أبو بكر الأنباري
وأما أبو بكر محمد بن القاسم بشار الأنباري النحوي، فإنه كان من أعلم الناس وأفضلهم في نحو الكوفيين، وأكثرهم حفظاً للغة؛ وكان زاهداً متواضعاً. أخذ عن أبي العباس ثعلب.
وكان ثقة صدوقاً، من أهل السنة، حسن الطريقة.
وألف كتباً كثيرة في علوم القرآن والحديث واللغة والنحو؛ فمنها الوقف والابتداء، وكتاب المشكل وغريب الحديث، وشرح المفضليات وشرح السبع الطوال، وكتاب الزاهر، وكتاب الكافي في النحو، وكتاب اللامات. وله الأمالي، وغير ذلك من المؤلفات.
وكان يكتب عنه وأبوه حي، وكان يملي في ناحية المسجد وأبوه في ناحية أخرى.
وقال أبو علي إسماعيل بن القاسم: كان أبو بكر الأنباري يحفظ - فيما ذكر - ثلثمائة ألف بيت شاهد في القرآن.
وقال حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق: كان أبو بكر الأنباري يملي كتبه المصنفة ومجالسه المشتملة على الحديث والأخبار والتفاسير والأشعار؛ كل ذلك من حفظه. وأملى كتاب غريب الحديث، قيل إنه خمس وأربعون ألف ورقة، وكتاباً في شرح الكافي، وهو نحو ألف ورقة، وكتاب الهاءات نحو ألف ورقة، وكتاب الأضداد؛ وما ألف في الأضداد أكبر منه، وشرح الجاهليات، وسبعمائة ورقة، والمذكر والمؤنث؛ ما عمل أحدٌ أتم منه. وعمل رسالة المشكل ردّاً على ابن قتيبة وأبي حاتم السجستاني وتقصى قولهما، وكتاب المشكل، أملاه وبلغ فيه إلى ’’طه’’ وما أتمه، وقد أملاه سنين كثيرة.
وقال أحمد بن يوسف الأصبهاني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله، عمن أخذ علم القرآن؟ فقال: عن أبي بكر الأنباري.
وقال محمد بن جعفر التميمي: فأما أبو بكر بن القاسم الأنباري، فما رأينا أحفظ منه، ولا أغزر منه في علمه.
وقال أبو الحسن العروضي: اجتمعت أنا وهو عند الراضي بالله على الطعام، وكان قد عرف الطباخ ما يأكل، فكان يسوي له قلية يابسة. قال: فأكلنا نحن من ألوان الطعام وأطايبه، وهو يعالج تلك القلية، ثم فرغنا وأتينا بحلوى، فلم يأكل منها، فقام وقمنا إلى الخيش، فنام بين يدي الخيش، ونمنا في خيش ينافس فيه، فلم يشرب ماء إلى العصر، فلما كان بعد العصر، قال: يا غلام الوظيفة! فجاءه بماء من الحب، وترك الماء المزمل بالثلج، فغاظني أمره، فصحت صيحة: يا أمير المؤمنين! فأمر بإحضاري، وقال: ما قصتك؟ فأخبرته، وقلت: يا أمير المؤمنين، يحتاج هذا إلى أن يحال بينه وبين تدبير نفسه، لأنه يقتلها ولا يحسن عشرتها، فضحك وقال: له في هذه لذة، وقد جرت له به عادة، وصار آلفاً لذلك فلن يضره. ثم قلت: يا أبا بكر، لم تفعل هذا بنفسك؟ فقال: أبقي على حفظي، قلت له: قد أكثر الناس في حفظك، فكم تحفظ؟ فقال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقاً.
وقال محمد بن جعفر: وهذا مما لم يحفظه أحد قبله ولا بعده، وكان أحفظ الناس للغة والشعر والتفسير. وحدث أنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً من تفاسير القرآن بأسانيدها.
وقال أبو سعيد بن يونس: كان أبو بكر آية من آيات الله تعالى في الحفظ.
وحكى أبو الحسن العروضي، قال: كان ابن الأنباري يتردد إلى أولاد الراضي بالله، فكان يوماً من الأيام قد سألته جارية عن تفسير شيء من الرؤيا، فقال: إني حاقن ثم مضى، فلما كان من الغد عاد وقد صار معبراً للرؤيا، وذلك أنه مضى من يومه، فدرس كتاب الكرماني.
ويحكى أنه كان يأخذ الرطب ويشمه، ويقول: أما إنك طيب، ولكن أطيب منك ما وهب الله عز وجل لي من العلم.
ويحكة أنه مر يوماً في النخاسين، وجارية تعرض، حسنة الصورة، كاملة الوصف؛ قال: فوقعت في قلبي، ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله تعالى، فقال: أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته، فأمر فاشتريت وحملت إلى منزلي ولم أعلم، فجئت فوجدتها، فعلمت كيف جرى الأمر، فقلت لها: كوني فوق إلى أن أستبرئك -وكنت أطلب مسألة قد اختلت علي- فاشتغل قلبي، فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاس، فليس يبلغ قدرها أن يشغل قلبي عن علمي - فأخذها الغلام، فقالت: دعني حتى أكلمه بحرفين، فقالت: أنت رجل لك محل وعقل، فإذا أخرجتني ولم تبين لي ذنبي، لم آمن من أن يظن الناس في ظناً قبيحاً، فعرفنيه قبل أن تخرجني. فقلت: مالك عندي عيب، غير أنك شغلتني عن علمي، فقالت: هذا سهل عندي. قال: فبلغ الراضي بأمره، فقال: لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى منه في قلب هذا الرجل.
وقال أبو بكر: دخلت البيمارستان بباب المحول، فسمعت صوت رجل في بعض البيوت، يقرأ: (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده)، فقال: أنا لا أقف إلاّ على قوله تعالى: (كيف يبدئ الله الخلق)، فأقف على ما عرفه القوم وأقروا به، لأنهم لم يكونوا يقرون بإعادة الخلقٍ، وابتدئ بقوله: (ثم يعيده) ليكون خبراً، وأما قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام: (وادَّكر بعد أمة) فهو وجه حسن، والأمة: النسيان. وأما أبو بكر بن مجاهد فهو إمام في القراءة، وأما قراءة ابن شنبوذ: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فخطأ، لأن الله تعالى قد قطع لهم بالعذاب، في قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)؛ قال: فقلت لصاحب البيمارستان: من هذا الرجل؟ قال: إبراهيم الموسوس، مجنون، فقلت: ويحك! هذا أبي بن كعب، افتح الباب عنه، ففتحه عنه، فإذا أنا برجل منغمس في النجاسة والأدهم في رجليه، فقلت: السلام عليكم، فقال: كلمة مقولة، فقلت: ما منعك من رد السلام علي؟ قال: السلام أمان، وإني أريد أن امتحنك، ألست تذكر اجتماعنا عند أبي العباس -يعني ثعلباً- في يوم كذا- وعرفني ما ذكرته، وإذا به رجل من أفاضل أهل العلم، فقال: هذا الذي تراني فيه منغمساً، ما هو؟ قلت: الخرء. قال: وما جمعه؟ قلت: خروء، قال: صدقت، وأنشد:
#كأن خروء الطير فوق رؤوسهم ثم قال: أما والله لو لم تخبرني بالصواب لأطعمتك منه، فقلت: الحمد لله الذي أنجاني منك. وتركته وانصرفت.
ويحكى أن أبا بكر بن الأنباري حضر مع جماعة من العدول؛ ليشهدوا على إقرار رجل، فقال أحدهم للمشهود عليه: ألا نشهد عليك؟ فقال: نعم، فشهد عليه الجماعة، وامتنع ابن الأنباري، وقال: إن الرجل منع أن يشهد عليه بقوله: نعم؛ لأن تقديره جوابه: ’’لا تشهدوا علي’’، لأن حكم ’’نعم’’ أن يرفع الاستفهام، ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: (ألست بربكم قالوا بلى)، ولو أنهم قالوا: ’’نعم’’ لكفروا، لأن حكم ’’نعم’’ أن يرفع الاستفهام، فلو قالوا: ’’نعم’’، لكان التقدير: نعم لست ربنا، وهذا كفر، وإنما دل على إيمانهم قولهم: ’’بلى’’، لأن معناها يدل على رفع النفي، فكأنهم قالوا: أنت ربنا، لأن ’’أنت’’ بمنزلة التاء التي في ’’ألست’’.
وقال أبو الحسن الدار قطني: حضرت أبا بكر الأنباري في مجلس إملائه يوم الجمعة، فصحف اسماً أورده في إسناد حديث؛ إما كان ’’حيان’’ فقال: ’’حبان’’ أو ’’حبان’’، فقال: ’’حيان’’، قال أبو الحسن: فأعظمت أن ينقل عن مثل مع فضله وجلاله وهم، وهبت أن أوقفه على ذلك. فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى المستملي، وذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه وانصرفت. ثم حضرت الجمعة الثانية، فقال أبو بكر للمستملي: عرف الجماعة الحاضرين، أنا صحفنا الاسم الفلاني، لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، نبهنا ذلك الشاب على الصواب وهو كذا، وعرف ذلك الشاب أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال.
ويحكى أن أبا بكر بن الأنباري قال في اسم الشمس: ’’بوح’’ بالباء بنقطة من تحت، فرد عليه أبو عمر الزاهد، وقال: إنما هو ’’يوح’’ بالياء المعجمة بنقطتين من تحت، كذلك سمعته من أبي العباس ثعلب، والصحيح ما قال أبو عمر، والعالم من عدت سقطاته.
ويحكى أن أبا بكر بن الأنباري مرض، فدخل عليه أصحابه يعودونه، فرأوا من انزعاج والده عليه أمراً عظيماً، فطيبوا نفسه، ورجوا عافية أبي بكر، فقال: كيف لا انزعج وأقلق لعلة من يحفظ جميع ما ترون - وأشار إلى حاري مملوء كتباً.
ويحكى أنه لما وقع في مرض الموت أكل كل ما كان يشتهي، وقال: هي علة الموت.
وقال محمد بن العباس الخراز: ولد أبو بكر سنة إحدى وسبعين ومائتين، وتوفي ليلة النحر من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وثلثمائة في خلافة الراضي بالله تعالى.

  • مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن-ط 3( 1985) , ج: 1- ص: 197

  • دار الفكر العربي-ط 1( 1998) , ج: 1- ص: 231

  • مطبعة المعارف - بغداد-ط 1( 1959) , ج: 1- ص: 181