الفريسة في ظله. الوقوف في مدارج التهم ذنب عظيم والدخول في شبهات الظن داء عقيم. الطاعة سعيدة المطلع حميدة المرجع والعصيان ذميم الفاتحة وخيم العاقبة. الثعالب لا تجسر على أخياس الأسود. والأرانب لا تقدم على أغيال الليوث. إن الجبال الشم والأطواد الصم لا تمال بحصبات القاذف ولا تحال بجمرات الحاذف. الرجل الحول من ثنى أزمة الأعداء عن الشحناء إلى المودة والصفاء. لا من أحال الصديق ذا الإخاء إلى حال الهجرة والبغضاء. الإغفال لا تؤمن عواقبه بل تحذر مصايبه. تجارة الأفضال رابحة وصفقة الإحسان راجحة. الشمس تحيي نورا ولكنها تقتل حرا. والماء يروي وقد يفيض فيردي. خير الوعظ ما قضى بالارتداع قبل الإيقاع، وبالانزجار قبل الإنكار. اصطناع الأراذل وصمة في وجود الأفاضل. لا بد للسرى على قمر وللربى من مطر. هل يثبت التصنع إلا بقدر الاستكشاف، ويستقر التعمل إلا ريث الاستشفاف. لكل أمر أجل ولكل وقت رجل. عريسة الأسد ليست من أماكن النقد. ما انتفع بعلم رجل لم ينتفع بظنه، ولا بفهم امرئ لم يصب بوهمه. طلوع الشمس في ضمان غروبها، ومكاره الأيام في أعقاب محبوبها، وعواري الليالي على شرف ارتجاعها، وودائع الدهر يعرض انتزاعها. المكاتبة نظام الصلة وقوام المقة وملاك المسرة وعماد المبرة. دقيق علوم النجوم لا يدرك وجليله كثير الكذب.
نموذج من كلامه ورسائله مأخوذ من المنقول
عن ديوان رسائله المخطوط في وصف
رسول الله صلى الله عليه وسلم
خيرة الله من خلقه، والهادي إلى حقه، والمنبه على حكمه، والداعي إلى رشده، والمؤيد من عنده، والمحتج به على جنه وانسه مختار من أكرم المنابت، منتخب من أشرف العناصر، مرتضى من أعلى المحاتد، موثر من أعظم العشائر، معضود بالمعجزات الغر، مرفود بالدلالات الزهر، لا تخبو ناره ولا يوضع مناره، ولا يتحيف سناه وسناؤه، هدي به الخلق من ضلالة سوداء دهماء، وعلموا به من جهالة ربداء جهلاء، مبارك مولده، سعيد مورده، قاطعة حجته، سامية درجته، ساطع صباحه متوقد مصباحه، مظفرة حروبه ميسرة خطوبه، نسخت بملته الملل، وبشرعته الشرع، وبنحلته النحل، وبكلمته الكلم، وبأمته الأمم، وبسنته السنن، قد أفرد بالزعامة وحده، وختم بالا نبي بعده، فاستوفت دعوته شرق الأرض وغربها، ومسحت بر الدنيا وبحرها، وأذعنت لها سود الرجال وحمرها، وذلت لعزته صيد الملوك وكبرها، وصار المخالفون سرا، يضطرون إلى اعتزاء إليه جهرا، يفصح بشعاره على المنابر، وبالصلاة عليه في المحاضر، وتعمر بذكره صدور المساجد والمنابر، ويستوي في التطامن لأمره حالتا الغائب والحاضر والوارد والصادر لم يكتب كاتب إلا ابتدأ مصليا عليه، ولم يختم إلا برد السلام والتحية إليه، ذلك سيد الأولين والآخرين، رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في وصف علي بن أبي طالب عليه السلام
إسلامه سابق ومحله سامق ومجده باسق وذكره نجم طارق وسيفه قدر وبارق و علمه بحر دافق وإمامته لواء خافق. ونظير هارون عند المشاكلة، وباب المدينة عند المشابهة، بدر يوم بدر بل شمسه، وأخو المصطفى بل نفسه، مصلي القبلتين والهاشمي من الهاشميين كفؤ أشرف النسم وأكرم الكرائم في الأمم، نسله أعز نسل وأصله أفضل أصل، به تحل المشكلات وإليه ترجع المعضلات، ولداه الشمس والقمر ولولا علي لهلك عمر، سيفه أم الآجال ورمحه يتم الأطفال، وحملته رفع السدود وصولته كسر البنود، قوى الله به أزر المسلمين وأفشى القتل في المشركين، قسيم الجنان وباب الرحمة والرضوان، ثاني أصحاب الكسا في أذهاب الرجس وحامل لواء الحمد عن يمين العرش، وصاحب الحوض يسقي من شايع وبايع ويمنع من ناصب ونازع، ذاك أمير المؤمنين صلوات الله تختص أوصافه عن المشاركة وتخلص نعوته عن المزاحمة.
وكتب يصلح بين الأشراف العلوية بقزوين
الحمد لله رب العالمين وصلاته على خيرته محمد وعترته. وقد علم الشريفان إن الصلح تجتمع أطرافه وتحرس أكنافه، باطراح الضغائن وتسوية الظواهر والبواطن، والأخذ بالخلق السمح وترك المشاحة والشح. وأن المعارة تورث التباعد وتزيل التعاون والترافد، والإشراف العلوية بقزوين بينهم وبين سائر الطوائف شحناء لا تكاد تسقط جمراتها ولا تنجلي غمراتها، وقد كتبت في ذلك كتابا أرجوه يجمع على الألفة ويحرس من الفرقة، وينظم على ترك المنازعة والجنوح إلى الموادعة، فان المهادنة تجمل بين الملتين فكيف بين النحلتين، والله نسأل توفيقا لأنفسنا ولهم. وإذا عرفت لما يجري من ذلك تأويلا وإن كان ضعيفا فليت شعري لم بين آل أبي طالب أيدهم الله تماد وتباغض وتناء وترافض، وشر قد تعدى إلى إراقة الدم وقطع العصم ونسيان الذمم وبيت الرسالة يجمعهم وظل النبوة يكنفهم ورحم الوصية تؤلفهم، وهل ذلك إلا من حبائل الشيطان ومكائده ونزعاته ومراصده، وقد اعتمدت الشريفين لأمرين عظيمين أولهما وأولاهما إزالة هذا التنازع والتقاطع، بين بني العم حتى يكونوا متوازرين متعادلين أخوانا متقابلين، وإن احتاج بعض إلى احتمال ضيم لبعض والتزام هضيمة وغض، فالدين يقتضي ذلك اقتضاء لا رخصة في تركه ولا تأويل في حله ولا عذر في هجره، وأنا أتوقع ما يكون من هؤلاء الأشراف أيدهم الله في الاستجابة لما رسمت والتزام ما ألزمت، ومن الشريفين أيدهما الله في إصلاح ذات البين والصبر على إيقاع الاتفاق ورفع الافتراق واستعادة الائتلاف وإماطة الاختلاف إن شاء الله تعالى.
من كتاب يعزي به أبا عن ولده
هو الدهر فلا تعجب من طوارقه ولا تنكر هجوم بوائقه عطاؤه في ضمان الارتجاع وحباؤه في قران الانتزاع فلا القلق ينفع ولا الحيلة تدفع ولا الفدية تقبل ولا البلية تمهل وكل ذلك يزيد المؤمنين إيمانا فيعلم أنا لأمر كله لمن يغلب ولا يغلب وابنك وإن كان طهرا فقد عاد أجرا فأحسن العزاء وأجمل الرجعى فما عند الله خير وأبقى. واعلم إن الناس قبلك فجعوا فجزعوا ثم لم يرد التسلب من مات ولم يرجع التهالك كل من فات. فعادوا إلى التسليم. وفوضوا إلى القادر الحكيم. وإن المرء ليقدم السلوة فيجبر مصابه كما يؤخرها فيحبط ثوابه. أخذ الله بك إلى ما هو أولى بسنك ودينك والله أسأل لك ولنفسي التوفيق والتسديد أنه فعال لما يريد.
تهنئة ببنت
من اليتيمة: أهلا وسهلا بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار
والأولاد الأطهار والمبشرة بأخوة يتناسقون نجباء يتلاحقون:
فلو كان النساء كمثل هذي | لفضلت النساء على الرجال |
وما التأنيث لاسم الشمس عيب | ولا التذكير فخر للهلال |
فادرع يا سيدي اغتباطا واستأنف نشاطا فالدنيا مؤنثة والرجال يخدمونها والذكور يعبدونها والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية وفيها كثرت الذرية والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وبها قوام الأبدان وملاك الحيوان والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون ولها بعث المرسلون فهنيئا هنيئا ما أوليت وأوزعك الله شكر ما أعطيت وأطال بقاك ما عرف النسل والولد وما بقي الأمد وكما عمر لبد.
رقعة في ذكر مصحف أهدي إليه
البر أدام الله الشيخ أنواع فان يكن فيها ما هو أكرم منصبا وأشرف منسبا فتحفة الشيخ إذ أهدى ما لا تشاكله النعم ولا تعادله القيم كتاب الله وبيانه وكلامه وفرقانه ووحيه وتنزيله ومعجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليله طبع دون معارضة على الشفاه وختم على الخواطر والأفواه فقصر عنه الثقلان وبقي ما بقي الملوان لائح سراجه واضح منهاجه منير دليله عميق تأويله يقصم كل شيطان مريد ويذل كل جبار عنيد. وحقا أقول أني لا أحسب أحدا ما خلا الملوك جمع من المصاحف ما جمعت وإن هذا المصحف لزائد على جميعها:
لقد أهديته علقا نفيسا | وما يهدي النفيس سوى النفيس |
من كتاب له إلى ابن العميد جوابا
عن كتابه إليه في وصف البحر
في اليتيمة: كان أبو بكر الخوارزمي يحفظه وكثيرا ما كان يقرأه ويعجب السامعون من فصاحته ولم أره يحفظ من الرسائل غيره: وصل كتاب الأستاذ الرئيس صادرا عن شط البحر بوصف ما شاهد من عجائبه وعاين من مراكبه، ورآه من طاعة آلاته للرياح كيف إرادتها، واستجابة أدواتها لها متى نادتها، وركوب الناس أشباحها، والخوف بمرأى ومسمع والمنون بمرقب ومطلع، والدهر بين أخذ وترك والأرواح بين نجاة وهلك، إذا فكروا في المكاسب الخطيرة هان عليهم الخطر، وإذا لاحت لهم غرر المطلب الكثيرة حبب إليهم الغرر، وعرفت ما قاله من تمنيه كوني عند ذلك بحضرته وحصولي على مساعدته، ومن رأى بحر الأستاذ كيف يزخر بالفضل وتتلاطم فيه أمواج الأدب والعلم لم يعتب على الدهر فيما يفيته من منظر البحر، ولا فضيلة له عندي أعظم من إكبار الأستاذ لأحواله واستعظامه لأهواله، كما لا شيء أبلغ في مفاخره وأنفس في جواهره، من وصف الأستاذ له فاني قرأت منه الماء السلسال لا الزلال والسحر الحرام لا الحلال، وقد علم أنه كتب ولما يخطر بفكره سعة صدره، فلو فعل ذلك لرأى البحر وشلا لا يفضل عن التبرض وثمدا لا يكثر عن الترشف:
وكم من جبال جبت تشهد أنك الـ | ـجبال وبحر شاهد أنك البحر |
تعزية بموت أب وتهنئة بزواج أم
وقد مر له إن انتقد من زوج أمه وذمه واستهان به وهنا يهنئه وما ذلك إلا لاختلاف مقتضيات الأحوال:
الأيام أطال الله بقاءك تجري على أنحاء مختلفة وشعب متفرقة وأحكامها تتفاوت بيننا بما يسوء ويسر وينفع ويضر، وبلغني من نفوذ قضاء الله في شيخك رحمه الله ما أزعجني وأبهم طرق السلوة دوني، وإن كان من خلفك غير خارج عن مزية الأحياء، ولا حاصل في زمرة الأموات، والله ياسو كلمك ويسد ثلمك، وقد فعل ذلك بان أتاح الله لك بعد أبيك أبا لا يقصر عنه شفقة عليك وحنوا وإيثارا لك وبرا، وقد لعمري وفقت حين وصلت بحبلك حبله، وأسكنت الكبيرة حرسها الله تعالى ظله، لئلا تفقد من الماضي عفا الله عنه إلا شخصه فالحمد لله الذي أرشدك لما يعيد الشمل مجتمعا بعد فراقه والعدد موفرا بعد انتقاصه.
في وصف كتاب
وصل كتاب القاضي فأعظمت قدر النعمة وفضضته عن السحر حلالا والماء زلالا وسرحت الطرف منه في رياض رقت حواشيها وحلل تأنق واشيها فلم أتجاوز فصلا إلا إلى أخطر منه فضلا ولم أتخط سطرا إلا إلى أحسن منه نظما ونثرا.
وكتب إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب في القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني:
قد تقدم وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز أدام الله تعالى عزه فيما سبق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش أدام الله تعالى علوه من كتبي ما أعلم أني لم أؤد فيه بعض الحق وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل وتكشف عن أنه من أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم فأما موقعه مني فموقع تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب وعادته معي إن لا يفارقني مقيما وظاعنا ومسافرا وقاطنا وأحتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد إن شرطت عليه تصبير المقام كالإلمام فطالبني مكاتبتي بتعريف الأمير مصدره ومورده فان عن له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد ليستعجل انكفاؤه إلي بما يرسم أدام الله أيامه من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بدرقة إن احتاج إليها وإلى الاستظهار بها ومخاطبة لبعض من في الطريق بتصرف النحج فيها فان رأى الأمير إن يجعل من حظوظي الجسيمة عند تعهد القاضي أبي المحسن بما يعجل رده فاني ما غاب كالمضل الناشد وإذا عاد كالغانم الواجد فعل إن شاء الله تعالى.
رسالته في الطب
في اليتيمة: سمعت أبا جعفر الطبري الطبيب المعروف بالبلاذري يقول إن للصاحب رسالة في الطب لو علمها ابن قرة وابن زكريا لما زاد عليها فسألته إن يعيرنيها إن كانت عنده فذكر أنها في جملة ما غاب عنه من كتبه فاستغربت واستبعدت ما حكاه من تطبب الصاحب ونسبته في نفسي إلى التزيد والتكثر إلى إن ظفرت في نسخة الرسائل المؤلفة المبوبة للصاحب برسالة قدرتها تلك التي ذكرها أبو جعفر ووجدتها تجمع إلى ملاحة البلاغة ورشاقة العبارة حسن التصرف في لطائف الطب وخصائصه وتدل على التبحر في علمه وقوة المعرفة بدقائقه وهذه نسختها وأكثر ظني أنه قد كتبها إلى أبو العباس الضبي.
قد عرفت ما شرحه مولاي من أمره وأنبأ عنه من أحوال جسمه فدلتني جملته على بقايا في البدن يحتاج معها إلى الصبر على التنقية والرفق بالتصفية فأما الذي يشكو من ضعف معدته وقلة شهوته فلأمرين أحدهما: إن الجسم كما قلت آنفا لم ينق فتنفتق الشهوة الصادقة وترجع العادة السابقة. والآخر: إن المعدة إذا دامت عليها المطفيات ولزت بها المبردات، قلت الشهوة وضعف الهضم ومع ذلك فلا بد مما يطفي ويغذي، ثم يمكن من بعد إن يتدارك ضعف المعدة بما يقوي منها ويزيل العارض المكتسب عنها. كما يقول الفاضل جالينوس: قدم علاج الأهم ثم عد وأصلح ما أفسدت والأقراص في آخر الحميات خير ما نقيت به المعدة وأصلحت به العروق وقوي به الطحال ليتمكن من جذب العكر لا سيما والذي وجده مولاي ليس الذنب فيه للحميات التي وجدها والبلدة التي وردها، فلو صادف الهواء المتغير جسدا نقيا من الفضول لما أثر هذا التأثير ولا طول هذا التطويل وإنما اغتر مولاي بأيام السلامة فكان يتبسط في أنواع الطعام ويسرف فيتناول الشراب فامتلأ الجسم من تلك الكيموسات الرديئة، وورد بلدا شديد التحليل، مضطرب الأهوية فوجدت النفس عونا على حل ما انعقد ونقض ما اجتمع وسيتفضل الله بالسلامة فتطول صحبتها وتتصل مدتها لأن الجسد يخلص خلاص الإبريز إذا زال عنه الخبث وسبك ففارقه الدرون وأما الرعشة التي يتألم مولاي منها ويضيق صدرا بها فليست والحمد لله محذورة العاقبة وإنها لتزول بإقبال العافية فالرعشة التي تتخوف هي التي تعرض من ضعف القوة الحيوانية كما تعرض للمشائخ، وتؤذي لمشاركتها الدماع كثيرا من العظام، فأما هذه التي تعتاد عقيب الحمى فهي على ما قال جالينوس من إن حدوثها يكون إذا شاركت العروق التي تحدث فيها علة العصب وتزول بزوال الفضل وعجب مولاي من تكرهه شم الفواكه ولا غرو إذا عرف السبب، فان العفونة التي في العروق قد طبقت روائحها آلات الشم فما يصل إليها من الروائح الزكية يرد على النفس مغمورا بتلك الروائح الخبيثة فتكرهها ولا تقبلها وتأباها ولا تؤثرها، إلا يرى مولاي إن الأشياء الحلوة توجد في فم ذي الصفراء بطعم الأشياء المرة لامتلاء المرارة المضادة للحلاوة على آلات الذوق والمضغ والإدارة وهذا راجع إلى مثل ما حكمنا به أولا من إن هناك فضلا لا يمكن الهجوم على تحليله لما يخشى من سقوط القوة وإن كان مما لم يخرج لم يوثق بوفور الصحة وأنا أحمد الله إذ ليست شهوة سيدي متزايدة فالشهوة الغالبة مع الأخلاط الفاسدة تغري صاحبها بالأكل الزائد وتعرض للمزاج الفاسد إلا إن التغذي لا يجوز إهماله دفعة والتبرم به ضربة، فان البدن إذا احتاج إليه وجب للعليل إن يتناوله تناول الدواء الذي يصبر عليه، وذلك إن في دقة الحمية وترك الرجوع أول فأول إلى إعادة الصحة إماتة للشهوة وخيانة للقوة، وجالينوس يشرط في العلاجات أجمع استحفاظ القوى لأن الذي يفعله الضعف لا يتداركه أمر إلا إن ذلك بإزاء ما قال الحكيم الأول بقراط في البدن السقيم أنك متى ما زدته غذاء زدته شرا وهو في نفسه يقول إن الحمية التي في غاية الدقة ليست بمحمودة فالطرفان من الاسراف والاجحاف مذمومان والواسطة أسلم. أغنى الله مولاي عن الطب والأطباء بالسلامة والشفاء (انتهى).
شعره
الصاحب مجود في شعره كما هو بارع في نثره وقلما يكون الكاتب جيد الشعر ولكن الصاحب جمع بينهما. ونحن نذكر أولا طرفا من شعره في أهل البيت عليه السلام ثم طرفا من سائر شعره.
شعره في أهل البيت عليه السلام
له في مدح أمير المؤمنين عليه السلام سبع وعشرون قصيدة كل قصيدة أخلى منها حرفا من الحروف وبقيت عليه خالية الواو فأكملها سبطه وجعلها في مدحه وقصيدته الخالية من حرف الألف تبلغ ستين بيتا أولها:
قد ظل يجرح صدري | من ليس يعدوه فكري |
ولعله أخذ هذه الطريقة من واصل بن بعطاء الذي كان يلثغ بالراء فأخلاها من كلامه حتى قال فيه الشاعر:
نعم تجنب لا يوم العطاء كما | تجنب ابن عطاء لفظة الراء |
هذا غير ما له فيه عليه السلام وفي أولاده من الشعر الكثير. فمنه قوله برواية الشريف المرتضى في الأمالي:
لو شق عن قلبي يرى وسطه | سطران قد خطا بلا كاتب |
العدل والتوحيد في جانب | وحب أهل البيت في جانب |
وله كما في المناقب:
حب علي بن أبي طالب | أحلى من الشهدة للشارب |
لا تقبل التوبة من تائب | لا بحب ابن أبي طالب |
أخي رسول الله بل صهره | والصهر لا يعدل بالصاحب |
يا قوم من مثل علي وقد | ردت عليه الشمس من غائب |
وله:
حب علي بن أبي طالب | فرض على الشاهد والغائب |
وأم من نابذه عاهر | تبذل للنازل والراكب |
وقوله برواية صاحب اليتيمة وصاحب معاهد التنصيص:
حب علي بن أبي طالب | هو الذي يهدي إلى الجنة |
إن كان تفضيلي له بدعة | فلعنة الله على السنة |
ومنه قوله:
يقولون لي ما تحب النبي | فقلت الثرى بفم الكاذب |
أحب النبي وآل النبي | واختص آل أبي طالب |
وقوله برواية الشيخ أبي الفتوح الرازي المفسر المسندة:
أبا حسن لو كان حبك مدخلي | جهنم كان الفوز عندي جحيمها |
وكيف يخاف النار من كان موقنا | بأنك مولاه وأنت قسيمها |
ومر في أول الترجمة ما كان نقش خاتمه برواية أبي الفتوح الرازي وله
نقش آخر برواية صاحب المناقب:
شفيعي إلى الله قوم بهم | يميز الخبيث من الطيب |
بحبهم صرت مستوجبا | لما ليس غيري بمستوجب |
وقوله برواية صاحب المناقب:
#قد. . . من ال. . . تيم و عدي #ومن الشيخ. . . ال. . . الأمويأنا لا أعرف حقا | غير ليث بالغري |
وثمان بعد شبليه | ومختوم محجوب خفي |
وقوله كما في المناقب:
بحب علي تزول الشكوك | وتزكو النفوس ويصفو النجار |
ومهما رأيت محبا له | فثم العلاء وثم الفخار |
ومهما رأيت عدوا له | ففي أصله نسب مستعار |
فلا تعذلوه على فعله | فحيطان دار أبيه قصار |
وقوله كما في المناقب:
حبي محض لبني المصطفى | بذاك قد تشهد أضماري |
ولامني جاري في حبهم | فقلت بعدا لك من جار |
والله ما لي عمل صالح | أرجو به العتق من النار |
إلا موالاة بني المصطفى | آل رسول الخالق الباري |
وقوله برواية صاحب الكامل البهائي:
قالت تحب معاوية | قلت اسكتي يا زانية |
قالت أسات جوابنا | فأعدت قولي ثانيه |
يا زانيه يا زانيه | يا بنت ألفي زانيه |
أأحبه أأحب من | شتم الوصي علانيه |
فعلى يزيد. . . | وعلى أبيه ثمانية |
وقوله:
أنا وجميع من فوق التراب | فداء تراب نعل أبي تراب |
وقوله كما في المناقب:
يا أمير المؤمنين المرتضى | أن قلبي عندكم قد وقفا |
كلما جددت مدحي فيكم | قال ذو النصب نسيت السلفا |
من كمولاي علي مفتيا | خضع الكل له واعترفا |
من كمولاي علي زاهدا | طلق الدنيا ثلاثا ووفى |
من دعي للطير إن يأكله | ولنا في بعض هذا مكتفى |
من وصي المصطفى عندكم | ووصي المصطفى من يصطفى |
ولداه شنفا العرش فقل | حبذا العرش وحبا شنفا |
وقوله من قصيدة كما في المناقب وغيرها:
بلغت نفسي مناها | بالموالي آل طه |
برسول الله من | حاز المعالي وحواها |
وببنت المصطفى من | أشبهت فضلا أباها |
من كمولاي علي | والوغى تحمي لظاها |
من يصيد الصيد فيها | بالظبى حين انتضاها |
من له في كل يوم | وقعات لا تضاهى |
كم وكم حرب ضروس | سد بالمرهف فاها |
اذكروا أفعال بدر | لست أبغي ما سواها |
اذكروا غزوة أحد | أنه شمس ضحاها |
اذكروا حرب حنين | أنه بدر دجاها |
اذكروا الأحزاب قدما | أنه ليث شراها |
اذكروا مهجة عمرو | كيف أفناها شجاها |
اذكروا أمر براءه | وأخبروني من تلاها |
اذكروا من زوجه | زهراء قد طاب ثراها |
حاله حالة ها | رون لموسى فافهماها |
أعلى حب علي | لامني القوم سفاها |
أول الناس صلاة | جعل التقوى حلاها |
ردت الشمس عليه | بعد ما غاب سناها |
وبحبي الحسن | البالغ في العليا مداها |
والحسين المرتضى | يوم المساعي إذ حواها |
ليس فيهم غير نجم | قد تعالى وتناهى |
عترة أصبحت الدنيا | جميعا في حماها |
ما تحدث عصب | البغي بأنواع عماها |
أردت الأكبر بالسم | وما كان كفاها |
وانبرت تبغي حسينا | وعرته و عراها |
منعته شربة والطير | قد أروت صداها |
فافاتت نفسه | يا ليت روحي قد فداها |
بنته تدعو أباها | أخته تبكي أخاها |
لو رأى أحمد ما | كان دهاه ودهاها |
لشكا الحال إلى الله | وقد كان شكاها |
وقال كما في المناقب وغيره:
ما لعلي العلي أشباه | لا والذي لا اله إلا هو |
مبناه مبنى النبي تعرفه | وابناه عند التفاخر ابناه |
لو طلب النجم ذات أخمصه | علاه والفرقدان نعلاه |
أما عرفتم سمو منزله | أما عرفتم علو مثواه |
أما رأيتم محمدا حدبا | عليه قد حاطه ورباه |
واختصه يافعا وآثره | واعتامه مخلصا وآخاه |
زوجه بضعة النبوة إذ | رآه خير امرئ واتقاه |
يا بأبي السيد الحسين وقد | جاهد في الدين يوم بلواه |
يا بأبي أهله وقد قتلوا | من حوله والعيون ترعاه |
يا قبح الله أمة خذلت | سيدها لا تريد مرضاه |
يا لعن الله جيفة نجسا | يقرع من بغضه ثناياه |
وقال كما في المناقب وغيره:
برئت من الأرجاس رهط أمية | لما صح عندي من قبيح غذائهم |
ولعنتهم خير الوصيين جهرة | لكفرهم المعدود في شر دائهم |
وقتلهم السادات من آل هاشم | وسبيهم عن جرأة لنسائهم |
وقال كما في المناقب وغيره:
عجت ملائكة السماء لحربه | في يوم بدر والجهاد جهاد |
فحكاه عنه جبرائيل لأحمد | إسناد مجد ليس فيه سياد |
صرع الوليد بموقف شاب الوليد | لهوله وتهارب الأعضاد |
وأذاق عتبة الحسام عقوبة | حسمت بها الأدواء وهي تلاد |
أحلاف حرب أرضعوا أخلافها | فكأنهم لحروبهم أولاد |
ما كان في قتلاه إلا باسلا | فكأنما صمصامه نقاد |
إن لم أكن حربا لحرب كلها | فنفاني الآباء والأجداد |
إن لم أفضل أحمدا ووصيه | لهدمت مجدا شاده عباد |
يا كربلاء تحدثي ببلائنا | وبكربنا إن الحديث يعاد |
أسد نماه أحمد ووصيه | أرداه كلب قد نماه زياد |
فالدين يبكي والملائك تشتكي | والجو أكلف والسنون جماد |
وقال كما في اليتيمة:
ناصب قال لي معاوية | خالك خير الأعمام والأخوال |
فهو خال للمؤمنين جميعا | قلت خالي لكن من الخير خالي |
قال المؤلف على ذكر بيتي الصاحب خطر بالبال هذان البيتان:
قائل قال لي معاوية | خالك ما عنه للخؤولة مهرب |
قلت إن صحت الخؤولة فيه | كان جدي أيضا حيي بن أخطب |
وله كما في المناقب:
سيد الناس حيدره | هذه خير تذكره |
لعن الله كل من | رد هذا وأنكره |
هو غيظ لناصبي | وحتف لمجبره |
وله:
حب على همة | لأنه سيد الأئمة |
وله:
تجمع فيه ما تفرق في الورى | من الخلق والأخلاق والفضل والعلى |
وله:
وما عبد الأصنام والقوم سجد | لها وهو في أثر النبي محمد |
وله:
أشهد بالله وآلائه | شهادة خالصة صادقه |
إن علي بن أبي طالب | زوجة من يبغضه طالقه |
ثلاثة ليس لها رجعة | طالقة طالقة طالقه |
وله كما في المناقب:
حب علي بن أبي طالب | يميز الحر من النغل |
لا تعذلوه واعذلوا أمه | إذ تؤثر الجار على البعل |
وله كما في المناقب:
حب الوصي علامة | فيمن على الإسلام ينشو |
فإذا رأيت مناصبا | فاعلم بان أباه كبش |
وله كما في المناقب:
وإذا قرأنا هل أتى | قرأت وجوههم عبس |
وقال يرثي الحسين عليه السلام كما في المناقب وغيره من قصيدة:
عين جودي على الشهيد القتيل | واتركي الخد كالمحيل المهيل |
يا بني المصطفى بكيت وأبكيـ | ـت ونفسي لم تأتي بعد بسولي |
ليت روحي ذابت دموعا فابكي | للذي نالكم من التذليل |
فولائي لكم عتادي وزادي | يوم ألقاكم على سلسبيل |
لي فيكم مدائح ومراث | حفظت حفظ محكم التنزيل |
قد كفاها في الشرق والغرب فخرا | أن يقولوا من قيل إسماعيل |
ومتى كادني النواصب فيكم | حسبي الله وهو خير وكيل |
وله في الحكمين وفي رثائه عليه السلام من قصيدة:
ودعا إلى التحكيم لما | عضه حد الرماح |
فمضى أبو موسى وعمرو | جالب الشر البراح |
بابان قد فتحا إلى | شر يدوم على انفتاح |
هم وكدوا أمر الدعي | يزيد ملفوظ السفاح |
فسطا على روح الحسين | وأهله جم الجماح |
أسد ولكن الكلاب | تعاورته بالنباح |
لم يعرفوا لضلالهم | فضل الزئير على الضباح |
صرعوهم قتلوهم | نحروهم نحر الأضاحي |
يا دمع حي على انسجام | ثم حي على انسفاح |
في أهل حي على الصلاة | وأهل حي على الفلاح |
يحمي يزيد نساءه | بين النضائد والوشاح |
وبنات أحمد قد كشفن | على حريم مستباح |
ليت النوائح ما سكتن | عن النياحة والصياح |
يا سادتي لكم ودادي | وهو داعية امتداحي |
وبذكر فضلكم اغتباقي | كل يوم واصطباحي |
لزم ابن عباد ولاءكم | الصريح بلا براح |
وله كما في المناقب:
نكث الدعي ابن الدعي ضواحكا | هي للنبي الخير خير مقبل |
وله هذه الأرجوزة:
يا زائرا قد قصد المشاهدا | وقطع الجبال والفدافدا |
فأبلغ النبي من سلامي | ما لا يبيد مدة الأيام |
حتى إذا عدت لأرض الكوفة | البلدة الطاهرة المعروفة |
وصرت في الغري في خير وطن | سلم على خير الورى أبي الحسن |
ثمة سر نحو البقيع الغرقد | مسلما على أبي محمد |
وعد إلى الطف بكربلاء | أهد سلامي أحسن الاهداء |
لخير من قد ضمه الصعيد | ذاك الحسين السيد الشهيد |
واجنب إلى الصحراء بالبقيع | فثم أرض الشرف الرفيع |
هناك زين العابدين الأزهر | وباقر العلم وثم جعفر |
أبلغهم عني السلام راهنا | قد ملأ البلاد والمواطنا |
واجنب إلى بغداد بعد العيسا | مسلما على الزكي موسى |
واعجل إلى طوس على أهدى سكن | مبلغا تحيتي أبا الحسن |
وعد لبغداد بطير أسعد | سلم على كنز التقى محمد |
وأرض سامراء أرض العسكر | سلم على علي المطهر |
والحسن الرضي في أحواله | من منبع العلوم في أقواله |
فإنهم دون الأنام مفزعي | ومن إليهم كل يوم مرجعي |
وله:
بمحمد ووصيه وابنيهما | وبعابد وبباقرين وكاظم |
ثم الرضا ومحمد ثم ابنه | والعسكري المتقي والقائم |
أرجو النجاة من المواقف كلها | حتى أصير إلى نعيم دائم |
وله كما في المناقب:
قد قلت قولا صادقا بينا | وليست النفس به آثمة |
لكل شيء فاضل جوهر | وجوهر الناس بنو فاطمة |
رقعة فيها هذه الأبيات:
أيا صاحب الدنيا ويا ملك الأرض | أتاك كريم الناس في الطول والعرض |
له نسب من آل حرب مؤثل | مرائره لا تستميل إلى النقض |
فزوده بالجدوى ودثره بالعطا | لتقضي حق الدين والشرف المحض |
فكتب إليه الصاحب في جوابها:
أنا رجل يرميني الناس بالرفض | فلا عاش حربي يدب على الأرض |
ذروني وآل المصطفى خيرة الورى | فان لهم حبي كما لكم بغضي |
ولو إن عضوا مال عن آل أحمد | لشاهدت بعضي قد تبرأ من بعضي |
وله في إهداء السلام إلى الرضا ع:
يا قد مضى كأنه | البرق إذا ما أومضا |
أبلغ سلامي زاكيا | بطوس مولاي الرضا |
سبط النبي المصطفى | وابن الوصي المرتضى |
من حاز عزا أقعسا | وشاد مجدا أبيضا |
وقل له من مخلص | يرى الولا مفترضا |
في الصدر نفح حرقة | تترك قلبي حرضا |
من ناصبين غادروا | قلب الموالي ممرضا |
صرحت عنهم معرضا | ولم أكن معرضا |
نابذتهم ولم أبل | أن قيل قد ترفضا |
يا حبذا رفضي لمن | نابذكم وأبغضا |
ولو قدرت زرته | ولو على جمر الغضا |
لكنني معتقل | بقيد خطب عرضا |
جعلت مدحي بدلا | من قصده وعوضا |
أمانة موردة | على الرضا ليرتضى |
رام ابن عباد بها | شفاعة لن تدحضا |
من سائر شعره
ننقله من اليتيمة وغيرها مفردين من كل نوع على حدة.
الأدب والحكمة
لقد صدقوا والراقصات إلى منى | بان مودات العدا ليس تنفع |
ولو أنني داريت دهري حية | إذا استمكنت يوما من اللسع تلسع |
وله:
إذا أدناك سلطان فزده | من التعظيم واحذره وراقب |
فما السلطان إلا البحر عظما | وقرب البحر محذور العواقب |
وقال في معنى الحديث: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فان ابن
عمران ذهب ليقتبس نارا فعاد بالنبوة:
أيها المرء كن لما لست ترجو | لك أرجى من الذي أنت راجي |
فابن عمران جاء يقتبس النار | فناجاه ثم خير مناجي |
وقال:
كم نعمة عندك موفورة | لله فاشكر يا ابن عباد |
قم فالتمس زادك وهو التقي | لن تسلك الطرق بلا زاد |
وقال وقيل أنهما لابن خالويه | وظاهر الحال أنهما للصاحب: |
وقائلة لم عرتك الهموم | وأمرك ممتثل في الأمم |
فقلت دعيني على غصتي | فان الهموم بقدر الهمم |
وكتب إلى علوي عرض عليه من تعديه:
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه | فلا تترك التقوى اتكالا على النسب |
فقد رفع الإسلام سلمان فارس | وقد وضع الشرك الشريف أبا لهب |
في العيادة
: حق العيادة يوم بعد يومين | وجلسة مثل رد الطرف في العين |
لا تبرمن مريضا في مسألة | يكفيك من ذاك تسال بحرفين |
الصفات
وقال في وصف الخمرة:
رق الزجاج وراقت الخمر | وتشابها فتشاكل الأمر |
فكأنما خمر ولا قدح | وكأنما قدح ولا خمر |
وله فيها:
وقهوة قد حضرت بختمها | فقلت للندمان عند شمها |
لا تقبضن بالماء روح جسمها | فحسبها ما شربت من كرمها |
وقال فيها:
متغايرات قد جمعن وكلها | متشاكل أشباحها أرواح |
وإذا أردت مصرحا تفسيرها | فالراح والمصباح والتفاح |
لو يعلم الساقي وقد جمعن لي | من أي هذي تملأ الأقداح |
وقال في التفاح وفيها:
ولما بدا التفاح أحمر مشرقا | دعوت بكاسي وهي ملأى من الشقق |
وقلت لساقيها أدرها فإنها | خدود عذارى قد جعلن على طبق |
وقال فيها:
وكاس تقول العين عند جلائها | أهل الخدود الغانيات عصير |
تحاميتها إلا تعلل واصف | وقد يطرب الإنسان وهو كبير |
وقال فيها:
وصفراء أو حمراء فهي مخيلة | لرقتها إلا على المتوهم |
تشككنا في الكرم إن انتماءه | إلى الخمر أم هاتا إلى الكرم تنتمي |
تمتع ندمان بها وأحبة | وحظي منها إن أقول لها انعمي |
لك الوصف دون القصف مني فخيمي | بغير يدي وأرضي بما قاله فمي |
وقال يصف الصدع:
يا شادنا في صدغه عقرب | ما يستجيب الدهر للراقي |
يسلم خداه على لدغها | ولدغها في كبدي باقي |
وقال فيه:
وعهدي بالعقارب حين تشتو | تخفف لدغها وتقل ضرا |
فما بال الشتاء أتى وهذي | عقارب صدغه تزداد شرا |
وقال يصف العذار:
إن كنت تنكره فالشمس تعرفه | أو كنت تظلمه فالحسن ينصفه |
ما جاءه الشعر كي يمحو محاسنه | وإنما جاءه غمدا يغلفه |
وقال:
لما بدا العارض في الخد | زاد الذي ألقى من الوجد |
وقلت للعذال يا من رأى | بنفسجا يطلع من ورد |
وقال:
دب العذار على ميدان وجنته | حتى إذا كاد إن يسعى به وقفا |
كأنه كاتب عز المداد له | أراد يكتب لاما فابتدا ألفا |
وقال:
عذار كالطراز على الطراز | وشمس في الحقيقة لا المجاز |
تبدأ عارضاه فعارضاني | وقالا لا تمر بلا جواز |
فقلت القلب عندكم مقيم | وما حسن الثياب بلا طراز |
وقال:
أنظر إليه كأنه | شمس وبدر حين أشرف |
والحظ محاسن خده | تعذر دموعي حين تذرف |
فكأنها الواوات حين | يخطها قلم محرف |
وقال:
إن لبس السواد أقوى دليل | لأمير يلي أمور العباد |
وأمير الملاح يأتيه عزل | حين تلقاه لابسا للسواد |
وقال يصف العذار والخط:
غزال يفتن الناس | مليح الخد والخط |
فهذا النمل في العاج | وهذا الدر في السمط |
وقال في الخط واللفظ:
بالله قل لي أقرطاس تخط به | في حلة هو أم ألبسته حللا |
بالله لفظك هذا سال من عسل | أم قد صببت على أفواهنا العسلا |
وقال في الخط:
وخط كان الله قال لحسنه | تشبه بمن قد خطك اليوم فائتمر |
وهيهات أين الخط من حسن وجهه | وأين ظلام الليل من صفحة القمر |
وقال يصف غلاما مثاقفا: أتى الصاحب بغلام مثاقف فلعب بين يديه
فاستحسن صورته وأعجب بمثاقفته فقال لأصحابه قولوا في وصفه فلم
يصنعوا شيئا فقال:
ومثاقف في غاية الحذق | فاق حسان الغرب والشرق |
شبهته والسيف في كفه | بالبدر إذ يلعب بالبرق |
وقال في وصف فلاة:
تيهاء لم تطمث بخف وحافر | ولم يدر فيها النجم كيف يغور |
معالمها إن لا معالم بينها | وآياتها إن المسير غرور |
ولو قيل للغيث اسقها ما اهتدى لها | ولو ظل ملء الأرض وهو جزور |
تجشمتها والليل وحف جناحه | كأني سر والظلام ضمير |
وقال في وصف الوحل:
إني ركبت وكف الأرض كاتبة | على ثيابي سطورا ليس تنكتم |
فالأرض محبرة والحبر من لثق | والطرس ثوبي ويمنى الأشهب القلم |
وقال في وصف حبة عنب:
وحبة من عنب | من المنى متخذه |
كأنها لؤلؤة | في وسطها زمردة |
وقال فيه:
وحبة من عنب قطفتها | تحسدها العقود في الترائب |
وحسبتها من بعد تمييزي لها | لؤلؤة قد ثقبت من جانب |
وقال يصف التين:
تين يزين رواؤه مخبوره | متخير في وصفه يتحير |
عسل اللصاب عليه مما يجتوي | وجنى النخيل لديه مر ممقر |
وكأنما هو في ذرى أغصانه | قطع النضار أدارهن مدور |
ويقول ذائقه لطيب مذاقه | الله أكبر والخليفة جعفر |
وقال في وصف باكورة خلاف:
وقضيب من الخلاف بديع | مستخص بأحسن الترصيع |
قد نعى شدة الشتاء علينا | وسعى في جلاء وجع الربيع |
وحكى من أحب عرفا وظرفا | واهتزازا يثير ما في ضلوعي |
رقة ما نظمت نحو بديع | المجد حاكى الربيع حسن صنيع |
وقال يصف الثلج:
أقبل الثلج فانبسط للسرور | ولشرب الكبير بعد الصغير |
أقبل الجو في غلائل نور | وتهادى بلؤلؤ منثور |
فكان السماء صاهرت الأرض | فأصر النثار من كافور |
وقال فيه:
هات المدامة يا غلام معجلا | فالنفس في قيد الهوى ماسوره |
أوما ترى كانون ينثر ورده | وكأنما الدنيا به كافوره |
وقال فيه:
هات المدامة يا غلام مصيرا | نقلي عليها قبلة أو عضه |
أوما ترى كانون ينثر ورده | وكأنما الدنيا سبيكة فضة |
وقال يصف الشمع:
ورائق القد مستحب | يجمع أوصاف كل صب |
صفرة لون وسكب دمع | وذوب جسم وحر قلب |
ند لفخر الدولة استعماله | قد زاد عرفا من نسيم يديه |
فكأنما عجنوه من أخلاقه | وكأنه طيب الثناء عليه. |
التشوق إلى أصفهان
في كتاب محاسن أصفهان للمفضل بن سعد المافروخي الأصفهاني أنه
لما افتتح الصاحب جرجان وشاهد طبرستان وقاسهما إلى أصفهان قال هذه
الأبيات:
يا أصفهان سقيت الغيث من كثب | فأنت مجمع أوطاري وأوطاني |
والله والله لا أنسيت برك بي | ولو تمكنت من أقصى خراسان |
سقيا لأيامنا والشمل مجتمع | والدهر ما خانني في قرب أخواني |
ذكرت ديمرت إذ طال الثواء بها | يا بعد ديمرت من أبواب جرجان |
الغزل
قال أبو بكر الخوارزمي أنشدني الصاحب نتفة له منها هذا البيت:
لئن هو لم يكفف عقارب صدغه | فقولوا له يسمح بترياق ريقه |
وقال:
وتسحب ما أردت على الصباح | فهم ليل وأنت أخو الصباح |
لقد أولاك ربك كل حسن | وقد ولاك مملكة الملاح |
وبعد فليس يحضرني شراب | فانعم من رضابك لي براح |
وليس لدي نقل فارتهني | بنقل من ثناياك الوضاح |
وقال:
علي كالغزال وكالغزالة | رأيت به هلالا في غلاله |
كان بياض غرته رشاد | كان سواد طرته ضلاله |
كان الله أرسله نبيا | وصير حسنه أقوى دلاله |
إذا ما زدت وصلا زدت خبلا | كان حيال وصلك لي خباله |
وقال:
وشادن جماله | تقصر عنه صفتي |
أهوى لتقبيل يدي | فقلت لا بل شفتي |
وقوله:
وشادن أصبح فوق الصفة | قد ظلم الصب وما أنصفه |
كم قلت إذ قبل كفي وقد | تيمني يا ليت كفي شفه |
وقوله:
بدا لنا كالبدر في شروقه | يشكو غزالا لج في عقوقه |
يا عجبا والدهر في طروقه | من عاشق أحسن من معشوقه |
وقال:
ما لذة أكمل في طيبها | من قبلة في أثرها عضه |
خلستها بالكره من شادن | يعشق منه بعضه بعضه |
وقال:
قد قلت لما مر يخطر ماشيا | والناس بين معوذ أو عاشق |
لم يكف ما صنعت شقائق خده | حتى تلبس حلة بشقائق |
وقال:
دعتني عيناك نحو الصبا | دعاء يكرر في كل ساعة |
ولولا تقادم عهد الصبا | لقلت لعينيك سمعا وطاعة |
وقال:
شتمت من تيمني مغالطا | لأصرف العاذل عن لجاجته |
فقال لما وقع البزاز في الثوب | علمنا أنه من حاجته |
وقال:
يا قمرا عارضني على وجل | وصاله يشبه تأخير الأجل |
وقال تبغي قبلة على عجل | قلت أجل ثم أجل ثم أجل |
وقال:
وشادن في الحسن كالطاووس | أخلاقه كليلة العروس |
وقد نال باللحظ من النفوس | ما لم تنله الروم من طرسوس |
وقال:
عزمت على الفصد يا سيدي | لفضل دم كظني مؤلم |
فلما تأخرت عن مجلسي | أرقت لغير افتضاد دمي |
وقال:
ومهفهف شكل المجون | أضنى الفؤاد بالفنون |
فنسيمه ملء الأنوف | وحسنه ملء العيون |
وقال:
كنا وأسباب الهوى متفقه | نبتا من الورد معا في ورقه |
فالآن إذ أسبابه مفترقه | قد صارت الأرض علينا حلقه |
وقال:
يا خاطرا يخطر في تيهه | ذكرك موقوف على خاطري |
إن لم تكن آثر من ناظري | عندي فلا متعت بالناظر |
المديح
قال من قصيدة في عضد الدولة:
سعود يحار المشتري في طريقها | ولا تتأتى في حساب المنجم |
وكم عالم أحييت من بعد عالم | على حين صاروا كالهشيم المحطم |
فو الله لولا الله قال لك الورى | مقال النصارى في المسيح ابن مريم |
محامد لو فضت ففاضت على الورى | لما أبصرت عيناك وجه مذمم |
وكلا ولكن لو حظوا بزكاتها | لما سمعت أذناك ذكر ملوم |
ولو قلت إن الله لم يخلق الورى | لغيرك لم أخرج ولم أتأثم |
وقال من أخرى:
همام رأى الدنيا سواما فحاطها | ليالي في غبر الزمان وقور |
ولم يخطب الدنيا احتفالا بقدرها | فموقعها من راحتيه يسير |
ولكن له طبع إلى الخير سابق | ورأي بأبناء الرجال بصير |
وإن لم يلاحظهم بعين حمية | فتلك أمور لا تزال تمور |
ومن أخرى:
يا أيها الملك الذي كل الورى | قسمان بين رجائه وحذاره |
فمناصح قد فاز سهم طلابه | ومداهن قد جال قدح بواره |
هذي بخارى تشتكي ألم الصدى | وتقول قولا نبت في أخباره |
ما ذا عليه لو يهم بعرصتي | فأكون بعض بلاده ودياره |
وكتب إلى مؤيد الدولة بويه أبي منصور:
سعادة ما نالها قط أحد | يحوزها المولى الهمام المعتمد |
مؤيد الدولة وابن ركنها | وابن أخي معزها أخو العضد |
وقال في بني المنجم:
لبني المنجم فطنة لهبية | ومحاسن عربية عجمية |
ما زلت امدحهم وأنشر فضلهم | حتى اتهمت بشدة العصبية |
وقال كما في محاسن أصفهان:
فلما تشكت أصفهان حنينها | إليك وأنت أنة المتألم |
نهضت لها من كبر همك نهضة | وقلت اطمئني إن عندك موسمي |
لجرت على سمك المجرة ذيلها | وتاهت على أرض الحطيم وزمزم |
الأخوانيات
عن تذكرة ابن عراق إن الصاحب كان قد مرض فلما برئ مرض
السيد أبو هاشم العلوي الطبري المعروف بالنسب والحسب الفاخرين
وكانت بينهما صداقة تامة فأرسل إليه الصاحب هذه الأبيات:
أبا هاشم ما لي أراك عليلا | ترفق بنفس المكرمات قليلا |
لترفع عن قلب النبي حزازة | وتدفع عن صدر الوصي غليلا |
فلو كان من بعد النبيين معجز | لكنت على صدق النبي دليلا |
فكتب أبو هاشم إليه:
دعوت اله الناس شهرا محرما | ليصرف سقم الصاحب المتفضل |
إلى بدني أو مهجتي فاستجاب لي | فها أنا مولانا من السقم ممتلي |
فشكرا لربي حين حول سقمه | إلي وعافاه ببرء معجل |
واسأل ربي إن يديم علاءه | فليس سواه مفزع لبني علي |
أبا هاشم لم أرض هاتيك دعوة | وإن صدرت عن مخلص متطول |
فلا عيش لي حتى تدوم مسلما | وصرف الليالي عن فناك بمعزل |
فان نزلت يوما بجسمك علة | وحاشاك منها يا علاء بني علي |
فناد بها في الحال غير مؤخر | إلى جسم إسماعيل دوني تحولي |
وقال في مرض علوي:
يا سيدا أفديه عند شكاته | بالنفس والولد الأعز وبالأب |
لم لا أبيت على الفراش مسهدا | وقد اشتكى عضو من أعضاء النبي |
المراسلة بينه وبين أبي إسحاق الصابئ
ومدائح أبي إسحاق فيه
في معجم الأدباء: قرأت في كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ قال كان الصاحب يحمل إلى أبي إسحاق إبراهيم بن هلال خمسمائة دينار والي ألف درهم جبلية مع جعفر بن شعيب فادكر وقد راسله بعد وفاة عضد الدولة بالاستدعاء إلى حضرته بالري وبذل له النفقة الواسعة عند شخوصه والإرغاب والإكثار عند حضوره فكانت عقله بالذيل الطويل
والظهر الثقيل تمنعه من ترك موضعه ومفارقة موطنه فمما كتبه إليه بالاعتذارعن التأخر:
نكصت على أعقابهن مطالبي | وتقاعست عن شاوهن ماربي |
وتبلدت مني القريحة بعد ما | كانت نفادا كالشهاب الثاقب |
وبكيت شرخ شبيبتي فدفنتها | دفن الأعزة في العذار الشائب |
فلو إن لي ذاك الجناح لطار بي | حتى أقبل ظهر كف الصاحب |
وأعيش في سقيا سحائبه التي | ضمنت سعادة كل جد خائب |
وأراجع العادات حول قبابه | حتى السواد من الشباب الذاهب |
وأعد من جلساء حضرته التي | شحنت بكل مسائل ومجاوب |
فيقول من ذا سائل عني له | مستثبت فيقول هذا كاتبي |
أترى أروم بهمتي ما فوق ذا | أنى وخدمته أجل مراتبي |
ومنها يعتذر:
كثرت عوائقي التي تعتاقني | عن غيث راحته الملث الساكب |
ولد لهم ولد وبطن ثالث | هو رابعي وعشيرتي وأقاربي |
والسن تسع بعدها خمسون قد | شامت بوارق يومها المتقارب |
فالجسم يضعف عن تجشم راجل | والحال يقصر عن ترفه راكب |
وعلي للسلطان طاعة مالك | كانت على المملوك ضربة لازب |
وتعطلي مع شهرتي كتصرفي | كل سواء في حساب الحاسب |
وهي طويلة فلما كانت سنة 384 التي توفي فيها جدي أحس بانقضاء
مدته فكتب إلى الصاحب كتابا يسأله فيه اقرار هذا الرسم على ولده من
بعده وقرن الكتاب بقصيدة أولها:
تحذر منك النائبات فتحذر | وتذكر للخطب الجسيم فيصغر |
وتكسى بك أدنيا ثياب جمالها | فيرجوك معروف ويخشاك منكر |
أسيدنا إن المنية أعذرت | إلى بآيات تروع وتذعر |
لها نذر قد آذنتني بهجمة | على مورد ما عنه للمرء مصدر |
وإني لأستحلي مرارة طعمه | إذا كنت بالتقديم لي تتأخر |
وحق لنفس كان منك معاشها | إذا غمضت عينا وعينك تنظر |
ومن ورث الأولاد بعد وفاته | حضانك طابت نفسه حين يقبر |
تمرد منك الجود حتى تمردت | مطالبنا والماجد الحر يصبر |
أأطلب منك الرفد عمري كله | وأطلبه والجنب مني معفر |
وليست بأولى بدعة لك في الندى | لها موقف في الناس بالحمد ينشر |
وهي طويلة. قال هلال بن المحسن وأمرني بان أنفذ ذلك فأنفذته
وكتبت عن نفسي كتابا في معناه ووصل ونفذ من يحمل الرسم على العادة ثم
اتفق إن توفي الصاحب أول سنة 385 فوقف وكانت بين وفاتيهما شهور
(انتهى).
الهجاء
قال يهجو ابن متوبة:
يا فتى متوبة رفقا | لست من ينكر أصله |
أنت نذل من كرام | أنت في الطاووس رجله |
وقال:
أبوك أبو علي ذو علاء | إذا عد الكرام وأنت نجله |
وأن أباك إذ تعزى إليه | لكالطاوس يقبح منه رجله |
وقال في قاض:
يا قاضيا بات أعمى | عن الهلال السعيد |
أفطرت في رمضان | وصمت في يوم عيد |
وقال:
لنا قاض له رأس | من الخفة مملوء |
وفي أسفله داء | بعيد منكم السوء |
وقال:
إن قاضينا لأعمى | أم على عمد تعامى |
سرق العيد كان | العيد أموال اليتامى |
وقال في ابن حمزة:
قل لابن حمزة يمسح | بكفه عارضيه |
فقد قرأت بخديه | والمرسلات عليه |
وقال:
رأيت لبعض الناس فضلا إذا انتمى | يقصر عنه فضل عيسى بن مريم |
عزوه إلى تسع وتسعين والدا | وليس لعيسى والد حين ينتمي |
وقال في ثقيل:
تزلزلت الأرض زلزالها | فقالوا بأجمعهم ما لها؟ |
مشى ذا الثقيل على ظهرها | فأخرجت الأرض أثقالها |
وقال:
نبئت أنك منشد ما قلته | في سب عرضك لا تخاف وعيدي |
والكلب لا يخزى إذا أخساته | والقار لا يخشى من التسويد |
وقال:
يا أهل سارية السلام عليكم | قد قل في أرضيكم الخطباء |
حتى غدا الفأفاء يخطب فيكم | ومن العجائب خاطب فأفاء |
وقال في طفيلي:
مطفل أطفل من أشعب | ما زال محروما ومذموما |
لو أنه جاء إلى مالك | لقال أطعمني زقوما |
وقال:
أنظر إلى وجه أبي زيد | أوحش من حبس ومن قيد |
وحوشه ترتع في ثوبه | وظفره يركب للصيد |
وقال:
وناصح أسرف في النكير | يقول لي سدت بلا نظير |
فكيف صغت الهجو في حقير | مقداره أقل من نقير |
فقلت لا تنكر وكن عذيري | كم صارم جرب في خنزير |
وقال في المنجمين:
خوفني منجم أخو خبل | تراجع المريخ في برج الحمل |
فقلت دعني من أباطيل الحيل | فالمشتري عندي سواء وزحل |
ادفع عني كل آفات الدول | بخالقي ورازقي عز وجل |
في اليتيمة: حدثني أبو الحسن الداني المصيصي قال انتحل فلان
يعني أحد المتشاعرين بحضرة الصاحب شعرا له وبلغه ذلك فقال أبلغوه
عني:
سرقت شعري وغيري | يضام فيه ويخدع |
فسوف أجزيك صفعا | يكد رأسا وأخدع |
فسارق المال يقطع | وسارق الشعر يصفع |
فاتخذ الليل جملا وهرب من الري.
المراثي
قال يرثي كثير بن أحمد الوزير:
يقولون لي أودى كثير بن أحمد | وذلك مرزوء علي جليل |
فقلت دعوني والعلا نبكه معا | فمثل كثير في الرجال قليل |
وقال يرثي أبا الحسن السلمي:
إذا ما نعى الناعون أهل مودتي | بكيت عليهم بل بكيت على نفسي |
نعوا مهجة السلمي وهي سلامة | غلبت عليها فالسلام على الأنس |
الملح والنوادر
في اليتيمة: حدث البديع الهمذاني قال كان رجل من الفقهاء يعرف بابن الخضيري يحضر مجلس النظر للصاحب بالليالي فغلبته عيناه مرة وخرجت منه ريح لها صوت فخجل وانقطع فقال الصاحب أبلغوه عني:
يا ابن الخضيري لا تذهب على خجل | لفعلة أشبهت نايا على عود |
فإنها الريح لا تستطيع تمسكها | إذ أنت لست سليمان بن داود |
وقال الصاحب:
راسلت من أهواه أطلب زورة | فأجابني أولست في رمضان؟ |
فأجبته والقلب يخفق صبوة | أتصوم عن بر وعن إحسان |
صم إن أردت تحرجا وتعففا | عن إن تكد الصب بالهجران |
أو لا فزرني والظلام مجلل | واحسبه يوما مر في شعبان |
وكتب إلى أبي الحسن الطبيب مداعبا:
أنا دعوناك على انبساط | والجوع قد أثر في الأخلاط |
فان عسى ملت إلى التباطي | صفعت بالنعل قفا بقراط |
أبا العلا يا هلال الهزل والجد | كيف النجوم التي يطلعن في الجلد |
وباطن الجسم غر مثل ظاهره | وأنت تعلم مما قلته قصدي |
وقال للقاضي أبي بشير الجرجاني:
يصد الفضل عنا أي صد | وقال تاخري عن ضعف معده |
فقلت له جعلت العين واوا | فان الضعف أجمع في المودة |
وقال:
بعدت فطعم العيش عندي علقم | ووجه حياتي مذ تغيبت أرقم |
فما لك قد أدغمت قربك في النوى | وودك في غير النداء مرخم |
وكتب إلى صديق له في صبيحة عرسه:
قلبي على الجمرة يا أبا العلا | فهل فتحت الموضع المقفلا |
وهل فككت الختم عن كيسه | وهل كحلت الناظر الأحولا |
إنك إن قلت نعم صادقا | فابعث نثارا يملأ المنزلا |
وإن تجبني من حياء بلا | أبعث إليك القطن والمغزلا |
وعاتب الصاحب يوما رجلا قد زوج أمه فقال الرجل ما في الحلال باسا فتصب باسا وهي مرفوعة فقال الصاحب كذا أحب إن تكون لغة من اشتهى إن تتزوج أمه ثم قال فيه:
زوجت أمك يا أخي | فكسوتني ثوب القلق |
والحر لا يهدى الحرام اللحوم | إلى الرجال على الطبق |
وقال فيه أيضا:
عذلت بتزويجه أمه | فقال فعلت حلالا يجوز |
فقلت حلالا كما قد زعمت | ولكن سمحت بصدع العجوز |
وقال:
ولما تناءت بالأحبة دارهم | وصرنا جميعا من عيان إلى وهم |
تمكن مني الشوق غير مسامح | كمعتزلي قد تمكن من خصم |
وورد أبو حفص الشهرزوري على الصاحب وكان في بصره سوء وقدمه إليه بعض كتابه فقال له الصاحب مداعبا:
وكاتب جاءنا باعمى | لم يحو علما ولا نفاذا |
فقلت للحاضرين كفوا | فقلب هذا كعين هذا |
وقال في أحد شعرائه أبي الحسن البديهي:
تقول البيت في خمسين عاما | فلم لقبت نفسك بالبديهي |
إشارته في شعره إلى مذهبه في العدل
مر ذلك في عدة أبيات له كقوله: العدل والتوحيد والإمامة وقوله:
العدل والتوحيد في جانب وقوله: كل اعتقاد الاختيار رضينا وقوله:
العدل والتوحيد مذهبي الذي ومن طرائفه في ذلك قوله:
كنت دهرا أقول بالاستطاعة | وأرى الجبر ضلة وشناعه |
فقدت استطاعتي في هوى ظبي | فسمعا للمجبرين وطاعة |
وقوله كما في طبقات الأدباء:
تعرقت بالعدل في مذهبي | ودان بحسن جدالي العراق |
فكلفت في الحب ما لم أطق | فقلت بتكليف ما لا يطاق |
مدائحه
مر قول الثعالبي أنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك من فحولة الشعراء مثل ما اجتمع بباب الرشيد وأنه اجتمع بباب الصاحب من الشعراء من يربي عددهم على شعراء الرشيد ولا يقصرون عنهم في الإجادة وقول ابن بابك إن الصاحب قال مدحت بمائة ألف قصيدة وقول أبي الحسن بيهقي أنه مدحه خمسمائة شاعر من أرباب الدواوين وفي معجم الأدباء لما وجد الشعراء لبضائعهم عند ابن عباد نفاقا وسوقا أهدوا نتائج أفكارهم إلى حضرته وساقوها نحوها سوقا (انتهى) فممن مدحه على البعد الشريف الرضي سنة 375 فقال من قصيدة ولم ينفذها إليه:
أيا خاطبا ودي على الناي أنني | صديقك إن كنت الحسام المهندا |
فاني رأيت السيف أنصر للفتى | إذا قال قولا ماضيا أو توعدا |
أرى بين نيل العز والذل ساعة | من الطعن تقتاد الوشيج المقصدا |
فمن أخرته نفسه مات عاجزا | ومن قدمته نفسه مات سيدا |
إذا كان أقدام الفتى ضائرا له | فما المجد مطلوبا ولا العز مقتدى |
فدا لابن عباد ضنين بنفسه | إذا نقض الروع الطراف الممددا |
ودبر أطراف الرماح وإنما | يدبر قبل الطعن رأيا مسددا |
به طال من خطوي وكنت كأنني | مشيت إلى نيل المعالي مقيدا |
يسر الفتى حمل النجاد وربما | رأى حتفه في صفحتي ما تقلدا |
وما يستفاد العز من شيمة الفتى | إذا كان في دين المعالي مقلدا |
أبا قاسم هذا الذي كنت راجيا | لارغم أعداء وأكبت حسدا |
إذا جزعت أيامنا كنت معقلا | وإن ظمئت آمالنا كنت موردا |
وليل دفعناه إليك كأنما | دفعنا به لجا من اليم مزبدا |
وملك أنفنا إن نقيم ببابه | فزودنا زاد امرئ ما تزودا |
وأمرد حي ملتح بلثامه | يطول جوادا قارح السن أجردا |
تركنا لأيدي العيس ما خلف ظهرها | ومن ذل في دار رأى البعد أحمدا |
وسرنا على رغم الظلام كأننا | بدور تلاقي من جنابك أسعدا |
تركت إليك الناس طرا كأنني | أرى كل محجوب بعيرا معبدا |
فلله نور في محياك أنه | يمزق جلبابا من الليل أربدا |
ولله ما ضمت ثناياك أنها | ثنايا جبال تطلع الباس والندا |
وأنت الذي ما احتل في الأرض مقعدا | من الجد إلا اشتق في الجو مصعدا |
وما كنت إلا السيف يعرف منتضى | وينكر في بعض المواطن مغمدا |
وما كنت إلا السيف يعرف منتضى | وينكر في بعض المواطن مغمدا |
رمت بك أقصى المجد نفس شريفة | وقلب جرئ لا يخاف من الردى |
وهمة مقدام على كل فتكة | يفارق فيها طبعه ما تعودا |
لك القلم الماضي الذي لو قرنته | بجري العوالي كان أجرى وأجودا |
إذا انسل من عقد البنان حسبته | يحوك على القرطاس بردا معمدا |
وإن مج نصل من دم الضرب أحمرا | أراق دما من مقتل الخطب أسودا |
إذا استر عفته همة منك غادرت | قوادمه تجري وعيدا وموعدا |
سأثني بأشعاري عليك فإنني | رأيت مسود القوم يطري المسودا |
فما عرفتني الأرض غيرك مطلبا | ولا بلغتني العيس إلاك مقصدا |
لئن كنت في مدح العلى فاغرا فما | فاني إلى غير الندى باسط يدا |
خطبت إليك الود لا شيء غيره | وود الفتى كالبر يعطى ويجتدى |
وإني لأرجو من جوارك فعلة | أغيظ بها الحساد مثنى وموحدا |
ومدحك هذا بكر مدح مدحته | وكنت أروض القول حتى تسددا |
ولست براض هذه لك تحفة | أضمنها فيك الثناء المخلدا |
فإن كان شعري فاتك اليوم آبيا | علي فاني سوف أعطيكه غدا |
ولولاك ما أومى إلى المدح شاعر | يعد عليا للعلى ومحمدا |
أبوه أبوه المستطيل بنفسه | على العز مصروفا به ومقلدا |
فتى سنه عن خمس عشرة حجة | تربى له فضلا ومجدا ومحتدا |
تفرد لا يفشي إلى غير نفسه | حديثا ولا يدعو من الناس منجدا |
سأحمد عيشا صان وجهي بمائه | وإن كان ما أعطى قليلا مصردا |
وقالوا لقاء الناس أنس وراحة | ولو كنت أرضى الناس ما كنت مفردا |
طربت إلى الفضل الذي فيك وانتشى | لذكرك شعري راقدا ومسهدا |
وما كنت إلا عاشقا ضاع شجوه | فأصبح يستملي الحمام المغردا |
وليس عجيبا إن طغى فيك مقول | رآك حقيقا في المعالي فجودا |
فمرني بأمر قبل موتي فإنني | أرى المرء لا يبقى وإن بعد المدى |
وقال يمدحه وقد بلغه إن شيئا من شعره وقع إليه فأعجب به وأنفذ إلى بغداد لانتساخ تمام شعره وكتب بها إليه ذلك في المحرم سنة 385 وهي سنة وفاة الصاحب قبل وفاته بشهر:
إثر الهوادج في عراص البيد | مثل الجبال على الجمال القود |
يطلعن من رمل الشقيق لواغبا | زحف الجنوب بعارض ممدود |
كم بان في المتحملين عشية | من ذي لمى خصر الرضاب برود |
وقضيب اسحلة لو انعطف الصبا | يوما لنا بقوامه الأملود |
مروا على رملي زرود فهل ترى | الصاقة لحشى برمل زرود |
متلفتين من القباب كأنما | انتقبوا باعين ربرب وخدود |
غرسوا الغصون على النقى وترنحوا | من كل مائلة الغدائر رود |
إن اللآلئ بين أصداف اللمى | غلبت مراشفها على مجلودي |
ولووا بوعدي يوم خف قطينهم | ومن الصدود اللي بالموعود |
لم ترضني تلك الليالي عنهم | بنوالهم فأقول يوما عودي |
سيان قربهم علي وبعدهم | لولا الجوى وعلاقة المعمود |
ربعت على آثاركم نجدية | غراء ذات بوارق ورعود |
تسقي معالم منكم لولا النوى | لم أرمها بقلى ولا بصدود |
ولعجت فيها طارحا عن ناظري | ثقل الدموع وثانيا من جيدي |
هل تبردون حرارة من حائم | حران عن ذاك الغدير مذود |
فلقد تمعك في مواطئ عيسكم | يوم الوداع تمعك الموءود |
وأما وذياك الغزيل أنه | عرض الزلال وحال دون ورودي |
اغدوا إلى طرد الظباء وانثني | وأنا الطريدة للظباء الغيد |
حتام تعتلق البطالة مقودي | ويعودني لهوى الظعائن عيدي |
عشرون أردفها الزمان بأربع | أرهفنني ومنعن من تجريدي |
أعلقت في سرب الخطوب حبائلي | وقدحت في ظلم الأمور زنودي |
وكرعت في حلو الزمان ومره | ما شئت واعتقب العواجم عودي |
وفرعت رابية العلى متمهلا | أجري إمام الطالب المجهود |
وخطبت في المتعرضين بقولة | جداء من بدع الزمان شرود |
فضربت أوجههم بغير مناصل | وهزمت جمعهم بغير جنود |
ما ضرني لما فللت غروبهم | أني كثرت لهم وقل عديدي |
وأبي الذي حسد الرجال قديمه | أن المناقب آية المحسود |
ذو السن والشرف الذي جمعت به | كفاه أخمطة العلى والجود |
إحدى أخامصه رقاب عداته | من سيد بلغ العلى ومسود |
فالآن إذ نبذ المشيب شبيبتي | نبذ القذى وأقام من تاويدي |
وفررت من سن القروح تجاربا | وعسا على قعس السنين عمودي |
ولبست في الصغر العلى مستبدلا | أطواقها بتمائم المولود |
وصفقت في أيدي الخلائف راهنا | لهم يدي بوثائق وعقود |
وحللت عندهم محل المجتبى | ونزلت منهم منزل المودود |
فغر العدو يريد ذم فضائلي | هيهات ألجم فوك بالجلمود |
همسا فكم أسكت قبلك كاشحا | بمناقبي وعلي فضل مزيد |
ما لي أريغ النصف من متحامل | أو أطلب الإجمال عند حسود |
أم كيف يرأمني وليس بناتجي | أترى الرءوم تكون غير ولود |
فلأنهضن إلى المعالي نهضة | ملء الزمان تفي بطول قعودي |
وإذا التفت إلى العواقب بدلت | قلب الجري بمهجة الرعديد |
قد قلت للإبل الطلاح حدوتها | غلس الظلام بسائق غريد |
من كل مضطرب الزمام كأنه | في الليل زم بارقم مطرود |
فتل الطوى أجوافها بظهورها | وأحل أكل لحومها للبيد |
إن لم تري كافي الكفاة فلم يزل | منكن مسقط ظالع أو مودي |
بهداه يستضوي الورى وبهديه | قرب الطريق لهم إلى المعبود |
أسد إذا جر القبائل خلفه | حل الطلى بلوائه المعقود |
ومقصر في الطول غير مقصر | في الضرب يقطع كل حبل وريد |
ومزعزع مثل الجرير إذا انحنى | للطعن شيع بالطوال الميد |
ما مر يسحب منه إلا رده | ريان يقطر من دماء الصيد |
والجيش يرفع عمة من قسطل | فوق القنا ويجر ذيل حديد |
سلفا لكل كتيبة يطا العدى | فيها مفاجأة بغير وعيد |
في غلمة حملوا القنا وتحملوا | أعباء يوم المأزق المشهود |
قوم إذا ركبوا الجياد تجلببوا | بقساطل وتعمموا ببنود |
وإذا سروا كمنوا كمون أراقم | وإذا لقوا برزوا بروز أسود |
وإذا هتفت بهم ليوم كريهة | تدمى غوارب نحرها المورود |
كثروا الحصى بجموعهم وتلاحقوا | بك من قيام في السروج عقود |
كم من عدو قد أبات كأنما | يطوي الضلوع على قنا مقصود |
ومؤللات كالرماح تلمظت | فيها المنون تلمظ المزؤود |
سود المخاطم ينتظمن محاسنا | بيضا يضئن على الليالي السود |
كتفتح النوار فتقه الحيا | أو كالصباح فرى الدجى بعمود |
وجفان جود كالركايا تستقي | أبدا بأيدي نزل ووفود |
كم حجة لك في النوافل نوهت | بدعاء دين العدل والتوحيد |
ومجادل أدمى جدالك قلبه | وأعضه بجوانب الصيخود |
وشفيت ممترض الهدى من معشر | سدوا من الآراء غير سديد |
قارعتهم بالقول حتى أذعنوا | وأطلت نوم الصارم المغمود |
في كل معضلة أضب رتاجها | يلقي إليك الدين بالأقليد |
فالله يشكر والنبي محمد | وقفات مبد في النضال معيد |
رأي يغب إذا الرجال تلهو جوا | الآرا أو عجلوا عن التسديد |
لو كان يمكنني التقلب لم يكن | إلا إليك تهائمي ونجودي |
وطويت ما بعدت مسافة بيننا | أن البعيد إليك غير بعيد |
وأنخت عيسى في جنابك طارحا | بفناء دارك أنسعى وقتودي |
بيني وبينك حرمتان تلاقتا | نثري الذي بك يقتدي وقصيدي |
ووصايل الأدب التي تصل الفتى | لا باتصال قبائل وجدودي |
قد كنت أعقل عن سواك عقائلي | وأصون در قلائدي وعقودي |
وأحوك أفواف القريض فلا أرى | أني أدنس باللئام برودي |
ولقد ذممت الناس قبلك كلهم | فالآن طرق لي إلى المحمود |
أن أهد أشعاري إليك فإنه | كالسرد اعرضه على داود |
وسمحت بالموجود عند بلاغتي | أني كذاك أجود بالموجود |
قال الثعالبي: حدثني أبو عبد الله بن حامد الحامدي قال عهدي بأبي محمد الخازن ماثلا بين يدي الصاحب ينشده قصيدة له فيها أولها:
هذا فؤادك نهبي بين أهواء | وذاك رأيك شورى بين آراء |
هواك بين العيون النجل مقتسم | داء لعمرك ما أبلاه من داء |
لا تستقر بأرض أو تسير إلى | أخرى بشخص قريب عزمه نائي |
يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبالـ | ـعذيب يوما ويوما بالخليصاء |
وتارة تنتحي نجدا وآونة | شعب العقيق وطورا قصر تيماء |
قال فرأيت الصاحب مقبلا عليه بمجامعه حسن الإصغاء إلى إنشاده مستعيدا أكثر أبياته مظهرا من الإعجاب به والاهتزاز له ما يعجب الحاضرين فلما بلغ قوله:
ادعى بأسماء نبزا في قبائلها | كان أسماء أضحت بعض أسمائي |
أطلعت شعري وألقت شعرها طربا | فألفا بين أصباح وأمساء |
زحف عن دسته طربا فلما بلغ قوله في المدح:
لو إن سحبان باراه لا سحبه | على خطابته أذيال فأفاء |
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها | إليه مستبقات أي القاء |
فساس سبعتها منه بأربعة | أمر ونهي وتثبيت وامضاء |
كذاك توحيده ألوى بأربعة | كفر وجبر وتشبيه وارجاء |
جعل يحرك رأس مستحسن فلما أنشد:
نعم تجنب لا يوم العطاء كما | تجنب ابن عطاء لفظة الراء |
استعاده وصفق بيديه ولما ختمها بهذه الأبيات:
اطري واطرب بالأشعار أنشدها | أحسن ببهجة اطرابي واطرائي |
ومن منائح مولانا مدائحه | لأن من زنده قدحي وايرائي |
فخذ إليك ابن عباد محبرة | لا البحتري يدانيها ولا الطائي |
قال أحسنت أحسنت ولله أنت وتناول النسخة وتشاغل بإعارتها نظره ثم أمر بخلعة وحملان وصلة.
قال الثعالبي وسمعت أبا القاسم الكرخي يقول دخل أبو سعيد الرستمي يوما دار الصاحب فنظر إلى الخلع والأقبية السلطانية المحمولة برسم الصاحب والناس يقيمون رسم النثار لها فارتجل قصيدة أولها:
ميلوا إلى هذه النعمى نحييها | ودار ليلى فخلوها لأهليها |
جري الشعراء بحضرة الصاحب
في ميدان اقتراحه
قد عرفت أنه لم يجتمع بباب أحد الملوك والوزراء ما اجتمع بباب الصاحب وكانوا يتجارون بحضرته في أمور يقترحها عليهم مما دل على ترويجه سوق الأدب وقد نقل الثعالبي في يتيمة الدهر شيئا كثيرا من ذلك كالديارات والبرذونيات والفيليات وغيرها.
القصائد البرذونيات
لما نفق برذون أبي عيسى ابن المنجم بأصبهان وكان أصدأ وهو الأشقر الذي يعلوه سود قد حمله الصاحب عليه وطالت صحبته له أوعز الصاحب إلى الندماء المقيمين في جملته إن يعزوا أبا عيسى ويرثوا أصدأه فقال كل منهم قصيدة فريدة فمن قصيدة أبي القاسم الزعفراني:
كل مدى الدهر في حمى النعماء | مستهينا بحادث الأرزاء |
بك يا أحمد بن موسى التسلي | والتعزي عن سائر الأشياء |
ومعزيك لا يزيدك خبرا | بالذي قد عرفته بالعزاء |
قد سخا طرفك المفارق | بالنفس وطرفي من بعده بالماء |
يا له جمرة ونجما وشؤبوبا | وبرقا وطائرا في الرواء |
راكب الليل خائض السيل عين | الخيل عانته أعين الأعداء |
فقد الوحش منه أول قطاع | إليها المدى إمام الضراء |
واستراحت من نقعة مقلة الشمس | ومن لطمة خدود الفضاء |
ما بدا والصباح قد لاح إلا | جاءنا من قتامه بالمساء |
وترى الطود حين يمثل مجموعا | على ضمر القنا في الهواء |
كم ركبت البراق منه أبا عيسى | وإن لم تكن من الأنبياء |
فرس لو علاه ذو الزهد عمرو | بن عبيد لتاه في الخيلاء |
عدة الفارس الذي خانه الصبر | فرامى بصدره في اللقاء |
قد تمليته وإن كنت ما | شاهدت في ظهره وغى الهيجاء |
فترى ما يراه غيرك في الحر | ب وتقلى طريقة الندماء |
كل بؤسي أتتك من قبل الله | فسلم فيها لجاري القضاء |
سوف تعتاض من خصيك فحلا | لم يشنه بيطاره بالخصاء |
من لهى سيد سخي سري | يشتري بالغلاء كل العلاء |
أي رزء وأي وزر على من | يتقوى بانهض الوزراء |
أيها الصاحب الجليل أتم | الله نعماك عندنا بالنماء |
كم كرعنا من كف عرفك في | كفك أصفى ماء بأوفى اناء |
سنة سنها فتى لا يريد الـ | ـوصل بين البيضاء والصفراء |
جمع الله شمل معتصم منـ | ـك بحبلي مودة وولاء |
ومن قصيدة أبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني:
جمل الله ما دهاك وعزا | فعزاء إن الكريم معزى |
والحصيف الكريم من إن أصابت | نكبة بعض ما يعز تعزى |
هي ما قد علمت أحداث دهر | لم تدع عدة تصان وكنزا |
قصدت دولة الخلافة جهرا | فأبادت عمادها والمعزا |
وقديما أفنت جديسا وطسما | حفزتهم إلى المقابر حفزا |
اصغ والحظ ديارهم وهل ترى من | أحد منهم وتسمع ركزا |
ذهب الطرف فاحتسب وتصبر | للرزايا فالحر من يتعزى |
فعلى مثله استطير فؤاد الـ | ـحازم الندب حسرة واستفزا |
لم يكن يسمح القياد على الهو | ن ولا كان نافرا مشمئزا |
رب يوم رأيته بين جرد | تتقفاه وهو يجمز جمز |
وكان الأبصار تعلق منه | بحسام يهز في الشمس هزا |
وتراه يلاعب العين حتى | تحسب العين أنه يتهزا |
وسواء عليه هجر أو أسـ | ـرى أو انحط أو تسنم نشزا |
وكان المضمار يبرز منه | متن حسي ينز بالماء نزا |
استراحت منه الوحوش وقد كان | يراها فلا ترى منه حرزا |
كم غزال أنحى عليه وعير | نال منه وكم تصيد فزا |
وصروف الزمان تقصد فيما | يستفيد الفتى الأعز الأعزا |
فإذا ما وجدت من جزع النكـ | ـبة في القلب والجوانح وخزا |
فتذكر سوابقا كان ذا الطر | ف إليهن حين يمدح يعزى |
أين شق وداحس وصبيب | غمزتها حوادث الدهر غمزا |
غلن ذا اللمة الجواد ولزت | طربا واللزاز والسلب لزا |
ولقد بزت الوجوه ومكتوما | بني أعصر وأعوج بزا |
وتصدت للاحق فرمته | وغراب وزهدم فاستفزا |
فاحمد الله إن أهون ما ترز | أما كنت أنت فيه المعزى |
قد رثينا ولم نقصر وبالغـ | ـنا وفي البعض ما كفاه واجزا |
ومن العدل إن تثاب أبا عيـ | ـسى على قدر ما فعلنا ونجزى |
ومن قصيدة أبي القاسم بن أبي العلاء:
عزاء وإن كان المصاب جليلا | وصبرا وإن لم يغن عنك فتيلا |
وخفض أبا عيسى عليك ولا تفض | دموعا وإن كان البكاء جميلا |
وراجع حجاك الثبت لا يغلب الأسى | أساك وإن حملت منه ثقيلا |
ولا تستفزنك الهموم وبرحها | فحلمك قبل اليوم كان أصيلا |
وإن نفق الطرف الذي لو بكيته | دما كان في حكم الوفاء قليلا |
أقب يروق العين حسنا ومنظرا | ويرجعها يوم الحضار كليلا |
إذا ما بدا أبدى لعطفك هزة | ونفسك إعجابا به وقبولا |
إذا قلت قف أبصرته الماء جامدا | وان قلت سر ماء أصاب مسيلا |
خلت قصبات السبق منه وأيقنت | رياح الصبا إن لا يجدن رسيلا |
بكته جلال الخز وانتخبت له | مخالي حرير رحن منه عطولا |
أقام عليه آل أعوج مأتما | وأعلى له آل الوجيه عويلا |
ففي كل اصطبل أنين وزفرة | تردد فيه بكرة وأصيلا |
ولو وفت الجرد الجياد حقوقه | لما رجعت حتى الممات صهيلا |
ولو أنصفته الخيل ما ذقن بعده | شعيرا ولا تبنا ومتن غليلا |
فقدت أبا عيسى بطرفك مركبا | جليلا وخلا ما علمت نبيلا |
عتادك في الجلى وكهفك في الوغى | وعونك يوما إن أردت رحيلا |
تفرقتما لا عن تقال وكنتما | لفرط التصابي مالكا وعقيلا |
وهبت لعقبان الفلاة لحومه | وكنت به لولا القضاء بخيلا |
على أنها الأيام شتى صروفها | تذل عزيزا أو تعز ذليلا |
ومن قصيدة أبي الحسن السلامي:
فدى لك بعد رزئك من ينام | ومن يصبو إذا سجع الحمام |
الا نفق الجواد فلا عجاج | تقوم به الحروب ولا ضرام |
وكان إذا طغت حرب عوان | جرى ورسيله الموت الزؤام |
إذا رميت به الغايات صلت | صفوف الخيل وهو لها امام |
تمهر في الوقائع فهو مهر | ولا سرج عليه ولا لجام |
فلما لم يدع في الأرض قرنا | تخونه فعاجله الحمام |
وعود عافيات الطير طعما | وشرب دم إذا حرم المدام |
فلما لم يطق نهضا أتته | فقال لها أنا ذاك الطعام |
وجاد بنفسه إذ لم يجد ما | يجود به كذا الخيل الكرام |
وكنت البدر عارضه كسوف | بنحس حين تم له التمام |
فلا تبعد وإن أبعدت عنا | فهذا العيش ليس له انتظام |
إذا لم يكشف إلا صدا همومي | فليت الخيل أصداء وهام |
طوى الحدثان طرفك يا ابن يحيى | فطرفي ما يعاوده المنام |
ولم أحضره يوم قضى فيشكو | تحمحمه الذي صنع السقام |
ألم أقسم عليك لتخبرني | أمحمول على النعش الهمام |
مضوا يتناقلون به خفافا | عليه من الضباع له قيام |
فبزوه وما عروة درعا | نبت عنه الصوارم والسهام |
أبا عيسى تعز فدتك نفسي | فان الموت قرن لا يضام |
أقم في ظل إسماعيل تضمن | لك الدرك السلامة والدوام |
وعظت بها أخا ورثيت مالا | وأديت الأمانة والسلام |
ومن قصيدة أبي محمد الخازن:
لو سامح الدهر أعصما صدعا | أو كاسرا فوق مربا رقعا |
أبقى لنا ذلك الجواد ولم | يغد لصفو الهبات منتزعا |
لست أقيل الزمان عثرته | فليس يدري الزمان ما صنعا |
آه على ذلك الجواد فقد | جرع قلبي من كاسه جرعا |
لم يكب في جريه إذا كبت الخيل | ولا قال راكبوه لعا |
إذا هوى فالعقاب منخفضا | وإن رقى فالسحاب مرتفعا |
أوجعك الله يا زمان فقد | رحت حزينا بفقده وجعا |
كم قلت للنفس وهي مزعجة | أيتها النفس اجملي جزعا |
لا تصحب الهم في الجواد أبا | عيسى ودعه ولا تكن جزعا |
فنائل الصاحب الجليل أبي | القاسم إسماعيل الحيا همعا |
وانظر إليه كأنه قمر | أزهر من ثني دسته طلعا |
ولا تضيق بالذي فقدت يدا | أن لنا في نداه متسعا |
فاسمع قريضا من موجع جزع | ويرحم الله صاحبا سمعا |
ومن قصيدة أبي سعيد الرستمي:
لو أعتب الدهر من يعاتبه | ولان للعاذلين جانبه |
أو كان يصغي إلى شكاة شج | صبت على قلبه مصائبه |
أحسنت عنك المناب في حرق | تشعلها في الحشى نوائبه |
لهفي على ذلك الجواد وهل | يفك رهن المنون نادبه |
لهفي على ذلك الجواد مضى | في سفر لا يؤوب غائبه |
لو تعرف الخيل من نعيت لها | ضاقت بها في السرى مذاهبه |
تباشر الوحش في الفلاة له | فقد صفت بعده مشاربه |
تبكي لتقريبه الرياح معا | فهن في جريها أقاربه |
عهدي به والجنوب تجنبه | إذا جرى والصبا تجانبه |
والهوج في حضره تحاذره | والنكب في سيره تناكبه |
يا حسنة والعيون ترمقه | وأنت يوم الرهان راكبه |
ترخي عليه العنان في عنق | حتى إذا ما التوى تجاذبه |
اصدأ يحكي الظلام غرته | البدر وتحجيله كواكبه |
أعاره الروض وشي زهرته | فعاد في لونه يناسبه |
وطالب لا يفوز هاربه | وهارب لا ينال طالبه |
كم موكب سار في جوانبه | فاهتز زهوا به كتائبه |
ومجهل راح وهو جائبه | لولاه لم تطوه نجائبه |
صبرا جميلا وإن سلبت أبا | عيسى جليلا فالموت سالبه |
والموت إن جار في الحكومة أو | أنصف فالمرء لا يغالبه |
في الصاحب المرتجى لنا خلف | من كل ماض خفت ركائبه |
إن نفق الطرف أو أصبت به | ما نفقت عندنا مواهبه |
لم يود طرف وإن فقدت به | علقا نفيسا ما عاش واهبه |
دام لنا في النعيم ما طلعت | شمس وجلى الظلام ثاقبه |
ومن قصيدة أبي العباس الضبي:
دعا ناظري يفقد لذيذ اغتماضه | وقلبي يستشعر أليم ارتماضه |
فقد جاد سباق الجياد بنفسه | فلا ظهر منها لم يمل لأنهياضه |
نفوس عتاق الخيل فيضي لفقده | وأعينها فيضي لو شك انقراضه |
وأظهرها حطي السروج تجعا | لو وردي ماء الردى من حياضه |
لقد كان وفق الجو عند ارتفاعه | نشاطا وملء الأرض عند انخفاضه |
لو إن خدود الورد أرض لأرضه | لما مسها منه أذى بارتكاضه |
يريك نحول السهم عند اقتباله | ويبدي مثول الطود عند اعتراضه |
وقور إذا خليته وطباعه | وإن هزهز الأرضين فرط انتفاضه |
ويخفى اصطفاق الرعد رجع صهيله | ويخفت صوت الليث بين غياضه |
تعز أبا عيسى ولبك ثابت | وحبل التسلي لم يرع بانتقاضه |
ومن عرف الدنيا استهان بخطبها | ولا سيما من طال عهد ارتياضه |
ولو قبل الدهر الخئون ذخائري | لقدمتها عنه رضي باعتياضه |
وهذا مصابي لو غدا زاد مرضع | لشيب فوديه اشتعال بياضه |
سقى الأصدأ الكدري ما نقع الصدا | غمام حداه الرعد عند ائتماضه |
وفي بعض حملان الوزير معوضة | وسلوان قلب مسلم لانقضاضه |
فسر كيفما آثرت فوق جياده | ومس كيفما أحببت بين رياضه |
ومن أرجوزة أبي دلف الخزرجي:
دهر على أبنائه وثاب | تعجمهم أنيابه الصلاب |
فما لهم من كيده حجاب | يا لك دهرا كله عقاب |
أصبح لا يردعه العتاب | أن المنايا ولها أسباب |
تصيدنا والصيد مستطاب | واها لناء ما له أياب |
لكل قلب بعده اكتئاب | مسموم تعنو له الاسراب |
أصدأ بادي الحسن لا يعاب | قد كملت في طبعه الآداب |
وهذبت أخلاقه العذاب | أقب مما ولد الأعراب |
ذو نسب تحسده الأنساب | وميعة ينزو بها الشباب |
كأنما غرته شهاب | كأنما لبانه محراب |
كأنما حجوله سراب | كأنما حافره مجواب |
للصخر عند وقعه التهاب | إذا تدانى فهو الحباب |
إلى القرارات له انصباب | وإن علا فالصقر والعقاب |
للريح في مذهبه ذهاب | فالوحش ما يلقاه والهراب |
دماؤها لنحره خضاب | يا غائبا طال به الاياب |
لا خبر منك ولا كتاب | ما كنت إلا روضة تنتاب |
مستأنسا تالفك الرحاب | تعشقك العيون والألباب |
ترتج كالموج له عباب | تناوبتك للردى أنياب |
تجزع من أمثالها الأحباب | وكنت لو طالت بك الأوصاب |
يخف في مصرعك المصاب | ما طاب عن إضرابك الإضراب |
ولا صحا من حبك الأصحاب | وأنت فرد ما له أتراب |
يا حزنا إذ ضمك الخراب | وأغلقت من دونك الأبواب |
كصارم أسلمه القراب | وقد جرى من فمك اللعاب |
وأمتار منه النحل والذباب | واعتورتك الفئة الغضاب |
وفيك أطراف المدى تنساب | حتى نضي عن جسمك الإهاب |
هل هو إلا هكذا العذاب | وقد غدا الإصطبل واجناب |
يبكيك والسائس والبواب | والسرج واللجام والركاب |
قل لأبي عيسى وما الإسهاب | بنافع تم لك الثواب |
والرأي في دفع الردى صواب | فاسكن فهذا الصاحب الوهاب |
شيمته السخاء والإيجاب | في جوده وفضله مناب |
آلاؤه ليس بها ارتياب | يضل في احصائها الحساب |
لا زال والدعاء يستجاب | يبقى لنا ما بقي التراب |
ومن قصيدة أبي محمد محمود:
بكاء على الطرف الذي يسبق الطرفا | على ذلك الألف الذي فارق الألفا |
وقف مدد الأحزان وقفا مؤبدا | عليه وخل الدمع يجري له وكفا |
على أصدأ جاراه ألف مشهر | عتيق فوافانا وقد سبق الألفا |
على فرس جارى الرياح على حفا | فغادرها حسرى وخلفها ضعفي |
أقام بمثواه الجياد مناحة | كما عقدت وحش الفلاة به قصفا |
وآل الغراب والوجيه ولاحق | ادامت عويلا لا أطيق له وصفا |
فكم أقرحت خدا وكم ألهبت حشا | وكم أوجعت قلبا وكم أدمعت طرفا |
ولو عرفت حسناء داود حقه | لما ضفرت شعرا ولا خضبت كفا |
فكم قد حماها يوم حرب وغارة | وكم نزعت من خوفها القلب والشنفا |
يطير على وجه الصعيد إذا جرى | فما إن يمس الأرض من أرضه حرفا |
ويعطيك عفوا من أفانين ركضه | إذا سمته التقريب أو سمته القطفا |
له ذنب ضاف يجر على الثرى | طويل كأذيال العرائس بل أضفى |
له غرة مثل السراج ضياؤها | وأي سراج بالنوائب لا يطفى |
يواجه وجه الوحش إن سار خلفها | فيجعلها من حيث لم تحتسب خطفا |
إذا ما غزا الغازي عليه قبيلة | فلا حافرا أبقى عليه ولا خفا |
يراه كميت وهو لهفان واله | لميتته يطوي الظلام وما أغفى |
ولو أنه قد كان حقق موته | لجز عليه للأسى الشعر الوحفا |
ولولا وفاء فيه كنت أقوده | إليك بلا من ولكنه استعفى |
كراهية من إن يقوم مقامه | حفاظا وبعض الخيل يستعمل الظرفا |
فأعفيته إن الوزير معوض | ومن ذا الذي يرجو نداه ولا يكفي |
فعول أبا عيسى عليه فإنه | سيكفيك خطب الدهر وهو به اكفى |
ولو لم يرد تعويضه لك عاجلا | لقال له رفقا وقال له وقفا |
فان صروف الدهر تحت يمينه | فان شاءها بعثا وإن شاءها صرفا |
هو البحر يغني الناس من كل جانب | فغرفا من البحر الذي زرته غرفا |
هو الغيث يعطي كل غاد ورائح | عطاء جزيلا لا بكيا ولا نشفا |
كريم إذا ما جاءه ابن حظية | ألان له عطفا وأبدى له عطفا |
أقام منارا للندى والهدى معا | فعاد لنا كهفا وصار لنا لطفا |
تعز أبا عيسى وإن أعوز الأسى | وعاود هديت اللهو والطيب والعرفا |
وهاك كأمثال الرياض سوابقا | تسير قوافي الشعر من خلفها خلفا |
ومن قصيدة أبي عيسى صاحب البرذون:
لقد عظمت عندي المصيبة في الأصدا | وأبدت لي اللذات من بعده صدا |
وأهدى إلى قلبي المصاب بفقده | من الحزن ما لو نال يذبل لأنهدا |
وأصبحت مشغول المدامع بالبكا | ولي مهجة تستشعر الحزن والوجدا |
ولو كان يغنيني الفداء فديته | بنفسي وأهلي فهو أهل لأن يفدى |
ولكنه لبى المنون مبادرا | ويا ليته لما دعاه الردى ردا |
مضى الطرف واستولى على الطرف دمعه | وألهب في الأحشاء من حرق وقدا |
مضى الفرس السباق في حلبة الوغى | فعادت عيون الخيل من بعده رمدا |
مواقفه عند الطراد شهيرة | تجاوز في إعجازها الوصف والحدا |
نسيم الصبا يحكيه في هزل سيره | وترهبه ريح الشمال إذا جدا |
فقد صار نهبا بين وحش وطائر | غدا سيدا فيها وراح لها عبدا |
تسل أبا عيسى ولا تقرب الأسى | وكن حازما شهما وكن بازلا جلدا |
فقد كمد الأخوان من فرط حزنهم | وقد شمت الحساد مذ فقد الأصدا |
وأصبح أبناء الشجاعة حسرا | فمن قارع سنا ومن لاطم خدا |
جواد عزيز إن يجود بمثله | جواد ومن يعدى عليه إذا استعدى |
سوى الصاحب المأمول للجود والندى | ومن كفه من صيب خضل اندى |
له همة فوق السماء مقيمة | تعلم من يرجوه إن يطلب الرفدا |
ومن قصيدة لبعض أهل نيسابور قالها على لسان أحد الندماء:
كل نعيم إلى نفاد | كل قريب إلى بعاد |
كل هبوب إلى ركود | كل نفاق إلى كساد |
وكل ملك إلى زوال | وكل كون إلى فساد |
وصادق من يقول فاسمع | والسمع باب إلى الفؤاد |
قد بلغ الزرع منتهاه | لا بد للزرع من حصاد |
لهفي على أصدأ جواد | من هبة الصالح الجواد |
منقطع المثل في البلاد | وغرة الطرف والتلاد |
لهفي على أصدأ مشيح | قد كان ماء وأنت صادي |
وكان نارا وكل نار | فمنتهاها إلى الرماد |
كان من العين والفؤاد | في العين من مركز السواد |
أسرع من لحظة وأحلى | في العين من طارق الرقاد |
أجرأ من ضيغم وأجرى | من سيل ليل بقعر وادي |
سليل ريح أخو شهاب | طود جمال هلال نادي |
أسير مما يقال فيه | والشعر جوابة البلاد |
كأنه ساحر عليم | من راكب الطرف بالمراد |
عين أصابته لا رأت من | تهوى لقاه إلى التنادي |
نفذت يا دهر شر سهم | أتى على خير مستفاد |
لو كان يغني الدفاع عنه | جعلت ترسا له فؤادي |
فاصبر لحكم الإله وانقد | للحق يا فاقد الجواد |
أنت من الصاحب المرجى | ما عشت في نائل المعاد |
الفيليات
لما حصل الصاحب في وقعة جرجان على الفيل الذي كان في عسكر خراسان أمر من بحضرته من الشعراء إن يصفوه في تشبيب قصيدة على وزن وقافية قصيدة عمرو بن معد يكرب:
أعددت للحدثان سا | بغة وعداء علندى |
فمن قصيدة أبي القاسم عبد الصمد بن بابك:
قسما لقد نشر الحيا | بمناكب العلمين بردا |
وتنفست يمنية | تستضحك الزهر المندى |
وجريحة اللبات تنـ | ـشر من سقيط الدمع عقدا |
نازعتها حلب الشؤو | ن وقلما استعبرت وجدا |
ومساجل لي قد شققـ | ـت لذاته في في لحدا |
لا ترم بي فانا الذي | صيرت حر الشعر عبدا |
بشوارد شمس القيا | د يزدن عند القرب بعدا |
وممسك البردين في | شبه النقا شية وقدا |
فكأنما نسجت عليـ | ـه يد الغمام الجون جلدا |
وإذا لوتك صفاته | أعطاك مس الروع نقدا |
فكان معصم غادة | في ماضغيه إذا تصدى |
وكان عودا عاطلا | في صفحتيه إذا تبدى |
يخدو قوائم أربعا | يتركن بالتلعات وهدا |
جاب المطرف قد تفر | د بالكراهة واستبدا |
وإذا تخلل هضبة | فكان ظل الليل مدا |
وإذا هوى فكان ركـ | ـنا من عماية قد تردى |
وإذا استقل رأيت في | أعطافه هزلا وجدا |
متقرط أذنا تعي | زجر العسوف إذا تعدى |
خرقاء لا يجد السرا | ر إذا تولجها مردا |
أوطاته مرعى نسيـ | ـبي واجتنبت وصال سعدى |
ملك رأى الإحسان من | عدد العواقب فاستعدا |
كافي الكفاة إذا انثنت | مقل القنا الخطي رمدا |
تكسوه نشر العرف كف | من جفون الطل أندى |
لا زلت يا أمل العفا | ة لفارط الآمال وردا |
والق الليالي لابسا | عيشا يرود الظل رغدا |
ومن قصيدة أبي الحسن الجوهري:
قل للوزير وقد تبدى | يستعرض الكرم المعدا |
أفنيت أسباب العلا | حتى أبت إن تستجدا |
لو مس راحتك السحا | ب لأمطرت كرما ومجدا |
لم ترض بالخيل التي | شدت إلى العياء شدا |
وصرائم الرأي التي | كانت على الأعداء جندا |
حتى دعوت إلى العدى | من لا يلام إذا تعدى |
متقصيا تيه العلو | ج وفطنة أعيت معدا |
فيلا كرضوى حين يـ | ـلبس من رقاق الغيم بردا |
مثل الغمامة ملئت | أكنافها برقا ورعدا |
رأس كقلة شاهق | كسيت من الخيلاء جلدا |
فتراه من فرط الدلا | ل مصعرا للناس خدا |
يزهى بخرطوم كمثـ | ـل الصولجان يرد ردا |
متمرد كالأفعوا | ن تمده الرمضاء مدا |
أو كم راقصة تشـ | ـير به إلى الندمان وجدا |
و كأنه بوق تحر | كه لتنفخ فيه جدا |
يسطو بساريتي لجيـ | ـن يحطمان الصخر هدا |
أذناه مروحتان أسـ | ـندتا إلى الفودين عقدا |
عيناه غائرتان ضيقتا | لجمع الضوء عمدا |
قاسوه بأسطرلاب يجـ | ـمع ثقبه ما لن يحدا |
تلقاه من بعد فتحـ | ـسبه غماما قد تبدى |
متنا كبنيان الخور | نق ما يلاقي الدهر كدا |
ردفا كدكة عنبر | متمايل الأوراك نهدا |
ذنبا كمثل السوط يضـ | ـرب حوله ساقا وزندا |
يخطو على أمثال أعـ | ـمدة الخباء إذا تصدى |
أو مثل أميال نضد | ن من الصخور الصم نضدا |
متوردا حوض المنية | حيث لا يشتاق وردا |
متلفعا بالكبريا | ء كأنه ملك مفدى |
أدنى إلى الشيء البعيـ | ـد يراد من وهم وأهدى |
أذكى من الإنسان حتى | لو رأى خللا لسدا |
لو أنه ذو لهجة | وفي كتاب الله سردا |
قل للوزير عبدت حتى | قد أتاك الفيل عبدا |
سبحان من جمع المحا | سن عنده قربا وبعدا |
لو مس أعطاف النجو | م جرين في التربيع سعدا |
أو سار في أفق السما | ء لأنبتت زهرا ووردا |
ومن قصيدة أبي محمد الخازن:
حازوا سعود ديار سعدى | ورعوا جناب العيش رغدا |
وقضوا مآرب للصبا | مذ أبدلوا بالغور نجدا |
سكنوا محلا بالدمى | أضحى محلا مستجدا |
عطفت علي ظباؤه | ما شئت سالفة وقدا |
وشفيت حر الوجد من | برد سقى الأكباد بردا |
عجبا أشيم لثغرها | برقا ولست أحس رعدا |
وغدوت أجني من غصون | ألبان تفاحا ووردا |
وبنفسي القمر الذي | لمعا تصدى ثم صدا |
يا هذه اهد الوصا | ل تكرما إن كان يهدى |
وتذكري عهد الصبا | في بيت عاتكة المفدي |
لا تنكري شيئا ألم | بفوده وفدا فوفدا |
وتعلمي إن الشبا | ب وإن وفى قرض يؤدى |
وإذا أعير فإنه | لا بد من إن يستردا |
كم ليلة ساورتها | وقضيتها حسنا وجدا |
وارى النجوم لآلئا | في الجو تجلو اللازوردا |
حتى تحول أدهم الظلماء | في الأفقين وردا |
وبدا الصباح يحل من | جيب الدجى ما كان شدا |
وقريت همي أعنسا | تذر الربى بالوخد وهدا |
فوردن أفنية العلا | معمورة فحمدن وردا |
حيث الفضائل والفواضل | فتن إحصاء وعدا |
حيث الوغى مشبوبة | نيرانها وهجا ووقدا |
ومهابة كادت لها | صم الجبال تخر هدا |
أفياله يقدحن في | ظلم الوغى زندا فزندا |
تسري كسحم سحائب | بجنائب تزجى وتحدى |
ولبسن دكن ملابس | غبر معاطفهن ربدا |
ورمقن عن أجفان مضـ | ـمرة على الأعداء حقدا |
وفغرن أفواها كأفـ | ـواه المزاد تروع دردا |
وكشرن عن أنيابها | مثل الحراب شبا وحدا |
من كل جهم خلته | يوم الوغى غولا تصدى |
كبنية من عنبر | دعمت سواري الساج نضدا |
وعليه طارونية | يزهى بها حرا وبردا |
لولا انقلاب لسانه | لرأيته خصما ألدا |
متوليا أمرا ونهـ | ـيا مالكا حلا وعقدا |
وكأنما خرطومه | راووق خمر مد مدا |
أو مثل كم مسبل | أرخته للتوديع سعدى |
وإذا التوى فكأنه الثعبان | من جبل تردى |
وكأنما انقلبت عصا | موسى غداة بها تحدى |
متعطفا كالصولجا | ن بساحة الميدان يحدى |
يكسى الحداد وتارة | يكسى نسيج الدرع سردا |
وكأنما هو خاضب | بالإثمد الجاري جلدا |
لون حكى إظلامه | لون المشبه ليس يهدى |
مستيقظ أبدا ويكـ | ـبر إن يعير العير رقدا |
كفل تموج كالكثيـ | ـب تهيله صوبا وصعدا |
قد ساد كل بهيمة | كيسا ومعرفة وجدا |
فكأنه يوم الوغى | يكسى من الخيلاء بردا |
وإذا انثنى من حربه | يسعى فيرقص دستبندا |
أودى بمن عاد الوزير | وعمهم حصرا وحصدا |
من عزمه كالعضب قد | وعلمه كالبحر مدا |
مستوحش بالسلم لم | تالف ظباه قط غمدا |
كالغيث يهطل سائحا | والليث يبرز مستبدا |
وزر الملوك ونابها الـ | ـأعلى وساعدها الأشدا |
أي اسم فخر لم يحزه | وأي مجد لم يعدا |
أم أي ثغر لم يفته | ولم يشده ولم يسدا |
كافي الكفاة المرتجى | والسيد الهادي المفدي |
ما الحر إلا من غدا | للصاحب المأمول عبدا |
ولئن أجدت مديحه | فلطالما أغنى وأجدى |
وقربت منه فالتفت | إلى الزمان وقلت بعدا |
واعتضت غير مخيب | من مستمر النحس سعدا |
وكفيت ثمدا ناضبا | وسقيت ماء العيش رغدا |
ومنحت إنصافا بعون | الله من دهر تعدى |
خذها إليك شواهدا | في ألسن الراوين شهدا |
هذبتها وجلوتها | فحسن خاتمه ومبدا |
قد كان يكدى خاطري | لكن بمدحك قد أمدا |
أعددت للحدثان جودك | دون عداء علندى |
وعلمت أنك واحد | في العالمين خلقت فردا |
تذر الوعيد نسيئة | كرما وتحبو الوعد نقدا |
ويفوح خلقك عن عبيـ | ـر حوله زهر مندى |
أنا غرسك الزاكي بكفك | مثمرا أدبا وودا |
فسأملأ الدنيا بما اسـ | ـتمليت من جدواك حمدا |
هي طاعتي حتى أرى | متبوئا في الترب لحدا |
تفديك نفسي من عوا | دي كل مكروه ومردي |
وفي معجم الأدباء: حدث أبو الرجاء الضرير الشطرنجي العروضي الشاعر الأهوازي بالأهواز قال: قدم علينا الصاحب بن عباد في السنة التي جاء فيها فخر الدولة ولقيه الناس ومدحه الشعراء فمدحته بقصيدة قلت فيها:
إلى ابن عباد أبي القاسم الصاحب إسماعيل كافي الكفاة
فقال: قد كنت والله أشتهي بان تجتمع كنيتي واسمي ولقبي واسم أبي في بيت. فلما انتهيت إلى قولي فيها: ويشرب الجيش هنيئا بها قال يا أبا الرجاء أمسك فأمسكت فقال:
ويشرب الجيش هنيئا بها | من بعد ماء الري ماء الصراة |
هكذا هو؟ قلت نعم قال أحسنت قلت يا مولاي أحسنت أنت عملت أنا هذا في ليلة وأنت عملته في لحظة.
أهاجيه
قال السلامي:
يا ابن عباد بن عباس | بن عبد الله حرها |
تنكر الجبر وأخرجت | إلى العالم كرها |
وقال أبو العلاء الأسدي:
إذا رأيت مسجى في مرقعة | يأوي المساجد حر ضره بادي |
فاعلم بان الفتى المسكين قد قذفت | به الخطوب إلى لؤم ابن عباد |
وقال ياقوت في معجم الأدباء قال بعض الشعراء في ابن عباد يذم سجعه وخطه وعقله:
متلقب كافي الكفاة وإنما | هو في الحقية كافر الكفار |
السجع سجع مهوس والخط | خط منقرس والعقل عقل حمار |
ونحن نستغفر الله من نقل مثل هذا الهجاء في الصاحب فما هو إلا كمثل نقل الكفر وناقله ليس بكافر والصاحب برئ مما قذفه به هذا الشاعر المفتري. وفي نزهة الألباء كان بين الصاحب وبين أبي بكر الخوارزمي شيء فبلغ الصاحب عنه أنه هجاه بقوله:
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت | كفاه بالجود سحا يخجل الديما |
فإنها خطرات من وساوسه | يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما |
وظلمه بهذا القول فلما بلغ | الصاحب موت أبي بكر أنشد: |
سالت بريدا من خراسان جائيا | أمات خوارزميكم قيل لي نعم |
فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره | إلا لعن الرحمن من كفر النعم |
وفي معجم الأدباء عن أبي حيان التوحيدي قال لي الشاباشي وقد خرجنا من مجلس الصاحب كيف رأيت مولانا الصاحب اليوم مع هذا التقرير وإظهاره البلاغة الحسنة بين الناس فقلت السكوت عن مثله إحدى الحسنيين وأحرى الحالتين فقال الشاباشي لحى الله دهرا آل بنا إليه وأنزلنا عليه وأنشد يقول:
يا من تبرمت الدنيا بطلعته | كما تبرمت الأجفان بالرمد |
يمشي على الأرض مجتازا فاحسبه | من بعض طلعته يمشي على كبدي |
لو كان في الأرض جزء من سماجته | لم يقدم الموت إشفاقا على أحد |
ما جرى له عام وفاته
في اليتيمة: لما بلغت سنوه الستين واعترته آفة الكمال وانتابته أمراض الكبر جعل ينشد:
أناخ الشيب ضيفا لم أرده | ولكن لا أطيق له مردا |
رداء للردى فيه دليل | تردى من به يوما تردى |
ولما كنى المنجمون عما يعرض له في سنة موته قال:
يا مالك الأرواح والأجسام | وخالق النجوم والأحكام |
مدبر الضياء والظلام | لا المشتري أرجوه للأنعام |
ولا أخاف الضر من بهرام | وإنما النجوم كالاعلام |
والعلم عند الملك العلام | يا رب فاحفظني من الأسقام |
ووقني حوادث الأيام | وهجنة الأوزار والآثام |
هبني لحب المصطفى المعتام | وصنوه وآله الكرام |
وكتب بخطه على تحويل السنة التي دلت على انقضاء عمره:
أرى سنتي قد ضمنت بعجائب | وربي يكفيني جميع النوائب |
ويدفع عني ما أخاف بمنه | ويؤمن ما قد خوفوا من عواقب |
إذا كان من أجرى الكواكب أمره | معيني فما أخشى صروف الكواكب |
عليك أيا رب السماء توكلي | فحطني من شر الخطوب الحوارب |
وكم سنة حذرتها فتزحزحت | بخير واقبال وجد مصاحب |
ومن أضمر اللهم سوءا لمهجتي | فرد عليه الكيد أخيب خائب |
فلست أريد السوء بالناس إنما | أريد بهم خيرا مريع الجوانب |
وأدفع عن أموالهم ونفوسهم | بجدي وجهدي باذلا للمواهب |
ومن لم يسعه ذاك مني فإنني | ساكفاه إن الله أغلب غالب |
ولما اعتل كان أمراء الديلم وكبراء الناس يروحون إلى بابه ويغدون ويخدمون بالدعاء وينصرفون. وبلغه عن بعض أصحابه شماتة فقال:
وكم شامت بي بعد موتي جاهلا | بظلم يسل السيف بعد وفاتي |
ولو علم المسكين ما ذا يناله | من الظلم بعدي مات قبل مماتي |
وعاده فخر الدولة عدة مرات فقال لفخر الدولة أول مرة وهو على ياس من نفسه: قد خدمتك أيها الأمير خدمة استفرغت قدر الوسع وسرت في دولتك سيرة جلبت لك حسن الذكر بها فان أجريت الأمور بعدي على نظامها وقررت القواعد على أحكامها نسب ذلك الجميل السابق إليك ونسيت أنا في أثناء ما يثني به عليك الأحدوثة الطيبة لك وإن غيرت ذلك وعدلت عنه كنت أنا المشكور على السيرة السالفة وكنت أنت المذكور بالطريقة الآنفة وقدح في دولتك ما يشيع في المستقبل عنك. فاظهر فخر الدولة قبول رأيه.
وفي اليتيمة: لما كانت ليلة الجمعة 24 من صفر سنة 385 انتقل إلى جوار ربه ومحل عفوه وكرامته ومضى من الدنيا بمضيه رونق حسنها وتاريخ فضلها رضي الله تعالى عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه بمنه وكرمه (انتهى).
أما فخر الدولة فإنه لم يحفظ عهد الصاحب بعد وفاته فقد جاء في ذيل تجارب الأمم إن أبا محمد خازن الكتب كان ملازما دار الصاحب في مرضه على سبيل الخدمة وهو عين لفخر الدولة عليه فلما توفي الصاحب بادر بإعلامه الخبر فأنفذ فخر الدولة ثقاته وخواصه حتى احتاطوا على الدار والخزائن ووجدوا كيسا فيه رقاع أقوام بمئة وخمسين ألف دينار مودوعة له عندهم فاستدعاهم وطالبهم بالمال فاحضروه وكان فيه ما هو بختم مؤيد الدولة ونقل جميع ما كان في الدار والخزائن إلى دار فخر الدولة ثم قبض على أصحاب ابن عباد.
وكان الصاحب قد أحسن إلى القاضي عبد الجبار المعتزلي وقدمه وولاه قضاء الري فلما توفي قال القاضي لا أرى الترحم عليه لأنه مات عن غير توبة ظهرت منه، فنسب إلى قلة الوفاء.
وفي معجم الأدباء: ذكر محمد ما فعله الصاحب مع القاضي عبد الجبار بن أحمد من حسن العناية والتولية والتمويل فلما مات الصاحب كان يقول أنا لا أترحم عليه لأنه لم يظهر توبته فطعن عليه في ذلك ونسب إلى قلة الرعاية. لا جرم إن فخر الدولة قبض عليه بعد موت الصاحب وصادره فيما قيل على ثلاثة آلاف ألف درهم وعزله عن قضاء الري وولى مكانه القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني العلامة صاحب التصانيف والفضائل الجمة. فقيل إن عبد الجبار باع ألف طيلسان مصري في مصادرته وهو شيخ طائفتهم يزعم إن المسلم يخلد في النار على ربع دينار وجميع هذا المال من قضاء الظلمة بل الكفرة عنده وعلى مذهبه وإنما ذكرت هذا للاعتبار (انتهى).
مراثيه
قال ابن خلكان وياقوت في معجم الأدباء قال أبو القاسم ابن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني من وجوه أهل أصبهان وأعيانهم ورؤسائهم: رأيت في المنام قائلا يقول لم لا ترثي الصاحب مع فضلك وشعرك فقلت ألجمتني كثرة محاسنه فلم أدر بما أبدا منها وقد خفت إن أقصر وقد ظن بي الاستيفاء لها فقال أجز ما أقوله فقلت له قل فقال:
ثوى الجود والكافي معافي حفيرة | (فقلت) ليأنس كل منهما بأخيه |
(فقال) هما اصطحبا حيين ثم تعانقا | (فقلت) ضجيعين في لحد بباب دريه |
(فقال) إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهم | (فقلت) أقاما إلى يوم القيامة فيه |
حكى هذا البياسي في حماسته (انتهى) قال ورثاه أبو سعيد الرستمي بقوله:
أبعد ابن عباد يهش إلى السرى | أخو أمل أو يستماح جواد |
أبي الله إلا إن يموتا بموته | فما لهما حتى المعاد معاد |
وقال آخر:
مضى الصاحب الكافي ولم يبق بعده | كريم يروي الأرض فيض غمامه |
فقدناه لما تم واعتم بالعلى | كذاك خسوف البدر عند تمامه |
وفي اليتيمة: ولبعض بني المنجم بعد وفاة الصاحب وقد استوزر أبو العباس الضبي أحمد بن إبراهيم ولقب بالرئيس وضم إليه أبو علي ولقب بالجليل:
والله والله لا أفلحتم أبدا | بعد الوزير ابن عباد بن عباس |
إن جاء منكم جليل فأنذروا أجلي | أو جاء منكم رئيس فاقطعوا رأسي |
قال ولأبي العباس الضبي وقد مر بباب الصاحب:
أيها الباب لم علاك اكتئاب | ابن ذاك الحجاب والحجاب |
أين من كان يفزع الدهر منه | فهو اليوم في التراب تراب |
وفي معجم الأدباء: وقال أبو الحسن علي بن الحسين الحسني ختن الصاحب يرثيه:
ألا أنها يمنى المكارم شلت | ونفس المعالي أثر فقدك سلت |
حرام على الظلماء إن هي قوضت | وحجر على شمس الضحى إن تجلت |
لتبك على كافي الكفاة مآثر | تباهي النجوم الزهر في حيث حلت |
لقد فدحت فيه الرزايا وأوجعت | كما عظمت منه العطايا وجلت |
ألا هل أتى الآفاق أية غمة | أطلت ونعمى أي دهر تولت |
وهل تعلم الغبراء ما ذا تضمنت | وأعواد ذاك النعش ما ذا أقلت |
فلا أبصرت عيني تهلل بارق | يحاكي ندى كفيك إلا استهلت |
ولو قبلت أرواحنا عنك فدية | لجدنا بها عند الفداء وقلت |
قال ولأبي القاسم بن أبي العلاء الأصفهاني يرثي الصاحب من قصيدة:
ما مت وحدك لكن مات من ولدت | حواء طرا بل الدنيا بل الدين |
هذي نواعي العلا مذ مت نادبة | من بعد ما ندبتك الخرد العين |
تبكي عليك العطايا والصلات كما | تبكي عليك الرعايا والسلاطين |
قام السعاة وكان الخوف أقعدهم | واستيقظوا بعد ما نام الملاعين |
لا يعجب الناس منهم إن هم انتشروا | مضى سليمان وانحل الشياطين |
قال ولأبي الحسن الهمذاني الوصي يرثيه (وكأنه كان وصي الصاحب):
يبكي الأنام سليل عباد العلا | والدين والقرآن والإسلام |
تبكيه مكة والمشاعر كلها | وحجيجها والنسك والاحرام |
تبكيه طيبة والرسول ومن بها | وعقيقها والسهل والاعلام |
مات المعالي والعلوم بموته | فعلى المعالي والعلوم سلام |
ورثاه الشريف الرضي بهذه القصيدة وهي مسك الختام:
أكذا المنون تقطر الأبطالا | أكذا الزمان يضعضع الأجبالا |
أكذا تصاب الأسد وهي مدلة | تحمي الشبول وتمنع الأغيالا |
أكذا تقام عن الفرائس بعد ما | ملأت هماهمها الورى أوجالا |
أكذا تحط الزاهرات عن العلى | من بعد ما شات العيون منالا |
أكذا تكب البزل وهي مصاعب | تطوي البعيد وتحمل الأثقالا |
أكذا تغاض الزاخرات وقد طغت | لججا وأوردت الظماء زلالا |
يا طالب المعروف حلق نجمه | حط الحمول وعطل الاجمالا |
وأقم على ياس فقد ذهب الذي | كان الأنام على نداه عيالا |
من كان يقري الجهل علما ثاقبا | والنقص فضلا والرجاء نوالا |
ويجبن الشجعان دون لقائه | يوم الوغى ويشجع السؤالا |
خلع الردى ذاك الرداء نفاسة | عنا وقلص ذلك السربالا |
خبر تمخض بالأجنة ذكره | قبل اليقين وأسلف البلبالا |
حتى إذا جلى الظنون يقينه | صدع القلوب وأسقط الأحمالا |
الشك أبرد للحشا من مثله | يا ليت شكي فيه دام وطالا |
جبل تسنمت البلاد هضابه | حتى إذا ملأ الأقالم زالا |
يا طود كيف وأنت عادي الذرى | ألقى بجانبك الردى زلزالا |
إن قطع الآمال منك فإنه | من بعد يومك قطع الآمالا |
ما كنت أول كوكب ترك الدنا | وسما إلى نظرائه فتعالى |
أنفا من الدنيا بتت حبالها | ونزعت عنك قميصها الاسمالا |
ذا المنزل المظعان قد فارقته | وغدا تبوء منزلا محلالا |
لا رزء أعظم من مصابك أنه | وصل الدموع وقطع الأوصالا |
يا أمر الأقدار كيف أطعتها | أوما وقاك حلالك الآجالا |
كيف اغتفلت ففاجأتك بغرة | أوليس كنت المخلط المزيالا |
لم تكف يا كافي الكفاة منية | نفذت إليك صوارما والآلا |
ألا وقى المجد المؤثل ربه | إلا زوى المقدار إلا حالا |
ألا أقالتك الليالي عثرة | يا من إذا عثر الزمان أقالا |
إن الذي أنحى إليك بسهمه | قدر ينال ذبابه الرئبالا |
لا مسمع الأنباض منه فيتقى | يوما ولا مالي الخفير نبالا |
وأرى الليالي طارحات حبالها | تستوثق الأعيان والأرذالا |
يبرين عود النبع غير فوارق | بين النبات كما برين الضالا |
لا تأمن الدنيا عليك فإنها | ذات البعول تبدل الأبدالا |
وتناذر الدهر الذي شرع الردى | وتخرم الأذواد والأقيالا |
واسترجل الأملاك قسرا بعد ما | ركبوا من الشرف المطل جبالا |
وطوى مقاول من نزار ذادة | في الحرب لا كشفا ولا أميالا |
قوم إذا وقع الصريخ تناهضوا | بالخيل قبا والقني طوالا |
وترى خفافا في الوغى فإذا انتدوا | وتلاغط النادي رأيت ثقالا |
صاحت بهم نوب الليالي صيحة | فتتابعوا لدعائها إرسالا |
يتواكلون الموت جبنا بعد ما | كانوا اسود مغاور أبطالا |
نزعوا الحمائل عن عواتق فتية | كانوا لكل عظيمة حمالا |
من بعد ما دعموا القباب وخيسوا | ذلل المطي ودمنوا الأطلالا |
عرب إذا دفعوا الجياد لغارة | هزوا العباب وخضخضوا الأوشالا |
من كل منهب ماله سؤاله | أو بالغ بعطائه ما نالا |
أو بائت يرعى النجوم لغارة | ويعد للمغدى قنا ونصالا |
لم ترهب الأقدار عزته ولا اتقت | النوائب جمعه العضالا |
وعصائب اليمن الذين تبوأوا | قلل الهضاب وشردوا الأوعالا |
كانوا فحول وغى تساند بالقنا | لا كالفحول تساند الأجذالا |
زفر الزمان عليهم فتطارحوا | فرقا وطاروا بالمنون جفالا |
وعلى الهباءة آل بدر أنهم | طرحوا له الأسلاب والأنفالا |
من بعد ما خلطوا العجاج وجلجلوا | تلك الزعازع والقنا العسالا |
والمنذرون الغر شرد منهم | حيا على لقم العراق حلالا |
والأزدشيريون أبرز منهم | متفيئين من النعيم ظلالا |
تلوى لهم عنق الفرات بمده | ويروقون البارد السلسالا |
من معشر وردوا المنون ومعشر | سلبوا الحجال وألبسوا الأحجالا |
قد غادروا الإيوان بعد فراقهم | ينعى القطين ويندب الحلالا |
إن كنت تأمل بعدهم مهلا فقد | منتك نفسك في الزمان ضلالا |
لمن الضوامر عريت امطاؤها | حول الخيام تنزع الأمطالا |
بدلن من لبس الشكيم مقاودا | مربوطة ومن السروج جلالا |
فجعت بمنصلت يعرض للقنا | أعناقها ويحصن الأكفالا |
لمنن المطايا غير ذات رحائل | فارقن ذاك السدو والأرقالا |
أمست تمنع بالسقاب وطالما | جعل الظبا لرضاعهن فصالا |
من كان يحمل فوقهن عصابة | مثل الصقور غرانقا أزوالا |
من كان يجشمهن كل مفازة | تلد المنون وتنبت الأهوالا |
لمن النصول نشبن في أغمادها | كلف الظبا لا ينتظرن صقالا |
لمن الأسنة قد نصلن عن القنا | وعدمن جرا في الوغى ومجالا |
إن صين سردك في العياب فطالما | أمسى عليك مذيلا ومذالا |
كم حجة في الدين خضت غمارها | هدر الفنيق تخمطا وصيالا |
بسنان رمحك أو لسانك موسعا | طعنا يشق على العدا وجدالا |
إن نكس الإسلام بعدك رأسه | فلقد رزي بك موئلا ومالا |
واها على الأقلام بعدك أنها | لم ترض غير بنان كفك آلا |
أفقدن منك شجاع كل بلاغة | أن قال جلى في المقال وجالا |
من لو يشا طعن العدا برؤوسها | وأثار من جريالها قسطالا |
سلطان ملك كنت أنت تعزه | ولرب سلطان أعز رجالا |
إن المشمر ذيله لك خيفة | أرخى وجرر بعدك الأذيالا |
ما كنت أخشى إن تزل لحادث | قدم جعلت لها الركاب قبالا |
دفع الزمان لك النوائب دفعة | وتصوب الوادي إليك فسالا |
يا شامتا بالسيف أغمد غربه | كم هب مندلق الغرار وصالا |
إن طوح الفعال دهر ظالم | فلقد أقام وخلد الأفعالا |
طلبوا التراث فلم يروا من بعده | إلا علا وفضائلا وجلالا |
هيهات فاتهم تراث مخاطر | حفظ الثناء وضيع الأموالا |
قد كان أعرف بالزمان وصرفه | من إن يثمر أو يجمع مالا |
مفتاح كل ندى ورب معاشر | كانوا على أموالهم اقفالا |
كان الغريبة في الأنام فأصبحوا | من بعد غارب نجمه أمثالا |
قرم إذا كحلت به ألحاظها | شوس القروم تقطع الأبوالا |
وإذا تجايشت الصدور بموقف | حبس الكلام وقيد الأقوالا |
بصوائب كالشهب تتبع مثلها | ورعال خيل يتبعن رعالا |
من فاعل من بعده كفعاله | أو قائل من بعده ما قالا |
سمع يرفع للسوال سجوفه | ويحجب الأهزاج والارمالا |
يا طالبا من ذا الزمان شبيهه | هيهات كلفت الزمان محالا |
إن الزمان أضن بعد وفاته | من إن يعيد لمثله أشكالا |
وأرى الكمال جنى عليه لأنه | غرض النوائب من أعير كمالا |
صلى الإله عليك من متوسد | بعد المهاد جنادلا ورمالا |
كسف البلى ذاك الجمال المجتلى | وأجر ذاك المقول الجوالا |
ورأيت كل مطية قد بدلت | من بعد يومك بالزمام عقالا |
طرح الرجال لك العمائم حسرة | لما رأوك تسير أو اجلالا |
قالوا وقد فجئوا بنعشك سائرا | من ميل الجبل العظيم فمالا |
وتبادروا عط الجيوب وعاجلوا | عض الأنامل يمنة وشمالا |
ما شققوا إلا كساك وألموا | إلا أنامل نلن منك سجالا |
من ذا يكون معوضا ما مزقوا | ومعولا لمؤمل وثمالا |
فرغت أكف من نوالك بعدها | وأطال عظم مصابك الأشغالا |
أعزز علي بان يهزك طالب | فتضن أو تلوي النوال مطالا |
أو إن تبدل من يؤمك زائرا | بعد التهلل عندك استهلالا |
أو إن يناديك الصريخ لكربة | حشدت عليه فلا تجيب مقالا |
يا شافي الأدواء كيف جهلته | داء رماك به الزمان عضالا |
يا كاشف الأمحال كيف رضيته | لمقيل جنبك منزلا ممحالا |
قد كنت آمل إن أراك فاجتني | فضلا إذا غيري جنى أفضالا |
وأفيد سمعك مقولي وفضائلي | وتفيدني أيامك الاقبالا |
واعد منك لريب دهري جنة | تثني جنود خطوبه فلالا |
وطواك دهرك غير طي صيانة | وأعاد أعلام الهدى إغفالا |
قبر بأعلى الري شق ضريحه | لأغر حفزه الردى اعجالا |
أن يمس موعظة الرجال فطالما | أمسى مهابا للورى ومهالا |
لتسلب الدنيا عليه فإنها | نزعت به الإحسان والأجمالا |
ورعاه من أرعى البرية سيبه | وسقاه من أسقى به الآمالا |
وفي هذا الرثاء من الشريف الرضي وما تضمنته هذه القصيدة الفريدة دلالة واضحة على ما للصاحب من المكانة الرفيعة في كل فضيلة وأكرومة فالشريف الرضي لم يكن ليصفه إلا بما هو فيه فإنه لم يقل ذلك لطلب جدوى ولا لعرض دنيا لا سيما بعد وفاته.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 3- ص: 328