الإمام المهدي محمد بن أحمد بن الحسن ابن الإمام القاسم بن محمد
ولد في سنة 1047 سبع وأربعين وألف في سابع جمادى الآخرة منها وكان بعد موت والده أحد الرؤساء الأكابر في الديار اليمنية وولى الخلافة بعد موت الإمام المؤيد بالله محمد بن المتوكل على الله إسماعيل بعد نزاع شديد وحروب طويلة واجتمع لحربه جميع أكابر سادات اليمن من أقاربه وغيرهم وحصروه وكادوا يحيطون به وبمن معه فخرج إليهم بمن معه من الأجناد وهم اليسير فهزمهم وأسر جماعة من أكابرهم وشرد آخرين ودانت اليمن وصفا له الوقت ولم يبق له مخالف إلا قهره ونازعه بعد ذلك جماعة فغلبهم وسجنهم كالسيد يوسف بن المتوكل وكالسيد حسين بن الحسن بن الإمام وهو عمه وغير هؤلاء والحاصل أنه ملك من أكابر الملوك كان يأخذ المال من الرعايا بلا تقدير وينفقه بلا تقدير وكانت اليمن من بعد خروج الأتراك منها إلى أن ملكها صاحب الترجمة مصونة عن الجور والجبانات وأخذ ما لا يسوغه الشرع فلما قام هذا أخذ المال من حله وغير حله فعظمت دولته وجلت هيبته وتمكنت سطوته وتكاثرت أجناده وصار بالملوك أشبه منه بالخلفاء ومع ذلك فهو يتزهد في ملبوسه فإنه كان لا يلبس الحرير ولا رفيع الثياب وكان يسمى صاحب السجدة لأنه كان إذا خرج من موكبه ورأى ما بين يديه من الأجناد المالية للقضاء ترجل عن جواده وسجد شكرا لله وتواضعا ومرغ وجهه بالأرض وكان سفاكا للدماء بمجرد الظنون والشكوك وقد قتل عالما بذلك السبب وشاع على الألسن أنه كان يأتيه في الليل من يخاطبه بأنه يقتل فلانا وينهب مال فلان ويعطى فلانا ويمنع فلانا فإذا كان النهار عمل بجميع ذلك ولعل هذا المخاطب له من مردة الجن وكان يميل إلى أهل العلم ويجالسهم ويتشبه بهم وربما قرأوا عليه ولم يكن عالما ولكن كان يحب التظهر بالعلم فيساعده على ذلك علماء حضرته رغبا ورهبا وله تصنيف سماه الشمس المنيرة في مجلد لطيف وقفت عليه وفيه نقل مسائل من مؤلفات جد ابيه الإمام القاسم ابن محمد ولكنها غير مرتبة ولا منقولة على أسلوب بل لا يدري المطلع على ذلك الكتاب ما موضوعه ولا ما غرض مؤلفه وسبب ذلك كون مؤلفه ليس من العلماء ومع هذا فكان يقرأه عليه جماعة من أكابر العلماء وليس في موسعهم نصحه وتعريفه بالحقيقة لما جبل عليه من الطيش وتعجيل العقوبة ومن علو همته أنه إذا أراد الإيقاع بوزير من وزرائه أو أمير من أمرائه أمر بالجند بانتهاب ماله ولا يأخذ منه شيئا وقد يكون مالاً جليلاً وكان تملكه لليمن واستيلاؤه عليها بعد موت المؤيد بالله محمد ابن المتوكل على الله كما تقدم وذلك في سنة 1097 واستمر على ذلك إلى سنة 1126 وشرع المتوكل على الله القاسم بن الحسين في معارضته وإخراج البلاد عن مملكته حتى خلع نفسه في سنة 1129 فكان ملكه الديار اليمنية بأسرها زيادة على ثلاثين سنة فسبحان الفعال لما يريد ومن أعظم الحوادث في أيامه حادثة السيد إبراهيم المحطوري الشرفي الذى يسميه الناس اليوم المحدوري بالدال المهملة مكان الطاء المهملة وكان بارعا في علم الطلسمات والشعوذة وبالجملة فكان من أعظم السحرة وظهور أمره في سنة 1111 وله أتباع مجاذيب ينطقون بلفظ الجلالة فسفك الدماء ونهب الأموال وكان لا تؤثر الرصاص في أصحابه ولا يقطع أجسامهم السلاح فكانت الرصاصة إذا بلغت إلى أصحابه أمسكها بيده وأرجعها إلى صاحبها وارتجت الديار اليمنية لهذه الحادثة بل وسائر الديار حتى قيل إن سلطان الروم كتب إلى نائبه بمصر يسأله عن هذا القايم باليمن الذي لا يعمل في أصحابه السلاح ولا الرصاص ووقعت له ملاحم دمر فيها عالما لا يحصون فأرسل إليه صاحب الترجمة جيشاً بعد جيش وهو يهزمهم ويقتل أكثرهم وامتد أصحابه في مواضع من اليمن ولم يكن عنده من العلم شيء فكان إذا سئل عن وجه ما يسفك من الدماء ويهتك من الحرم وينهب من الأموال قال إن سيفه هو الذي يأمره بذلك ويحكى أن سيفه المذكور كان يسمع له صليل وهو في غمده ولعل ذلك من جملة أثر سحره وكان تارة يقول أنه لا يخرج إلا لأجل شرب الناس للتنباك وتقريرهم للبانيات على البقاء في أرض اليمن وكل هذا من أعظم المشعرات بمزيد جهله وكان أصحابه إذا توجهوا إلى حصن من الحصون فتحوه في أسرع وقت وإن كان من غاية الحصانة لأنهم يرمونهم فلا يؤثر ذلك ويضربونهم بالسلاح فلا يؤثر ذلك فإذا لم يستسلموا ويفتحوا لهم الأبواب تسوروا من الجدارات ودخلوا فاتفق في فتحهم لحصن ثلا إن أمرأة أرسلت على أحدهم حجرا فهشمته فلما رأوا أهل المحل ذلك أخذوا الأحجار ورموهم بها فشدخوهم وقتلوا جماعة منهم ولم يزل صاحب الترجمة يجهز جيشاً بعد جيش حتى جهز في آخر الأمر أولاده في جيش ضخم فكان الفتح وتقهقر امر هذا الناجم وتفرق أصحابه بعد أن فعلوا الأفاعيل وهزموا الجيوش وفتحوا الحصون ثم نجا بنفسه إلى جهات صعدة وشرع في إفساد أهلها وكادت الفتنة أن تعود فتلطف أمير صعدة إذ ذاك وهو السيد علي بن أحمد بن الإمام القاسم بن محمد حتى وصل إليه فسأله عن سبب سفكه للدماء ونهبه للأموال وتحليله للمحرمات فأجابه بمثل ما أعتذر به سابقاً مما يؤذن بإفراط جهله فسجنه ثم ضرب عنقه وأرسل إلى صاحب الترجمة يخبره بذلك، وقد اتفق مثل هذه الفتنة في أوائل أيام الإمام المهدي العباس ابن الحسين والد مولانا خليفة العصر الإمام المنصور بالله حفظه الله وذلك أن رجلا من السودان يقال له أبو علامة ظهر من المحل الذي ظهر منه المحطوري وهو بلاد الشرق وصار له اتباع كثير مجاذيب لا يعمل فيهم سلاح ولا رصاص واجتمع منهم ألوف مؤلفة وفتحوا غالب حصون بلاد حاشد وبكيل ثم بعد ذلك استفتحوا مواضع من البلاد الإمامية، وانتهوا إلى تهامة وقتلوا من الناس من لا يأتي عليه الحصر ورجفت اليمن لذلك وتضعضعت أركان المملكة وصار الناس لا يجري في حديثهم غيره وصار النساء ومن يشابههن من العوام إذا سقط صبي لهم نادوا باسم هذا الناجم وعظمت فتنته واشتملت الأرض به وما زال الإمام المهدي يرسل إليه بالجيوش ويدافع بها عن بلاده التي قد انتشر فيها أصحاب أبي علامة المذكور وآخر الأمر عملت فيهم الأسلحة وأثرت فيهم الرصاص ولكنهم قد صاروا جيوشا متكاثرة فتارة تكون الدائرة لهم وتارة عليهم وغالبهم من السودان. ثم اتفق أن أبا علامة أرسل إلى الشام صعدة أنهم يمدونه بجيش فخرجوا في جيش كثير فوصلوا إليه وقد أدبر أمره فقتله جماعة منهم وحملوا رأسه إلى الإمام المهدي العباس وقد أخبرني بأخبار هذا الناجم شيخنا العلامة السيد عبد القادر بن أحمد المتقدم ذكره وكذلك أخبرني بأخباره الفقيه علي بن القاسم حنش المتقدم ذكره وكانا قد وصلا إليه اما شيخنا فأرسله الإمام المهدي وأما الفقيه علي فأرسله أمير كوكبان وأخبرني شيخنا أنه سأل عن سبب ما هو فيه فقال أنه دخل صنعاء في أيام سابقة وكان المؤذنون يسبحون من المنارات في آخر الليل ثلاث تسبيحات ثم دخل مرة اخرى فوجدهم قد تساهلوا بذلك فمنهم من يسبح تسبيحتين ومنهم من يسبح تسبيحة واحدة ومنهم من لا يسبح فانظر إلى هذا الجهل العجيب الذي استحل به هذا الطاغية سفك الدماء وهتك الحرم وكان ظهوره في سنة 1164 أو في التي بعدها فانتقم الله منه وأهلكه وكان موت المهدي صاحبه المواهب المترجم له في سنة 1130 ثلاثين ومائة وألف
دار المعرفة - بيروت-ط 1( 0) , ج: 2- ص: 97