سالم بن صالح الهمداني
يكنى أبا عمرو. وكان رحمه الله من جلّة المحدثين والأدباء النبهاء حافظا للغات عالي الرواية كثير الضّبط والاتقان. أخذ عن أبي عبد الله بن زرقون، وأبي بكر بن الجد، وأبي محمد بن عبيد الله وأبي زيد السهيلي وأبي عبد الله بن الفخار، وغيرهم. وكان رحمه الله أديبا شاعرا فاضلا لوذعيا متواضعا، حسن الصّحبة، جميل العشرة، حسن العقيدة، كثير العبرة عند ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، كثير الخشوع عند سماع أخباره، نفعه الله بذلك بمنه.
ومن شعره يصف رمحا: [وافر]
أنا الرّمح المعدّ إلى النّوائب | فصاحبني تجدني خير صاحب |
لئن فخر اليراع بكتب خطّ | فللخطّيّ فخر بالكتائب |
أنا في الشّيبة كالصّلّ الذّكر | طلت حتّى نبت عن ليل الذّكر |
ثمّ من أغرب شيء أنّني | لم أطل إلاّ لتقصير العمر |
آمن من سطوة النّوائب | من جعل الرّمح خير صاحب |
وبات في صحّة وأمن | لذيل برد الفخار ساحب |
أصبحت عن خطب الزّمان بمعزل | مذ زار بيتي نجل أرّاقندل |
وتشرّفت تلك البقاع وأشرقت | بضياء غرّته وأخصب منزلي |
وأعلى على أوج الزّمان محلّها | بأبي عليّ، فهي تنظر من عل |
والتّرب مذ وطئته أخمص نعله | أزرى شذاه بطيب عرف المندل |
قد كان حقّي أن أزور محلّه | فأحلّ بالخضراء أمنع معقل |
حيث التقى ماء الفرات بجدول | عذب، ويا شوقي لذاك الجدول |
ذاك المحلّ أقيم فيه صبابة | من أجل هذا الأفضل بن الأفضل |
زين النّديّ وقطب أرباب النّدى | عين الجزيرة والخطيب المقول |
فالله يبقيه ويجمع شملنا | معه فنظفر بالنّعيم الأطول |
ثمّ السّلام عليه ما هطل الحيا | وانهلّ صوب العارض المتهلّل |
يا مغرما بالزّهر، زهر جلالكم | أربى على زهر الرّياض وزادا |
لو أستطيع جعلت ربعك كعبتي | وتخذت من تلك المكارم زادا |
يا من غدا بين أهل العلم كالعلم | أزلت بعض الذي أشكو من الألم |
أعملت فكري يا من لا مثال له | في العلم والحلم والآداب والحكم |
في قصّة أنت تدري سرّ ميسمها | جلوتها كجلاء البدر في الظّلم |
أثبت خيرا، أبا عبد الإله، على | من بات يشكر ما أوليت من نعم |
حتّى ثنى جيده بالجيد ملتفتا | إلى ربّ الجدا والجود والكرم |
شخص السّماح ومعنى كلّ معلوة | من خصّ بالخلق المحمود والشّيم |
وأكتب النّاس، إن هزّت يراعته | فيخفق السّيف إنّ الفضل للقلم |
إذا وشى سطر خطّ فوق مهرقة | فالدّرّ ما بين منثور ومنتظم |
أقسمت أنّ المعالي في الورى قسم | حاز ابن مقلة فيها أبخس القسم |
سما إلى الأفق الأعلى، فهمّته | ما همّها غير أن تسمو على الهمم |
موفّر العرض، لكن وفر نائله | مقسّم في ذوي الإثراء والعدم |
مرفّع القدر مشهور تواضعه | يسدي ويعطي ويرعى خالص الذّمم |
فلذ بحرمته إن كنت مهتضما | تأمن كأنّك قد أصبحت في الحرم |
إن جئته سائلا عن حاجة صعبت | في الحين تقضى ولم تبرح ولم ترم |
وإن شكوت إليه جور مظلمة | لم يرقد اللّيل إشفاقا ولم ينم |
فاردد جوابي فقد أصبحت في قلق | محالف الوجد والأشجان والسّقم |
مالي يد بالذي أوليت من نعم | ولا أطيق حياتي شكرها بفمي |
ولست أسطيع وصف بعضها أبدا | حتّى أؤلّف بين الماء والضّرم |
صحيفة قد أتتني منك محكمة | كأنّها راحة تهدى إلى سقم |
بدا بها عند ما عاينت أحرفها | لاحت كمسك على الكافور منتظم |
شعر مصوغ من الشّعرى ومرزمها | ومن عقيق ومن درّ ومن حكم |
شتّى، وألّفها السّحر الحلال به | كأنّ هاروت بين الفكر والقلم |
كأنّما كوكب في كلّ قافية | ما أحسن الشّهب في الألفاظ والكلم |
إن كان زهرا فمن يمناك منبته | وإنّما تنبت الأزهار بالدّيم |
أو كان درّا فأنت البحر في أدب | وعادة البحر قذف الدّرّ للأمم |
وافت بخطّ لو انّ الوشي أبصره | أقرّ بالفضل للأقلام في القدم |
أكرم بمرسلها من ماجد ورع | حلو الشّمائل والأخلاق والشّيم |
قد رقّ طبعا وقد راقت شمائله | فهو الوجود وكلّ النّاس كالعدم |
وصاغه الله من فضل ومن أدب | حتّى اغتدى فوق أنف المجد كالشّمم |
من آل سالم من قوم لهم حسب | يضيء كالبدر جلّى ليلة الظّلم |
الحاملون علوم الدّين إن تركت | والحاكمون صروف الدّهر بالحكم |
فلو رآهم زهير لانثنى لهم | بمدحه وتعدّى القول عن هرم |
فيا أبا عمرو الأعلى، نداء أخ | لم يرم في شكر ما أوليت بالسّأم |
نوّهت باسمي في شعر بعثت به | حتّى رأيت الثّريّا فوقها قدمي |
ألزمتني فيه حقّا لا أفارقه | عمري كما ألزم التّأكيد للقسم |
لئن مدحت فلي قربى شرفت بها | ما إن يفي خاطري عن ذكرها بفمي |
أرضعتني بلبان العلم مغتديا | به، فحسبي من قربى ومن رحم |
بعثت لي ببنات الفكر محكمة | حرائرا، فلذا وجّهت بالخدم |
وما قصدت، وحاشا، أن أماثلها | ومن يماثل بين السّيف والزّلم |
وإن تكن صفة للشّعر تجمعها | فليس حمرة خدّ كاحمرار دم |
عدمت لذيذ العيش بعدك والكرى | وأشغلت قلبي لوعة وتذكّرا |
وكم ليلة قد بتّ فيها مولّها | مخافة نفس أن تذوب تحسّرا |
أقابل مسرى الرّيح من نحو أرضكم | فيحرمني برد النّسيم إذا سرى |
لقد خاب ما أمّلت مذ سرت عنكم | ومن ركب الآمال لم يحمد السّرى |
تنكّر لي دهري ولم يدر أنّني | عرفت جليّ الأمر لمّا تنكّرا |
وأتحفني فكري فوائد جمّة | فما زدت إلاّ عبرة وتفكّرا |
يقولون لي صبرا على البعد والنّوى | ومذ بنت عنّي ما رزقت تصبّرا |
وممّا شجاني أنّني بتّ مغرما | بأزهر يحكي البدر حسنا ومنظرا |
يؤرّق جفني منه غنج محاجر | تعدّ منام الجفن حجرا محجّرا |
ولولا الذي أخشاه من جور حكمه | لحدّثتك الأمر الخفيّ كما جرى |
وبحت بمكنون الضّمير إليكم | وأظهرت وجدا كان في القلب مضمرا |
ولا بدّ من شكوى فتعذر مذنفا | حليف سقام، أو يموت فيعذرا |
ولكنّه مذ لاح لام عذاره | تجنّى فلا يلوي على من تعذّرا |
شراني ببخس وهو في الحسن يوسف | وما باعني إلاّ بأرخص ما اشترى |
فيمسي إذا ما أظلم اللّيل، ظالمي | ويهجر إن صام النّهار وهجّرا |
ولا ذنب إلاّ أنّني بحت باسمه | ولا بدّ للمحزون من أن يتذكّرا |
فكن ناصري إن شئت في موقف الهوى | فحقّ لمثلي أن يعان وينصرا |
ألست الذي تزهى به أرض ريّة | فريّا رباها فاح مسكا وعنبرا |
ونحن بنو همدان والأصل واحد | نما فرعنا في المكرمات وأثمرا |
ولولا حلول الشّيب كرّرت منشدا | «سما لك شوق بعد ما كان أقصرا » |
بنفسي غزال لم يدع لي تصبّرا | وزدت خضوعا حين زاد تكبّرا |
وما صغر المحبوب، لكن همومه، | على قلب من يهواه أعلى وأكبرا |
ولو أنّ محبوبي تعذّر لم أخف | على الوصل يوما أن يرى قد تعذّرا |
فيا واحد الأزمان علما ومنصبا | ويا شيخي الأعلى الأجلّ الموقّرا |
تعال لكي نحتال في نيل مطلب | فندرك وصلا، «أو نموت فنعذرا» |
وأنت حسام فيه للعلم جوهر | فكن لي على الدّهر الحسام المجوهرا |
وهل حلية العشّاق إلاّ رغيبة | وقد بايعوا منك الأمير المؤمّرا |
فهزّ رماح الخطّ وانشر بنوده | وقد من معانيك البديعة عسكرا |
فإنّك منصور لدى موقف الهوى | فلم تعط جيش الشّعر إلاّ لتنصرا |
وقصّر حياة العاذلين فكلّهم | وشى بجميع العاشقين وقصّرا |
وجرّد على من كان أبيض أبيضا | وأشرع إلى من كان أسمر أسمرا |
وقم بيننا في منبر العزّ خاطبا | فمثلك [حقّا] من رقى اليوم منبرا |
وعظ كلّ وسنان المدامع أزهر | ليضحى زمان الصّبّ وسنان أزهرا |
فنقطف من تلك السّوالف سوسنا | ونرشف من تلك المراشف سكّرا |
أعالمنا المشهور في كلّ بلدة | ومن لم يزل من حاجب الشّمس أشهرا |
وليس مشيبا ما علاك، وإنّما | رياض المعالي فوق فوديك نوّرا |
لك الله يا مولاي ذكّرت خاطري | بأشياء تشجي الصّبّ مهما تذكّرا |
وسمّيت لي دهرا تصرّم وانقضى | وعيشا لدى الخضراء فينان أخضرا |
زمان التقى البحران: علم ولجّة | فكنت به أصفى وأندى وأطهرا |
وحقّك ما قصّرت في حقّ صاحب | ولكنّني لم ألق إلاّ مقصّرا |
إذا ما دنا منّي تصوّر ثعلبا | ومهما نأى عنّي تصوّر قسورا |
وإن أنت عاينت التّذلّل من أخ | فلا تعتقد من ذاك إلاّ تجبّرا |
فما من حياء تكتسي النّار حمرة | ولا من سقام معدن التّبر أصفرا |
وخبّرني عن شاذن الرّيم أنّه | غدا صفو ماء الوصل منه مكدّرا |
أمولاي أرسل سحر نظمك نحوه | فلم أر منه للبريّة أسحرا |
لعلّ غزال الرّيف يكسب رأفة | فيهجر ذا عذل أساء وأهجرا |
وهيّ من التّعنيس صنعة فاعل | يريك له في ساحة الصّدر مصدرا |
أمولاي قد قلّدت جيدي قلادة | يباع بها درّ المعالي ويشترى |
وأسكرني للحين فرط انطباعها | ولم أدر أنّ الشّعر يوجد مسكرا |
ومن لي بأن أحكي الحميّا بحمأة | وآتي بأمثال الثّريّا من الثّرى |
وأوجب شيء حين يظهر نظمكم | لمثن بنظم الشّعر أن يتستّرا |
إلا هي قد عصينا منك ربّا | تعالى أن يقابل بالمعاصي |
فكيف خلاصنا من هول يوم | تشيب لهوله سود النّواصي |
دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان، دار الأمان للنشر والتوزيع، الرباط - المغرب-ط 1( 1999) , ج: 1- ص: 337