أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب الخازن

الرازي الأصل الأصبهاني المسكن الملقب مسكويه والملقب بالمعلم الثالث توفي في (9) صفر سنة 421 حكاه ياقوت في معجم الأدباء عن يحيى بن منده وكانت وفاته بأصبهان وقبره بها معروف مشهور.

لقبه ووصفه

مسكويه لقب أحمد نفسه كما صرح به جماعة، ويوجد في بعض المواضع ابن يعقوب بن مسكويه، ونحن قد ذكرنا تبعا لذلك فيما بدئ بابن ابن مسكويه وقلنا اسمه أحمد بن محمد بن مسكويه، وممن صرح بان مسكويه لقب له نفسه: الثعالبي في تتمة اليتيمة، وأبو حيان في الامتاع، وابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء، وياقوت في معجم الأدباء، كما يأتي ذلك كله. وفي مخطوط قديم سيأتي ذكره: أحمد بن محمد مسكويه في عدة مواضع. وفي ترجمة دائرة المعارف الإسلامية: ابن مسكويه والأصح مشكويه أسماه ياقوت مسكويه فقط. وزعم أنه كان مجوسيا اعتنق الإسلام بيد أن هذا الزعم بعيد الاحتمال ذلك لأننا نعرف اسم أبيه وجده أي ويعلم من اسميهما إنهما مسلمان فيكون أحمد قد ولد على الإسلام أيضا قال وربما كان خطا ياقوت راجعا إلى أنه اسمى الفيلسوف مسكويه بينما هذا الاسم لجده وقد يكون الجد مجوسيا حقيقة ثم اسلم انتهى وما ذكره له وجه وربما الذين أسموه مسكويه تبعوا في ذلك ياقوتا فاصل الخطا منه واتبعه غيره عليه انتهى ووصف بالخازن لأنه كان خازنا لعضد الدولة على بيت المال وخازنا لخزانة كتب ابن العميد.

أقوال العلماء فيه

هو العالم الحكيم الفيلسوف المشهور الرياضي المهندس المتكلم اللغوي المؤرخ الأخلاقي الشاعر الأديب الكاتب النافذ الفهم الكثير الاطلاع على كتب الأقدمين ولغاتهم المتروكة صاحب التصانيف الكثيرة في الفنون العقلية ولا سيما الحكمة النظرية والعملية. وفي دائرة المعارف الإسلامية مؤرخ انتهى. واثنى عليه الخواجة نصير الدين في ديباجة كتابه الأخلاق الناصرية الذي وضعه على نهج كتابه طهارة الأعراق وذكره بالتعظيم. وصحب الوزير أبا محمد المهلبي في أيام شبابه وكان خصيصا به إلى أن اتصل بخدمة الملك عضد الدولة بن بويه وصار من ندمائه ورسله إلى نظرائه، وكان خازنا له أثيرا عنده كاتما لأسراره، وفي رسالة مواليد العلماء: كان نديم عضد الدولة انتهى ثم اختص بالوزير ابن العميد وابنه أبي الفتح في خدمة الملك صمصام الدولة بن بويه، وكان في أول أمره في خدمة خوارزم شاه مع جملة من الأطباء منهم ابن سينا وابن الخمار وأبو ريحان وأبو نصر العراقي وأبو سهل المسيحي إلى أن أرسل السلطان محمود الغزنوني أبا الفضل الحسن بن ميكال سفيرا إلى عند خوارزم شاه، فقبل وصوله فر مسكويه ولم يقبل بمتابعة السلطان محمود. وفي تتمة اليتيمة للثعالبي: أبو علي مسكويه الخازن في الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر وكان في ريعان شبابه متصلا بابن العميد مختصا به ثم تنقلت به أحوال جليلة في خدمة بني بويه والاختصاص ببهاء الدولة، وعظم شأنه وارتفع مقداره وترفع عن خدمة الصاحب ولم ير نفسه دونه انتهى وحكى ياقوت في معجم الأدباء عن أبي حيان في كتاب الامتاع أنه قال في حقه بعد ما ذكر طائفة من متكلمي زمانه: وأما مسكويه ففقير بين أغنياء وغني بين أنبياء لأنه شاذ وإنما أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لايساغوجي وقاطيغورياس من تصنيف صديقنا بالري قال الوزير ومن هو؟ قلت أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري وصححه معي وهو الآن لائذ بابن الخمار وربما شاهد أبا سليمان المنطقي وليس له فراع لكنه محب في هذا الوقت للحسرة التي لحقته مما فاته من قبل! فقال: يا عجبا لرجل صحب ابن العميد أبا الفضل ورأى ما عنده وهذا حظه! قلت قد كان هذا ولكنه كان مشغولا بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيميائي الرازي مملوك الهمة في طلبه والحرص على إصابته مفتونا بكتب أبي زكريا وجابر بن حيان ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه هذا مع تقطيع الوقت في الحاجات الضرورية والشهوية والعمر قصير والساعات طائرة والحركات دائمة والفرص بروق تاتلق والأوطار في عرضها تجتمع وتفترق والنفوس عن قرابتها تذوب وتحترق ولقد قطن العامري الري خمس سنين ودرس وأملى وصنف وروى فما أخذ عنه مسكويه كلمة واحدة ولا وعى مسالة حتى كأنه كان بينه وبينه سدا ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم ومضغ لقمة حنظل الندامة في نفسه وسمع بإذنه قوارع الندامة من أصدقائه حين ما ينفع ذلك كله، وبعد هذا فهو ذكي حسن نقي اللفظ وان بقي عساه أن يتوسط هذا الحديث وما أرى ذلك كلفه بالكيمياء وانفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السلطان واحترافه في البخل بالدانق والقيراط والكسرة والخرقة نعوذ بالله من مدح الجود باللسان وايثار الشح بالفعل وتمجيد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل انتهى ثم حكى ياقوت عن أبي حيان في كتاب الوزيرين أنه قال: فان ابن العميد اتخذه خازنا لكتبه وأراد أيضا أن يقدح ابنه به ولم يكن من الصنائع المقصودة المهمات اللازمة وكان يحتمل ذلك لبعض العزازة بظله والتظاهر بجاهه انتهى يعني أن ابن العميد اتخذه خازنا لكتبه وأراد مع ذلك أن يتخرج عليه ولده أبو الفتح ويتعلم منه ولم يكن ذلك أي كونه خازنا ومعلما لابنه عند مسكويه مناسبا لحاله، بل كان يرى نفسه ارفع من ذلك لكنه احتمله للاستفادة من جاه ابن العميد. وقال ياقوت في معجم الأدباء كان مسكويه مجوسيا واسلم وكان عارفا بعلوم الأوائل معرفة جيدة وله في ذلك كتب وذكرها كما يأتي انتهى وقد عرفت التأمل في كونه مجوسيا فاسلم. وفي عيون الأنباء: مسكويه فاضل في العلوم الحكمية متميز فيها، خبير بصناعة الطب جيد في أصولها وفروعها، ثم ذكر مؤلفاته. وكان معاصرا للرئيس أبي علي بن سينا، ويظهر مما ذكره المؤرخون أنه لم يكن بينهما صفاء. يحكى أن ابن سينا دخل عليه يوما في مجلس درسه فالقى بين يديه جوزة كانت في يده وقال بين لي مساحة هذه بالشعيرات فالقى إليه ابن مسكويه أوراقا وقال له أصلح بهذه أخلاقك حتى أجيبك عما تريد. وذكر ابن سينا في بعض مسائله أبا علي مسكويه فاستعادها كرات وكان عسر الفهم وتركته ولم يفهمها على الوجه انتهى وعاش أبو علي مسكويه طويلا حتى سئم الحياة ولم يعد يقدر على الحركة، وفي بعض أشعاره الآتية إشارة إلى ذلك.

تشيعه

صرح بتشيعه السيد الداماد والقاضي نور الله في المجالس وصاحب رياض العلماء ويؤيد ذلك اختصاصه بهؤلاء الوزراء والملوك الشيعة وجعل عضد الدولة إياه خازنا واثارته عنده وجعله كاتم سره، وقوله في كتابه طهارة الأعراق: وسمع كلام الإمام الاجل سلام الله عليه الذي صدر عن حقيقة الشجاعة فإنه قال لأصحابه: انكم أن تقتلوا أو تموتوا والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف على الرأس أهون من ميتة على الفراش. وتصريحه في كتابه الفوز الأصغر على ما حكي باعتقاد إمام معصوم حيث ذكر في أواخره في بحث النبوة أن الإمام يشارك النبي في جميع الصفات إلا النبوة أو ما هذا معناه، ومدح المحقق الطوسي له ولكتابه طهارة الأعراق على ما في ديباجة الأخلاق الناصرية بهذه الأبيات:

مؤلفاته

كان عند الأمير صدر الدين الشيرازي كثير من مؤلفاته ويقال أنه كان يضن بها عن عيون أصحابه لكثرة ما جمع فيها من الأسرار فمن مؤلفاته

(1) طهارة الأعراق في تكميل النفس وتهذيبها أو تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق مطبوع في مصر وفي بلاد إيران على هامش مكارم الأخلاق وعلى منواله ألف الخواجة نصير الدين الطوسي كتابه الفارسي الأخلاق الناصرية الذي ألفه بأمر ناصر الدين محتشم أحد أمراء الإسماعيلية ومدح في مقدمته أبا علي مسكويه وأشار إلى كتابه طهارة الأعراق ومدحه

(2) الفوز الأصغر مطبوع

(3) الفوز الأكبر

(4) آداب الدنيا والدين

(5) المستوفي فيه أشعار مختارة

(6) أنس الخواطر مجموعة شبه الكشكول

(7) نزهة نامه علائي بالفارسية ألفه باسم علاء الدولة الديلمي

(8) آداب العرب والفرس والهند وهو تتمة لملخص كتاب جاويدان خرذ الذي لخصه وعربه الحسن بن سهل وذلك أن أصل كتاب جاويدان خرذ بالفارسية ألفه حكماء الفرس القدماء لهوشنك بن كيومرث من ملوك الفرس ثم لخصه الحسن بن سهل في عصر المأمون بالعربية فاورد ابن مسكويه هذا الملخص وزاد عليه ما ألحقه به وسمى المجموع آداب العرب والفرس والهند

(9) كتاب جاويدان خرذ نسبه إليه ياقوت وهو ترجمة كتاب الحسن بن سهل إلى الفارسية فقد عرفت أن الحسن بن سهل ترجم ملخص كتاب جاويدان خرذ من الفارسية إلى العربية فترجم ابن مسكويه هذا الملخص من العربية إلى الفارسية ورتبه وهذبه وسماه جاويدان خرذ باسم أصله مطبوع وسنتكلم على كتاب جاويدان خرذ مفصلا

(10) ترتيب العادات

(11) السياسة للملك أشار إليه في طهارة الأعراق

(12) تجارب الأمم وتعاقب الأمم في نوادر الأخبار والتواريخ طبع بالفوتغراف وطبع ثلاثة مجلدات منه في مصر وطبع الجزء السادس منه بمدينة ليدن ابتدأه من بعد الطوفان وانتهى فيه إلى حوادث عام 369

(13) نديم الفريد وسماه ياقوت انس الفريد قال وهو مجموع يتضمن أخبارا وأشعارا وحكما وأمثالا غير مبوب

(14) كتاب الأشربة وما يتعلق بها من الأحكام الطبية

(15) كتاب الطبخ أو الطبيخ

(16) حقائق النفوس

(17) نور السعادة

(18) اقسام الحكمة والرياضي

(19) تعليق في المنطق

(20) أحوال الحكماء السلف وصفات بعض الأنبياء السالفين

(21) الجامع

(22) كتاب السير قال ياقوت اجاده ذكر فيه ما يسير به الرجل نفسه من أمور دنياه مزجه بالأثر والآية والحكمة والشعر.

الكلام على كتاب جاويدان خرذ

ونحن نقول: أن آباد لم ترد في اللغة الفارسية إلا بالدال المهملة ومع ذلك لما استعملها العرب مركبة مع بعض الأعلام رسموها بالذال المعجمة، وكذلك أستاذ يستعملها الفرس بالدال المهملة والعرب بالذال المعجمة، ومثلها همدان المدينة وغير ذلك، ويمكن كون جاويدان خرد كذلك والله أعلم. وهو لفظ فارسي معناه العقل الخالد فجاويدان بجيم وألف وواو مكسورة ودال مهملة وألف ونون معناه العقل وفي ترجمة دائرة المعارف الإسلامية معناه العقل الأزلي وهو اسم لكتاب ألفه الحكماء القدماء بالفارسية لهوشنك بن كيومرث البيشدادي من ملوك الفرس القدماء يشتمل على حكم وآداب. في كشف الظنون جاويدان خرذ اسم كتاب للفرس منسوب إلى هوشنك شاه وقد عربه حسن بن سهل وزير المأمون ولخصه أيضا في تعريبه. وأورد الشيخ أبو علي مسكويه الطبيب المشهور هذا الملخص في مقدمة كتابه المسمى بآداب العرب والفرس انتهى وعندي مخطوط قديم مجموع فيه عدة كتب نفيسة ومن جملتها كتابان أحدهما مختصر من كتاب جاويدان خرذ في حكم الفرس والهند والروم والعرب والثاني ما الحقه مسكويه بهذا المختصر من آداب العرب والفرس والهند ويظهر أن هذا هو الذي عربه الحسن بن سهل واختصره من كتاب جاويدان خرذ ولكن كتب على النسخة ما صورته كما يأتي نتف وآداب انتخبت من كتاب جاويدان خرذ الذي ألفه أحمد بن محمد مسكويه تشتمل على حكم الفرس والروم والعرب انتهى وهذه العبارة لا تكاد تصح لما عرفت من أن كتاب جاويدان خرذ ليس من تأليف أحمد بن محمد بن مسكويه بل من تأليف قدماء الفرس وعربه واختصره الحسن بن سهل ومسكويه ذكر المختصر والحق به آداب العرب والفرس والهند نعم قد عرفت أن مسكويه رتب هذا المختصر وهذبه ونقله إلى الفارسية وسماه باسم أصله جاويدان خرذ لكنه فارسي وهذا عربي. وكتب على أول الكتابين اللذين هما في حكم كتاب واحد أيضا ما صورته: تصفحه ونقل عيونه أبو النجيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم الكرخي رزقه الله علما نافعا وكتب على بعض محتويات تلك المجموعة أيضا ما صورته نسخ منه أبو النجيب الكركي في شهور سنة ثمان وعشرين وخمسمائة انتهى ونحن ننقل ذلك المختصر بتمامه مع ما الحق به من خبر كتاب جاويدان خرذ وما الحق به من كتاب آداب العرب والفرس والهند لما في المختصر وملحقه من الحكم والآداب ولانه من الآثار التاريخية المهمة التي ترتبط بترجمة مسكويه. لكننا نقدم خبر الكتاب على ذكر المختصر وملحقه عكس ما في النسخة لان خبر الكتاب ينبغي أن يعرف قبل معرفة الكتاب ومختصره. خبر كتاب جاويدان خرذ وجدنا ملحقا بالمختصر المشار إليه ما هذا لفظه: حكى أبو عثمان الجاحظ خبر هذا الكتاب في كتابه المسمى استطالة الفهم وقال: حدثني الواقدي قال: قال لي الفضل بن سهل: لما دعي للمأمون بكور خراسان بالخلافة جاءتنا هدايا الملوك ووجه ملك كابلسان بشيخ يقال له ذوبان، وكتب يذكر أنه وجه بهدية ليس في الأرض أسنى ولا أرفع ولا أنبل ولا أفخر منها، فعجب المأمون وقال: فسل الشيخ ما معه من الهدايا؟ فسألته فقال: ما معي أكبر من علمي! قلت فأي شيء علمك؟ فقال تدبير ورأي ودلالة، فأمر المأمون بانزاله واكرامه وكتمان أمره. فلما اجمع على التوجيه إلى العراق لقتال أخيه محمد دعا بذوبان وقال ما ترى في التوجه إلى العراق لقتال محمد؟ فقال رأي مصيب وملك قريب. ثم حكى الجاحظ عن ذوبان بإسناده أنه كان يسجع سجاعة الكهان ويصيب في كل ما يسأله المأمون فلما ورد عليه كتاب فتح العراق دعا بذوبان واكرمه وأمرله بمئة ألف درهم فلم يقبلها وقال أيها الملك! أن ملكي لم يوجهني إليك لانتقصك، فلا تجعل ردي نعمتك مسخطا فاني لست أردها عن استصغار لقدرها وسوف اقبل منك ما يفي بهذا المال ويزيد، وهو كتاب يوجد بالعراق فيه مكارم الأخلاق وعلوم الآفاق من كتب عظيم الفرس يوجد في الخزائن تحت الإيوان بالمدائن فلما قدم المأمون بغداد واستقرت به دار ملكه اقتضاه ذوبان حاجته فأمر بان تكتب الصفة ويذكر الموضع فكتبه ذوبان وعين الموضع وقال إذا بلغت الحجر ووصلت إلى الساجة فاقلعها تجد الحاجة فخذها ولا تعرض لغيرها فيلزمك غب ضيرها، فوجه المأمون في ذلك رسولا حصيفا فوجد هناك صندوقا صغيرا من زجاج أسود وعليه قفل فحمله ورد الحفرة إلى حالها. قال: فحدثني الحسن بن سهل قال إني عند المأمون إذ ادخل ذلك الصندوق فجعل يعجب منه، ثم دعا بذوبان فقال هذه بغيتك؟ قال نعم! قال خذه وانصرف ولا تظنن أن الرغبة فيما لعله يوجد فيه حملتنا على مسألتك فتحه بين أيدينا فقال أيها الملك لست ممن تنقض رغبته ذمام عهده، ثم فتح القفل وادخل يده فاخرج خرقة ديباج ونثرها فسقط منها أوراق فعدها فإذا هي مائة ورقة ثم نفض الصندوق فلم يكن فيه سوى الأوراق، فرد الأوراق إلى الخرقة وحملها ونهض، ثم قال أيها الملك هذا الصندوق يصلح لجنبات خزانتك فأمر به فرفع. قال الحسن بن سهل: فقلت يرى أمير المؤمنين أن أسأله ما في الكتاب؟ فقال يا حسن! أفر من اللؤم ثم ارجع إليه! فلما خرج صرت إليه في منزله فسألته عنه فقال هذا كتاب جاويدان خرذ اخرجه كنجور وزير ملك ايرانشهر من الحكمة القديمة فقلت أعطني ورقة منه انظر فيها فأعطاني فأجلت فيها نظري وأحضرت لها ذهني فلم ازدد مما فيها إلا بعدا، فدعوت بالخضر بن علي وذلك في صدر النهار فلم ينتصف حتى فرع من قراءتها بينه وبين نفسه وأنا اكتب حتى أخذت منه نحوا من ثلاثين ورقة وانصرفت في ذلك اليوم، ثم دخلت يوما عليه فقلت يا ذوبان! هل يكون في الدنيا أحسن من هذا العلم؟ فقال لولا أن العلم مضنون به وهو سبيل الدنيا والآخرة لرأيت أن أدفعه إليك بتمامه ولكن لا سبيل إلى أكثر مما اخذت، ولم تكن الأوراق التي اخذتها على التاليف لأنها تتضمن أمورا لا يمكن إخراجها. فحدثني الحسن بن سهل قال قال لي المأمون يوما: أي كتب العرب أنبل وأفضل؟ فجعلت أعدد كتب المغازي والتواريخ حتى ذكرت تفسير القرآن وقال: كلام الله لا يشبهه شيء ثم قال: أي كتب العجم أشرف؟ فذكرت كثيرا منها ثم قلت كتاب جاويدان خرذ يا أمير المؤمنين فدعا بفهرست كتبه وجعل يقلبه فلم ير لهذا الكتاب ذكرا فقال كيف سقط ذكر هذا الكتاب عن الفهرست؟ فقلت يا أمير المؤمنين هذا هو كتاب ذوبان وقد كتبت بعضه قال فائتني به الساعة! فوجهت في حمله فوافاه الرسول وقد نهض للصلاة فلما رآني مقبلا والكتاب معي انحرف عن القبلة وأخذ يقرأ الكتاب وكلما فرع من فصل قال لا إله إلا الله، فلما طال ذلك قلت يا أمير المؤمنين! الصلاة تفوت وهذا لا يفوت فقال صدقت! ولكني أخاف السهو في صلاتي لاشتغال قلبي، ثم صلى وعاود قراءته ثم قال أين تمامه؟ قلت لم يدفعه إلي، فقال لولا أن العهد حبل طرفه بيده الله وطرفه بيدي لأخذته منه، فهذا والله الحكمة لا ما نحن فيه من ألسنتنا في أشداقنا انتهى.

هذا ما وجدناه في النسخة في آخر المختصر المذكور من خبر هذا الكتاب فلنعد إلى ذكر المختصر وهو هذا:

بسم الله الرحمن الرحيم

نتف وآداب انتخبت من كتاب جاويدان خرذ الذي ألفه أحمد بن محمد مسكويه، وهي تشتمل على حكم الفرس والروم والهند والعرب.

وصية اوشيهنج لولده وللملوك من خلفه

وهذا الملك كان بعيد الطوفان وليس يوجد لمن كان قبله سيرة ولا أدب مستفاد. قال أوشيهنج! من الله المبتدأ واليه المنتهى وبه التوفيق وهو المحمود، من عرف الابتداء شكر ومن عرف الانتهاء أخلص ومن عرف التوفيق خضع ومن عرف الافضال أناب بالاستسلام والموافقة (أما بعد) فان أفضل ما أعطي العبد في الدنيا الحكمة وأفضل ما أعطي في الآخرة المغفرة وأفضل ما أعطي في نفسه الموعظة، وأفضل ما سال العبد العافية، وأفضل ما قال كلمة التوحيد، رأس الغنى المعرفة، وملاك العلم العمل وملاك العمل السنة، وإصابة السنة لزوم القصد، الدين بشعبه كالحصن بأركانه فإذا تداعى واحد منها تتابع بعده سائرها أعمال البر على أربع شعب العلم والعمل وسلامة الصدر والزهد. فالعلم بالسنن، والعمل بإصابة السنن وسلامة الصدر بأمانة الحسد، والزهد بالصبر (جماع أمرالعباد في أربع خصال) العلم والحلم والعفاف والعدالة، فالعلم بالخير للاكتساب وبالشر للاجتناب، والحلم في الدين للإصلاح وفي الدنيا للكرم، والعفاف في الشهوة للرزانة وفي الحاجة للصيانة، والعدالة في الرضى والغضب للقسط (العلم على أربعة أوجه) أن تعلم أصل الحق الذي لا تقوم إلا به فروعه التي لا بد منها وقصده الذي لا نفع إلا فيه. وضده الذي لا يفسده إلا هو (العلم والعمل) قرينان كمقارنة الروح للجسد لا ينفع أحدهما إلا بالآخر (الحق يعرف من وجهين) ظاهر يعرف بنفسه، وغامض يعرف بالاستنباط من الدليل وكذلك الباطل (أربعة أشياء يتقوى بها على العمل) الصحة والغنى والعزم والتوفيق (طرق النجاة ثلاثة) سبيل الهدى وكمال التقوى وطيب الغذاء. العلم روح والعمل بدن. والعلم أصل والعمل فرع. العلم والد والعمل مولود، وكان العمل لمكان العلم، ولم يكن العلم لمكان العمل. الغنى في القناعة، والسلامة في العزلة، والحرية في رفض الشهوة، والمحبة في ترك الطمع والرغبة، واعلم أن التمتع في أيام طويلة يوجد بالصبر على أيام قليلة (الغنى الأكبر في ثلاثة أشياء) نفس عالمة تستعين بها على دينك وبدن صابر تستعين به في طاعة ربك، وتتزود به لمعادك وليوم فقرك، وقناعة بما رزق الله باليأس عما عند الناس. اخرج الطمع عن قلبك تحل القيد من رجلك وتروح بذلك، الظالم نادم وان مدحه قوم، والمظلوم سالم وان ذمه قوم، والمقتنع غني وأن جاع وعري، والحريص فقير وأن ملك الدنيا (الشجاعة) سعة الصدر بالاقدام على الأمور المؤلمة والمكاره الحادثة (والسخاء) سماحة النفس لمستحق البذل، وبذل الرغائب الجليلة في موضعها، (والحلم) ترك الانتقام مع إمكان القدرة (والحزم) انتهاز الفرصة، الدنيا دار عمل والآخرة دار ثواب، وزمام العافية بيد البلاء، ورأس السلامة تحت جناح العطب، وباب الأمن مستور بالخوف فلا تكونن في حال هذه الثلاثة غير متوقع لأضدادها ولا تجعل نفسك غرضا للسهام المهلكة فان الزمان عدو لابن آدم فاحترز من عدوك بغاية الاستعداد، وإذا فكرت في نفسك وعدوها استغنيت عن الوعظ، أجل قريب في يد غيرك، وسوق حثيث من الليل والنهار، وإذا انتهت المدة حيل بينك وبين العدة فاحتل قبل المنع، وأكرم أجلك بصحبة السابقين، إذا آنستك السلامة فاستوحش من العطب وإذا فرحت للعافية فاحزن للبلاء فإليه تكون الرجعة، وإذا بسطك الأمل فاقبض نفسك بقرب الاجل فهو الموعد. الحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل من العجلة، والجهل في الحرب خير من العقل، والتفكر هناك في العاقبة مادة الجزع، أيها المقاتل، احتل تغنم، ولا تفكر في العاقبة فتنهزم. التأني فيما لا تخاف عليه الفوت أفضل من العجلة إلى ادراك الأمل. أضعف الحيلة انفع من أقوى الشدة، وأقل التأني أجدى من أكثر العجلة، والدولة رسول القضاء المبرم، وإذا استبد الملك برأيه عميت عليه المراشد (يحرم على السامع تكذيب القائل إلا في ثلاث) هن غير الحق، صبر الجاهل على مضض المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن إليه، وحماة أحبت كنة(ثلاث لا يستصلح فسادهن بشيء من الحيل) العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء والركاكة في الملوك (وثلاث لا يستفسد صلاحهن بنوع من المكر) العبادة في العلماء، والقناعة في المستبصرين، والسخاء في ذوي الاخطار (وثلاث لا مشبع منهن) العافية والحياة والمال. إذا كان الداء من السماء بطل الدواء. وإذا قدر الرب بطل حذر المربوب، ونعم الدواء الاجل، وبئس الداء الأمل والمال (ثلاث هن سرور الدنيا وثلاث غمها) أما السرور فالرضا بالقسم، والعمل بالطاعة في النعم، ونفي الاهتمام لرزق غد، وأما الغم فحرص مسرف، وسؤال ملحف، وتمني ما يلهف الدنيا (أربعة أشياء) البناء والنساء والطلاء والغناء (أربعة من جهد البلاء) كثرة العيال، وقلة المال، والجار السوء، وزوجة خائنة (شدائد الدنيا في أربعة) الشيخوخة مع الوحدة، والمرض في الغربة، وكثرة الدين مع القلة، وبعد الشقة مع الرجلة، المرأة الصالحة عماد الدين، وعمارة البيت، وعون على الطاعة. ليس بكامل من غزا ولم يبن على امرأة تزوجها، أو بنى بناء ولم يكمله، أو زرع زرعا ولم يحصده (ثلاث ليس للعاقل أن ينساهن) فناء الدار وتصرف أحوالها، والآفات التي لا أمان منها (ثلاث لا تدرك بثلاث) الغنى بالمنى، والشاب بالخضاب، والصحة بالأدوية (أربع خصال إذا أعطيتهن فلا يضرك ما فاتك من الدنيا) عفاف طعمة وحسن خلقة، وصدق حديث، وحفظ أمانة (ستة أشياء تعدل الدنيا) الطعام المرئ، والسيد الرؤوف، والولد البر. والزوجة الموافقة، والكلام المحكم. وكمال العقل. صقلك السيف وليس له من سنخه جوهر خطا، ونثرك الحب قبل أوانه في الأرض السبخة جهل وحملك الصعب المسن على الرياضة عناء. الناصح غريزة الطبع. القائد المشفق حسن المنطق. العناء المعني تطبع من لا طبع له. الداء العياء رعونة مولودة. الجرح الدوي المرأة السوء. الحمل الثقيل الغضب (ثلاثة أشياء حسنها في ثلاثة مواضع) المواساة عند الجوع، والصدق عند السخط، والعفو عند القدرة. العاقل لا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يسال ما يخاف منعه، ولا يضمن ما لا يثق بالقدرة عليه (ثلاث ليس معهن غربة) حسن الأدب، وكف الأذى، واجتناب الريب (ثماني خصال من طباع الجهال) الغضب في غير معنى، والإعطاء في غير حق، واتعاب البدن في الباطل، وقلة معرفة الرجل بصديقه من عدوه، ووضعه السر في غير أهله، وثقته بمن لم يجربه، وحسن ظنه بمن لا عقل له ولا وفاء، وكثرة الكلام بغير نفع. من ظلم من الملوك فقد خرج من كرم الملك والحرية، وصار إلى دنائة الشره والنقيصة، والشبه بالعبيد والرعية. إذا ذهب الوفاء نزل البلاء، وإذا مات الاعتصام عاش الانتقام. إذا ظهرت الخيانات استخفت البركات، الهزل آفة الجد، والكذب عدو الصدق، والجور مفسد العدل فإذا استعمل الملك الهزل ذهبت هيبته، وإذا استصحب الكذب استخف به، وإذا اظهر الجور فسد سلطانه. الحزم انتهاز الفرصة عند القدرة وترك الونى فيما يخاف عليه الفوت. والرياسة لا تتم إلا بحسن السياسة ومن طلبها صبر على مضضها. باحتمال المؤن يجب السؤدد وبالافضال تعظم الاخطار، وبصالح الأخلاق تزكو الأعمال. إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله والمال عند من لا ينفقه ضاعت الأمور على الملك أن يعمل بثلاث خصال تأخير العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل مكافاة المحسن، والأناة فيما يحدث. فان له في تأخير العقوبة امكان العفو، في تعجيل المكافاة بالاحسان المسارعة بالطاعة من الرعية والجند، وفي الأناة انفساح الرأي وأيضاح الصواب. الحازم فيما أشكل عليه من الرأي بمنزلة من أضل لؤلؤة فجمع ما حول مسقطها من التراب فنخله حتى وجدها، كذلك الحازم جامع جميع الرأي في الأمر المشكل ثم يخلصه ويسقط بعضه حتى يخلص منه الرأي الخالص. لا ضعة مع حزم، ولا شرف مع عجز الحزم مطية النجح، والعجز مورث الحرمان أربع خصال ضعة في الملوك والأشراف التعظم ومجالسة الأحداث والصبيان والنساء ومشورتهن وترك ما يحتاج إليه من الأمور فيما يفعله بيده ويحضره بنفسه. لا يكون الملك ملكا حتى يأكل من غرسه ويلبس من طرازه وينكح من تلاده ويركب من نتاجه، أحكام هذه الأمور بالتدبير والتدبير بالمشورة والمشورة بالوزراء الناصحين المستحقين لرتبهم. استظهر على من دونك بالفضل وعلى نظرائك بالانصاف وعلى من فوقك بالإجلال تأخذ بوثائق أزمة التدبير. يجب على العاقل من حق الله عز وجل التعظيم والشكر، ومن حق السلطان الطاعة والنصيحة ومن حقه على نفسه الاجتهاد في الخيرات واجتناب السيئات، ومن حق الخلطاء الوفاء بالود والبذل للمعونة، ومن حق العامة كف الأذى وحسن المعاشرة لا يكمل المرء إلا بأربع قديم في شرف، وحديث في نفس، واحظاء عند مال وصدق عند باس. من لم يبطره الغنى ولم يستكن في الفاقة ولم تهده المصائب ولم يامن الدوائر ولم ينس العواقب فذاك الكامل الكمال في ثلاث الفقه في الدين، والصبر على النوائب وحسن التقدير في المعيشة ويستدل على توقي المرء بثلاث التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر عما فات ذروة الإيمان أربع خلال الصبر للحكم، والرضا بالقدر والاخلاص بالتوكل، والاستسلام للرب. ليس للدين عوض ولا للأيام بدل ولا للنفس خلف. من كان مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وان لم يسر. من جمع السخاء والحياء فقد استجاد الإزار والرداء من لم يبال بالشكاية فقد اعترف بالدناءة، من استرجع هبته فقد استحكم اللؤم أربعة أشياء القليل منها كثير الوجع والفقر والعار والعداوة. من جهل قدر نفسه فهو لقدر غيره أجهل. من انف من عمل نفسه اضطر إلى عمل غيره. من استنكف من أبويه فقد انتفى من الرشدة. ومن لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره. اذكر مع كل نعمة زوالها ومع كل بلية كشفها فان ذلك أبقى للنعمة وأسلم من البطر وأقرب إلى الفرج. إذا لم يكن العدل غالبا على الجور لم يزل يحدث ألوان البلاء والآفات. ليس شيء لتغيير نعمة وتعجيل نقمة أقرب من الإقامة على الظلم. الأمل قاطع من كل خير وترك الطمع مانع من كل خوف، والصبر صائر إلى كل ظفر والنفس داعية إلى كل شر، باستصلاح المعاش يصلح أمرالعباد. وبصدق التوكل يستحق ‹ الرزق. وبالاستخلاص يستحق الجزاء وبسلامة الصدر توضع المحبة في القلب وبالكف عن المحارم ينال رضى الرب وبالحكم يكشف غطاء العلم ومع الرضا يطيب العيش وبالعقول تنال ذروة الأمور وعند نزول البلاء تظهر فضائل الإنسان وعند طول الغيبة تظهر مواساة الأخوان وعند الحيرة تستكشف عقول الرجال وبالاسفار تخبر الأخلاق ومع الضيق يبدو السخاء، وفي الغضب يعرف صدق الرجال، وبالايثار على النفس تملك الرقاب وبالأدب الصالح يلهم العلم وبترك الخطا يسلم من العيوب وبالزهد تقام الحكمة وبالتوفيق تحرر الأعمال وعند الغايات تظهر قوى العزائم وبصاحب الصدق يتقوى على الأمور وبالملاقاة يكون ازدياد المودات ومع الزهد في الدنيا تثبت المؤاخاة ومن الوفاء دوام المواصلة ومن قبول رشد العالم ركوب مطية العلم ومن استقامة النية اختيار صحبة الأبرار ومن مصافحة الغرر ركوب البحر ومن عز النفس لزوم القناعة ومن سلطان النفس التجلد على من يطمع في دينك ومن الدخول في كامن الصدق الوقوع على ما لا تعرفه العوام ومن حب الصحة الانقطاع عن الشهوات، ومن خوف المعاد الإنصراف عن السيئات، ومن طلب الفضول الوقوع في البلايا ومن لم يجد للإساءة إليه مضضا لم يجد للاحسان عنده موقعا، قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، الحسود لا يسود، منازع الحق مخصوم، أولى الناس بالفضل أعودهم بفضله، أعون الأشياء على تذكية العقل التعلم وأدل الأشياء على عقل العاقل حسن التدبير، المستشير متحصن عن السقط، المستبد متهور في الغلط، من ألبسه الحياء ثوبه غطى عن الناس عيبه. أحسن الآداب أن لا يفخر المرء بأدبه ولا يظهر القدرة على من لا قدرة له عليه ولا يتوانى في العلم إذا طلبه ثلاثة ضروب من الناس لا يستوحشون في غربة ولا يقصر بهم عن مكرمة الشجاع حيثما توجه فان بالناس حاجة إلى شجاعته وبأسه، والعالم فان بالناس حاجة إلى علمه، والحلو اللسان الظاهر البيان فان الكلمة تحوز له بحلاوة لسانه ولين كلامه، فإن لم تعطوا في القسمة رباطة الجاش وجرأة الصدر فلا يفوتنكم العلم وقراءة الكتب فإنه أدب وعلم قد قيده لكم من مضى من قبلكم لتزدادوا به عقلا، اجعل الحلم عدة للسفيه. تم الكتاب والحمد لله وحده هذا آخر المختصر. ثم ذكر بعده خبر الكتاب وقد تقدم، ثم قال: قال أحمد بن محمد مسكويه فهذا آخر كتاب أوشيهنج وخبره مع ذوبان وقد سمعت شغف المأمون به وستسمع مما أضفناه إليه ما لا تخفى زيادة حسنة عليه من قرائح الحكماء ونتائج أفكارهم واتفاقهم مع تباعد أقطارهم فأقول: كل إنسان يحب نفسه وكل من أحب شيئا أحب أن يحسن إليه فليت شعري عمن لا يعرف نفسه كيف يحسن إليها ومن لا يعرف طريق الاحسان كيف يسلكه ولقد سمعت وزيرا من وزراء عصرنا وقد أقام لنفسه وظيفة ليستفره فيها طباخه وصاحب شرابه وزين مجلسه كل يوم بريحان لوقت وفاكهته وأحضر اليوم الذي دعاني فيه من أغانيه ما كان يعجبه ويطرب له فقال في عرض كلامه أن عشت فسأحسن إلى نفسي فتدبرت كلامه وفعاله وإذا هو لا يدري كيف يحسن إلى نفسه ولا يفرق بين الاحسان إلى بدنه بركوب الشهوات وبين الاحسان إلى نفسه بمعرفة الحقائق والتقرب إلى الله عز وجل بأنواع القربات فكان من عاقبة أمره أن حسده نظراؤه فأزالوا عن موضعه ونكبوه في نعمته وأشمتوا به أعداءه ثم وقع في أمراض لم يجنها عليه إلا انهماكه في مطعمه ومشربه وتمكنه من نيل لذاته. ثم أقول أيضا لو كانت معرفة النفس امرا سهلا ما تعبت بها الحكماء ولا تبرمت بها الجهال ولما انزل في الوحي القديم يا إنسان أعرف ذاتك وقد قال الله عز من قائل في محكم كتابه {يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك} إلى آخر الآية وروينا في الخبر الصحيح أن من عرف نفسه عرف ربه. وفي حديث آخر من عرف ربه لم يشق، وقال المسيح عليه السلام: بما ذا نفع امرؤ نفسه باعها بجميع ما في الدنيا ثم ترك ما باعها ميراثا لغيره وأهلك نفسه ولكن طوبى لامرئ خلص نفسه واختارها على جميع الدنيا، وفي الوحي القديم من لم يعرف نفسه ما دامت في جسده فلا سبيل له إلى معرفتها بعد مفارقتها جسده. من لم يتفكر في كل شيء خفي عليه كل شيء، من لم يعرف معدن الشر لم يقدر على النجاة منه، نظر النفس للنفس هو العناية بالنفس، ردع النفس للنفس هو العلاج للنفس، عشق النفس للنفس هو المرض للنفس، النفس العزيزة هي التي لا تؤثر فيها النكبات، النفس الكريمة هي التي لا تثقل عليها المؤنات.

حكم لفرس

قال أذرياذ لابنه يعظه: يا بني اقتصد في القرى تكن مضيافا، وتمسك بالقناعة تكن رخي البال، واستشعر الرضا تكن وادعا، واجتهد في الطلب تكن واجدا، وتجنب الذنوب تكن آمنا والزم القصد تكن أمينا، وحالف الأدب تكن عالما وثابر على الشكر تكن مستوجبا والزم التواضع تكن كثير الأخوان، وكن لروحك مصافيا برا طاهرا، لا تدعن من أجل اكتساب المال ما هو أفضل من المال، لا تتركن من أجل حظوظ الدنيا الفانية، طلب الفوز بحظوظ الآخرة الباقية، وليكن العلم أحظى الأشياء وأكرمها عليك، أنعم الوعي عن العلماء وأحسن الطاعة لأهل القدرة، عاشر الأصدقاء بما لا تحتاج معه إلى حاكم، درب نفسك على التواضع للناس فلن يضع ذلك منك بل يرفعك ويزيد في مقدارك، لا تستعمل اليقين في الأمور التي يعرض فيها الشك، ليكن ذكر المعاد وخوف العقاب منك على بال لا تثقن بالشفعاء، لا تستعمل الثقة بالنساء ولا تفش إليهن سرا لا تهتم بما لم يحدث ولا تذكرن ما مضى لك من قول وعمل واستشعر الرضا والتسليم لما قد حدث، لا تغرمن بافتتاح المنطق في المجالس قبل كل أحد، لا تداين الرجل القوي فيلحقك التعب عند محاولتك استرجاع ذلك منه، لا تنازع الأكفاء في المتكا ولا في المراتب، لا تطلعن الحسود على جدبك، لا تخاطرن أحدا، لا تثقن بشيء في عالم الكون والفساد أصلا، لا تطاعم الشره الوقح، لا تعاشر الرجل السكير السئ الخلق، لا تنازع الأديب المفوه، لاتماش الأثيم، استعمل الرجل العفيف بوابا والحر الذكي رسولا والحر الكريم صديقا لئلا يخذلك ولا يخونك. لا تستعمل الغش والتمويه في شيء من أمورك، تنكب البطر والاستكانة فان العالم الأديب لا تسكره النعمة ولا تكرثه النكبة، إذا رأيتم الأمر المنكر الغريب فلا يتداخلنكم الارتياب بربكم ولا تندموا على ما قدمتم من الخير والبر، لا تأسفن على ما فاتك من الثراء فإنه المال شبيه بطائر ينتقل من نشز إلى نشز فهو عند اقباله سريع الاقبال وعند أدباره حثيث الانتقال لا تؤانسن المعجب الكفور الذي يعيب الناس فإنك منه بعرض غرم مجحف بما لا تعدم على بابك شفيعا ممن يثقل عليك رده وتصعب مخالفته فيما يسألك.

حكم تؤثر عن أنوشروان

تجنب الحلف في حال الصدق فأما الخلاف فاجتنبه وهنا ذهب شيء مما كتب في الهامش وإن كنت حاذقا بالرقى فلا تبادر إلى تناول الحيات، تعهد مالك بالتثمير وشدة التفقد وانعام المحاسبة لئلا يلحقك المثل السائر متى حضر المال عزب العقل ومتى حضر العقل عزب المال، كل شيء أنفقته في شهوتك وأصبته منها فاعلم انك لم تصبه وإنما أصابك وهلك به بعضك، فالعاقل من ترك الهوى ليكون كتارك أكلة ليصل إلى أكلات وكمجتنب فاحشة ظاهرة لتخفى له فواحش باطنة وقال من عدم العقل فلن يزيده السلطان عزا ومن عدم القناعة فلن يزيده المال غنى، ومن عدم الإيمان فلن تزيده الرواية فقها، وإنما الإنسان عقل في صورة فمن اخطاه العقل ولزمته الصورة لم يكن إنسانا تاما ولم يكن إلا كتمثال لا روح فيه. سئل ما أغنى الغنى؟ قال: نزاهة النفس وملك الهوى. سئل أي هيبة تكون انفع للسلطان في سلطانه وأعم نفعا في رعيته؟ قال: هيبة العدل والنزاهة وحسم بوائق الأشرار وأهل الريب، سئل ما السرور الذي يجب أن يغتبط به الملك؟ قال: السرور للملك وغير الملك ما كان معه رجاء لحسن معاده فأما ما سوى ذلك فهو مطرح عند ذوي الألباب. قيل له: ما القناعة وما التواضع قال:أما القناعة فالرضا بالقسم وسخاء النفس عما لا ينبغي الرغبة فيه، وأما التواضع فاحتمال الأذى عن كل أحد ولين الجانب لمن هو دونك. قيل وما ثمرة القناعة وما ثمرة التواضع؟ قال: ثمرة التواضع المحبة وثمرة القناعة الراحة. سئل ما العجب وما الرياء؟ قال: العجب أن يظن المرء بنفسه ما ليس عنده حتى يرى رأيه صوابا ورأي غيره خطأ، والرياء أن يتصنع للناس ويظهر لهم الصلاح وهو خلو منه. قيل: فأيهما أشد ضررا؟ قال:أما على نفسه فالعجب وأما على خلطائه فالرياء لطمأنينتهم إليه في مهماتهم بما يظهر لهم من نفسه وليس تؤمن منه الخيانة. قيل له: ما بذر جميع الفضائل؟ قال: العلم والعقل! قيل: فهل فوق العقل والعلم شيء؟ قال: التوفيق يزينهما والخذلان يشينهما! قيل: ما الصبر المحمود؟ قال ثبات على كل أمركريم وزم الهوى عن كل أمرلئيم! قيل ثم ماذا؟ قال أن لا تغيرك السراء ولا الضراء فتنقلك من حميد إلى ذميم قيل ثم ما ذا قال: القوة على الهوى عند أشراف الطمع والقهر للغضب في حال غليان الغيظ! قيل ثم ماذا؟ قال احتمال كل كريهة في ما حيز به الفضل، والصبر له أربعة مواطن: ثبات وكف واحتمال واقدام، فالثبات على الكرائم، والكف عن المحارم والمآثم، والاحتمال للوازم فيما يوجب الفضل ويظهر المروءة، والاقدام على الجلائل التي فيها النجاة والفوز. وقال: الصبر من الشكر، والشكر من الفضيلة، وهما نوعان: صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله، فالصبر على طاعة الله أداء الفرائض، والصبر عن معصية الله اجتناب المحارم. قيل: ما محض الكرم؟ قال الوفاء بالذمم. قيل ما محض اللؤم؟ قال: التجني بمنزلة الذئب الذي هم بأكل السخلة لعامها فقال لها أنت شتمتني عاما أول! قيل فما الأدب النافع؟ قال أن تتعظ بغيرك ولا يتعظ غيرك بك، قيل ما توفير العقل؟ قال: أن تطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر، قيل ما بالكم مطرحون من المدح ما لم يكن مطرحا عند غيركم من الملوك؟ قال لكثرة ما رأينا من الممدوحين الذين كانوا بالذم أولى منهم بالمدح، قيل أي الأشياء أمر مرارة قال الحاجة إلى الناس إذا طلبت من غير أهلها، قيل أي الأشياء أخلف قال مشورة الجاهل، قيل أي التفريطات التي تبتلون بها أشد عليكم؟ قال أن نقدر على خير نعمله فنؤخره وربما كانت ساعة فلا تعود. قيل فأي الحالات أنتم فيها أخوف لعدمكم؟ قال أشد ما نكون ثقة فيه بأنفسنا، وأقل ما نكون فيه ثقة بربنا، واتكالا على ملكنا وجدنا. قيل له سمعناكم تقولون: ثلاثة أشياء لم نرها كاملة في أحد قط فما هي؟ قال اليقين والعقل والمعرفة قيل سمعناكم تقولون أربعة أشياء ليس ينبغي للعاقل أن ينساهن على حال فأحببنا أن نعلم ما هي؟ قال نعم! سأخبركم بها فلا تغفلوها فناء الدنيا والاعتبار بها والتحفظ بتصرف أحوالها والآفات التي لا أمان منها قيل سمعناكم تقولون من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق أن لا ينزل به مكروه يكون هو الجاني فيه على نفسه فاردنا أن نعلم ما هي تلك الأشياء قال العجلة والعجب واللجاجة الحيرة والهلكة وثمرة التواني الفاقة والضر سئل هل يقدر الإنسان على عمل البر في كل حين؟ قال نعم لأنه لا بر أبلغ من الاخلاص في الشكر لله جل ثناؤة وتطهير النية من الفساد قيل هل يقدر أحد أن يعم بخيره ومعروفه؟ قال أما بكثرة ماله فلا، ولكن إذا أحب لهم الخير بنيته وقلبه فقد عمهم بخيره سئل كيف للمرء أن يعيش آمنا؟ قال أن يكون للذنوب خائفا ولا يحزن من المقدور الذي لا بد أن يصيبه سئل ما الرأي الجيد في أمرالمعاش؟ قال: من كان يريد عيش السرور فالقناعة، ومن كان يريد عيش الذكر فالاجتهاد في الصلاح وعموم الناس بالخير، ومن أراد سعة الدنيا وفضولها فليوطن نفسه على الاثم والغم والنصب، قيل فأي الاجتهاد أعون على اكتساب محمود الذكر، وأيه أعون على أصلاح المعيشة، وأيه أعون على الأمن؟ قال: أعونه على الذكر المحمود الإنصاف من النفس ثم اجتناب الظلم، وأعونه على الأمن ترك الذنوب، وأعونه على صلاح المعيشة والاجتهاد في الحق ورفض الشره والحرص قيل أي الرجال العاقل وأيهم الكيس وأيهم الداهي؟ قال: العاقل هو البصير بما يحتاج إليه في أمرمعاده، المنفذ لبصيرته بعزيمته، والكيس هو العالم بما لا غنى عنه في أمر دنياه، والداهي ذو الفطنة في التلطف لما يحتاج إليه من أبواب المداراة فيما بينه وبين جميع الناس قيل أي الدعة أهنأ، قال: ما كان منها بعد أحكام المهمات قيل أي الناس أكمل سرورا؟ قال:أما في الدنيا فمن لم يكن به حاجة إلى غيره فيما يعنيه، ولم تملك رقبته من غير ملك، وأما في الآخرة فأوفرهم حسنات قيل أي الناس اسكن؟ قال: من لم يكن به إلى هلاك أحد، ولا بأحد إلى هلاكه استعجال سئل أي علم الوالي انفع له؟ قال: أن يعلم أنه لا قدرة له على سد أفواه الناس عن عيوبه ومساويه فعند ذلك لا يلتمس اسكاتهم بالوعيد والغلظة ولا يلتمس رضاهم وانتقالهم عن ذكر مساويه وعيوبه إلا بأصلاح تلك العيوب من نفسه سئل ما ثمرة العقل؟ قال ثماره الشريفة الكريمة كثيرة، ولكن احصي لكم ما يحضرني منها، فمن ذلك: أن لا يضيع التحفظ والاحتراس من المعاصي، ومنها: أن لا يسكن من الدنيا إلى حال ولا يطمعها في التفريط من الاستعداد ومنها: أن لا يكون لشيء من الشر مقتنيا، ومنها: أن لا يترك ألطافه لمبغضيه، ومنها: أن لا يقتدي بالجهال ولو في منفعة جسيمة من منافع الدنيا، فأما منفعة الآخرة فلاحظ للجاهل فيها، ومنها: أن لا تبلغ السراء به بطرا ولا الضراء استكانة، ومنها: أن يسير بينه وبين عدوه السيرة التي لا يخاف معها حكم الحاكم وفيما بينه وبين صديقه بالسيرة التي لا يحتاج معها إلى العتاب، ومنها: أن لا يستصغر أحدا عن التواضع له، ولا ينقص أهل الفقر عن أهل الغنى إلا أن يكون الغني عالما والفقير جاهلا، ومنها: أن لا يكون مبتدئا بالأذى ولا مكافيا به، وإن انتصر لم يجاوز في الانتصار حد العدل والحق، ومنها: أن يكون الهوى عنده في جنب العقل لغوا، ومنها: أن لا يفرح بمدح المادح بما يعلم أنه خلو منه، ومنها: أن لا يحقد على من عابه بما يعرفه من نفسه، ومنها أن لا يقدم على أمريخاف أن يعقبه ندامة. سئل ما الذي يجب على الملوك للرعية وما الذي يجب للملوك على الرعية؟ قال: للرعية على الملوك أن ينصفوهم وينتصفوا لهم ويؤمنوا سربهم ويحرسوا ثغورهم وعلى الرعية للملوك النصيحة والشكر سئل ما السرور وما اللذة؟ قال السرور ما كان معه رجاء الآخرة وما سوى ذلك من السرور لهو وزوال وهو إلى الاضمحلال سئل ما الذي يرد اشتعال الغضب؟ قال ذكر غضب الرب عز وجل عند عصيان المربوب وتعاطيه الفواحش وحلمه عنه قيل ما أربع خلال قلتم ليس ينبغي أن يرتاب بهن قال: طاعة الله تعالى، وإيثار الآخرة على الدنيا، وطاعة الملك فيما يوافق الحق، وأن لا يشك في ثواب المحسن، ويفوض أمرالمسئ إلى خالقه. قيل سمعناكم تقولون: هلاك الملوك في الدنيا والآخرة في خصلة لا ترتفع معها حسنة، فيجب أن نعرف هذه الخصلة حق معرفتها قال: استصغار أهل العلم والفضل قيل سمعناكم تقولون: من كره العار فليجتنب خمس خصال فما هي؟ قال: الحرص والشح واحتقار الناس واتباع الهوى والمطل بالعدة قيل أي العيش أنعم وأرغد؟ قال: عيش في رخاء وكفاف بلا فقر ولا غنى سئل كيف للمرء أن يعيش آمنا؟ قال: يصبح مطيعا لله ويمسي مجتهدا في طاعته راغبا في عبادته وكان يقول، البخل أحسن من المطل لأن الياس يقطع الأمل والطمع، والمطل يكدر العطاء وإن جلت منفعته سئل ما الذي يحتاج إليه صاحب الدنيا؟ قال: السعة من غير تبعة، والسرور من غير مأثم، والدعة من غير توان ولا تضييع وقال موت الأبرار راحة لهم، وموت الأشرار راحة للعالم قيل أي الأشياء أحق أن لا ينسى؟ قال:أما عند أهل العقل فاقترافهم الذنوب، وأما عند أهل الجهل فالأوتار قيل ما الذي يجمع للملوك الحمد وما الذي يجمع لهم الحزم وما الذي يجمع لهم الذم؟ قال:أما الأمور المحمودة ففي خصلة واحدة وهي: إذا هموا بخير أمضوه، وأما الحزم ففي خصلة واحدة وهي: الاستظهار في الأمور، وأما الأمور المذمومة ففي خصلة واحدة وهي: إذا غضبوا أقدموا قيل أي مناقب المرء أزين له؟ قال: الحلم عند الغضب، والعفو عند القدرة، والجود لغير طلب الثواب، والاجتهاد للدار الباقية لا الفانية قيل أي الأشياء أحق بالاتقاء قال: السلطان الغشوم، والعدو القوي، والصديق المخادع. قيل أي العيوب أعسر أصلاحا؟ قال: العجب واللجاجة. قيل أي الأشياء أقل، قال الواد الناصح.

لما استتم أنوشروان كتاب المسائل قال في آخره: قد كنت للعقل في الحداثة مؤثرا وللعلم محبا وعن كل تعليم مفتشا، فرأيت العقل أكبر الأشياء وأجلها والخيم الصالح خير الأمور، والحلم أزين الخصال والمواساة أفضل الأعمال، والاقتصاد أحسن الأفعال، والتواضع أحمد الخصال.

كان بهمن الملك سال خلطاءه أن يخبروه عن أعز الأشياء وأرفعها لخساسة الخسيس، فاجمعوا أنه الصلاح والعلم وانهما يزيدان في شرف الشريف، ويقعدان العبيد مقعد الملوك! فقال الملك: هذا رأس أمور الدين والدنيا إذا كان بمساعدة العقل، فان البناء بأسه، لأن الأساس الفهم، وقوامه الرأي الأصيل، ولا رأي إلا بمعرفة العلم، ولا أساس للعلم إلا بالعقل وقال بعضهم: من استصغر كبير ما يولى من المعروف وستره، واستكثر قليل الشكر من المصطنع إليه فقد استوجب الثناء وأحسن مجاورة النعم وقال أحسن الكلمة الجامعة للمكارم من لم تبطره النعمة إذا أصابته ولم يحسد عليها إذا أخطأته وقال الملك من أخذ بمجامع المروة، واحتوى على الشرف، فليترك الانتصار وهو قادر، وأبلغ من ذلك. احتمال الكلمة الموجعة عن أهل القلة، والحلم عن أهل الذلة، والعفو عند القدرة وكان من سيرة قدماء الفرس أن يكتبوا في نواحي مجالسهم أربعة أسطر، أولها: عندنا الشدة من غير عنف، واللين في غير ضعف، والثاني: المحسن يجازي بإحسانه والمسيء يكافئ بإساءته، والثالث: العطيات والأرزاق في حينها وأوقاتها، والرابع: لا حجاب عن صاحب ثغر وطارق ليل.

وفي عهد ملك الفرس لابنه: لا تحقرن ذنبا، ولا تطلبن أثرا، ولا تمالئن عدوا ولا حسودا، ولا تصدقن نماما، ولا تغنين لئيما فيبطر، ولا تسلطن دنيا، ولا تفرطن في طلب الأجر، ولا تعينن غاويا، ولا تركنن إلى شبهة، ولا تردن سائلا، ولا ترضين للناس إلا ما ترضاه لنفسك واعلم أن للأعمال جزاء وللأمور بغتات فكن على حذر، ولا يغرنك المرتقى السهل إذا كان المنحدر وعرا، ولا تعدن وعدا ليس في يدك وفاؤه.

ولما جلس جمشيد على سرير ملكه ووقف وفود الملوك حوله وأرادوا أن يمتحنوا عقله وسيرته فقام الوزراء والعظماء فقالوا: أيها الملك عشت الدهر وملكت الأقاليم أن رأيت أن تمثل لنا مثالا نعمل عليه ونقتصر في انفاذ الأمور عليه فقال لكاتب رسائله أن كتابك لساني والمخبر عن غائب أمرفاختصر الطريق إلى الفطنة، وأحط بحدود الأمور وأبدا بالأولى فالأولى. وقال لصاحب خراجه: إنك عدل فيما بيني وبين رعيتي فاجر الأمور على مواردها، ولا تقصر عن اتقانها، ولا تكل إلى غيرك ما يحيط به نظرك ويبلغه علمك. وقال لصاحب جيشه أنك الحصن من العدو، والمؤتمن على عدة الملك، فاستدع المناصحة بالرغبة، والطاعة بالرهبة، واحترس بالتيقظ وعاجل مواضع الفرص. وقال لصاحب حرسه انك جنتي التي أجتن فيها، وعيني التي انظر بها، فلا تدع التحفظ، ولا تكن أبدا إلا على أهبة، ولا تستبطن مريبا، وقال لصاحب شرطته: إنك ظلي في رعيتي، والقائم بسوط أدبي، فألبسهم الأمن بالبراءة وأشعرهم المخافة بالريبة، ولا تخف في ايثار الحق لومة لائم. وقال لحاجبه: انك عدل على مراتب خاصتي والحافظ لمكاناتهم مني، فانظر إليهم بعيني، واجعلهم على قدر منازلهم عندي، وضعهم في كل حالاتهم في التلوم والابطاء عن بأبي، ثم ازرع في قلوب الجميع محبتي. ثم قال لخازنه إنك أمين على ما به حياة الرعية، وبصلاحه صلاح الملك والأجناد، فأحفظ الوارد واستبطء الغائب وعجل الجاري اللازم وأمرفي غير اللازم، وقال لصاحب الخاتم: أن التدبير إنما يصدر عنك، والأمر إنما ينفذ بك فاقتصر بحدود كتبي على مواقع أمري، ولا تنفذ منها شيئا إلا عن علمي. وقال لصاحب ديوان النفقات: انك والي خاصة كل ما يعنيني، والقائم بما يعود نفعه وضره علي فاحتط على احكام ما تدعو إليه الحاجة في النفقة، واحذف نوازع ما تتوق إليه الشهوة. وقال لصاحب الزمام أنت مستودع سري وذو أزمة أمري. وبمكان من رأيي فأمت بالكتمان سري، وتحمل ثقل محالفتي، ولا تأخذك بأحد رأفة في حظي.

وقال حكيم الفرس أذرياذ: أمور الدنيا مقسومة على خمسة وعشرين سهما، خمسة منها بالقضاء والقدر، وخمسة منها بالاجتهاد والعمل، وخمسة منها بالعادة، وخمسة منها بالجوهر وخمسة منها بالوراثة. فأما الخمسة التي بالقضاء والقدر: فالأهل والولد والمال والسلطان والعمر، وأما الخمسة التي بالاجتهاد: فالعلوم وأشرفها العلم بالله عز وجل وجوده ثم العمارة، ثم الصناعات وأشرفها الكتابة، ثم الفروسية والفقه، وأما الخمسة التي بالعادة: فالأكل والنوم والمشي والجماع والتغوط، وأما الخمسة التي بالجوهر: فالخيرية والتواصل والسخاء والثقة والاستقامة وأما الخمسة التي بالوراثة: فالذهن والحفظ والشجاعة والجمال والبهاء وقال أيضا التأني فيما لا يخاف عليه الفوت أفضل من العجلة إلى ادراك الأمل.

قد قيل: لكل شيء داعية وسبب، فسبب طيب العيش مداراة الناس، وسبب مداراة الناس وفور العقل، وسبب المزيد الشكر، وسبب زوال النعمة البطر، وسبب العفة غض البصر، وسبب النشب الطلب، وسبب العطب الغضب، وسبب الزينة الأدب، وسبب الفجور الخلوة، وسبب البغضة الحدة، و سبب المقت الخلف، وسبب الهوان الطمع، وسبب المحبة الهدية، وسبب المودة والاخوة البشاشة والبشر، وسبب القطيعة كثرة المعاتبة، وسبب الفقر السرف، وسبب الثروة حسن التدبير، وسبب البلاء المراء، وسبب الثناء السخاء، وسبب النجاة الصدق، وسبب النجاح الرفق، وسبب الحرمان الكسل، وسبب النيل يذل المرزأة، وسبب البغضة الصلف، وسيب الخير كله ما قيل ولم يقل العقل. وقال لا تستهن بالمال وتثميره، فإن المال آلة للمكارم، وعون على الدهر، وقوة على الدين، ومتألف للأخوان، وفقد المال معه قلة الاكتراث من الناس ويتبعه قلة الرغبة إليه والرهبة منه، ومن لم يكن بموضع رغبة ولا رغبة استخف به الناس.

وصية أخرى

كن صدوقا لتؤمن على ما تقول، وكن ذا عهد ليوفى بعهدك، وكن شكورا لتستوجب الزيادة، وكن جوادا لتكون للخير أهلا، وكن رحيما بالمضرورين لئلا تبتلى بالضر. وكن ودودا لئلا تكون معدنا لأخلاق الشياطين، وكن مقبلا على شانك لئلا تؤخذ بما لم تجترم وكن متواضعا ليفرح لك بالخير، وكن قانعا لتقر عينك بما أوتيت، وسن للناس الخير لئلا يؤذيك الحسد، أحسن تقدير معاشك ومعادك تقديرا لا يفسد عليك أحدهما الآخر فان أعياك ذلك فارفض الأدنى وآثر الأعظم، أفضل البر ثلاث خصال: الصدق في الغضب، والجود في العسرة، والعفو في القدرة، وقر من فوقك، ولن لمن دونك، وأحسن مواتاة أكفائك خمسة مفرطون في خمسة أشياء وكلهم متندمون أبدا الواهن المفرط إذا فاته العمل، والمنقطع من أخوانه وأصدقائه إذا نابتهم النوائب، والمستمكن منه عدوه لسوء رأيه إذا ذكر حقده، والمفارق الزوجة الصالحة إذا ابتلي بالطالحة، والجرئ على الذنوب إذا حضره الموت أمور لا تصلح إلا بقرائنها لا ينفع العقل بغير ورع، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير امن، ولا الغنى بغير جود، ولا العلم بغير عمل، ولا المروءة بغير تواضع، ولا الخفض بغير كفاية ولا الاجتهاد بغير توفيق أمور تبع لأمور فالمروءات كلها تبع للعقل، والرأي تبع للتجربة، والغبطة تبع لحسن الثناء، والقرابة تبع للمودة، والعمل تبع للقدر، والإنفاق تبع للجدة، لا تفرح بالبطالة وإن كان فيها راحة، ولا تجبن من العمل وان كان فيه تعب لا يوجد الفخور محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحر حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا، ولا الملول ذا أخوان. الكريم يمنح أخاه مودته عن لقاة واحدة، أو معرفة يوم، واللئيم لا يواصل أحدا إلا رغبة أو رهبة. خمسة أشياء لا بقاء لها ولا ثبات ظل الغمام، وخلة الأشرار، وعشق النساء. والثناء الكاذب، والمال الكثير. ليس يفرح العاقل بالمال الكثير ولا يحزن لقلته، ولكن ماله عقله، وما قدم من صالح عمله. ربما كان الفقر نوعا من آداب الله تعالى وخيرة في العواقب، والحظوظ لها أوقات، فلا تعجل على ثمرة لم تدرك، فإنك تنالها في أوانها عذبة، والمدبر لك أعلم بالوقت التي تصلح فيه لما تؤمل، فتثق بخبرته في أمورك، ولا تعجل حوائجك طول عمرك في يومك الذي أنت فيه: فيضيق عليك قلبك، ويثقلك القنوط.

حكم للهند

اثنان من الناس ينبغي أن يتباعد منهما، أحدهما: الذي يقول لا ثواب ولا عقاب ولا معاد ولا بر ولا اثم، والآخر: الذي لا يملك شهوته ولا يستطيع أن يصرف قلبه وبصره عن شهوة ما ليس له فيرتكب الاثم، ويقوده الحرص إلى الخزي والندامة في الدنيا مع المصير إلى الجحيم والعذاب الأليم في الآخرة ثلاثة لا يلبث ودهم أن يتصرم الصديق الذي لا يقوم نحو صديقه عند النوائب، ويطيل غيبته عنه، ويتوانى عن زيارته ولا يكاد يصير إليه إلا على كره، فإذا صار إليه ما رآه في كل ما نطق به والمداخل لأصدقائه في النعم والفرح حتى إذا نابتهم نائبة قطعهم، والرجل يريدك لامر حتى إذا وصل إليه استغنى عنك فزال وده بزواله أربعة لا ينبغي لهم أن يحزنوا العاقل الذي يرميه الجاهل بما يكره ولا حقيقة له، والرجل الرغيب النطق إذا كان غنيا كثير المال، والرجل المقتصد الذي لا عيال له، والعالم الذي لا يحتاج إلى السعي في الازدياد أربعة لا ينبغي أن يمازحوا ولا يضاحكوا الرجل العظيم الشأن الجبار، والعالم الناسك، والدنيء الطبع اللئيم، والحزين الثأكل. أربعة يفسدون أعمالهم وحكمتهم عامل الحسنات الذي ينشرها للناس فيقول فعلت وفعلت كأنه يمنن بها، وواضع المعروف عند السفل المصطنع من لا يستأهل الصنيعة، والمكرم للعبد المتواني الفظ الذي لا رحمة له، والأم التي تصنع الخير بولد السوء. سبعة لا ينامون الذي يهم بدم يسفكه، وذو المال الكثير الحريص الخائف عليه، والمديون الفقير، والمأخوذ بما لا يقدر عليه، والمريض المدنف الذي لا طبيب له، وصاحب الزوجة الفاسدة، والجار السوء الحاسد لجاره، والمفارق الألف الذي كان أحب الخلق إليه ستة لا تخطئهم الكآبة فقير قريب عهد بالغنى، ومكثر يخاف على ماله، وطالب مرتبة فوق قدره، وحسود على رزق غيره، وحقود على من لا ينتصر منه. أربعة أشياء تعين على العمل الصحة والغنى والعلم والتوفيق وقال آخر أحق الناس أن يحذر: العدو الفاجر، والصديق الغادر، والسلطان الجائر.

حكم للعرب

يروى عن النبي(ص) أنه قال لان أكون في شدة أتوقع رخاء أحب إلي من أن أكون في رخاء أتوقع شدة وقال(ص) من قال: قبح الله الدنيا قالت الدنيا: قبح الله أعصانا لربه، وقال(ص) بشر مال البخيل بحادث أو وارث وقال(ص) صلة الرحم منماة للولد مثراة للمال. وقال: فضل العلم خير من فضل العبادة وقال لعبد الله بن عباس: أحفظ الله يحفظك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سالت فاسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله، وان استطعت أن تعمل لله بالصدق في اليقين فافعل وان لم تستطع ذلك فان في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، واعلم أن النصر مع الصبر وان الفرج بعد الكرب. وقال(ص): ثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فأما المنجيات: فخشية الله في السر والعلانية، والاقتصاد في الفقر والغنى، والحكم بالعدل في الرضا والغضب. والمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، واعجاب المرء بنفسه. وقال(ص) أيها الناس لا تخالفوا على الله أمره فان من الخلاف أن تسعوا في عمران ما قضى الله فيه بالخراب. وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: احذر من يطريك بما ليس فيك فيوشك أن يبهتك بما ليس فيك وقال عليه السلام البخل والجبن والحرص من أصل واحد يجمعهن سوء الظن بالله عز وجل. وقال عليه السلام نعمة الجاهل كروضة على مزبلة. وقال عليه السلام قيام الدنيا بأربع تبقى ما بقيت: عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني يجود بمعروفه وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يأخذ من علمه، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه، فإذا فعلوا ذلك تعسوا وانتكسوا فهناك الويل لهم ثم العويل عليهم وقال عليه السلام احذروا الدنيا فإنها عدوة أولياء الله وعدوة أعدائه، أما أولياؤه فغمتهم، وأما أعداؤه فغرتهم. وقال: كل شيء يعز حيث ينزر والعلم يعز حيث يغزر. وقال اطلب الرزق من حيث كفل لك به فان المتكفل لا يخيس به ولا تطلبه من طالب مثلك لا ضمان لك عليه أن وعدك أخلفك وان ضمن لك خاس بك. وروى الحسن بن علي عن أبيه عن رسول الله (ص) أنه قال: يقول الله عز وجل يا ابن آدم إذا عملت بما افترضت عليك فأنت من اعبد الناس، وإذا اجتنبت ما نهيتك عنه فأنت من أورع الناس، وإذا قنعت بما رزقتك فأنت من أغنى الناس وسئل أمير المؤمنين عليه السلام عن النعيم فقال: من أكل خبز البر وشرب ماء فراتا وآوى إلى ظل فهو في نعيم. قال في الوحي القديم: مسكين عبدي يسره ما يضره. ووصى حكيم ابنه فقال: إذا أردت أن تواخي إنسانا فاغضبه قبل ذلك ثم عامله فان أنصفك والا فاحذره سئل بعضهم عن المروءة فقال إفاضة المعروف أما بلسانك أو بمالك أو بجاهك وقيل أصاب متأمل أو كاد واخطا مستعجل أو كاد قيل لبعضهم: لم تجمع المال وأنت حكيم؟ قال: لأصون به العرض وأؤدي منه الفرض واستغني به عن القرض وقال حكيم لو رأيتم مسير الأجل لأعرضتم عن غرور الأمل وسب رجل حكيما فاعرض عنه فقال لك أقول، فقال وعنك اعرض كلم رجل بعض السلاطين بغليظ الكلام فقال لقد أقدمت علي بكلامك فقال لأني كلمتك بعز الياس لا بذل الطمع وقيل لحكيم هل تعرف أجل من الذهب؟ قال نعم المستغني عنه تعزية أن الماضي قبلك أنت المأجور فيه وان الباقي بعدك هو المأجور فيك وقال آخر أفضل الناس من تواضع عن رفعة وتزهد عن ثروة، وأنصف عن قوة سئل عن قول النبي (ص) إذا أحرزت النفس قوتها اطمأنت. فقال قوتها معرفة الله عز وجل. وقال آخر لو أن الدنيا مملوءة حيات وعقارب وسباعا وأفاعي ما خفتها، ولو بقي فيها من البشر واحد لخفته لان البشر شر منها وقال آخر إلهي أن قصدتك أتعبتني وان هربت منك طلبتني ليس معك راحة ولا في سواك أنس فالمستغاث بك منك. وهذا يشبه قول الآخر: يا عجبا كل العجب أشكو إليه منه وأهرب منه إليه وأستعين به عليه وأتوب منه إليه وأطيعه به فكله هو. وقال في قوله تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فقال أوجده الهمة ليذوق طعم العصمة ونظر بعض الملوك إلى ملكه فأعجبه فقال أنه لملك لولا أن بعده هلك روي أن بعض الأنبياء اتاه ملك فقال: قد جئتك بالعقل والدين والعلم فاختر أيها شئت؟ فاختار العقل، فقال الملك: للدين والعلم ارتفعا فقالا: أمرنا أن لا نفارق العقل وقال محمد بن الحنفية عليه السلام في قوله جل وعز فاصبر صبرا جميلا قال صبرا لا تشوبه الشكوى إلى الناس قال عبد الله بن أبي صالح دخل علي طاوس وأنا مريض فقلت له يا أبا عبد الرحمن ادع لي فقال ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه وكان مكتوب في محراب غمدان بالمسند في صدره سلط السكوت على لسانك أن كانت العافية من شانك وقيل لعيسى عليه السلام دلنا على عمل صالح نستحق به الثواب! فقال لا تنطقوا أبدا. فقالوا وكيف نستطيع ذلك؟ فقال فلا تنطقوا إلا بخير وقال حكيم إنما حمد الناس السكوت لأنه وعاء الاختيار وقيل لوهيب بن مصقلة انك لتنشر الشك في الحديث؟ فقال تلك محاماة على اليقين. وقال المسيح عليه السلام أبغض العلماء إلى الله تعالى الذي يحب الذكر وأن يوسع له في مجالس العظماء ويدعى إلى الطعام وحقا أقول لقد تعجلوا أجورهم في الدنيا وقيل أشد الناس عند الموت ندامة العلماء المفرطون. وقال سهل بن أسلم في قوله تعالى وأما السائل فلا تنهر ليس بسائل طعام ولكنه سائل العلم وقال أبو الدرداء يوما لأهل دمشق أوما تستحيون تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تبلغون وقيل لابن سيرين كيف أصبحت؟ فقال كيف يصبح من يرحل كل يوم إلى الآخرة مرحلة وقال رسول الله(ص) أزهد في الدنيا يحبك الله، وأزهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس.

وصية لقمان

لابنه أغلب غضبك بحلمك، ونزقك بوقارك، وهواك بتقواك، وشكك بيقينك، وباطلك بحقك، وشحك بمعروفك، كن في الشدة وقورا، وفي المكاره صبورا، وفي الرخاء شكورا وفي الصلاة متخشعا، والى الصدقة متسرعا، لا تهن من أطاع الله، ولا تكرم من عصى الله ولا تدع ما ليس لك، ولا تجحد ما عليك، لا تعترض الباطل، ولا تستح من الحق، ولا تقل ما لا تعلم، ولا تتكلف ما لا تطيق، ولا تتعظم، ولا تختل، ولا تفحش، ولا تضجر، ولا تقطع الرحم، ولا تبلس الجار، ولا تشمت بالمصائب، ولا تذع السر، ولا تعتب، ولا تحسد، ولا تنبز، ولا تهمز، وان أساء إليك فاغفر، وان أحسن إليك فاشكر، وان ابتليت فاصبر، أحفظ العبر واحذر الغير، انصح المؤمنين، وعد مرضاهم، وأشهد جنائزهم، وأعن فقراءهم، اقرض خلطاءك، وانظر غرماءك، وألزم بيتك، واقنع بقوتك، تخلق بأخلاق الكرام، واجتنب أخلاق اللئام، اعلم يا بني أن المقام في الدنيا قليل، والركون إليها غرور، والغبطة فيها حلم، وكن سمحا سهلا خزينا أمينا، وكلمة جامعة اتق الله في جميع أحوالك، ولا تعصه في شيء من أمورك قال خالد بن صفوان رأيت رجلا شتم عمرو بن عبيد فما أبقى شيئا، فلما سكت قال له عمرو: آجرك الله على الصواب وغفر لك الخطأ وسئل الحسن عن قوله تعالى جده أن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا ما الثمن القليل؟ قال الدنيا بحذافيرها وحكي أن بعض أهل البطالة مر بالمسيح عليه السلام وقد توسد حجرا فقال يا عيسى قد رضيت من الدنيا بهذا الحجر؟ فقذف به إليه وقال هذا لك مع الدنيا لا حاجة لي فيه وقال آخر من ذا الذي بلغ جسيما فلم يبطر واتبع الهوى فلم يعطب، وجاور النساء فلم يفتن، وطلب إلى اللئام فلم يهن، وواصل الأشرار فلم يندم، وصحب السلطان فدامت سلامته. وقال أمير المؤمنين عليه السلام. أن أخيب الناس سعيا وأخسرهم صفقة رجل أتعب بدنه في آماله وشغل بها عن معاده فلم تساعده المقادير على ارادته، وخرج من الدنيا بحسرته، وقدم على آخرته بغير زاد وقال عليه السلام: قبح الله الدنيا! فإنها إذا أقبلت على إنسان أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه وقال المسيح عليه السلام لقوم غلوا فيه: إني أصبحت لا أملك ما أرجو، ولا أستطيع دفع ما أجد، وأنا مرتهن بعملي والخير كله بيد غيري، فأي فقير أفقر مني، وأي عبد أحوج إلى مولاه مني أسمع رجل الأحنف فأكثر، فلما سكت قال الأحنف: يا هذا! ما ستر الله أكثر وقال الأحنف: العجلة في خمسة أشياء محمودة: في الكريمة إذا خطبها كفوء أن تزفها، وفي الميت حتى تخرجه، وفي عيادة المرضى حتى تخرج من عنده، وفي الصلاة إذا حضر وقتها حتى تؤديها، وفي الضيف إذا نزل حتى تدني إليه الطعام وقيل للحصين ما السرور؟ قال: عقل يقيمك، وعلم يزينك وولد يسرك، ومال يسعك، وأمن يريحك، وعافية تجمع لك المسرات سمع أمير المؤمنين رجلا يغتاب رجلا عند ابنه الحسن عليه السلام فقال يا بني نزه سمعك عنه، فإنه نظر إلى أخبث ما في وعائه فافرغه في وعائك وقال سفيان الثوري: إذا لم يكن لله في العبد حاجة خلى بينه وبين الدنيا وقال بعض النساك: الوحدة رأس العبادة وقال ذو النون: من انس بالوحدة كان الحق مؤنسه وقال آخر من انس بالوحدة فقد اعتقد الاخلاص وقال قيس بن عاصم. السؤدد هو بذل الندى وكف الأذى ونصرة المولى. تزوج أعرابي امرأة جميلة وكان الاعرابي دميما فقالت له يوما: إني أرجو أن أكون أنا وأنت من أهل الجنة! فقال: ومن أين حكمت لنا بها؟ قالت لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأعطيت مثلك فصبرت. وقيل ليس من شريطة العقل أن يتعجل الإنسان غم ما لم يصبه، فيجعل ساعة السرور غما، وساعة الراحة تعبا، فيضاعف بذلك على نفسه الغموم. وسئل بعضهم من الحكيم؟ فقال: من عرف معائب الدنيا، وذلك أن من عرف معائبها لم يغتر بها ولم يركن إليها وقال بعضهم وكان مر بباب دار وأهلها يبكون ميتا فقال: عجبا لقوم يبكون مسافرا قد بلغ منزله. وقيل لزاهد: من الزاهد في الدنيا؟ قال الذي لا يطلب المفقود حتى الموجود. أوحى الله تعالى إلى داود ع: بشر المذنبين وأنذر الصديقين فكانه عجب، وقال أبشر المذنبين وأنذر الصديقين، فقال نعم بشر المذنبين أنه لا يتعاظمني ذنب أغفره، وأنذر الصديقين، أن لا يعجبوا بأعمالهم وقال آخر أربعة أشياء لا ينبغي أن يستقل قليلها الذنب الصغير، والدين اليسير، والعدو الحقير، والحرص القليل. اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم، وان مالك لا يغني الناس كلهم فاخصص به أهل الحق، وان كرامتك لا تطبق العامة فتوخ بها أهل الفضل، وان الليل والنهار لا يستوعبان حاجتك، فبادر بإحداها عليك. أوحى الله تعالى إلى داود طهر ثيابك الباطنة فان الظاهرة لا تنفعك عندي، يا داود لو رأيت الجنة وما أعددت فيها لقل نظرك إلى الدنيا، وأفضل من الجنة أن ارفع حجبي عني وأقول أين المشتاقون. وقيل أن العجز عجزان التقصير في طلب الأمر وقد أمكن، والجد في طلبه وقد فات وكان الأصمعي يقول احضر الناس جوابا من لم يغضب. وقال جعفر الصادق ع: إياك وسقطة الاسترسال فإنها لا تستقال وأجمعت الحكماء على أن أوضع الناس من عمل على الرهبة، وأجمعت على أن من عاتب ووبخ فقد استوفى حقه. وأجمعت على أن خير الناس من نفع الناس وأذل الناس من تاه على الناس. وبلغ المنذر أن شيخا في بعض الاحياء أتت عليه مائة وعشرون سنة، في اعتدال من جسمه، ونضارة في لونه، وقوة في نفسه، مع نشاط وشهوة، فبعث إليه واحضره ثم سأله عن سيرته؟ فقال: ما احتملت هما يبعد علي مدافعته، ولا طاولت قرينة أكرهها، ولا اجتمع في ج وفي طعامان، وإذا أردت شرب شراب شربته رقيقا طيبا لا أثمل معه، وإذا اجتمع في بدني خلط استفرغته، وخلة واحدة وجدتها من انفع الخلال في صحة البدن ما استدعيت الباه بحركة إلا أن تهيج به الطبيعة فإذا كان ذلك أقللت الحركة بقية يومي وأخذت من الغذاء والنوم بحظ. وقيل في حفظ الصحة: لا ينبغي أن تأكل إلا على نقاء تام وجوع صادق من طعام موافق وتكف عن الطعام وأنت تشتهيه. ولا تبادر إلى شرب الماء حتى تستوفي غذاءك، وتصبر بعده ساعة، وترتاض قبله بحركة معتدلة، ولا تأكلن في ظلمة، ولا تنم تحت شجرة مجهولة، ولا تطعم ما لا تعرفه، ولا من طعام حار جدا، ولا محترق ولا دسم جدا، وليكن طعامك خبز البر واللحم الرخص، وشرابك ماء الكرم الرقيق الصافي، وجماعك للشابة، وخدمك الولدان، ورفقاؤك المساعدون من أهل الفضل. أنفاس المرء خطاه إلى اجله. وأمله خادع له عن عمله. وكان الحسن البصري يقول: رحم الله أقواما كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها وراحوا خفافا وقال: قد رأينا من أعطي الدنيا بعمل الآخرة، وما رأينا من أعطي الآخرة بعمل الدنيا. وقال يحيى بن معاذ: عجبت ممن لم يبق له مال ورب العرش يستقرضه. سال إبراهيم بن أدهم راهبا: من أين تأكل؟ فقال: ليس لهذا جواب عندي! ولكن سل ربي من أين يطعمني وقال آخر: مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعا، ولو رغب في الجنة كما رغب في الغنى لوصل إليهما جميعا ولو خاف الله في الباطن كما خاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين. وقال شقيق: اختار الفقراء ثلاثة أشياء. واختار الأغنياء ثلاثة أما الفقراء فاختاروا اليقين وفراغ القلب وخفة الحساب، وأما الأغنياء فاختاروا تعب النفس وشغل القلب، وشدة الحساب. وقال يحيى بن معاذ: أن العالم إذا لم يكن زاهدا فهو عقوبة لأهل زمانه. شرار الأمراء ابعدهم من القراء. وشرار القراء أقربهم من الأمراء قيل لابن المبارك: لو أن الله سبحانه أوحى إليك انك ميت العشية ما كنت صانعا اليوم؟ قال. اطلب فيه العلم. وقال يحيى بن معاذ من لم يكن مستعدا لموته فموته موت فجأة، وان كان صاحب فراش سنة. وقال آخر. طلب الخير شديد وترك الشر أشد لأنه ليس كل خير يلزمك عمله والشر كله يلزمك تركه. قيل للعباس بن مرداس لم تركت الشراب؟ قال اكره أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم. وقال الخليل بن أحمد: العزلة توقي العرض وتبقي الجلالة وتستر الفاقة، وترفع مؤونة المكافاة في الحقوق اللازمة. وقال التيمي: لا تطلبوا الحوائج إلى ثلاثة. إلى عبد يقول الأمر لغيري. وإلى رجل حديث عهد بالغنى. وإلى صيرفي همته أن يسرق أو يسترجع في كل مائة دينار حبة. وقال الحسن: يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة. فإذا امضى يوم فقد مضى بعضك. ومر عيسى عليه السلام بقوم يبكون فقال ما لهم يبكون! قالوا هؤلاء قوم يبكون على ذنوبهم! قال فليتركوها تغفر لهم. وقال الفضيل: لا تطلبوا في هذا الزمان ثلاثة أشياء فإنكم لا تجدونها: لا تطلبوا عالما مستعملا لعلمه فإنكم تبقون بلا علم ولا تطلبوا طعاما من شبهة فإنكم تبقون بلا طعام ولا تطلبوا صديقا بلا عيب فإنكم تبقون بلا صديق. وقيل ليس من احتجب بالخلق كمن احتجب بالله عنهم. وقيل: الرجاء لله أقوى من خوفه لأنك تخافه لذنبك وترجوه لجوده. وقال حكيم الدليل على أن ما في يدك ليس هو لك علمك أنه كان قبلك لغيرك.

وصية قس بن ساعدة لابنه

اعلم يا بني أن المعاء تكفيه البقلة وترويه المذقة، ومن عيرك شيئا ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، ومتى عدلت على نفسك وعلى من دونك عدل عليك من فوقك، وإذا نهيت عن شيء فأبدا بنفسك، ولا تجمع ما لا تأكل ولا تأكل ما لا تحتاج إليه فيوبيك، وإذا ادخرت فلا يكونن كنزك إلا العمل الصالح، وكن عف العيلة مشترك الغنى تسد قومك، ولا تشاورن مشغولا وان كان حازما لبيبا، ولا خائفا وإن كان فهما عليما، ولا تضع في عنقك طوقا لا يمكنك نزعه إلا بشق منك، وإذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاقصد، ولا تستودعن دمك أحدا وان قربت قرابته فإنك إذا فعلت ذلك لم تزل وكيلا ذليلا وكان المستودع بالخيار في الوفاء والغدر، وكنت عبدا ما بقيت، فان جنى عليك كنت أولى بذلك، وإن وفي كان الممدوح دونك. وقال آخر: الدنيا دار تجارة، فالويل لمن تزود منها الخسارة. دعاء: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن مسالة غيرك. العدو إذا صالحته فاحترز منه كما تحترز من الحية إذا حملتها في كمك. وقال آخر: طوبى لمن إذا كان ضعيفا عن الخير كان ضعيفا عن الشر، عيش في الأمن مع الفقر أمثل من العيش في غنى مع الخوف. وقال المسيح عليه السلام ليحذر من يستبطئ الله في الرزق أن يغضب عليه فيفتح الدنيا عليه وقال: أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى إذا سأله، وأقرب ما يكون إلى الناس إذا لم يسألهم. وقال ذو النون: إلهي كيف أحب نفسي وقد عصتك، وكيف لا أحبها وقد عرفتك. ويقال ما عفا من الذنب من قرع به. ثلاث من علامات الرقاعة: مداومة عشرة النساء، والدالة على السلطان، والقصص على الكراسي. دعاء: اللهم لا تكثر لي من الدنيا فأطغى، ولا تقل لي منها فأنسى، اللهم اجعل لي في الخير حظا وجدا، ولا تجعل معيشتي ضنكا وكدا. قال حماد عن يونس وحميد قالا: لو أدرك أصحاب رسول الله(ص) الحسن لاحتاجوا إليه، والحسن ولد مملوكا، وهو مولى أمية بنت النضر عمة أنس بن مالك، وكان اسم أبيه يسار وهو من سبي ميسان قيل لبعضهم: كيف أنت؟ قال: أحمد الله إلى الناس، وأذم الناس إلى الله. قال الحسن: يا ابن آدم شيبك يعظك، ومرضك ينذرك، فاسمع ممن يعظك واحذر ممن ينذرك. وقال يحيى بن معاذ: من شبع عوقب بثلاث عقوبات: يلقى الغطاء على قلبه، والنعاس على عينيه، والكسل على بدنه. دخل مكفوف على النبي(ص) فقال لمن حضره من نسائه قمن فقلن. أنه أعمى! فقال أفعمي أنتن. كان رجلان يختلفان إلى مجلس يونس بن حبيب فغاب أحدهما فسأل الآخر عنه، فقال مات! قال وما سبب موته؟ فقال كونه. وحكي عن أبي يزيد البسطامي أنه لما حج لقيه بالبادية رجل أسود، فقال له. يا أبا يزيد إلى أين؟ قلت إلى مكة، فقال يا عجبا! تركته ببسطام وجئت تطلبه بمكة؟ فبهت ثم التفت فلم أره. قال رجل لمحمد بن واسع أوصني فقال أوصيك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة! قال الرجل: وكيف أكون ملكا؟ قال أزهد في الدنيا. وقال آخر: ما اصنع بدنيا أن بقيت لها لم تبق لي، وإن بقيت لي لم ابق لها. وقال داود عليه السلام: لا تدعوا ربكم والخطايا بين أضلاعكم، ألقوها عنكم ثم ادعوه يستجب لكم. وقال الحسن رحمه الله: رحم الله امرءا كسب طيبا، وانفق قصدا، وقدم فضلا، إلا أن هذا الموت قد أضر بالدنيا وفضحها، ولا والله ما وجد ذو لب فيها فرحا، فإياكم وهذه السبل المفرقة التي جماعها الضلالة وميعادها النار، رحم الله امرءا نظر فتفكر وتفكر فاعتبر واعتبر فابصر وابصر فصبر، فقد أبصر قوم ثم لم يصبروا، فتمكن الجزع من قلوبهم فلم يدركوا ما طلبوا، ولم يرجعوا إلى ما فارقوا. قال رجل لبشر: إنك مهموم قال لأني مطلوب. قيل لملك وقد زال ملكه: ما الذي أزال ملكك؟ قال ثقتي بدولتي، وإعجابي بشدتي، واستبدادي بمعرفتي، وتركي تعرف أخبار مملكتي. وقال معمر: أنهاكم عن الطعام الذي يفسد الذهن وينقص العقل، وكان لا يتعرض للباذنجان والبصل والباقلا والعدس والكزبرة. وقال إسماعيل بن غزوان: كل علم لا يكون في مغرس عقل، وكل بيان لا يكون في نصاب علم، وكل خلق لا يجري على عرق، فليس بذي ثبات. وقال آخر: إذا أردت لباس المحبة فكن عالما كجاهل. وقيل: ليس الحكيم الكثير العلم ولكن الحكيم المنتفع بما يعلم. وقال بعض العلماء: من ازداد في العلم رشدا فلم يزدد في الدنيا زهدا، ازداد من الله بعدا. وقال: الحلم حلمان فأشرفهما حلمك عمن دونك، والصدق صدقان فأعظمهما صدقك فيما يضرك، والوفاء وفاءان فأسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه. وقال: أن استصغارك نعمتك يكبرها عند ذوي العقل، وسترك لها نشر عندهم، فانشرها بسترها وكبرها باستصغارها. قال بعضهم: العاقل خادم الأحمق أبدا، قيل: وكيف؟ قال: أن كان فوقه لم يجد من مداراته أبدا، وان كان دونه لم يجد من احتماله بدا وقالوا: احترس من ذكر العلم عند من لا علم له، وعند من لا يرغب فيه، فان ذلك أحرى أن يتخذه سلما إلى عداوتك. قال الفضل: لا يكون الرجل من الأبرار حتى يأمنه عدوه، ثم قال: هيهات ذهب هؤلاء كيف يأمنك عدوك وصديقك يخافك. سئل سفيان من الناس؟ فقال العلماء، قيل: فمن الملوك؟ قال قيل الزهاد، فمن الأشراف؟ قال المتقون، قيل فمن الغوغاء؟ قال القصاص قيل فمن السفل؟ قال الظلمة. كان خالد بن عبد الله القسري لا يحتجب، كما يحتجب الأمراء، ويقول: لا يحتجب الوالي إلا لثلاث خصال: أما رجل عيي يكره أن يطلع الناس على عيه، وأما رجل مشتمل على سوأة فهو يكره أن يرى الناس منه ذلك وأما رجل بخيل يكره أن يسال. كتب عمر بن الخطاب إلى ابنه: اتق الله فإنه لا عمل لمن لا نية له، ولا مال لمن لا رفق له، ولا حرمة لمن لا دين له. وقال: النساء عورات فاستروهن بالبيوت، وداووا ضعفهن بالسكوت، وأخيفوهن بالضرب، وباعدوهن من الرجال، ولا يسكنوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعودوهن العري فإنهن إذا عرين لم يخرجن من بيوتهن، وأكثروا عليهن من قول لا، فان نعم يغريهن بالمسألة. وقال غيره: الأيادي ثلاث يد بيضاء وهي الابتداء بالمعروف، ويد خضراء وهي طلب المكافاة، ويد سوداء وهي المن بالمعروف. قال محمد بن واسع لصديق له رآه حريصا على الدنيا: يا أخي! أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب ما قد كفيته، وكأنك بما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه كأنك لم تر حريصا محروما، ولا زاهدا مرزوقا. وقال عمر بن الخطاب: كفى بك عيبا أن يبدو لك من أخيك ما يخفى عليك من نفسك، أو تؤذي جليسك فيما لا يعنيك، أو تعيب شيئا وتأتي مثله. وقال غيره: أول العلم الصمت والاستماع ثم الحفظ ثم المذاكرة، ثم التعليم، ثم النشر، من عاش متعلما مات عالما. وقال أبو عمرو بن العلاء: كل شيء طلبته في وقته فقد فات وقته، وقال: صاحب الصمت لا يجوز نفعه نفسه، وصاحب النطق يتكلم فينفع نفسه وغيره. وقال المسيح عليه السلام ما زهد في الدنيا من جزع من المصائب فيها. وقال أيضا: حتى متى تصفون الطريق للمدلجين! وأنتم مقيمون في محلة المتحيرين تصفون من البعوض شرابكم، وتبتلعون الجمال بأحمالها، أن الزق إذا نغل لم يصلح أن يكون وعاء للعسل، وان قلوبكم قد نغلت فلا تصلح للحكمة، وكم مذكر بالله ناس الله، وكم مخوف بالله جرئ على الله وكم داع إلى الله هارب من الله، وكم تال لكتاب الله منسلخ من آيات الله. أمربعض الملوك أن يستخرج له كلمات من الحكمة ليعمل بها، فاستخرجت له أربعون ألف كلمة فاستكثرها فاختير منها أربعة آلاف كلمة، ثم لم يزل ينقص منها حتى رجعت إلى أربع كلمات وهي: لا تثقن بامرأة، لا تحملن معدتك فوق طاقتها، أحفظ لسانك، خذ من كل شيء ما كفاك. وقال الصادق عليه السلام: إني لاملق فأتاجر الله بالصدقة فاتسع. قيل للحسن بن صالح لم لا تخضب؟ فقال: الخضاب زينة ونحن في مأتم. وقال أبو خازم: الدنيا جيفة فان رضيت بها فاصبر على مقارنة الكلاب فيها. وقال آخر: اتقوا الله عباد الله فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا المهل المبسوط لكم، يا قوم استغنموا نفس الاجل، وامكان العمل واقطعوا ذكر المعاذير والعلل، فإنكم في أجل محدود ونفس معدود وعمر غير ممدود. اعتل بعض الزهاد فكان الناس يعودونه فقال يوما: اللهم كما أنسيتني الناس فأنسهم إياي. ونظر الفضيل إلى رجل يشكو إلى صديق له ما هو فيه من الضر والإضافة فقال يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك. قال مبارك بن فضالة: سمعت الحجاج يقول في خطبته: أن الله عز وجل أمرنا بطلب الآخرة وضمن لنا مؤونة الدنيا، فيا ليته ضمن لنا الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا، قال فذكرت ذلك للحسن البصري فقال ضالة مؤمن عند فاسق فخذها.

هذا آخر ما وجدناه في كتاب أحمد بن مسكويه وكانت النسخة التي نقلنا عنها ناقصة ونقصانها نحو من صفحة أو أقل إلى ورقة.

المراسلة بينه وبين بديع الزمان الهمذاني

قال ياقوت في معجم الأدباء: وللبديع الهمذاني إلى أبي علي مسكويه يعتذر من شيء بلغه عنه بعد مودة كانت بينهما:

بلغني أطال الله بقاء الشيخ أن قيضة كلب وافته بأحاديث لم يعرها الحق نوره، ولا الصدق ظهوره، وان الشيخ أذن لها على حجاب أذنه، وفسح لها فناء ظنه، ومعاذ الله أن أقولها، وأستجيز معقولها، بلى! قد كان بيني وبينه عتاب لا ينزع كتفه ولا يجذب أنفه، وحديث لا يتعدى إلى النفس وضميرها، ولا تعرفه الشفة وسميرها، وعربدة كعربدة أهل الفضل لا تتجاوز الدلال والادلال، ووحشة يكشفها عتاب لحظة كغناء جحظة، فسبحان من ربى هذا الأمر حتى صار أمرا، وتأبط شرا، وأوحش حرا وأوجب عذرا، بل سبحان من جعلني في حيز العذر أشيم بارقته وأستحيل صاعقته، وأنا المساء إليه والمجني عليه والمستخف به، لكن من بلي من الأعداء كما بليت، ورمي من الحسدة بما رميت، ووقف من الوجد والوحدة حيث وقفت، واجتمع عليه من المكاره ما وصفت، اعتذر مظلوما، وأحسن ملوما، وضحك مشتوما ولو علم الشيخ عدد أبناء الحدد وأولاد العد بهذا البلد ممن ليس له همة إلا في شكاية أو حكاية أو سعاية أو نكاية لضن بعشرة غريب إذا بدر، وبعيد إذا حضر، ولصان مجلسه عمن لا يصونه عما رقي إليه، فهبني قلت ما حكي له أليس الشاتم من أسمع أليس الجاني من أبلغ، فقد بلغ من كيد هؤلاء القوم أنهم حين صادفوا من الأستاذ نفسا لا تستفز، وحبلا لا يهز، دسوا إليه خدمه بما حرشوا به نارهم، ورد علي مما قالوه فما لبثت أن قلت:

فليعلم الشيخ الفاضل أن في كبد الأعداء مني جمرة وان في أولاد الزنا عندنا كثرة قصاراهم نار يشبونها أو عقرب يدببونها أو مكيدة يطلبونها، ولولا أن العذر اقرار بما قيل، واكره أن أستقيل، بسطت في الاعتذار شاذروانا، ودخلت في الاستقالة ميدانا لكنه أمرلم أضع أوله فلا أتدارك آخره، وقد أبى الشيخ أبو محمد إلا أن يوصل هذا النثر الفاتر بنظم مثله، فهاكه يلعن بعضه بعضا:

ولعل الشيخ أبا محمد يقوم من الاعتذار بما قعد عنه القلم والبيان فنعم رائد الفضل هو والسلام. فورد الجواب من أبي علي:

فهمت خطاب الشيخ الفاضل الأديب البارع الذي لو قلت أنه السحر الحلال والعذب الزلال لنقصته حظه ولم أوفه حقه، فأما البلاغات التي أوما إليها فوالله ما أذنت لها ولا أذنت فيها وما أذهبني عن هذه الطريقة وأبعدني عنها، وقد نزه الله لساني عن الفحشاء وسمعي عن الإصغاء وما يتخذ العدو بينهما مجالا. وأما الأبيات فقد تكلفت الجواب عنها لا مساجلة له، ولكن لأبلغ المجهود في قضاء حقه:

نسخة وصية أبي علي مسكويه

أوردها ياقوت في معجم الأدباء: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما عاهد عليه أحمد بن محمد وهو يومئذ آمن في سربه، معافى في جسمه عنده قوت يومه لا تدعوه إلى هذه المعاهدة ضرورة نفس ولا بدن، ولا يريد بها مراءاة مخلوق ولا استجلاب منفعة، ولا دفع مضرة منهم، عاهده على أن يجاهد نفسه، ويتفقد أمره فيعف ويشجع ويحكم وعلامة عفته أن يقتصد في مآرب بدنه حتى لا يحمله الشره على ما يضر جسمه، أو يهتك مروءته، وعلامة شجاعته أن يحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موضعه. وعلامة حكمته أن يستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شيء من العلوم والمعارف الصالحة ليصلح أولا نفسه ويهذبها ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة وعلى أن يتمسك بهذه التذكرة، ويجتهد في القيام بها والعمل بموجبها وهي خمسة عشر بابا، ايثار الحق على الباطل في الاعتقادات، والصدق على الكذب في الأقوال، والخير على الشر في الافعال، وكثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائم بين المرء وبين نفسه، والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى ينجزها وأول ذلك ما بيني وبين الله عز وجل، قلة الثقة بالناس بترك الاسترسال، محبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك الصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل، حفظ الحال التي تحصل في شيء حتى يصير ملكة ولا يفسد بالاسترسال، الاقدام على كل ما كان صوابا، الاشفاق على الزمان الذي هو العمر فيستعمل في المهم دون غيره، ترك الخوف من الموت والفقر لعمل ما ينبغي، وترك التواني، ترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلا يشتغل بمقابلتهم، وترك الانفعال لهم، حسن احتمال الغنى والفقر والكرامة والهوان بجهة وجهة، ذكر المرض وقت الصحة، والهم وقت السرور، والرضى عند الغضب ليقل الطغي والبغي، قوة الأمل، وحسن الرجاء، والثقة بالله عز وجل، وصرف جميع البال إليه انتهى.

أشعاره

أورد الثعالبي في تتمة اليتيمة قسما صالحا من شعره فمنه قوله في ابن العميد حين دخل عليه وقد انتقل إلى قصر جديد قال: ووقعا في اليتيمة بلا ثالث:

وقال يشكو نائبات الدهر:

وله من قصيدة في عميد الملك تفنن فيها وهناه باتفاق الأضحى والمهرجان في يوم وشكا سوء أثر الهرم وبلوغه أرذل العمر:

ومنها:

قال وهي طويلة وكأنه جمع إحسانه فيها انتهى وأورد منها في مجموعة الأمثال خمسة أبيات وهي: هذا كتاج "البيت". في العود "البيت". لا تطلبوا المال "البيت". يأتي الفتى "البيت". ومن تعود "البيت".

قال وكتب إلى أبي العلاء بن حسول قصيدة منها:

قال وله من قصيدة في أبي العباس الضبي يهجوه كانها قول ابن الرومي:

وأورد الثعالبي له أيضا أبياتا من قصيدة في هجاء الصاحب بعد موته بزمان أفحش فيها فنزهنا عنها كتابنا، كما أننا أسقطنا من هذه الأبيات التي فيها فحش وما أكثر المجون والفحش في ذلك الزمان، عفا الله عنا وعنهم بكرمه. وليت شعري من كانت له تلك المواعظ والنصائح والوصايا السابقة كيف لا يردعه ذلك عن هجو مثل الصاحب بعد موته.

استدراك أخطاء وقعت في هذه الترجمة

قلنا أنه كتب على نسخة المختصر ما صورته: نتف وآداب انتخبت من كتاب جاويدان خرذ الذي ألفه أحمد بن محمد مسكويه الخ وهذا كتب في أول النسخة بعد البسملة كما نقلناه فيما مر، وفاتنا أن نذكر أنه كتب على ظهر النسخة ما صورته: مختصر من كتاب جاويدان خرذ في حكم الفرس والهند والروم والعرب تأليف مسكويه انتهى وهو صريح في أن مسكويه لقب أحمد بن محمد نفسه.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 3- ص: 158