أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام
ثالث أئمة أهل البيت الطاهر وثاني السبطين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي المصطفى وأحد الخمسة أصحاب العبا وسيد الشهداء وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مولده الشريف
ولد بالمدينة في الثالث من شعبان وقيل لخمس خلون منه سنة ثلاث أو أربع من الهجرة وروى الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن إسحاق الثقفي بسنده عن قتادة أن ولادته لست سنين وخمسة أشهر ونصف من التاريخ وقيل ولد في أواخر ربيع الأول وقيل لثلاث أو خمس خلون من جمادى الأولى والمشهور المعروف أنه ولد في شعبان وكانت مدة حمله ستة أشهر ومر في سيرة الحسن (ع) ما روي أنه كان بين ولادة الحسن والحمل بالحسين (ع) طهر واحد وأن الحسين (ع) كان في بطن أمه ستة أشهر وذكرنا منافاة ذلك للمشهور في تاريخ ولادتيهما فان الحسن (ع) ولد في منتصف شهر رمضان والحسين (ع) لخمس خلون من شعبان على المشهور فيكون بين ميلاديهما عشرة شهور وعشرون يوما. نعم ربما يتجه ذلك على القول بان ولادة الحسين (ع) في أواخر ربيع الأول ولعل القائل به استنبطه من الجمع بين تاريخ ولادة الحسن وأن بينها وبين الحمل بالحسين طهر واحد وان مدة حمل الحسين ستة أشهر والله أعلم وروى الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن إسحاق الثقفي بسنده عن قتادة ولدت فاطمة حسينا بعد الحسن لسنة وعشرة أشهر.
ولما ولد جئ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستبشر به وأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى فلما كان اليوم السابع سماه حسينا وعق عنه بكبش وأمر أن تحلق رأسه وتتصدق بوزن شعره فضة كما فعلت بأخيه الحسن فامتثلت ما أمرها به وعن الزبير بن بكار في كتاب أنساب قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى حسنا وحسينا يوم سابعهما واشتق اسم حسين من اسم حسن وروى الحاكم في المستدرك وصححه بسنده عن أبي رافع رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمة (وبسنده) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي (ع) وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة فقال: "زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة وأعطي القابلة رجل العقيقة". (وبسنده) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى. (وبسنده) عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب قال عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسين بشاة وقال "يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره" فوزناه وكان وزنه درهما (وبسنده) أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين عن كل واحد منهما كبشين اثنين مثليين متكافيين.
شهادته ومدة عمره
قتل (ع) شهيدا في كربلاء من أرض العراق عاشر المحرم سنة 61 من الهجرة بعد الظهر مظلوما ظمآن صابرا محتسبا قال المفيد يوم السبت والذي صححه أبو الفرج في مقاتل الطالبيين أنه استشهد يوم الجمعة قال وكان أول المحرم الأربعاء استخرجنا ذلك بالحساب الهندي من سائر الزيجات تنضاف إليه الرواية. أما ما تعارفه العوام من أنه قتل يوم الاثنين فلا أصل له ولا وردت به رواية وكان عمره (ع) يوم قتل 56 سنة وخمسة أشهر وسبعة أيام أو خمسة أيام أو تسعة أشهر وعشرة أيام أو ثمانية أشهر وسبعة أيام أو خمسة أيام أو 57 سنة بنوع من التسامح بعد السنة الناقصة سنة كاملة أو 58 سنة أو 55 سنة وستة أشهر على اختلاف الروايات والأقوال المتقدمة في مولده وغيرها. ومن الغريب قول المفيد أن عمره الشريف 58 سنة مع ذكره أن مولده لخمس خلون من شعبان سنة أربع وشهادته كما مر فان عمره على هذا يكون 56 سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام. عاش منها مع جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين أو سبع سنين وشهورا (وقال المفيد) سبع سنين ومع أبيه أمير المؤمنين 37 سنة قاله المفيد ومع أبيه بعد وفاة جده صلى الله عليه وسلم 30 سنة إلا أشهرا ومع أخيه الحسن 47 سنة قاله المفيد ومع أخيه بعد وفاة أبيه نحو عشر سنين (وقال المفيد) إحدى عشرة سنة وقيل خمس سنين وأشهرا للاختلاف في وفاة الحسن (ع) وهي مدة خلافته وإمامته.
كنيته ولقبه ونقش خاتمه كنيته
كنيته: أبو عبد الله لقبه: الرشيد والوفي والطيب والسيد الزكي والمبارك والتابع لمرضاة الله والدليل على ذات الله والسبط وأعلاها رتبة ما لقبه به جده صلى الله عليه وسلم في قوله عنه وعن أخيه الحسن إنهما سيدا شباب أهل الجنة وكذلك السبط لقوله صلى الله عليه وسلم حسين سبط من الأسباط.
نقش خاتمه: في الفصول المهمة: لكل أجل كتاب وفي الوافي وغيره عن الصادق (ع) حسبي الله وعن الرضا (ع) أن الله بالغ أمره ولعله كان له عدة خواتيم هذه نقوشها.
شاعره: يحيى بن الحكم وجماعة.
بوابه: أسعد الهجري.
ملوك عصره: معاوية وابنه يزيد.
أولاده
له من الأولاد ستة ذكور وثلاث بنات. علي الأكبر شهيد كربلاء أمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية. علي الأوسط. علي الأصغر زين العابدين أمه شاة زنان بنت كسرى يزدجرد ملك الفرس ومعنى شاة زنان بالعربية ملكة النساء. (وقال المفيد): الأكبر زين العابدين والأصغر شهيد كربلاء والمشهور الأول. ومحمد. وجعفر مات في حياة أبيه ولم يعقب أمه قضاعية. وعبد الله الرضيع جاءه سهم وهو في حجر أبيه فذبحه. وسكينة أمها وأم عبد الله الرضيع الرباب بنت أمرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم، كلبية معدية. وفاطمة أمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبد الله تيمية. وزينب. والذكر المخلد والثناء المؤبد لعلي زين العابدين (ع) ومنه عقبه.
مناقبه
عليه السلام
مر الكلام على جملة مما يشترك فيه مع أخيه الحسن (ع) في سيرة الحسن فأغنى عن إعادته.
كرمه وسخاؤه
عليه السلام
دخل الحسين (ع) على أسامة بن زيد وهو مريض وهو يقول وا غماه فقال وما غمك قال ديني وهو ستون ألف درهم فقال هو علي قال إني أخشى أن أموت قبل أن يقضى قال لن تموت حتى اقضيها عنك فقضاها قبل موته. ولما أخرج مروان الفرزدق من المدينة أتى الفرزدق الحسين (ع) فأعطاه الحسين أربعمائة دينار فقيل له انه شاعر فاسق فقال أن خير مالك ما وقيت به عرضك وقد أثاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير وقال في العباس ابن مرداس اقطعوا لسانه عني. وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق أن سائلا خرج يتخطى أزقة المدينة حتى أتى باب الحسين فقرع الباب وأنشأ يقول:
لم يخب اليوم من رجاك ومن | حرك من خلف بابك الحلقه |
فأنت ذو الجود أنت معدنه | أبوك قد كان قاتل الفسقة |
وكان الحسين واقفا يصلي فخفف من صلاته وخرج إلى الإعرابي فرأى عليه أثر ضر وفاقة فرجع ونادى بقنبر فأجابه لبيك يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما تبقى معك من نفقتنا؟ قال مائتا درهم أمرتني بتفريقها في أهل بيتك فقال هاتها فقد أتى من هو أحق بها منهم فأخذها وخرج يدفعها إلى الإعرابي وأنشأ يقول:
خذها فإني إليه معتذر | واعلم باني عليك ذو شفقة |
لو كان في سيرنا الغداة عصا | كانت سمانا عليك مندفقه |
لكن ريب الزمان ذو نكد | والكف منا قليلة النفقة |
فأخذها الإعرابي وولى وهو يقول:
مطهرون نقيات جيوبهم | تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا |
وأنتم أنتم الأعلون عندكم | علم الكتاب وما جاءت به السور |
من لم يكن علويا حين تنسبه | فما له في جميع الناس مفتخر |
وقد أوردنا هذا الخبر في لواعج الأشجان بنحو آخر ولا ندري الآن من أين نقلناه، وفيه أنه قنبر هل بقي من مال الحجاز شيء قال نعم أربعة آلاف دينار فأمره أن يعطيه إياها وزيادة بعد الأهل بيتين:
لولا الذي كان من أوائلكم | كانت علينا الجحيم منطبقه |
وليس فيه الأبيات الثلاثة الأخيرة مع إنها تنسب لأبي نواس في الرضا (ع) والله أعلم. وعلم أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي ولدا للحسين (ع) الحمد فلما قرأها على أبيه أعطاه ألف دينار وألف حلة وحشا فاه درا فقيل له في ذلك فقال وأين يقع هذا من عطائه يعني تعليمه وأنشد الحسين (ع):
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها | على الناس طرا قبل أن تتفلت |
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت | ولا البخل يبقيها إذا ما تولت |
ودخلت على الحسين (ع) جارية فحيته بطاقة ريحان فقال لها أنت حرة لوجه الله تعالى فقيل له تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها قال كذا أدبنا الله، قال الله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها وكان أحسن منها عتقها. وجاء إعرابي إلى الحسين (ع) فقال يا ابن رسول الله قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها فقلت في نفسي أسال أكرم الناس وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحسين (ع) يا أخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل فان أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل، فقال الإعرابي يا ابن رسول الله أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف، فقال الحسين (ع) بلى سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المعروف بقدر المعرفة، فقال الإعرابي سل عما بدا لك فان أجبت وإلا تعلمت منك ولا قوة إلا بالله فقال الحسين (ع) أي الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي: الإيمان بالله، فقال الحسين (ع): فما النجاة من الهلكة؟ فقال الأعرابي: الثقة بالله، فقال الحسين ع: فما يزين الرجل؟ فقال الأعرابي: علم معه حلم، فقال: فان أخطاه ذلك؟ فقال: مال معه مروءة، فقال: فان أخطاه ذلك؟ فقال: فقر معه صبر، فقال الحسين (ع): فان أخطاه ذلك؟ فقال الأعرابي: فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه فإنه أهل لذلك، فضحك الحسين (ع) ورمى إليه بصرة فيها ألف دينار وأعطاه خاتمه وفيه فص قيمته مائتا درهم وقال يا إعرابي أعط الذهب إلى غرمائك واصرف الخاتم في نفقتك فأخذ الإعرابي ذلك وقال الله اعلم حيث يجعل رسالته. وفي تحف العقول: أتاه رجل فسأله فقال أن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة فقال الرجل ما جئت إلا في أحداهن فأمر له بمائة دينار.
وفي تحف العقول: جاءه رجل من الأنصار يريد أن يسأله حاجة فقال يا أخا الأنصار صن وجهك عن بذلة المسألة وارفع حاجتك في رقعة فإني آت فيها ما هو سارك أن شاء الله فكتب يا أبا عبد الله أن لفلان علي خمسمائة دينار وقد ألح بي فكلمه أن ينظرني إلى ميسرة فلما قرأ الحسين (ع) الرقعة دخل إلى منزله فاخرج صرة فيها ألف دينار وقال له: أما خمسمائة فاقض بها دينك وأما خمسمائة فاستعن بها على دهرك، ولا ترفع حاجتك إلا إلى ثلاثة إلى ذي دين أو مروءة أو حسب، فأما ذو الدين فيصون دينه، وأما ذو المروءة فإنه يستحيي لمروءته، وأما ذو الحسب فيعلم أنك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك فهو يصون وجهك أن يردك بغير قضاء حاجتك.
وروى البخاري في صحيحه وغيره أن أسامة بن زيد أرسل مولاه حرملة من المدينة إلى الكوفة إلى علي (ع) يسأله شيئا من المال وقال له انه سيسألك ما خلف صاحبك عني فقل له يقول لك لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه ولكن هذا أمر لم أره أي لم يكن من رأيه القتال فلم يعطني شيئا فذهبت إلى حسن وحسين وابن جعفر فأوقروا لي راحلتي. قال ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري: اعتذر إليه بان تخلفه لكراهية قتال المسلمين فلم ير علي أن يعطيه لتخلفه عن القتال وأعطاه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر من أموالهم من ثياب ونحوها قدر ما تحمله راحلته.
قال المؤلف: ما اعتذر به أسامة عذر غير مقبول بعد قوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، وكان ينبغي له أن يستحيي من علي (ع) ولا يسأله من مال المسلمين بعد ما خذله وتخلف عن نصره، بل في بعض الروايات انه لم يبايعه، وما فعله علي (ع) من منعه أن صح هو عين الصواب ونفس الاستحقاق، وما فعله الحسنان (ع) وابن جعفر رضي الله عنه هو مقتضى كرم بني هاشم ومقابلتهم الإساءة بالإحسان فإذا كان منعه علي (ع) مما لا يستحقه فقد عوضوه عنه من مالهم جريا على شيمتهم الكريمة.
وروى أحمد بن سليمان بن علي البحراني في عقد اللآل في مناقب الآل أن الحسين (ع) كان جالسا في مسجد جده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أخيه الحسن (ع) وكان عبد الله بن الزبير جالسا في ناحية المسجد، وعتبة بن أبي سفيان في ناحية أخرى، فجاء إعرابي على ناقة فعقلها باب المسجد ودخل فوقف على عتبة بن أبي سفيان فسلم عليه فرد عليه السلام فقال له الإعرابي إني قتلت ابن عم لي وطولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئا؟ فرفع رأسه إلى غلامه وقال إدفع إليه مائة درهم، فقال الأعرابي: ما أريد إلا الدية تم أما ثم تركه، وأتى عبد الله بن الزبير وقال له مثل ما قال لعتبة فقال عبد الله لغلامه ادفع إليه مائتي درهم فقال الإعرابي ما أريد إلا الدية تم أما ثم تركه، وأتى الحسين (ع) فسلم عليه وقال يا ابن رسول الله إني قتلت ابن عم لي وقد طولبت بالدية فهل لك أن تعطيني شيئا؟ فقال له يا إعرابي نحن قوم لا نعطي المعروف إلا على قدر المعرفة، فقال سل ما تريد فقال له الحسين يا إعرابي ما النجاة من الهلكة؟ قال التوكل على الله عز وجل، فقال وما الهمة؟ قال الثقة بالله، ثم سأله الحسين غير ذلك وأجاب الإعرابي فأمر له الحسين (ع) بعشرة آلاف درهم وقال له هذه لقضاء ديونك وعشرة آلاف درهم أخرى وقال هذه تلم بها شعثك وتحسن بها حالك وتنفق منها على عيالك، فأنشأ الإعرابي يقول:
طربت وما هاج لي معبق | ولا لي مقام ولا معشق |
ولكن طربت لآل الرسول | أهل فلذ لي الشعر والمنطق |
هم الأكرمون هم الأنجبون | نجوم السماء بهم تشرق |
سبقت الأنام إلى المكرمات | فقصر عن سبقك السبق |
بكم فتح الله باب الرشاد | وباب الفساد بكم مغلق |
رأفته بالفقراء والمساكين وإحسانه إليهم
وجد على ظهره (ع) يوم الطف أثر فسئل زين العابدين (ع) عن ذلك فقال هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين.
تواضعه
مر (ع) بمساكن وهم يأكلون كسرا على كساء فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم وقال لو أنه صدقة لأكلت معكم ثم قال قوموا إلى منزلي فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم.
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق أنه (ع) مر بمساكين يأكلون في الصفة فقالوا الغداء فنزل وقال أن الله لا يحب المتكبرين فتغدى ثم قال لهم قد أجبتكم فأجيبوني قالوا نعم فمضى بهم إلى منزله وقال للرباب خادمته اخرجي ما كنت تدخرين. حلمه
جنى غلام له جناية توجب العقاب فأمر بضربه فقال يا مولاي والكاظمين الغيظ قال خلوا عنه، فقال يا مولاي والعافين عن الناس قال قد عفوت عنك، قال يا مولاي والله يحب المحسنين قال أنت حر لوجه الله ولك ضعف ما كنت أعطيك. فصاحته وبلاغته
عليه السلام
ربي الحسين (ع) بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد وأمير المؤمنين (ع) الذي كان كلامه بعد كلام النبي صلى الله عليه وسلم فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق وفاطمة الزهراء التي تفرع عن لسان أبيها صلى الله عليه وسلم فلا غرو أن كان أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء وهو الذي كان يخطب يوم عاشوراء وقد اشتد الخطب وعظم البلاء وضاق الأمر وترادفت الأهوال فلم يزعزعه ذلك ولا اضطرب ولا تغير وخطب في جموع أهل الكوفة بجنان قوي وقلب ثابت ولسان طلق ينحدر منه الكلام كالسيل فلم يسمع متكلم قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه وهو الذي قال فيه عدوه وخصمه في ذلك اليوم: ويلكم كلموه فإنه ابن أبيه والله لو وقف فيكم هكذا يوما جديدا لما انقطع ولما حصر.
إباؤه للضيم
أما إباؤه للضيم ومقاومته للظلم واستهانته القتل في سبيل الحق والعز فقد ضربت به الأمثال وسارت به الركبان وملئت به المؤلفات وخطبت به الخطباء ونظمته الشعراء وكان قدوة لكل أبي ومثالا يحتذيه كل ذي نفس عالية وهمة سامية ومنوالا ينسج عليه أهل الإباء في كل عصر وزمان وطريقا يسلكه كل من أبت نفسه الرضا بالدنية وتحمل الذل والخنوع للظلم، وقد أتى الحسين (ع) في ذلك بما حير العقول وأذهل الألباب وأدهش النفوس وملأ القلوب وأعيا الأمم عن أن يشاركه مشارك فيه واعجز العالم أن يشابهه أحد في ذلك أو يضاهيه وأعجب به أهل كل عصر وبقي ذكره خالدا ما بقي الدهر، أبى أن يبايع يزيد بن معاوية السكير الخمير صاحب الطنابير والقيان واللاعب بالقرود والمجاهر بالكفر والإلحاد والاستهانة بالدين قائلا لمروان وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد، ولأخيه محمد بن الحنفية: والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية، في حين أنه لو بايعه لنال من الدنيا الحظ الأوفر والنصيب الأوفى ولكان معظما محترما عنده مرعي الجانب محفوظ المقام لا يرد له طلب ولا تخالف له أرادة لما كان يعلمه يزيد من مكانته بين المسلمين وما كان يتخوفه من مخالفته له وما سبق من تحذير أبيه معاوية له من الحسين فكان يبذل في إرضائه كل رخيص وغال، ولكنه أبى الانقياد له قائلا: أنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله، فخرج من المدينة بأهل بيته وعياله وأولاده، ملازما للطريق الأعظم لا يحيد عنه، فقال له أهل بيته: لو تنكبته كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب، فأبت نفسه أن يظهر خوفا أو عجزا وقال: والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض،ولما قال له الحر: أذكرك الله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، أجابه الحسين (ع) مظهرا له استهانة الموت في سبيل الحق ونيل العز، فقال له: أفبالموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وسأقول كما قال أخو الأوس وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخوفه ابن عمه وقال: أين تذهب فإنك مقتول: فقال:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى | إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما |
أقدم نفسي لا أريد بقاءها | لتلقي خميسا في الوغى وعرمرما |
فان عشت لم أندم وإن مت لم ألم | كفى بك ذلا أن تعيش فترغما |
يقول الحسين (ع): ليس شأني شأن من يخاف الموت ما ون الموت علي في سبيل نيل العز وإحياء الحق ليس الموت في سبيل العز إلا حياة خالدة، وليست الحياة مع الذل إلا الموت الذي لا حياة معه، أفبالموت تخوفني هيهات طاش سهمك وخاب ظنك لست أخاف الموت أن نفسي لأكبر من ذلك وهمتي لا على من أن أحمل الضيم خوفا من الموت وهل تقدرون على أكثر من قتلي مرحبا بالقتل في سبيل الله ولكنكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزي وشرفي فإذا لا أبالي بالقتل. وهو القائل: موت في عز خير من حياة ذل، وكان يحمل يوم الطف وهو يقول:
الموت خير من ركوب العار | والعار أولى من دخول النار |
#والله من هذا وذا جاري
ولما أحيط به بكربلاء وقيل له: انزل على حكم بني عمك، قال: لا والله! لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد، فاختار المنية على الدنية وميتة العز على عيش الذل، وقال: إلا أن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. أقدم الحسين (ع) على الموت مقدما نفسه وأولاده وأطفاله وأهل بيته للقتل قربانا وفاء لدين جده صلى الله عليه وسلم بكل سخاء وطيبة نفس وعدم تردد وتوقف قائلا بلسان حاله:
إن كان دين محمد لم يستقم | إلا بنفسي يا سيوف خذيني |
روى المدائني: أن الحسن لما صالح معاوية قال أخوه الحسين: لقد كنت كارها لما كان طيب النفس على سبيل أبي حتى عزم علي أخي فأطعته وكأنما يجذ أنفي بالمواسي. وقال ابن أبي الحديد: سيد أهل الإباء الذي علم الناس الحمية والموت تحت ظلال السيوف اختيارا له على الدنية: أبو عبد الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، عرض عليه الأمان وأصحابه، فأنف من الذل وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان مع أنه لا يقتله، فاختار الموت على ذلك. وسمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري يقول: كان أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلا في الحسين (ع):
وقد كان فوت الموت سهلا فرده | إليه الحفاظ المر والخلق الوعر |
ونفس تعاف الضيم حتى كأنه | هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر |
فأثبت في مستنقع الموت رجله | وقال لها من تحت أخمصك الحشر |
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى | لها الليل إلا وهي من سندس خضر |
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج أيضا: ومن مثل الحسين بن علي (ع)؟ قالوا يوم الطف: ما رأينا مكثورا قد أفرد من إخوته وأهله وأنصاره أشجع منه. كان كالليث المحرب يحطم الفرسان حطما، وما ظنك برجل أبت نفسه الدنية وأن يعطي بيده، فقاتل حتى قتل هو وبنوه وإخوته وبنو عمه بعد بذل الأمان لهم والتوثقة بالإيمان المغلظة، وهو الذي سن للعرب الإباء واقتدى به بعده أبناء الزبير وبنو المهلب وغيرهم.
شجاعته
أما شجاعته فقد أنست شجاعة الشجعان وبطولة الأبطال وفروسية الفرسان من مضى ومن سيأتي إلى يوم القيامة، فهو الذي دعا الناس إلى المبارزة فلم يزل يقتل كل من برز إليه حتى قتل مقتلة عظيمة، وهو الذي قال فيه بعض الرواة: والله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله وإن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، ولقد كان يحمل فيهم فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، وهو الذي حين سقط عن فرسه إلى الأرض وقد أثخن بالجراح، قاتل راجلا قتال ألفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترص العورة. ويشد على الشجعان وهو يقول: أعلي تجتمعون، وهو الذي جبن الشجعان وأخافهم وهو بين الموت والحياة حين بدر خولي ليحتز رأسه فضعف وأرعد. وفي ذلك يقول السيد حيدر الحلي:
عفيرا متى عاينته الكماة | يختطف الرعب ألوانها |
فما أجلت الحرب عن مثله | قتيلا يجبن شجعانها |
وهو الذي صبر على طعن الرماح وضرب السيوف ورمي السهام حتى صارت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ وحتى وجد في ثيابه مائة وعشرون رمية بسهم وفي جسده ثلاث وثلاثون طعنة برمح وأربع وثلاثون ضربة بسيف.
أهل بيته
أما أهل بيته من أبنائه وأخواته وبني أخيه وبني عمه فكانوا خيرة أهل الأرض وفاء وإباء وشجاعة وإقداما وعلو همم وشرف نفوس وكرم طباع، أبوا أن يفارقوه وقد أذن لهم وفدوه بنفوسهم بذلوا دونه مهجهم وقالوا له لما أذن لهم بالانصراف: ولم نفعل ذلك لبقي بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا، ولما قال لبني عقيل: حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: سبحان الله! فما يقول الناس لنا، وما نقول لهم أنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا والله ما نفعل، ولكنا نفديك بأنفسنا وأحوالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك، فقتلوا جميعا بين يديه مقبلين غير مدبرين، وهو الذي كان يقول لهم، وقد حمي الوطيس وأحمر البأس مبتهجا بأعمالهم: صبرا يا بني عمومتي صبرا يا أهل بيتي فو الله لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا. فلله درهم من عصبة رفعوا منا الفخر ولبسوا ثياب العز غير مشاركين فيها وتجلببوا جلباب الوفاء، وضمخوا أعوام الدهر بعاطر ثنائهم ونشروا راية المجد والشرف تخفق فوق رؤوسهم، وجلوا جيد الزمان بأفعالهم الجميلة، وأمسى ذكرهم حيا مدى الأحقاب والدهور مالئا المشارق والمغارب ونقشوا على صفحات الأيام سطور مدح لا تمحى وإن طال العهد وعاد سنا أنوارهم يمحو دجى الظلمات ويعلو نور الشمس والكواكب.
أصحابه
وأما أصحابه فكانوا خير أصحاب فارقوا الأهل والأحباب وجاهدوا دونه جهاد الأبطال وتقدموا مسرعين إلى ميدان القتال قائلين له أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهنا يضاحك بعضهم بعضا قلة مبالاة بالموت وسرورا بما يصيرون إليه من النعيم، ولما أذن لهم في الانصراف أبوا وأقسموا بالله لا يخلونه أبدا ولا ينصرفون عنه قائلين أنحن نخلي عنك وقد أحاط بك هذا العدو وبم نعتذر إلى الله في أداء حقك، وبعضهم يقول لا والله لا يراني الله أبدا وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك أو أموت معك وبعضهم يقول والله لو علمت إني أقتل فيك ثم أحيا ثم أحرق حيا يفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك وبعضهم يقول والله لوددت إني قتلت ثم نشرت ألف مرة وان الله يدفع بذلك القتل عنك وعن أهل بيتك وبعضهم يقول أكلتني السباع حيا أن فارقتك ولم يدعو أن يصل إليه أذى وهم في الأحياء ومنهم من جعل نفسه كالترس له ما زال يرمي بالسهام حتى سقط وأبدوا يوم عاشوراء من الشجاعة والبسالة ما لم ير مثله فأخذت خيلهم تحمل وإنما هي اثنان وثلاثون فارسا فلا تحمل على جانب من خيل الأعداء إلا كشفته.
بعض أخباره
عليه السلام
روى صاحب كشف الغمة أنه لما قتل معاوية حجر بن عدي رحمه الله وأصحابه لقي في ذلك العام الحسين فقال يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعت بحجر وأصحابه من شيعة أبيك؟ قال لا، قال قتلناهم وكفناهم وصلينا عليهم، فتبسم الحسين (ع) ثم قال: خصمك القوم يوم القيامة يا معاوية أما والله لو ولينا مثلها من شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم وقد بلغني وقوعك بأبي حسن وقيامك به واعتراضك بني هاشم بالعيوب وأيم الله لقد أوترت غير قوسك ورميت غير غرضك وتناولتها بالعداوة من مكان قريب ولقد أطعت أمرا ما قدم إيمانه ولا حدث نفاقه وما نظر لك فانظر لنفسك أو دع "يريد عمرو بن العاص".
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق أن نافع بن الأزرق (وهو من رؤساء الخوارج) قال له صف لي إلهك الذي تعبد فقال يا نافع من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الالتباس مائلا إذا كبا عن المنهاج ظاعنا بالاعوجاج ضالا عن السبيل قائلا غير الجميل يا ابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس قريب غير ملتصق وبعيد غير مستقصى يوحد ولا ببعض معروف بالآيات موصوف بالعلامات لا إله إلا هو الكبير المتعال. فبكى ابن الأزرق وقال ما أحسن كلامك، فقال له بلغني أنك تشهد على أبي وعلى أخي بالكفر وعلي، قال ابن الأزرق: أما والله يا حسين لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الأحكام، فقال له الحسين (ع) إني سائلك عن مسالة، قال سل فسأله عن قوله تعالى وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة فقال: يا ابن الأزرق من حفظ في الغلامين فقال أبوهما، فقال الحسين أبوهما خير أم رسول الله فقال ابن الأزرق قد أنبأ الله تعالى عنكم إنكم قوم خصمون.
المكاتبة بينه وبين معاوية
روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة والكشي في كتاب الرجال أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية وهو عامله على المدينة أما بعد فان عمرو بن عثمان ذكر أن رجالا من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي وأنه لا يأمن وثوبه وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه يريد الخلاف يومه هذا فاكتب إلي برأيك فكتب إليه معاوية بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين فإياك أن تعرض للحسين في شيء واترك حسينا ما تركك فأنا لا نريد أن نعرض له بشيء ما وفى ببيعتنا ولم ينازعنا سلطاننا فاكمن عنه ما لم يبد لك صفحته. وكتب معاوية إلى الحسين (ع): أما بعد فقد انتهت إلي أمور عنك أن كانت حقا فإني أرغب بك عنها ولعمر الله أن من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء وإن أحق الناس بالوفاء من كان مثلك في حطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ونفسك فاذكر وبعهد الله أوف فإنك متى تنكرني أنكرك ومتى تكدني أكدك فاتق شق عصا هذه الأمة وأن يردهم الله على يديك في فتنة فقد عرفت الناس وبلوتهم فانظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يستخفنك السفهاء والذين لا يعلمون. فلما وصل الكتاب إلى الحسين (ع) كتب إليه: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه انه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير فان الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلا الله تعالى وأما ما ذكرت أنه رقي إليك عني فإنه رقاه إليك الملاقون المشاءون بالنميم المفرقون بين الجمع وكذب الغاوون، ما أردت لك حربا ولا عليك خلافا وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين الملحدين حزب الظلمة وأولياء الشياطين: ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستفظعون البدع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون في الله لومة لائم ثم قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما أعطيتهم الإيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم جرأة على الله واستخفافا بعهده أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد من ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك وقال رسول الله ص: الولد للفراش وللعاهر الحجر فتركت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمدا وتبعت هواك بغير هدى من الله ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية إنهم على دين علي صلى الله عليه وسلم فكتبت إليه أن أقتل كل من كان على دين علي فقتلهم ومثل بهم بأمرك ودين علي هو دين ابن عمه صلى الله عليه وسلم الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجثم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف، وقلت فيما قلت أنظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد واتق شق عصا هذه الأمة وان تردهم إلى فتنة، وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ولا أعظم نظرا لنفسي ولديني ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من أن أجاهدك فان فعلت فإنه قربة إلى الله وإن تركته فإني أستغفر الله لديني وأساله توفيقه لإرشاد أمري، وقلت فيما قلت أن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكديم، فكدني ما بدا لك فإني أرجو أن لا يضرني كيدك وأن لا يكون على أحد أضر منه على نفسك لأنك قد ركبت جهلك وتحرصت على نقض عهدك ولعمري ما وفيت بشرط ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا فابشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب واعلم أن لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وليس الله بناس لأخذك بالظنة وقتلك أولياءه على التهم ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة وأخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ما أراك إلا قد خسرت نفسك وبترت دينك وغششت رعيتك وأخربت أمانتك وسمعت مقالة السفيه الجاهل وأخفت الورع التقي والسلام.
قال الكشي: فلما قرأ معاوية الكتاب قال لقد كان في نفسه ضب ما أشعر به، فقال يزيد يا أمير المؤمنين أجبه جوابا يصغر إليه نفسه تذكر فيه أباه بشر فعله، قال ودخل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال معاوية أما رأيت ما كتب به الحسين قال وما هو قال فاقرأه الكتاب فقال وما يمنعك أن تجيبه بما يصغر إليه نفسه وإنما قال ذلك في هوى معاوية فقال يزيد رأيت يا أمير المؤمنين رأيي فضحك معاوية وقال أما يزيد فقد أشار علي بمثل رأيك قال عبد الله قد أصاب يزيد فقال معاوية أخطأتما أرأيتما لو إني ذهبت لعيب علي محقا فما عسيت أن أقول فيه ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل وما لا يعرف ومتى ما عبت رجلا بما لا يعرفه الناس لم يحفل به ولا يراه الناس شيئا وكذبوه وما عسيت أن أعيب حسينا ووالله ما أرى للعيب فيه موضعا وقد رأيت أن أكتب إليه أتوعده وأتهدده ثم رأيت أن لا أفعل. وكان لمعاوية عين بالمدينة يكتب إليه بما يكون من أمور الناس فكتب إليه أن الحسين بن علي أعتق جارية له وتزوجها فكتب معاوية إلى الحسين من أمير المؤمنين معاوية إلى الحسين بن علي أما بعد فإنه بلغني أنك تزوجت جاريتك وتركت أكفاءك من قريش من تستنجبه للولد وتمجد به في الصهر فلا لنفسك نظرت ولا لولدك انتقيت فكتب إليه الحسين (ع):
أما بعد فقد بلغني كتابك وتعييرك إياي بأني تزوجت مولاتي وتركت أكفائي من قريش فليس فوق رسول الله منتهى في شرف ولا غاية في نسب وإنما كانت ملك يميني خرجت عن يدي بأمر التمست فيه ثواب الله ثم ارتجعتها على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ووضع عنا به النقيصة فلا لوم على امرئ مسلم إلا في أمر مأثم وإنما اللوم لوم الجاهلية.
فلما قرأ معاوية كتابه نبذه إلى يزيد فقرأه وقال لشد ما فخر عليك الحسين قال لا ولكنها ألسنة بني هاشم الحداد التي تفلق الصخر وتغرف من البحر.
رده على معاوية حين أراد البيعة ليزيد
روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة أن معاوية لما أراد البيعة ليزيد قدم المدينة فدخل عليه الحسين وابن عباس فسال الحسين عن حال بني أخيه وأسنانهم فأخبره ثم خطب معاوية خطبة ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخرها قد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وقد علم الله ما أحاول به في أمر الرعية من سد الخلل ولم الصدع بولاية يزيد بما أيقظ العين وأحمد الفعل هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة وحظوة العلم وكمال المروءة وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله وعند غيركما مع علمه بالسنة وقراءة القرآن والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدم على الصديق وألفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم. وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فمهلا بني عبد المطلب فأنا وأنتم شعبا نفع وجد وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما فما يقول القائل إلا بفضل قولكما فردا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما واستغفر الله لي ولكما.
قال فتيسر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين (ع) وقال على رسلك فأنا المراد ونصيبي في التهمة أوفر فامسك ابن عباس.
فقام الحسين فحمد الله وصلى على الرسول ثم قال أما بعد يا معاوية فلن يؤدي القائل وأن أطنب في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم من جميع جزءا وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاع البيعة وهيهات هيهات يا معاوية فضح الصبح فحمة الدجى وبهرت الشمس أنوار السرج ولقد فضلت حتى أفرطت واستأثرت حتى أجحفت ومنعت حتى بخلت وجرت حتى جاوزت ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ونصيبه الأكمل وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمد تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوبا أو تنعت غائبا أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خا صلى الله عليه وسلم وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبق لاترابهن والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي تجده ناصرا ودع عنك ما تحاول فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه فوالله ما برحت تقدح باطلا في جور وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ومنعتنا عن آبائنا تراثا ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (ع) ولادة وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم فأذعن للحجة بذلك ورده الإيمان إلى النصف فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأميره له وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وببعثه له وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم أمرته وكرهوا تقديمه وعدوا عليه أفعاله فقال صلى الله عليه وسلم لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب أم كيف ضاهيت بصاحب تابعا وحولك من يؤمن في صحبته ويعتمد في دينه وقرابته وتتخطاهم إلى مسرف مفتون تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه وتشقى بها في آخرتك أن هذا لهو الخسران المبين واستغفر الله لي ولكم.
قال فنظر معاوية إلى ابن عباس فقال ما هذا يا ابن عباس ولما عندك أدهى وأمر فقال ابن عباس لعمر الله إنها لذرية الرسول وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر فاسأله عما تريد فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.
إقامة الذكرى لقتل الحسين (ع) والبكاء عليه كل عام
قد قضى العقل والدين باحترام عظماء الرجال أحياء وأمواتا وتجديد الذكرى لوفاتهم وشهادتهم وإظهار الحزن عليهم لا سيما من بذل نفسه وجاهد حتى قتل لمقصد سام وغاية نبيلة وقد جرت على ذلك الأمم في كل عصر وزمان وجعلته من أفضل أعمالها وأسنى مفاخرها فحقيق المسلمين بل جميع الأمم أن يقيموا الذكرى في كل عام للحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فإنه من عظماء الرجال وأعاظمهم في نفسه ومن الطراز الأول جمع أكرم الصفات وأحسن الأخلاق وأعظم الأفعال وأجل الفضائل والمناقب علما وفضلا وزهادة وعبادة وشجاعة وسخاء وسماحة وفصاحة ومكارم أخلاق وإباء للضيم ومقاومة للظلم وقد جمع إلى كرم الحسب شرف العنصر والنسب فهو أشرف الناس أبا وأما وجدا وجدة وعما وعمة وخالا وخالة جده رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد النبيين وأبوه علي أمير المؤمنين وسيد الوصيين وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وأخوه الحسن المجتبى وعمه جعفر الطيار وعم أبيه حمزة سيد الشهداء وجدته خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاما وعمته أم هانئ وخاله إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جاهد لنيل أسمى المقاصد وأنبل الغايات وقام بما لم يقم بمثله أحد قبله ولا بعده فبذل نفسه وماله وآله في سبيل إحياء الدين وإظهار فضائح المنافقين واختار المنية على الدنية وميتة العز على حياة الذل ومصارع الكرام على طاعة اللئام وأظهر من إباء الضيم وعزة النفس والشجاعة والبسالة والصبر والثبات ما بهر العقول وحير الألباب واقتدى به في ذلك كل من جاء بعده حتى قال القائل:
وإن الأولى بالطف من آل هاشم | تأسوا فسنوا للكرام التأسيا |
وحتى قال آخر كان أبيات أبي تمام ما قيلت إلا في الحسين (ع) وهي قوله:
وقد كان فوت الموت سهلا فرده | إليه الحفاظ المر والخلق الوعر |
الأبيات المتقدمة وحقيق بمن كان كذلك أن تقام له الذكرى في كل عام وتبكي له العيون دما بدل الدموع.
الحسين (ع) معظم حتى عند الخوارج أعداء أبيه وأخيه وليس أعجب ممن يتخذ يوم عاشوراء يوم فرح وسرور واكتحال وتوسعة على العيال لأخبار وضعت في زمن الملك العضوض اعترف بوضعها النقاد وسنها الحجاج بن يوسف عدو الله وعدو رسوله وأي مسلم تطاوعه نفسه أو يساعده قلبه على الفرح في يوم قتل ابن بنت نبيه وريحانته وابن وصيه وبما ذا يواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما ذا يتعذر إليه وهو مع ذلك يدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ومن شروط المحبة والفرح لفرح المحبوب والحزن لحزنه. ولو أنصف باقي المسلمين ما عدوا طريقة الشيعة في إقامة الذكرى للحسين (ع) كل عام وإقامة مراسم الحزن يوم عاشوراء، فهل كان الحسين (ع) دون جاندارك التي يقيم لها الإفرنسيون الذكرى في كل عام وهل عملت لأمتها ما عمله الحسين لأمته أو دونه. الحسين (ع) سن للناس درسا نافعا، ونهج لهم سبيلا مهيعا في تعلم الآباء والشمم وطلب الحرية والاستقلال، ومقاومة الظلم، ومعاندة الجور، وطلب العز ونبذ الذل، وعدم المبالاة بالموت في سبيل نيل الغايات السامية، والمقاصد العالية، وأبان فضائح المنافقين، ونبه الأفكار إلى التحلي بمحاسن الصفات، وسلوك طريق الأباة والاقتداء بهم وعدم الخنوع للظلم والجور والاستعباد.
وبكى زين العابدين على مصيبة أبيه (ع) أربعين سنة وكان الصادق (ع) يبكي لتذكر مصيبة الحسين (ع) ويستنشد الشعر في رثائه ويبكي وكان الكاظم (ع) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام منه، فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه، وقال الرضا (ع) أن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسال دموعنا وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، وقد حثوا شيعتهم وأتباعهم على إقامة الذكرى لهذه ألفاجعة الأليمة في كل عام، وهم نعم القدوة وخير من اتبع وأفضل من اقتفى أثره وأخذت منه سنة رسول الله.
وقال السيد علي جلال الحسيني المصري المعاصر في كلام له في مقدمة كتاب الحسين التقطنا منه هذه الكلمات، وفيها جملة من صفات الحسين (ع) واستحسان إقامة الذكرى له: أن الأمة التي تعنى بسير عظمائها ومن امتاز منها بأمر في الدين أو تفرد بعمل من أعمال الدنيا وتعرف أخبارهم تحفظ تاريخ حياتها وتستفيد منه، والسيد الإمام أبو عبد الله الحسين (ع) ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته وابن أمير المؤمنين علي (ع) ونشأة بيت النبوة له أشرف نسب وأكمل نفس، جمع الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال من علو الهمة ومنتهى الشجاعة وأقصى غاية الجود وأسرار العلم وفصاحة اللسان ونصرة الحق والنهي عن المنكر وجهاد الظلم والتواضع عن عز والعدل والصبر والحلم والعفاف والمروءة والورع وغيرها، واختص بسلامة الفطرة وجمال الخلقة ورجاحة العقل وقوة الجسم. وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة وأفعال الخير، كالصلاة والصوم والحج والجهاد في سبيل الله والإحسان. وكان إذا أقام بالمدينة أو غيرها مفيدا بعلمه مرشدا بعمله مهذبا بكريم أخلاقه مؤدبا ببليغ بيانه سخيا بماله متواضعا للفقراء معظما عند الخلفاء مواصلا للصدقة على الأيتام والمساكين منتصفا للمظلومين مشتغلا بعبادته، مشى من المدينة على قدميه إلى مكة حاجا خمسا وعشرين مرة، وعاش مدة يقاتل مع أبيه أصحاب الجمل فجنود معاوية فالخوارج، فكان الحسين في وقته علم المهتدين ونور الأرض،فأخبار حياته فيها هدى للمسترشدين بأنوار محاسنه المقتفين آثار فضله، ولا شك أن الأمة تنفعها ذكرى ما أصابها من الشدائد في زمن بؤسها كما يفيدها تذكر ما كسبته من المآثر أيام عزها. ومقتل الحسين من الحوادث العظيمة وذكراه نافعة وإن كان حديثه يحزن كل مسلم ويسخط كل عاقل. وقال في الكتاب المذكور:
ومن عجيب أمره (ع) أن يقتله شيعته ثم يجددون الحزن عليه في جميع بلاد المسلمين كل عام من يوم قتله إلى الآن.
(أقول): حاش لله أن يكون الذين قتلوه هم شيعته، بل الذين قتلوه بعضهم أهل طمع لا يرجع إلى دين، وبعضهم أجلاف أشرار، وبعضهم اتبعوا رؤساءهم الذين قادهم حب الدنيا إلى قتاله، ولم يكن فيهم من شيعته ومحبيه أحد، أما شيعته المخلصون فكانوا له أنصارا وما برحوا حتى قتلوا دونه ونصروه بكل ما في جهدهم إلى آخر ساعة من حياتهم وكثير منهم لم يتمكن من نصره أو لم يكن عالما بان الأمر سينتهي إلى ما انتهى إليه وبعضهم خاطر بنفسه وخرق الحصار الذي ضربه ابن زياد على الكوفة وجاء لنصره حتى قتل معه، أما أن أحدا من شيعته ومحبيه قاتله فذلك لم يكن، وهل يعتقد السيد علي جلال أن شيعته الخلص كانت لهم كثرة مفرطة؟ كلا، فما زال أتباع الحق في كل زمان أقل قليل ويعلم ذلك بالعيان وبقوله تعالى: وقليل ما هم، وقليل من عبادي الشكور. ومن ذلك تعلم الخطأ في قوله ثم يجددون الحزن عليه الخ وهذه هفوة من هذا السيد الذي أجاد في أكثر ما كتبه عن الحسين (ع) في كتابه المذكور لكنه تبع في هذا الكلام عن سلامة نية من يريد عيب الشيعة بكل وسيلة ويستنكر تجديد الحزن على الحسين (ع) في كل عام. ثم قال ونعم ما قال: كما أن حياة الحسين (ع) منار المهتدين فمصرعه عظة المعتبرين وقدوة المستبسلين. ألم تر كيف اضطره نكد الدنيا إلى إيثار الموت على الحياة وهو أعظم رجل في وقته لا نظير له في شرقها ولا غربها. وأبت نفسه الكريمة الضيم واختار السلة على الذلة فكان كما قال فيه أبو نصر بن نباتة:
والحسين الذي رأى الموت في العز | حياة والعيش في الذل قتلا |
ومع التفاوت الذي بلغ أقصى ما يتصور بين فئته القليلة وجيش ابن زياد في العدد والمدد قد كان ثباته ورباطة جأشه وشجاعته تحير الألباب ولا عهد للبشر بمثلها كما كانت دناءة أخصامه لا شبيه لها. وما سمع منذ خلق العالم ولن يسمع حتى يفنى أفظع من ضرب ابن مرجانة من ابن سمية بقضيب ثغر ابن بنت رسول الله ورأسه بين يديه بعد أن كان سيد الخلق (ع) يلثمه، ومن آثار العدل الإلهي قتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء كما قتل الحسين يوم عاشوراء وان يبعث برأسه إلى علي بن الحسين كما بعث برأس الحسين إلى ابن زياد. وهل أمهل يزيد بن معاوية بعد الحسين إلا ثلاث سنين أو أقل. وأي موعظة أبلغ من أن كل من اشترك في دم الحسين اقتص الله تعالى منه فقتل أو نكب. وأي عبرة لأولي الأبصار أعظم من كون ضريح الحسين حرما معظما وقبر يزيد بن معاوية مزبلة. وتأمل عناية الله بالبيت النبوي الكريم يقتل أبناء الحسين ولا يترك منهم إلا صبي مريض أشفى على الهلاك فيبارك الله في أولاده فيكثر عددهم ويعظهم شأنهم. والذين قتلوا مع الحسين من أهل بيته رجال ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه كما قال الحسن البصري: وكانوا جرثومة الشهامة والشمم والقدوة في الصبر والحرب والكرم:
وإن الأولى بالطف من آل هاشم | تأسوا فسنوا للكرام التأسيا |
وكل من أصابته الشدائد جعل رئيس هؤلاء الكرام أسوة كمصعب بن الزبير وبني المهلب وغيرهم. ومقتل الحسين (ع) بغض بني أمية إلى الناس وأيد حجة أعدائهم وزعزع أوتاد ملكهم وكان أكبر أسباب زوال دولتهم. والحسين (ع) هو الذي عبد للأمم طريق الخروج على ولاة الفسق والجور ودعا إلى جهاد الظلم من استطاع إليه سبيلا فجاد بنفسه وبذل مهجته لإقامة الحق والعدل والسنة مقام الباطل والاستبداد والأهواء. ولو قدرت ولاية الحسين (ع) لكانت خيرا للأمة في حكومتها وحياتها وأخلاقها وجهادها، وشتان ما السبط الزكي والظالم السكير يزيد القرود والطنابير، وهل يستوي الفاسق الجائر والعادل الإمام، وأين الذهب من الرغام؟ لكن اقتضت الحكمة الإلهية سير الحوادث بخلاف ذلك وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له، واقتضت أيضا أن يبقى أثر جهاد الحسين (ع) على ممر الدهور كلما أرهق الناس الظلم تذكرة من ندب نفسه لخدمة الأمة فلم يحجم عن بذل حياته متى كانت فيه مصلحة لها.
الاعتذارعمن خذله
قال السيد علي جلال الحسيني في كتاب الحسين: الصحابة الموجودون في عصر الحسين كانوا يعلمون فسق يزيد وظلمه فمنهم من رأى الخروج عليه كابن الزبير ومنهم من امتنع عن مبايعته كعبد الله بن عمر بن العاص حتى دعا نائب أمير مصر بالنار ليحرق عليه بابه، ومنهم من أبى الخروج عليه وقعدوا عن نصرة الحسين، وهؤلاء كان عدم خروجهم اجتهادا منهم، وهم أن قعدوا عما رآه الحسين حقا فلم ينصروا الباطل ولا لوم عليهم فيما فعلوا.
(أقول): بل اللوم عليهم حاصل والاجتهاد في مقابل النص باطل، ومن خذل الحق فهو كمن نصر الباطل وكلاهما عن الصواب مائل لا يعذره عاقل، أما ابن الزبير فما كان خروجه إلا طلبا للملك ولو كان لنصر الحق لنصر الحسين وقد كان الحسين أثقل الناس عليه بمكة.
قال: واللوم على أهل العراق فهم المسؤولون عما صنعوا لأنهم أخلفوا الحسين ما وعدوه ثم خذلوه وقاتلوه وقتلوه.
(أقول): إذا كان الحسين على الحق، وهو على الحق، فنصرته واجبة على كل أحد سواء من وعده النصرة وغيرهم أهل العراق وغيرهم.
قال: ومن غريب أمر شيعة الحسين إنهم خذلوه حيا ونصروه ميتا فإنهم بعد قتله ندموا على ما فرطوا في حقه وسموا أنفسهم التوابين وقاموا لأخذ ثارة فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد.
(أقول): وأعجب منهم عموم أمة جده الذين خذلوه حيا وميتا ولم ينصروه ولم يستبينوا الرشد لا في ضحى الغد ولا في غيره فمن خذله حيا ثم ندم وتاب وطلب بثارة أحسن حالا من خذله وبقي مصرا على ذنبه ولم يتب ولم يندم وأقام على طاعة أعداء الله، على أن هؤلاء التوابين أكثرهم لم يكن مخلى السرب لينصره بل كان محجورا عليه من قبل ابن زياد وأتباعه وكان لا يمكنه الوصول إليه إلا بشدة. بكاء علي بن الحسين زين العابدين على أبيه (ع)
روى ابن شهراشوب في المناقب عن الصادق جعفر بن محمد (ع) أنه قال: بكى علي بن الحسين عشرين سنة وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف أن تكون من الهالكين، قال (ع): إنما أشكو بي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة ورواه ابن قولويه في الكامل بسنده عن الصادق (ع) مثله إلا أنه زاد بعد عشرين سنة أو أربعين سنة. قال ابن شهراشوب: وفي رواية: أما أن لحزنك أن ينقضي فقال له ويحك أن يعقوب النبي (ع) كان له اثنا عشر ابنا فغيب الله وأحدا منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه واحدودب ظهره من الغم وكان ابنه حيا في دار الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر رجلا من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني (قال) وقد ذكر في الحلية نحوه وقيل أنه بكى حتى خيف على عينيه. وقيل له أنك لتبكي دهرك فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا فقال نفسي قتلتها وعليها أبكي.
بكاء أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق على مصيبة جده الحسين (ع)
روى ابن قولويه في الكامل بسنده عن ابن خارجة قال: كنا عند أبي عبد الله جعفر الصادق (ع) فذكرنا الحسين بن علي (ع) فبكى أبو عبد الله وبكينا ثم رفع رأسه فقال: قال الحسين بن علي أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى وروى في الكتاب المذكور بسنده عن مسمع كردين قال: قال لي أبو عبد الله يا مسمع أنت من أهل العراق أما تأتى قبر الحسين قلت لا أنا رجل مشهور من أهل البصرة وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وأعداؤنا كثيرة من أهل القبائل من النصاب وغيرهم ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيميلوا علي قال أفما تذكر ما صنع به قلت بلى قال فتجزع قلت والله واستعبر لذلك حتى يرى لي أثر ذلك علي فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي قال رحم الله دمعتك أما أنك من الذين يعدون في أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنا إلى أن قال ثم استعبر واستعبرت معه فقال الحمد لله الذي فضلنا على خلقه بالرحمة وخصنا أهل البيت بالرحمة يا مسمع أن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين رحمة لنا وما بكى أحد رحمة لنا وما لقينا إلا رحمه الله. وروى الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد عن عبد الله بن سنان قال دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمد (ع) في يوم عاشوراء فلقيته كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط فقلت يا ابن رسول الله مم بكاؤك لا أبكى الله عينيك فقال لي أوفي غفلة أنت أما علمت أن الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم فقلت يا سيدي فما قولك في صومه فقال لي صمه من غير تبييت وأفطره من غير تشميت ولا تجعله يوم صوم كامل وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء فإنه في مثل ذلك الوقت من اليوم تجلت الهيجاء عن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكشفت الملحمة عنهم وفي الأرض منهم ثلاثون رجلا صريعا في مواليهم يعز على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصرعهم ولو كان في الدنيا يومئذ حيا لكان صلى الله عليه وسلم هو المعزي بهم قال وبكى أبو عبد الله (ع) حتى أخضلت لحيته بدموعه.
وروى ابن قولويه في الكامل بسنده عن أبي بصير قال كنت عند أبي عبد الله الصادق (ع) إلى أن قال يا أبا بصير إذا نظرت إلى ولد الحسين أتاني ما لا أملكه بما أوتي إلى أبيهم وإليهم يا أبا بصير أن فاطمة لتبكيه إلى أن قال أما تحب أن تكون فيمن يسعد فاطمة فبكيت حين قالها فما قدرت على النطق من البكاء وقال الكاظم (ع) كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام منه فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (ع).
(وروى أبو الفرج الأصبهاني) وهو من عظماء المؤرخين الموثوق بهم والمعترف بفضلهم وسعة إطلاعهم عند جميع المسلمين في كتاب الأغاني بسنده عن علي بن إسماعيل التميمي عن أبيه قال كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد (ع) فاستأذن آذنه للسيد الحميري فأمر بإيصاله وأقعد حرمه خلف ستر ودخل فسلم وجلس فاستنشده فانشد قوله:
أمرر على جدث الحسين | فقل لأعظمه الزكية |
يا أعظما لا زلت من | وطفاء ساكبة رويه |
وإذا مررت بقبره | فاطل به وقف المطية |
وابك المطهر للمطهر | والمطهرة النقية |
كبكاء معولة أتت | يوما لو أحداها المنيه |
(قال) فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدر على خديه وارتفع الصراخ من داره حتى أمره بالإمساك فامسك.
بكاء الرضا على الحسين (ع)
روى الصدوق في الأمالي بسنده عن الرضا (ع) أنه قال أن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه الظلم والقتال فاستحلت فيه دماؤنا وهتكت فيه حرمتنا وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا وأضرمت النار في مضاربنا وانهب ما فيه من ثقلنا ولم ترع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة في أمرنا أن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء فعلى مثل الحسين فليبك الباكون.
روى الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال دخل دعبل بن علي الخزاعي رحمه الله علي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) بمرو فقال له يا ابن رسول الله إني قد قلت فيكم قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدا قبلك فقال (ع) هاتها فانشده:
مدارس آيات خلت من تلاوة | ومنزل وحي مقفر العرصات |
فلما بلغ إلى قوله:
أرى فيأهم في غيرهم متقسما | وأيديهم من فيئهم صفرات |
بكى أبو الحسن الرضا (ع) وقال له صدقت يا خزاعي.
حداد بني هاشم ونسائهم على الحسين (ع) حتى قتل ابن زياد
عن الصادق (ع) أنه قال ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ولا رئي في دار هاشمي دخان خمس سنين حتى قتل عبيد الله بن زياد. وعن فاطمة بنت علي أمير المؤمنين (ع) إنها قالت ما تحنأت امرأة منا ولا أجالت في عينها مرودا ولا امتشطت حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد. وروى ابن قولويه في كامل الزيارة بسنده عن أبي عبد الله جعفر الصادق (ع) أنه قال: ما اختضب منا امرأة ولا ادهنت ولا اكتحلت ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عبرة بعده وكان جدي يعني علي بن الحسين (ع) إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه.
الحزن يوم عاشوراء سنة وجعله عيدا أقبح البدع
من السنة يوم عاشوراء إظهار الحزن والجزع والبكاء والجلوس لذلك، أولا لأن فيه مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا شك في أنه حزين في ذلك اليوم جزعا على ولده وفلذة كبده ومن كان في حياته يحبه أشد الحب ويعزه ويكرمه ويلاعبه ويداعبه ويحمله على كتفه والذي كان بكاؤه يؤذيه ولم يرضى من أم الفضل أن تناله بشيء يبكيه وأي مسلم يرغب عن مواساة نبيه في حزنه على حبيبه وولده وفلذة كبده أم أي طاعة أعظم وأجل وأفضل عند الله تعالى وأحب إليه وأشد تقريبا لديه من مواساة أفضل رسله في حزنه على ولده الذي بذل نفسه لأحياء دينه، ثانيا انه ثبت عن أئمة أهل البيت النبوي إنهم أقاموا المآتم في مثل هذا اليوم بل في كل وقت وحزنوا وبكوا لهذه الفاجعة وحثوا أتباعهم على ذلك فقد ثبت عن الإمام الرضا (ع) أنه قال كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام منه فإذا كان العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وقد مر بكاء الصادق (ع) لما أنشده السيد الحميري حتى بكى حرمه من خلف الستر ومر بكاء زين العابدين بعد قتل أبيه (ع) طول حياته واحتجاجه لما ليم في ذلك بان يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيا ابن نبي وقد بكى على فراق ولده يوسف حتى ذهب بصره واحدودب ظهره وابنه حي في دار الدنيا قال وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر رجلا من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي وتقدم بكاء سائر أئمة أهل البيت (ع) لذلك وهم نعم القدوة ولنا بهم أحسن الأسوة. أما اتخاذ يوم عاشوراء يوم عيد وفرح وسرور وإجراء مراسيم الأعياد فيه من طبخ الحبوب وشراء الألبان والاكتحال والزينة والتوسعة على العيال فهي سنة أموية حجاجية وهي من أقبح البدع وأشنعها وإن كان قد اختلق فيها علماء السوء وأعوان الظلمة شيئا من الأحاديث فإنما ذاك في عهد الملك العضوض عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته (ع) ومراغمة لشيعتهم ومحبيهم وتبعهم من تبعهم غفلة عن حقيقة الحال وكيف يرضى المسلم لنفسه أن يفرح في يوم قتل ابن بنت نبيه وفي يوم يحزن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته كما مر في مطاوي ما تقدم ولم يكن جعل يوم عاشوراء عيدا معروفا في الديار المصرية وأول من أدخله إليها صلاح الدين الأيوبي كما حكاه المقريزي في خططه والظاهر أن الباعث عليه كان أمرا سياسيا وهو مراغمة الفاطميين الذين سلبهم صلاح الدين ملكهم فقصد إلى محو كل اثر لهم. ومن السنة في يوم عاشوراء ترك السعي في الحوائج وترك ادخار شيء فيه.
خروجه من المدينة
قال المفيد: روى الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السيرة قالوا لما مات الحسن (ع) تحركت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين (ع) في خلع معاوية والبيعة له فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهدا وعقدا لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة فإذا مات معاوية نظر في ذلك. فلما مات معاوية منتصف رجب سنة ستين من الهجرة وتخلف بعده ولده يزيد وكان الوالي في ذلك الوقت على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وعلى مكة عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق من بني أمية وعلى الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري وعلى البصرة عبيد الله بن زياد. كتب يزيد إلى ابن عمه الوليد بن عتبة والي المدينة مع مولى لمعاوية يقال له ابن أبي زريق يأمره بأخذ البيعة على لها وخاصة على الحسين (ع) ولا يرخص له في التأخر عن ذلك ويقول أن أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه. وكان معاوية قبل وفاته قد حذر يزيد من أربعة: الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر ولا سيما من الحسين وابن الزبير أما ابن الزبير فهرب إلى مكة على طريق الفرع هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث وأرسل الوليد خلفه أحد وثمانين راكبا فلم يدركوه وكان ابن عمر بمكة. وأما الحسين (ع) فاحضر الوليد مروان بن الحكم واستشاره في أمره. فقال إنه لا يقبل ولو كنت مكانك لضربت عنقه، فقال الوليد: ليتني لم أك شيئا مذكورا، ثم بعث إلى الحسين (ع) في الليل فاستدعاه فعرف الحسين (ع) الذي أراد فدعا بجماعة من أهل بيته ومواليه وكانوا ثلاثين رجلا وأمرهم بحمل السلاح وقال لهم أن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ولست آمن أن يكلفني فيه أمرا لا أجيبه إليه وهو غير مأمون فكونوا معي فإذا دخلت فاجلسوا على الباب فان سمعتم صوتي قد علا فأدخلوا عليه لتمنعوه عني، فصار الحسين (ع) إلى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم فنعى إليه الوليد معاوية فاسترجع الحسين (ع) ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه ليزيد، فلم يرد الحسين (ع) أن يصارحه بالامتناع من البيعة وأراد التخلص منه بوجه سلمي، فورى عن مراده وقال: إني أراك لا تقنع ببيعتي سرا حتى أبايعه جهرا فيعرف ذلك الناس، فقال له الوليد أجل، فقال الحسين (ع) تصبح وترى رأيك في ذلك، فقال له الوليد انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه، فلما سمع الحسين (ع) هذه المجابهة القاسية من مروان الوزع ابن الوزع صارحهما حينئذ بالامتناع من البيعة وانه لا يمكن أن يبايع ليزيد أبدا، فوثب الحسين (ع) عند ذلك وقال لمروان: ويلي عليك يا ابن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي، كذبت والله ولؤمت، ثم أقبل على الوليد فقال: أيها الأمير أنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة، ثم خرج يتهادى بين مواليه وهو يتمثل بقول يزيد بن المفرع:
لا ذعرت السوام في غسق الصبح | مغيرا ولا دعيت يزيدا |
يوم أعطي مخافة الموت ضيما | والمنايا يرصدنني أن أحيدا |
حتى أتى منزله. وقيل إنه انشدهما لما خرج من المسجد الحرام متوجها إلى العراق، وقيل غير ذلك، فقال مروان للوليد: عصيتني لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه أبدا، فقال له الوليد: ويحك أنك أشرت علي بذهاب ديني ودنياي والله ما أحب أن أملك الدنيا بأسرها واني قتلت حسينا، سبحان الله اقتل حسينا لما أن قال لا أبايع، والله ما أظن أحدا يلقى الله بدم الحسين إلا وهو خفيف الميزان لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب اليم. فقال مروان فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت، يقول هذا وهو غير حامد له على رأيه، قال المؤرخون: وكان الوليد يحب العافية. والحقيقة انه كان متورعا عن أن ينال الحسين (ع) منه سوء لمعرفته بمكانته لا مجرد حب العافية. ولما بلغ يزيد ما صنع الوليد عزله عن المدينة وولاها عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق فقدمها في رمضان. وأقام الحسين (ع) في منزله تلك الليلة وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان فقال له يا أبا عبد الله إني لك ناصح فأطعني ترشد، فقال الحسين (ع) وما ذاك قل حتى اسمع، فقال مروان: إني أمرك ببيعة يزيد بن معاوية فإنه خير لك في دينك ودنياك، فقال الحسين ع: أنا لله وأنا إليه راجعون وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد. وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف وهو غضبان فلما كان آخر نهار السبت بعث الوليد الرجال إلى الحسين (ع) ليحضر فيبايع فقال لهم الحسين (ع) أصبحوا ثم ترون ونرى فكفوا تلك الليلة عنه ولم يلحوا عليه فخرج في تلك الليلة وقيل في غداتها وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجها نحو مكة. ولما علم ابن الحنفية عزمه على الخروج من المدينة لم يدر أين يتوجه، فقال له يا أخي أنت أحب الناس إلي وأعزهم علي ولست والله ادخر النصيحة لأحد من الخلق وليس أحد من الخلق أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي ومن وجبت طاعته في عنقي لأن الله قد شرفك علي وجعلك من سادات أهل الجنة تنح ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فان تابعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك وان اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك وإني أخاف عليك أن تدخل مصرا من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة غرضا فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما أضعيها دما وأذلها لا، فقال له الحسين (ع) فأين أذهب يا أخي؟ قال تخرج إلى مكة فان اطمأنت بك الدار بها فذاك وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن فإنهم أنصار جدك وأبيك وهم أرأف الناس وأرقهم قلوبا وأوسع الناس بلادا فان اطمأنت بك الدار وإلا لحقت بالرمال وشعف الجبال وجزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين فإنك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الأمر استقبالا، فقال الحسين (ع) يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية، فقطع محمد بن الحنفية عليه الكلام وبكى، فبكى الحسين (ع) معه ساعة، ثم قال: يا أخي جزاك الله خيرا فقد نصحت وأشفقت وأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا وأنا عازم على الخروج إلى مكة وقد تهيأت لذلك أنا وأخوتي وبنو أخي وشيعتي أمرهم أمري ورأيهم رأيي وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخفي عني شيئا من أمورهم.
وأقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة لما بلغهن أن الحسين (ع) يريد الشخوص من المدينة، حتى مشى فيهن الحسين (ع) فقال: أنشدكن الله أن تبدين هذا الأمر، معصية لله ولرسوله، قالت له نساء بني عبد المطلب: فلن نستبقي النياحة والبكاء فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن ورقية وزينب وأم كلثوم جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور.
ولما عزم الحسين (ع) على الخروج من المدينة مضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودعها ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن (ع) ففعل كذلك وخرج معه بنو أخيه وإخوته وجل أهل بيته إلا محمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر.
وخرج (ع) من المدينة في جوف الليل وهو يقرأ فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولزم الطريق الأعظم فقال له أهل بيته لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب فقال لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض، فلقيه عبد الله ابن مطيع فقال له جعلت فداك أين تريد؟ قال أما الآن فمكة وأما بعد فإني استخير الله قال خار الله لك وجعلنا فداك فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتى على نفسه الزم الحرم فأنت سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا ويتداعى إليك الناس من كل جانب لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك. وكان دخوله (ع) إلى مكة يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان فيكون مقامه في الطريق نحوا من خمسة أيام لأنه خرج من المدينة لليلتين بقيتا من رجب كما مر.
ودخلها وهو يقرأ
{ولما توجه تلقاء مدين قال عيسى ربي أن يهديني سواء السبيل} فأقام بمكة باقي شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثماني ليال من ذي الحجة. وأقبل أهل مكة ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق يختلفون إليه وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحسين (ع) فيمن يأتيه اليومين المتواليين وبين كل يوم مرة ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأنه قد علم أن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين (ع) باقيا في البلد وان الحسين (ع) أطوع في الناس منه وأجل.
دعوة أهل الكوفة
ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين (ع) من البيعة أرجفوا بيزيد وعقد اجتماع في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فلما تكاملوا قام سليمان فيهم خخطيبا وقال في آخر خطبته: إنكم قد علمتم بان معاوية قد هلك وصار إلى ربه وقدم على عمله وقد قعد في موضعه ابنه يزيد وهذا الحسين بن علي قد خالفه وصار إلى مكة هاربا من طواغيت آل سفيان وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله وقد احتاج إلى نصرتكم اليوم فان كنتم تعلمون إنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه قالوا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه فأرسلوا وفدا من قبلهم وعليهم أبو عبد الله الجدلي وكتبوا إليه معهم بسم الله الرحمن الرحيم للحسين بن علي من سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد البجلي وحبيب بن مظاهر وعبد الله بن وال وشيعته من المؤمنين والمسلمين سلام عليك أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك وعدو أبيك من قبل الجبار العنيد الغشوم الظلوم الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيأها وتأمر عليها بغير رضا منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وعتاتها فبعدا له كما بعدت ثمود وانه ليس علينا أما م غيرك فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ولو قد بلغنا أنك أقبلت أخرجناه حتى يلحق بالشام أن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله يا ابن رسول الله وعلى أبيك من قبلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقيل إنهم سرحوا الكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمذاني وعبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين (ع) بمكة لعشر مضين من شهر رمضان ثم لبثوا يومين وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن شداد الأرحبي وعمارة بن عبد الله السلولي إلى الحسين (ع) ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة وهو مع ذلك يتأنى ولا يجيبهم فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب ثم لبثوا يومين آخرين وسرحوا إليه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي وكانا آخر الرسل وكتبوا إليه
{بسم الله الرحمن الرحيم} للحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين أما بعد فحيهلا فان الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل ثم العجل العجل والسلام. ثم كتب معهما أيضا شبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم الشيباني وعزرة بن قيس الأحمسي وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير بن عطارد بن حاجب ابن زرارة التميمي أما بعد فقد أخضر الجناب وأينعت الثمار فإذا شئت فاقبل على جند لك مجند والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى أبيك من قبلك.
وفي رواية أن أهل الكوفة كتبوا إليه أن لك هنا مائة ألف سيف فلا تتأخر وتلاقت الرسل كلها عنده فقال الحسين (ع) لهاني وسعيد خبراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي سير إلي معكما فقالا يا ابن رسول الله شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج ومحمد بن عمير بن عطارد وكل هؤلاء خرج لقتال الحسين (ع) وهم من أعيان الكوفة ووجوهها فعندها قام الحسين (ع) فصلى ركعتين بين الركن والمقام وسال الله الخيرة في ذلك ثم كتب مع هاني بن هاني وسعيد بن عبد الله بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين أما بعد فان هانيا وسعيدا قدما علي بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم انه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فان كتب إلي انه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكا أن شاء الله تعالى فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق الحابس نفسه على ذلك لله والسلام.
ودعا الحسين (ع) ابن عمه مسلم بن عقيل وقيل إنه كتب معه جواب كتبهم فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي ورجلين آخرين وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف فان رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إليه بذلك فاقبل مسلم رحمه الله حتى أتى المدينة واستأجر دليلين من قيس فاقبلا به يتنكبان الطريق وأصابهما عطش شديد فعجزا عن السير فأومأ له إلى سنن الطريق ومات الدليلان عطشا فكتب مسلم إلى الحسين (ع) من الموضع المعروف بالمضيق وهو ماء لبني كلب مع قيس بن مسهر أما بعد فإني أقبلت من المدينة مع دليليين فجارا عن الطريق فضلا واشتد علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبت وقد تطيرت من توجهي هذا فان رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري والسلام فكتب إليه الحسين ع: قد خشيت أن لا يكون حملك لي الاستعفاء إلا الجبن فامض لوجهك الذي وجهتك فيه فقال مسلم أما هذا فلست أتخوفه على نفسي فاقبل حتى مر بماء لطيء فنزل ثم ارتحل عنه فإذا برجل يرمي الصيد فنظر إليه وقد رمى ظبيا حين أشرف له فصرعه فقال مسلم نقتل عدونا أن شاء الله ثم أقبل حتى دخل الكوفة فنزل دار المختار وأقبلت الناس تختلف إليه فكلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين (ع) وهم يبكون وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا فكتب إلى الحسين (ع) أما بعد فان الرائد لا يكذب له وان جميع أهل الكوفة معك وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفا فعجل الإقبال حين تقرأ كتابي هذا والسلام وجعل الناس يختلفون إليه حتى علم بمكانه فبلغ النعمان بن بشير ذلك وكان واليا على الكوفة من قبل معاوية فاقره يزيد عليها وكان صحابيا حضر مع معاوية حرب صفين وكان من أتباعه وقتله أهل حمص في فتنة ابن الزبير وكان واليا عليها فصعد المنبر وخطب الناس وحذرهم الفتنة قام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال له انه لا يصلح ما ترى إلا الغشم أن هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين فقال له النعمان أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ثم نزل فكتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل الكوفة ومبايعة الناس له ويقول أن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك فان النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف وكتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد بنحو ذلك فدعا يزيد سرجون الرومي مولى معاوية وكان سرجون مستوليا على معاوية في حياته واستشاره فيمن يولي على الكوفة وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد وهو يومئذ وال على البصرة وكان معاوية قد كتب لابن زياد عهدا بولاية الكوفة ومات قبل إنفاذه فقال سرجون ليزيد لو نشر لك معاوية ما كنت أخذا برأيه قال بلى قال هذا عهده لعبيد الله على الكوفة فضم يزيد البصرة والكوفة إلى عبيد الله وكتب إليه بعهده وسيره مع مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيد الله معه: أما بعد فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتى الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام فخرج مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيد الله بالبصرة فأمر عبيد الله بالجهاز من وقته والتهيؤ والمسير إلى الكوفة من الغد.
كتاب الحسين (ع) إلى أهل البصرة
وكتب الحسين إلى رؤساء الأخماس بالبصرة والى أشرافها مع ذراع السدوسي ومع مولى للحسين (ع) اسمه سليمان ويكنى أبا رزين فكتب إلى مالك بن مسمع البكري والأحنف بن قيس ويزيد بن مسعود النهشلي والمنذر بن الجارود العبدي ومسعود بن عمر الأزدي بنسخة واحدة أما بعد فان الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على خلقه وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته ثم قبضه الله إليه وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه وسلم وكنا له وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس فاستأثر علينا قومنا فأغضينا كراهية للفرقة محبة للعافية ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه فان السنة قد أميتت وان البدعة قد أحييت فان تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري دكم سبيل الرشاد. فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد فلما حضروا قال يا بني تميم كيف ترون موضعي فيكم وحسبي منكم فقالوا بخ بخ أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر حللت في الشرف وسطا وتقدمت فيه فرطا قال فإني قد جمعتكم لأمر أريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه فقالوا إذا والله نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي فقل نسمع فقال: أن معاوية قد مات فأهون به الله هالكا ومفقودا إلا وانه قد انكسر باب الجور والإثم وتضعضعت أركان الظلم وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمرا ظن أن قد احكمه وهيهات الذي أراد اجتهد والله ففشل وشاور فخذل وقد قام ابنه يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدعي الخلافة على المسلمين ويتأمر عليهم بغير رضي منهم مع قصر حلم وقلة علم لا يعرف من الحق موطئ قدمه فاقسم الله قسما مبرورا لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين وهذا الحسين بن علي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل له فضل لا يوصف وعلم لا ينزف وهو أولي بهذا الأمر لسابقته وسنه وقدمه وقرابته يعطف على الصغير ويحنو على الكبير فأكرم به راعي رعية وأما م قوم وجبت لله به الحجة وبلغت به الموعظة وقد كان صخر بن قيس وهو الأحنف أنخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته والله لا يقصر أحد عن نصرته إلا أورثه الله تعالى الذل في ولده والقلة في عشيرته وها أنذا قد لبست للحرب لامتها وأدرعت لها بدرعها من لم يقتل يمت ومن يهرب لم يفت فأحسنوا رحمكم الله رد الجواب. فتكلمت بنو حنظلة فقالوا أبا خالد نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك أن رميت بنا أصبت وان غزوت بنا فتحت لا تخوض والله غمرة إلا خضناها وتلقى والله شدة إلا لقيناها ننصرك والله بأيدينا ونفديك بدمائنا إذا شئت فافعل. وتكلمت بنو سعد بن يزيد فقالوا أبا خالد أن أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك وقد كان صخر بن قيس الأحنف أمرنا بترك القتال يوم الجمل فحمدنا رأيه فأمهلنا نراجع الرأي فنأتيك برأينا. وتكلمت بنو عامر بن تميم فقالوا يا أبا خالد نحن بنو أبيك وحلفاؤك لا نرضى أن غضبت ولا نوطن أن ظعنت والأمر إليك فادعنا نجبك ومرنا نطعك والأمر لك إذا شئت. فقال والله يا بني سعد لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبدا ولا زال سيفكم فيكم.
ثم كتب إلى الحسين (ع): وصل إلي كتابك وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك وان الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها بخير أو دليل على سبيل نجاة وأنتم حجة الله على خلقه ووديعته في أرضه تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها فأقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذللت لك أعناق بني تميم وتركتهم أشد تتابعا في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها وكظها وقد ذللت لك رقاب بني سعد وغسلت درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهل برقها فلمع.
فلما قرأ الحسين (ع) الكتاب قال: ما لك آمنك الله يوم الخوف وأعزك وأرواك يوم لعطش الأكبر. فلما تجهز المشار إليه للخروج إلى الحسين (ع) بلغه قتله قبل أن يسير فجزع من انقطاعه عنه.
ومما يلاحظ هنا أن بني حنظلة وبني عامر الذين أجابوا يزيد بن مسعود إلى القيام معه لم يكن في كلامهم كلمة واحدة تدل إلى أن قيامهم لنصرة الحق ولكون الحسين (ع) أما م حق تجب نصرته والجهاد معه نصرة للدين والحق بل يلوح من كلامهم أن إطاعتهم له لكونه رئيسا لهم فبنو حنظلة لا يخوض غمرة إلا خاضوها ولا يلقى شدة إلا لقوها وبنو عامر لا يرضون أن غضب ولا يوطنون أن ظعن وهكذا حال أكثر الناس، أما هو فكلامه يدل على معرفته بحق الحسين (ع) وان قيامه معه لمحض نصرة الحق والدين. وكتب إليه الأحنف: أما بعد فاصبر أن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون وأما المنذر بن الجارود فإنه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيد الله بن زياد في عشية الليلة التي يريد ابن زياد أن يذهب في صبيحتها إلى الكوفة لأن المنذر خاف أن يكون دسيسا من عبيد الله وبئس ما فعل وكانت بحرية بنت المنذر زوجة عبيد الله فأخذ عبيد الله الرسول فصلبه، ثم إنه خطب الناس وتوعدهم على الخلاف وخرج من البصرة واستخلف عليها أخاه عثمان.
مجئ ابن زياد إلى الكوفة
وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي رسول يزيد وشريك بن الأعور الحارثي وقيل كان معه خمسمائة فتأخروا عنه رجاء أن يقف عليهم ويسبقه الحسين (ع) إلى الكوفة فلم يقف على أحد منهم وسار فلما أشرف على الكوفة نزل حتى أمسى ودخلها ليلا مما يلي النجف وعليه عمامة سوداء وهو متلثم فدخلها من جهة البادي في زي أهل الحجاز ليوهمهم أنه الحسين (ع) والناس قد بلغهم إقبال الحسين (ع) فهم ينتظرونه فظنوا حين رأوا عبيد الله أنه الحسين (ع) فقالت امرأة الله أكبر ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصايح الناس وقالوا أنا معك أكثر من أربعين ألفا وأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا مرحبا بك يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم فرأى من تباشرهم بالحسين (ع) ما ساءه وازدحموا عليه حتى أخذوا بذنب دابته فقال لهم عبد الله بن مسلم الباهلي لما كثروا تأخروا هذا الأمير عبيد الله بن زياد وحسر اللثام عن وجه وقال أنا عبيد الله فتساقط القوم ووطئ بعضهم بعضا وسار حتى وافى القصر بالليل فأغلق النعمان ابن بشير عليه وعلى خاصته فناداه بعض من كان مع زياد ليفتح لهم الباب فاطلع عليه النعمان وهو يظنه الحسين (ع) فقال أنشدك الله إلا تنحيت والله ما أنا بمسلم إليه أمانتي وما لي في قتالك من أرب فجعل لا يكلمه ثم أنه دنا فتدلى النعمان من شرف القصر فجعل يكلمه فقال ابن زياد افتح لا فتحت فقد طال ليلك يا نعيم ففتح له النعمان فدخل وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضوا وأصبح ابن زياد فنادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمعوا فخطبهم وتوعد العاصي بالعقوبة والمطيع بالإحسان وقال الصدق ينبئ عنك لا الوعيد ونزل وأخذ الوفاء والناس أخذا شديدا فقال اكتبوا لي الغرباء ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره وألغيت تلك العرافة من العطاء ولما سمع مسلم بن عقيل مجئ عبيد الله إلى الكوفة ومقالته التي قالها خرج من دار المختار إلى دار هاني بن عروة في جوف الليل فأخذت أنصاره يختلفون إليه في دار هاني على تستر واستخفاء وألح عبيد الله في طلب مسلم ولا يعلم أين هو وكان شريك بن الحارث الهمداني لما جاء من البصرة مع عبيد الله بن زياد نزل دار هاني فمرض فأرسل إليه ابن زياد أنه يريد أن يعوده فقال لمسلم إذا جلس أخرج إليه فاقتله ونهاه هاني ولما أراد الخروج تعلقت به امرأة لهاني وبكت في وجهه وناشدته الله أن يفعل وخرج ابن زياد ومات شريك من مرضه ذلك ولما خفي على ابن زياد أمر مسلم عمد إلى التجسس فدعا غل أما له اسمه معقل ودفع إليه أربعة آلاف درهم وأمره بحسن التوصل إلى أصحاب مسلم وأن يدفع إليهم المال ليستعينوا به ويظهر لهم أنه منهم من أهل حمص فجاء إلى مسلم بن عوسجة فاغتر بكلامه وأدخله على مسلم بن عقيل فأخبر ابن زياد بكل ما أراد وبلغ الذين بايعوا مسلما خمسة وعشرين ألف رجل فعزم على الخروج، فقال هانئ لا تعجل، وخاف هانئ عبيد الله على نفسه فانقطع عن مجلسه وتمارض فدعا ابن زياد محمد بن الأشعث وحسان بن أسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي وكان هانئ متزوجا رويحة بنت عمرو هذا فقال لهم ما يمنع هانئ من زيارتنا قالوا إنه مريض قال بلغني أنه برئ وإنه يجلس على باب داره فالقوه ومروه أن لا يدع ما عليه من حقنا فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب وقالوا ما يمنعك من لقاء الأمير فإنه قد ذكرك، قال المرض، قالوا بلغه أنك برئت، وأقسموا عليه أن يذهب معهم، فذهب، ولم يكن حسان يعلم بشيء مما كان، وكان محمد بن الأشعث عالما به فلما دخل على ابن زياد قال: إيه يا هانئ ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له الجموع والسلاح في الدور حولك وظننت أن ذلك يخفى علي فأنكر هانئ أن يكون قد فعل، فدعا ابن زياد معقلا، فعلم هانئ أنه كان عينا عليهم فسقط في يده ساعة ثم راجعته نفسه وجعل يعتذر إلى ابن زياد بأنه دعا مسلما إلى منزله وإنما جاءه يسأله النزول فاستحيا من رده وداخله من ذلك ذمام وأنه يذهب الآن فيخرجه، فقال ابن زياد والله لا تفارقني حتى تأتيني به فقال لا والله لا أجيئك به، أجيئك بضيفي تقتله. وخلا به مسلم بن عمرو الباهلي ليقنعه بان يأتي به فأبى، فقال ابن زياد والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك، قال إذا تكثر البارقة حول دارك، فقال والهفاه عليك أبالبارقة تخوفني؟ وهانئ يظن أن عشيرته سيمنعونه، ثم قال: أدنوه مني فاستعرض وجهه بالقضيب حتى كسر أنفه وشق حاجبه ونثر لحم جبينه وخده على لحيته وسالت الدماء على ثيابه ووجهه ولحيته وكسر القضيب، وضرب هانئ يده على قائم سيف شرطي وجاذبه الشرطي ومنعه، فقال عبيد الله: أحروري سائر اليوم، قد حل دمك، جروه فجروه فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه وجعلوا عليه حرسا، فقام إليه حسان بن خارجة فقال: أرسل غدر سائر اليوم؟! أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به فعلت به هذا، فقال عبيد الله: وأنك لهاهنا فأمر به فضرب وتعتع وأجلس ناحية، فقال محمد بن الأشعث: رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا إنما الأمير مؤدب. وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانيا قد قتل فاقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر فقال ابن زياد لشريح القاضي ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثم أعلمهم أنه حي ففعل فقالوا أما إذا لم يقتل فالحمد لله وانصرفوا.
وهكذا يتمكن الظالم من ظلمه بأمثال محمد بن الأشعث من أعوان الظلمة وأمثال شريح من قضاة السوء المظهرين للدين المصانعين الظلمة اللابسين جلود الكباش وقلوبهم قلوب الذئاب وبأمثال مذحج الذين اغتروا بكلام شريح وانصرفوا ولم يأخذوا بالحزم. ولما ضرب عبيد الله هانئا وحبسه خاف أن يثب به الناس فخرج فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه وخطب خطبة موجزة وحذر الناس وهددهم.
خروج مسلم في الكوفة
وكان مسلم أرسل إلى القصر من يأتيه بخبر هانئ فلما أخبر أنه ضرب وحبس، قال لمناديه ناد يا منصور أمت، وكان ذلك شعارهم فنادى فاجتمع إليه أربعة آلاف كانوا في الدور حوله. وقال المسعودي اجتمع إليه في وقت واحد ثمانية عشر ألف رجل فسار إلى ابن زياد فما نزل ابن زياد حتى دخلت النظارة المسجد يقولون جاء ابن عقيل فدخل عبيد الله القصر مسرعا وأغلق أبوابه وقدم مسلم مقدمته وعبا أصحابه ميمنة وميسرة ووقف هو في القلب وأقبل نحو القصر وتداعى الناس واجتمعوا حتى امتلأ المسجد والسوق وضاق بعبيد الله أمره وبعث إلى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده وليس معه إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وخاصته وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون على أصحاب مسلم وأصحاب مسلم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم ويفترون على عبيد الله وأمه وأبيه، فدعا ابن زياد كثير بن شهاب وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان وأمر جماعة من الأشراف بمثل ذلك وحبس باقي وجوه الناس عنده استيحاشا إليهم لقلة من معه وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء وأمرهم شديد، وأمر ابن زياد من عنده من الأشراف أن يشرفوا على الناس فيمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة ويخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وجعل كثير يخذل الناس ويخوفهم بأجناد الشام فأخذوا يتفرقون، وكانت المرأة تأتى ابنها وأخاها فتقول انصرف، الناس يكفونك، ويجئ الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب حتى أمسى ابن عقيل في خمسمائة فلما اختلط الظلام جعلوا يتفرقون فصلى المغرب وما معه إلا ثلاثون ‹ صفحة 592 › نفسا فتوجه نحو باب المسجد فلم يبلغه إلا ومعه عشرة أنفس فخرج من الباب فإذا ليس معه أحد. ومن هنا يعلم أن مسلما رضوان الله عليه لم يقصر في حزم ولا تدبير وأنه أصيب من جهة خذلان أهل الكوفة، فمضى على وجهه متلددا في أزقة الكوفة حتى باب امرأة اسمها طوعة ولها ولد اسمه بلال كان قد خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره فسلم عليها ابن عقيل فردت عليه السلام وطلب منها ماء فسقته وجلس ودخلت ثم خرجت فقالت يا عبد الله ألم تشرب قال بلى قالت فاذهب إلى لك فسكت ثم أعادت مثل ذلك فسكت فقالت سبحان الله يا عبد الله ثم عافاك الله إلى لك فإنه لا يصلح لك الجلوس على بأبي ولا أحله لك فقام وقال يا أمة الله ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة فهل لك في أجر ومعروف ولعلي مكافيك بعد اليوم قالت وما ذاك قال أنا مسلم بن عقيل قالت أنت مسلم قال نعم قالت ادخل فدخل إلى بيت في دارها غير الذي تكون فيه وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعش، وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه فاستراب بذلك ولم يزل بها حتى أخبرته، وجعل ابن زياد لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا كما كان يسمع فقال لأصحابه أن يشرفوا فينظروا هل يرون أحدا فلم يروا أحدا ونزعوا الخشب من سقف المسجد ودلوا شعل النار والقناديل فلم يروا أحدا فاخبروه بتفرق القوم فخرج بأصحابه إلى المسجد ونادى مناديه برئت الذمة من رجل من الشرط والعرفاء والمناكب والمقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد فامتلأ المسجد من الناس فصلى بهم وأقام الحرس خلفه ثم صعد المنبر وقال أن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره ومن جاء به فله ديته اتقوا الله عباد الله ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، يا حصين بن تميم وهو صاحب شرطته ثكلتك أمك أن ضاع باب من سكك الكوفة وخرج هذا الرجل ولم تأتني به وقد سلطتك على دور أهل الكوفة ثم دخل القصر فلما أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه وأقبل محمد بن الأشعث فقال له مرحبا بمن لا يستغش ولا يتهم واقعده إلى جنبه، وجاء ابن تلك المرأة فأخبر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بمكان مسلم من أمه، وكانت أمه أم ولد للأشعث بن قيس فاعتقها وتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا فبين بلال وأولاد الأشعث علاقة بسبب تلك المرأة، ولعل بعضهم كان أخا بلال لامه، فجاء عبد الرحمن فأخبر أباه سرا وهو عند ابن زياد فعرف ابن زياد سراره فبعث سبعين رجلا حتى أتوا الدار التي فيها مسلم فلما سمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنه قد أتى فخرج إليهم بسيفه واقتحموا عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك فأخرجهم مرارا وقتل منهم جماعة واختلف هو وبكر بن حمران ضربتين فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه وضربه في رأسه ضربة منكرة وثناه بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع إلى جوفه فأشرفوا عليه من فوق البيوت يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطنان القصب ويلقونها عليه فلما رأى ذلك قال أكل ما أرى من الأجلاب لقتل مسلم بن عقيل يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس عنه محيص فخرج عليهم مصلتا سيفا في السكة فقاتلهم فناداه ابن الأشعث لك الأمان وهو يقاتلهم ويتمثل:
أقسمت لا اقتل إلا حرا | وان رأيت الموت شيئا نكرا |
أخاف أن أكذب أو أغرا | أو أخلط البارد سخن مرا |
رد شعاع الشمس فاستقرا | كل امرئ يوما ملاق شرا |
#أضربكم ولا أخاف ضرا
فقال له ابن الأشعث: أنك لا تكذب ولا تغر وكان قد أثخن بالحجارة وعجز عن القتال فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار وأعاد عليه ابن الأشعث لك الأمان وقيل إنهم تكاثروا عليه بعد أن أثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخر إلى الأرض فأخذ أسيرا وحمل على بغلة وانتزع ابن الأشعث سيفه وسلاحه وفي ذلك يقول بعض الشعراء يهجو ابن الأشعث:
وتركت عمك أن تقاتل دونه | فشلا ولولا أنت كان منيعا |
وقتلت وافد آل بيت محمد | وسلبت أسيافا له ودروعا |
فبئس عند ذلك من نفسه ودمعت عيناه وبكى، فقيل له: أن الذي يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثلما نزل بك لم يبك، فقال: والله ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل ارثي وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكني أبكي لأهل المقبلين إلي، أبكي لحسين وآل حسين، ثم قال لابن الأشعث هل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا فإني لا أراه إلا وقد خرج اليوم أو هو خارج غدا وأهل بيته، ويقول له أن ابن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أنه يمسي حتى يقتل وهو يقول لك ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ولا يغررك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، قال ابن الأشعث والله لأفعلن وكذب وجئ به إلى باب القصر وقد اشتد به العطش وعلى الباب قلة فيها ماء بارد فقال أسقوني من هذا الماء فقال له مسلم بن عمرو البأهلي والد قتيبة أمير خرسان أتراها ما أبردها لا والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم ومنعهم أن يسقوه فقال له ابن عقيل لامك الثكل ما أجفاك وأفظك وأقسى قلبك أنت يا ابن بأهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني وأرسل عمرو بن حريث غل أماله فأتاه بقلة عليها منديل وقدح فصب فيه ماء وقال له اشرب فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما من فمه فلا يقدر أن يشرب فعل ذلك مرة أو مرتين فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح فقال الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته ثم أدخل على ابن زياد فلم يسلم عليه بالأمرة فقال له الحرسي سلم على الأمير فقال اسكت ويحك والله ما هو لي بأمير فقال ابن زياد: لا عليك سلمت أم لم تسلم فإنك مقتول قال أن قتلتني فلقد قتل من هو شر منك من هو خير مني، قال قتلني الله أن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام، فقال أما أنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن، وإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك. فقال يا عاق يا شاق شققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة، قال كذبت إنما شق عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد وأما الفتنة فإنما ألفحتها أنت وأبوك زياد بن عبيد عبد بني علاج من ثقيف، قال ايه ابن عقيل أتيت الناس وهم جميع وأمرهم ملتئم فشتت أمرهم وفرقت كلمتهم، قال كلا لست لذلك أتيت ولكنكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف وتأمرتم على الناس بغير رضا منهم وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر وندعهم إلى حكم الكتاب والسنة وكنا أهل ذلك. فاقبل ابن زياد يشتمه ويشتم عليا والحسن والحسين وعقيلا، فقال له مسلم: أنت وأبوك أحق بالشتيمة فاقض ما أنت قاض يا عدو الله، فقال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ثم اتبعوه جسده، فصعد به وهو يكبر ويستغفر الله ويسبحه ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه واتبع رأسه جثته. وقام ابن الأشعث فشفع في هاني فوعده ابن زياد ثم بدا له فأمر بهاني بعد قتل مسلم فقال أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه أخرجوه وهو مكتوف فجعل يقول وا مذحجاه ولا مذحج لي اليوم ثم جذب يده فنزعها من الكتاف ووثبوا إليه فشدوه وثاقا وضربه مولى تركي لعبيد الله بن زياد يقال له رشيد فقتله. قال المسعودي: وهو يصيح يا آل مراد وهو شيخها وزعيمها وهو يومئذ يكرب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل وإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع فلم يجد زعيمهم منهم أحدا شللا وخذلانا وقال الشاعر يرثي هانئا ومسلما ويذكر ما نالهما:
إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري | إلى هانئ في السوق وابن عقيل |
إلى بطل قد هشم السيف وجهه | وآخر يهوي في طمار قتيل |
أصابهما فرخ البغي فأصبحا | أحاديث من يسعى بكل سبيل |
تري جسدا قد غير الموت لونه | ونضح دم قد سال كل مسيل |
فتى كان أحيا من فتاة حيية | واقطع من ذي شفرتين صقيل |
أيركب أسماء الهماليج آمنا | وقد طلبته مذحج بذحول |
وكان خروج مسلم في الكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية وقتله يوم الأربعاء يوم عرفة لتسع خلون منه.
خروج الحسين إلى العراق
وأمر ابن زياد بجثة مسلم وهانئ فصلبتا بالكناسة وبعث برأسيهما إلى يزيد بن معاوية وأخبره بأمرهما فأعاد يزيد الجواب إليه يشكره على فعله وسطوته ويقول له قد بلغني أن حسينا قد سار إلى الكوفة فضع المناظر والمسالح واحبس على الظنة وخذ على التهمة واكتب إلي في كل ما يحدث وكان يزيد بن معاوية قد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص من المدينة إلى مكة في عسكر عظيم وولاه أمر الموسم وأمره على الحاج كلهم فحج بالناس وأوصاه بقبض الحسين (ع) سرا وإن لم يتمكن منه يقتله غيلة وأمره أن يناجز الحسين (ع) القتل أن هو ناجزه فلما كان يوم التروية قدم عمرو بن سعيد إلى مكة في جند كثيف فلما علم الحسين (ع) بذلك عزم على التوجه إلى العراق وكان قد أحرم بالحج وقد وصله قبل ذلك كتاب مسلم بن عقيل ببيعة أهل الكوفة له فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وقصر من شعره وأحل من إحرام الحج وجعلها عمرة مفردة لأنه لم يتمكن من إتمام الحج مخافة أن يقبض عليه فخرج من مكة يوم الثلاثاء وقيل يوم الأربعاء يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجة فكان الناس يخرجون إلى منى والحسين (ع) خارج إلى العراق ولم يكن علم بقتل مسلم بن عقيل لأن مسلما قتل في ذلك اليوم الذي خرج فيه الحسين (ع) إلى العراق. ولما عزم الحسين (ع) على الخروج من مكة إلى العراق قام خخطيبا في أصحابه فكان مما قال: الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله وصلى الله على رسوله رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين لن تشذ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه وينجز بهم وعده، من كان باذلا فينا مهجته وموطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا إني راحل مصبحا أن شاء الله تعالى وجاءه أبو بكر عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فنهاه عن الخروج إلى العراق فقال له الحسين (ع): جزاك الله خيرا يا ابن عم قد اجتهدت رأيك ومهما يقض الله يكن. وجاءه عبد الله بن عباس فنهاه عن الخروج أيضا فقال استخير الله وانظر ما يكون ثم أتاه مرة ثانية فأعاد عليه النهي وقال أن أبيت إلا الخروج فاخرج إلى اليمن فقال الحسين (ع) يا ابن عم إني والله لا أعلم أنك ناصح مشفق وقد أزمعت أجمعت المسير ثم خرج ابن عباس فمر باب الزبير وانشد:
يا لك من قبرة بمعمر | خلا لك الجو فبيضي واصفري |
ونقري ما شئت أن تنقري | هذا حسين خارج فابشري |
وجاءه عبد الله بن الزبير فأشار عليه بالعراق ثم خشي أن يتهمه فقال لو أقمت لما خالفنا عليك، فلما خرج ابن الزبير قال الحسين (ع): أن هذا ليس شيء أحب إليه من أن أخرج من الحجاز ثم جاءه عبد الله بن عمر فأشار عليه بصلح أهل الضلال وحذره من القتل والقتال فقال له يا أبا عبد الرحمن أما علمت أن من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا دي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل أما تعلم أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كان لم يصنعوا شيئا فلم يعجل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام، اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي. وكان الحسين (ع) يقول وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرام المرأة وجاءه محمد بن الحنفية في الليلة التي أراد الحسين (ع) الخروج في صبيحتها عن مكة فقال له يا أخي أن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى فان رأيت أن تقيم فإنك أعز من بالحرم وأمنعه فقال يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت فقال له ابن الحنفية. فان خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فإنك امنع الناس به ولا يقدر عليك أحد، فقال انظر فيما قلت، فلما كان السحر ارتحل الحسين (ع) فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ بزمام ناقته وقد ركبها فقال يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك قال بلى قال فما حداك على الخروج عاجلا قال أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فارقتك فقال يا حسين اخرج فان الله قد شاء أن يراك قتيلا فقال محمد بن الحنفية أنا لله وأنا إليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال فقال أن الله قد شاء أن يراهن سبايا. فسلم عليه ومضى. وسمع عبد الله بن عمر بخروجه فقدم راحلته وخرج خلفه مسرعا فأدركه في بعض المنازل فقال أين تريد يا ابن رسول الله قال العراق قال مهلا ارجع إلى حرم جدك فأبى الحسين (ع) فلما رأى ابن عمر إباءه قال يا أبا عبد الله اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله منك فكشف الحسين (ع) عن سرته فقبلها ابن عمر ثلاثا وبكى وقال استودعك الله يا أبا عبد الله فإنك مقتول في وجهك هذا ولما خرج الحسين (ع) من مكة اعترضته رسل عمرو بن سعيد بن العاص أمير الحجاز من قبل يزيد، عليهم أخوه يحيى بن سعيد ليردوه فأبى ليهم وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسياط ثم امتنع عليهم الحسين (ع) وأصحابه امتناعا شديدا ومضى الحسين (ع) على وجهه فبادروا وقالوا يا حسين ألا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفرق بين هذه الأمة فقال لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون وعن علي بن الحسين (ع) قال خرجنا مع الحسين (ع) فما نزل منزلا ولا أرتحل منه إلا ذكر يحيى بن زكريا وقتله وكتب عمرو بن سعيد وهو والي المدينة بأمر الحسين (ع) إلى يزيد فلما قرأ الكتاب تمثل بهذا البيت:
فان لا تزر أرض العدو وتأته | يزرك عدو أو يلومنك كاشح |
ثم سار (ع) حتى مر بالتنعيم فلقي هناك عيرا تحمل هدية قد بعث بها بحير بن ريسان الحميري عامل اليمن إلى يزيد بن معاوية وعليها الورس والحلل فأخذ الهدية وقال لأصحاب الجمال من أحب أن ينطلق معنا إلى العراق وفينا كراه وأحسنا معه صحبته ومن أحب أن يفارقنا أعطيناه كراه ما قطع من الطريق فمضى معه قوم وامتنع آخرون فمن فارقه أعطاه حقه ومن سار معه أعطاه كراه وكساه وإنما أخذها لأنها من مال المسلمين ومرجع أمورهم إليه لا إلى يزيد الذي ليس لا للخلافة ثم سار (ع) حتى أتى الصفاح فلقيه الفرزدق الشاعر وقال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص أنه لقيه ببستان بني عامر قال الفرزدق حججت بأمي سنة ستين فبينما أنا أسوق بعيرها حتى دخلت الحرم إذ لقيت الحسين (ع) خارجا من مكة معه أسيافه وأتراسه فقلت لمن هذا القطار فقيل للحسين بن علي فأتيته وسلمت عليه وقلت له أعطاك الله سؤالك وأملك فيما تحب بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أعجلك عن الحج فقال لو لم أعجل لأخذت ثم قال لي من أنت قلت رجل من العرب فلا والله ما فتشني عن أكثر من ذلك ثم قال لي اخبرني عن الناس خلفك فقلت الخبير سالت قلوب الناس معك وأسيافهم عليك والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء فقال صدقت لله الأمر من قبل ومن بعد وكل يوم هو في شأن أن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيته والتقوى سيرته فقلت له أجل بلغك الله ما تحب وكفاك ما تحذر وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها وحرك راحلته وقال السلام عليك وألحق عبد الله بن جعفر الحسين (ع) بابنيه عون ومحمد وكتب على أيديهما كتابا يقسم عليه فيه بالرجوع ويقول إني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض فإنك علم المهتدين وصار عبد الله إلى عمرو بن سعيد أمير المدينة فسأله أن يكتب للحسين (ع) أما أنا ويمنيه البر والصلة فكتب له وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر وجهدا به في الرجوع فقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأمرني بما أنا ماض له فقالا له فما تلك الرؤيا قال ما حدثت بها أحدا وما أنا محدث بها أحدا حتى ألقى ربي عز وجل فلما أيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عونا ومحمدا بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ورجع هو إلى مكة وسار الحسين (ع) نحو العراق مسرعا لا يلوي على شيء حتى بلغ وادي العقيق فنزل ذات عرق فلقيه رجل من بني أسد يسمى بشر بن غالب واردا من العراق فسأله عن لها فقال خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية فقال صدق أخو بني أسد أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولما بلغ الحسين (ع) إلى الحاجر من بطن الرمة كتب كتابا إلى جماعة من أهل الكوفة منهم سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وغيرهم وأرسله مع قيس بن مسهر الصيداوي وذلك قبل أن يعلم بقتل مسلم يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فان كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملأكم على نصرنا والطلب بحقنا فسالت الله أن يحسن لنا الصنيع وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه أن شاء الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وكان مسلم بن عقيل قد كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة. فاقبل قيس بكتاب الحسين (ع) وكان ابن زياد لما بلغه مسير الحسين (ع) من مكة إلى الكوفة بعث الحصين بن تميم صاحب شرطته حتى نزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع قال الناس هذا الحسين يريد العراق فلما انتهى قيس إلى القادسية اعترضه الحصين بن تميم ليفتشه فاخرج قيس الكتاب وخرقه فحمله الحصين إلى ابن زياد فلما مثل بين يديه قال له من أنت قال أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه قال فلماذا خرقت الكتاب قال لئلا تعلم ما فيه قال وممن الكتاب وإلى من قال من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم فغضب ابن زياد وقال والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر فتسب الحسين بن علي وأباه وأخاه وإلا قطعتك أربا إربا فقال قيس أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم وأما سب الحسين وأبيه وأخيه فأفعل (وكان قصده أن يبلغ رسالة الحسين (ع) إلى أهل الكوفة) فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر من الترحم على علي والحسن والحسين ولعن عبيد الله بن زياد وأباه ولعن عتاة بني أمية ثم قال أيها الناس أن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رسوله إليكم وقد خلفته بالحاجر فأجيبوه. فأمر به ابن زياد فرمي من أعلى القصر فتقطع فمات فبلغ الحسين (ع) قتله فاسترجع واستعبر بالبكاء ولم يملك دمعته ثم قرأ
{فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} ثم قال جعل الله له الجنة ثوابا اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريما واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك أنك على كل شيء قدير. ثم أقبل الحسين (ع) من الحاجر حتى انتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي وهو نازل به فلما رأى الحسين (ع) قام إليه فقال بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أقدمك واحتمله فانزله فقال له الحسين (ع): كان من موت معاوية ما قد بلغك فكتب إلي أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم فقال له عبد الله أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك أنشدك الله في حرمة قريش أنشدك الله في حرمة العرب فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحدا أبدا والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية وكان عبيد الله بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصه إلى طريق الشام إلى طريق البصرة فلا يدعون أحدا يلج ولا أحد يخرج وأقبل الحسين (ع) لا يشعر بشيء حتى لقي الأعراب فسألهم فقالوا لا والله ما ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج فسار تلقاء وجهه وكان زهير بن القين البجلي قد حج في تلك السنة وكان عثمانيا فلما رجع من الحج جمعه الطريق مع الحسين (ع) فحدث جماعة من فزارة وبجيلة قالوا كنا مع زهير بن القين حين أقبلنا من مكة فكنا نساير الحسين (ع) فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسير معه إلى مكان واحد أو ننزل معه في منزل واحد فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القين وإذا نزل الحسين تقدم زهير فنزلنا يوما في منزل لم نجد بدا من أن ننزل معه فيه فنزل هو في جانب ونزلنا في جانب آخر فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (ع) حتى سلم ثم دخل فقال يا زهير أن أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه فطرح كل إنسان منا ما في يده كان على رؤوسنا الطير كراهة أن يذهب زهير إلى الحسين (ع) قال أبو مخنف فحدثتني دلهم بنت عمرو وهي امرأة زهير قالت: فقلت له الله أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت، فأتاه زهير على كره فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه فأمر بفسطاطه وثقله ورحله فحول إلى الحسين (ع) ثم قال لامرأته أنت طالق الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير وقد عزمت على صحبة الحسين (ع) لأفديه بروحي واقيه بنفسي، ثم أعطاها مالها وسلمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى لها، فقامت إليه وبكت وودعته وقالت خار الله لك أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين (ع) وقال لأصحابه من أحب منكم أن يتبعني وإلا فهو آخر العهد مني، إني سأحدثكم حديثا: أنا غزونا بلنجر وهي بلدة ببلاد الخزر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ففرحنا فقال لنا سلمان الفارسي: إذا أدركتم قتال شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما أصبتم من الغنائم، فأما أنا فاستودعكم الله، ولزم الحسين (ع) حتى قتل معه.
(ولما) نزل الحسين (ع) الخزيمية أقام بها يوما وليلة ثم سار حتى نزل الثعلبية فبات بها فلما أصبح إذا برجل من أهل الكوفة يكنى أبا هرة الأزدي قد أتاه فسلم عليه ثم قال يا ابن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد صلى الله عليه وسلم فقال الحسين (ع) ويحك يا أبا هرة أن بني أمية أخذوا مالي فصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسهم الله ذلا شاملا وسيفا قاطعا وليسلطن الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبا إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم وروى عبد الله بن سليم والمذري بن المشعل الأسديان قالا لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين (ع) لننظر ما يكون من أمره فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين (ع) فوقف الحسين كأنه يريده ثم تركه ومضى فقال أحدنا لصاحبه اذهب بنا إلى هذا لنسأله فان عنده خبر الكوفة فمضينا إليه فقلنا ممن الرجل قال أسدي قلنا له ونحن أسديان، ثم قلنا له أخبرنا عن الناس من ورائك قال لم اخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق فأقبلنا حتى لحقنا الحسين (ع) فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا فجئنا فقلنا له رحمك الله أن عندنا خبرا أن شئت حدثناك علانية وإن شئت سرا فنظر إلينا وإلى أصحابه ثم قال ما دون هؤلاء سر فقلنا قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهانئ ورآهما يجران في السوق بأرجلهما، فقال أنا لله وأنا إليه راجعون رحمة الله عليهما يردد ذلك مرارا فقلنا له ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف بأن يكونوا عليك، فنظر إلى بني عقيل فقال ما ترون فقد قتل مسلم؟ فقالوا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق، فاقبل علينا الحسين (ع) وقال لا خير في العيش بعد هؤلاء فعلمنا انه قد عزم رأيه على المسير فقلنا له خار الله لك، فقال رحمكما الله وارتج الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل وسالت الدموع عليه كل مسيل، فلما كان السحر قال لفتيانه وغلمانه أكثروا من الماء فاستقوا وأكثروا وكان لا يمر بماء إلا أتبعه من عليه، ثم ارتحلوا فسار حتى انتهى إلي زبالة فأتاه بها خبر عبد الله بن بقطر وهو أخو الحسين (ع) من الرضاعة قال الطبري: وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله فأخذته خيل الحصين فسيره من القادسية إلى ابن زياد وقيل بل أرسله الحسين (ع) مع مسلم فلما رأى مسلم الخذلان بعثه إلى الحسين يخبره بما انتهى إليه الأمر فقبض عليه الحصين وأرسله إلى ابن زياد فقال له ابن زياد اصعد فوق القصر والعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك فصعد فاعلم الناس بقدوم الحسين (ع) ولعن ابن زياد وأباه فألقاه من القصر فتكسرت عظامه وبقي به رمق فأتاه عبد الملك بن عمير اللحمي قاضي الكوفة فذبحه بمديته فعيب عليه فقال أردت أن أريحه. فلما أبلغ الحسين (ع) خبره أخرج إلى الناس كتابا فقرأه عليهم وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإنه قد أتاني خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس عليه ذمام. فتفرق الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه، وكان اجتمع إليه مدة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة وإنما فعل ذلك لعلمه بان أكثر من اتبعوه إنما اتبعوه ظنا أنه يقدم بلدا قد استقامت له طاعة له فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون ما يقدمون عليه وقد علم أنه إذا بين لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه وقيل أن خبر مسلم وهانئ أتاه في زبالة أيضا. ولقيه الفرزدق بعد ما رجع من الحج فسلم عليه وقال يا ابن رسول الله كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته فاستعبر الحسين (ع) باكيا ثم قال رحم الله مسلما فلقد صار إلى روح الله وريحانه وتحياته ورضوانه أما أنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا وأنشأ يقول:
لئن تكن الدنيا تعد نفيسة | فان ثواب الله أعلى وأنبل |
وان تكن الأبدان للموت أنشئت | فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل |
وان تكن الأرزاق قسما مقدرا | فقلة حرص المرء في السعي أجمل |
وان تكن الأموال للترك جمعها | فما بال متروك به المرء يبخل |
فلما كان وقت السحر أمر الحسين (ع) أصحابه فاستقوا ماء
وأكثروا ثم ثار من زبالة حتى مر ببطن العقبة فنزل عليها فلقيه شيخ من بني عكرمة وهو لوذان فسأله: أين تريد فقال له الحسين (ع) الكوفة فقال الشيخ أنشدك الله لما انصرفت فو الله ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مئونة القتال ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ف أما على هذا الحال التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل فقال له الحسين (ع) يا عبد الله: ليس يخفى علي الرأي ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره، ثم قال (ع) والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرق الأمة ثم سار حتى نزلوا شراف، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا.
التقاؤه بالحر
ثم سار منها حتى انتصف النهار، فبينا هو يسير إذ كبر رجل من أصحابه، فقال الحسين (ع): الله أكبر، لم كبرت؟ قال: رأيت النخل فقال له جماعة من أصحابه: والله أن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، فقال لهم الحسين (ع) فما ترونه؟ قالوا نراه والله أسنة الرماح وآذان الخيل، قال وأنا والله أرى ذلك، ثم قال (ع) ما لنا ملجأ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد؟ فقالوا له بلى هذا ذو حسم وهو جبل إلى جنبك فمل إليه عن يسارك فان سبقت إليه فهو كما تريد فأخذ إليه ذات اليسار وملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيناها وعدلنا عن الطريق فلما رأونا عدلنا عدلوا إلينا كان أسنتهم اليعاسيب وكان راياتهم أجنحة الطير فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه وذلك على مرحلتين من الكوفة وأمر الحسين (ع) بأبنيته فضربت وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حر الظهيرة والحسين وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم فقال الحسين (ع) لفتيانه اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفا أي اسقوها قليلا فاقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس فإذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه وسقوا آخر حتى سقوها عن آخرها قال علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين (ع) ما بي وبفرسي من العطش قال أنخ الراوية، والراوية عندي السقاء ثم قال يا ابن الأخ أنخ الجمل فأنخته فقال اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسين (ع) أخنث السقاء أي أعطفه فلم أدر كيف أفعل فقام فخنثه بيده فشربت وسقيت فرسي، وقال الحسين (ع) للحر ألنا أم علينا؟ فقال بل عليك يا أبا عبد الله فقال الحسين ع: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكان مجيء الحر من القادسية وكان عبد الله بن زياد بعث الحصين بن تميم وأمره أن ينزل القادسية ويقدم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين فلم يزل الحر موافقا للحسين حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين (ع) الحجاج بن مسروق أن يؤذن فلما حضرت الإقامة خرج الحسين (ع) في إزار ورداء ونعلين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم أن أقدم علينا فإنه ليس لنا أما م لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق فان كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم وإن لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم فسكتوا فقال للمؤذن أقم فأقام الصلاة فقال للحر أتريد أن تصلي بأصحابك قال لا بلى تصلي أنت ونصلي بصلاتك فصلى بهم الحسين (ع) ثم دخل فاجتمع إليه أصحابه وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه فدخل خيمة قد ضربت له واجتمع إليه جماعة من أصحابه وعاد الباقون إلى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها فلما كان وقت العصر أمر الحسين (ع) أن يتهيئوا للرحيل ففعلوا ثم أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام فاستقدم الحسين (ع) وقام فصلى ثم سلم وانصرف إليهم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فإنكم أن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ونحن أهل بيت محمد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان وإن أبيتم إلا الكراهية لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به علي رسلكم انصرفت عنكم. فقال له الحر أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر فقال الحسين (ع) لبعض أصحابه يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي فاخرج خرجين مملوءين صحفا فنثرت بين يديه، فقال له الحر: أنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله، فقال له الحسين ع: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم قال لأصحابه قوموا فاركبوا فركبوا وانتظر هو حتى ركبت نساؤه، فقال لأصحابه انصرفوا، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين (ع) للحر: ثكلتك أمك ما تريد؟ فقال له الحر: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنا من كان ولكن ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما أقدر عليه، فقال له الحسين (ع) فما تريد؟ قال أريد أن انطلق بك إلى الأمير عبيد الله بن زياد، فقال إذا والله لا أتبعك، فقال إذا والله لا أدعك، فترادا القول ثلاث مرات فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر: إني لم أؤمر بقتالك إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة فإذا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة بيني وبينك نصفا حتى أكتب إلى الأمير عبيد الله بن زياد فلعل الله أن يرزقني العافية من أن ابتلي بشيء من أمرك فخذ هاهنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية فتياسر الحسين وسار والحر يسايره فقال الحسين (ع) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير بقول ولا فعل كان حقا على الله أن يدخله مدخله، إلا وأن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وإني بهذا الأمر وقد أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني فان وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم وأنا الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفسي مع أنفسكم وأهلي وولدي مع إليكم وأولادكم ولكم بي أسوة وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي فلعمري ما هي منكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم بن عقيل والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام فقال له الحر أذكرك الله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن فقال له الحسين ع: أفبالموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخوفه ابن عمه وقال أين تذهب أنك مقتول فقال:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى | إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما |
وواسى الرجال الصالحين بنفسه | وفارق مثبورا وودع مجرما |
أقدم نفسي لا أريد بقاءها | لتلقى خميسا في الوغى وعرمرما |
فان عشت لم أندم وإن مت لم ألم | كفى بك ذلا أن تعيش وترغما |
(فلما) سمع الحر ذلك تنحى عنه وجعل يسير ناحية عن الحسين (ع) ولم يزل الحسين سائرا حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات فإذا هم بأربعة نفر قد ابلوا من الكوفة لنصرة الحسين على رواحلهم وهم عمرو بن خالد الصيداوي ومجمع العائذي وابنه وجنادة بن الحارث السلماني ومعهم غلام لنافع بن هلال الجملي، وهو يجنب فرسا لنافع يقال له الكامل وكان نافع خرج إلى الحسين (ع) قبلهم فلقيه في الطريق وأوصى أن يتبع بفرسه المسمى بالكامل ومعهم دليل يقال له الطرماح بن عدي الطائي على فرسه وكان قد أمتار لأهله من الكوفة ميرة فخرج بهم على غير الطريق حتى إذا قاربوا الحسين (ع) حدا بهم الطرماح فقال:
يا ناقتي لا تذعري من زجري | وشمري قبل طلوع الفجر |
بخير ركبان وحير سفر | حتى تحلي بكريم النجر |
الماجد الحر الرحيب الصدر | أتى به الله لخير أمر |
#ثمة أبقاه بقاء الدهر
فلما وصلوا إلى الحسين (ع) أراد الحر حبسهم أو ردهم إلى الكوفة فمنعه الحسين (ع) من ذلك وقال: لأمنعنهم مما امنع منه نفسي إنما هؤلاء أنصاري وهم بمنزلة من جاء معي فان بقيت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك فكف الحر عنهم، ثم سألهم الحسين (ع) عن خبر الناس فقالوا أما الأشراف فقد استمالهم ابن زياد بالأموال فهم ألب واحد عليك وأما سائر الناس فأفئدتهم لك وسيوفهم مشهورة عليك قال فهل لكم علم برسولي قيس بن مسهر؟ قالوا نعم قتله ابن زياد، فترقرقت عينا الحسين (ع) ولم يملك دمعته ثم قال منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك وقال له الطرماح بن عدي أذكرك الله في نفسك لا يغرنك أهل الكوفة فو الله أن دخلتها لتقتلن وإني لأخاف أن لا تصل إليها وما أرى معك كثير أحد ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء لكفى ولقد رأيت قبل خروجي من الكوفة جمعا عظيما يريدون المسير إليك فأنشدك الله أن قدرت أن لا تقدم إليهم شبرا فافعل وطلب منه أن يذهب معه إلى بلاد قومه حتى يرى رأيه وان ينزل جبلهم أجا ويبعث إلى من باجا وسلمى وهما جبلان لطيء فجزاه الحسين (ع) وقومه خيرا وقال له أن بيننا وبين القوم قولا لا نقدر معه على الانصراف، فان يدفع الله عنا فقديما ما أنعم علينا وكفى وان يكن ما لا بد منه ففوز وشهادة أن الله، وسار الطرماح مع الحسين (ع) ثم ودعه ووعده أن يوصل الميرة لأهله ويعود لنصره فلما عاد بلغه خبر قتله في عذيب الهجانات فرجع وفي رواية أن الحسين (ع) قال لأصحابه هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة فقال الطرماح بن عدي نعم يا ابن رسول الله أنا أخبر الطريق قال سر بين أيدينا فسار الطرماح أما مهم وجعل يرتجز:
يا ناقتي لا تذعري من زجر | وامضي بنا قبل طلوع الفجر |
بخير فتيان وخير سفر | آل رسول الله آل الفخر |
السادة البيض الوجوه الزهر | الطاعنين بالرماح السمر |
الضاربين بالسيوف البتر | حتى تحلي بكريم النجر |
الماجد الجد الرحيب الصدر | أصابه الله بخير أمر |
عمره الله بقاء الدهر | يا مالك النفع معا والضر |
أيد حسينا سيدي بالنصر | على الطغاة من بقايا الكفر |
على اللعينين سليلي صخر | يزيد لا زال حليف الخمر |
#وابن زياد العهر بن العهر
روائع البطولة
(ولم) يزل الحسين (ع) سائرا حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به فلما كان آخر الليل أمر فتيان فاستقوا من الماء ثم أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل ليلا. قال عقبة بن سمعان فسرنا معه ساعة فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه وهو يقول أنا لله وأنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا فاقبل إليه ابنه علي الأكبر فقال يا أبه جعلت فداك مم حمدت واسترجعت قال يا بني إني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرس وهو يقول القوم يسيرون والمنايا إليهم فعلمت إنها أنفسنا نعيت إلينا فقال له يا أبه لا أراك الله سوءا ألسنا على الحق؟ قال بلى والذي إليه مرجع العباد، قال إذا لا نبالي أن نموت محقين. فقال له الحسين (ع): جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده.
فلما أصبح نزل فصلى الغداة ثم عجل الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفر بهم فيأتيه الحر فيرده وأصحابه فجعل إذا ردهم نحو الكوفة ردا شديدا امتنعوا عليه وارتفعوا فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتى انتهوا إلى نينوى فإذا راكب على نجيب له عليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة وهو مالك بن النسر الكندي فوقفوا جميعا ينتظرونه فلما انتهى إليهم سلم على الحر وأصحابه ولم يسلم على الحسين (ع) وأصحابه ودفع إلى الحر كتابا من ابن زياد فإذا فيه: أما بعد فجعجع بالحسين أي ضيق عليه حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام. فعرض لهم الحر أصحابه ومنعوهم من السير وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية فقال له الحسين (ع) ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق قال بلى ولكن كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك وقد جعل علي عينا يطالبني بذلك فنظر يزيد بن زياد بن مهاصر الكندي وكان خرج إلى الحسين (ع) من الكوفة قبل أن يلاقيه الحر إلى رسول ابن زياد فعرفه فقال له ثكلتك أمك ماذا جئت به قال أطعت إمامي ووفيت ببيعتي فقال له ابن مهاصر بل عصيت ربك وأطعت إمامك في هلاك نفسك وكسبت العار والنار وبئس الإمام إمامك قال الله تعالى
{وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} فإمامك منهم، فقال الحسين (ع) للحر دعنا ويحك ننزل هذه القرية أو هذه يعني نينوى والغاضرية أو هذه يعني شفية فقال لا أستطيع هذا رجل قد بعث علي عينا.
فقال زهير بن القين للحسين (ع) إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلا أشد مما ترون يا ابن رسول الله أن قتال هؤلاء الساعة وأن علينا من قتال من يأتينا بعدهم فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به فقال الحسين (ع) ما كنت لأبدأهم بالقتال فقال له سر بنا إلى هذه القرية حتى ننزلها فإنها حصينة وهي على شاطئ الفرات فان منعونا قاتلناهم فقتالهم وأن علينا من قتال من يجئ بعدهم فقال الحسين (ع) ما هي؟ قال العقر، قال اللهم إني أعوذ بك من العقر، قال له فسر بنا يا ابن رسول الله حتى ننزل كربلاء فإنها على شاطئ الفرات فنكون هناك فان قاتلونا قاتلناهم واستعنا الله عليهم، قال فدمعت عينا الحسين (ع) ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء. ثم خطب أصحابه وقيل إنه خطب هذه الخطبة بذي حسم وقيل في كربلاء فحمد الله وأثنى عليه وقال: انه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون وان الدنيا تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما.
فقام زهير بن القين فقال: قد سمعنا هداك الله يا ابن رسول الله مقاتلك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها ووثب نافع بن هلال الجملي فقال والله ما كرهنا لقاء ربنا وأنا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك وقام برير بن خضير فقال والله يا ابن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك وتقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.
وصوله كربلاء
ثم أن الحسين (ع) قام وركب وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء يوم الخميس الثاني من المحرم سنة إحدى وستين فلما وصلها قال ما اسم هذه الأرض؟ فقيل كربلاء فقال اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء. ثم أقبل على أصحابه فقال: الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون، ثم قال: أهذه كربلاء قالوا نعم يا ابن رسول الله فقال هذا موضع كرب وبلاء، أنزلوا، هاهنا مناخ ركابنا ومحط رحالنا ومقتل رجالنا ومسفك دمائنا، فنزلوا جميعا ونزل الحر وأصحابه ناحية. ثم أن الحسين (ع) جمع ولده وإخوته وأهل بيته ثم نظر إليهم فدمعت عيناه ثم قال: اللهم أنا عترة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وقد أزعجنا وطردنا وأخرجنا عن حرم جدنا وتعدت بنو أمية علينا اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين وكتب الحر إلى عبيد الله بن زياد يعلمه بنزول الحسين بكربلاء، فكتب ابن زياد إلى الحسين أما بعد فقد بلغني يا حسين نزولك بكربلاء وقد كتب إلي أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسد الوثير ولا أشبع من الخمير أو ألحقك باللطيف الخبير أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد والسلام فلما قرأ الحسين الكتاب ألقاه من يده وقال لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فقال له الرسول الجواب يا أبا عبد الله فقال له ما عندي جواب فرجع الرسول إلى ابن زياد فأخبره فاشتد غضبه وجهز إليه العساكر وجمع الناس في مسجد الكوفة وخطبهم ومدح يزيد وأباه وذكر حسن سيرتهما ووعد بتوفير العطاء وزادهم في عطائهم مائة مائة وأمر بالخروج إلى حرب الحسين (ع).
مجيء ابن سعد لقتاله
فلما كان من الغد وهو اليوم الثالث من المحرم قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف وكان ابن زياد قد ولاه الري وأرسل معه أربعة آلاف لقتال الديلم فلما جاء الحسين (ع) قال له سر إليه فإذا فرغت فسر إلى عملك فاستعفاه فقال نعم إلى أن ترد إلينا عهدنا فاستمهله واستشار نصحاءه فنهوه عن ذلك فبات ليلته مفكرا فسمعوه وهو يقول:
دعاني عبيد الله من دون قومه | إلى خطة فيها خرجت لحيني |
فو الله لا أدري واني لواقف | أفكر في أمري على خطرين |
أأترك ملك الري والري رغبة | أم أرجع مذموما بقتل حسين |
وفي قتله النار التي ليس دونها | حجاب وملك الري قرة عين |
وجاءه حمزة بن المغيرة بن شعبة وهو ابن أخته فقال له أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم عند ربك وتقطع رحمك فو الله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كان لك خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين فقال له ابن سعد إني أفعل أن شاء الله وجاء ابن سعد إلى ابن زياد فقال أنك وليتني هذا العمل يعني الري وتسامع به الناس فان رأيت أن تنفذ لي ذلك وتبعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من لست خيرا منه وسمى له أناسا فقال له ابن زياد لست أستشيرك في من أبعث أن سرت بجندنا وإلا فابعث إلينا بعهدنا قال فإني سائر وقبل أن يحارب الحسين ع. وسار ابن سعد إلى قتال الحسين (ع) بالأربعة الآلاف التي كانت معه وانضم إليه الحر وأصحابه فصار في خمسة آلاف ثم جاءه شمر في أربعة آلاف ثم اتبعه ابن زياد بيزيد بن ركاب الكلبي في ألفين والحصين بن تميم السكوني في أربعة آلاف وفلان المازني في ثلاثة آلاف ونصر ابن فلان في ألفين، فذلك عشرون ألف فارس تكملت عنده إلى ست ليال خلون من المحرم، وبعث كعب بن طلحة في ثلاثة آلاف وشبث بن ربعي الرياحي في ألف وحجار بن أبجر في ألف فذلك خمسة وعشرون ألفا وما زال يرسل إليه بالعساكر حتى تكامل عنده ثلاثون ألفا ما بين فارس وراجل. هكذا ذكره المفيد في الإرشاد وهو المروي عن الصادق (ع) وقال الطبري في التاريخ أقبل ابن سعد في أربعة آلاف من أهل الكوفة حتى نزل بالحسين وقال سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص كان ابن زياد قد جهز عمر بن سعد لقتال الحسين في أربعة آلاف وجهز خمسمائة فارس فنزلوا على الشرائع وقال المسعودي كان جميع من حضر مقتل الحسين من أهل الكوفة خاصة. ثم قال الطبري: أن أصحاب ابن سعد كانوا ستة آلاف مقاتل. "أقول" كلام سبط بن الجوزي ليس في دلالة على أن جميع أصحاب ابن سعد كانوا أربعة آلاف لأن الذين جاءوا معه كانوا أربعة آلاف في جميع الروايات ثم اتبعه ابن زياد ببقية العسكر كما قال المفيد وانضم إليه الحر بمن معه والقول بأنهم كانوا ستة آلاف مردود بما مر عن المفيد والمثبت مقدم على النافي ثم كتب إليه إني لم أجعل لك علة في كثرة الخيل والرجال فانظر لا أصبح ولا أمسي إلا وخبرك عندي غدوة وعشية وكان يستحثه لستة أيام مضين من المحرم وأراد ابن سعد أن يبعث إلى الحسين رسولا يسأله ما الذي جاء به فعرض ذلك على جماعة من الرؤساء فكلهم أبى استحياء من الحسين (ع) لأنهم كاتبوه فقام إليه كثير بن عبد الله
الشعبي وكان فارسا شجاعا لا يرد وجهه شيء فقال أنا أذهب إليه والله أن شئت لأفتكن به فقال عمر ما أريد أن تفتك به ولكن اذهب فسله ما الذي جاء به فاقبل فلما رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين (ع) أصلحك الله يا أبا عبد الله قد جاءك شر أهل الأرض وأجرأه على دم وأفتكه وقام إليه فقال له ضع سيفك قال لا والله ولا كرامة إنما أنا رسول فإن سمعتم مني وإلا انصرفت قال فأخذ بقائم سيفك ثم تكلم قال لا والله لا تمسه قال اخبرني بما جئت به وأنا ابلغه عنك ولا أدعك تدنو منه فإنك فاجر فاستبا وانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره فأرسل قرة بن قيس الحنظلي، فلما رآه الحسين (ع) مقبلا قال أتعرفون هذا؟ قال حبيب بن مظاهر نعم هذا رجل من حنظلة تميم وهو ابن أختنا وقد كنت اعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد فجاء حتى سلم على الحسين (ع) وبلغه رسالة عمر بن سعد فقال له الحسين (ع) كتب إلي أهل مصركم هذا أن أقدم ف أما إذا كرهتموني فإني انصرف عنكم فقال له حبيب بن مظاهر ويحك يا قرة أين ترجع إلى القوم الظالمين أنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة فقال له ارجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي فانصرف إلى ابن سعد فأخبره فقال أرجو أن يعافيني الله من أمره وكتب إلى ابن زياد بذلك فلما قرأ الكتاب قال:
الآن إذ علقت مخالبنا به | يرجو النجاة ولات حين مناص |
ثم كتب إلى ابن سعد أن اعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه فإذا هو فعل ذلك رأينا رأينا فقال ابن سعد قد خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية. منعه من الماء
وورد كتاب ابن زياد في الأثر إلى ابن سعد أن حل بين الحسين وأصحابه وبين الماء فلا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان فبعث عمر في الوقت عمرو بن الحجاج في خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين (ع) وأصحابه وبين الماء ومنعوهم أن يستقوا منه قطرة وذلك قبل قتل الحسين (ع) بثلاثة أيام. فلما اشتد العطش على الحسين (ع) وأصحابه أمر أخاه العباس بن علي (ع) فسار في عشرين رجلا يحملون القرب وثلاثين فارسا فجاءوا حتى دنوا من الماء ليلا وأما مهم نافع بن هلال الجملي يحمل اللواء، فقال عمرو بن الحجاج من الرجل؟ قال نافع، قال ما جاء بك؟ قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه، قال فاشرب هنيئا، قال لا والله لا أشرب منه قطرة والحسين عطشان هو وأصحابه، فقالوا لا سبيل إلى سقي هؤلاء إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء فقال نافع لرجاله املئوا قربكم فملئوها، وثار إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه فحمل عليهم العباس ونافع بن هلال فكشفوهم وأقبلوا بالماء، ثم عاد عمرو بن الحجاج وأصحابه وأرادوا أن يقطعوا عليهم الطريق فقاتلهم العباس وأصحابه حتى ردوهم وجاءوا بالماء إلى الحسين ع، وقال سبط بن الجوزي إنهم اقتتلوا على الماء ولم يمكنوهم من الوصول إليه وضيق القوم على الحسين (ع) حتى نال منه العطش ومن أصحابه، فقال له برير بن خضير الهمداني يا ابن رسول الله أتأذن لي أن اخرج إلى القوم فإذن له فخرج إليهم فقال: يا معشر الناس أن الله عز وجل بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه وقد حيل بينه وبين ابنه، فقالوا: يا برير قد أكثرت الكلام فاكفف والله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله، فقال الحسين (ع) اقعد يا برير ثم وثب الحسين (ع) متوكئا على قائم سيفه ونادى أعلى صوته فقال أنشدكم الله هل تعرفونني قالوا نعم أنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبطه قال أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب (ع) قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة اسل أما قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله هل تعلمون أن سيد الشهداء حمزة عم أبي قالوا اللهم نعم قال فأنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا متقلده قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا لابسها قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله هل تعلمون أن عليا كان أول القوم إسلاما وأعلمهم علما وأعظمهم حلما وانه ولي كل مؤمن ومؤمنة قالوا اللهم نعم قال فيم تستحلون دمي وأبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالا كما يذاد البعير الصاد عن الماء ولواء الحمد في يد أبي يوم القيامة قالوا قد علمنا ذلك كله ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشا فلما خطب هذه الخطبة وسمع بناته وأخواته كلامه بكين وارتفعت أصواتهن فوجه إليهن أخاه العباس وعليا ابنه وقال لهما اسكتاهن فلعمري ليكثرن بكاؤهن.
المراسلة بينه وبين ابن سعد
وأرسل الحسين (ع) إلى عمر بن سعد مع عمرو بن قرظة الأنصاري إني أريد أن أكلمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك فخرج إليه ابن سعد في عشرين وخرج الحسين (ع) في مثلها فأمر الحسين (ع) أصحابه فتنحوا وبقي معه أخوه العباس وابنه علي الأكبر وأمر ابن سعد أصحابه فتنحوا وبقي معه ابنه حفص وغلام له فقال له الحسين (ع) ويلك يا ابن سعد أما تتقي الله الذي إليه معادك أتقاتلني وأنا ابن من علمت ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنه أقرب لك إلى الله فقال ابن سعد أخاف أن تهدم داري فقال الحسين أنا ابنيها لك فقال أخاف أن تؤخذ ضيعتي فقال الحسين أنا اخلف عليك خيرا منها من مالي بالحجاز فقال لي عيال وأخاف عليهم ثم سكت ولم يجبه إلى شيء فانصرف عنه الحسين وهو يقول ما لك ذبحك الله على فراشك عاجلا ولا غفر لك يوم حشرك فو الله إني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا يسيرا فقال: في الشعير كفاية عن البر مستهزئا بذلك القول وأرسل إليه مرة أخرى إني أريد أن ألقاك فاجتمعا ليلا بين العسكرين وتناجيا طويلا والتقى الحسين وعمر بن سعد مرارا ثلاثا أو أربعا ثم كتب عمر إلى ابن زياد أما بعد فان الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة هذا الحسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه وفي هذا لك رضا وللأمة صلاح وعن عقبة بن سمعان أنه قال والله ما أعطاهم الحسين (ع) أن يضع يده في يد يزيد ولا أن يسير إلى ثغر من الثغور ولكنه قال دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه أو أذهب في هذه الأرض العريضة قال فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال هذا كتاب ناصح لأميره مشفق على قومه فقام إليه شمر بن ذي الجوشن وقال أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولي بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه فان عاقبت فأنت أولى بالعقوبة وأن عفوت كان ذلك لك فقال له ابن زياد نعم ما رأيت الرأي رأيك اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي فإذا فعلوا فليبعث بهم إلي سلما وان أبوا فليقاتلهم فان فعل فاسمع له وأطع وان أبى فأنت أمير الجيش فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه وكتب إلى ابن سعد إني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتعتذر عنه ولا لتكون له عندي شافعا انظر فان نزل حسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم لي سلما وان أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون فان قتلت حسينا فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق شاق قاطع ظلوم ولست أرى أن هذا يضر بعد الموت شيئا ولكن على قول قد قتله لو قد قتلته لفعلت هذا به فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فأنا قد أمرناه بأمرنا والسلام فلما قرأ ابن سعد الكتاب قال له ما لك ويلك لا قرب الله دارك وقبح الله ما قدمت به علي والله إني لأظنك أنت نهيته أن يقبل ما كتبت به إليه وأفسدت علينا أمرا كنا قد رجونا أن يصلح لا يستسلم والله حسين أن نفس أبيه لبين جنبيه فقال له شمر بن ذي الجوشن أخبرني بما أنت صانع أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوه وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر قال لا ولا كرامة لك ولكن أنا أتولى ذلك فدونك فكن أنت على الرجالة ونهض عمر بن سعد إلى الحسين (ع) عشية يوم الخميس لتسع مضين من المحرم وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين (ع) فقال أين بنو أختنا يعني العباس وجعفر وعبد الله وعثمان أبناء علي (ع) فقال الحسين (ع) أجيبوه وإن كان فاسقا فإنه بعض أخوالكم، وذلك أن أمهم أم البنين كانت من بني كلاب وشمر من بني كلاب، فقالوا له ما تريد؟ فقال لهم: أنتم يا بني أختي آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة يزيد، فقالوا له لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له، وناداه العباس ابن أمير المؤمنين (ع) تبت يداك ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدو الله أتأمرنا أن نترك أخانا وسيدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء، فرجع الشمر إلى عسكره مغضبا وكان ابن خالهم عبد الله بن أبي المحل بن حرام وقيل جرير بن عبد الله بن مخلد الكلابي قد أخذ لهم أمانا من ابن زياد وأرسله إليهم مع مولى له وذلك أن أمهم أم البنين بنت حرام زوجة علي (ع) هي عمة عبد الله هذا فلما رأوا الكتاب قالوا لا حاجة لنا في أمانكم أما ن الله خير من أما ن ابن سمية ثم نادى عمر بن سعد يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري فركب الناس ثم زحف نحوهم بعد العصر والحسين (ع) جالس أمام بيته محتب بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه فسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت يا أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت فرفع الحسين (ع) رأسه فقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة في المنام فقال أنك تروح إلينا فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل فقال لها الحسين (ع) ليس لك الويل يا أخية اسكتي رحمك الله وفي رواية انه (ع) جلس فرقد ثم استيقظ وقال يا أختاه رأيت الساعة جدي محمدا وأبي عليا وأمي فاطمة وأخي الحسن وهم يقولون يا حسين أنك رائح إلينا عن قريب وقال له العباس يا أخي أتاك القوم فنهض ثم قال يا عباس اركب أنت حتى تلقاهم وتقول لهم ما بالكم وما بدا لكم وتسألهم عما جاء بهم فأتاهم في نحو عشرين فارسا فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فسألهم فقالوا قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم قال فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبد الله فاعرض عليه ما ذكرتم فوقفوا ورجع العباس إليه بالخبر ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفونهم عن قتال الحسين (ع) فلما اخبره العباس بقولهم قال له ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم إني كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار وأراد الحسين (ع) أيضا أن يوصي له فسألهم العباس ذلك فتوقف ابن سعد فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي سبحان الله والله لو إنهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم فكيف وهم آل محمد وقال له قيس بن الأشعث بن قيس أجبهم لعمري ليصبحنك بالقتال.
الأبطال
فأجابوهم إلى ذلك فجمع الحسين (ع) أصحابه عند قرب المساء قال زين العابدين (ع) فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض فسمعت أبي يقول لأصحابه: اثني على الله أحسن الثناء واحمده على السراء والضراء اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين وجعل لنا إسماعا وإبصارا وأفئدة فاجعلنا لك من الشاكرين أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا إلا واني لأظن يوما لنا من هؤلاء إلا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم فإنهم لا يريدون غيري قال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر ولم نفعل ذلك لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا، بدأهم بهذا القول أخوه العباس بن أمير المؤمنين واتبعه الجماعة عليه فتكلموا بمثله ونحوه ثم نظر إلى بني عقيل فقال حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم اذهبوا قد أذنت لكم قالوا سبحان الله فما يقول الناس لنا وما نقول لهم أنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا لا والله ما نفعل ذلك ولكننا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال أنحن نخلي عنك وقد أحاط بك هذا العدو وبم نعتذر إلى الله في أداء حقك ولا والله لا يراني الله أبدا وأنا أفعل ذلك حتى اكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك أو أموت معك وقام سعيد بن عبد الله الحنفي فقال لا الله يا ابن رسول الله لا نخليك أبدا حتى يعلم الله أنا قد حفظنا فيك وصية رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والله لو علمت إني اقتل فيك ثم أحيا ثم أحرق ثم أذرى يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا وقام زهير بن القين وقال والله يا ابن رسول لوددت إني قتلت ثم نشرت ألف مرة وان الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن نفس هؤلاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا وقالوا أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهنا فإذا نحن قتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربنا وقضينا ما علينا ووصل الخبر إلى محمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال بان ابنه قد أسر بثغر الري فقال عند الله احتسبه ونفسي ما كنت أحب أن يؤسر وأبقى بعده فسمع الحسين (ع) قوله فقال رحمك الله أنت في حل من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك فقال أكلتني السباع حيا أن فارقتك قال فاعط ابنك هذا هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه فأعطاه خمسة أثواب برود قيمتها ألف دينار فحملها مع ولده. وأمر الحسين (ع) أصحابه أن يقربوا بين بيوتهم ويدخلوا الإطناب بعضها في بعض ويكونوا بين يدي البيوت فيستقبلون القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفت بهم إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم وروى أبو مخنف عن علي بن الحسين زين العابدين (ع) قال إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعمتي زينب عندي تمرضني إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يا دهر أف لك من خليل | كم لك بالإشراق والأصيل |
من صاحب وطالب قتيل | والدهر لا يقنع بالبديل |
وكل حي سالك السبيل | ما أقرب الوعد من الرحيل |
#وإنما الأمر إلى الجليل
فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعرفت ما أراد فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت أن البلاء قد نزل وأما عمتي فإنها لما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع لم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها حتى انتهت إليه ونادت واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن يا خليفة الماضي وثمال الباقي فنظر إليها الحسين (ع) فقال لها يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان فقالت بأبي وأمي تستقل نفسي فداك فرد غصته وترقرقت عيناه بالدموع ثم قال لو ترك القطا ليلا لنام فقالت يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصابا فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي ولطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقته وخرت مغشيا عليها فقام إليها الحسين (ع) فصب على وجهها الماء حتى أفاقت وقال لها يا أخية اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي أن أهل الأرض يموتون وان أهل السماء لا يبقون وان كل شيء هالك إلا وجهه الذي خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده جدي خير مني وأبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني ولي ولكل مسلم برسوله الله صلى الله عليه وسلم أسوة. فعزاها بهذا ونحوه وقال بها يا أخية إني أقسمت عليك فابري قسمي لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت وفي رواية إنها لما سعت الأبيات قالت يا أخي هذا كلام من أيقن بالقتل فقال نعم يا أختاه فقالت زينب واثكلاه ينعي إلي الحسين نفسه وبكى النسوة ولطمن الخدود وشققن الجيوب وجعلت أم كلثوم تنادي وامحمداه واعلياه واأماه واأخاه واحسيناه واضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله وقام الحسين وأصحابه الليل كله يصلون ويستغفرون ويدعون وباتوا ولهم دوي كدوي النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلا قال بعض أصحاب الحسين (ع) مرت بنا خيل لابن سعد تحرسنا وكان الحسين (ع) يقرأ ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب فسمعها رجل من تلك الخيل يقال له عبد الله بن سمير فقال نحن ورب الكعبة الطيبون ميزنا منكم فقال له برير بن خضير يا فاسق أنت يجعلك الله من الطيبين فقال له من أنت ويلك قال أنا برير بن خضير فتسابا فلما كان وقت السحر خفق الحسين (ع) برأسه خفقة ثم استيقظ فقال رأيت كان كلابا قد جهدت لتهشني وفيها كلب أبقع رأيته أشدها على وأظن أن الذي يتولى قتلي رجل أبرص.
صفة القتال
(وأصبح) الحسين (ع) فعبأ أصحابه بعد صلاة الغداة وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا وقيل ثمانية وأربعون راجلا وفي رواية ثمانون راجلا وعن الباقر (ع) إنهم كانوا خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل وقيل كانوا سبعين فارسا ومائة راجل فجعل زهير بن القين في الميمنة وحبيب بن مظاهر في الميسرة وأعطى رايته العباس أخاه وجعلوا البيوت في ظهورهم وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يترك في خندق كانوا قد حفروه هناك في ساعة من الليل وان يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم فنفعهم ذلك وأصبح ابن سعد في ذلك اليوم وهو يوم الجمعة أو يوم السبت فعبأ أصحابه فجعل على ميمنته عمرو بن الحجاج وعلى ميسرته شمر بن الجوشن وعلى الخيل عزرة بن قيس وعلى الرجالة شبث بن ربعي وأعطى الراية دريدا مولاه وجعل على ربع أهل المدينة عبد الله الأزدي وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن الجحفي وعلى ربع تميم وهمدان الجر بن يزيد الرياحي وأمر الحسين (ع) بفسطاط فضرب وأمر بحفنة فيها مسك كثير وجعل عندها نورة ثم دخل ليطلي فروي أن برير بن خضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعده فجعل برير يضاحك عبد الرحمن فقال له عبد الرحمن يا برير ما هذه ساعة باطل فقال برير لقد علم قومي إني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا وإنما افعل ذلك استبشارا بما نصير إليه فو الله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ثم نعلق الحور العين ثم ركب الحسين (ع) دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه وركب أصحاب عمر بن سعد وأقبلوا يجولون حول بيوت الحسين (ع) فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان القي فيه فنادى شمر بأعلى صوته أتعجلت النار قبل يوم القيامة فقال الحسين (ع) من هذا كأنه شمر قالوا نعم، قال: أنت أولي بها صليا ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين (ع) من ذلك فقال دعني حتى ارميه فإنه الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين وقد أمكن الله منه فقال له الحسين (ع) لا ترمه فإني أكره أن أبدا هم بقتال وأقبل رجل من عسكر ابن سعد يقال له ابن أبي جويرية المزنى فلما رأى النار تتقد نادى يا حسين أبشروا بالنار فقد تعجلتموها في الدنيا ثم برز تميم بن حصين الفزاري فنادى يا حسين ويا أصحاب حسين أما ترون ماء الفرات يلوح كأنه بطون الحيات والله لا ذقتم منه قطرة حتى تذوقوا الموت جرعا ولما ركب أصحاب ابن سعد قرب إلى الحسين (ع) فرسه فاستولى عليه وكان اسم فرسه اليحموم وتقدم نحو القوم في نفر من أصحابه وبين يديه برير بن خضير فقال له الحسين (ع) كلم القوم فتقدم برير فقال يا قوم اتقوا الله فان ثقل محمد صلى الله عليه وسلم قد أصبح بين أظهركم هؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم فقالوا نريد أن نمكن منهم الأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم فقال لهم برير أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه ويلكم أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها يا ويلكم دعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم حتى إذا أتوكم أسلمتموهم وحلأتموهم عن ماء الفرات بئس ما خلفتم نبيكم في ذريته ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم فقال له نفر منهم يا هذا ما ندري ما تقول فقال الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة اللهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم المهم الق بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان فجعل القوم يرمونه بالسهام فرجع إلى ورائه وتقدم الحسين (ع) حتى وقف بإزاء القوم فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنهم السيل ونظر إلى ابن سعد واقفا في صناديد الكوفة فقال: الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالا بعد حال فالمغرور من غرته والشقي من فتنته فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيب طمع من طمع فيها وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم واعرض بوجهه الكريم عنكم وأحل بكم نقمته وجنبكم رحمته فنعم الرب ربنا وبئس العبيد أنتم أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ثم أنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم فتبا لكم ولما تريدون أنا لله وأنا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين. فقال ابن سعد ويلكم كلموه فإنه ابن أبيه والله لو وقف فيكم هكذا يوما جديدا لما انقطع ولما حصر فتقدم شمر فقال يا حسين ما هذا الذي تقول أفهمنا حتى نفهم فقال أقول اتقوا الله ربكم ولا تقتلوني فإنه لا يحل لكم قتلي ولا انتهاك حرمتي فإني ابن بنت نبيكم وجدتي خديجة زوجة نبيكم ولعله قد بلغكم قول نبيكم الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة قال المفيد ثم دعا الحسين (ع) براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته وكلهم أو جلهم يسمعون فقال: أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم علي وحتى اعذر إليكم فان أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون أن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ثم حمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو له وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ملائكته وأنبيائه فلم يسمع متكلم قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ثم قال أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح ويحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه أوليس حمزة سيد الشهداء عمي أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي أولم يبلغكم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولأخي هذان سيدا شباب أهل الجنة فان صدقتموني بما أقول وهو الحق والله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه له وإن كذبتموني فان فيكم من إذا سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبروكم إنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولأخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي فقال له شمر بن ذي الجوشن هو يعبد الله على حرف أن كان يدري ما تقول، فقال له حبيب بن مظاهر والله إني لا أراك تعبد الله على سبعين حرفا وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول قد طبع الله على قلبك، ثم قال لهم الحسين (ع) فان كنتم في شك من هذا أفتشكون في إني ابن بنت نبيكم فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته أو بقصاص من جراحة. فأخذوا لا يكلمونه فنادى يا شبث بن ربعي ويا حجار بن أبجر وياقيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار واخضرت الجنان وإنما تقدم على جند لك مجند فقال له قيس بن الأشعث ما ندري ما تقول ولكن انزل على حكم بني عمك فإنهم لن يروك إلا ما تحب فقال له الحسين (ع) لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد أو لا أقر إقرار العبيد ثم نادى يا عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ثم إنه أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها فاقبلوا يزحفون نحوه. وقال غير المفيد أنه (ع) ركب ناقته أو فرسه وخرج إلى الناس فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا حتى قال ويلكم ما عليكم أن تنصتوا لي فتسمعوا قولي وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد فمن أطاعني كان من المرشدين ومن عصاني كان من المهلكين وكلكم عاص لأمري غير مستمع قولي فقد ملئت بطونكم من الحرام وطبع على قلوبكم ويلكم ألا تنصتون ألا تسمعون فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا أنصتوا له فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو له وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الملائكة والأنبياء والرسل وأبلغ في المقال ثم قال: تبا لكم أيتها الجماعة وترحا أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفا لنا في إيمانكم وحششتم علينا نارا قدحناها على عدوكم وعدونا فأصبحتم إلبا على أوليائكم ويدا عليهم لأعدائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم إلا الحرام من الدنيا أنالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه من غير حدث منا ولا رأي تفيل لنا فهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا وتركتمونا تجهزتموها والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستحصف ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا وتداعيتم إليها كتداعي الفراش فسحقا لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومحرفي الكتاب ومطفئي السنن وقتلة أولاد الأنبياء ومبيدي عترة الأوصياء وملحقي العهار بالنسب ومؤذي المؤمنين وصراخ أئمة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون وأنتم ابن حرب وأشياعه تعضدون وعنا تخاذلون أجل والله الخذل فيكم معروف وشجت عليه أصولكم وتازرت عليه فروعكم وثبتت عليه قلوبكم وغشيت صدوركم فكنتم أخبث ثمر شجي للناظر واكلة للغاصب إلا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا فأنتم والله هم، إلا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، إلا قد أعذرت وأنذرت، إلا واني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وكثرة العدو وخذلان النصر، ثم وصل (ع) كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي فقال:
فان نهزم فهزامون قدما | وان نغلب فغير مغلبينا |
وما أن طبنا جبن ولكن | منايانا ودولة آخرينا |
فأفنى ذلكم سروات قومي | كما أفنى القرون الأولينا |
فلو خلد الملوك إذن خلدنا | ولو بقي الكرام إذن بقينا |
فقل للشامتين بنا أفيقوا | سيلقى الشامتون كما لقينا |
ثم قال: أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها أن ربي على صراط مستقيم. وخرج زهير بن القين على فرس له ذنوب شاك في السلاح فوعظهم فسبوه وأثنوا على ابن زياد فقال لهم: يا عباد الله أن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية فان كنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم فرماه شمر بسهم وتسابا وقال له شمر أن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة، قال: أفبالموت تخوفني والله للموت أحب إلي من الخلد معكم، فأمره الحسين (ع) فرجع.
(ولما) رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمموا على قتال الحسين (ع) قال لعمر بن سعد أمقاتل أنت هذا الرجل قال أي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي قال فما لكم فيما عرضه عليكم رضى قال أما لو كان الأمر إلي لفعلت ولكن أميرك قد أبى، فاقبل الحر حتى وقف من الناس موقفا ومعه رجل من قومه يقال له قرة بن قيس فقال له يا قرة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال لا، قال فما تريد أن تسقيه؟ قال قرة فظننت والله انه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال فكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له لم اسقه وأنا منطلق فاسقيه فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه فو الله لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين ع، فأخذ الحر يدنو من الحسين (ع) قليلا قليلا، فقال له المهاجر بن أوس ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة، فقال له المهاجر أن أمرك لمريب والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك، فقال الحر: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، فو الله إني لا اختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت، ثم ضرب فرسه قاصدا إلى الحسين (ع) ويده على رأسه وهو يقول: اللهم إليك أنيب فتب علي فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك، وقال للحسين (ع) جعلت فداك يا ابن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك إلى هذا المكان وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت إنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، واني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي مواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك فهل ترى لي من توبة؟ فقال الحسين (ع): نعم يتوب الله عليك فأنزل، قال أنا لك فارسا خير منى راجلا أقاتلهم على فرسي ساعة والى النزول يصير آخر أمري، فقال له الحسين (ع) فاصنع يرحمك الله ما بدا لك، فاستقدم أمام الحسين (ع) ونادى أهل الكوفة ووعظهم وأنبهم فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل فرجع حتى وقف أمام الحسين (ع). ونادى عمر بن سعد يا دريد ادن رأيتك فأدناها ثم وضع سهما في كبد قوسه فرمى به نحو عسكر الحسين (ع) وقال اشهدوا لي عند الأمير إني أول من رمى وأقبلت السهام من القوم كأنها القطر فلم يبق من أصحاب الحسين (ع) أحد إلا أصابه من سهامهم فقال (ع) لأصحابه قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه فان هذه السهام رسل القوم إليكم، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة حتى قتل من أصحاب الحسين (ع) جماعة. ثم صاح الحسين (ع) أما من مغيث يغيثنا لوجه الله، أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يزيد بن زياد بن مهاصر الكندي ويكنى أبا الشعثاء في أصحاب ابن سعد، فلما ردوا على الحسين (ع) ما عرضه عليهم عدل إليه فقاتل بين يديه وجعل يرتجز ويقول:
أنا يزيد وأبي مهاصر | أشجع من ليث بغيل خادر |
يا رب إني للحسين ناصر | ولابن سعد تارك وهاجر |
وجثا بين يدي الحسين (ع) فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم وكان راميا وكلما رمى يقول له الحسين (ع) اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة فقتل خمسة من أصحاب عمر بالنشاب وكان أول من قتل ثم ارتمى الناس وتبارزوا فكان أصحاب الحسين (ع) كما قيل فيهم:
قوم إذا نودوا لدفع ملمة | والخيل بين مدعس ومكردس |
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا | يتهافتون على ذهاب الأنفس |
(فبرز) يسار مولى زياد وسالم مولى عبيد الله بن زياد وقالا من يبارز فقام عبد الله بن عمير بن جناب الكلبي فاستأذن الحسين (ع) في مبارزتهما وكان طويلا بعيد ما بين المنكبين فنظر إليه الحسين (ع) وقال إني احسبه للأقران قتالا وأذن له وكان قد خرج من الكوفة ليلا ومعه امرأته أم وهب إلى الحسين (ع) لأنه لما رأى العساكر تعرض بالنخيلة لتسير إلى حرب الحسين (ع) قال والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا واني لأرجو أن لا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أقل ثوابا عند الله من جهاد المشركين، فأخبر زوجته فقالت أصبت أخرج وأخرجني معك فشد على يسار فضربه بسيفه حتى برد وهو أول من قتل من أصحاب ابن سعد، فإنه لمشتغل بضربه إذ شد عليه سالم مولى عبيد الله فصاحوا به قد رهقك العبد فلم يعبأ به حتى غشيه فبدره بضربة اتقاها ابن عمير بيده اليسرى فأطارت أصابع كفه ثم شد عليه ابن عمير فضربه حتى قتله فرجع وقد قتلهما جميعا وهو يرتجز ويقول:
حسبي بيتي في عليم حسبي | إني امرؤ ذو مرة وعصب |
ولست بالخوار عند النكب | إني زعيم لك أم وهب |
بالطعن فيهم صادقا والضرب | ضرب غلام مؤمن بالرب |
فأخذت امرأته أم وهب عمود خيمة وأقبلت نحو زوجها تقول له فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد فاقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت بجانب ثوبه ثم قالت إني لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها الحسين جزيتم من أهل بيت خيرا ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن فإنه ليس على النساء قتال فانصرفت إليهن.
ثم قاتل زوجها قتالا شديدا حتى قتل رجلين آخرين، فقتله هاني بن ثبيت الحضرمي وبكير بن حي التيمي وخرجت امرأته فجلست عند رأسه تمسح التراب عن وجهه وتقول هنيئا لك الجنة فأمر شمر غل أماله يقال له رستم فضرب رأسها بالعمود فماتت مكانها وبرز عمر بن خالد الصيداوي فقال له الحسين (ع) تقدم فأنا لاحقون بك عن ساعة فحمل هو وسعد مولاه وجبار بن الحارث السلماني ومجمع بن عبيد الله العائذي فأوغلوا في أصحاب عمر بن سعد فعطف عليهم أصحاب ابن سعد فقطعوهم عن أصحابهم فحمل العباس بن علي (ع) فاستنقذهم وقد جرحوا ثم حملوا فقاتلوا حتى قتلوا في مكان واحد وحمل عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الحسين فيمن كان معه من أهل الكوفة فلما دنا من أصحاب الحسين (ع) جثوا له على الركب واشرعوا الرماح نحوهم فلم تقدم خيلهم على الرماح فذهبت الخيل ترجع فرشقهم أصحاب الحسين (ع) بالنبل فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين وجاء رجل من بني تميم يقال له عبد الله بن حوزة فقال يا حسين ابشر بالنار فقال له الحسين (ع) كذبت بل أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع، ثم رفع الحسين (ع) يديه فقال اللهم حزه إلى النار فاضطرب به فرسه في جدول فوقع وتعلقت رجله اليسرى بالركاب وارتفعت اليمنى فشد عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى فطارت وعدا به فرسه يضرب رأسه بكل حجر ومدر حتى مات وعجل الله بروحه إلى النار وكان مسروق بن وائل الحضرمي قد خرج مع ابن سعد وقال لعلي أصيب رأس الحسين فأصيب به منزلة عند ابن زياد، فلما رأى ما صنع بابن حوزة بدعاء الحسين (ع) رجع وقال لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا، ونشب القتال فخرج برير بن خضير الهمداني وكان زاهدا عابدا وكان أقرأ أهل زمانه وكان يقال له سيد القراء وهو يقول:
أنا برير وأبي خضير | لا خير فيمن ليس فيه خير |
فخرج إليه يزيد بن معقل فقال له برير هلم أبأهلك ولندع الله أن يلعن الكاذب منا وان يقتل المحق منا المبطل فتباهلا ثم تبارزا فاختلفا ضربتين فضرب يزيد بريرا ضربة خفيفة فلم يضره شيئا وضربه برير ضربة قدت المغفر ووصلت إلى دماغه فسقط، فحمل كعب بن جابر الأزدي على برير وطعنه بالرمح في ظهره وضربه بسيفه حتى قتله رضوان الله عليه وفي بعض الروايات أن بريرا قتل ثلاثين رجلا، فلما رجع كعب بن جابر قالت له امرأته أعنت على ابن فاطمة وقتلت بريرا سيد القراء لا أكلمك أبدا ثم برز وهب بن حباب الكلبي وكانت معه أمه وزوجته فقالت أمه قم يا بني فانصر ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال افعل يا أماه ولا اقصر فبرز وهو يقول:
سوف تروني وترون ضربي | وحملتي وصولتي في الحرب |
أدرك ثأري بعد ثأر صحبي | وأدفع الكرب أمام الكرب |
#ليس جهادي في الوغى باللعب
ثم حمل ولم يزل يقاتل حتى قتل جماعة ثم رجع إلى امرأته وأمه وقال يا أماه أرضيت فقالت ما رضيت حتى تقتل بين يدي الحسين (ع) فقالت امرأته بالله عليك لا تفجعني بنفسك فقالت له أمه يا بني أعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعة جده يوم القيمة فرجع فلم يزل يقاتل حتى قطعت يداه ثم قتل رضوان الله عليه وقال الحر للحسين (ع) فإذا كنت أول من خرج عليك فائذن لي أن أكون أول قتيل بين يديك لعلي أن أكون ممن يصافح جدك محمدا صلى الله عليه وسلم غدا في القيامة فحمل على أصحاب عمر بن سعد وهو يتمثل بقول عنترة:
ما زلت ارميهم بغرة وجهه | ولبانه حتى تسربل بالدم |
ثم جعل يرتجز ويقول:
إني أنا الحر ومأوى الضيف | اضرب في أعراضكم بالسيف |
عن خير من حل بأرض الخيف | أضربكم ولا أرى من حيف |
وقاتل قتالا شديدا وقال:
إني أنا الحر ونجل الحر | أشجع من ذي لبد هزبر |
ولست بالجبان عند الكر | لكنني الوقاف عند الفر |
وجعل يضربهم بسيفه حتى قتل نيفا وأربعين رجلا وكان يحمل هو وزهير بن القين فإذا حمل أحدهما وغاص فيهم حمل الآخر حتى يخلصه ففعلا ذلك ساعة ثم حملت الرجالة على الحر وتكاثروا عليه فقتلوه فاحتمله أصحاب الحسين (ع) حتى وضعوه بين يدي الحسين (ع) وبه رمق فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول أنت الحر كما سمتك أمك وخرج من أصحاب الحسين (ع) نافع بن هلال الجملي فقاتل قتالا شديدا وجعل يقول:
#أنا ابن هلال الجملي
#أنا على دين علي
#ودينه دين النبي
(فبرز) إليه رجل يقال له مزاحم بن حريث فحمل عليه نافع فقتله وكان قد كتب اسمه على فوق نبله وكانت مسمومة فقتل بها اثني عشر أو ثلاثة عشر رجلا سوى من جرح.
فلم يزل يرميهم حتى فنيت سهامه ثم ضرب يده إلى سيفه وجعل يقول:
أنا الغلام اليمني الجملي | ديني على دين حسين وعلي |
أضربكم ضرب غلام بطل | إن اقتل اليوم فهذا أملي |
#فذاك رأيي وألاقي عملي
فكسروا عضديه وأخذ أسيرا فأخذه شمر وأتى به إلى ابن سعد فقال له ابن سعد ويحك يا نافع ما حملك على ما صنعت بنفسك قال أن ربي يعلم ما أردت والدماء تسيل على وجهه ولحيته وهو يقول لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوى من جرحت ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني فانتضى شمر سيفه ليقتله فقال له نافع والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه فقتله شمر وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسين (ع) فإذن له فبرز وهو يرتجز ويقول:
قد علمت كتيبة الأنصار | إني سأحمي حوزة الذمار |
ضرب غلام غير نكس شاري | دون حسين مهجتي وداري |
فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء وبالغ في خدمة سلطان السماء حتى قتل جمعا كثيرا من حزب ابن زياد وجمع بين سداد وجهاد وكان لا يأتي إلى الحسين (ع) سهم إلا اتقاه بيده ولا سيف إلا تلقاه بمهجته فلم يكن يصل إلى الحسين (ع) سوء حتى أثخن بالجراح فالتفت إلى الحسين (ع) وقال يا ابن رسول الله أوفيت؟ قال نعم أنت أما مي في الجنة فاقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام واعلمه إني في الأثر فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه.
(وبرز) جون مولى أبي ذر الغفاري وكان عبدا أسود فقال له الحسين (ع) أنت في إذن مني فإنما تبعتنا للعافية فلا تبتل بطريقتنا فقال يا ابن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذ لكم والله أن ريحي لنتن وان حسبي للئيم وإن لوني لأسود فتنفس علي بالجنة فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض وجهي لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم ثم برز وهو يقول:
كيف ترى الكفار ضرب الأسود | بالسيف ضربا عن بني محمد |
أذب عنهم باللسان واليد | أرجو به الجنة يوم المورد |
ثم قاتل حتى قتل فوقف عليه الحسين (ع) فقال اللهم بيض وجهه وطيب ريحه وحشره مع الأبرار وعرف بينه وبين محمد وآل محمد صلى الله عليه وسلم وبرز عمرو بن خالد الصيداوي فقال للحسين (ع) يا أبا عبد الله قد هممت أن ألحق بأصحابي وكرهت أن أتخلف وأراك وحيدا من لك قتيلا فقال له الحسين (ع): تقدم فأنا لاحقون بك عن ساعة فتقدم فقاتل حتى قتل وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين (ع) يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره فما أحقه بقول عرقلة بن حسان الدمشقي:
ويرد صدر السمهري بصدره | ما ذا يؤثر ذابل في يذبل |
وكأنه والمشرفي بكفه | بحر يكر على الكماة بجدول |
وأخذ ينادي يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى فقال له الحسين يا ابن أسعد رحمك الله إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين قال صدقت جعلت فداك أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا قال بلى رح إلى ما هو لك خير من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلي فقال السلام عليك يا ابن رسول الله صلى الله عليك وعلى أهل بيتك وعرف بيننا وبينك في الجنة فقال الحسين (ع) آمين آمين وتقدم فقاتل قتالا شديدا فحملوا عليه فقتلوه.
(وبرز) مسلم بن عوسجة وهو يرتجز ويقول:
إن تسألوا عني فإني ذو لبد | من فرع قوم من ذرى بني أسد |
فمن بغانا حائد عن الرشد | وكافر بدين جبار صمد |
فقاتل قتالا شديدا. وصاح عمرو بن الحجاج بالناس يا حمقاء أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر وأهل البصائر وقوما مستميتين، لا يبرز إليهم منكم واحد، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فقال ابن سعد صدقت ثم أرسل إلى الناس من يعزم عليهم أن لا يبارز رجل منكم رجلا منهم.
ثم حمل عمرو بن الحجاج في أصحابه على الحسين (ع) من نحو الفرات فاضطربوا ساعة فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي رحمة الله عليه وبقي به رمق وانصرف عمرو بن الحجاج وأصحابه وانقطعت الغبرة فإذا مسلم صريع فمشى إليه الحسين (ع) ومعه حبيب بن مظاهر، فقال الحسين (ع) رحمك الله يا مسلم
{فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال: عز علي مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة، فقال له مسلم قولا ضعيفا بشرك الله بخير، ثم قال له حبيب: لولا إني أعلم إني في الأثر من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك، فقال له مسلم: فإني أوصيك بهذا وأشار إلى الحسين (ع) فقاتل دونه حتى تموت، فقال له حبيب لأنعمنك عينا، ثم مات رضوان الله عليه، وصاحت جارية له يا سيداه يا ابن عوسجاه، فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين قتلنا مسلم بن عوسجة، فقال شبث بن ربعي ثكلتكم أمهاتكم أما انكم تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلون أنفسكم لغيركم أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة والذي أسلمت له لرب موقف له في المسلمين كريم لقد رأيته يوم أذربايجان قتل ستة من المشكرين قبل أن تلتئم خيول المسلمين.
ثم تراجع القوم إلى الحسين (ع) فحمل شمر في الميسرة على ميسرة أصحاب الحسين (ع) فثبتوا له وطاعنوه وحملوا على الحسين (ع) وأصحابه من كل جانب وقاتلهم أصحاب الحسين (ع) قتالا شديدا فأخذت خيلهم تحمل وإنما هي اثنان وثلاثون فارسا فلا تحمل على جانب من خيل الأعداء إلا كشفته فلما رأى ذلك عزرة بن قيس وهو على الخيل بعث إلى ابن سعد أما ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة أبعث إليهم الرجال والرماة وقاتل أصحاب الحسين (ع) القوم أشد قتال خلقه الله حتى انتصف النهار فبعث ابن سعد الحصين بن تميم في خمسمائة من الرماة فاقتتلوا حتى دنوا من الحسين (ع) وأصحابه فلما رأوا صبر أصحاب الحسين (ع) تقدم الحصين إلى أصحابه أن يرشقوا أصحاب الحسين (ع) بالنبل فرشقوهم فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وجرحوا الرجال وبقي الحسين (ع) وليس معه فارس. وحمل شمر بن ذي الجوشن في أصحابه على أصحاب الحسين (ع) فحمل عليهم زهير بن القين في عشرة رجال من أصحاب الحسين (ع) فكشفوهم عن البيوت وقتلوا منهم وعطف عليهم شمر فقتل منهم ورد الباقين إلى مواضعهم وكان يقتل من أصحاب الحسين (ع) الواحد والاثنان فيبين ذلك فيهم لقلتهم ويقتل من أصحاب ابن سعد العشرة فلا يبين ذلك فيهم لكثرتهم. وحمل شمر حتى بلغ فسطاط الحسين (ع) فطعنه بالرمح ونادى علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على له، فصاحت النساء وخرجن، وصاح الحسين (ع) أنت تحرق بيتي على لي أحرقك الله بالنار، فقال حميد بن مسلم أتقتل الولدان والنساء والله أن في قتل الرجال لما يرضى به أميرك، فلم يقبل، فأتاه شبث بن ربعي فقال أفزعنا النساء ثكلتك أمك فاستحيا وانصرف واشتد القتال بينهم، ولم يقدروا أن يأتوهم إلا من جانب واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض، فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوضوها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين (ع) يتخللون البيوت فيقتلون الرجل وهو يقوض وينهب فيرمونه عن قريب فيصرعونه فيقتلونه فقال ابن سعد أحرقوها بالنار فأحرقت، فقال لهم الحسين (ع) دعوهم يحرقوها فإنهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم فكان كما قال وحضر وقت صلاة الظهر فقال أبو ثمامة الصيداوي للحسين (ع) يا أبا عبد الله نفسي لنفسك الفداء هؤلاء اقتربوا منك ولا والله ولا تقتل حتى أقتل دونك وأحب أن ألقى الله ربي وقد صليت هذه الصلاة فرفع الحسين (ع) رأسه إلى السماء وقال ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين نعم هذا أول وقتها ثم قال سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي ففعلوا فقال لهم الحصين بن تميم إنها لا تقبل فقال له حبيب بن مظاهر زعمت لا تقبل الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقبل منكم يا خمار فحمل عليه الحصين وحمل عليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشب به الفرس ووقع عنه الحصين فاستنقذه أصحابه وشدوا على حبيب فقتل رجلا منهم وقال الحسين (ع) لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله تقدما أما مي حتى أصلي الظهر فتقدما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتى صلى بهم صلاة الخوف فوصل إلى الحسين (ع) سهم فتقدم سعيد بن عبد الله ووقف يقيه النبال بنفسه ما زال ولا تخطى فما زال يرمى بالنبل حتى سقط إلى الأرض وهو يقول اللهم العنهم لعن عاد وثمود اللهم أبلغ نبيك عني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك ثم قضى نحبه رضوان الله عليه فوجد فيه ثلاثة عشر سهما سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح وقيل صلى الحسين (ع) وأصحابه فرادى بالإيماء وتقدم سويد بن عمرو بن أبي المطاع وكان شريفا كثير الصلاة ثم جعل يرتجز ويقول:
أقدم حسين اليوم تلقى أحمدا | وشيخك الحبر عليا ذا الندى |
وحسنا كالبدر وافى الأسعدا | وعمك القرم الهمام الأرشدا |
حمزة ليث الله يدعى أسدا | وذا الجناحين تبوأ مقعدا |
#في جنة الفردوس يعلو صعدا
فقاتل قتال الأسد الباسل وبالغ في الصبر على الخطب النازل حتى سقط بين القتلى وقد أثخن بالجراح فلم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون قتل الحسين فتحامل وأخرج سكينا من خفه وجعل يقاتل حتى قتل رضوان الله عليه فكان آخر من بقي من أصحاب الحسين (ع) وخرج زهير بن القين وهو يرتجز ويقول:
أنا زهير وأنا ابن القين | أذودكم بالسيف عن حسين |
إن حسينا أحد السبطين | من عترة البر التقي الزين |
ذاك رسول الله غير المين | أضربكم ولا أرى من شين |
#يا ليت نفسي قسمت قسمين
فقاتل قتالا شديدا حتى قتل جماعة فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه فقال الحسين (ع) حين صرع زهير لا يبعدك الله يا زهير وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى بني شاكر فقال: يا شوذب ما في نفسك أن تصنع قال ما أصنع أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقتل قال ذلك الظن بك فتقدم بين يدي أبي عبد الله فان هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكل ما نقدر عليه فإنه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب وتقدم شوذب فقال السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته استودعك الله ثم قاتل حتى قتل وتقدم عابس فقال يا أبا عبد الله أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريب ولا بعيد أعز علي ولا أحب إلي منك ولو قدرت أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء أعز من نفسي ودمي لفعلت السلام عليك يا أبا عبد الله أشهد الله إني على هداك وهدى أبيك ثم مضى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربة على جبينه وكان من أشجع الناس وأخذ ينادي ألا رجل لرجل فتح أماه الناس لشجاعته فقال لهم ابن سعد أرضخوه بالحجارة فرموه بالحجارة من كل جانب فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وشد على الناس فهزمهم بين يديه قال الراوي فو الله لقد رأيته يطرد أكثر من مائتين من الناس ثم أحاطوا به من كل جانب فقتلوه وبرز حبيب بن مظاهر الأسدي فقاتل قتالا شديدا فقتل رجلا من بني تميم اسمه بديل بن صريم وحمل عليه آخر من تميم فطعنه فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه فهد مقتله الحسين (ع) وقال عند الله احتسب نفسي وحماة أصحابي وقال الحصين للتميمي أنا شريك في قتله قال لا والله قال أعطني الرأس أعلقه في عنق فرسي ليرى الناس إني شاركتك في قتله ثم خذه فلا حاجة لي فيما يعطيك ابن زياد فأعطاه الرأس فجال به في الناس ثم رده إليه فلما رجع إلى الكوفة علقه في عنق فرسه، فلينظر الناظر إلى أي درجة بلغت رداءة النفوس وسقوطها بهؤلاء القوم وكان لحبيب ابن يسمى القاسم قد راهق فجعل يتبع ألفارس الذي معه رأس أبيه فارتاب به فقال ما لك تتبعني قال أن هذا الرأس الذي معك رأس أبي فأعطني إياه حتى أدفنه فقال أن الأمير لا يرضى أن يدفن وأرجو أن يثيبني فقال لكن الله لا يثيبك إلا أسوأ الثواب وبكى الغلام ثم لم يزل يتبع أثر قاتل أبيه بعد ما أدرك حتى قتله وأخذ بثار أبيه وذلك أنه كان في عسكر فهجم عليه وهو في خيمة له نصف النهار فقتله وأخذ رأسه وخرج جنادة بن الحارث السلماني وكان خرج بعياله وولده إلى الحسين (ع) فقاتل حتى قتل فلما قتل أمرت زوجته ولدها عمر وهو شاب أن ينصر الحسين (ع) فقالت أخرج يا بني وقاتل بين يدي ابن رسول الله فخرج واستأذن الحسين فقال الحسين (ع) هذا شاب قتل أبوه ولعل أمه تكره خروجه فقال الشاب أمي أمرتني بذلك، وهذا منتهى علو النفس وصدق الولاء من هذه المرأة وابنها أن يكون زوجها قد قتل وهي تنظر إليه ثم تأمر ولدها الشاب بنصرة الحسين (ع) وهي تعلم إنه مقتول فتسوقه إلى القتل مختارة طائعة ويطيعها ابنها في ذلك فيقدم على القتل غير مبال ولا وجل ثم يرخص له الحسين (ع) في ترك القتال مخافة أن تكون أمه تكره قتاله بعد ما قتل أبوه زوجها في المعركة فيأبى ويقول أمي أمرتني بذلك، حقا إنه لمقام عظيم وموقف جليل تزل فيه الأقدام وتذهل فيه الألباب ولثبات امرأة فيه وولد شاب يدل على سمو عظيم في نفسيهما، فبرز ذلك الشاب وهو يقول ولله دره:
أميري حسين ونعم الأمير | سرور فؤاد البشير النذير |
علي وفاطمة والداه | فهل تعلمون له من نظير |
له طلعة مثل شمس الضحى | له غرة مثل بدر منير |
قال المؤلف: قد شطرت هذه الأبيات استحسانا لها فقلت:
أميري حسين ونعم الأمير | أمير عظيم جليل خطير |
حبيب الوصي عزيز البتول | سرور فؤاد البشير النذير |
علي وفاطمة والده | ومشبهه في البرايا شبير |
سما قدره فوق كل الأنام | فهل تعلمون له من نظير |
له طلعة مثل شمس الضحى | ترد الشموس بطرف حسير |
له راحة مثل غيث همى | له غرة مثل بدر منير |
وقاتل حتى قتل وحز رأسه ورمي به إلى عسكر الحسين (ع) فحملت أمه رأسه وقالت أحسنت يا بني يا سرور قلبي ويا قرة عيني ثم رمت برأس ابنها رجلا وأخذت عمود خيمة وحملت عليهم وهي تقول:
أنا عجوز سيدي ضعيفه | خاوية بالية نحيفه |
أضربكم بضربة عنيفه | دون بني فاطمة الشريفة |
وضربت رجلين فأمر الحسين (ع) بصرفها ودعا لها ولما رأى أصحاب الحسين (ع) إنهم قد غلبوا وإنهم لا يقدرون أن يمنعوا الحسين (ع) ولا أنفسهم تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه فجاءه عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريان فقالا يا أبا عبد الله عليك السلام قد حازنا الناس إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك قال مرحبا بكما ادنوا مني فدنوا مني وجعلا يقاتلان حتى قتلا.
وأتاه فتيان وهما سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد الله بن سريع الجابريان وهما ابنا عم وأخوان لأم وهما يبكيان فقال لهما ما يبكيكما فو الله إني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين فقالا جعلنا الله فداك والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك نراك وقد أحيط بك ولا نقدر على أن نمنعك فقال جزاكما الله يا ابني أخي بوجدكما من ذلك ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين ثم استقدما وقالا السلام عليك يا ابن رسول الله فقال وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته فقاتلا حتى قتلا وخرج غلام تركي كان للحسين (ع) اسمه أسلم وكان قارئا للقرآن فجعل يقاتل حتى قتل جماعة ثم سقط صريعا فجاء إليه الحسين (ع) فبكى ففتح عينيه فرأى الحسين (ع) فتبسم ثم صار إلى ربه.
(وكان) يأتي الرجل بعد الرجل إلى الحسين فيقول: السلام عليك يا ابن رسول الله فيجيبه الحسين (ع) ويقول عليك السلام ونحن خلفك، ثم يقرأ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر حتى قتلوا عن آخرهم ولم يبق مع الحسين (ع) سوى أهل بيته وهم: ولد علي، وولد جعفر، وولد عقيل، وولد الحسن، وولد الحسين فاجتمعوا يودع بعضهم بعضا وعزموا على الحرب وكانوا سبعة عشر رجلا في المتفق عليه، وفي حديث الرضا (ع) مع ابن شبيب وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا فيمكن أن يكون عد معهم مسلم بن عقيل فإنه وإن لم يقتل مع الحسين (ع) فكأنه قتل معه، وإذا عددنا جميع من ذكره المؤرخون ومنهم مسلم كانوا ثلاثين أو أكثر ويأتي سرد أسمائهم وفيهم يقول سراقة البأهلي وفي مروج الذهب إنها لمسلم بن قتيبة مولى بني هاشم:
عين بكي بعبرة وعويل | واندبي أن ندبت آل الرسول |
تسعة منهم لصلب علي | قد أبيدوا وسبعة لعقيل |
وابن عم النبي عونا أخاهم | ليس فيما ينوبهم بخذول |
وسمي النبي غودر فيهم | قد علوه بصارم مسلول |
فأول من خرج منهم علي بن الحسين الأكبر وكان علي من أصبح الناس وجها وأحسنهم خلقا وكان عمره تسع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة أو خمسا وعشرين سنة وهو أول قتيل يوم كربلاء من آل أبي طالب، فاستأذن أباه بالقتال فإذن له ثم نظر إليه نظر آيس منه وأرخى عينيه فبكى ثم رفع سبابتيه نحو السماء وقال اللهم كن أنت الشهيد عليهم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسولك وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إليه، ثم رفع صوته وتلا أن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. فشد علي على الناس وهو يقول:
أنا علي بن الحسين بن علي | نحن وبيت الله أولي بالنبي |
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي | اضرب بالسيف أحامي عن أبي |
#ضرب غلام هاشمي علوي
فجعل يشد عليهم ثم يرجع إلى أبيه فيقول يا أباه العطش فيقول له الحسين (ع) اصبر حبيبي فإنك لا تمسي حتى يسقيك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكأسه، فجعل يكر كرة بعد كرة والأعداء يتقون قتله فقتل جماعة فنظر إليه مرة بن منقذ العبدي فقال علي آثام العرب أن هو فعل مثل ما أراه يفعل ومربي أن لم أثكله أمه فمر يشد على الناس كما كان يفعل فاعترضه مرة بن منقذ وطعنه بالرمح وقيل بل رماه بسهم فصرعه فنادى يا أبتاه عليك السلام هذا جدي يقرئك السلام ويقول لك عجل القدوم علينا واعتوره الناس فقطعوه بأسيافهم فجاء الحسين (ع) حتى وقف عليه وقال: قتل الله قوما قتلوك يا بني ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا. وخرجت زينب بنت علي (ع) وهي تنادي يا حبيباه ويا ابن أخاه وجاءت فأكبت عليه فجاء الحسين (ع) فأخذ بيدها وردها إلى الفسطاط وأقبل بفتيانه وقال احملوا أخاكم فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه وبرز عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب وفي مناقب ابن شهراشوب انه أول من برز وأمه رقية بنت علي بن أبي طالب (ع) وهو يرتجز ويقول:
اليوم ألقى مسلما وهو أبي | وفتية بادوا على دين النبي |
ليسوا بقوم عرفوا بالكذب | لكن خيار وكرام النسب |
#من هاشم السادات أهل الحسب
فقتل عدة رجال في ثلاث حملات فرماه عمير بن صبيح الصدائي وقيل غيره بسهم فوضع عبد الله يده على جبهته يتقيه فأصاب السهم كفه ونفذ إلى جبهته فسمرها فلم يستطيع أن يحركها ثم طعنه أسيد بن مالك بالرمح في قلبه فقتله وحمل الناس على الحسين (ع) وأهل بيته من كل جانب فخرج محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وأمه زينب بنت أمير المؤمنين (ع) ثم قاتل حتى قتل عشرة أنفس فحمل عليه عامر بن نهشل التميمي فقتله وخرج أخوه عون بن عبد الله بن جعفر (ع) وأمه أيضا زينب بنت أمير المؤمنين (ع) وهو يقول:
إن تنكروني فأنا ابن جعفر | شهيد صدق في الجنان أزهر |
يطير فيها بجناح أخضر | كفى بهذا شرفا في المحشر |
ثم قاتل حتى قتل جماعة كثيرة فحمل عليه عبد الله بن قطبة الطائي فقتله وخرج القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) وأمه أم ولد وهو غلام لم يبلغ الحلم فلما نظر الحسين (ع) إليه قد برز اعتنقه وجعلا يبكيان ثم استأذن عمه في المبارزة فأبى أن يأذن له فلم يزل الغلام يقبل يديه ورجليه حتى أذن له ودموعه تسيل على خديه وهو يقول:
إن تنكروني فأنا ابن الحسن | سبط النبي المصطفى والمؤتمن |
هذا حسين كالأسير المرتهن | بين أناس لا سقوا صوب المزن |
فقاتل قتالا شديدا حتى قتل على صغر سنة ثلاثة منهم وقيل أكثر. قال حميد بن مسلم: خرج علينا غلام كان وجهه شقة قمر وفي يده سيف وعليه قميص وازار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ما أنسى إنها كانت اليسرى، فقال لي عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه فقلت سبحان الله وما تريد بذلك والله لو ضربني ما بسطت إليه يدي دعه يكفكه هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه، فقال والله لأشدن عليه فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف ففلقه ووقع الغلام إلى الأرض لوجهه ونادى يا عماه، فجلى الحسين (ع) كما يجلي الصقر ثم شد شدة ليث أغضب فضرب عمرو بن سعد بن نفيل بالسيف فأنقاها بالساعد فقطعها من لدن المرفق فصاح صيحة سمعها أهل العسكر ثم تنحى عنه الحسين (ع) وحمل الأعداء ليستنقذوه فوطئت الخيل عمرا بأرجلها حتى مات، وانجلت الغبرة فإذا بالحسين (ع) قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه والحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيمة فيك جدك وأبوك، ثم قال ع: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا ينفعك، صوت والله كثر واتره وقل ناصره، ثم حمله ووضع صدره على صدره وكأني انظر إلى رجلي الغلام يخطان الأرض فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي والقتلى من أهل بيته، فسالت عنه فقيل لي هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع، وصاح الحسين (ع) في تلك الحال: صبرا يا بني عمومتي صبرا يا أهل بيتي فو الله لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا وتقدمت أخوة الحسين (ع) عازمين على أن يموتوا دونه فأول من خرج منهم أبو بكر بن علي واسمه عبيد الله وأمه ليلى بنت مسعود من بني نهشل فتقدم وهو يرتجز ويقول:
شيخي علي ذو الفخار الأطول | من هاشم الصدق الكريم المفضل |
هذا حسين ابن النبي المرسل | عنه نحامي بالحسام المصقل |
#تفديه نفسي من أخ مبجل
فلم يزل يقاتل حتى قتله زحر بن بدر النخعي ثم برز من بعده أخوه عمر بن علي فحمل على زحر قاتل أخيه فقتله واستقبل القوم وجعل يضرب بسيفه ضربا منكرا وهو يقول:
خلوا عداة الله خلوا عن عمر | خلوا عن الليث الهصور المكفهر |
يضربكم بسيفه ولا يفر | وليس فيها كالجبان المنحجر |
فلم يزل يقاتل حتى قتل ولما رأى العباس بن علي كثرة القتلى من له قال لإخوته من أبيه وأمه وهم عبد الله وعمره خمس وعشرون سنة وجعفر وعمره تسع عشرة سنة وعثمان وعمره إحدى وعشرون سنة وأمهم أم البنين بنت خالد بن حرام الكلابية واسمها فاطمة: يا بني أمي تقدموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فإنه لا ولد لكم فتقدموا فقاتلوا حتى قتلوا وبرز من بعدهم أخوهم العباس بن علي وهو أكبرهم ويكنى أبا الفضل ويلقب بالسقا وقمر بني هاشم وهو صاحب لواء الحسين، وكان العباس وسيما جميلا يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان في الأرض فيروى أنه خرج يطلب الماء وحمل على القوم وهو يقول:
لا أرهب الموت إذا الموت رقا | حتى أو أرى في المصاليت لقا |
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا | إني أنا العباس أغدو بالسقا |
#ولا أخاف الشر يوم الملتقى
ففرقهم وضربه زيد بن ورقاء على يمينه فقطعها فأخذ السيف بشماله وحمل وهو يرتجز ويقول:
والله أن قطعتم يميني | إني أحامي دائما عن ديني |
وعن إمام صادق اليقين | نجل النبي الطاهر الأمين |
فضربه حكيم بن الطفيل على شماله فقطعها فقال:
يا نفس لا تخشي من الكفار | وابشري برحمة الجبار |
مع النبي السيد المختار | قد قطعوا ببغيهم يساري |
#فاصلهم يا رب حر النار
فضربه آخر بعمود من حديد فقتله ويروى في كيفية قتله غير ذلك وهو أن الحسين (ع) لما اشتد به العطش ركب المسناة يريد الفرات وبين يديه العباس أخوه فاعترضتهما خيل ابن سعد وأحاطوا بالعباس فاقتطعوه عنه فجعل العباس يقاتلهم وحده حتى قتل قتله زيد بن ورقاء الحنفي وحكيم بن الطفيل السنبسي بعد أن أثخن بالجراح فلم يستطع حراكا فبكى الحسين (ع) لقتله بكاء شديدا ولنعم ما قال القائل:
أحق الناس أن يبكى عليه | فتى أبكى الحسين بكربلاء |
أخوه وابن والده علي | أبو الفضل المضرج بالدماء |
ومن واساه لا يثنيه شيء | وجاد له على عطش بماء |
ثم أن الحسين (ع) دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من برز إليه حتى قتل مقتلة عظيمة ثم حمل على الميمنة وهو يقول:
القتل أولي من ركوب العار | والعار أولي من دخول النار |
#والله من هذا وهذا جاري
ثم حمل على الميسرة وهو يقول:
أنا الحسين بن علي | آليت أن لا انثني |
احمي عيالات أبي | امضي على دين النبي |
وخرج غلام من خباء من أخبية الحسين (ع) وهو محمد بن أبي سعيد بن عقيل وفي أذنيه درتان فأخذ بعود من عيدانه وهو مذعور فجعل يلتفت يمينا وشمالا وقرطاه يتذبذبان فحمل عليه هاني بن ثبيت الحضرمي فضربه بالسيف فقتله فصارت أمه شهربانويه تنظر إليه ولا تتكلم كالمدهوشة ونادى الحسين (ع) هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل من موحد يخاف الله فينا هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا فارتفعت أصوات النساء بالعويل فتقدم إلى باب الخيمة وقال لزينب ناوليني ولدي الصغير حتى أودعه فأتى بابنه عبد الله وأمه الرباب بنت أمرئ القيس فأخذه وأجلسه في حجره وأومأ إليه ليقبله فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه فقال لزينب خذيه ثم تلقى الدم بكفيه فلما أملأتا رمى بالدم نحو السماء ثم قال هون علي ما نزل به انه بعين الله ثم حمله حتى وضعه مع قتلى أهل بيته وفي رواية انه حفر له بجفن سيفه ورمله بدمه فدفنه وعطش الحسين (ع) حتى اشتد عليه العطش فدنا ليشرب من الماء فرماه الحصين بن تميم بسهم فوقع في فمه الشريف فجعل يتلقى الدم من فمه ويرمي به إلى السماء وحمل القوم على الحسين (ع) فغلبوه على معسكره وقد اشتد به العطش فركب المسناة يريد الفرات فاعترضته خيل ابن سعد وفيهم رجل من بني أبان بن دارم فقال لهم ويلكم حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكنوه من الماء فحالوا بينه وبين الفرات فقال الحسين (ع) اللهم اظمئه. وفي رواية اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه الشريف فانتزع الحسين (ع) السهم وبسط يديه تحت حنكه فامتلأت راحتاه من الدم فرمى به نحو السماء ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك ثم أن الحسين (ع) عاد إلى مكانه وقد اشتد به العطش وأقبل شمر في جماعة من أصحابه فأحاطوا به فأسرع منهم رجل يقال له مالك بن النسر الكندي فشتم الحسين (ع) وضربه على رأسه الشريف بالسيف وكان على رأسه برنس وقيل قلنسوة فقطع البرنس ووصل السيف إلى رأسه فامتلأ البرنس دما ثم ألقى البرنس أو القلنسوة ودعا بخرقة فشد بها رأسه واستدعى بقلنسوة أخرى فلبسها واعتم عليها وأخذ الكندي البرنس وكان من خز فلما قدم على له أخذ يغسل عنه الدم فقالت له امرأته أسلب ابن رسول الله يدخل بيتي أخرجه عني ورجع شمر ومن معه عن الحسين (ع) إلى مواضعهم فمكثوا هنيهة ثم عادوا إليه فأخذ الحسين يشد عليهم فينكشفون عنه ثم إنهم أحاطوا به فخرج عبد الله بن الحسن بن علي (ع) من عند النساء وهو غلام لم يراهق فلحقته زينب بنت علي (ع) لتحبسه فقال لها الحسين (ع) أحبسيه أختي فامتنع عليها امتناعا شديدا وجاء يشتد إلى عمه الحسين حتى وقف إلى جنبه وقال: لا أفارق عمي، فاهوى أبجر ابن كعب إلى الحسين (ع) بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمي؟! فضربه أبجر بالسيف فاتقاها الغلام بيده فأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة، فنادى الغلام يا عماه أو يا أماه فأخذه الحسين (ع) فضمه إلى صدره وقال يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فان الله يلحقك بآبائك الصالحين برسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وحمزة وجعفر والحسن صلى الله عليهم أجمعين، فرماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمه.
ولما بقي الحسين (ع) في ثلاثة أو أربعة من أصحابه وفي رواية رهط من له قال أبغوني ثوبا لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي لئلا أجرد منه بعد قتلي فإني مقتول مسلوب فأتى بتبان قال لا ذاك لباس من ضربت عليه الذلة ولا ينبغي لي أن ألبسه وفي رواية أنه قال هذا لباس أهل الذمة فأخذ ثوبا خلقا فخرقه وجعله تحت ثيابه وفي رواية انه أتى بشيء أوسع منه دون السراويل وفوق التبان فلبسه فلما قتل جردوه منه ثم استدعى بسراويل من حبرة يمانية يلمع فيها البصر ففزرها ولبسها وإنما فزرها لئلا يلبسها بعد قتله فلما قتل سلبها منه أبجر بن كعب وتركه مجردا وأقبل الحسين (ع) على القوم يدفعهم عن نفسه والثلاثة الذين معه يحمونه حتى قتل الثلاثة وبقي وحده وقد أثخن بالجراح في رأسه وبدنه فجعل يضاربهم بسيفه وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا قال بعض الرواة فو الله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه اربط جاشا ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله وإن كانت الرجالة لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عن يمينه وعن شماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب ولقد كان يحمل فيهم وقد تكلموا ثلاثين ألفا فينهزمون من بين يديه كإنهم الجراد المنتشر ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله فلما رأى شمر ذلك استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجالة وأمر الرماة أن يرموه فرشقوه بالسهام حتى صار كالقنفذ فأحجم عنهم فوقفوا بإزائه وجاء شمر في جماعة من أصحابه فحالوا بينه وبين رحله الذي فيه ثقله وعياله فصاح الحسين (ع) ويلكم يا شيعة آل سفيان أن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم أن كنتم عربا كما تزعمون فناداه شمر ما تقول يا ابن فاطمة فقال أقول إني أقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم وجهالكم وطغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا فقال شمر لك ذلك يا ابن فاطمة ثم صاح إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه فلعمري هو كفؤ كريم فقصدوه بالحرب وجعل شمر يحرضهم على الحسين (ع) والحسين يحمل عليهم فينكشفون عنه وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد وكلما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتى اجلوه عنه ولما أثخن بالجراح وبقي كالقنفذ طعنه صالح بن وهب المزني على خاصرته طعنة فسقط عن فرسه على الأرض على خده الأيمن ثم قام وخرجت أخته زينب إلى باب الفسطاط وهي تنادي وا أخاه وا سيداه وا أهل بيتاه وقد دنا عمر بن سعد فقالت يا عمر: أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على خديه ولحيته وصرف وجهه عنها ولم يجبها بشيء فنادت ويلكم أما فيكم مسلم، فلم يجبها أحد بشيء وقاتل (ع) راجلا قتال ألفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترص العورة ويشد على الخيل وهو يقول: أعلى قتلي تجتمعون أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله، الله اسخط عليكم لقتله مني وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون أما والله لو قتلتموني لألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم ولم يزل يقاتل حتى أصابه اثنان وسبعون جراحة فوقف يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال فبينا هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه فقال بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفع رأسه إلى السماء وقال إلهي تعلم إنهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره فانبعث الدم كأنه ميزاب فضعف ووقف وتحاماه الناس فمكث طويلا من النهار وكلما جاءه أحد انصرف عنه كراهية أن يلقى الله بدمه وصاح شمر بالفرسان والرجالة ويحكم ما تنتظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فحملوا عليه من كل جانب فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى وضرب الحسين (ع) زرعة فصرعه وضربه آخر على عاتقه المقدس ضربة كبا بها لوجهه وكان قد أعيا وجعل يقوم ويكبو وطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته ثم انتزع الرمح فطعنه في بواني صدره ورماه بسهم فوقع في نحره فسقط وجلس قاعدا فنزع السهم من نحره وقرن كفيه جميعا فكلما امتلأنا من دمائه خضب بها رأسه ولحيته وهو يقول: هكذا ألقى الله مخضبا بدمي مغصوبا علي حقي.
مقتله
قال هلال بن نافع إني لواقف مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخ ابشر أيها الأمير فهذا شمر قد قتل الحسين فخرجت بين الصفين فوقفت عليه وانه ليجود بنفسه فو الله ما رأيت قتيلا مخضبا بدمه أحسن منه ولا أنور وجها ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيأته عن الفكرة في قتله فاستسقى في تلك الحال فسمعت رجلا يقول والله لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها فسمعته يقول أنا أرد الحامية فاشرب من حميمها لا والله بل أرد على جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأشرب من ماء غير آسن وأشكو إليه ما ارتكبتم مني وفعلتم بي فغضبوا بأجمعهم حتى كان الله لم يجعل في قلب أحد منهم من الرحمة شيئا.
وقال عمر بن سعد لرجل عن يمينه انزل ويحك إلى الحسين فأرحه وقيل بل قال سنان لخولي بن يزيد احتز رأسه فبدر خولي ليحتز رأسه فضعف وارعد فقال له سنان وقيل شمر فت الله في عضدك ما لك ترعد ونزل سنان وقيل شمر إليه فذبحه ثم احتز رأسه الشريف وهو يقول إني لاحتز رأسك وأعلم أنك السيد المقدم وابن رسول الله وخير الناس أبا وأما ثم دفع الرأس الشريف إلى خولي فقال أحمله إلى الأمير عمر بن سعد، وفي ذلك يقول الشاعر:
فأي رزية عدلت حسينا | غداة تبيره كفا سنان |
وجاءت جارية من ناحية خيم الحسين (ع) فقال رجل يا أمة الله أن سيدك قتل قالت الجارية فأسرعت إلى سيدتى وأنا أصيح فقمن في وجهي وصحن.
أسماء من اتصلت بنا أسماؤهم
من أنصار الحسين (ع) الذين قتلوا معه من بني هاشم أولاد أمير المؤمنين (ع)
1-أبو بكر بن علي شك في قتله
2-عمر بن علي
3-محمد الأصغر بن علي
4-عبد الله بن علي
5-العباس بن علي
6-محمد بن العباس بن علي
7-عبد الله بن العباس بن علي
8-عبد الله الأصغر
9-جعفر بن علي
1- عثمان بن علي وفي بعضهم خلاف أولاد الحسن (ع)
11-القاسم بن الحسن
12-أبو بكر بن الحسن
13-عبد الله بن الحسن
14-بشر بن الحسن أولاد الحسين (ع)
15-علي بن الحسين الأكبر
16-عبد الله الرضيع
17-إبراهيم بن الحسين ذكره ابن شهراشوب وذكر زيادة عن ذلك أولاد عبد الله بن جعفر
18-محمد بن عبد الله بن جعفر
19-عون بن عبد الله بن جعفر
20-عبيد الله بن عبد الله بن جعفر أولاد عقيل بن أبي طالب
21-مسلم بن عقيل
22-جعفر بن عقيل
23-جعفر بن محمد بن عقيل ذكره ابن شهراشوب
24-عبد الرحمن بن عقيل
25-عبد الله الأكبر بن عقيل
26-عبد الله بن مسلم بن عقيل
27-عون بن مسلم بن عقيل
28-محمد بن مسلم بن عقيل
29-محمد بن أبي سعيد بن عقيل من لم يعرف بعينه
30-أحمد بن محمد الهاشمي ذكره ابن شهراشوب. ويلاحظ انه لم يكن معه من ولد العباس ولا غيرهم أحد إلا احمد هذا.
أسماء من اتصلت بنا أسماؤهم
من أنصار الحسين (ع) من غير بني هاشم مرتبة على حروف المعجم
1-إبراهيم بن الحصين الأسدي
2-أبو الحتوف بن الحارث الأنصاري
3-أبو عامر النهشلي
4-الأدهم بن أمية العبدي
5-أسلم التركي مولى الحسين (ع)
6-أمية بن سعد الطائي
7-أنس بن الحارث الكاهلي صحابي
8-أنيس بن معقل الأصبحي
9-برير بن خضير الهمداني
10-بشر بن عبد الله الحضرمي
11-بكر بن حي التيمي
12-جابر بن الحجاج التيمي
13-جبلة بن علي الشيباني
14-جنادة بن الحارث السلماني
15-جنادة بن كعب الأنصاري
16-جندب بن حجير الخولاني
17-جون مولى أبي ذر
18-جوين بن مالك التميمي
19 -لحارث بن أمرئ القيس الكندي
20-احارث بن نبهان مولى حمزة
21-الباب بن الحارث
22-الحباب بن عامر الشعبي
23-حبشي بن قاسم النهمي
24-حبيب بن مظهر الأسدي
25-الحجاج بن بدر السعدي
26-الحجاج بن مسروق الجعفي
27-الحر بن يزيد الرياحي
28-الحلاس بن عمرو الراسبي
29-حنظلة بن أسعد الشبامي
30-حنظلة بن عمرو الشيباني
31-رافع مولى مسلم الأزدي
32-زاهر بن عمرو الكندي مولى عمرو بن الحمق
33-زهير بن بشر الخثعمي
34-زهير بن سليم الأزدي
35-زهير بن القين البجلي
36-زياد بن عريب الصائدي
37-سالم مولى بني المدينة الكلبي
38-سالم مولى عامر العبدي
39-سعد بن الحارث الأنصاري
40-سعد مولى علي بن أبي طالب (ع)
41-سعد مولى عمرو بن خالد الصيداوي
42-سعيد بن عبد الله الحنفي
43-سلمان بن مضارب البجلي
44-سليمان مولى الحسين (ع)
45-سوار بن منعم النهمي
46-سويد بن عمرو بن أبي المطاع
47-سيف بن الحارث بن سريع الجابري
48-سيف بن مالك العبدي
49-شبيب مولى الحارث الجابري
50-شوذب مولى بني شاكر
51-لضرغامة بن مالك
52-عائذ بن مجمع العائذي
53-عابس بن أبي شبيب الشاكري
54-عامر بن حسان بن شريح بن سعد بن حارثة بن لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن بشامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن قظرة بن طئ. ذكر النجاشي في ترجمة حفيده أحمد بن عامر انه قتل مع الحسين (ع) وهو غير عامر بن مسلم العبدي الأتى فذاك ابن مسلم وهذا ابن حسان وذاك عبدي وهذا طائي
55-عامر بن مسلم العبدي
56-عباد بن المهاجر الجهني
57-عبد الأعلى بن يزيد الكلبي
58-عبد الرحمن الأرحبي
59-عبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري
60-عبد الرحمن بن عروة الغفاري
61-عبد الرحمن بن مسعود التيمي
62-عبد الله بن أبي بكر. قال الجاحظ في كتاب الحيوان وهو شهيد من شهداء يوم الطف
63-عبد الله بن بشر الخثعمي
64-عبد الله بن عروة الغفاري
65-عبد الله بن عمير بن جناب الكلبي
66-عبد الله بن يزيد العبدي
67-عبيد الله بن يزيد العبدي
68-عقبة بن سمعان
69-عقبة بن الصلت الجهني
70-عمارة بن صلخب الأزدي
71-عمران بن كعب بن حارثة الأشجعي
72-عمار بن حسان الطائي
73-عمار بن سلامة الدالاني
74-عمرو بن عبد الله الجندعي
75-عمرو بن خالد الأزدي
76-عمرو بن خالد الصيداوي
77-عمرو بن قرظة الأنصاري
78-عمرو بن مطاع الجعفي
79-عمرو بن جنادة الأنصاري
80-عمرو بن ضبيعة الضبعي
81-عمرو بن كعب أبو ثمامة الصائدي
82-ارب مولى الحسين (ع)
83-قسط بن زهير التغلبي
84-القاسم بن حبيب الأزدي
85-كردوس التغلبي
86-كنانة بن عتيق التغلبي
87-مالك بن ذودان
88-مالك بن عبد الله بن سريع الجابري
89-مجمع الجهني
90-مجمع بن عبيد الله العائذي
91-محمد بن بشير الحضرمي
92-مسعود بن الحجاج التيمي
93-مسلم بن عوسجة الأسدي صحابي
94-مسلم بن كثير الأزدي
95-مقسط بن زهير التغلبي
96-منجح مولى الحسن (ع)
97-الموقع بن ثمامة الأسدي
98-نافع بن هلال الجملي
99-نصر مولى علي (ع)
100-النعمان بن عمرو الراسبي
101-نعيم بن عجلان الأنصاري
102-واضح الرومي مولى الحارث السلماني
103-وهب بن حباب الكلبي
104-يزيد بن ثبيط العبدي
105-يزيد بن زياد بن مهاصر الكندي
106-يزيد بن مغفل الجعفي
وإذا ضممناهم إلى الثلاثين من بني هاشم كانوا 136 وإذا ضممنا إليهم قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الله بن بقطر وهاني بن عروة كانوا 139.
الأمور المتأخرة عن قتله
وأقبل القوم على سلب الحسين (ع) فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي ووجد في قميصه (ع) مائة وبضع عشرة ما بين رمية وطعنة وضربة وقيل وجد في ثيابه مائة وعشرون رمية بسهم وفي جسده الشريف ثلاث وثلاثون طعنة برمح وأربع وثلاثون ضربة بسيف وعن الصادق (ع) انه وجد بالحسين (ع) ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة وعن الباقر (ع) انه وجد به ثلثمائة وبضع وعشرون جراحة وفي رواية ثلثمائة وستون جراحة وأخذ سراويله أبجر بن كعب التميمي وأخذ ثوبه أخ لإسحاق بن حوية وأخذ قطيفة له كانت من خز قيس بن الأشعث بن قيس وأخذ عمامته الأخنس بن مرثد وقيل جابر بن يزيد وأخذ برنسه مالك بن النسر وأخذ نعليه الأسود بن خالد وأخذ درعه البتراء عمر بن سعد فلما قتل عمر أعطاها المختار لقاتله وأخذ سيفه الفلافس النهشلي من بني دارم وقيل جميع بن الخلق الأودي وقيل الأسود بن حنظلة التميمي وأخذ القوس الرجيل بن خيثمة الجعفي وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي وقطع إصبعه مع الخاتم ومال الناس على الفرش والورس والحلل والإبل فانتهبوها وانتهبوا رحله وثقله وسلبوا نساءه.
(قال) حميد بن مسلم: رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين (ع) في فسطاطهن وهم يسلبونهن أخذت سيفا وأقبلت نحو الفسطاط وقالت يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول الله لا حكم إلا لله يا لثارات رسول الله فأخذها زوجها وردها إلى رحله. وانتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين (ع) وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض وكان مريضا بالذرب وقد أشرف على الموت ومع شمر جماعة من الرجالة فقالوا له ألا نقتل هذا العليل فأراد شمر قتله فقال له حميد بن مسلم: سبحان الله أتقتل الصبيان إنما هو صبي وإنه لما به فلم يزل يدفعهم عنه حتى جاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين فقال لأصحابه لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء ولا تتعرضوا لهذا الغلام المريض ومن أخذ من متاعهن شيئا فليردده فلم يرد أحد شيئا ثم إنهم أشعلوا النار في الفسطاط فخرجت منه النساء باكيات مسلبات ونادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل ظهره وصدره، فانتدب منهم عشرة وهم: إسحاق بن حوية الذي سلب قميص الحسين (ع). والاخنس بن مرثد الذي سلب عمامة الحسين (ع). وحكيم بن الطفيل الذي اشترك في قتل العباس (ع). وعمرو بن صبيح الصيداوي الذي رمى عبد الله بن مسلم بسهم فسمر يده في جبهته. ورجاء بن منقذ العبدي. وسالم بن خيثمة الجعفي. وصالح بن وهب الجعفي. الذي طعن الحسين على خاصرته فسقط عن فرسه. وواخط بن غانم وهاني بن ثبيت الحضرمي الذي قتل جماعة من الطالبيين. وأسيد بن مالك فداسوا الحسين (ع) بحوافر خيلهم حتى رضوا ظهره وصدره وجاء هؤلاء العشرة حتى وقفوا على ابن زياد فقال أسيد بن مالك أحدهم:
نحن رضضنا الصدر بعد الظهر | بكل يعبوب شديد الأسر |
فقال ابن زياد من أنتم قالوا نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنا جناجن صدره فأمر لهم بجائزة يسيرة قال أبو عمرو الزاهد فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعا أولاد زنا وسرح عمر بن سعد من يومه ذلك وهو يوم عاشورا برأس الحسين (ع) مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد قال الطبري وابن الأثير فوجد القصر مغلقا فأتى بالرأس إلى منزله فوضعه تحت إجانة ودخل فراشه وقال لامرأته النوار جئتك بغنى الدهر هذا رأس الحسين (ع) معك في الدار فقالت ويلك جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت وقامت من الفراش فخرجت إلى الدار وخولي هذا قتله أصحاب المختار واحرقوه بالنار وكان مختفيا في مخرجه فدلت عليه امرأته الأخرى العيوف بنت مالك وكانت تعاديه منذ جاء برأس الحسين (ع) فلما سألوها عنه قالت لا أدري وأشارت بيدها إلى المخرج وأمر ابن سعد برؤوس الباقين من أصحاب الحسين وأهل بيته فقطعت وسرح بها شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث بن قيس وعمرو بن الحجاج فاقبلوا حتى قدموا بها على ابن زياد وروي أن الرؤوس كانت سبعين رأسا وروي ثمانية وسبعين رأسا فاقتسمتها القبائل لتتقرب بها إلى ابن زياد وإلى يزيد لعنهما الله تعالى فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قيس بن الأشعث وجاءت هوازن باثني عشر رأسا. وقيل بعشرين وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن. وجاءت تميم بسبعة عشرة رأسا. وجاءت بنو أسد بستة عشر رأسا. وقيل بستة أرؤس. وجاءت مدحج بسبعة أرؤس. وجاء سائر الناس بثلاثة عشرة رأسا وقيل بسبعة ثم أن ابن سعد صلى على القتلى من أصحابه ودفنهم وترك الحسين (ع) وأصحابه بغير دفن وأقام بقية اليوم العاشر واليوم الثاني إلى زوال الشمس ثم نادى في الناس بالرحيل وتوجه نحو الكوفة وحمل معه نساء الحسين (ع) وبناته وأخواته ومن كان معه من الصبيان وفيهم علي بن الحسين زين العابدين (ع) قد نهكته العلة والحسن بن الحسن المثنى وكان قد واسى عمه في القتال ونقل من المعركة وقد أثخن بالجراح وبه رمق فبرئ وقال ابن شهراشوب أسر مقطوعة يده واخواه زيد وعمر أبناء الحسن السبط (ع) وتدل بعض الروايات على وجود الباقر (ع) معهم وساقوهم كما يساق سبي الروم فقال النسوة بحق الله إلا ما مررتم بنا على مصرع الحسين (ع) فمروا بهم على الحسين (ع) وأصحابه وهم صرعى فلما نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن ثم أن سكينة بنت الحسين (ع) اعتنقت جسد أبيها فاجتمع عدة من الاعراب حتى جروها عنه. ولما رحل ابن سعد عن كربلا خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية إلى الحسين (ع) وأصحابه فصلوا على تلك الجثث الطواهر ودفنوها فدفنوا الحسين (ع) حيث قبره الآن ودفنوا ابنه عليا الأكبر عند رجليه وحفروا للشهداء من أهل بيته ولأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين (ع) فجمعوهم فدفنوهم جميعا في حفيرة واحدة وسووا عليهم التراب قال المسعودي ودفن أهل الغاضرية وهم قوم من بني عامر من بني أسد الحسين وأصحابه بعد قتلهم بيوما في اليوم الذي ارتحل فيه ابن سعد من كربلاء فإنه بقي في كربلا إلى زوال اليوم الحادي عشر كما مر أما إذا كانوا جاءوا في اليوم الثاني من رحلته فيكون الدفن من بعد القتل بيومين ويقال أن اقربهم دفنا إلى الحسين ولده الأكبر (ع) فيزورهم الزائر من عند قبر الحسين (ع) ويومي إلى الأرض التي نحو رجليه بالسلام عليهم ودفنوا العباس بن علي (ع) في موضعه الذي قتل فيه على المسناة بطريق الغاضرية حيث قبره الآن ودفنوا بقية الشهداء حول الحسين (ع) في الحائر قال المفيد عليه الرحمة ولسنا نحصل لهم أجداثا على التحقيق والتفصيل إلا أنا لا نشك أن الحائر محيط بهم رضي الله عنهم وأرضاهم ويقال أن بني أسد دفنوا حبيب بن مظهر في قبر وحده عند رأس الحسين (ع) حيث قبره الآن اعتناء به لأنه أسدي وان بني تميم حملوا الحر بن يزيد الرياحي على نحو ميل من الحسين (ع) ودفنوه هناك حيث قبره الآن اعتناء به أيضا ولم يذكر ذلك المفيد ولكن اشتهار ذلك وعمل الناس عليه ليس بدون مستند وسار ابن سعد بسبايا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قاربوا الكوفة اجتمع لها للنظر إليهن فأشرفت امرأة من الكوفيات وقالت من أي الأسارى أنتن؟ فقلن لها نحن أسارى آل محمد صلى الله عليه وسلم فنزلت من سطحها فجمعت لهن ملاء وازرا ومقانع. وهذه حال الزمان ونوائبه فزينب العقيلة ومن معها من عقائل آل أبي طالب كن بالأمس في الكوفة مقر خلافة أبيهن أمير المؤمنين معززات مجللات يدخلن اليوم الكوفة بزي الأسارى وتجمع لهن إحدى الكوفيات الملاء والازر والمقانع ليسترن بها عن أعين النظار:
لا اضحك الله سن الدهر أن ضحكت | وآل احمد مظلومون قد قهروا |
خطبة زينب (ع) بالكوفة
قال خزيم بن بشر الأسدي: نظرت إلى زينب بنت علي (ع) يومئذ فلم أر خفرة أنطق منها كأنها تفرع عن لسان أمير المؤمنين (ع) وقد أومات إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس ثم قالت: الحمد لله والصلاة على محمد وآله الطاهرين أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر أتبكون فلا رقات الدمعة ولا قطعت الرنة إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون ايمانكم دخلا بينكم وهل فيكم إلا الصلف النطف والصدر الشنف إلا الصلف والعجب والشنف والكذب وملق الإماء وغمز الأعداء أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة إلا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون وتنتحبون أي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ حيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم محجتكم ومدرة سنتكم إلا ساء ما تزرون وبعدا لكم وسحقا فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم فرثتم وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم وأي حرمة له انتهكتم لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سواء فقماء نأناء وفي رواية خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملء السماء أفعجبتم أن مطرت السماء دما فلعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار وان ربكم لبالمرصاد. قال فو الله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم ورأيت شيخا واقفا إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته وهو يقول بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى.
خطبة علي بن الحسين (ع) بالكوفة
ثم أن زين العابدين (ع) أوما إلى الناس أن اسكتوا فسكتوا فقام قائما فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما هو له فصلى عليه ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا أيها الناس ناشدتكم بالله هل تعلمون انكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقتلتموه وخذلتموه فتبا لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم بآية عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي. فارتفعت أصوات الناس بالبكاء من كل ناحية وقال بعضهم لبعض هلكتم وما تعلمون فقال (ع): رحم الله أمرا قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله ورسوله وأهل بيته فان لنا في رسول الله أسوة حسنة فقالوا بأجمعهم نحن كلنا سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك فمرنا بأمرك يرحمك الله فأنا حرب لحربك وسلم لسلمك لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا فقال (ع) هيهات هيهات أيتها الغدرة المكرة حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل كلا ورب الراقصات فان الجرح لما يندمل قتل أبي بالأمس وأهل بيته معه ولم ينسني ثكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وثكل أبي وبني أبي ووجده بين لهأتى ومرارته بين حناجري وحلقي وغصصه تجري في فراش صدري ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا ثم قال:
لا غرو أن قتل الحسين فشيخه | قد كان خيرا من حسين وأكرما |
فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي | أصاب حسينا كان ذلك أعظما |
قتيل بشط النهر روحي فداؤه | جزاء الذي أرداه نار جهنما |
ثم قال رضينا منكم رأسا برأس فلا لنا ولا علينا.
عند ابن زياد
وجاء سنان بن انس النخعي إلي باب ابن زياد فقال:
أوقر ركابي فضة أو ذهبا | إني قتلت السيد المحجبا |
قتلت خير الناس أما وأبا | وخيرهم إذ ينسبون نسبا |
فلم يعطه ابن زياد شيئا وقيل أن سنانا أنشد هذه الأبيات على باب فسطاط عمر بن سعد فخذفه بالقضيب وقال أومجنون أنت والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك وقيل المنشد لها عند ابن سعد وهو شمر وقيل أن قاتل الحسين (ع) انشدها عند يزيد لعنه الله والله أعلم ثم أن ابن زياد لعنه الله جلس في قصر الإمارة وأذن للناس إذنا (ع) أما وأمر بإحضار رأس الحسين (ع) فوضع بين يديه فجعل ينظر إليه ويبتسم وكان في يده قضيب فجعل يضرب به ثناياه ويقول إنه كان حسن الثغر وقال لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبد الله ثم قال: يوم بيوم بدر وكان عنده أنس بن مالك فبكى وقال كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شيخ كبير فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين فو الله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصيه كثرة يقبلهما ثم انتحب باكيا، فقال له ابن زياد ابكي الله عينيك أتبكي لفتح الله والله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، فنهض وهو يقول: أيها الناس أنتم العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة والله ليقتلن خياركم وليستعبدن شراركم فبعدا لمن يرضى بالذل والعار، ثم قال يا ابن زياد لأحدثنك حديثا أغلظ عليك من هذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اقعد حسنا على فخذه اليمنى وحسينا على فخذه اليسرى ثم وضع يديه على يافوخيهما ثم قال اللهم إني استودعك إياهما وصالح المؤمنين فكيف كانت وديعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك يا ابن زياد.
زينب وزين العابدين
وأدخل نساء الحسين (ع) وصبيانه على ابن زياد فلبست زينب (ع) أرذل ثيابها وتنكرت ومضت حتى جلست ناحية من القصر وحف بها إماؤها، فقال ابن زياد من هذه، فلم تجبه فأعاد الكلام ثانيا وثالثا يسأل عنها فلم تجبه فقال له بعض أمائها هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقبل عليها ابن زياد وخاطبها بما فيه الشماتة والجفاء والغلظة والجرأة على الله ورسوله كما يقتضيه لؤم عنصره وخبث طينته وأراد تصديق كونه دعيا ابن دعي، فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم واكذب أحدوثتكم، فأجابته زينب (ع) بما أخرسه وأخزاه وفضحه فقالت: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وطهرنا من الرجس تطهير إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا، فقال كيف رأيت فعل الله بأخيك وأهل بيتك، فقالت ما رأيت إلا جميلا هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاجون إليه وتختصمون عنده فانظر لمن الفلج يومئذ هبلتك أمك يا ابن مرجانة. فغضب واستشاط حين أعياه الجواب، وكأنه هم بها فقال له عمرو بن حريث: أيها الأمير إنها امرأة والمرأة لا تؤأخذ بشيء من منطقها ولا تذم على خطيئتها. فلجا ابن زياد حينئذ إلى البذاءة وسوء القول مما هو جدير به فقال لها: لقد شفى الله نفسي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك، فرقت زينب وبكت وقالت له: لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فإن كان هذا شفاءك فقد اشتفيت، وعرض عليه زين العابدين علي بن الحسين (ع) فقال من أنت؟ قال علي بن الحسين فقال: أليس قد قتل الله علي بن الحسين، فقال له علي: قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس، فقال بل الله قتله، فقال علي بن الحسين: الله يتوفى الأنفس حين موتها، فغضب ابن زياد وقال وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للرد علي اذهبوا به فاضربوا عنقه، فتعلقت به عمته زينب وقالت يا ابن زياد حسبك من دمائنا واعتنقته وقالت لا والله لا أفارقه فان قتلته فاقتلني معه فقال لها علي اسكتي يا عمة حتى أكلمه، ثم أقبل عليه فقال: أبالقتل تهددني يا ابن زياد أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة. ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين (ع) وأهل بيته فحملوا إلى دار بجنب المسجد الأعظم فقالت زينب بنت علي (ع) لا تدخلن علينا عربية إلا أم ولد أو مملوكة فإنهن سبين كما سبينا، ولما أصبح ابن زياد أمر برأس الحسين (ع) فطيف به في سكك الكوفة كلها وقبائلها ولما فرع القوم من التطواف به في الكوفة ردوه إلى باب القصر. ثم أن ابن زياد نصب الرؤوس كلها بالكوفة على الخشب وهي أول رؤوس نصبت في الإسلام بعد رأس مسلم بن عقيل بالكوفة.
ابن زياد يبشر يزيد وعمرو بن سعيد
(وكتب) ابن زياد إلى يزيد يخبره بقتل الحسين (ع) وخبر أهل بيته وتقدم إلى عبد الملك بن الحارث السلمي فقال انطلق حتى تأتى عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة (وكان أميرا عليها وهو من بني أمية) فتبشره بقتل الحسين (ع) وقال لا يسبقنك الخبر إليه قال عبد الملك فركبت راحلتي وسرت نحو المدينة فلقيني رجل من قريش فقال ما الخبر؟ قلت الخبر عند الأمير تسمعه قال أنا لله وأنا إليه راجعون قتل والله الحسين ولما دخلت على عمرو بن سعيد قال: ما وراءك؟ قلت ما يسر الأمير قتل الحسين بن علي، فقال أخرج فناد بقتله، فناديت فلم أسمع واعية قط مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن علي حين سمعوا بقتله، فدخلت على عمرو بن سعيد فلما رآني تبسم إلي ضاحكا ثم تمثل بقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي وقيل إنه لما سمع أصوات نساء بني هاشم ضحك وتمثل بذلك فقال:
عجت نساء بني زياد عجة | كعجيج نسوتنا غداة الأرنب |
ثم قال عمرو: هذه واعية بواعية عثمان ثم صعد المنبر وخطب الناس واعلمهم قتل الحسين (ع) وقال في خطبته إنها لدمة بلدمة وصدمة بصدمة كم خطبة بعد خطبة وموعظة بعد موعظة حكمة بالغة فما تغني النذر والله لوددت أن رأسه في بدنه وروحه في جسده أحيانا كان يسبنا ونمدحه ويقطعنا ونصله كعادتنا وعادته ولم يكن من أمره ما كان ولكن كيف نصنع بمن سل سيفه يريد قتلنا إلا أن ندفعه عن أنفسنا فقام عبد الله بن السائب فقال لو كانت فاطمة حية فرأت رأس الحسين (ع) لبكت عليه فجبهه عمرو بن سعيد وقال نحن أحق بفاطمة منك أبوها عمنا وزوجها أخونا وابنها ابننا لو كانت فاطمة حية لبكت عينها وحرت كبدها وما لامت من قتله ودفعه عن نفسه.
إلى يزيد
وأما يزيد فإنه لما وصله كتاب ابن زياد أجابه عليه يأمره بحمل رأس الحسين (ع) ورؤوس من قتل معه وحمل اثقاله ونسائه وعياله فأرسل ابن زياد الرؤوس مع زحر بن قيس وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان في جماعة من أهل الكوفة إلى يزيد. ثم أمر ابن زياد بنساء الحسين (ع) وصبيانه فجهزوا وأمر بعلي بن الحسين (ع) فغل بغل إلى عنقه وفي رواية في يديه ورقبته ثم سرح بهم في أثر الرؤوس مع محفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن وحملهم على الأقتاب وساروا بهم كما يسار بسبايا الكفار فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرؤوس فلم يكلم علي بن الحسين (ع) أحدا منهم في الطريق بكلمة حتى بلغوا الشام. فلما انتهوا إلى باب يزيد رفع محفر بن ثعلبة صوته فقال هذا محفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة فأجابه علي بن الحسين (ع) ما ولدت أم محفر أشر والأم.
قال الزهري لما جاءت الرؤوس كان يزيد في منظرة له على جيرون فانشد لنفسه:
لما بدت تلك الحمول وأشرقت | تلك الشموس على ربي جيرون |
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح | فلقد قضيت من الغريم ديوني |
وفي جواهر المطالب لأبي البركات شمس الدين محمد الباغندي كما في نسخة مخطوطة في المكتبة الرضوية المباركة: قال ابن القفطي في تاريخه أن السبي لما ورد على يزيد بن معاوية خرج لتلقيه فلقي الأطفال والنساء من ذرية علي والحسن والحسين والرؤوس على اسنة الرماح وقد أشرفوا على ثنية العقاب فلما رآهم أنشد:
لما بدت تلك الحمول وأشرفت | تلك الرؤوس على ربى جيرون |
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل | فلقد قضيت من الرسول ديوني |
يعني بذلك انه قتل الحسين بمن قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر مثل عتبة جده ومن مضى من أسلافه. وقائل مثل هذا بريء من الإسلام ولا شك في كفره وقال في موضع آخر قال بعض أهل التاريخ: هذا كفر صريح لا يقوله مقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم من شمر فقالت له لي إليك حاجة فقال ما حاجتك قالت إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال فأمر في جواب سؤالها أن تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغيا منه وكفرا وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي. وجاء شيخ فدنا من نساء الحسين وعياله فظنهم من سبايا الكفار وقال الحمد لله الذي لككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم فقال له علي بن الحسين يا شيخ هل قرأت القرآن قال: نعم قال فهل عرفت هذه الآية قل
{لا أسألكم عليه اجرا إلا المودة في القربى} قال: قد قرأت ذلك فقال له: علي فنحن القربى يا شيخ فهل قرأت وآت ذا القربى حقه فقال: قد قرأت ذلك فقال: علي فنحن القربى يا شيخ فهل قرأت هذه الآية
{واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه والرسول ولذي القربى} قال: نعم فقال له: علي فنحن القربى يا شيخ ولكن هل قرأت:
{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} قال: قد قرأت ذلك فقال علي: فنحن أهل البيت الذين اختصنا الله بآية الطهارة يا شيخ قال: فبقي الشيخ ساكتا نادما على ما تكلم به وقال: بالله أنكم هم فقال علي بن الحسين (ع): تالله أنا لنحن هم من غير شك وحق جدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا لنحن هم فبكى الشيخ ورمى عمامته ثم رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم إني أبرأ إليك من عدو آل محمد من جن وأنس ثم قال هل لي من توبة فقال له نعم أن تبت تاب الله عليك وأنت معنا فقال أنا تائب فبلغ يزيد خبره فأمر بقتله فقتل ثم أن يزيد دعا بأشراف أهل الشام فأجلسهم حوله.
عند يزيد
ثم أدخل ثقل الحسين (ع) ونساؤه ومن تخلف من له على يزيد وهم مقرنون في الحبال وزين العابدين (ع) مغلول فلما وقفوا بين يديه على تلك الحال قال له علي بن الحسين (ع) أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله صلى الله عليه وسلم لو رآنا على هذه الصفة فلم يبق في القوم أحد إلا وبكى فأمر يزيد بالحبال فقطعت وأمر بفك الغل عن زين العابدين (ع).
ثم وضع رأس الحسين (ع) بين يديه وأجلس النساء خلفه لئلا ينظرن إليه فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لينظرا الرأس وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس فلما رأين الرأس صحن فصاح نساء يزيد وولولت بنات معاوية فقالت فاطمة بنت الحسين (ع) أبنات رسول الله سبايا يا يزيد فبكى الناس وبكى أهل داره حتى علت الأصوات وأما زينب (ع) فإنها لما رأته نادت بصوت حزين يقرح القلوب يا حسيناه يا حبيب رسول الله يا ابن مكة ومنى يا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء يا ابن بنت المصطفى فأبكت والله كل من كان حاضرا في المجلس ويزيد ساكت، ثم جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين (ع) وتنادي يا حبيباه يا سيد أهل بيتاه يا ابن محمداه يا ربيع الأرامل واليتامى يا قتيل أولاد الأدعياء فأبكت كل من سمعها ولما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد وفيها رأس الحسين (ع) جعل يتمثل بقول الحصين ابن الحمام المري:
صبرنا وكان الصبر منا سجية | بأسيافنا تفرين هاما ومعصما |
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت | قواضب في ايماننا تقطر الدما |
نفلقه أما من رجال أعزة | علينا وهم كانوا أعق وأظلما |
ودعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (ع) ثم قال يوم بيوم بدر. وكان عنده أبو برزة الأسلمي فقال ويحك يا يزيد أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة أشهد لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول أنتما سيدا شباب أهل الجنة فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا فغضب يزيد وأمر بإخراجه فاخرج سحبا. وفي جواهر المطالب للباغندي أنه لما وفد أهل الكوفة بالسبايا والرؤوس ودخلوا مسجد دمشق أتاهم مروان بن الحكم فسألهم كيف صنعوا فاخبروه ثم قام عنهم فأتى يحيى بن الحكم أخو مروان فسألهم فأعادوا له الكلام فقال حجبتم عن محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيمة وقال يحيى بن الحكم وكان جالسا مع يزيد متمثلا:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة | من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل |
سمية اضحى نسلها عدد الحصى | وبنت رسول الله ليس لها نسل |
فضرب يزيد في صدره وقال اسكت. وفي رواية أنه أسر إليه وقال سبحان الله أفي هذا الموضع ما يسعك السكوت قال الباغندي وذكر الحافظ ابن عساكر أن يزيد لما وضع الرأس بين يديه جعل يتمثل بأبيات ابن الزبعري وزاد يزيد فيها بيتين الأخيرين كما رواه سبط بن الجوزي عن الشعبي وينبغي أن يكون زاد فيها البيت الثاني أيضا ولكنه غير مذكور في رواية ابن الجوزي:
ليت أشياخي ببدر شهدوا | جزع الخزرج من وقع الأسل |
فأهلوا واستهلوا فرحا | ثم قالوا يا يزيد لا تشل |
قد قتلنا القرم من ساداتهم | وعدلناه ببدر فاعتدل |
لعبت هاشم بالملك فلا | خبر حاء ولا وحي نزل |
لست من خندف أن لم انتقم | من بني أحمد ما كان فعل |
خطبة زينب (ع) بالشام
فقامت زينب بنت علي (ع) فقالت:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين. صدق الله سبحانه كذلك حيث يقول ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء أن بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة وإن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بانفك ونظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلا لا تطش جهلا أنسيت قول الله تعالى
{ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وأماءك وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف ليس معهن من حماتهن حمي ولا رجالهن ولي وكيف ترتجي مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه بدماء الشهداء وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنان والإحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحا | ثم قالوا يا يزيد لا تشل |
منحنيا على ثنايا أبي عبد الله ومكان مقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك وقد نكات القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت. اللهم خذ لنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا فو الله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمتك ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ لهم بحقهم
{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} وحسبك بالله حاكما وبمحمد خصيما وبجبرائيل ظهيرا وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلا وأيكم شر مكانا وأضعف جندا. ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكبر توبيخك لكن العيون عبرى والصدر حرى إلا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء فهذه الأيدي تنظف من دمائنا والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما لتجدننا وشيكا مغرما حيث لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد فإلى الله المشتكى وعليه المعول فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فو الله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا ولا ترحض عنك عارها وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي إلا لعنة الله على الظالمين فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود وحسبنا الله ونعم الوكيل. فقال يزيد مجيبا لها:
يا صيحة تحمد من صوائح | ما ون النوح على النوائح |
في مجلس يزيد
ثم قال يزيد لعلي بن الحسين: يا ابن الحسين أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت فقال له علي (ع): بل ما قال الله أولى:
{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها أن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} فقال يزيد لابنه خالد: أردد عليه فلم يدر خالد ما يرد عليه فقال له يزيد: ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير، فقال علي بن الحسين (ع): يا ابن معاوية وهند وصخر لقد كان جدي علي بن أبي طالب في يوم بدر واحد والأحزاب في يده راية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوك وجدك في أيديهما رايات الكفار، ثم قال علي بن الحسين (ع) ويلك يا يزيد أنك لو تدري ما ذا صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذا لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور أن يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعلي منصوبا على باب مدينتكم وهو وديعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم فابشر بالخزي والندامة. قال ابن شهراشوب وموضع حبس زين العابدين هو اليوم مسجد وقال ابن عساكر مسجده بدمشق معروف وهو الذي يقال له مشهد علي بجامع دمشق. واستشار يزيد أهل الشام فيما يصنع بهم فقال له بعضهم لا تتخذ من كلب سوء جروا فقال له النعمان بن بشير انظر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه بهم فاصنعه بهم.
في دمشق
ثم أمر لهم يزيد بدار تتصل بداره وكانوا مدة مقامهم بالشام ينوحون على الحسين (ع) ثم أنه نصب الرأس بدمش ثلاثة أيام فيما ذكره الباغندي وغيره. وعن ابن لهيعة عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن قال لقيني رأس الجالوت فقال والله أن بيني وبين داود لسبعين أبا وإن اليهود تلقاني فتعظمني وأنتم ليس بين ابن نبيكم وبينه إلا أب واحد قتلتم ولده. وعن زين العابدين (ع) قال لما أتى برأس الحسين (ع) إلى يزيد كان يتخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين (ع) ويضعه بين يديه ويشرب عليه. وخرج زين العابدين (ع) يوما يمشي في أسواق دمشق فاستقبله المنهال بن عمرو فقال له كيف أمسيت يا ابن رسول الله قال أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بان محمدا عربي وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بان محمدا منها وأمسينا معشر أهل بيته ونحن مغصوبون مقتولون مشردون أنا لله وأنا إليه راجعون مما أمسينا فيه يا منهال ولله در مهيار حيث قال:
يعظمون له أعواد منبره | وتحت أرجلهم أولاده وضعوا |
بأي حكم بنوه يتبعونكم | وفخركم أنكم صحب له تبع |
وأمر يزيد بمنبر وخطيب وأمر الخطيب أن يصعد المنبر فيذم الحسين وأباه صلى الله عليه وسلم فصعد الخطيب المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم بالغ في ذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد وأطنب في مدح معاوية ويزيد فذكرهما بكل جميل. فصاح به علي بن الحسين (ع) ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار.
ودعا يزيد بعلي بن الحسين وعمرو بن الحسين (ع) وكان عمرو غلاما صغيرا يقال أن عمره إحدى عشرة سنة فقال له أتصارع هذا يعني ابنه خالدا فقال له عمرو: ولكن أعطني سكينا واعطه سكينا ثم أقاتله فقال يزيد: شنشنة أعرفها من أخزم هل تلد الحية إلا حية. وكان يزيد وعد علي بن الحسين يوم دخولهم عليه أن يقضي له ثلاث حاجات فقال له أذكر حاجاتك الثلاث اللاتى وعدتك بقضائهن فقال له: الأولى: أن تريني وجه سيدي ومولاي وأبي الحسين فأتزود منه وانظر إليه وأودعه. والثانية: أن ترد علينا ما أخذ منا. والثالثة: إن كنت عزمت على قتلي أن توجه مع هؤلاء النساء من يردهن إلى حرم جدهن صلى الله عليه وسلم فقال أما وجه أبيك فلن تراه أبدا وأما قتلك فقد عفوت عنك وأما النساء فما يردهن غيرك إلى المدينة وأما ما أخذ منكم فأنا أعوضكم عنه أضعاف قيمته فقال (ع): أما مالك فلا نريده وهو موفر عليك وإنما طلبت منك ما أخذ منا لأن فيه مغزل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ومقنعتها وقلادتها وقميصها، فأمر برد ذلك وزاد فيه من عنده مائتي دينار فأخذها زين العابدين وفرقها في الفقراء والمساكين.
إلى المدينة
ثم أن يزيد أسر برد السبايا والأسارى إلى المدينة وأرسل معهم النعمان بن بشير الأنصاري في جماعة فلما بلغوا العراق قالوا للدليل مر بنا على طريق كربلاء وكان جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجال من آل الرسول صلى الله عليه وسلم قد وردوا لزيارة قبر الحسين (ع) فبينا هم كذلك إذا بسواد قد طلع عليهم من ناحية الشام فقال جابر لعبده انطلق إلى هذا السواد وائتنا بخبره فان كانوا من أصحاب عمر بن سعد فارجع إلينا لعلنا نلجأ إلى ملجأ وإن كان زين العابدين فأنت حر لوجه الله تعالى فمضى العبد فما كان بأسرع من أن رجع وهو يقول يا جابر قم واستقبل حرم رسول الله هذا زين العابدين قد جاء بعماته وأخواته فقام جابر يمشي حافي الاقدام مكشوف الرأس إلى أن دنا من زين العابدين (ع) فقال الإمام أنت جابر فقال نعم يا ابن رسول الله، فقال يا جابر ههنا والله قتلت رجالنا وذبحت أطفالنا وسبيت نساؤنا وحرقت خيامنا. وقال ابن طاوس في كتاب الملهوف إنهم لما وصلوا إلى موضع المصرع وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالا من آل الرسول صلى الله عليه وسلم قد وردوا لزيارة قبر الحسين (ع) فتوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن وأقاموا المآتم واجتمع عليهم أهل ذلك السواد وأقاموا على ذلك أياما.
نعي الحسين لأهل المدينة
ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة. قال بشير بن جذيم فلما قربنا منها منزل علي بن الحسين (ع) فحط رحله وضرب فسطاطه وانزل نساءه وقال يا بشير رحم الله أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر على شيء منه قلت بلى يا ابن رسول الله إني لشاعر، قال فادخل المدينة وانع أبا عبد الله، قال بشير فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة فلما بلغت مسجد النبي صلى الله عليه وسلم رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها | قتل الحسين فأدمعي مدرار |
الجسم منه بكربلاء مضرج | والرأس منه على القناة يدار |
ثم قلت: يا أهل المدينة هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه قال فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن وهن يدعين بالويل والثبور ولم يبق بالمدينة أحد إلا خرج وهم يصيحون بالبكاء فلم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم ولا يوما أمر على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت فرسي حتى رجعت فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع فنزلت عن فرسي وتخطأت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط وكان علي بن الحسين (ع) داخلا فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه وخلفه خادم معه كرسي فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة وارتفعت أصوات الناس بالبكاء من كل ناحية يعزونه فضجت تلك البقعة ضجة شديدة فاوما بيده أن اسكتوا فسكنت فورتهم فقال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين بارئ الخلائق أجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلى وقرب فشهد النجوى نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور وألم الفجائع ومضاضة اللواذع وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الفادحة الجائحة أيها القوم أن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة قتل أبو عبد الله وعترته وسبي نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان وهذه الرزية التي لا مثلها رزية أيها الناس فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله أم أي فؤاد لا يحزن من أجله أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن إنهما لها يا أيها الناس أي قلب لا ينصدع لقتله أم أي فؤاد لا يحن إليه أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار من غير جرم اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين أن هذا إلا اختلاف والله لو أن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا فأنا لله وأنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظها وأفظعها وأمرها وأفدحها فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ منا أنه عزيز ذو انتقام.
ثم دخل زين العابدين (ع) إلى المدينة فرآها موحشة باكية ووجد ديار له خالية تنعي لها وتندب سكانها ولنعم ما قال الشاعر:
مررت على أبيات آل محمد | فلم أرها أمثالها يوم حلت |
فلا يبعد الله الديار وأهلها | وإن أصبحت منهم برغم تخلت |
بعض أحوال يزيد وما فعله مع ابن زياد
في جواهر المطالب لأبي البركات شمس الدين محمد الباغندي كما في نسخة مخطوطة في المكتبة الرضوية المباركة ما لفظه: حكى ابن الفوطي في تاريخه قال: كان ليزيد قرد يجعله بين يديه فيكنيه بأبي قيس ويسقيه فضل كاسه ويقول هذا شيخ من بني إسرائيل أصابته خطيئة فمسخ، وكان يحمله على أتان وحشية قد ريضت له ويرسلها مع الخيل في حلبة السباق فحمله يوما عليها فسبقت فسر وانشد:
تمسك أبا قيس بفضل زمامها | فليس عليها أن سقطت ضمان |
فقد سبقت خيل الجماعة كلها | وخيل أمير المؤمنين أتان |
وجاء يوما فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزنا شديدا وأمر بتكفيه ودفنه وأمر أهل الشام أن يعزوه فيه وأنشأ يقول:
ما شيخ قوم كرام ذو محافظة | إلا أتانا يعزي في أبي قيس |
شيخ العشيرة أمضاها وأجملها | إلى المساعي على القربوس والريس |
لا يبعد الله قبرا أنت ساكنه | فيه جمال وفيه لحية التيس |
وقال سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص: استدعى يزيد ابن زياد إليه وأعطاه أموالا كثيرة وتحفا عظيمة وقرب مجلسه ورفع منزلته وأدخله على نسائه وجعله نديمه، وسكر ليلة وقال للمغني غن ثم قال يزيد بديها:
اسقني شربة تروي فؤادي | ثم مل فاسق مثلها ابن زياد |
صاحب السر والأمانة عندي | ولتسديد مغنمي وجهادي |
قاتل الخارجي أعني حسينا | ومبيد الأعداء والحساد |
وقال ابن عقيل: ومما يدل على كفره وزندقته فضلا عن سبه ولعنه أشعاره التي أفصح بها بالالحاد وأبان عن خبث الضمائر وسوء الاعتقاد قوله في قصيدته التي أولها:
علية هاتى واعلني وترنمي | بذلك إني لا أحب التناجيا |
حديث أبي سفيان قدما سما بها | إلى أحد حتى أقام البواكيا |
إلا هات سقيني على ذاك قهوة | تخيزها العنسي كرما شاميا |
إذا ما نظرنا في أمور قديمة | وجدنا حلالا شربها متواليا |
وإن مت يا أم الأحيمر فانكحي | ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا |
فان الذي حدثت عن يوم بعثنا | أحاديث طسم تجعل القلب ساهيا |
ولا بد لي من أن أزور محمدا | بمشمولة صفراء تروي عظاميا |
قلت ومنها قوله:
معشر الندمان قوموا | واسمعوا صوت الأغاني |
واشربوا كأس مدام | واتركوا ذكر المغاني المثاني |
شغلتني نغمة العيدان | عن صوت الاذان |
وتعوضت عن الجو | ر عجوزا في الدنان |
إلى غير ذلك مما نقلته من ديوانه ولهذا تطرق إلى هذه الأمة العار بولايته عليها حتى قال أبو العلاء المعري يشير بالشنار إليها:
أرى الأيام تفعل كل نكر | فما أنا في العجائب مستزيد |
أليس قريشكم قتلت حسينا | وكان على خلافتكم يزيد |
قلت: ولما لعنه جدي أبو الفرج على المنبر ببغداد بحضرة الإمام الناصر وأكابر العلماء قام جماعة من الجفاة من مجلسه فذهبوا فقال جدي: (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود). وحكى لي بعض أشياخنا عن ذلك اليوم أن جماعة سألوا جدي عن يزيد فقال: ما تقولون في رجل لي ثلاث سنين: في السنة الأولى قتل الحسين وفي الثانية أخاف المدينة وأباحها وفي الثالثة رمى الكعبة بالمجانيق وهدمها؟ فقالوا: نلعن، فقال: فالعنوه. وقال جدي في كتاب الرد على المتعصب العنيد: قد جاء في الحديث لعن من فعل ما لا يقارب عشر معشار فعل يزيد وذكر الأحاديث التي ذكرها البخاري ومسلم في الصحيحين مثل حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الواشمات والمتوشمات، وحديث ابن عمر لعن الله الواشمة والمتوشمة وحديث جابر لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله الحديث وحديث ابن عمر في مسند أحمد لعنت الخمر على عشرة وجوه الحديث وأورد أخبارا كثيرة في هذا الباب وهذه الأشياء دون فعل يزيد في قتله الحسين وإخوته وأهله ونهب المدينة وهدم الكعبة وضربها بالمجانيق وأشعاره الدالة على فساد عقيدته. ومن رام الزيادة على هذا فليقف على كتابه المسمى بالرد على المتعصب العنيد.
كيف لم يصالح الحسين كما صالح أخوه الحسن
عليه السلام
قد يسأل عن وجه خروج الحسين (ع) بأهله وعياله إلى الكوفة وهي في يد أعدائه، وقد علم صنع لها بأبيه وأخيه مع أن جميع نصائحه كانوا يشيرون عليه بعدم الخروج ويتخوفون عليه القتل ومنهم ابن عباس وابن عمر وكثير ممن لاقاه في الطريق، وكيف لم يرجع حين علم بقتل مسلم بن عقيل وكيف استجاز أن يحارب بنفر قليل جموعا عظيمة لها مدد، ولم ألقى بيده إلى التهلكة، وما الجمع بين فعله وفعل الحسن الذي سلم الأمر إلى معاوية بدون هذا الخوف؟
وعن هذا السؤال جوابان أحدهما: للسيد المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة والثاني للسيد علي بن طاوس في كتاب الملهوف. وحاصل ما أجاب به المرتضى أن الحسين غلب على ظنه بمقتضى ما جرى من الأمور أنه يصل إلى حقه بالمسير فوجب عليه وذلك بمكاتبة وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرائها مع تقدم ذلك منهم في أيام الحسن وبعد وفاته وإعطائهم العهود والمواثيق طائعين مبتدئين مكررين للطلب مع تسلطهم على واليهم في ذلك الوقت وقوتهم عليه وضعفه عنهم وقد جرى الأمر في أوله على ما ظنه، ولاحت أسباب الظفر فبايع مسلما أكثر أهل الكوفة وكتب إلى الحسين بذلك وتمكن مسلم من قتل ابن زياد غيلة في دار هانئ لكنه لم يفعل معتذرا بان الإسلام قيد الفتك، ولما حبس ابن زياد هانئا حصره مسلم في قصره وكاد يستولي عليه لكن الاتفاق السيء عكس الأمر. أما الجمع بين فعله وفعل أخيه الحسن فالحسن لما أحس بالغدر من أصحابه وإنهم كاتبوا معاوية في الفتك به أو تسليمه إليه وأنه ليس معه إلا نفر قليل سلم إبقاء على نفسه وأهله وشيعته، والحسين طلب بحقه حين قوي في ظنه النصرة ممن كاتبه وعاهده ورأى قوة أنصار الحق وضعف أنصار الباطل فلما انعكس الأمر رام الرجوع فمنع منه وطلب الموادعة كما فعل أخوه الحسن فلم يجب وطلبت نفسه فمنع منها بجهده حتى مضى كريما إلى جوار جده. انتهى ملخص ما ذكره السيد بتصرف. والأمر كما ذكره من إنهم لم يجيبوه إلى الموادعة بل طلب ابن زياد أن ينزل هو وأصحابه على حكمه وفي رواية أن يبايع هو وأصحابه يزيد فإذا فعل ذلك رأى ابن زياد رأيه ولو فعل لكان المظنون قويا أن يقتله مع أصحابه صبرا، بل المتيقن من حال ابن زياد وخبثه ونسبه اللئيم أن يفعل ذلك فاختار موت العز في مجال الطراد على موت الذل بيد ابن زياد. وهذا الجواب جار على ظاهر الحال ولا يحتاج من يجيب به إلى تكلف شيءلكن يبقى عليه أنه لم يرجع حين علم بقتل مسلم، ويمكن الجواب بان الأمل لم يكن منقطعا بدليل قول أصحابه له ما أنت مثل مسلم ولو دخلت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.
(والجواب الثاني): جار على شيءمن التعمق: وهو أن الحسين كان عازما على عدم مبايعة يزيد على كل حال ولو أدى ذلك إلى قتله وكان مقدما على ذلك في حال ظن السلامة أن وجد وفي حال ظن العطب بل تيقنه. مع إمكان دعوى ظهور الحكمة في فعل الحسن وفعل أخيه الحسين باختلاف حالة معاوية وابنه يزيد الظاهرية في الجملة بتهتك الثاني وتستر الأول شيئا ما، فلو بايع الحسين يزيد لخفي حاله على الأكثر واعتقدوه أما م حق فكان يتمكن من تبديل الدين، ومن هنا يقال أن الحسين فدى دين جده بنفسه وأهله وولده وما تزلزلت أركان دولة بني أمية إلا بقتل الحسين. وهذا الوجه هو الذي اعتمده ابن طاوس في كتاب الملهوف فقال: الذي تحققناه أن الحسين (ع) كان عالما بما انتهت حاله إليه وكان تكليفه ما اعتمد عليه، ثم أورد بعض الأخبار الدالة على ذلك ثم قال: لعل بعض من لا يعرف حقائق شرف السعادة بالشهادة أن الله لا يتعبد بمثل هذه الحالة ورده بان الله تعبد قوما بقتل أنفسهم فقال: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم انتهى باختصار. مع أنه إذا كان في ذلك من الفوائد مثل إحياء الدين وكشف قبائح المنافقين وردع الناس عن الاقتداء به كان التعبد به أولي من التعبد بقتل النفس عند التوبة ولا يقصر عن التعبد به في الجهاد والقصاص. أما توهم أن ذلك البقاء باليد إلى التهلكة ففاسد لان بذل النفس في سبيل الله تعالى للحصول على الحياة الدائمة والنعيم الخالد القاء باليد إلى أعظم السعادات. وأما ما في بعض الروايات من أن الحسين (ع) طلب منهم أما أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلا من المسلمين أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده فلم يثبت، وذكر ابن الأثير في الكامل ما يكذبه فقال: روي عن عقبة بن سمعان أنه قال صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق فلم أفارقه حتى قتل وسمعت جميع مخاطباته الناس إلى يوم مقتله فو الله ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس أنه يضع يده في يزيد ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين.
وأما دعاؤه الناس إلى نصرته مثل عبد الله بن الحر الجعفي وغيره وكتابه إلى أهل البصرة فكل ذلك من باب إقامة الحجة وقطع المعذرة.
ومما يدل على أن الحسين (ع) كان موطنا نفسه على القتل وظانا أو عالما في بعض الحالات بأنه يقتل في سفره ذلك خطبته التي خطبها حين عزم على الخروج إلى العراق التي يقول فيها: خط الموت على ولد آدم الخ فان أكثر فقراتها يدل على ذلك، ونهي عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام له بمكة عن الخروج وإقامته البرهان على أن ذلك ليس من الرأي بقوله أنك تأتى بلدا فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال وإنما الناس عبيد الدينار والدرهم فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه وعدم أخذ الحسين بقوله مع اعتذاره إليه واعترافه بنصحه. ونهي ابن عباس أيضا محتجا بنحو ذلك من أن الذين دعوه لم يقتلوا أميرهم وينفوا عدوهم ويضبطوا بلادهم بل دعوه وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فكإنهم دعوه إلى الحرب ولا يؤمن أن يخذلوه فيكونوا أشد الناس عليه. ومعاودته للنهي ذاكرا له نحوا من ذلك ومشيرا عليه باليمن فلم يقبل. وجوابه لمحمد بن الحنفية حين أشار عليه بعدم الخروج إلى العراق فوعده النظر ثم ارتحل في السحر فسأله ابن الحنفية فقال له الحسين (ع) أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فارقتك فقال يا حسين أخرج فان الله قد شاء أن يراك قتيلا، قال ما معنى حملك هذه النسوة معك قال أن الله قد شاء أن يراهن سبايا. وقول ابن عمر له حين نهاه عن الخروج فأبى: أنك مقتول في وجهك هذا، فإنه دال على أن ظاهر الحال كان كذلك وما ظهر لابن عمر لم يكن ليخفى على الحسين (ع) وقول الفرزدق له: قلوب الناس معك وأسيافهم عليك وقول بشر بن غالب له: خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية، وتصديق الحسين (ع) له، ونهي عبد الله بن جعفر له وقوله إني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، وقول الحسين (ع) له إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأمرني بما أنا ماض له وامتناعه من أن يحدث بتلك الرؤيا. ونهي عبد الله بن مطيع له وقوله والله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك وأباء الحسين (ع) إلا أن يمضي. وقول الاعراب له أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج: القاضي باستيلاء بني أمية استيلاء تاما وخطورة الأمر. وأخبار أخته زينب (ع) بما سمعته حين نزل الخزيمية وما رآه في منامه بالثعلبية وقوله لأبي هريرة: وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية ونظره إلى بني عقيل حين أخبره الأسديان بقتل مسلم وهانئ وأشارا عليه بالرجوع وأخبراه أنه ليس له بالكوفة ناصر بل هم عليه وقوله لهم ما ترون فقد قتل مسلم وامتناعهم عن الرجوع ليس له بالكوفة ناصر بل هم عليه ما ترون فقد قتل مسلم وامتناعهم عن الرجوع حتى يموتوا أو يدركوا ثارهم وقوله للأسديين لا خير في العيش بعد هؤلاء فان الذي يظهر انه كان يريد أن يجيبوا بالامتناع عن الرجوع ليعتذر بذلك إلى الأسديين وإنه عازم على عدم الرجوع على كل حال. وقوله لأصحابه حين جاءه خبر مسلم وهانئ وعبد الله بن يقطر أنه قد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف وعدم رجوعه بعد تفرقهم عنه وبقائه في أصحابه الذين صحبوه من المدينة ويسير من غيرهم وإشارة عمرو بن يواذان عليه بالرجوع وقوله له والله ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف ونهيه إياه عن المسير لان الذين كتبوا إليه لم يكفوه مؤونة القتال وقول الحسين (ع) له: ليس يخفى علي الرأي ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره وقوله والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي وقوله وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني وكتابه الذي كتبه إلى بني هاشم حين توجه إلى العراق: أما بعد فإنه لمن لحق بي استشهد ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح. إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع والمتأمل وهذه كلها ما بين صريح أو ظاهر في المطلوب كما لا يخفى.
خطبه
مر أنه خطب بكربلاء في أشد الساعات بلاء التي تذهل فيها العقول وتطيش الألباب وتخرس الألسنة وتبلبل الخطباء وتحضر الفصحاء فلم يسمع متكلم قط قبله
ولا بعده أفصح في منطق منه وأنه قال ما لا يحصى كثرة وان ابن سعد قال ويلكم كلموه فإنه ابن أبيه والله لو وقف فيكم هكذا يوما جديدا لما انقطع ولما حصر ومر جملة من كتبه إلى أهل الكوفة والبصرة ومر جملة من خطبه في مكة حين عزم على المسير إلى العراق وفي كربلاء في عدة مناسبات.
خطبته عند مسير أبيه إلى صفين
ومن خطبه ما خطب به في الكوفة لما أراد أبوه أمير المؤمنين (ع) المسير إلى حرب صفين رواها نصر بن مزاحم في كتاب صفين وهي مع كونها في ساعة الرخاء ليست دونها خطبه التي كانت بكربلاء عند أشد الشدائد فذكر نصر إن أمير المؤمنين خطب أولا ثم خطب ابنه الحسن ثم خطب الحسين (ع) فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أهل الكوفة أنتم الأحبة الكرماء والشعار دون الدثار جدوا في إطفاء ما وتر بينكم وتسهيل ما توعر عليكم إلا إن الحرب شرها وريع وطعمها فظيع فمن أخذ لها بتها واستعد لها عدتها ولم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قمن إن لا ينفع قومه وأن يهلك نفسه نسأل الله بقوته إن يدعمكم بالفيئة.
من خطبة أخرى له (ع)
في كشف الغمة: خطب (ع) فقال: إن الحلم زينة والوفاء مروءة والصلة نعمة والاستكبار صلف والعجلة سفه والسفه ضعف والغلو ورطة ومجالسة أهل الدناءة شر ومجالسة أهل الفسق ريبة.
خطبة أخرى له (ع)
في كشف الغمة أيضا: خطب الحسين (ع) فقال: أيها الناس نافسوا في المكارم وسارعوا في المغانم ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوه واكسبوا الحمد بالنجح ولا تكسبوا بالمطل ذما فمهما يكن لأحد عند أحد صنيعة له رأى أنه لا يقوم بشكرها فالله له بمكافأته ضمين فإنه أجزل عطاء وأعظم أجرا واعلموا إن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم فلا تملوا النعم فتحور نقما واعلموا إن المعروف مكسب حمدا ومعقب أجرا فلو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسر الناظرين ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجا مشوها تنفر منه القلوب وتغص دونه الأبصار. أيها الناس من جاد ساد ومن بخل رذل وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه وإن أعفى الناس من عفا عن قدرة وإن أوصل الناس من وصل من قطعه والأصول على مغارسها بفروعها تسمو فمن تعجل لأخيه خيرا وجده إذا قدم عليه غدا ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته وصرف عنه بلاء الدنيا ما هو أكثر منه. ومن نفس كربة مؤمن فرج الله عنه كرب الدنيا والآخرة ومن أحسن أحسن الله إليه والله يحب المحسنين.
بعض ما نقل من مواعظه وحكمه وآدابه
كان (ع) يقول: شر خصال الملوك الجبن عن الأعداء والقسوة على الضعفاء والبخل عن الإعطاء. وقال (ع) صاحب الحاجة لم يكرم وجهه عن سؤالك فأكرم وجهك عن رده.
بعض حكمه القصيرة منقولة من تحف العقول
قال رجل عند الحسين (ع) إن المعروف إذا أسدي إلى غير له ضاع فقال الحسين (ع) ليس كذلك ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر تصيب البر والفاجر وقال ع: ما أخذ الله طاعة أحد إلا وضع عنه طاعته ولا أخذ قدرته إلا وضع عنه كلفته.
وقال (ع) لرجل اغتاب عنده رجلا يا هذا كف عن الغيبة فإنها أدام كلاب النار. وقال (ع) إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة.
وقال لابنه علي بن الحسين (ع) أي بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله جل وعز، وسأله رجل عن معنى قول الله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث قال أمره إن يحدث بما أنعم الله به عليه في دينه.
وقال (ع): من علامات القبول الجلوس إلى أهل العقول. من دلائل العالم انتقاده لحديثه وعلمه بحقائق فنون النظر. إياك وما يعتذر منه فإن المؤمن لا يسئ ولا يعتذر والمنافق كل يوم يسئ ويعتذر "وقال" للسلام سبعون حسنة تسع وستون للمبتدئ وواحدة للراد وقال البخيل من بخل بالسلام وقال (ع) من حاول أمرا بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر.
وقال (ع) كما عن أسرار الحكماء لياقون المستعصمي: لا تتكلف ما لا تطيق ولا تتعرض لما لا تدرك ولا تعتد بما لا تقدر عليه ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت ولا تفرح إلا بما نلت من طاعة الله ولا تتناول إلا ما رأيت نفسك له أهلا.
بعض ما ورد عنه (ع) من الدعاء
اعلم إن الأدعية المأثورة عنه (ع) كثيرة وقد جمعها بعض العلماء في كتاب اسماه الصحيفة الحسينية ومن الأدعية البليغة المأثورة عنه (ع) دعاء يوم عرفة دعا به وهو واقف على قدميه في ميسرة الجبل تحت السماء رافعا يديه بحذاء وجهه خاشعا متذللا وهو دعاء طويل مشهور بين الشيعة يداومون على الدعاء به في الموقف.
وروي عن علي بن الحسين (ع) أنه قال لما صبحت الخيل الحسين (ع) رفع يديه وقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب وأنت رجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته عني وكشفته فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة. ما روى عنه من الشعر
في كشف الغمة: أما شعر الحسين (ع) فقد ذكر الرواة له شعرا ووقع إلي شعر بخط الشيخ أبي عبد الله بن الخشاب النحوي وفيه قال أبو مخنف لوط بن يحيى: أكثر ما يرويه الناس من شعر سيدنا أبي عبد الله الحسين (ع) إنما هو ما تمثل به وقد أخذت شعره من مواضعه واستخرجته من مظانه وأما كنه ورويته عن ثقات الرجال منهم عبد الرحمن بن نجبة الخزاعي وكان عارفا بأمر أهل البيت (ع) ومنهم المسيب بن رافع المخزومي وغيره رجال كثيرون ولقد أنشدني يوما رجل من ساكني سلع هذه الأبيات فقلت له اكتبها فقال لي ما أحسن رداءك هذا وكنت قد اشتريته يومي ذاك بعشرة دنانير فطرحته عليه فاكتبيها وهي: قال أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي:
ذهب الذين أحبهم | وبقيت فيمن لا أحبه |
فيمن أراه يسبني | ظهر المغيب ولا أسبه |
يبغي فسادي ما استطاع | وأمره مما اربه |
حنقا يدب إلى الضراء | وذاك مما لا أدبه |
ويرى ذباب الشر من | حولي يظن ولا يذبه |
وإذا خبا وغير الصدور | فلا يزال به يشبه |
أفلا يعيج بعقله | أفلا يثوب إليه لبه |
أفلا يرى إن فعله | مما يسور إليه غبه |
حسبي بربي كافيا | ما اختشي والبغي حسبه |
ولقل من يبغي عليه | فما كفاه الله ربه |
وقال (ع) أورده في كشف الغمة عن ابن الخشاب كما مر:
الله يعلم إن ما | بيدي يزيد لغيره |
وبأنه لم يكتسبه | بخيره وبميره |
لو أنصف النفس الخئون | لقصرت من سيره |
ولكان ذلك منه أدني | شره من خيره |
وقوله ذكره ابن الصباغ في الفصول المهمة وعلي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة عن ابن الخشاب كما مر:
إذا ما عضك الدهر | فلا تجنح إلى خلق |
ولا تسأل سوى الله | تعالى قاسم الرزق |
فلو عشت وطوفت | من الغرب إلى الشرق |
لما صادفت من يقد | ر إن يسعد أو يشقي |
وقال ابن عساكر في التاريخ الكبير يقال إن هذه الأبيات للحسين (ع) وفي كتاب جواهر المطالب تأليف ابن البركات شمس الدين محمد الباغندي الشافعي كما في نسخة مخطوطة في المكتبة الرضوية أنشد أبو بكر بن حامد ورواه عن الحسين رضي الله عنه وأرضاه:
أغن عن المخلوق بالخالق | تغن عن الكاذب والصادق |
واسترزق الرحمن من فضله | فليس غير الله من رازق |
من ظن إن الناس يغنونه | فليس بالرحمن بالواثق |
أو ظن إن المال من كسبه | زلت به النعلان من حالق |
قال الأعمش ومن كلامه أيضا وأورده في جواهر المطالب عن الأعمش:
كلما زيد صاحب المال مالا | زيد في همه وفي الاشتغال |
قد عرفناك يا منغصة العيش | ويا دار كل فإن وبالي |
ليس بصفو لزاهد طلب الزهد | إذا كان مثقلا بالعيال |
وروى ابن كثير في البداية والنهاية عن إسحاق بن إبراهيم قال بلغني:أن الحسين (ع) زار مقابر الشهداء بالبقيع فقال:
ناديت سكان القبور فاسكتوا | فأجابني عن صمتهم ترب الجثا |
قالت أتدري ما صنعت بساكني | مزقت لحمهم وخرقت الكسا |
وحشيت أعينهم ترابا بعد ما | كانت تأذى بالقليل من القذا |
أما العظام فإنني مزقتها | حتى تباينت المفاصل والشوى |
قطعت ذا من ذا ومن هذا كذا | فتركتها مما يطول بها البلى |
وقال (ع) لما بلغه قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وقد تقدمت وأولها:
لئن كانت الدنيا تعد نفيسة | فدار ثواب الله أعلى وأنبل |
وقال في زوجته الرباب بنت امرئ القيس بن عدي القضاعية وابنته منها سكينة أورده أبو الفرج في الأغاني:
لعمرك إنني لأحب دارا | تكون بها سكينة والرباب |
أحبهما وابذل كل مالي | وليس لعاتب عندي عتاب |
وفي جواهر المطالب: مما أنشده الزبير بن بكار للحسين (ع) في زوجته الرباب بنت امرئ القيس:
لعمرك إنني لا أحب دارا | تحل بها سكينة والرباب |
أحبهما وابذل جل مالي | وليس للائم فيها عتاب |
ولست لهم وان عتبوا مطيعا | حياتي أو يغيبني التراب |
مراثيه
لم يكن يجسر أحد من الشعراء على المجاهرة برثاء الحسين (ع) في ملك بني أمية عدى شاذ يقول الأبيات المعدودة غير مجاهر بها ثم تنقل عنه بل في بعض أدوار ملك بني العباس كان الحال كذلك أو أشد ولكن في أوائل الدولة العباسية وفي أواخرها وبعد انقراض الدولتين تبارى شعراء الإسلام في رثائه وقالوا فأكثروا وأجادوا فحلقوا في كل عصر وفي كل زمان لا سيما شعراء الشيعة ولا غرو فمكانة الحسين (ع) بين المسلمين المكانة السامية التي لا يصل أحد إليها ومصيبته مصيبة عظمي وفاجعته فاجعة كبرى لم يقع في الإسلام أفظع ولا أشنع منها وقد ألحقت بالأمة الإسلامية عارا لا يمحى وشنارا لا ينسى حتى قال أبو العلاء المعري:
#دع الأيام تصنع ما تريد
"البيتين المتقدمين".
وقد جمعنا كتابا في مختار مراثيه (ع) من شعر المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين أسميناه الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد طبع ثلاث مرات وزدنا عليه في الطبعة الثالثة أكثر من خمسين قصيدة ومقطوعة حتى بلغ عدد أبياته نحوا من ستة آلاف بيت وها نحن نورد هنا نموذجا من مراثيه يكون قضاء لحق التاريخ ونوكل من يريد الاطلاع على أكثر من ذلك إلى الكتاب المذكور. فأول من رثاه فيما حكاه سبط ابن الجوزي عن السدي عقبة بن عمرو السهمي ورواه المفيد في المجالس بسنده عن إبراهيم بن داحة قال أول شعر رثي به الحسين بن علي قول عقبة بن عمرو السهمي من بني سهم بن عوف بن غالب فقال:
إذا العين قرت في الحياة وأنتم | تخافون في الدنيا فاظلم نورها |
مررت على قبر الحسين بكربلا | ففاض عليه من دموعي غزيرها |
وما زلت ابكيه وارثي لشجوه | ويسعد عيني دمعها وزفيرها |
وبكيت من بعد الحسين عصائبا | أطافت به من جانبيه قبورها |
سلام على أهل القبور بكربلا | وقل لها مني سلام يزورها |
سلام باصال العشي وبالضحى | تؤديه نكباء الرياح ومورها |
ولا برح الزوار زوار قبره | يفوح عليهم مسكها وعبيرها |
وينبغي إن يكون أول من رثاه سليمان بن قتة العدوي التيمي مولى بني تيم بن مرة وكان منقطعا إلى بني هاشم فإنه مر بكربلاء بعد قتل الحسين (ع) بثلاث فنظر إلى مصارعهم واتكأ على فرس له عربية وأنشأ يقول وقيل إنها لأبي الرجح الخزاعي ويمكن كون بعضها لأحدهما وبعضها للآخر واشتبها:
مررت على أبيات آل محمد | فلم أرها أمثالها يوم حلت |
ألم تر إن الشمس أضحت مريضة | لقتل حسين والبلاغ اقشعرت |
وكانوا رجاء ثم أضحوا رزية | لقد عظمت تلك الرزايا وجلت |
وتسألنا قيس فنعطي فقيرها | وتقتلنا قيس إذا النعل زلت |
وعند غني قطرة من دمائنا | سنطلبها يوما بها حيث حلت |
فلا يبعد الله الديار وأهلها | وان أصبحت منهم برغم تخلت |
وان قتيل ألطف من آل هاشم | أذل رقاب المسلمين فذلت |
وقد أعولت تبكي السماء لفقده | وأنجمنا ناحت عليه وصلت |
ورثته زوجته الرباب بنت امرئ القيس بن عدي فقالت:
إن الذي كان نورا يستضاء به | بكربلاء قتيل غير مدفون |
قد كنت لي جبلا صلدا ألوذ به | وكنت تصحبنا بالرحم والدين |
فمن يجيب نداء المستغيث ومن | يغني ويؤوي إليه كل مسكين |
تالله لا ابتغي صهرا بصهركم | حتى أوسد بين اللحد والطين |
وقالت الرباب أيضا وهي بالشام بعد ما أخذت الرأس الشريف وقبلته ووضعته في حجرها:
وا حسينا فلا نسيت حسينا | أقصدته أسنة الأعداء |
غادروه بكربلاء صريعا | لا سقى الله جانبي كربلاء |
ورثاه بشير بن جذيم ببيتين نعاه بهما إلى أهل المدينة تقدما. ورثته جارية حين جاء نعيه إلى المدينة بأبيات تقدمت. وخرجت أم لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين (ع) ومعها أخواتها أم هانئ وأسماء ورملة وزينب بنات عقيل تبكي قتلاها باللطف وتقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم | ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأمم |
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي | منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم |
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم | إن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي |
وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب يرثيه من أبيات:
بكيت لفقد الأكرمين تتابعوا | لوصل المنايا دار عون وحسر |
بهم فجعتنا والفواجع كاسمها | تميم وبكر والسكون وحمير |
وفي كل حي نضحة من دمائنا | بني هاشم يعلو سناها ويشهر |
فسوف يرى أعداؤنا حين نلتقي | لأي الفريقين النبي المطهر |
وقال رجل من عبد القيس قتل أخوه مع الحسين (ع) وعبد القيس معروفة بالتشيع لأهل البيت ع:
يا فرو قومي فاندبي | خير البرية في القبور |
قتلوا الحرام من الأئمة | في الحرام من الشهور |
وقال أبو دهبل الجمحي وهب بن زمعة وهو معاصر لمعاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد من قصيدة:
عجبت وأيام الزمان عجائب | ويظهر بين المعجبات عظيمها |
تبيت النشاوى من أمية نوما | وبالطف قتلى ما ينام حميمها |
وتضحى كرام من ذؤابة هاشم | يحكم فيها كيف شاء لئيمها |
وربات صون ما تبدت لعينها | قبيل السبا إلا لوقت نجومها |
تزاولها أيدي الهوان كأنما | تقحم ما لا عفو فيه أثيمها |
وما أفسد الإسلام إلا عصابة | تأمر نوكاها ودام نعيمها |
وصارت قناة الدين في كف ظالم | إذا مال منها جانب لا يقيمها |
وخاض بها طخياء لا يهتدي لها | سبيل ولا يرجو الهدى من يعومها |
إلى حيث ألقاها ببيداء مجهل | تضل لأهل الحلم فيها حلومها |
رمتها لأهل الطف منها عصابة | حداها إلى هدم المكارم لومها |
فشنت بها شعواء في خير فتية | تخلت لكسب المكرمات همومها |
أولئك آل الله آل محمد | كرام تحدت ما حداها كريمها |
يخوضون تيار المنايا ظواميا | كما خاض في عذب الموارد هيمها |
يقوم بهم للمجد أبيض ماجد | أخو عزمات أقعدت من يرومها |
فأقسمت لا تنفك نفسي جزوعة | وعيني سفوحا لا يمل سجومها |
حيأتي أو تلقى أمية وقعة | يذل لها حتى الممات قرومها |
وروي إن خالد بن معدان الطائي من فضلاء التابعين لما شاهد رأس الحسين (ع) بالشام أخفى نفسه شهرا من جميع أصحابه فلما وجدوه بعد إذ فقدوه سالوه عن سبب ذلك فقال ألا ترون ما نزل بنا ثم أنشأ يقول:
جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد | مترملا بدمائه ترميلا |
وكأنما بك يا ابن بنت محمد | قتلوا جهارا عامدين رسولا |
قتلوك عطشانا ولما يرقبوا | في قتلك التأويل والتنزيلا |
ويكبرون بان قتلت وإنما | قتلوا بك التكبير والتهليلا |
وممن رثاه من قدماء الشعراء عبد الله بن الحر الجعفي حين أتى كربلاء ونظر إلى مصرع الحسين (ع) وأصحابه وكان قد دعاه الحسين (ع) إلى نصره فلم يفعل فقال من أبيات:
يقول أمير غادر وابن غادر | إلا كنت قاتلت الحسين بن فاطمة |
ونفسي على خذلانه واعتزاله | وبيعة هذا الناكث العهد لائمه |
سقى الله أرواح الذي تازروا | على نصره سقيا من الغيث دائمه |
وقفت على أطلالهم ومحالهم | فكاد الحشي ينقض والعين ساجمه |
لعمري لقد كانوا سراعا إلى الوغى | مصاليت في الهيجا حماة خضارمه |
تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم | بأسيافهم آساد غيل ضراغمه |
وما إن رأى الراءون أفضل منهم | لدى الموت سادات وزهر قماقمه |
وممن رثاه من قدماء الشيعة جعفر بن عفان الطائي وكان معاصرا للصادق (ع) وقد استنشده الصادق شعره في رثاء الحسين (ع) وأثنى عليه وله في ذلك قصيدة أولها:
ليبك على الإسلام من كان باكيا | فقد ضيعت أحكامه واستحلت |
وممن رثاه من قدماء شعراء الشيعة منصور النمري من النمر بن قاسط وكان في زمن الرشيد فقال من قصيدة:
متى يشفيك دمعك من همول | ويبرد ما بقلبك من غليل |
قتيل ما قتيل بني زياد | إلا بأبي وأمي من قتيل |
غدت بيض الصفائح والعوالي | بأيدي كل مؤتشب دخيل |
معاشر أودعت أيام بدر | صدورهم وديعات الغليل |
فلما أمكن الإسلام شدوا | عليه شدة الحنق الصؤول |
فوافوا كربلاء مع المنايا | بمرداة مسومة الخيول |
وأبناء السعادة قد تواصوا | على الحدثان بالصبر الجميل |
أ يخلو قلب ذي ورع ودين | من الأحزان والهم الطويل |
وقد شرقت رماح بني زياد | بري من دماء بني الرسول |
وممن رثاه من قدماء شعراء الشيعة دعبل بن علي الخزاعي وكان معاصرا للرضا (ع) فقال من قصيدة:
ألم تر للأيام ما جر جورها | على الناس من نقض وطول شتات |
ومن دول المستهزئين ومن غدا | بهم طالبا النور في الظلمات |
فكيف ومن أنى يطالب زلفة | إلى الله بعد الصوم والصلوات |
سوى حب أبناء النبي ورهطه | وترك عداهم من هن وهنات |
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه | ومحكمه بالزور والشبهات |
ولو قلدوا الموصى إليه أمورها | لزمت بمأمون على العثرات |
أخي خاتم الرسل المصفى من القذى | ومفترس الأبطال في الغمرات |
نجي لجبريل الأمين وأنتم | عكوف على العزى معا ومناة |
مدارس آيات خلت من تلاوة | ومنزل وحي مقفر العرصات |
منازل كانت للرشاد وللتقى | وللصوم والتطهير والصلوات |
ديار عفاها جور كل منابذ | ولم تعف للأيام والسنوات |
هم آل ميراث النبي إذا اعتزوا | وهم خير سادات وخير حماة |
إذا لم نناج الله في صلواتنا | بأسمائهم لم يقبل الصلوات |
أفاطم لو خلت الحسين مجندلا | وقد مات عطشانا بشط فرات |
إذا للطمت الخد فاطم عنده | وأجريت دمع العين في الوجنات |
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي | نجوم سماوات بأرض فلاة |
توفوا عطاشى بالفرات فليتني | توفيت فيهم قبل حين وفأتى |
رزايا أرتنا خضرة الأفق حمرة | وردت أجاجا طعم كل فرات |
بنفسي أنتم من كهول وفتية | لفك عناة أو لحمل ديات |
سأبكيهم ما حج الله راكب | وما ناح قمري على الشجرات |
سأبكيهم ما ذر في الأفق شارق | ونادى منادي الخير للصلوات |
وقال الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع المتوفى سنة 250:
ومما شجا قلبي وأوكف عبرتي | محارم من آل النبي استحلت |
وربات خدر من ذؤابة هاشم | هتفن بدعوى خير حي وميت |
أرد يدا مني إذا ما ذكرته | على كبد حرى وقلب مفتت |
فلا بات ليل الشامتين بغبطة | ولا بلغت أما لها ما تمنت |
وممن رثاه من قدماء الشعراء القاسم بن يوسف الكاتب أحد متكلمي الشيعة وشعرائهم ذكره المرزباني فقال من قصيدة طويلة:
يا ابن النبي وخير أمته | بعد النبي مقال ذي خبر |
ما ذا تحمل قاتلوك من | الآصار والأعباء والوزر |
ما تنقضي حسرات ذي ورع | ودم الحسين على الثرى يجري |
ودماء إخوته وشيعته | مستلحمون بجانب النهر |
خذلوا وقل هناك ناصرهم | فاستعصموا بالله والصبر |
مستقدمين على بصائرهم | لا ينكصون لروعة الذعر |
يأبون إن يعطوا الدنية أو | يرضوا مهادنة على قسر |
آل الرسول وسرارته | والطاهرون لطيب الطهر |
حلوا من الشرف اليفاع على | علياء بين الغفر والنسر |
لا يبلغ المثني مداه ولا | تحوي المديح مقالة المطري |
مأوى اليتامى والأرامل | الأضياف في اللزبات والعسر |
لا مانعا حق الصديق ولا | يخفى عليه مبيت ذي الفقر |
كم سائل أعطى وذي عدم | أغنى وعان فك من أسر |
وتخال في الظلماء سنته | قمرا توسط ليلة البدر |
لا تنطق العوراء حضرته | عف يعاف مقالة الهجر |
وقال الصنوبري معاصر سيف الدولة من أبيات:
يا خير من لبس النبو | ة من جميع الأنبياء |
وجدي على سبطيك | وجد ليس يؤذن بانقضاء |
هذا قتيل الأشقياء | وذا قتيل الأدعياء |
يوم الحسين هرقت دمع | الأرض مع دمع السماء |
يوم الحسين تركت أبا | ب العز مهجور الفناء |
نفسي فداء المصطلي | نار الوغى أي اصطلاء |
فاختار درع الصبر حيث | الصبر من لبس السناء |
وأبى إباء الأسد إن | الأسد صادقة الاباء |
وقضى كريما إذا قضى | ظمآن في نفر ظماء |
منعوه طعم الماء لا | وجدوا لماء طعم ماء |
ورثاه الشريف الرضي في القرن الرابع وهو بالحائر الحسيني ولا شك إن لوجوده هناك أثرا مشجيا باديا على شعره فقال من قصيدة:
وضيوف لفلاة قفرة | نزلوا فيها على غير قرى |
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا | بحدى السيف على ورد الردى |
تكسف الشمس شموسا منهم | لا تدانيها ضياء وعلى |
وتنوش الوحش من أجسادهم | أرجل السبق وايمان الندى |
ووجوها كالمصابيح فمن | قمر غاب نجم قد هوى |
يا رسول الله لو عاينتهم | وهم ما بين قتل وسبا |
من رميض يمنع الظل ومن | عاطش يسقى أنابيب القنا |
لرأت عيناك منهم منظرا | للحشى شجوا وللعين قذا |
ليس هذا رسول الله يا | أمة الطغيان والبغي جزا |
جزروا جزر الأضاحي نسله | ثم ساقوا له سوق ال أما |
يا قتيلا قوض الدهر به | عمد الدين وأركان الهدا |
قتلوه بعد علم منهم | انه خامس أصحاب الكسا |
حملوا رأسا يصلون على | جده الأكرم طوعا وإبا |
يتهادى بينهم لم ينقضوا | عمم الهام ولا حلوا الحبا |
ميت تبكي له فاطمة | وأبوها وعلي ذو العلى |
لو رسول الله يحيا بعده | قعد اليوم عليه للعزا |
وقال الشريف الرضي أيضا من قصيدة:
يوم حدا الطعن فيه لابن فاطمة | سنان مطرد الكعبين مطرور |
فخر للموت لا كف تقلبه | إلا بوطئ من الجرد المحاضير |
ظمآن يسلي نجيع الطعن غلته | عن بارد من عباب الماء مقرور |
لله ملقى على الرمضاء غص به | فم الردى بين أقدام وتشمير |
تحنو عليه الربى ظلا وتستره | عن النواظر أذيال الأعاصير |
تهابه الوحش إن تدنو لمصرعه | وقد أقام ثلاثا غير مقبور |
أغرى به ابن زياد لؤم عنصره | وسعيه ليريد غير مشكور |
ورد إن يتلافى ما جنت يده | وكان ذلك كسرا غير مجبور |
تسبى بنات رسول الله بينهم | والدين غض المبادي غير مستور |
يلقى القنا بجبين شأن صفحته | وقع القنا بين تضميخ وتعفير |
من بعد ما رد أطراف الرماح له | رأي فسيح وقلب غير محصور |
والنقع يسحب من أذياله وله | على الغزالة جيب غير مزرور |
أكل يوم لآل المصطفى قمر | يهوي بوقع العوالي والمباتير |
وكل يوم لهم بيضاء صافية | يشوبها الدهر من رنق وتكدير |
وقال الشريف الرضي أيضا من قصيدة:
ما يبالي الحمام ابن ترقى | بعد ما غالت ابن فاطم غول |
أي يوم أدمى المدامع فيه | حادث رائع وخطب جليل |
يا ابن بنت النبي ضيعت العهد | رجال والحافظون قليل |
إن أمرا قنعت من دونه السيف | لمن حازه لمرعى وبيل |
يا غريب الديار صبري غريب | وقتيل الأعداء نومي قتيل |
ورثاه محمود الملقب بكشاجم الشاعر المشهور بقوله من قصيدة:
يا بئس للدهر حين آل رسول الـ | ـله تجتاحهم جوائحه |
أظلم في كربلاء يومهم | ثم تجلى وهم ذبائحه |
يا شيع الغي والضلال ومن | كلهم جمة فضائحه |
عفرتم بالثرى جبين فتى | جبريل قبل النبي ماسحه |
وبين أيديكم حريق لظى | يلفح تلك الوجوه لافحه |
إن عبتموه بجهلكم فكما | يضر بدر السماء نابحه |
أو تكتموا فالقرآن مشكله | بفضلهم ناطق وواضحه |
قوم أبى حد سيف والدهم | للدين أو يستقيم جامحة |
حاربه القوم وهو ناصره | يوما وغشوه وهو ناصحه |
منخفض الطرف عن حطامهم | وهو إلى الصالحات طامحه |
بحر علوم إذا العلوم طمت | فهي بتيارها ضحاضحه |
يا عترة حبهم يبين به | صالح هذا الورى وطالحه |
مغالق الشر أنتم يا بني أحمد | إذ غيركم مفاتحه |
وممن رثاه من قدماء الشعراء الجبري شاعر آل محمد صلى الله عليه وسلم فقال من قصيدة:
فهم مصابيح الدجى لذوي الحجى | والعروة الوثقى لذي استمساك |
وهم الأدلة كالأهلة نورها | يجلو عمى المتحير الشكاك |
يا أمة ضلت سبيل رشادها | إن الذي استرشدته أغواك |
لا تحسبنك بريئة مما جرى | والله ما قتل الحسين سواك |
يا آل أحمد كم يكابد فيكم | كبدي خطوبا للقلوب نواكي |
وإذا ذكرت مصابكم قال الأسى | لجفوني اجتنبي لذيد كراك |
وابكي قتيلا بالطفوف لأجله | بكت السماء دما فحق بكاك |
وممن رثاه من مشاهير شعراء الشيعة في القرن السادس أبو الفتح محمد بن عبيد الله المعروف بسبط ابن التعاويذي المتوفى سنة 553 فقال من قصيدة:
ولو أكرمت دمعك يا شؤوني | بكيت على الإمام الفاطمي |
على نجم الهدى الساري وبحر الـ | ـعلوم وذروة الشرف العلي |
على الحامي بأطراف العوالي | حمى الإسلام والبطل الكمي |
على الباع الرحيب إذا المت | به الأزمات والكف السخي |
على أندى الأنام يدا ووجها | وأرجحهم وقارا في الندي |
وخير العالمين أبا وأما | وأطهرهم ثرى عرق زكي |
لئن دفعوه ظلما عن حقوق الـ | ـخلافة بالوشيج السمهري |
فما دفعوه عن حسب كريم | ولا ذادوه عن خلق رضي |
لقد فصموا عرى الإسلام عودا | وبدأ في الحسين وفي علي |
ويوم الطف قام ليوم بدر | بأخذ الثار من آل النبي |
بكته الأرض إجلالا وحزنا | لمصرعه وأملاك السمي |
وغودرت الخيام بلا محام | يناضل دونهن ولا ولي |
فما عطف البغاة على الفتاة الـ | ـحصان ولا على الطفل الصبي |
ولا سفروا لث أما عن حياء | ولا كرم ولا أنف حمي |
وساروا بالكرائم من قريش | سبايا فوق أكوار المطي |
فيا لله يوم نعوة ما ذا | وعى سمع الرسول من النعي |
ولو رام الحياة نجا إليها | بعزمته نجاء المضرجي |
ولكن المنية تحت ظل الرقاق | البيض أجدر بالابي |
وممن رثاه الشيخ علي بن الحسين الشهيفيني الحلي من أهل القرن السادس بقصائد كثيرة طويلة أجاد في كثير منها يقول في بعضها:
ماض على عزم يفل بحده الـ | ـماضي حدود البيض حين تجرد |
في أسرة من هاشم علوية | عزت أرومتهم وطاب المولد |
وسراة أنصار ضراغمة لهم | وال أيام الوقائع تشهد |
التائبون العابدون الحامدون | السائحون الراكعون السجد |
ألقت عليه السافيات ملابسا | وكسته وهو من اللباس مجرد |
والسيد السجاد يحمل ضارعا | ويقاد في الأغلال وهو مصفد |
يا للرجال لعبد سوء آبق | أضحى أسيرا في يديه السيد |
لا خير في سفهاء قوم عبدهم | ملك يطاع وحرهم مستعبد |
متباعدون لهم بكل تنوفة | مستشهد وبكل أرض مشهد |
كم مدحة لي فيكم في طيها | حكم تغور بها الركاب وتنجد |
صلى الإله عليكم ما بكرت | ورق على ورق الغصون تغرد |
وقال الأبوصيري صاحب البردة من جملة قصيدته الهمزية في مدح خير البرية:
يا أبا القاسم الذي ضمن أقسامي | عليه مدح له وثناء |
بالعلوم التي لديك من الله | بلا كاتب لها إملاء |
وبريحانتين طيبهما منك | الذي أودعتهما الزهراء |
كنت تؤويهما إليك كما | آوت من الخط نقطتيها الياء |
من شهيدين ليس ينسيني الطف | مصابيهما ولا كربلاء |
ما رعى فيهما ذمامك مرؤوس | وقد خان عهدك الرؤساء |
أبدلوا الود والحفيظة في القر | بي وأبدت ضبابها النافقاء |
وقست منهم قلوب على من | بكت الأرض فقدهم والسماء |
فابكهم ما استطعت إن قليلا | في عظيم من المصاب البكاء |
كل يوم وكل ارض لكربي | فيهم كربلاء وعاشوراء |
آل بيت النبي إن فؤادي | ليس يسليه عنكم التأساء |
آل بيت النبي طبتم فطاب الـ | ـمدح لي فيكم وطاب الرثاء |
أنا حسان مدحكم فإذا نحت | عليكم فإنني الخنساء |
سدتم الناس بالتقى وسواكم | سودته الصفراء والبيضاء |
وقال عبد الباقي العمري الموصلي البغدادي من قصيدة:
حتى جرى بكربلاء ما جرى | وسال حتى بلغ السيل الزبى |
ومادت الأرض ومادت السما | وانهالت الأطواد فيه كثبا |
يوم به الزهراء قد تصعدت | أنفاسها ودمعها تصوبا |
صدوه عن ماء الفرات صاديا | فاختار من حوض أبيه مشربا |
ما ذا يقولون غدا لجده | عذرا إذا عاتبهم وأنبأ |
كان أبوه سيدا كجده | للأنبيا والأوصيا قد نصبا |
ذبح عظيم أبعد الرحمن عن | رحمته الذي به تقربا |
ثغر شريف طالما قبله | أبو الميامين النبي المجتبى |
سل الدعي ابن زياد الذي | إلى أبي أبي يزيد نسبا |
والمصطفى وابنته وصهره | لمن غدوا جدا وأما وأبا |
واحربا يا آل حرب منكم | يا آل حرب منكم وا حربا |
لا عبد شمسكم يساوي هاشما | كلا ولا أمية المطلبا |
ومن فحول الشعراء المتأخرين الذين أكثروا من رثاء الحسين (ع) فأجادوا وسبقوا، الحاج هاشم ابن الحاج حردان الكعبي، وهو ممن لم يمنعهم من اللحاق بفحول الشعراء المتقدمين أمثال أبي تمام والمتنبي إلا خلو زمانهم عن مثل ما حواه ذلك الزمان ممن يجيز الشعراء بالألوف، فنظم في رثائه عدة قصائد فائقة يقول من أحداها:
يا منزلا بمحاني الطف لا برحت | سقيا السحائب منك البان والكثب |
إني وان عنك عاقتني يدا قدر | ببين جسم فقلبي منك مقترب |
لا تحسبن كل دان منك ذا كلف | فالدار بالجنب لكن الهوى جنب |
يا سائق الحرة الوجناء انحلها | طي السري وطواها الأين والنصب |
علامة بضروب السير أقربها | منها إلى رأيها التقريب والخبب |
عج بي إذا جئت غربي الحمى وبدت | منه لمقلتك الأعلام والقبب |
وحي عني الأولى أقمارهم طلعت | من طيبة ولدى كرب البلى غربوا |
قوم كأولهم في الفضل آخرهم | الفضل إن يتساوى البدء والعقب |
من كل أبيض وضاح الجبين له | توران من جانبيه الفضل والنسب |
أمت أمية إن تعلو لها شرفا | ويصبح الرأس مخدوما له الذنب |
فشرمت للوغى فرسانها طربا | وامتاز بالسبك عما دونه الذهب |
حتى إذا سئموا دار البلا وبدت | لهم عيانا هناك الخرد العرب |
جلالها ابن جلا عضب الشبا ذكرا | لا يعرف الصفح إذ يستله الغضب |
تأتى على الحلق الماذي ضربته | ولا يقيم عليها البيض واليلب |
وباسم الثغر والأبطال عابسة | كان جد المنايا عنده لعب |
لا يسلب القرن إذ يرديه بزته | والليث همته المسلوب لا السلب |
ماض بماض إذا استقبلت أمرهما | بدا لعينيك من فعليهما العجب |
تلقى الردى في الندى طلق العنان كما | ترى حياة الورى محمولها العطب |
يا غيث كل الورى إن عم عامهم | جدب ويا غوثهم إن نابت النوب |
والثابت العزم والأهوال مقبلة | والراسخ الحلم والأحلام تضطرب |
ما غالبت صبرك الدنيا ومحنتها | إلا انثنت وله من دونها الغلب |
ولا تروع لك الأيام سرب حجى | بلى إذا ريعت الاعلام والهضب |
إن يصبح الكون داجي اللون بعدك | الأيام سودا وحسن الدهر مستلب |
فأنت كالشمس ما للعالمين غنى | عنها ولم تجزهم من دونها الشهب |
وقال الحاج هاشم أيضا من قصيدة:
آل الرسول ونعم | أكفاء العلى آل الرسول |
خير الفروع فروعهم | وأصولهم خير الأصول |
ركبوا إلى العز المنون | وجانبوا عيش الذليل |
أو ما سمعت ابن البتولة | لو دريت ابن البتول |
إذ قادها شعث النواصي | عاقدات للذيول |
يطوي بها متن الوعور | معارضا طي السهول |
متنكب الورد الذميم | مجانب المرعى الوبيل |
طلاب مجد بالحسام | العضب والرمح الطويل |
لف الرجال بمثلها | وثنى الخيول على الخيول |
وأباحها عضب الشبا | لا بالكهام ولا الكليل |
خلط البراعة بالشجاعة | فالصليل عن الدليل |
للسانه وسنانه | صدقان من طعن وقيل |
ذات الفقار بكفه | وبكتفه ذات الفضول |
قل الصحابة غير إن | قليلهم غير القليل |
من كل أبيض واضح | الحسبين معدوم المثيل |
يمشون في ظلل القنا | ميل المعاطف غير ميل |
يا ابن الذين توارثوا الـ | ـعليا قبيلا عن قبيل |
والسابقين بمجدهم | في كل جيل كل جيل |
إن تمس منكسر اللوا | ملقى على وجه الرمول |
فلقد قتلت مهذبا | من كل عيب في القتيل |
جم المناقب لم تكن | تعطي العدا كف الذليل |
كلا ولا أقررت | اقرار العبيد على الخمول |
يهدى لك الذكر الجميل | على الزمان المستطيل |
يا طف طاف على مقا | مك كل هتان هطول |
وقال الحاج هاشم أيضا من قصيدة:
جزى الله قوما أحسنوا الصبر، والبلا | مقيم وداعي الموت يدعو ويخطب |
إذ الصارم الهندي خلى سبيله | وحاد عن القصد السنان المذرب |
وقامت تحامي دونه هاشمية | تحن إلى وصل المنايا وتطرب |
أتوا في العلى ما ليس يدرى فأغربت | معاني الثنا في مجدهم حيث أغربوا |
ترى الطير في آثارهم طالب القرى | متى ضمهم في حومة الحرب موكب |
أبادوهم قتلا وأسرا ومثلة | كان رسول الله ليس لهم أب |
ففي كل نجد في البلاد وحاجر | لهم قمر يهوي وشمس تغيب |
بني الوحي يا كهف الطريد ومن بهم | يلوذ فينجو الخائف المترقب |
منازلكم للنازلين مرابع | يريف بها عاف ويخصب مجدب |
وقال الحاج هاشم أيضا من قصيدة:
وأقام معدوم النظير فريد بيـ | ـت المجد معدوم النصير فريدا |
يلقى القفار صواهلا ومناصلا | ويرى النهار قساطلا وبنودا |
ساموه إن يرد الهوان أو المية | والمسود لا يكون مسودا |
فثوى بمستن النزال مقطع ال | أوصال مشكور الفعال حميدا |
وقال أيضا من قصيدة:
سبقوا الأنام فضائلا وفواضلا | ومأثرا ومفاخرا وسدادا |
ومراتبا ومناقبا ومساعيا | ومعاليا وجلادة وجلادا |
ورثاه من شعراء الشيعة المتأخرين من أهل القرن الثاني عشر الشيخ عبد الحسين الأعسم النجفي بقصائد على عدد حروف المعجم أجاد فيها ما شاء وكلها في الدر النضيد.
وللفقير مؤلف هذا الكتاب عدة قصائد مودعة في الدر النضيد يرجو ناظمها من كرمه تعالى إن يكون معدودا من ناصري أهل البيت (ع) بلسانه إن لم يستطع نصرهم بيده.
مدفن رأس الحسين
عليه السلام
اختلف فيه على أقوال ذكرناها في لواعج الاشجان:
الأول: إنه عند أبيه أمير المؤمنين (ع) بالنجف معه إلى جهة رأسه الشريف ذهب إليه بعض علماء الشيعة استنادا إلى أخبار وردت بذلك في الكافي والتهذيب وغيرهما من طرق الشيعة عن الأئمة (ع)، وفي بعضها إن الصادق (ع) قال لولده إسماعيل أنه لما حمل إلى الشام سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين (ع) ويؤيده ورود زيارة للحسين من عند رأس أمير المؤمنين (ع) عن أئمة أهل البيت
الثاني: أنه مدفون مع جسده الشريف، وفي البحار أنه المشهور بين علمائنا الإمامية رده علي بن الحسين (ع)، وفي الملهوف أنه أعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه. واعتمده هو أيضا في كتاب الإقبال، وقال ابن نما الذي عليه المعول من الأقوال أنه أعيد إلى الجسد بعد أن طيف به في البلاد ودفن معه. وعن المرتضى في بعض مسائله أنه رد إلى بدنه بكربلاء من الشام، وقال الشيخ الطوسي ومنه زيارة الأربعين. وقال سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص أشهر الأقوال أن يزيد رده إلى المدينة مع السبايا ثم رد إلى الجسد بكربلاء فدفن معه قاله هشام وغيره
الثالث: أنه مدفون بظهر الكوفة دون قبر أمير المؤمنين (ع) رواه في الكافي بسنده عن الصادق (ع)
الرابع: أنه دفن بالمدينة المنورة عند قبر أمه فاطمة (ع) وأن يزيد أرسله إلى عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة فدفن عند أمه الزهراء (ع) وأن مروان بن الحكم كان يومئذ بالمدينة فأخذه وتركه بين يديه وقال:
يا حبذا بردك في اليدين | ولونك الأحمر في الخدين |
والله لكأني أنظر إلى أيام عثمان. حكاه سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص عن ابن سعد في الطبقات. وفي كتاب جواهر المطالب لأبي البركات شمس الدين محمد الباغندي الشافعي كما في نسخة مخطوطة في المكتبة الرضوية عند ذكر أحوال الحسين (ع): وأما رأسه فالمشهور بين أهل التاريخ والسير أنه بعثه ابن زياد الفاسق إلى يزيد بن معاوية وبعث به يزيد إلى عمرو بن سعيد الأشدق لطيم الشيطان وهو إذ ذاك بالمدينة فنصبه ودفن عند أمه بالبقيع
الخامس: إنه بدمشق قال سبط ابن الجوزي حكى ابن أبي الدنيا قال وجد رأس الحسين (ع) في خزانة يزيد بدمشق فكفنوه ودفنوه بباب الفراديس وكذا ذكر البلاذري في تاريخه قال هو بدمشق في دار الإمارة وكذا ذكر الواقدي أيضا وفي جواهر المطالب ذكر ابن أبي الدنيا إن الرأس لم يزل في خزانة يزيد حتى هلك فاخذ ثم غسل وكفن ودفن داخل باب الفراديس بمدينة دمشق ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال وجدت رأس الحسين (ع) في خزانة يزيد بن معاوية فكسوته خمسة أثواب من الديباج وصليت عليه في جماعة من أصحابي وقبرته ‹ صفحة 627 › وفي رواية أنه مكث في خزائن بني أمية حتى ولي سليمان بن عبد الملك فطلب فجيء به وهو عظم أبيض في سفط وطيبه وجعل عليه ثوبا ودفنه في مقابر المسلمين بعد ما صلى عليه فلما ولي عمر بن عبد العزيز سأل عن موضعه فنبشه وأخذه والله أعلم ما صنع به وقال بعضهم: الظاهر من دينه أنه بعث به إلى كربلاء فدفنه مع الجسد الشريف. وفي جواهر المطالب عن الحافظ بن عساكر إن يزيد بعد ما نصبه بدمشق ثلاثة أيام وضعه بخزانة السلاح حتى كان زمن سليمان بن عبد الملك فجيء به وقد بقي عظما أبيض فكفنه وطيبه وصلى عليه ودفنه في مقابر المسلمين وروى ابن نما عن منصور بن جهور أنه دخل خزانة يزيد لما فتحت فوجد بها جونة حمراء فقال لغلامه سليم احتفظ بهذه الجونة فإنها كنز من كنوز بني أمية فلما فتحها إذا فيها رأس الحسين (ع) وهو مخضوب بالسواد فلفه في ثوب ودفنه عند باب الفراديس عند البرج الثالث مما يلي المشرق انتهى أقول: وكأنه هو الموضع المعروف الآن بمسجد أو مقام أو مشهد رأس الحسين (ع) بجانب المسجد الأموي بدمشق وهو مشهد مشيد معظم السادس أنه بمسجد الرقة على الفرات بالمدينة المشهورة، حكى سبط ابن الجوزي عن عبد الله بن عمر الوراق إن يزيد لعنه الله قال لأبعثنه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان وكانوا بالرقة فبعثه إليهم فدفنوه في بعض دورهم ثم أدخلت تلك الدار في المسجد الجامع، قال وهو إلى جنب سدرة هناك وعليه شبه النيل أولا يذهب شتاء ولا صيفا.
السابع: إنه بمصر نقله الخلفاء الفاطميون من باب الفراديس إلى عسقلان ثم نقلوه إلى القاهرة وله فيها مشهد عظيم يزار نقله سبط ابن الجوزي أقول: حكى غير واحد من المؤرخين إن الخليفة الفاطمي بمصر أرسل إلى عسقلان وهي بين مصر والشام فاستخرج رأسا قال إنه رأس الحسين (ع) وجيء به إلى مصر فدفن فيها في المشهد المعروف الآن وهو مشهد معظم يزار وإلى جانبه مسجد عظيم رأيته في سنة 1321 والمصريون يتوافدون إلى زيارته أفواجا رجالا ونساء ويدعون ويتضرعون عنده وأخذ الفاطميين لذلك الرأس من عسقلان ودفنه بمصر لا ريب فيه لكن الشأن في كونه رأس الحسين (ع) وهذه الوجوه الأربعة الأخيرة كلها من روايات أهل السنة وأقوالهم خاصة والله أعلم.
مشهد رؤوس العباس وعلي الأكبر وحبيب بن مظاهر بدمشق
رأيت بعد سنة 1321 في المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهدا وضع فوق بابه صخرة كتب عليها ما صورته:
هذا مدفن رأس العباس بن علي ورأس علي بن الحسين الأكبر ورأس حبيب بن مظاهر ثم أنه بعد ذلك بسنين هدم هذا المشهد وأعيد بناؤه وأزيلت هذه الصخرة وبني ضريح داخل المشهد ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء، ولكن الحقيقة أنه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المقدم ذكرها بحسب ما كان موضوعا على بابه كما مر. وهذا المشهد: الظن قوي بصحة نسبته لأن الرؤوس الشريفة بعد حملها إلى دمشق والطواف بها وانتهاء غرض يزيد من إظهار الغلبة والتنكيل بأهلها والتشفي لا بد إن تدفن في إحدى المقابر فدفنت هذه الرؤوس الثلاثة في مقبرة باب الصغير وحفظ محل دفنها والله أعلم.
البناء على قبر الحسين (ع)
أول من بنى القبر الشريف بنو أسد الذين دفنوا الحسين (ع) وأصحابه يظهر ذلك من الخبر المروي في كامل الزيارة عن زائدة عن زين العابدين (ع) حيث قال فيه: قد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض هم معروفون في أهل السماوات إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة وهذه الجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا اللطف علما لقبر سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام. ومن قول ابن طاوس في الاقبال إنهم أقاموا رسما لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء يكون علما لأهل الحق. ويدل خبر مجيء التوابين إلى القبر الشريف انه في ذلك الوقت وهو سنة هلاك يزيد 63 أو 64 كان ظاهرا معروفا ولا يكون ذلك إلا ببنائه. أما تعمير القبة عليه فقد تكرر مرارا.
العمارة الأولى للقبة الشريفة
التي كانت في زمن بني أمية إذ تدل جملة من الآثار والأخبار أنه كان عليه سقيفة ومسجد في زمن بني أمية واستمر ذلك إلى زمن الرشيد من بني العباس لكن لا يعلم أول من بنى ذلك قال السيد محمد بن أبي طالب الحسني الحائري فيما حكي عن كتابه تسلية المجالس وزينة المجالس في مقتل الحسين (ع): كان قد بني عليه مسجد ولم يزل كذلك بعد زمن بني أمية وفي زمن بني العباس إلى آخر كلامه وسيأتي. ويدل الخبر الذي رواه السيد علي بن طاوس في الإقبال عن الحسين بن أبي حمزة أنه كان عليه سقيفة لها باب في آخر زمن بني أمية حيث قال فيه: خرجت في آخر زمن بني أمية وأنا أريد قبر الحسين (ع) إلى إن قال: حتى إذا كنت على باب الحائر خرج إلي رجل ثم قال: فلما انتهيت إلى باب الحائر: فجئت فدخلت. وقال الصادق (ع) لجابر الجعفي في حديث رواه ابن قولويه في كامل الزيارة إذا أتيت قبر الحسين (ع) فقل. وجابر توفي على ما ذكره النجاشي سنة 128 ومات مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية سنة 132 فتكون وفاته قبل انقضاء دولتهم بأربع سنين، وروى ابن قولويه في كامل الزيارة عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق (ع) في كيفية زيارة الحسين (ع) أنه قال فإذا أتيت الباب الذي يلي الشرق فقف على الباب وقل. ثم قال ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء. وهو صريح في إن البناء كان سقيفة له باب من الشرق وقوله الباب الذي يلي الشرق يدل على وجود باب غيره وفي حديث صفوان الجمال عن الصادق (ع) إذ أردت زيارة الحسين بن علي فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل ثم ادخل رجلك اليمنى القبة وأخر اليسرى وقل ثم ادخل الحائر وقم بحذائه. (وقال المفيد) في مزاره عند ذكره لرواية صفوان بن مهران فإذا أتيت باب الحائر فقف ثم تأتى باب القبة فقف من حيث يلي الرأس ثم أخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين ثم توجه إلى الشهداء ثم امش حتى تأتى مشهد العباس بن علي فقف على باب السقيفة وقل وروى ابن قولويه بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق (ع): فإذا أردت زيارة العباس فقف على باب السقيفة وقل ثم ادخل.
هدم الرشيد قبر الحسين (ع)
وبقيت هذه القبة إلى زمن الرشيد فهدمها وكرب موضع القبر وكان عنده سدرة فقطعها. وقال السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الحائري فيما حكي عن كتابه تسلية المجالس وزينة المجالس: وكان قد بنى عليه مسجد ولم يزل كذلك بعد بني أمية وفي زمن بني العباس إلا على زمن هارون الرشيد فإنه خربه وقطع السدرة التي كانت ثابتة عنده وكرب موضع القبر ويوجد إلى الآن باب من أبواب الصحن الشريف يسمى باب السدرة ولعل السدرة كانت عنده أو بجنبه.
العمارة الثانية
في زمن المأمون. قال محمد بن أبي طالب في تتمة كلامه السابق بعد ما ذكر تخريب الرشيد له: ثم أعيد على زمن المأمون وغيره.
هدم المتوكل قبر الحسين (ع)
قال الطبري في تاريخه: في سنة 236 أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من إتيانه فذكر إن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه وحرث ذلك الوضع وزرع ما حواليه ويعلم من ذلك كان قد بنى حوله دور ومساكن وسكن الناس هناك لقوله أنه أمر بهدمه وهدم ما حوله من المنازل والدور. وروى الشيخ الطوسي في ال أما لي عن ابن حشيش عن أبي المفضل الشيباني عن علي بن عبد المنعم بن هارون الخديجي من شاطئ النيل قال حدثني جدي القاسم بن أحمد بن معمر الأسدي الكوفي وكان له علم بالسيرة وأيام الناس قال بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم إن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (ع) فيصير إلى قبره منهم خلق كثير فأنفذ قائدا من قواده وضم إليه عددا كثيفا من الجند ليشعث قبر الحسين ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر وذلك في سنة 237 فثار أهل السواد واجتمعوا عليه وقالوا لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا فكتب بالأمر إلى الحضرة فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم إلى الكوفة مظهرا إن مسيره إليها في مصالح لها والانكفاء إلى المصر فمضى على ذلك زمن حتى كانت سنة 247 فبلغ المتوكل أيضا مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (ع) وأنه قد كثر جمعهم لذلك وصار لهم سوق كبير فأنفذ قائدا في جمع كثير من الجند وأمر مناديا ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره ثم نبش القبر وحرث أرضه وانقطع الناس عن الزيارة وعمد على تتبع آل أبي طالب والشيعة فقتل ولم يتم له ما قدره أقول فيكون ابتداء أمر المتوكل بذلك سنة 236 ثم أعاد الكرة سنة 237 ثم فعل مثل ذلك سنة 247 وفيها قتل المتوكل فكان يمنع من زيارته فيمتنع الناس مدة أو تقل زيارتهم ويزورون خفية ثم تكثر زيارتهم فيجدد المنع إلى إن قتله الله. وقد قال بعض الشعراء في ذلك:
أيحرث بالطف قبر الحسين | ويعمر قبر بني الزانية |
لعل الزمان بهم قد يعود | ويأتي بدولتهم ثانيه |
وقال في تتمة كلامه السابق بعد ما ذكر انه أعيد تعميره على زمن المأمون وغيره قال: إلى إن حكم المتوكل من بني العباس فأمر بتخريب قبر الحسين (ع) وقبور أصحابه وكرب مواضعها وأجرى الماء عليها وكان المتوكل شديد البغض لعلي وأهل بيته (ع).
العمارة الثالثة
عمارة المنتصر. قال محمد بن أبي طالب في تتمة كلامه السابق بعد ما ذكر تخريب المتوكل القبر الشريف قال: إلى إن قتل المتوكل وقام بالأمر بعده ابنه المنتصر فعطف على آل أبي طالب وأحسن إليهم وفرق فيهم الأموال وأعاد القبور في أيامه وذكر غير واحد من المؤرخين أنه أمر الناس بزيارة قبر الحسين ع. وقال المجلسي في البحار إن المنتصر لما قتل أباه وتخلف بعده أمر ببناء الحائر وبني ميلا على المرقد الشريف وأحسن إلى العلويين وآمنهم بعد خوفهم ومر في الجزء الثالث عند ذكر تعمير قبر أمير المؤمنين (ع) إن السقيفة التي كانت على قبر الحسين (ع) سقطت سنة 273 وهذه التي بناها المنتصر وبويع له بالخلافة سنة 247 وتوفي بعد خمسة أشهر وليست التي بناها الداعي محمد بن زيد التي تأتى لتصريح ابن طاوس في فرحة الغري إنها كانت أيام المعتضد والمعتضد بويع سنة 279 وتوفي سنة 289.
العمارة الرابعة
عمارة محمد بن زيد بن الحسن بن محمد بن إسماعيل حالب الحجارة ابن الحسن دفين الحاجر بن زيد الجواد بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب الملقب بالداعي الصغير ملك طبرستان بعد أخيه الحسن الملقب بالداعي الكبير عشرين سنة وبنى المشهدين الغروي والحائري أيام المعتضد قال محمد بن أبي طالب في تتمة كلامه السابق بعد ما ذكر إعادة القبور في أيام المنتصر قال: إلى إن خرج الداعيان الحسن ومحمد ابنا زيد بن الحسن فأمر محمد بعمارة المشهدين مشهد أمير المؤمنين ومشهد أبي عبد الله الحسين وأمر بالبناء عليهما وكانت هذه العمارة ما بين 279 و289 وفي كلام لبعض المعاصرين أنه انتهى منها سنة 280. العمارة الخامسة
عمارة عضد الدولة فناخسرو بن بويه الديلمي قال محمد بن أبي طالب في تتمة كلامه السابق بعد ما ذكر عمارة محمد بن زيد: وبعد ذلك بلغ عضد الدولة بن بويه الغاية في تعظيمهما وعمارتهما والأوقاف عليهما وكان يزورهما كل سنة وفي كتاب لبعض المعاصرين انه لما زار المشهد الحسيني سنة 371 بالغ في تشييد الأبنية حوله وأجزل العطاء لمن جاوره وتوفي سنة 372 بعد ما ولي العراق خمس سنين وفي زمانه بنى عمران بن شاهين الرواق المعروف برواق عمران في المشهد الحائري.
العمارة السادسة
عمارة الحسن بن مفضل بن سهلان أبو محمد الرامهرمزي وزير سلطان الدولة بن بويه الديلمي قال ابن الأثير في حوادث سنة 407 فيها في 14 ربيع الأول احترقت قبة الحسين والأروقة وكان سببه إنهم أشعلوا شمعتين كبيرتين فسقطت في الليل على التأزير فاحترق وتعدت النار فجددها الوزير المذكور وفي مجالس المؤمنين عن تاريخ ابن كثير الشامي أنه بنى سور الحائر الحسيني وقتل سنة 460 قيل وهذا السور هو الذي ذكره ابن إدريس في سنة 588 في كتاب المواريث من السرائروهذه العمارة هي التي رآها ابن بطوطة وذكرها في رحلته التي كانت سنة 727.
العمارة السابعة
الموجودة الآن أمر بها السلطان أويس الإيلخاني سنة 767 وتاريخها هذا موجود فوق المحراب القبلي مما يلي الرأس الشريف وأكملها ولده أحمد بن أويس سنة 786 وقد زيد فيها وأصلحت من ملوك الشيعة وغيرهم، وفي عام 930 دى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقا بديع الصنع إلى القبر الشريف وفي عام 1048 شيد السلطان مراد العثماني الرابع ‹ صفحة 629 › القبة وجصصها وفي سنة 1135 أنفقت زوجة نادر شاة مبالغ طائلة لتعمير الروضة الحسينية وفي سنة 1232 أمر فتح علي شاة بتذهيب القبة الشريفة.
هدم الوهابية قبر الحسين (ع)
في سنة 1216 جهز سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الوهابي النجدي جيشا من أعراب نجد ويقول بعض مؤرخي الإفرنج أنه يقرب من ستمائة هجان وأربعمائة فارس وغزا به العراق وحاصر مدينة كربلاء مغتنما فرصة غياب جل الأهلين في النجف لزيارة الغدير ثم دخلها يوم 18 ذي الحجة عنوة وأعمل في لها السيف فقتل منهم ما بين أربعة آلاف إلى خمسة آلاف وقتل الشيوخ والأطفال والنساء ولم ينج منهم إلا من تمكن من الهرب أو اختبأ في مخبأ ونهب البلد ونهب الحضرة الشريفة وأخذ جميع ما فيها من فرش وقناديل وغيرها وهدم القبر الشريف واقتلع الشباك الذي عليه وربط خيله في الصحن المطهر ودق القهوة وعملها في الحضرة الشريفة ونهب من ذخائر المشهد الحسيني الشيء الكثير ثم كر راجعا إلى بلاده