الصاحب ابن عباد اسماعيل بن العباس ن أبو القاسم الطالقاني: وزير غلب عليه الادب، فكان من نوادر الدهر علما وفضلا وتدبيرا وجودة رأي. استوزره مؤيد الدولة ابن بويه الديلمي ثم اخوه فخر الدولة. ولقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه. فكان يدعوه بذلك. ولد في الطالقان (من اعمال قزوين) واليها نسبته، وتوفي بالري ونقل إلى اصبهان فدفن فيها. له تصانيف جليلة، منها (المحيط - خ) سبع مجلدات في الغة، وكتاب (الوزراء) و (الكشف عن مساويء شعر المتنبي - ط) و (الاقناع في العروض وتخريج القوافي - خ) و (عنوان المعارف وذكر الخلائف - خ) رسالة، و (الاعياد وفضائل النيروز) وقد جمعت رسائله في كتاب سمى (المختار من رسائل الوزير ابن عباد - خ) وله شعر فيه رقة وعذوبة. وتواقيعه اية الابداع في الانشاء.

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 1- ص: 316

الصاحب بن عباد اسمه إسماعيل.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 7- ص: 357

الصاحب ابن عباد إسماعيل بن عباد بن العباس بن عباد الوزير الملقب بالصاحب كافي الكفاة أبو القاسم، من الطالقان وهي ولاية بين قزوين وأبهر، وهي عدة قرى يقع عليها هذا الاسم، وبخراسان بلدة غير هذه يقع عليها هذا الاسم خرج منها جماعة من العلماء. قال فيه الرستمي شاعره:

ومدحه أبو المرجى الأهوازي بقصيدة لما ورد الأهواز، منها:
فاستحسن جمعه بين اسمه ولقبه وكنيته واسم أبيه في بيت واحد، وذكر وصوله إلى بغداد وملكه إياها فقال:
#ويشرب الجند هنيئا بها فقال له: أمسك! فأمسك. فقال: تريد أن تقول:
#من بعد ماء الري ماء الفراه؟ فقال كذا والله! فضحك. وقال السلامي يهجوه:
وقال فيه أيضا يمدحه:
كان أبو القاسم وزير مؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه وأخيه فخر الدولة وكانت وزارته ثماني عشرة سنة وشهرا واحدا. وهو أول من سمي الصاحب من الوزراء لأنه صحب مؤيد الدولة من الصبي وسماه الصاحب فغلب عليه هذا اللقب. وقيل: لأنه كان صاحب ابن العميد. وتوفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة مات والده عباد وهي السنة التي ولد فيها الصاحب أبو القاسم إسماعيل، وكان من أهل العلم، سمع أبوه أبا خليفة الفضل بن الحباب وغيره من البغداديين والرازيين والأصبهانيين وصنف كتابا في أحكام القرآن نصر فيه مذهب الاعتزال. ولما مات الصاحب أبو القاسم إسماعيل أغلقت له مدينة الري واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيروا لباسهم، فلما خرج نعشه صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة وقبلوا الأرض، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة وقعد للجنازة أياما. ورثاه أبو سعيد الرستمي فقال:
وقال أبو القاسم ابن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني: رأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: لم لم ترث الصاحب مع فضلك وشعرك؟ فقلت: ألجمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بما أبدأ منها وخفت أن أقصر وقد ظن بي الاستيفاء لها. فقال: أجز ما أقوله! فقلت: قل! فقال:
#ثوى الجود والكافي معا في حفيرة فقلت:
#ليأنس كل منهما بأخيه. فقال:
#هما اصطحبا حيين ثم تعانقا. فقلت:
#ضجيعين في لحد بباب ذريه. فقال:
#إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهم. فقلت:
#أقاما إلى يوم القيامة فيه. وكان الصاحب نادرة عصره وأعجوبة دهره في الفضائل والمكارم. أخذ الأدب عن ابن العميد وابن فارس وسمع من أبيه ومن غير واحد، وحدث وأملى. واتخذ لنفسه بيتا سماه بيت التوبة وجلس فيه أسبوعا وأخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته، وخرج متحنكا متطلسا بزي أهل العلم وقال للناس: قد علمتم قدمي في العلم، فكل أقر له بذلك، وقال: قد علمتم أني متلبس بهذا الأمر الذي أنا فيه وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي، ثم مع هذا كله لا أخلو من تبعات، أشهد الله وأشهدكم أني تائب إلى الله عز وجل من كل ذنب أذنبته. ولبث في ذلك البيت أسبوعا، ثم خرج فقعد للإملاء، وحضر الناس الكثير إلى الغاية، كان المستملي الواحد لا يقوم بالإملاء حتى انضاف إليه ستة كل يبلغ صاحبه، وكان الأول ابن الزعفراني الحنفي وكان إذ ذاك رئيسهم، فما بقي في المجلس أحد من أهل العلم إلا وقد كتبه حتى القاضي عبد الجبار وهو قاضي القضاة بالري.
وقال الصاحب: حضرت مجلس ابن العميد عشية من عشايا رمضان وقد حضره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة وأنا إذ ذاك في ريعان شبابي، فما تفوض المجلس وانصرف القوم إلا وقد حل الإفطار فأنكرت ذلك في نفسي واستقبحت إغفاله أمر إفطار الحاضرين مع وفور رياسته واتساع حاله، واعتقدت أن لا أخل بما أخل به إذا قمت مقامه. فكان الصاحب لا يدخل عليه أحد في رمضان بعد العصر كائنا من كان فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو كل ليلة من ليالي رمضان من ألف نفس مفطرة، وكانت صدقاته وقرباته تبلغ في شهر رمضان مبلغ ما يطلقه في السنة كلها. وكان في الصغر إذا أراد المضي إلى المسجد ليقرأ تعطيه والدته دينارا في كل يوم ودرهما وتقول له: تصدق بهذا على أول فقير تلقاه! فجعل هذا دأبه في شبابه إلى أن كبر وماتت والدته، وهو على هذا يقول للفراش في كل ليلة: اطرح تحت المطرح دينارا ودرهما! لئلا ينساه. فبقي على هذا مدة، ثم إن الفراش نسي ليلة من الليالي أن يطرح له الدرهم والدينار فانتبه وصلى وقلب المطرح ليأخذ الدرهم والدينار فما رآهما، فتطير من ذلك وظن أنه لقرب أجله، فقال للفراشين: شيلوا كل ما هنا من الفرش وأخرجوه وأعطوه لأول فقير تلقونه حتى يكون كفارة لتأخير هذا! فلقوا أعمى هاشميا يتكئ على يد امرأة، فقالوا: تقبل هذا! فقال: ما هو؟ فقالوا: مطرح ديباج ومخاد ديباج. فأغمي عليه، فأعلموا الصاحب بأمره فأحضره وسقاه شرابا بعدما رش عليه الماء، فلما أفاق سأله، فقال: اسألوا هذه المرأة إن لم تصدقوني، فقال له: اشرح! فقال: أنا رجل شريف ولي ابنة من هذه المرأة خطبها رجل فزوجناه، ولي سنتين آخذ القدر الذي يفضل عن قوتنا أشتري لها به قطعة صفراء وطفرية وما أشبه ذلك. فلما كان البارحة قالت أمها: اشتهيت لها مطرح ديباج ومخاد ديباج. فقلت: من أين لي ذلك؟ وجرى بيني وبينها خصومة إلى أن سألتها أن تأخذ بيدي وتخرجني حتى أمضي على وجهي، فلما قال لي هؤلاء هذا الكلام حق لي أن يغشى علي. فقال: لا يكون الديباج إلا مع ما يليق به، هاتم الأنماطيين! فجيء بهم فاشترى منهم الجهاز الذي يليق بذلك المطرح، وأحضر زوج الصبية ودفع إليه بضاعة سنية.
واستدعى في بعض الأيام شرابا، فأحضروا قدحا، فلما أراد أن يشربه قال له أحد خواصه: لا تشربه فإنه مسموم! وكان الغلام الذي ناوله واقفا، فقال للمحذر له: ما الشاهد على صحة قولك؟ قال: تجربه في الذي ناولك إياه! فقال: لا أستجيز ذلك ولا أستحله! قال: فجربه في دجاجة. قال: التمثيل بالحيوان لا يجوز. ورد القدح وأمر بقلبه، وقال للغلام: انصرف عني ولا تدخل داري! وأمر بإقرار جاريه وجرايته عليه وقال: لا يدفع اليقين بالشك، والعقوبة بقطع الرزق نذالة.
وقال الصاحب: أنفذ إلي أبو العباس تاش الحاجب رقعة في السر بخط صاحبه نوح بن منصور ملك خراسان يريدني فيها على الانحياز بحضرته ليلقي إلي مقاليد ملكه ويعتمدني لوزارته ويحكمني في ثمرات بلاده. قال: فكان فيما اعتذرت إليه من تركي امتثال أمره طول ذيلي وكثرة حاشيتي وصبيتي وحاجتي لنقل كتبي خاصة إلى أربعمائة جمل. فما الظن بما يليق بها من تجمل مثلي؟ وكان يقول لجلسائه: نحن بالنهار سلطان وبالليل إخوان. وكان مكي المنشد قديم الصحبة للصاحب والخدمة فأساء إليه غير مرة، فلما كثر ذلك منه أمر بحبسه في دار الضرب وكانت في جواره، فاتفق أن الصاحب صعد سطح داره وأشرف على دار الضرب فناداه مكي: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} فضحك الصاحب وقال: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} ثم أمر بإطلاقه. ودخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه، فقال: أبو من؟ فأنشد الرجل:
فقال له: اجلس يا أبا القاسم! وقال الصاحب: ما قطعني إلا شاب ورد علينا إلى أصبهان بغدادي، فقصدني فأذنت له وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاق، فنظرت إلى حاجبي فقال له وهو يصعد إلي: اخلع نعلك! فقال: ولم؟ لعلي أحتاج إليها بعد ساعة! فغلبني الضحك وقلت: أتراه يريد أن يصفعني؟ وقال محمد بن المرزبان: كنا بين يديه ليلة فنعس، وأخذ إنسان يقرأ سورة الصافات، فاتفق أن بعض هؤلاء الأجلاف من أهل ما وراء النهر نعس أيضا وضرط ضرطة منكرة، فانتبه وقال: يا أصحابنا نمنا على {والصافات} وانتبهنا على {والمرسلات}. وقال أيضا: انفلتت ليلة ضرطة من بعض الحاضرين وهو في الجدل، فقال على حدته: كانت بيعة أبي بكر، خذوا فيما أنتم فيه! يعني أنه قيل في بيعة أبي بكر رضي الله عنه: إنما كانت فلتة. وقال قوم من أصبهان للصاحب‎: لو كان القرآن مخلوقا لجاز أن يموت، ولو مات القرآن في آخر شعبان بماذا كنا نصلي التراويح في رمضان؟ فقال الصاحب: لو مات القرآن لكان يموت رمضان ويقول: لا حياة لي بعدك، ولا نصلي التراويح ونستريح! ويقال: إن ابن أبي الحظيري أتى إليه يوما فقام له، فمر مسرعا لأجله فضرط فقال: يا مولانا الصاحب، هذا صرير التخت. فقال: بل صفير التحت! فذهب وقد استحيى وانقطع، فكتب إليه:
وكان الصاحب قد ولى عبد الجبار الأسداباذي قضاء القضاة بهمذان والجبال، فاستقبله يوما ولم يترجل له. وقال: أيها الصاحب، أريد أن أترجل للخدمة ولكن العلم يأبى ذلك. وكان يكتب في عنوان كتابه: إلى الصاحب، داعيه عبد الجبار بن أحمد، ثم كتب: وليه عبد الجبار بن أحمد، ثم كتب عبد الجبار بن أحمد. فقال الصاحب لندمائه: أطنه يؤول أمره إلى أن يكتب الجبار وقال ابن بابك: سمعت الصاحب يقول: مدحت -والعلم عند الله- بمائة ألف قصيدة شعرا، عربية وفارسية، وقد أنفقت أموالي على الشعراء والأدباء والزوار والقصاد، ما سررت بشعر ولا سرني شاعر كما سرني أبو سعيد الرستمي الأصبهاني بقوله:
#ورث الوزارة كابرا عن كابر. البيتين. كتب عامل إليه رقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله فعل. فوقع الصاحب تحتها: من كتب إشغالي لا يصلح لأشغالي. ووقع إلى أبي الحسن الشقيقي البلخي: من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر فما لكسرك جبر. ولما كان ببغداد قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام له وتحفز تحفزا أراه به ضعفا عن حركته وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه وأقامه وقال: نعين القاضي على قضاء حقوق إخوانه! فخجل القاضي أبو السائب واعتذر إليه. ووجد يوما بعض ندمائه متغير السحنة، فقال: ما الذي بك؟ قال: حما. فقال له الصاحب: قه. فقال له النديم: وه. فاستحسن ذلك منه وخلع عليه. قلت: إنما قال له الصاحب قه لأنه لا يقال في ذلك إلا حميا فأضاف إليها القاف والهاء لتصير حماقه، فلطف النديم وظرف في زيادة الواو والهاء ليصير ذلك قهوة. وضرب الصاحب معلمه يوما، فأنشد يقول:
وسأل أبا الحسن علي بن عيسى الربعي عن مسألة فأجاب جوابا أخطأ فيه، فقال له: أصبت فقبل الأرض شكرا، فلما رفع رأسه قال له: عين الخطأ. وعزل الصاحب عاملا بقم فكتب إليه: أيها العامل بقم، قد عزلناك فقم! وما عظم وزيرا مخدومه وما عظم فخر الدولة الصاحب ابن عباد. قال الصاحب: ما استأذنت على فخر الدولة قط وهو في مجلس أنسه إلا انتقل إلى مجلس الحشمة وأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذل بين يدي أو مازحني قط إلا مرة واحدة، فإنه قال لي: بلغني أنك تقول: إن المذهب مذهب الاعتزال والنيك نيك الرجال. فأظهرت الكراهة لانبساطه وقلت: بنا من الجد ما لا نفرغ معه للهزل! ونهضت. وقال الصاحب يوما: كان أبو الفضل -يعني ابن العميد- سيدا ولكن لم يشق غبارنا ولا أدرك شوارنا ولا فسخ عذارنا ولا عرف غرارنا، ولا في علم الدين ولا فيما يرجع إلى نفع المسلمين. فأما ابنه فقد عرفتم قدره في هذا وفي غيره، طياش قلاش، ليس عنده إلا قاش وقماش، مثل ابن عياش، والهروي الحواشي. وولدت والشعري في طالعي، ولولا دقيقة لأدركت النبوة، وقد أدركت النبوة إذ قمت بالذب عنها والنصرة لها، فمن ذا يجارينا أو يمارينا أو يبارينا أو يغارينا ويسارينا ويشارينا؟ ولم يكن الصاحب يقوم لأحد من الناس ولا يشير إلى القيام ولا يطمع أحد في ذلك منه من أرباب السيوف أو الأقلام أميرا كان أو مأمورا. ونزل بالصيمرة عند عوده من الأهواز، فدخل عليه شيخ من المعتزلة زاهد يعرف بعبد الله بن إسحاق فقام له، فلما خرج قال: ما قمت لأحد مثل هذا القيام منذ عشرين سنة! وإنما فعل ذلك لزهده لأنه كان أحد أبدال دهره.
ولم يجتمع بباب أحد من الملوك والخلفاء والوزراء مثل ما اجتمع بباب الرشيد، كأبي نواس وأبي العتاهية والعتابي والنمري ومسلم بن الوليد وأبي الشيص وابن أبي حفصة ومحمد بن مناذر. وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان والري وجرجان مثل أبي الحسين السلامي والرستمي وأبي القاسم الزعفراني وأبي العباس الضبي والقاضي الجرجاني وأبي القاسم ابن أبي العلاء وأبي محمد الخازن وأبي هاشم العلوي وأبي الحسن الجوهري وبني المنجم وابن بابك وابن القاشاني والبديع الهمذاني وإسماعيل الشاشي وأبي العلاء الأسدي وأبي الحسن الغويري وأبي دلف الخزرجي وأبي حفص الشهرزوري وأبي معمر الإسماعيلي وأبي الفياض الطبري وأبي بكر الخوارزمي، ومدحه مكاتبة الرضي الموسوي وأبو إسحاق الصابي وابن الحجاج وابن سكرة وابن نباتة وغيرهم. وأما المتنبي فإنه قال: بلغني أن بأصبهان غليما معطاء، ولم يدخل أصبهان ولا مدحه، وكان الصاحب لما بلغه وصوله تلك البلاد أباع دارا له بخمسين ألف درهم وأرصدها للمتنبي إن جاء إليه ومدحه، فلما بلغه ما قاله المتنبي أعرض عنه وتتبع شعره وأملي رسالة على ذم شعره. وأما أبو حيان التوحيدي فإنه أملى في ذمه وذم ابن العميد مجلدة سماها ثلب الوزيرين أتى فيها بقبائح، فمن ذلك ما ذكره في حق الصاحب أنه ناظر بالري يهوديا هو رأس الجالوت في إعجاز القرآن فراجعه اليهودي فيه طويلا وماتنه قليلا وتنكد عليه حتى احتد وكاد ينقد، فلما علم أنه قد سجر تنوره وأسعط أنفه قال: أيها الصاحب، فلم تتقد وتستشيط وتلتهب وتختلط؟ كيف يكون القرآن عندي آية ودلالة ومعجزة من جهة نظمه وتأليفه؟ فإن كان النظم والتأليف بديعين وكان البلغاء، فيما يدعى، عنه عاجزين وله مذعنين وها أنا أصدق عن نفسي وأقول: ما عندي أن رسائلك وكلامك وفقرك وما تؤلفه وتباده به نظما ونثرا هو فوق ذلك أو مثل ذلك وقريب منه وعلى حال ليس يظهر لي أنه دونه وأن ذلك سيستعلى عليه بوجه من وجوه الكلام أو بمرتبة من مراتب البلاغة! فلما سمع ابن عباد هذا فتر وخمد وسكن عن حركته وانحمص ورمه به وقال: ولا هكذا، يا شيخ! كلامنا حسن وبليغ، وقد أخذ من الجزالة حظا وافرا ومن البيان نصيبا ظاهرا ولكن القرآن له المزية التي لا تجهل والشرف الذي لا يخمل، وأين ما خلقه الله على أتم حسن وبهاء مما يخلقه العبد بطلب وتكلف؟ هذا كله يقوله وقد خبا حميه وتراجع مزاجه وصارت ناره رمادا مع إعجاب شديد قد شاع في أعطافه وفرح غالب قد دب في أسارير وجهه لأنه رأى كلامه شبهة لليهود وأهل الملل. وقال: كان ينشد شعره وهو يلوي رقبته ويجحظ حدقته وينزي أطراف منكبيه ويتشايل ويتمايل، كأنه {الذي يتخبطه الشيطان من المس}.
وقال: دخل يوما دار الإمارة الفيرزان المجوسي في شيء خاطبه به، فقال: إنما أنت مجش محش مخش لا تهش ولا تبش ولا تمتش! قال الفيرزان: أيها الصاحب، برئت من النار إن كنت أدري ما تقول! إن كان رأيك أن تشتمني فقل ما شئت بعد أن أعلم، فإن العرض لك والنفس لك فداء: لست من الزنج ولا من البربر، كلمنا على العادة التي عليها العمل! والله ما هذا من لغة آبائك الفرس ولا من أهل دينك من أهل السواد، وقد خالطنا الناس فما سمعنا منهم هذا النمط! فقام الصاحب مغضبا. قال: وكان كلفه بالسجع في الكلام والقلم عند الجد والهزل يزيد على كلف كل من رأيناه. قلت لابن المسيب: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة ينحل بموقعها عروة الملك ويضطرب بها حبل الدولة ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل وكلفة صعبة وتجشم أمور وركوب أهوال لكان لا يخف عليه أن يفرج عنها ويخليها بل يأتي بها ويستعملها ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها. وقال فيه بعض الشعراء:
قلت: وعلى الجملة، من رجالات الوجود وأين آخر مثله؟ ولكن أبو حيان زاد في التمالئ عليه لنقص حظ ناله منه فتمحل له مثالب وادعى له معايب:
ومن تصانيف الصاحب: المحيط باللغة عشر مجلدات، رسائله، الكافي رسائل، كتاب الزيدية، الأعياد وفضائل النوروز، الإمامة في تفضيل علي بن أبي طالب وتصحيح إمامة من تقدمه، الوزراء لطيف، عنوان المعارف في التاريخ، الكشف عن مساوئ المتنبي. مختصر أسماء الله تعالى وصفاته، العروض الكافي، جوهرة الجمهرة، نهج السبيل في الأصول، أخبار أبي العيناء، نقض العروض، تاريخ الملل واختلاف الدول، الزيدين، ديوان شعره. ومن شعره:
هو مأخوذ من شعر ابن المعتز:
ومن شعره الصاحب:
ومنه:
ومنه:
وكتب إلى أبي الحسن الطبيب:
وقال لما حضرته الوفاة:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
وقال يهجو:
وقال أيضا:
وقال لما أتته البشارة بسبطه عباد بن علي الحسني، ولم يكن للصاحب ولد إلا أمه، وكان زوجها من أبي الحسن علي بن الحسين الحسني الهمذاني، وكان شاعرا أديبا:
ثم قال:
وقد ذكرت ذلك الشعراء في أشعارها. فمن ذلك قول أبي الحسن الجوهري:
لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزا من ولد فاطمة يملأ الله به الأرض عدلا كما ملئت جورا.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 9- ص: 0

الصاحب بن عباد اسمه إسماعيل بن عباد أبو القاسم.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0

ابن عباد الوزير الصاحب إسماعيل بن عباد.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0

ابن عباد الصاحب إسماعيل بن عباد.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0

إسماعيل بن عباد بن العباس بن عباد الوزير

الملقب بالصاحب كافي الكفاة، أبو القاسم: من أهل الطالقان، وهي ولاية بين قزوين وأبهر، وهي عدة قرى يقع عليها هذا الاسم. وبخراسان بلدة تسمى الطالقان غير هذه خرج منها جماعة من أهل العلم- هكذا نسبه المحدثون، وقد قال الرستمي شاعره:

وقال فيه السلامي يهجوه:

قال أبو حيان في «أخلاق الوزيرين»: كان عباد يلقب الأمين، وكان دينا خيرا مقدما في صناعة الكتابة. قال: وكتب الأمين لركن الدولة، كما كتب العميد لصاحب خراسان، والأمين كان ينصر مذهب الأشناني تدينا وطلبا للزلفى عند ربه، والعميد كان يعمل لعاجلته. وإن قلت: كان الأمين معلما بقرية من قرى طالقان الديلم، قيل: وكان والد العميد نخالا في سوق الحنطة بقم.

والصاحب مع شهرته بالعلوم وأخذه من كل فن منها بالنصيب الوافر والحظ الزائد الظاهر، وما أوتيه من الفصاحة ووفق لحسن السياسة والرجاحة، مستغن عن الوصف، مكتف عن الإخبار عنه والرصف. مولده في ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة، ووزر لمؤيد الدولة أبي منصور بويه بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه وأخيه فخر الدولة ثماني عشرة سنة وشهرا واحدا. ومات الصاحب- فيما ذكره أبو نعيم الحافظ- في رابع عشرين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. وكان أبوه عباد يكنى بالحسن، وكان من أهل العلم والفضل أيضا، سمع أبا خليفة الفضل بن الحباب وغيره من البغداديين والأصفهانيين والرازيين، وصنف كتابا في «أحكام القرآن» نصر فيه الاعتزال، جود فيه. روى عنه ابنه الوزير أبو القاسم ابن عباد وابن مردويه الأصفهاني، ومات عباد في السنة التي مات فيها ابنه سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.

كل ما ذكرناه من خبر عباد أبي الوزير فهو منقول من «كتاب المنتظم» في التاريخ من تصنيف أبي الفرج ابن الجوزي .

وبين عباد وبين الحسن بن عبد الرحمن بن حماد القاضي مكاتبات ومراسلات مذكورة مدونة.

وكان الصاحب في بدء أمره من صغار الكتاب يخدم أبا الفضل ابن العميد على خاصة، فترقت به الحال إلى أن كتب لمؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه أخي عضد الدولة بن ركن الدولة الديلمي، ومؤيد الدولة حينئذ أمير، وأحسن في خدمته وحصل له عنده بقدم الخدمة قدم، وأنس منه مؤيد الدولة كفاية وشهامة فلقبه بالصاحب كافي

الكفاة، فلما مات أبوه ركن الدولة وولي مؤيد الدولة بلاده بالري وأصبهان وتلك النواحي خلع على أبي الفتح ابن العميد وزير أبيه خلع الوزارة وأجراه على ما كان في أيام أبيه إلى أن قتل- كما ذكرناه في ترجمته- واستوزر الصاحب واستولى على أموره وحكمه في أمواله، ولم يزل على ذلك إلى أن مات مؤيد الدولة. وكان فخر الدولة أخو مؤيد الدولة قد هرب من أخيه عضد الدولة والتجأ بخراسان إلى السامانية هو وقابوس بن وشمكير- في أخبار يضيق كتابنا عنها- فأنفذ الصاحب إليه وأحضره وملكه البلاد، فأقر الصاحب على أمره، فأراد الصاحب اختباره: هل في نفسه عليه شيء مما كان في أيام مؤيد الدولة الذي أوجب هرب فخر الدولة، فاستعفاه من الخدمة والوزارة فقال له فخر الدولة: لك في هذه الدولة من إرث الوزارة كما لنا من إرث الإمارة، فسبيل كل واحد منا أن يحتفظ بحقه، ولم يعفه. ولم يزل على أمره معه إلى أن مات الصاحب، والأمور تصدر عن أمره، والملك يتدبر برأيه. وكان إذا قال فخر الدولة قولا وقال الصاحب قولا امتثل قول الصاحب وترك قول فخر الدولة.

وللصاحب أخبار حسان في مكارم الأخلاق مع رقاعة كانت فيه، ووصفه صاحب «الامتاع» فقال: كان الصاحب كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف شيئا وأخذ من كل فن طرفا والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب، وهو شديد التعصب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس له من الجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر. وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ويقول الشعر وليس بذاك. و في بديهته غزارة، وأما رويته فخوارة. وطالعه الجوزاء والشعرى فقريبة منه، ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى التأله والرقة والرأفة والرحمة، والناس كلهم يحجمون عنه لجراءته وسلاطته واقتداره وبسطته، شديد العقاب طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان يعطي كثيرا قليلا (يعني يعطي الكثير القليل)، مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب بعيد الفيئة، قريب الطيرة، حسود حقود، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية، أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته، وقد قتل خلقا وأهلك ناسا ونفى أمة نخوة وبغيا وتجبرا وزهوا، ومع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبي، لأن المدخل عليه واسع والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: «مولانا يتقدم بأن أعار شيئا من كلامه ورسائله، منظومه ومنثوره، فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به وأتعلم البلاغة منه، لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجاجه في أثنائها برهان، فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص». فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه، ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق، ويسهل الإذن عليه والوصول إليه والتمكن من مجلسه، فهذا هذا، ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا ويدفعه إلى أبي عيسى ابن المنجم ويقول له:

قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين، فيفعل ذلك أبو عيسى وهو بغدادي محكك، قد شاخ على الخدائع وتحنك، وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه، ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى فإنك والله مجيد، زه يا أبا عيسى، قد صفا ذهنك وزادت قريحتك وتنقحت قوافيك، ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، مجالسنا تخرج الناس وتهب لهم الذكاء وتزيدهم الفطنة وتحول الكودن عتيقا والمحمر جوادا، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية وعطية هنية، ويغايظ الجماعة من الشعراء وغيرهم لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا. قال يوما: من في الدار؟ فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت، فعمل في الحال بيتين وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعد هما بساعة، وقل: قد قلت بيتين فإن رسمت لي إنشادهما أنشدتهما، وازعم أنك بدهت

بهما، ولا تجزع من تأففي بك ولا تفزع من نكيري عليك، ودفع البيتين إليه وأمره بالخروج إلى صحن الدار، وأذن للرجلين حتى وصلا، فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما ووقف للخدمة وأخذ يتلمظ، يري أنه يقرض شعرا، ثم قال: يا مولانا قد حضرني بيتان فإن أذنت أنشدت، قال له: أنت إنسان أخرق سخيف لا تقول شيئا فيه خير، اكفني أمرك وشعرك، قال: يا مولانا هي بديهتي وإن كسرتني ظلمتني، وعلى كل حال فاسمع فإن كانا بارعين وإلا فعاملني بما تحب، قال: أنت لجوج هات، فأنشد:

فقال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسيء. قال لي أبو القاسم: وكدت أتفقأ غيظا لأني علمت أنها من فعلاته المعروفة، وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتا، ثم حدثني الخادم الحديث بقضه. والذي غلطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه أنه لم يجبهه أحد قط بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة، لأنه نشأ على أن يقال: أصاب سيدنا وصدق مولانا، ولله دره ما رأينا مثله، من ابن عبد كان مضافا إليه، ومن ابن ثوابة مقيسا عليه؟ ومن إبراهيم بن العباس الصولي؟ من صريع الغواني؟ من أشجع السلمي؟ إذا سلك طريقهما، قد استدرك مولانا على الخليل في العروض، وعلى أبي عمرو بن العلاء في اللغة، وعلى أبي يوسف في القضاء، وعلى الاسكافي في الموازنة، وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات، وعلى ابن مجاهد في القراءات، وعلى ابن جرير في التفسير، وعلى أرسطاطاليس في المنطق، وعلى الكندي في الجزء، وعلى ابن سيرين في العبارة، وعلى أبي العيناء في البديهة، وعلى ابن أبي خالد في الخط، وعلى الجاحظ في الحيوان، وعلى سهل بن هارون في الفقر، وعلى يوحنا في الطب، وعلى ابن ربن في الفردوس، وعلى

عيسى بن دأب في الرواية، وعلى الواقدي في الحفظ، وعلى النجار في البدل وعلى بني ثوابة في التقفية، وعلى السري السقطي في الخطرات والوساوس، وعلى مزبد في النوادر، وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى، وعلى بني برمك في الجود، وعلى ذي الرياستين في التدبير، وعلى سطيح في الكهانة، وعلى أبي المحياة خالد بن سنان في دعواه. هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن كلدة أبي دليجة:

الألمعي الذي يظن لك الظن كأن قد رأى وقد سمعا فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويبتسم، ويطير فرحا به وينقسم، ويقول:

ولا كذا، ثمرة السبق لهم وقصرنا أن نلحقهم أو نقفو أثرهم، وهو في ذلك يتشاجى ويتحايك، ويلوي شدقه ويبتلع ريقه ويرد كالآخذ ويأخذ كالمتمنع، ويغضب في عرض الرضى ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك ويتفاتك ويتمايل، ويحاكي المومسات ويخرج في أصحاب السماجات، وهو مع هذا يظن أنه خاف على نقاد الأخلاق وجهابذة الأحوال...»

«وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به وتعويله عليه وقلة سماعه من الناصح فيه، وهو في الأصل مجدود لا جرم ليس يقله مكان دلالا وترفا وعجبا، واندراء على الناس، وازدراء للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد. وفي الجملة آفاته كثيرة وذنوبه جمة، ولكن الغنى رب غفور: (وهذا عجز بيت لعروة بن الورد من أبيات أولها):

«قال فكيف تتم له الأمور مع هذه الصفات؟ قلت: والله لو أن عجوزا بلهاء أو أمة ورهاء أقيمت مقامه لكانت الأمور على هذا السياق، لأنه قد أمن أن يقال له: لم فعلت ولم لم تفعل؟ وهذا باب لا يتفق لأحد من خدم الملوك إلا بجد سعيد ولقد نصح صاحبه الهروي في أموال تاوية وأمور من النظر عارية، فقذف بالرقعة إليه حتى عرف ما فيها، ثم قتل الرافع خنقا، هذا وهو يدين بالوعيد. وقال لي الثقة من أصحابه: ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطأ فيقلبه جده صوابا حتى كأنه عن وحي، وأسرار الله في خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفية، ولو جرت الأمور على موضوع الرأي وقضية العقل لكان معلما في مصطبة على شارع أو في دار لتان فإنه يحرج الانسان بتفيهقه وتشادقه، واستحقاره واستكباره، وإعادته وإبدائه، وهذه أشكال تعجب الصبيان ولا تنفرهم عن المعلمين، ويكون فرحهم بها سببا للملازمة والحرص على التعلم والحفظ والرواية والدراسة» .

هذا قول صاحب «الامتاع» فيه.

ومما وجدت في بعض الكتب من مكارم الاخلاق للصاحب أنه استدعى يوما شرابا من شراب السكر فجيء بقدح منه، فلما أراد شربه قال له بعض خواصه: لا تشربه فإنه مسموم، فقال له: وما الشاهد على صحة ذلك؟ قال: بأن: تجربه على من أعطاكه، قال: لا أستجيز ذلك ولا أستحله، قال: فجربه على كلب، قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز وأمر بصب ما في القدح، وقال للغلام: انصرف عني ولا تدخل داري بعدها، وأقر رزقه عليه وقال: لا تدفع اليقين بالشك، والعقوبة بقطع الرزق نذالة.

قال: ودخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه، فقال له الصاحب: أبو من؟ فأنشد الرجل:

فقال له: اجلس يا أبا القاسم.

وكان يقول لجلسائه: نحن بالنهار سلطان وبالليل إخوان .

وحدث أبو الحسن النحوي قال: كان مكي المنشد قديم الصحبة والخدمة للصاحب، فأساء إليه غير مرة والصاحب يتجاوز له، فلما كثر ذلك منه أمر الصاحب بحبسه، فحبس في دار الضرب، وكانت في جواره، فاتفق أن الصاحب صعد يوما سطح داره وأشرف على دار الضرب فناداه مكي: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} فضحك الصاحب وقال {اخسؤا فيها ولا تكلمون} ثم أمر باطلاقه.

ومن كتاب «أخلاق الوزيرين» لأبي حيان التوحيدي:

قال المؤلف: أما خبر أبي حيان مع ابن عباد فى ذكر في أخبار أبي حيان، وأما غيره فإن أبا حيان كان قصد ابن عباد إلى الري فلم يرزق منه، فرجع عنه ذاما له، وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام، فاجتهد في الغض من ابن عباد، وكانت فضائل ابن عباد تأبى الا أن تسوقه إلى المدح وإيضاح مكارمه، فصار ذمه له مدحا، فمن ذلك أن قال بعد أن فرغ من الاعتذار من التصدي لثلبه قال: فأول ما أذكر من ذلك ما أدل به على سعة كلامه، وفصاحة لسانه، وقوة جأشه، وشدة منته وإن كان في فحواه ما يدل على رقاعته وانتكاث مريرته وضعف حوله وركاكة عقله وانحلال عقده: لما رجع من همذان سنة تسع وستين وثلاثمائة بعد أن فارق حضرة عضد الدولة استقبله الناس من الري وما يليها واجتمعوا بساوة، وكان قد أعد لكل واحد منهم كلاما يلقاه به عند رؤيته، فأول من دنا منه القاضي أبو الحسن الهمذاني من قرية يقال لها أسد اباذ، فقال له: أيها القاضي ما فارقتك شوقا إليك، ولا فارقتني وجدا عليك، ولقد مرت لي بعدك مجالس تقتضيك وتحظيك وترضيك، ولو شهدتني بين أهلها وقد علوتهم ببياني ولساني وجدلي وبرهاني لأنشدت قول حسان بن ثابت في ابن عباس وهو:

ولذكرت أيضا أيها القاضي قول الآخر وأنشدته، فإنه قال في من وقف موقفي، وقرف مقرفي، وتصرف تصرفي، وانصرف منصرفي، واغترف مغترفي:

ولقد أودعت صدر عضد الدولة ما يطيل التفاته إلي ويكثر حسرته علي، ولقد رأى مني ما لم ير قبله مثله ولا يرى بعده شكله، والحمد لله الذي أوفدني عليه على ما يسر الولي وأصدرني عنه على ما يسوء العدو، أيها القاضي كيف الحال والنفس، وكيف الامتاع والأنس، وكيف المجلس والدرس، وكيف القرص والجرس، وكيف

الدس والدعس، وكيف الفرس والمرس. وكاد لا يخرج من هذا الهذيان لتهيجه واحتدامه وشدة خباله وغلوائه، والهمذاني مثل الفأرة بين يدي السنور، وقد تضاءل وقمؤ لا يصعد له نفس الا بنزع تذللا وتقللا، هذا على كبره في مجلسه ونذالته في نفسه. ثم نظر إلى الزعفراني رئيس أصحاب الرأي فقال: أيها الشيخ سرني لقاؤك، وساءني عناؤك، ولقد بلغني عدواؤك، وما خيله إليك خيلاؤك، وأرجو ألا أعيش حتى يرد عليك غلواؤك، ما كان عندي أنك تقدم على ما أقدمت عليه، وتنتهي في عداوتك لأهل العدل والتوحيد إلى ما انتهيت إليه، ولي معك إن شاء الله نهار له ليل وليل يتبعه ليل، وثبور يتصل به ويل، وقطر يدفع ومعه سيل {وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار} فقال له الزعفراني: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم أبصر أبا طاهر الحنفي فقال: أيها الشيخ ما أدري أشكوك أم أشكو إليك؟ أما شكواي منك، فإنك لم تكاتبني بحرف، كانا لم نتلاحظ بطرف، ولم نتحافظ على إلف، ولم نتلاق على ظرف؛ وأما شكواي إليك فإني ذممت الناس بعدك، وذكرت لهم عهدك، وعرضت بينهم ودك، وقدحت عليهم زندك، ونشرت عليهم غرائب ما عندك، فاشتاقوا إليك بتشويقي، واستصفوك بترويقي. وأثنوا عليك بتنميقي وتزويقي، وهكذا عمل الأحباب، إذا تناءت بهم الركاب، والتوت دونهم الأعناق، واضطرمت في صدورهم نار الاشتياق، فالحمد لله الذي أعاد الشعب ملتئما، والشمل منتظما، والقلوب وادعة، والأهواء جامعة، حمدا يتصل بالمزيد، على عادة السادة مع العبيد، عند كل قريب وبعيد. ثم التفت إلى ابن القطان القزويني الحنفي، وكان من ظرفاء العلماء، فقال: كدت أيها الشيخ أحلم بك في اليقظة، وأشتمل عليك دون الحفظة؛ لأنك قد ملكت مني غاية المكانة والحظة، والله ما أسغت بعدك ريقا، إلا على جرض، ولا سلكت دونك طريقا، إلا على مضض، ولا وجدت للظرف سوقا، إلا بالعرض. سقى الله ربعا أنت ساكنه بنزاهتك، وطبعا أنت طابنه ببراعتك، ومغرسا أنت ينعه بنباهتك وأصلا أنت فرعه بفقاهتك .

وقال للعباداني: أيها القاضي أيسرك ان أشتاقك وتسلو عني، وأن أسأل عنك وتنسل مني، وأن أكاتبك فتتغافل، وأطالبك بالجواب فتتكاسل؟! وهذا ما لا أحتمله من صاحب خراسان، ولا يطمع في مثله مني ملك بني ساسان. متى كنت منديلا ليد، ومتى نزلت على هذا الحد لأحد؟ إن انكفأت علي بالعذر انكفاء، وإلا اندرأت عليك بالعذل اندراء، ثم لا يكون لك قرار بحال، ولا يبقى لك بمكاني استكثار إلا على وبال وخبال. ثم طلع أبو طالب العلوي، فقال: أيها الشريف جعلت حسناتك عندي سيئات، ثم أضفت إليها هنات، ولم تفكر في ماض ولا آت. أضعت العهد، وأخلفت الوعد، وحققت النحس وأبطلت السعد. وحلت سرابا للحيران، بعد ما كنت شرابا للحران. وظننت أنك قد شبعت مني، واعتضت عني هيهات وأنى لك بمثلي، أو بمن يعثر في ذيلي، أو له نهار كنهاري أو ليل كليلي.

وهل عائض مني وإن جل عائض

أنا واحد هذا العالم، وأنت بما تسمع عالم. لا إله الا الله سبحان الله، أيها الشريف، أين الحق الذي وكدناه أيام كادت الشمس تزول، والزمان علينا يصول، وأنا أقول وأنت تقول، والحال بيننا يحول؟! سقى الله ليلة تشييعك وتوديعك، وأنت

متنكر تنكرا يسوء الولي وأنا متفكر تفكرا يسوء العدو، ونحن متوجهون إلى ورامين خوفا من ذلك الجاهل المهين (يعني بالجاهل المهين ذا الكفايتين حين أخرجه من الري بعد أن ألب عليه وكاد أن يؤتى على نفسه الخبيثة، وهو حديث له فرش، وما أنا بصدده يمنع من اقتصاصه ولعله يأتي فيما بعد). ثم نظر إلى أبي محمد كاتب الشروط فقال: أيها الشيخ الحمد لله الذي كفانا شرك، ووقانا عرك وضرك. ونآنا فيحك وحرك، دببت الضراء الينا، ومشيت الخمر علينا، ونحن نحيس لك الحيس، ونصفك باللبابة والكيس، ونقول ليس مثله ليس، وأنت في خلال ذلك تقابلنا بالويح والويس، لولا أنك قرحان، لسقط بك العشاء على سرحان. وقال لابن أبي خراسان الفقيه الشافعي: أيها الشيخ ألغيت ذكرنا عن لسانك، واستمررت على الخلوة بانسانك، جاريا على نسيانك، مشتهرا بفتيانك وافتنانك، غير عاطف على أخدانك وإخوانك، لولا أنني أرعى قديما قد أضعته، وأعطيك من رعايتي ما قد منعته، لكان لي ولك حديث، إما طيب وإما خبيث. خلفتك محتسبا، فخلفت مكتسبا، وتركتك آمرا بالمعروف فلحقتك راكبا للمنكر. قد يفيل الرأي ويخيب الظن ويكذب الأمل، وقد قال الأول:

ثم نظر إلى الشادياشي فقال: يا أبا علي كيف أنت، وكيف كنت؟ فقال: يا مولانا:

فقال: اغرب يا ساقط، يا هابط، يا من تذهب إلى الحائط بالغائط، ليس هذا من نحت يدك، ولا هو مما نشأ من عندك، هذا لمحمد بن عبد الله بن طاهر وأوله:

وكان ينشد وهو يلوي رقبته، وتجحظ حدقته، وينزي أطراف منكبيه، ويتشايل ويتمايل، كأنه الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال: يا أبا علي لا تعول على أير في سراويل غيرك لا أير إلا أير تمطى تحت عانتك، فإنك إن عولت على ذلك شانك وخانك، وفضح حانك ومانك. ثم نظر إلى غلام قد بقل وجهه كان يتهم به على الوجه الأقبح، فالتوى وتقلقل، وقال ادن مني يا بني كيف كنت، ولم حملت على نفسك هذا العناء؟ وجهك هذا الحسن لا يبتذل للشحوب، ولا يعرض للفحات الشمس بين الطلوع إلى الغروب، أنت يجب أن تكون في بذلة، بين حجلة وكلة، تزاح بك العلة، وتغلي بك القلة، وتشفى منك الغلة. هذا آخر حديث الاستقبال.

قال أبو حيان: ودخل يوما دار الإمارة الفيرزان المجوسي فقال له في شيء خاطبه به: إنما أنت محش مجش مخش، لا تهش ولا تبش ولا تمتش، فقال الفيرزان: أيها الصاحب برئت من النار إن كنت أدري ما تقول، إن كان رأيك أن تشتمني فقل ما شئت، بعد أن أعلم فان العرض لك، والنفس فداؤك، لست من الزنج ولا من البربر، كلمنا على العادة التي عليها العمل، والله ما هذا من لغة آبائك

الفرس، ولا من لغة أهل دينك من أهل السواد، وقد خالطنا الناس فما سمعنا منهم هذا النمط، فقام مغضبا.

قال: وكان ابن عباد يقول للإنسان إذا قدم عليه من أهل العلم: يا أخي تكلم واستأنس واقترح وانبسط ولا ترع، واحسبني في جوف مرقعة، ولا يروعك هذا الحشم والخدم والغاشية والحاشية، وهذه المرتبة والمصطبة، وهذا الطاق والرواق، وهذه المجالس والطنافس، فإن سلطان العلم فوق سلطان الولاية، فليفرخ روعك، ولينعم بالك، وقل ما شئت، وانصر ما أردت، فلست تجد عندنا إلا الإنصاف والإسعاف، والإتحاف والإطراف، والمواهبة والمقاربة، والمؤانسة والمقابسة؛ ومن كان يحفظ ما كان يهذي به في هذا وفي غيره؟ ويجري في هذا الميدان فيطيل، حتى إذا استوفى ما عند ذلك الانسان بهذه الزخارف والحيل وسال الرجل معه في حدوره على مذهب الثقة فحاجه وراجعه وضايقه وسابقه، ووضع يده على النكتة الفاصلة والأمر القاطع تنمر له وتغير عليه ثم يقول: يا غلام خذ بيد هذا الكلب إلى الحبس، وضعه فيه بعد أن تصب على كاهله وظهره وجنبيه خمسمائة سوط وعصا فإنه معاند ضد، يحتاج إلى أن يشد بالقد، ساقط هابط كلب نباح، وقاح، متعجرف أعجبه صبري، وغره حلمي، ولقد أخلف ظني، وعدت على نفسي بالتوبيخ، وما خلق الله العصا باطلا. فيقام ذلك البائس على هذه الحالة، وليس الخبر كالعيان، فمن لم يحضر ذلك المجلس لم ير منظرا رفيعا ورجلا رقيعا.

قال: وكان أبو الفضل ابن العميد إذا رآه قال: أحسب أن عينيه ركبتا من زئبق، وعنقه عمل بلولب- وصدق فإنه كان ظريف التثني والتلوي، شديد التفكك والتفتل، كثير التعوج والتموج، في شكل المرأة المومسة والفاجرة الماجنة.

قال: وحدثني الجرباذقاني الكاتب أبو بكر، وكان كاتب داره، قال:

يبلغ من سخنة عين صاحبنا أنه لا يسكت عما لا يعرف، ولا يسالم نفسه فيما لا يفي به ولا يكمل له، ويظن أنه إن سكت فطن لنقصه، وإن احتال وموه جاز ذلك وخفي واستتر، ولا يعلم أن ذلك الاحتيال طريق إلى الإغراء بمعرفة الحال وصدق القائل:

«كاد المريب يقول خذوني» ؛ قلت: وما الذي حداك على هذه المقدمة؟ قال قال لي في بعض هذه الأيام: ارفع حسابك فقد أخرته وقصرت فيه وانتهزت سكوتي وشغلي بأمر الملك وسياسة الأولياء والجند والرعايا والمدن، وما علي من أعباء الدولة وحفظ البيضة ومشارفة الأطراف النائية والدانية باللسان والقلم، والرأي والتدبير، والبسط والقبض، والتتبع والنفض، وما على قلبي من الفكر في الأمور الظاهرة والغامضة، وهذا باب لعمري مطمع وإمساكي عنه مغر بالفساد مولع، فبادر عافاك الله إلى عمل حساب بتفصيل باب باب، يبين فيه أمر داري وما يجري عليه أمر دخلي وخرجي. قلت له: هذا كله بسبب قوله: هات حسابك بما نراعيه؟ فقال: أي والله، ولقد كان أكثر من هذا ولقد اختصرته. قال أبو بكر: فتفردت أياما وحررت الحساب على قاعدته وأصله والرسم الذي هو معروف بين أهله، وحملته إليه، فأخذه من يدي وأمر عينيه فيه من غير تثبت أو فحص أو مسألة، فحذف به إلي وقال: أهذا حساب؟ أهذا كتاب؟ أهذا تحرير؟ أهذا تقرير؟ أهذا تفصيل؟ أهذا تحصيل؟ والله لولا أني ربيتك في داري، وشغلت بتخريجك ليلي ونهاري، ولك حرمة الصبا، ويلزمني رعاية الابنا: لأطعمتك هذا الطومار، وأحرقتك بالنفط والقار، وأدبت بك كل كاتب وحاسب، وجعلتك مثلة لكل شاهد وغائب: أمثلي يموه عليه؟ ويطمع فيما لديه؟ وأنا خلقت الحسابة والكتابة، والله ما أنام ليلة إلا وأحصل في نفسي ارتفاع العراق، ودخل الآفاق. أغرك مني أني أجررتك رسنك؟ وأخفيت قبيحك وأبديت حسنك؟ غير هذا الذي رفعت، واعرف قبل وبعد ما صنعت، واعلم أنك من الآخرة

قد رجعت، فزد في صلاتك وصدقتك، ولا تعول على قحتك وصلابة حدقتك.

قال: فو الله ما هالني كلامه، ولا أحاك في هذيانه، لأني كنت أعلم جهله في الحساب، ونقصه في هذا الباب، فذهبت وأفسدت وأخرت وقدمت، وكابرت وتعمدت، ثم رددته إليه، فنظر فيه وضحك في وجهي وقال: أحسنت بارك الله عليك، هكذا أردت، وهذا بعينه طلبت، لو تغافلت عنك في أول الأمر لما تيقظت في الثاني، فهذا كما ترى، اعحب منه كيف شئت.

قال أبو حيان: ومن رقاعته أيضا سمعته يقول وقد جرى حديث الأبهري المتكلم، وكان يكنى أبا سعيد فقال: لعن الله ذاك الملعون المأبون المأفون، جاءني بوجه مكلح، وأنف مفلطح، ورأس مسطح، وسرم مفتح، ولسان مبلح، فكلمني في مسألة الأصلح، فقلت له: اعزب عليك غضب الله الأترح، الذي يلزم ولا يبرح.

وشتم يوما رجلا فقال: لعن الله هذا الأهوج الأعوج الأفلج الأفحج، الذي إذا قام تحلج، وإذا مشى تدحرج، وإذا عدا تفجفج. قال أبو حيان:

بالله يا أصحابنا حدثوني أهذا عقل رئيس، أم بلاغة كاتب، أم كلام متماسك؟ لم تجنون به، وتتهالكون عليه، وتغيظون أهل الفضل به؟ هل هناك إلا الجد الذي يرفع من هو أنذل منه ويضع من هو أرفع منه؟! ولقد حدثت هذا الحديث أبا السلم الشاعر فأنشدني لشاعر:

قال: وكان كلفه بالسجع في الكلام والقلم عند الجد والهزل يزيد على كلف كل من رأيناه في هذه البلاد، قلت لابن المسيبي: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة تنحل بموقعها عروة الملك ويضطرب بها حبل الدولة ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل وكلفة صعبة وتجشم أمور وركوب أهوال لما كان يخف عليه أن يفرج عنها ويخليها بل يأتي بها ويستعملها ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها. قال: وقلت للخليلي: أما كان ابن العميد يسمع كلامه؟

قال: بلى، وكان يقول: سجعه يدل على الخلاعة والمجانة، وخطه يدل على الشلل والزمانة، وصياحه يدل على أنه قد غلب بالقمار في الحانة. وهو أحمق بالطبع إلا أنه طيب، قلت للخليلي: فهل عرفت طالعه؟ فقال حدثني بعض أصحابنا منهم الهروي أن طالعه الجوزاء والشعرى اليمانية (كط) وكان زحل في الحادي عشر في الحمل (كز) والقمر فيه (يط) والشمس في السنبلة (يج) والزهرة فيها (ي) والمشتري في الميزان (كد) والمريخ في العقرب (ن) وسهم السعادة في القوس (يد) وسهم الغيب في الجدي (يز) والرأس في الثالث من الأسد (يا). قال وخفي علي عطارد.

وذكر أنه ولد سنة ست وعشرين وثلاثمائة من الهجرة لأربع عشرة ليلة من ذي القعدة، روز سروش من ماه شهرير. قلت: وأين ولد؟ قال: كان عندنا أنه ولد بطالقان، وقال لنا يوما باصطخر، وقال غير الخليلي: كان عطارد في السنبلة (ط ي) .

قال أبو حيان: وكنت بالري سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وابن عباد بها مع مؤيد الدولة قد ورد في مهمات وحوائج، وعقد ابن عباد مجلس جدل، وكنا نبيت عنده في داره في باب شير ومعنا الضرير أبو العباس القاضي وأبو الحوراء البرقي وأبو عبد الله النحوي الزعفراني وجماعة من الغرباء، فرأى ليلة في مجلسه وجها غريبا صاحب مرقعة فأحب أن يعرفه ويعرف ما عنده، وكان الشاب من أهل سمرقند يعرف بأبي واقد الكرابيسي، فقال له: يا أخ انبسط واستأنس وتكلم، فلك منا جانب وطيء وشرب مريء، ولن ترى إلا الخير، بم تقرف، فقال: بدقاق قال: تدق ماذا؟ قال: أدق الخصم إذا زاغ عن سبيل الحق، فلما سمع هذا تنكر وعجب لأنه فجئ ببديعة، فقال: دع هذا وتكلم، قال: أتكلم سائلا؟ ما بي والله حاجة إلى مسألة، أم أتكلم مسؤولا؟ فو الله إني لأكسل عن الجواب، أم أتكلم مقررا؟ فو الله إني لأكره أن أبدد الدر في غير موضعه، وإني لكما قال الأول:

قال له: يا هذا ما مذهبك؟ قال: مذهبي ألا أقر على الضيم ولا أنام على الهون ولا أعطي صمتي لمن لم يكن ولي نعمتي ولم يصل عصمته بعصمتي، قال:

هذا مذهب حسن، ومن ذا الذي يأتي الضيم طائعا ويركب الهون سامعا؟ ولكن ما نحلتك التي تنصرها؟ قال: نحلتي مطوية في صدري لا أتقرب بها إلى مخلوق، ولا أنادي عليها في سوق، ولا أعرضها على شاك، ولا أجادل فيها المؤمن، قال: فما تقول في القرآن؟ قال: ما أقول في كلام رب العالمين الذي يعجز عنه الخلق إذا أرادوا الاطلاع على غيبه، وبحثوا عن خافي سره وعجائب حكمته؟ فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله، وليس له مثل مظنون فضلا عن مثل متيقن؟ فقال له ابن عباد:

صدقت، ولكن أمخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: إن كان مخلوقا كما تزعم فما ينفعك؟ وإن كان غير مخلوق كما يزعم خصمك فما يضرك؟ فقال: يا هذا أبهذا العقل تناظر في دين الله وتقوم على عبادة الله؟ قال: إن كان كلام الله نفعني إيماني به وعملي بمحكمه وتسليمي لمتشابهه، وإن كان كلام غيره- وحاش لله من ذلك- ما ضرني؟ فأمسك عنه ابن عباد وهو مغيظ، ثم قال: أنت لم تخرج من خراسان بعد. فمكث الرجل ساعة ثم نهض، فقال له ابن عباد: إلى أين يا هذا، قد تكسر الليل، بت هاهنا، فقال: أنا بعد لم أخرج من خراسان، كيف أبيت بالري، وخرج فارتاب به ابن عباد فقفاه بصاحب له وأوصاه بأن يتبع خطاه ويبلغ مداه من حيث لا يفطن به ولا يراه، فما زاغ الرجل عن باب ركن الدولة حتى وصل ودخل في ذلك الوقت الفائت إليه، فقيل لابن عباد ذلك فطار نومه وقال: أي شيطان هبط علينا وأحصى ما كنا فيه بلسان سليط وطبع مريد؟ وكان هذا الكرابيسي عينا لركن الدولة بخراسان، فلذلك كان قريبا منه وكان أحد رجالات الدنيا .

ومما يدل على ولوع ابن عباد بالسجع ومجاوزة الحد فيه بالإفراط قوله يوما:

حدثني ابن باش، وكان من سادة الناش؛- جعل السين شينا ومر في هذا الحديث وقال: هذه لغة، وكذب وكان كذوبا.

وقال ابن عباد لشيخ من خراسان في شيء جرى: والله لولا شيء لقطعتك تقطيعا، وبضعتك تبضيعا، ووزعتك توزيعا، ومزعتك تمزيعا، وجزعتك تجزيعا، وأدخلتك في حر أمك، ثم وقف ساعة ثم قال: جميعا. قال وملح هذه الحكاية ينبتر في الكتابة وبهاؤها ينقص في الرواية دون مشاهدة الحال وسماع اللفظ وملاحة الشكل في التحرك والتثني والترنح والتهادي ومد اليد ولي العنق وهز الرأس والأكتاف واستعمال الأعضاء والمفاصل.

قال وحدثنا ابن عباد يوما قال: ما قطعني إلا شاب ورد علينا إلى أصبهان

بغدادي فقصدني فأذنت له، وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاق، فنظرت إلى حاجبي فقال له وهو يصعد إلي: اخلع نعلك، فقال: ولم ولعلي أحتاج إليها بعد ساعة، فغلبني الضحك وقلت: أتراه يريد أن يصفعني.

قال أبو حيان: وقال لي علي بن الحسن الكاتب: هجرني في بعض الأيام هجرا أضر بي وكشف مستور حالي، وذهب علي أمري، ولم أهتد إلى وجه حيلة في مصلحتي، وورد المهرجان فدخلت عليه في غمار الناس فلما أنشدت نوبتين تقدمت فأنشدت فلم يهش لي ولم ينظر إلي، وكنت ضمنت أبياتي بيتا له من قصيدة على روي قصيدتي، فلما مر به البيت هب من كسله ونظر إلي كالمنكر علي، فطأطأت رأسي وقلت بصوت خفيض: لا تلم ولا تزد في القرحة فما علي محمل، وإنما سرقت هذا من قافيتك لأزين به قافيتي، وأنت بحمد الله تجود بكل علق ثمين وتهب كل در مكنون، أتراك تشاحني على هذا القدر وتفضحني في هذا المشهد؟! فرفع رأسه وصوته وقال: يا بني أعد هذا البيت، فأعدته، فقال: أحسنت يا هذا، ارجع إلى أول قصيدتك فقد سهونا عنك وطار الفكر بنا إلى شأن آخر، والدنيا مشغلة، وصار ذلك ظلما بغير قصد منا ولا تعمد. قال: فأعدتها وأمررتها وفغرت فمي بقوافيها، فلما بلغت آخرها قال: أحسنت، الزم هذا الفن فإنه حسن الديباجة وكأن البحتري استخلفك، وأكثر بحضرتنا وارتفع بخدمتنا وابذل نفسك في طاعتنا نكن من وراء مصالحك بأداء حقك والجذب بضبعك والزيادة في قدرك على أقرانك، قال: فلم أر بعد ذلك إلا الخير حتى عراه ملل آخر فوضعني في الحبس سنة، وجمع كتبي فأحرقها بالنار، وفيها كتب الفراء والكسائي ومصاحف القرآن وأصول كثيرة في الفقه والكلام، فلم يميزها من كتب الأوائل، وأمر بطرح النار فيها من غير تثبت بل لفرط جهله وشدة نزقه. فهلا طرح النار في خزانته وفيها كتب ابن الراوندي وكلام ابن أبي العوجاء في معارضة القرآن بزعمه، وصالح بن عبد القدوس وأبي سعيد

الحصيري وكتب أرسطاطاليس وغير ذلك؟! ولكن من شاء حمق نفسه. قال أبو حيان: وحدثني محمد بن المرزبان قال: كنا بين يديه ليلة فنعس وأخذ إنسان يقرأ سورة الصافات فاتفق أن بعض هؤلاء الأجلاف من أهل ما وراء النهر نعس أيضا وضرط ضرطة منكرة فانتبه وقال: يا أصحابنا نمنا على «والصافات» وانتبهنا على «والمرسلات» وهذا من نوادره وملاحاته.

وحدثني أيضا قال: انفلتت ليلة أخرى ضرطة من بعض الحاضرين وهو في الجدل فقال على حدته: كانت بيعة أبي بكر، خذوا فيما أنتم فيه، يعني فلتة، لأنه قيل في بيعة أبي بكر كانت فلتة.

قال: وقال قوم من أهل أصبهان لابن عباد: لو كان القرآن مخلوقا لجاز أن يموت، ولو مات القرآن في آخر شعبان بماذا كنا نصلي التراويح في رمضان؟ قال:

لو مات القرآن كان رمضان يموت أيضا ويقول لا حياة لي بعدك ولا نصلي التراويح ونستريح.

قال أبو حيان واسمع ما هو أعجب من هذا: ناظر بالري اليهودي رأس الجالوت في إعجاز القرآن، فراجعه اليهودي فيه طويلا وماتنه قليلا، وتنكد عليه حتى احتد وكاد يتقد، فلما علم أنه قد سجر تنوره وأسعط أنفه احتال طلبا لمصاداته ورفقا به في مخاتلته فقال: أيها الصاحب فلم تتقد وتستشيط وتلتهب وتختلط؟ كيف يكون القرآن عندي آية ودلالة ومعجزة من جهة نظمه وتأليفه؟ فإن كان النظم والتأليف بديعين وكان البلغاء فيما تدعي عنه عاجزين وله مذعنين وها أنا أصدق عن نفسي وأقول ما عندي: إن رسائلك وكلامك وفقرك وما تؤلفه وتباده به نظما ونثرا

هو فوق ذلك، أو مثل ذلك وقريب منه، وعلى كل حال فليس يظهر لي أنه دونه، وأن ذلك سيستعلي عليه بوجه من وجوه الكلام أو بمرتبة من مراتب البلاغة. فلما سمع ابن عباد هذا فتر وخمد، وسكن عن حركته، وانخمص ورمه به وقال: ولا هكذا يا شيخ، كلامنا حسن وبليغ، وقد أخذ من الجزالة حظا وافرا، ومن البيان نصيبا ظاهرا، ولكن القرآن له المزية التي لا تجهل، والشرف الذي لا يخمل، وأين ما خلقه الله على أتم حسن وبهاء مما يخلقه العبد بطلب وتكلف. هذا كله يقوله وقد خبا حميه، وتراجع مزاجه، وصارت ناره رمادا، مع إعجاب شديد قد شاع في أعطافه، وفرح غالب قد دب في أسارير وجهه، لأنه رأى كلامه شبهة لليهود وأهل الملل.

وقال بعض الشعراء في ابن عباد يذم سجعه وخطه وعقله:

السجع سجع مهوس والخط خط منقرس والعقل عقل حمار وكان ذو الكفايتين ابن العميد يقول: خرج ابن عباد من عندنا من الري متوجها إلى أصفهان ومنزله ورامين، وهي قرية كالمدينة، فجاوزها إلى قرية غامرة وماء ملح لا لشيء إلا ليكتب إلينا: «كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت نصف النهار» .

قال أبو حيان: وكان ابن عباد يروي لأبي الفضل ابن العميد كلاما في رقعة إليه حين استكتبه لمؤيد الدولة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، مولاي وإن كان سيدا بهرتنا نفاسته، وابن صاحب تقدمت علينا رياسته، فإنه يعدني سندا ووالدا، كما أعده ولدا وواحدا، ومن حق ذلك أن يعضد رأيي برأيه ليزداد استحكاما، ويتظاهر عقدا وابراما. وحضرت اليوم مجلس مولانا ركن الدين ففاوضني ما جرى بينه وبين مولاي طويلا ووصل به كلاما بسيطا وأطلعني على أن مولاي لا يزيد بعد الاستقصاء والاستيفاء

على التقصي والاستعفاء وألزم عبده أن أكره مولاي إكراه المسألة وأجبره إجبار الطلبة، علما بأنه إن دافع المجلس المعمور طلبا للتحرز لم يرد وساطتي أخذا بالتطول، وأقول بعد أن أقدم مقدمة: مولاي غني عن هذا العمل بتصونه وتظلفه وعزوفه بهمته عن التكثر بالمال وتحصيله، لكن العمل فقير إلى كفايته، محتاج إلى كفالته، وما أقول إن مرادي ما يعقد من حساب، وينشأ من كتاب، ويستظهر به من جمع، ويقدر من عطاء ومنع، فكل ذلك وإن كان مقصودا، وفي آلات الوزارة معدودا، ففي كتاب مولاي من يفي به ويستوفيه، ويوفي عليه بأيسر مساعيه. ولكن ولي النعمة يريده لتهذيب ولده ومن هو ولي عهده من بعده، والمأمول ليومه وغده- أدام الله أيامه، وبلغه فيه مرامه. ولا بد وإن كان الجوهر كريما، والسنخ قويما، والمجد صميما، ومركب العقل سليما، من مناب من يعلم ما السياسة وما الرياسة، وكيف تدبير العامة والخاصة، وبماذا تعقد المهابة، ومن أين تجلب الأصالة والاصابة، وكيف ترتب المراتب، ويعالج الخطب إذا ضاقت المذاهب، وتعصى الشهوة لتحرس الحشمة، وتهجر اللذة لتحصن الامرة. ولا بد من محتشم يقوم في وجه صاحبه فيراده إذا بدر منه الرأي المنقلب، ويراجعه إذا جمح به اللجاج المرتكب، ويعاوده إذا ملكه الغضب الملتهب. فلم يكن السبب في أن فسدت ممالك جمة وبلدان عدة إلا أن خفضت أقدار الوزارة، فانقبضت أطراف الامارة. وليس يفسد على ما أرى بقية الأرض إلا إذا استعين بأذناب على هذا الأمر. فلا يبخلن مولاي على ولي نعمته بفضل معرفته، فمن هذه الدولة جرى ماء فضله، وفضل الشيخ الأمين من قبله، وإن كان مسموعا كلامي، وموثوقا باهتمامي، فلا يقعن انقباض عني، وإعراض عما سبق مني.

ومولاي محكم بعد الاجابة إلى العمل فيما يقترحه، وغير مراجع فيما يشترطه، وهذا خطي به وهو على ولي النعمة حجة لا يبقى معها شبهة، وسأتبع هذه المخاطبة بالمشافهة، إما بحضوري لديه، أو بتجشمه إلى هذا العليل الذي قد ألح النقرس عليه. وكان ابن عباد يحفظ هذه النسخة ويرويها ويفتخر بها.

قال أبو حيان: وقال لي أصحابنا بالري، منهم أبو غالب الكاتب الأعرج إن هذه

المخاطبة من كلام ابن عباد افتعلها عن ابن العميد إلى نفسه تشبعا بها ونفاقا بذكرها.

قال: وكان ابن عباد ورد الري سنة ثمان وخمسين مع مؤيد الدولة وحضر مجلس ابن العميد وجرى بينه وبين مسكويه كلام ووقع تجاذب، فقال مسكويه:

فدعني حتى أتكلم، ليس هذا نصفة، إذا أردت أن لا أتكلم فدع على فمي مخدة، فقال الصاحب: بل أدع فمك على المخدة، وطارت النادرة ولصقت وشاعت بين الناس وبقيت. قال: ودخل الناس في مذهب ابن عباد وقالوا بقوله رغبة فيما لديه، واجتهد بالحسين المتكلم الكلابي أن ينتقل إلى مذهبه، فقال الحسين: دعني أيها الصاحب أكون مستحدا لك فما بقي غيري فإن دخلت في المذهب لم يبق بين يديك من تنثو عليه قبيحه وتبدي للناس عواره، فضحك وقال: قد أعفيناك يا أبا عبد الله، وبعد فما نبخل عليك بنار جهنم، اصل بها كيف شئت. قال لنا الحسين بعد ذلك: أتراني أصلى بنار جهنم، وعقيدتي وسريرتي معروفتان، ويتبوأ هو الجنة مع قتل النفس المحرمة وركوب المحظورات العظيمة؟! إن ظنه بنفسه لعجب، لحا الله الوقاح.

وقال يوما ما صدر قول الشاعر ؟

والمورد العذب كثير الزحام

فسكتت الجماعة فقال ابن الرازي :

يزدحم الناس على بابه

فأقبل عليه بغيظ وقال: ما عرفتك الا متعجرفا جاهلا، أما كان لك بالجماعة أسوة؟! قلت لأبي السلم نجبة بن علي القحطاني الشاعر: أين ابن عباد من ابن العميد؟ فقال: زرتهما منتجعا ورزتهما جميعا، كان ابن العميد أعقل وكان يدعي الكرم، وابن عباد أكرم ويدعي العقل، وهما في دعواهما كاذبان وعلى سجيتهما جاريان. أنشدت يوما على باب ذاك قول الشاعر:

فرفع إليه إنشادي فأخذني وأوعدني وقال: انج بنفسك، فإني إن رأيتك بعد هذا أو لغت الكلاب دمك. وكنت قاعدا على باب هذا منذ أيام فأنشدت البيتين على سهو، فرفع الحديث إليه فدعاني ووهب لي دريهمات وخريقات وقال: لا تتمن انتقال دولتنا بعد هذا.

قال: وأبو السلم هذا من أغزر الناس في الشعر يحفظ الطم والرم.

وقال الخليلي: الرجل مجنون- يعني ابن عباد- وفي طباع المعلمين، سمعته يقول للتميمي الشاعر: كيف تقول الشعر؟ وإن قلت كيف تجيد؟ وان أجدت فكيف تغزر؟ وان غزرت فكيف تروم غاية وأنت لا تعرف ما الزهلق وما الهبلع وما العثلط وما الجلعلع وما القهقب وما القهبلس وما الخيسفوج وما الخزعبلة وما القذعملة وما العمرط وما الجرفاس وما اللووس وما النعثل وما الطربال، وما الفرق بين العذم

والرذم، والحدم والحذم، والقضم والخضم، والنضح والرضح، والفصم والقصم، والقصع والفصع، وما العبنقس وما الفلنقس، وما الوكواك والزونك، وما الخيتعور واليستعور، وما الستعون وما الحرذون وما الحلزون، وما القفندر وما الجمعليل قال الشاعر:

مشي الجمعليلة بالخرق النقل

قال: ورأيت بعض الجهال يصحف ويقول: بخف وحنين ورخل .

قلت للخليلي: من عنى بهذا؟ قال: ابن فارس معلم ابن العميد أبي الفتح. قال الخليلي: أفهذا الضرب من الكلام مما يجب أن يفتخر بمثله ويتدفق به؟ إنك يا أبا حيان لو رأيته يمشي وهو يهذي بهذا وشبهه، ويتفيهق فيه ويلوي شدقيه عليه، ويقذف بالبصاق على أهل المجلس، لحمدت الله على العافية مما بلي هذا الرجل

به. وبعد فما بين الشاعر وهذا الضرب؟ الشاعر يطلب لفظا حرا، ومعنى بديعا، ونظما حلوا، وكلمة رشيقة، ومثلا سهلا، ووزنا مقبولا.

قال أبو حيان عندما قارب الفراغ من كتابه في أخلاق الوزيرين: ولولا أن هذين الرجلين- أعني ابن عباد وابن العميد- كانا كبيري زمانهما، وإليهما انتهت الأمور، وعليهما طلعت شمس الفضل، وبهما ازدانت الدنيا، وكانا بحيث ينشر الحسن منهما نشرا، والقبيح يؤثر عنهما أثرا، لكنت لا أتسكع في حديثهما هذا التسكع، ولا أنحي عليهما بهذا الحد، ولكن النقص ممن يدعي التمام أشنع، والحرمان من السيد المأمول فاقرة، والجهل من العالم منكر، والكبيرة ممن يدعي العصمة جائحة، والبخل ممن يتبرأ منه بدعواه عجيب، ولو أردت مع هذا كله أن تجد لهما ثالثا في جميع من كتب للجيل والديلم إلى وقتك هذا المؤرخ في الكتاب لم تجد.

قال: وقال ابن عباد يوما: كان أبو الفضل- يعني ابن العميد- سيدا ولكن لم يشق غبارنا، ولا أدرك شرارنا، ولا مسح عذارنا، ولا عرف غرارنا، لا في علم الدين، ولا فيما يرجع إلى نفع المسلمين؛ فاما ابنه فقد عرفتم قدره في هذا وفي غيره، طياش قلاش، ليس عنده إلا قاش وقماش، مثل ابن عياش والهروي الحواش... وولدت والشعرى في طالعي، ولولا دقيقة لأدركت النبوة، وقد أدركت النبوة إذ قمت بالذب عنها والنصرة لها فمن ذا يجارينا ويبارينا ويغارينا ويسارينا ويشارينا.

قال: وسمعته يقول لابن ثابت: جعلك الله ممن إذا خرئ شطر، وإذا بال قطر، وإذا فسا غبر، وإذا ضرط كبر، وإذا عفج عبر. قال: وهذا سخف لا يليق بأصحاب الفرضة والذين اختلفوا إلى الخندق ودار بانوكة والزبيدية والرمادة والخلد.

قال: وأنشد أبو دلف الخزرجي:

قال: على أن عطاء ابن عباد لا يزيد على مائة درهم وثوب، إلى خمسمائة، وما يبلغ إلى الألف نادر، وما يوفي على الألف بديع، بلى قد نال به ناس من عرض جاهه على السنين ما يزيد قدره على هذا بأضعاف، وعدد هؤلاء قليل جدا، وذلك بابتذال النفس وهتك الستر.

قال: ولقد بلغ من ركاكته أنه كان عنده أبو طالب العلوي، فكان إذا سمع منه كلاما يسجع فيه، وخبرا ينمقه ويرويه يبلق عينيه، وينشز منخريه، ويري أنه قد لحقه غشي حتى يرش على وجهه ماء الورد، فإذا أفاق قيل: وما أصابك؟ ما عراك؟ ما الذي نالك وتغشاك؟ فيقول: ما زال كلام مولاي يروقني ويؤنقني حتى فارقني لبي وزايلني عقلي واسترخت مفاصلي، وتخاذلت عرى قلبي، وذهل ذهني، وحيل بيني وبين رشدي، فيتهلل وجه ابن عباد عند ذلك ويتنفش ويضحك عجبا وجهلا، ثم يأمر له بالحباء والتكرمة، ويقدمه على جميع بني أبيه وعمه، ومن ينخدع هكذا فهو بالنساء الرعن أشبه وبالصبيان الضعاف أمثل.

وذكر الوزير أبو سعد منصور بن الحسين الآبي في «تاريخه» من جلالة قدر الصاحب وعظم قدره في النفوس وحشمته ما لم يذكر لوزير قبله ولا بعده مثله، وأنا ذاكر ما ذكر على ما نسقه، قال: توفيت أم كافي الكفاة بأصبهان، وورد عليه الخبر فجلس للتعزية يوم الخميس للنصف من محرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وركب إليه سلطانه وولي نعمته فخر الدولة بن ركن الدولة معزيا، ونزل وجلس عنده طويلا يعزيه ويسكن منه، وبسط الكلام معه بالعربية، وكان يفصح بها، فسمعته يقول حين أراد القيام: أيها الصاحب هذا جرح لا يندمل، فأما سائر الأمراء والقواد مثل منوجهر بن قابوس ملك الجبل وفولاذ بن مانادر أحد ملوك الديلم وأبي العباس الفيروزان بن خالة فخر الدولة وغيرهم من الأكابر والأماثل فانهم كانوا يحضرون حفاة حسرا، وكان كل واحد منهم إذا وقعت عينه على الصاحب قبل الأرض، ثم يوالي بين ذلك إلى أن يقرب منه ويأمره بالجلوس فيجلس، وما كان يتحرك ولا يستوفز لأحد، بل كان جالسا على عادته في غير أيام التعزية، فلما أراد القيام من المعزى بعد الثالث كان أول من أمر أن تقدم إليه اللالكة منوجهر بن قابوس، فإنه قال: يحمل إلى أبي منصور ما يلبسه، فقدم إليه ومنع من الخروج من الدار حافيا، ثم قدم بعد ذلك الحجاب والحاشية اللالكات إلى الجماعة، فعتب فولاذ بن مانادر والفولاذريدية عليه ذلك وقالوا: ميز منوجهر من بين الجماعة، فاحتج الصاحب ببيته العظيم ورياسته القديمة.

قال: وخطب كافي الكفاة ابنة أبي الفضل ابن الداعي لسبطه عباد بن الحسين، ووقع الإملاك في داره يوم الخميس لأربع خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وكان يوما عظيما احتفل فيه كافي الكفاة، ونثر من الدنانير والدراهم شيئا كثيرا، ولذلك أنفذ فخر الدولة له على يدي أحد حجابه الكبار إلى هناك من النثار ما زاد على مائة طبق عينا وورقا، وحضر الفولاذريدية بأسرهم، فإن الابنة المزوجة كانت ابنة ديكونه بنت الحسن بن الفيروزان خالة فخر الدولة، وكان القوم أخوالها، وأضافهم

الصاحب، ونصبت مائدة عظيمة في بيت طوله يزيد على خمسين ذراعا، وكانت بطول البيت، وأجلس عليه ستة أنفس، وكان فولاذ بن مانادر وكبات بن بلقسم في الصدر، وبجنب فولاذ أبو جعفر ابن الثائر العلوي، وبجنبه الآخر أبو القاسم ابن القاضي العلوي، ودون أحد العلويين كاكي بن يشكرزاد، ودون الآخر مرداويج الكلاري، ووقف أبو العباس الفيروزان وعبد الملك بن ما كان للخدمة، ووقف كافي الكفاة أيضا ساعة، ووقف جميع أكابر الكتاب والحجاب مثل الرئيس أبي العباس أحمد بن إبراهيم الضبي وأبي الحسين العارض وأخيه أبي علي وابنه أبي الفضل وأبي عمران الحاجب وغيرهم إلى أن فرغ القوم من الأكل، ثم أكل هؤلاء مع الصاحب على مائدة مفردة.

وأما قاضي القضاة والأشراف والعدول فإنهم أطعموا على مائدة أخرى في بيت آخر.

قال: وكان نصر بن الحسن بن الفيروزان، وهو خال فخر الدولة، مقداما شجاعا قليل المبالاة، قد استعصى على فخر الدولة واقتطع قطعة من بلاده وتغلب عليها، واحتال على جماعة من عساكره فقتلهم بأنواع القتل، ثم كسر له عدة عساكر، إلى أن تكاثرت عساكر فخر الدولة فكسرته وشتتت جموعه، وهرب نحو خراسان حتى صار إلى إسفرايين، ثم بدا له أن سلك طريق المفازة فيها حتى ورد الري ليلة الجمعة لست بقين من شوال سنة أربع وثمانين، وقصد في الليل باب كافي الكفاة مستجيرا به ومستعطفا له، فلم يلن له ورد إلى دار بعض حجاب فخر الدولة فحبس فيها.

قال الوزير أبو سعد: وكنت في هذه الليلة بحضرة كافي الكفاة، فأتاه الحاجب وقد مضى هزيع من الليل، فأخبره بوقوف نصر بن الحسن بن الفيروزان على الباب خاشعا متضرعا، فرأيته قد تحير في الأمر ساعة ثم راسله بأن السلطان الأعظم- يعني فخر الدولة- ساخط عليك، ولا يجوز لي أن آذن لك في دخول داري إلا بعد أن تترضاه وتستعطف قلبه، فإذا عفا عنك ورجع لك فالدار بين يديك وأنا معين لك. فعاد الحاجب إليه بذلك ورجع فقال: إنه امتنع من العود وقال: إنما جئت إلى الصاحب لائذا به ومنقطعا إليه، ولا أعرف غيره، وهو يحتاج أن يدبر أمري ويجيرني ويحامي علي ويذب عني، فرأيت الصاحب وقد ميل رأيه بين إحدى خصلتين: إما أن يستمر على المنع ولا يأذن له، وإما أن يأذن له ويجعل داره بما فيها من الخزائن له، وينتقل هو إلى دار كانت لحاجبه الراوندي وكان قد أضافها بعد موت هذا الحاجب إلى داره.

ثم تقرر رأيه على صرفه، واستمر نصر على الالحاح في الخضوع والاجتهاد أن يأذن له في الدخول، وانتقل من الباب الكبير إلى باب الخاصة، وسأل واجتهد، إلى أن جاءه من قبل فخر الدولة علوسة الحاجب وحبسه وكان هذا الفعل من الصاحب مستهجنا تعجب الناس منه، وتحدثوا به واستقبحوه مع ما اظهره نصر من الاستكانة والاستجارة به. وأظن أنه لم يفعل ذلك إلا لأنه جبن عن الاجتماع معه في دار واحدة مع العداوة المتأكدة بينهما والضغينة الراسخة في قلب كل واحد منهما.

ثم ذكر وفاة الصاحب في الوقت الذي ذكره غيره، وكما ذكرناه آنفا، ثم قال:

وتوفي فخر الدولة عشية يوم الثلاثاء عاشر شعبان، وكان مبلغ عمره أربعا وأربعين سنة وستة أشهر وأياما، ثم وصف أخلاقه وجيوشه وقلاعه وأمواله التي خلفها ثم قال: فاما أمر الوزارة في أيامه فكانت أشهر من أن يحتاج إلى ذكرها، فإن أول وزرائه كان كافي الكفاة، وأسنة الأقلام وعذبات الألسنة تكل دون أيسر أوصافه وأدنى فضائله، ولولا ما آل إليه أمر الوزارة في هذه الأيام واعتقاد من لم يعلم حالها في ذلك الزمان بأن الأمر لم يزل على ما نراه أو قريبا منه وشبيها به لأمسكنا عن ذكره، ولكنا نذكر يسيرا من أحواله، فإن هؤلاء الذين ذكرناهم من أبناء الملوك والأمراء والقواد وسائر من ساواهم من الزعماء والكبار مثل أولاد مؤيد الدولة وابن عز الدولة ومنوجهر بن قابوس بن وشمكير وأبي الحجاج ابن ظهير الدولة وأسفهبذ بن أسفار وحسن بن وشمكير وفولاذ بن مانادر ونصر بن الحسن بن الفيروزان وحيدر بن وهسوذان وكيخسرو بن المرزبان بن السلار وجستان بن نوح بن وهسوذان وشيرزيل بن سلار بن شيرزيل، وكان في يد كل واحد من هؤلاء من الإقطاع ما يبلغ ارتفاعه خمسين الف دينار وما دونها إلى عشرين الف دينار، ومن اكابر القواد ما يطول تعدادهم يحضرون باب داره، فيقفون على دوابهم مطرقين لا يتكلم واحد منهم هيبة وإعظاما لموضعه، إلى أن يخرج أحد خلفاء حجابه، فيأذن لبعض أكابرهم ويصرفهم جملة، فكان من يؤذن له في الدخول يظن أنه قد بلغ الآمال ونال الفوز بالدنيا والآخرة، فرحا ومسرة وشرفا وتعظيما، فإذا حصل في الدار وأذن له في الدخول إلى مجلسه قبل الأرض عند وقوع بصره عليه ثلاث مرات أو أربعا إلى أن يقرب منه فيجلس من كانت رتبته الجلوس، إلى أن يقضي كل واحد

منهم وطره من خدمته، ثم ينصرف بعد أن يقبل الأرض أيضا مرارا. ولم يكن يقوم لأحد من الناس، ولا يشير إلى القيام، ولا يطمع منه أحد في ذلك. ونزل بالصيمرة عند عوده من الأهواز، فدخل عليه شيخ من زهاد المعتزلة يعرف بعبد الله بن اسحاق، فقام له، فلما خرج التفت كافي الكفاة وقال: ما قمت لأحد مثل هذا القيام منذ عشرين سنة، وإنما فعل ذلك به لزهده، فإنه كان أحد أبدال دهره، فأما العلم فقد كان يرى من هو أعلم منه فلا يحفل به؛ وأما هيبته في الصدور، ومخافته في القلوب، وحشمته عند الصغير والكبير والبعيد والقريب، فقد بلغت إلى أن كان صاحبه فخر الدولة ينقبض عن كثير مما يريده بسببه، ويمسك عما تشره إليه نفسه لمكانه، وقد ظهر ذلك للناس بعد موته وانبساط فخر الدولة فيما لم يكن من عادته، فعلم أنه كان يزم نفسه لحشمته، ثم كان يحله محل الوالد إكراما وإعظاما، ويخاطبه بالصاحب شفاها وكتابا، فأما أكابر الدولة فكان الواحد إذا رأى أحد حجابه، بل أحد الأصاغر من حاشيته، فإن فرائصه كانت ترتعد، وجوانحه كانت تصطفق، إلى أن يعلم ما يريده منه ويخاطبه به. وتظلمت إليه امرأة من صاحب لفولاذ بن مانادر، وذكرت أنه ينازعها في حق لها، فما زاد على أن التفت إلى فولاذ، وكان في موكبه يسير خلفه، فبهت وتحير وارتعد، ووقف ولم يبرح إلى أن سار كافي الكفاة، ثم أرسل مع المرأة من أرضاها وأزال ظلامتها، ومثل هذا كثير يطول الكتاب ببعضه، فكيف أن نوضع في كله. وأما أسبابه وحاشيته وهيبته ورتبته فإن من أيسرها كان له عدة من الحجاب منهم من على مربطه ثلاثمائة رأس من الدواب أو ما يقاربها، وكانت أحوال بلكا الحاجب تزيد على ذلك زيادة كثيرة، فإنه كان على مربط خليفة له يعرف بيزد مئة من الخيل العتاق الموصوفة، وكان لا يستغني عنها لأنه كان موصوفا بحفظ الطرق وطلب الأكراد وأهل العيث وصيانة السابلة. وكان ما يخرج لكافي الكفاة في السنة في وجوه البر والصدقات والمبرات وصلات الأشراف وأهل العلم والغرباء الزوار ومن يجري مجرى ذلك مما يتكلفه ويريد به صيت الدنيا وأجر الآخرة يزيد على مائة الف دينار. وانتقلت الوزارة عنه إلى أبي العباس أحمد بن إبراهيم الضبي وأبي علي

الحسن بن أحمد بن حمولة، والسياسة التي قد سنها هو باقية، وحشمة الوزارة ثابتة، والأمور على ما عهد في أيامه جارية. وكان لهما من الحشم والحاشية والتجمل والزينة مثل ما كان له بل كانا فوقه في الغنى والثروة، وان لم يلحقاه في الفضل والمكرمة.

قال غرس النعمة: حدث أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى النصيبي قال: كان أبو الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد قد دبر على الصاحب ابن عباد حتى أزاله عن كتبة الأمير مؤيد الدولة، وأبعده عن حضرته بالري إلى أصفهان، وانفرد هو بتدبير الأمور لمؤيد الدولة كما كان يدبرها لأبيه ركن الدولة، واستدعى يوما ندماءه وعبأ لهم مجلسا عظيما، وأظهر من الزينة وآلات الفضة والذهب والصيني وما شاكله ما يفوت الحصر، وشرب واستفزه الطرب، وكان قد شرب يومه وليلته، فعمل شعرا غني به وهو:

فلما غني بالشعر استطابه وشرب عليه إلى أن سكر، وقال لغلمانه: غطوا المجلس ولا تسقطوا منه شيئا لأصطبح في غد عليه، وقال لندمائه: باكروني، وقام إلى بيت منامه، وانصرف عنه الندماء، فدعاه مؤيد الدولة في السحر فلم يشك أنه لمهم، فقبض عليه، وأنفذ إلى داره من استولى على جميع ما فيها وأعاد ابن عباد إلى وزارته، وتطاولت بابن العميد النكبة حتى مات فيها كما ذكرناه في ترجمته. ثم وزر ابن عباد بعد مؤيد الدولة لأخيه فخر الدولة أخي عضد الدولة، فبقي في الوزارة ثماني عشرة سنة وشهورا، وفتح خمسين قلعة سلمها إلى فخر الدولة لم يجتمع عشر منها لأبيه ولا لأخيه.

وسمع الصاحب الحديث وأملى، فحدث أبو الحسن علي بن محمد الطبري الكيا قال: لما عزم الصاحب ابن عباد على الاملاء، وهو وزير، خرج يوما متطلسا متحنكا بزي أهل العلم فقال: قد علمتم قدمي في العلم، فأقروا له بذلك فقال: وأنا متلبس بهذا الأمر وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي، ومع

هذا فلا أخلو من تبعات أشهد الله وأشهدكم أني تائب إلى الله من ذنب أذنبته. واتخذ لنفسه بيتا وسماه بيت التوبة، ولبث أسبوعا على ذلك، ثم أخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته، ثم خرج فقعد للاملاء، وحضر الخلق الكثير، وكان المستملي الواحد ينضاف إليه ستة، كل يبلغ صاحبه، فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار.

وأهدى إليه العميدي قاضي قزوين كتبا وكتب معها:

فوقع الصاحب تحتها:

حدث أبو الرجاء الضرير الشطرنجي العروضي الشاعر الأهوازي بالأهواز قال:

قدم علينا الصاحب ابن عباد في السنة التي جاء فيها فخر الدولة، ولقيه الناس ومدحه الشعراء، فمدحته بقصيدة قلت فيها:

إلى ابن عباد أبي القاسم الصاحب إسماعيل كافي الكفاه فقال: قد كنت والله أشتهي بأن تجتمع كنيتي واسمي ولقبي واسم أبي في بيت فلما انتهيت إلى قولي فيها:

ويشرب الجيش هنيئا بها فقال: يا أبا الرجاء أمسك فامسكت فقال:

هكذا هو؟ قلت: نعم، قال: أحسنت، قلت: يا مولاي أحسنت أنت، عملت أنا هذا في ليلة وأنت عملته في لحظة.

قال عبد الله الفقير إليه: وممن ذكر نسب الممدوح كاملا الحارث الدئلي في عاصم بن عمرو بن عثمان بن عفان:

إليك ابن عثمان بن عفان عاصم بن عمرو سرت عيسي فطال سراها ومن مستحسن شعر الصاحب:

وحدث البديع الهمذاني قال: كان بعض الفقهاء ويعرف بابن الحضيري يحضر مجلس الصاحب بالليالي فغلبته عينه ليلة فنام وخرجت منه ريح لها صوت، فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب: أبلغوه عني:

ولأبي بكر الخوارزمي في ابن عباد:

فلما مات الخوارزمي بلغ الصاحب وفاته فقال:

وحدث أبو الحسن ابن أبي القاسم البيهقي في «كتاب مشارب التجارب» وذكر الصاحب فقال: أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس الوزير ابن الوزير ابن الوزير، كما قال الرستمي فيه:

قال: وولد بكورة فارس في ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة، ومدحه خمسمائة شاعر من أرباب الدواوين. وممن كان ببابه قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الأسداباذي، وكان قد فوض إليه قضاء همذان والجبال. واستقبل القاضي عبد الجبار الصاحب يوما فلم يترجل له، فقال: أيها الصاحب أريد أن أترجل للخدمة ولكن العلم يأبى ذلك. وكان يكتب في عنوان كتابه «إلى الصاحب: داعيه عبد الجبار بن أحمد» ثم كتب «وليه عبد الجبار بن أحمد» ثم كتب «عبد الجبار بن أحمد» فقال الصاحب لندمائه: أظنه يؤول أمره إلى أن يكتب الجبار.

وأنشد الصاحب لنفسه يرثي:

وذكر هلال بن المحسن عن أبي طاهر ابن الحمامي عن الانبراني الكاتب، قال: ورد إلى الصاحب رجل من أهل الشأم فكان فيما استخبره عنه: رسائل من تقرأ عندكم؟ فقال: رسائل ابن عبد كان، قال: ومن؟ قال: رسائل الصابئ، وغمزه أحد جلسائه ليقول رسائل الصاحب فلم يفطن، ورآه الصاحب فقال: تغمز حمارا لا يحس.

وكان صاحب خراسان الملك نوح بن منصور الساماني قد أرسل إلى الصاحب في السر يستدعيه إلى حضرته ويرغبه في خدمته، وبذل البذول السنية، فكان من جملة اعتذاره أن قال: كيف يحسن بي مفارقة قوم بهم ارتفع قدري، وشاع بين الأنام ذكري، ثم كيف لي بحمل أموالي، مع كثرة أثقالي، وعندي من كتب العلم خاصة ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر.

قال أبو الحسن البيهقي: وأنا أقول: بيت الكتب الذي بالري على ذلك دليل بعد ما أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين، فإني طالعت هذا البيت فوجدت فهرست تلك الكتب عشر مجلدات، فإن السلطان محمودا لما ورد إلى الري قيل له ان هذه الكتب كتب الروافض وأهل البدع، فاستخرج منها كل ما كان في علم الكلام وأمر بحرقه.

وللصاحب من التصانيف: كتاب المحيط باللغة عشر مجلدات. كتاب ديوان رسائله عشر مجلدات. كتاب الكافي رسائل. كتاب الزيدية. كتاب الأعياد وفضائل النوروز. كتاب في تفضيل علي بن أبي طالب وتصحيح إمامة من تقدمه. كتاب الوزراء، لطيف. كتاب عنوان المعارف في التاريخ. كتاب الكشف عن مساوي المتنبئ. كتاب مختصر أسماء الله تعالى وصفاته. كتاب العروض الكافي. كتاب جوهرة الجمهرة. كتاب نهج السبيل في الأصول. كتاب أخبار أبي العيناء. كتاب نقض العروض. كتاب تاريخ الملك واختلاف الدول. كتاب الزيدين. كتاب ديوان شعره.

وقال بعض ولد المنجم بعد وفاة الصاحب وقد استوزر أبو العباس الضبي ولقب بالرئيس وضم إليه أبو علي ولقب بالجليل:

ومن شعر الصاحب:

وله:

وله أيضا:

حدث الوزير أبو العلاء ابن حسول قال: كان دينار المجوسي صدرا في ديوان الري، وكان مدنرا مدرهما ممولا، فكتب رجل إلى الصاحب:

فقبض عليه وصادره واستوفى منه مالا عظيما، والسبب في ذلك البيتان.

وحدث ابن بابك قال: سمعت الصاحب يقول: مدحت والعلم عند الله بمائة ألف قصيدة شعرا عربية وفارسية، وقد أنفقت أموالي على الشعراء والأدباء والزوار والقصاد، ما سررت بشعر ولا سرني شاعر كما سرني أبو سعيد الرستمي الأصفهاني بقوله:

وقال أبو الحسن علي بن الحسين الحسني ختن الصاحب يرثيه:

قال أبو حيان: كان ابن عباد يأتي بالسجع في إثر كلامه مع روية طويلة، وأنفاس مديدة وحشرجة صدر، وانتفاخ منخريه، والتواء شدقيه، وتعويج عنقه واللعب بشاربه وعنفقته، فلو رأيته يقرر المسائل على هذه الأمثلة العجيبة والبيان الشافي، لرأيت عجبا من العجائب، وضربا من الغرائب.

وقال لي يوما الشاباشي، وقد خرجنا من مجلس الصاحب: كيف رأيت مولانا الصاحب اليوم مع هذا التقرير وإظهاره البلاغة الحسنة بين الناس؟ فقلت: السكوت عن مثله احدى الحسنيين وأحرى الحالتين، ولكن نعوذ بالله ممن يزين له الشيطان عمله ويزخرف له قوله. قال لي: كأنه لم يخلق هذا الرجل إلا غيظا لأكباد الأحرار وشفاء لسقم الأنذال، لحا الله دهرا آل بنا إليه، وأنزلنا عليه، وأحوجنا إلى مقاساته، وألجأنا إلى مجالسته، وأنشد يقول:

قال أبو حيان، قال لي الشاباشي: أهدى ابن عباد إلى صاحبه وقت ورودهما إلى الأهواز دينارا من ضربه وزنه ألف مثقال وكتابته:

فقال أرأيت أكذب منه حيث قال: فلم يطبع على الدهر مثله؟ ما كان في الدنيا من خدم ملكا بألف دينار ثم قال: «وكافي كفاته» والله لو كتبت امرأة بمثله إلى زوجها لكان سمجا قبيحا، فكيف إلى فخر الدولة؟! ما أحسن ما كفاه أمر أبي العلاء

النصراني حين هزمه بعدد قليل، بعد أن كان في جيش عرمرم ثقيل، ولكن الدنيا حمقاء خرقاء ولا تميل الا إلى مثلها، لو كتب المطهر أو نصر بن هارون أو أحد وزراء عضد الدولة إليه بشيء من ذلك لأحرقه بالنار والنفط.

ومن كتاب الروزنامجة: قال الصاحب: ما زال أحداث بغداد يذكرونني بابن شمعون المتصوف وكلامه على الناس في مكان الشبلي، فجمعت يوما في المدينة وعلي طيلسان ومصمتة، ووقفت عليه وقد لبس فوطة قصب وقعد على كرسي ساج، بوجه حسن ولفظ عذب، فرأيته يقطع مسائله بهوس يطيله ويسهب فيه، فقلت:

لا بد من أن أسأله عما أقطعه به، وابتدرت فقلت: يا شيخ ما تقول في قد سيكونيات العلم إذا وقعت قبل التوهم؟ فورد عليه ما لم يسمع به، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: لم أؤخر إجابتك عجزا عن مسألتك بل لأعطشك إلى الجواب، وأخذ في ضرب من الهذيان، فلما سكت قلت: هذا بعد التوهم، وإنما سألتك قبله، إلى أن ضجر فانصرفت عنه.

قرأت بمصر في نسخة باليتيمة للثعالبي عليها خط يعقوب بن أحمد بن محمد بالقراءة عليه يرويها عن مؤلفها الثعالبي فوجدت فيها زوائد لا أعرفها في النسخ المشهورة بأيدي الناس منها: حدثني عوف بن الحسين الهمذاني التميمي قال كنت يوما في خزانة الخلع للصاحب فرأيت في ثبت الحسبانات لكاتبها، وكان صديقي، مبلغ عمائم الخز التي صارت في تلك الشتوة في خلع العلويين والفقهاء والشعراء سوى ما صار منها في خلع الخدم والحاشية ثمانمائة وعشرون؛ قال: وكان يعجبه الخز ويأمر بالاستكثار منه في داره، فنظر أبو القاسم الزعفراني يوما إلى جميع ما فيها من الخدم والحاشية عليهم الخزوز الملونة الفاخرة فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئا، فسأل الصاحب عنه فقيل له: إنه في مجلس كذا يكتب، فقال: علي به، فاستمهل الزعفراني ريثما يتم مكتوبه، فأعجله الصاحب وأمر أن يؤخذ ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني إليه وقال: أيد الله الصاحب:

فقال: هات يا أبا القاسم فأنشده أبياتا منها:

فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة أن رجلا قال له: احملني فأمر له بفرس وبغلة وحمار وناقة وجارية ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا غيرها لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف ورداء وجورب، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه، ثم أمر بادخاله إلى الخزانة وصيرت تلك الخلع عليه، وسلم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلامه.

قال وحدثني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي قال: عهدي بأبي محمد الخازن ماثلا بين يدي الصاحب ينشده قصيدة أولها:

قال: فرأيت الصاحب مقبلا عليه بمجامعه، حسن الإصغاء إلى إنشاده مستعيدا لاكثر أبياته، مظهرا من الاعجاب به والاهتزاز له ما يعجب الحاضرين، فلما بلغ إلى قوله:

زحف عن دسته طربا له، فلما بلغ إلى قوله في المدح:

فجعل يحرك رأسه ويقول: أحسنت أحسنت، فلما أنهى القصيدة أمر له بجائزة وخلع.

قال الأمير أبو الفضل الميكالي: كتب عامل رقعة إلى الصاحب في التماس شغل وفي الرقعة. إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله فعل، فوقع الصاحب تحتها: من كتب إشغالي لا يصلح لأشغالي.

وحدث هلال بن المحسن: ما رئي أحد وفي من الإعظام والاكبار بعد موته ما وفيه الصاحب، فإنه لما جهز ووضع في تابوته وأخرج على أكتاف حامليه للصلاة عليه قام الناس بأجمعهم فقبلوا الأرض بين يديه، وخرقوا عند ذلك ثيابهم، ولطموا وجوههم، وبلغوا في البكاء والنحيب عليه جهدهم. وكان يلبس القباء في حياته تحققا بالوزارة وانتسابا معها إلى الجندية.

وحدث عن أبي الفتح ابن المقدر قال: كان أبو القاسم ابن أبي العلاء الشاعر من وجوه أهل أصبهان وأعيانهم ورؤسائهم، فحدثني أنه رأى في منامه قائلا يقول له: لو كاثرت الصاحب أبا القاسم ابن عباد مع فضلك وكثرة علمك وجودة شعرك فقلت:

أفحمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بما أبدأ منها، وخفت أن أقصر وقد ظن بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقوله، قلت: قل، فقال:

(باب ذريه: المحلة التي فيها تربته أو ما يستقبلك من اصفهان). وحدث في كتاب الروزنامجه: وانتهيت إلى أبي سعيد السيرافي، وهو شيخ البلد، وفرد الأدب، حسن التصرف، وافر الحظ من علوم الأوائل، فسلمت عليه وقعدت إليه، وبعضهم يقرأ «الجمهرة» فقرأ ألمقت فقلت إنما هو لمقت، فدافعني الشيخ ساعة ثم رجع إلى الأصل فوجد حكايتي صحيحة، واستمر القارئ حتى أنشد وقد استشهد:

فقلت: أيها الشيخ هذا لا يجوز والمصراعان على هذا النشيد يخرجان من بحرين لأن:

فذاك من الخفيف وهذا من المنسرح، فقال: لم لا تقول الجميع من المنسرح والمصراع الأول مخزوم؟ فقلت: لا يدخل الخزم هذا البحر لأنه أوله مستفعلن

مفاعلن، هذه مزاحفة عنه، وإذا حذفنا متحركا بقينا ساكنا، وليس في كلام العرب ابتداء به وانما هو:

كدت أقضي الغداة من جلله

بتخفيف الضاد فأمر بتغييره، ورفعني إلى جنبه، وابتدأ فقرئ عليه من «كتاب المقتضب» باب ما يجرى وما لا يجرى، إلى أن ذكر وسحر، وأنه لا ينصرف إذا كان لسحر بعينه، لأنه معدول عن الأول، فقلت: ما علامة العدل فيه؟ فقال: أنا قلنا السحر ثم قلنا سحر، فعلمنا أن الثاني معدول عن الأول، قلت: لو كان كذلك لوجب أن تطرد العلة في عتمة، لأنك تقول العتمة، ثم تقول عتمة، فضجر واحتد وصاح واربد، وادعيت أنه ناقص والتمس التحاكم، فكتبت رسالة أخذت فيها خطوط أهل النظر، وقد أنفذت درج كتابي نسختها، وفيها خط أبي عبد الله بن رذامر عين مشايخهم، ورأيت الشيخ بعد ذلك عزيزا فاضلا متوسعا عالما فعلقت عليه، وأخذت عنه وحصلت تفسيره لكتاب سيبويه وقرأت صدرا منه. وهناك أبو بكر ابن مقسم، وما في أصحاب ثعلب أكثر دراية وما أصح رواية منه، وقد سمعت مجالسه وفيها غرائب ونكت، ومحاسن وطرف، من بين كلمة نادرة، ومسألة غامضة، وتفسير بيت مشكل، وحل عقد معضل. وله قيام بنحو الكوفيين وقراءتهم ورواياتهم ولغاتهم.

والقاضي أبو بكر ابن كامل بقية الدنيا في علوم شتى، يعرف الفقه والشروط والحديث، وما ليس من حديثنا، ويتوسع في النحو توسعا مستحسنا، وله في حفظ الشعر بضاعة واسعة، وفي جودة التصنيف قوة تامة، ومن كبار رواة المبرد وثعلب والبحتري وأبي العيناء وغيره، وقد سمعت صدرا صالحا مما عنده. وكنت أحب أن أسمع كلام أهل النظر بالعراق لما تتابع في حذقهم من الأوصاف، وذكر أبا زكرياء يحيى بن عدي وغيره ومناظرات جرت هناك يطول شرحها.

وحدث عن أبي نصر ابن خواشاده أنه قال: ما غبطت أحدا على منزلة كما غبطت الصاحب أبا القاسم ابن عباد، فانا كنا مقيمين بظاهر جرجان مع مؤيد الدولة على حرب الخراسانية، فدخل الصاحب إلى داره في البلد آخر نهار يوم لحضور المجلس الذي يعقده لأهل العلم، وتحته دابة رهواء وقد أرسل عنانه، فرأيت وجوه الديلم

وأكابرهم من أولاد الأمراء يعدون بين يديه كما تعدو الركابية. وكان عضد الدولة يخاطب شيخنا خطابا لا يشرك معه فيه إلا أنه كان يقل مكاتبته، وكانت الكتب من عضد الدولة إنما ترد على لسان كاتبه أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف.

ولما وجدت الشعراء لبضائعها عند ابن عباد نفاقا وسوقا أهدوا نتائج أفكارهم إلى حضرته وساقوها نحوه سوقا. فذكر الثعالبي قال: واحتف به من نجوم الأرض وأفراد العصر وأبناء الفضل وفرسان الشعر من يربي عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنهم في الأخذ برقاب القوافي، وملك رق المعاني، فإنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك مثل ما اجتمع بباب الرشيد من فحولة الشعراء المذكورين، كأبي نواس وأبي العتاهية والعتابي والنمري ومسلم بن الوليد وأبي شيص وابن أبي حفصة ومحمد بن مناذر، وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان والري وجرجان مثل أبي الحسين السلامي وأبي سعيد الرستمي وأبي القاسم الزعفراني وأبي العباس الضبي والقاضي الجرجاني وأبي القاسم ابن أبي العلاء وأبي محمد الخازن وأبي هاشم العلوي وأبي الحسن الجوهري وبني المنجم وابن بابك وابن القاشاني والبديع الهمذاني وإسماعيل الشاشي وأبي العلاء الأسدي وأبي الحسن الغويري وأبي دلف الخزرجي وأبي حفص الشهرزوري وأبي معمر الاسماعيلي وأبي الفياض الطبري وغيرهم ممن لم يبلغني ذكره أو ذهب عني اسمه، ومدحه مكاتبة الرضي الموسوي وأبو إسحاق الصابئ وابن الحجاج وابن سكرة وابن نباتة وغيرهم ممن يطول ذكره.

وكتب أبو حفص الأصفهاني الوراق إلى الصاحب رقعة نسختها: لولا أن الذكرى- أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل- تنفع المؤمنين، وهز الصمصام يعين المصلتين، لما ذكرت ذاكرا، ولا هززت ماضيا، ولكن ذا الحاجة يستعجل النجح، ويكد الجواد السمح، وحال عبد مولانا في الحنطة متخلفة، وجرذان داره عنها منصرفة، فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، فلم يشد رحله، فعل إن شاء الله تعالى. فوقع على رقعته: أحسنت يا أبا حفص قولا، وسنحسن فعلا، فبشر

جرذان دارك بالخصب، وأمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست عن غيرها من النفقة بممنوع، ان شاء الله تعالى.

قال: وحدثني أبو الحسن الدارمي المصيصي قال: انتحل فلان- يعني بعض المتشاعرين- بحضرة الصاحب شعرا له، وبلغه ذلك فقال: أبلغوه عني:

قال: فاتخذ الليل جملا وهرب من الري.

وحدث عن عون بن الحسين الهمذاني قال: سمعت أبا عيسى ابن المنجم يقول: سمعت الصاحب يقول: ما استأذنت على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا وانتقل الى مجلس الحشمة فأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذل بين يدي أو مازحني قط إلا مرة واحدة، فإنه قال لي: بلغني أنك تقول إن المذهب مذهب الاعتزال، والنيك نيك الرجال، فأظهرت الكراهة لانبساطه وقلت: بنا من الجد ما لا نفرغ معه للهزل ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إلي مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها إلى ما يجري مجرى الهزل والمزح.

ولما أتت الصاحب البشارة بسبطه عباد بن علي الحسني- ولم يكن للصاحب ولد غيرها، وكان قد زوجها من أبي الحسن علي بن الحسين الحسني الهمذاني، وكان شاعرا أديبا بليغا، وله شعر منه هذان البيتان في دار لبعض الملوك بناها:

أنشأ الصاحب يقول:

ثم قال:

وقد ذكرت ذلك الشعراء في أشعارهم، فمن ذلك قول أبي الحسن الجوهري في قصيدة منها:

لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزا من ولد فاطمة يملأ الله الأرض به عدلا كما ملئت جورا، والصاحب من الطالقان من قرى أصفهان، فلما رزق سبطا فاطميا تأولوا له هذا الخبر وأنا بريء من العهدة.

هذا الذي ذكره الثعالبي أن طالقان من قرى أصفهان، والصواب ما تقدم.

قال: وعرض علي أبو الحسن الشقيقي البلخي توقيع الصاحب إليه في رقعته:

من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر، فليس لكسرك من جبر.

وهذه رسالة كتبها الصاحب إلى أبي علي الحسين بن أحمد في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد، قال الثعالبي: وسمعت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد

الميكالي يسردها فزادني جريها على لسانه وصدورها عن فمه إعجابا بها وهي: كتابي هذا يا سيدي صدر من سحنة وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل غدا إن شاء الله إذا مد الصباح غرره قبل أن يسبغ حجوله، ولولا ذلك لأطلته كوقوف الحجيج على المشاعر، ولم أقتصر منه على زاد المسافر، فإن المتحمل له وسيع الحقوق لدي، حقيق أن أتعب له خاطري ويدي، وهو أبو عبد الله الحامدي- كان وافى مع ذلك الشيخ الشهيد أبي سعيد الشبيبي السعيد، رفع الله منازله، وقتل قاتله، بكتب له فأنسنا بفضله، وآنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة، وبما كان له فيها من القربة، لم يرض غير بابي مشرعا، وغير جنابي مرتعا، وقطع إلي الطريق الشاق مؤكدا حقا لا يشق فيه غباره، ولا ينسى على الزمان ذماره، فكنت على جناح هذه النهضة التي بنا لم يستقر نواها، ولم تلق عصاها.

فإحراج الحر المبتدئ الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، تحامل عليه بالمركب الوعر، فرددته إليك يا سيدي لتسهل عليه حجابك، وتمهد له جنابك، وتترصد له عملا خفيف الثقل، ندي الظل، فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوضته إليه. وهو إلى أن يتسق ذلك ضيفي وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه، ويريد اشتغالا بالعلم يزيده استقلالا، إلى أن يأتيه إن شاء الله خبرنا في الاستقرار، ثم له الخيار: إن شاء أقام على ما وليته، وإن شاء التحق بنا ناشرا ما أوليته. وقد وقعت له إلى فلان بما يعينه على بعض الانتظار، إلى أن تختار له كل الاختيار، فأوعز إليه بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحر الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى وحده.

وكتب إلى القاضي أبي بشر الفضل بن محمد الجرجاني عند وروده باب الري وافدا عليه:

أفحق ما قيل من أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله بل هو درك العيان، وإنه ونيل المنى سيان، فمرحبا أيها القاضي براحلتك ورحلك، بل أهلا بك وبكافة أهلك، ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من رياك، فحث المطي تزل غلتي برؤياك، وتزح علتي بلقياك، ونص على يوم الوصول نجعله عيدا مشرفا، ونتخذه موسما ومعرفا، ورد الغلام، أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على جناح نسر، يترك الصبا في عقال أسر:

وقال بعض ندماء الصاحب له يوما: أرى مولانا قد أغار في قوله:

على المتنبي في قوله:

فقال: كما أغار هو في قوله:

على العباس بن الأحنف في قوله:

وللصاحب أيضا:

من قول المهلبي الوزير:

وللصاحب أيضا:

أخذه من قول ابن المعتز:

قال المؤلف: هكذا ذكر الثعالبي، ونسب هذا البيت الى ابن المعتز، وهو لأبي بكر محمد بن السراج النحوي، وله قصة طريفة، وهي مذكورة في أخباره من هذا الكتاب.

ومما هجي به الصاحب قول أبي العلاء الأسدي:

وقال السلامي:

ومر أبو العباس الضبي بباب الصاحب بعد موته فقال:

ولأبي القاسم ابن أبي العلاء الأصفهاني يرثي الصاحب من قصيدة:

وكتب الصاحب الى أبي العلاء الأسدي من أجود أبياته:

ورد يا شيخي- أطال الله بقاءك- رسولك بكتاب سبق الأفكار والظنون، وحسدت عليه القلوب العيون، وترك الواصفين بين قاصر ومقصر. ومثل ليالينا بين اللوى فمحجر، بكلام كالورق النضير تتأوه منه الغصون، وكالنور المنير أفنانه فنون، فصادفني حليفا للشوق أو رهينا، وحنينا على الحنين وساء قرينا، وكيف لا وقد ألفنا القرب حولا حولنا رياض الأدب ترف، ودوننا رواحل الفضل تزف، نملك رقاب المنطق، ونتنازع أطراف الكلام المنمق، ونقطع الليالي تناشدا وتذاكرا، وتحادثا وتسامرا، إلى أن يخلع الظلام ثيابه، ويحدر المصباح نقابه، هذا دأبنا كان إلى أن جاوزنا الشباب مراحل، ووردنا من المشيب مناهل، ثم حان الفراق فنحن حتى اليوم منه في جو كدر، ونجم منكدر، يقبضنا عن الموارد العذاب، ويعرضنا على لواعج العذاب، والله نسأل إعادة هاتيك الأحوال، وتلك الأيام الخضراء الظلال، وإن كان الله قد زادنا بعدك مناجح ومنائح، وأيادي غوادي وروائح، حتى فتحنا الفتوح، وذللنا القروح، ورتقنا الفتوق، ونسخنا الفروق، وأثرنا الآثار، ووطأنا الرقاب وطلبنا الثار، واصطنعنا الصنائع، وجعلنا ودائع النعم قطائع، وعقدنا في أعناق الأحرار مننا وأحيينا من سبل الاحسان سننا، انا قد تحملنا مشاق مالت على القوة للضعف، وتحاملت على الأشد بالوهن، ودفعت الى معالجة خطوب تعجب الدهر من صبرنا عليها فخار، وجبن الزمان عند شجاعتنا لها فحار، وها أنا أحوج ما كنت إلى أن أرفه، ولا أستكره، وقد رميت بسهم الأربعين، وأرميت على شرف الخمسين، مدفوع الأشغال والأثقال إلى متاعب ومصاعب لو مني بها ابن ثلاثين قويا أزره طريا حرصه، لقام عجزه وقعدت به نفسه، وأظنني كنت قديما قلت:

وما على الراحة آسف بل على أن لا أكون مشغولا بأخرى أمهد لها وأكدح، وأدأب لنفسي وأنصح، اللهم وفق وقدر، وسهل ويسر، إنك على ما تشاء قدير.

والرسالة طويلة كتبت مقدمها.

ذكر محمد ما فعله الصاحب مع القاضي عبد الجبار بن أحمد من حسن العناية والتولية والتمويل، فلما مات الصاحب كان يقول: أنا لا أترحم عليه لأنه لم يظهر توبته، فطعن عليه في ذلك ونسب إلى قلة الرعاية، لا جرم أن فخر الدولة قبض عليه بعد موت الصاحب، وصادره فيما قيل على ثلاثة آلاف ألف درهم، وعزله عن قضاء الري، وولى مكانه القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني العلامة صاحب التصانيف والفضائل الجمة، وقد ذكرته أنا في بابه، فقيل إن عبد الجبار باع ألف طيلسان مصري في مصادرته، وهو شيخ طائفتهم، يزعم أن المسلم يخلد في النار على ربع دينار، وجميع هذا المال من قضاء الظلمة بل الكفرة عنده وعلى مذهبه، وإنما ذكرت هذا للاعتبار.

وقرأت في كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ قال: وكان الصاحب أبو القاسم يراعي من ببغداد والحرمين من أهل الشرف وذوي المآثر من السلف، وشيوخ الكتاب والشعراء، وأولاد الأدباء والزهاد والفقهاء، بما يحمله إليهم في كل

سنة مع الحاج على مقاديرهم ومنازلهم، وكان يحمل إلى أبي إسحاق إبراهيم بن هلال جدي خمسمائة دينار وإلي ألفي درهم جبلية مع جعفر بن شعيب، فأذكر وقد راسله بعد وفاة عضد الدولة بالاستدعاء إلى حضرته بالري، وبذل له النفقة الواسعة والمعونة الشاسعة عند شخوصه والإرغاب والاكثار عند حضوره، فكانت عقلة بالذيل الطويل والظهر الثقيل تمنعه من ترك موضعه ومفارقة موطنه، فمما كتبه إليه بالاعتذار عن التأخر:

ومنها:

ومنها يعتذر:

وهي طويلة فلما كانت سنة أربع وثمانين التي توفي فيها جدي أحس بانقضاء مدته، وحضور منيته، فكتب إلى الصاحب كتابا يسأله فيه إقرار هذا الرسم المذكور على ولده، واجراءه لهم من بعده، وقرن الكتاب بقصيدة أولها:

يقول فيها:

وهي طويلة.

قال هلال بن المحسن: وأمرني بأن أنفذ ذلك فأنفذته، وكتبت عن نفسي كتابا في معناه، ووصل ونفذ من يحمل الرسم على العادة، ثم اتفق أن توفي الصاحب في أول سنة خمس وثمانين وثلاثمائة فوقف، وكانت بين وفاتهما شهور.

قال هلال: وسمعت محدثا يحدث أبا إسحاق أنه سمع الصاحب يقول: ما بقي من أوطاري وأغراضي إلا أن أملك العراق، وأتصدر ببغداد، وأستكتب أبا اسحاق الصابئ، ويكتب عني وأغير عليه، فقال جدي: ويغير علي وإن أصبت!! قال: وحدثني أبو إسحاق جدي قال: حضر الصاحب أبو القاسم ابن عباد دار الوزير المهلبي عند وروده إلى بغداد مع مؤيد الدولة، فحجب عنه لشغل كان فيه، وجلس طويلا، فلما تأخر الإذن كتب إلي رقعة لطيفة فيها:

فأقرأتها الوزير المهلبي فأمر بإدخاله.

قال: وكان الصاحب عند دخوله إلى بغداد قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام له، وتحفز تحفزا أراه به ضعف حركته وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه وأقامه، وقال: نعين القاضي على قضاء حقوق إخوانه، فخجل أبو السائب واعتذر إليه.

وذكر القاضي أبو علي التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة: حدثني أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان المعروف بابن أبي عمرو الشرابي حاجب أمير المؤمنين المطيع لله قال: دخلت في حداثتي يوما على أبي السائب القاضي فتثاقل في القيام لي وأظهر لي ضعفا عنه للسن والعلل المتصلة به، قال: فتطاول فجذبت يده بيدي حتى أقمته القيام التام وقلت له: أعين قاضي القضاة أيده الله على إكمال البر وتوفية الإخوان حقوقهم، قال: وقد كنت عاتبا عليه في أشياء عاملني بها، وإنما جئته للخصومة، فبدأت لأخذ الكلام، فحين رأى الشر في وجهي قال:

تتفضل لاستماع كلمتين ثم تقول ما شئت، فقلت له: قل فقال: روينا عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل} قال: عفو بلا تقريع، فإن رأيت أن تفعل ذلك فافعل، فاستحييت من الاستقصاء عليه وانصرفت.

قال المؤلف: والذي عندي أن الخبر إنما جرى بين هذا والقاضي، وبلغ أمره الصاحب فانتحله لنفسه، وحكاه في مجلس أنسه، فشاع عنه، وكان الصاحب رحمه الله ممن يحب الفخر وانتحال الفضائل التي ربما قصر عنها.

ومن أشعار الصاحب:

وكتب إلى أبي الحسين الطبيب:

وله:

وقال لما حضرته الوفاة:

وله أيضا:

قال أبو بكر الخوارزمي أنشدنا الصاحب هذه القوافي ليلة وقال: هل تعرفون نظيرا لمعناها في شعر المحدثين؟ فقلت لا أعرف إلا قول البحتري:

قال فقال: جودت وأحسنت هكذا فليكن الحفظ.

وله ويروى لغيره:

وله أيضا:

وله أيضا:

وله أيضا:

وله يصف الثلج:

وله أيضا:

وكتب إلى أبي الفضل ابن شعيب:

وله أيضا:

وله يمدح عضد الدولة:

وله يهجو:

وله في رجل كثير الشرب بطيء السكر:

وله أيضا:

وله أيضا:

وله أيضا:

حدث القاضي أبو عبد الله ابن الحسن بن علي السميري قال، حدث الصاحب قال: لما عدت من أصبهان بعد القبض على أبي الفتح ابن العميد دعا مؤيد الدولة إلى طعامه وكنت عليه معه، فبينا الألوان توضع وترفع إذ قدمت بين يدي طنبورية بمكبة، ثم شيلت المكبة فإذا بيد أبي الفتح ابن العميد وفي إصبعه خاتمه الذي أعرفه، فارتعت لذلك ووجمت منه، فقال لي مؤيد الدولة: إنما فعلت هذا لتسكن نفسك

وتعلم إن الله قد كفاك عدوك، فدعوت له ولم أنتفع بنفسي أياما قلقا وانزعاجا. قال القاضي: وكانت والدة أبي الفتح في دار الصاحب على أتم حال مراعاة وحراسة فلم يعلمها ولا مكن من إعلامها بقتله حتى ماتت.

  • دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 2- ص: 721

الصاحب الوزير الكبير العلامة، الصاحب، أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس الطالقاني، الأديب الكاتب، وزير الملك مؤيد الدولة بويه ابن ركن الدولة.
صحب الوزير إلى أبا الفضل بن العميد، ومن ثم شهر بالصاحب.
وسمع من: أبي محمد بن فارس بأصبهان، ومن أحمد بن كامل القاضي، وطائفة ببغداد.
روى عنه: أبو العلاء محمد بن حسول، وعبد الملك بن علي الرازي، وأبو بكر بن أبي علي الذكواني، وأبو الطيب الطبري، وأبو بكر بن المقرئ شيخه.
وله تصانيف منها في اللغة ’’المحيط’’ سبعة أسفار، و’’الكافي’’ في الترسل، وكتاب ’’الإمامة’’ وفيه مناقب الإمام علي، ويثبت فيه إمامة من تقدمه.
وكان شيعيا معتزليا مبتدعا تياها صلفا جبارا، قيل: إنه ذكر له البخاري فقال: ومن البخاري؟!! حشوي لا يعول عليه.
وقد نكب ونفي، ثم رد إلى الوزارة، ودام فيها ثماني عشرة سنة. وافتتح خمسين قلعة لمخدومه فخر الدولة.
وقد طول ابن النجار ترجمته.
وكان فصيحا متقعرا، يتعانى وحشي الألفاظ في خطابه، ويمقت التيه، ويتيه ويغضب إذا ناظر، قال مرة لفقيه: أنت جاهل بالعلم، ولذلك سود الله وجهك.
وله كتاب ’’الوزراء’’، وكتاب ’’الكشف عن مساوئ شعر المتنبي’’، وكتاب ’’الأسماء الحسنى’’.
وهو القائل:

قيل: جمع الصاحب من الكتب ما يحتاج في نقلها إلى أربع مائة جمل، ولما عزم على التحديث تاب، واتخذ لنفسه بيتا سماه بيت التوبة، واعتكف على الخير أسبوعا، وأخذ خطوط جماعة بصحة توبته، ثم جلس للإملاء، وحضره الخلق، وكان يتفقد علماء بغداد في السنة بخمسة آلاف دينار، وأدباءها، وكان يبغض من يدخل في الفلسفة.
ومرض بالإسهال، فكان إذا قام عن الطست ترك إلى جنبه عشرة دنانير للغلام، ولما عوفي تصدق بخمسين ألف دينار.
وقيل: إن صاحب ما وراء النهر نوح بن منصور كتب إليه يستدعيه ليوليه وزارته، فاعتل بأنه يحتاج لنقل كتبه خاصة أربع مائة جمل، فما الظن بما يليق به من التجمل.
وكان قد لقب كافي الكفاة.
مات بالري، ونقل إلى أصبهان، ولما أبرز تابوته ضج الخلق بالبكاء.
يقال: إنه قال: ثلاثة خجلوني: البندهي حضر المجلس، فقدمت فواكه منها مشمش فائق، فأكل وأمعن، فقلت: إنه ملطخ المعدة، فقال: لا يعجبني الرئيس إذا تطبب، والفرندي قال: قد جئت من دار السلطنة وأنا ضجر من أين أقبل مولانا؟ قلت: من لعنة الله، قال: رد الله غربة مولانا. والثالث: المافروخي أيام حسنه داعبته، فقلت: رأيتك تحتي، قال: مع ثلاثة مثلي.
وللبستي في الصاحب:
مات الصاحب في صفر سنة خمس وثمانين وثلاث مائة، عن تسع وخمسين سنة.
ووزر أبوه لركن الدولة.
الساماني، والسامري:

  • دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 12- ص: 453

إسماعيل بن عباد [د، ت] أبو القاسم الصاحب.
أديب بارع شيعي معتزلي.
وله رواية قليلة، ونظمه لا بأس به، وشعره حسن جدا، وبتشبيهاته يضرب المثل.

  • دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان-ط 1( 1963) , ج: 1- ص: 212

الصاحب بن عباد
وأما الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد، فإنه كان غزير الفضل، متفنناً في العلوم، أخذ عن أبي الحسين بن فارس، وأبي الفضل بن العميد.
ويحكى أنه لما رجع من بغداد دخل على الأستاذ أبي الفضل بن العميد، فقال له: كيف وجدت بغداد؟ قال: بغداد في البلاد، مثل الأستاذ في العباد.
وأنشده الصاحب:

وكان بين الصاحب وبين أبي بكر الخوارزمي شيء، فبلغ الصاحب عنه أنه هجاه بقوله:
وظلمه بهذا القول، فلما بلغ الصاحب موت أبي بكر أنشد:
وصنف تصانيف كثيرة: كالوقف والابتداء، والعروض، وجوهرة الجمهرة، والأخذ على أبي الطيب المتنبي، وكتاب الرسائل، إلى غير ذلك.
ويحكى عنه أنه لما صنف كتاب الوقف والابتداء كان ذلك في عنفوان شبابه، فأرسل إليه أبو بكر بن الأنباري وقال له: إنما صنفت كتاب الوقف والابتداء بعد أن نظرت في سبعين كتاباً تتعلق بهذا العلم، فكيف صنعت هذا الكتاب مع حداثة سنك؟ فقال الصاحب للرسول: قل للشيخ: نظرت في النيف وسبعين التي نظرت فيها، ونظرت في كتابك أيضاً.
وكان الصاحب صاحب بلاغة وفصاحة، سمح القريحة؛ يحكى أنه دخل رجل فجعل يكرر السجود، فقال له: تسجد كأنك هدهد!
ويحكى أيضاً أنه دخل عليه رجل فقال له: من أين أنت! فقال: من ’’بنج ده’’، وهي بالفارسية خمس قرى، فقال له الصاحب: يحمق من كان من قرية واحدة، فكيف من كان من خمس قرى!
ويحكى أنه رأى أحد ندمائه متغير اللون، فقال له: ما الذي بك؟ قال: حمى! فقال له الصاحب: ’’قه’’، فقال النديم: ’’ده’’، فاستحسن الصاحب ذلك منه، وخلع عليه.
وكان الصاحب يذهب إلى مذهب أهل العدل، وفي ذلك يقول:
وتوفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، في خلافة العادل بالله تعالى.

  • مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن-ط 3( 1985) , ج: 1- ص: 238

  • دار الفكر العربي-ط 1( 1998) , ج: 1- ص: 281

  • مطبعة المعارف - بغداد-ط 1( 1959) , ج: 1- ص: 222

إسماعيل بن عبّاد بن العباس بن عباد الوزير، الملقّب بالصّاحب، أبو القاسم.
قال أبو حيّان: كان الصاحب ابن عبّاد ديّنا مقدّما في صناعة الكتابة، كتب لركن الدولة، كما كتب ابن العميد لصاحب خراسان. كان مولده بفارس في ذي القعدة من سنة ستّ وعشرين وثلاث مائة. وكان له سعادة عظيمة، فإنه رأى ما لم يره أحد من أبناء جنسه، فإنه مدحه خمس مائة شاعر من أرباب الدواوين المشهورة. وممّن كان ببابه: قاضي القضاة عبد الجبّار بن أحمد الأسدآباذيّ، وكان قد فوّض إليه قضاء همذان والجبال، فرآه الصاحب يوما وهو راكب، فلم يترجّل له، وقال: أيها الصاحب، قد أردت أن أترجّل للخدمة، ولكنّ العلم يأبى ذلك.
وكان يكتب إليه على عنوان كتابه: داعيه عبد الجبار، ثم كتب: وليّه عبد الجبار بن أحمد، ثم كتب: عبد الجبار بن أحمد، فقال الصاحب:
أظنّه يؤول أمره إلى أن يكتب: الجبار بن أحمد.
وكان صاحب خراسان نوح بن أحمد السّامانيّ قد أرسل إلى الصاحب في السّر يرغّبه في خدمته، ويستدعيه إلى حضرته، وبذل له البذول السّنيّة. فكان من جملة اعتذاره أن قال: كيف يحسن بي مفارقة قوم بهم ارتفع قدري، وشاع بين الأنام ذكري؟ ثم كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي، وعندي من كتب العلم خاصّة ما يحمل على أربع مائة جمل.
قال أبو الحسن البيهقيّ: وبيت الكتب الذي بالرّيّ دليل على ذلك، فإنّي رأيته بعد ما أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين، وشاهدت فهرست الكتب التي كانت فيه في عشر مجلّدات. وسبب حريق الكتب أنّ السلطان لمّا دخل الريّ رآها، فسأل عمّا فيها، فقيل: هذه كتب الروافض، فأمر بإحراقها.
وللصاحب من التصانيف: كتاب المحيط في اللّغة: عشر مجلّدات، وكتاب ديوان رسائله: عشر مجلّدات، وكتاب الكافي، وكتاب الزّيدية، وكتاب الأعياد وفضائل النيروز، وكتاب الإمامة في تفضيل عليّ عليه السلام، وكتاب الوزراء، وكتاب عنوان المعارف في التاريخ، وكتاب الكشف عن مساوئ المتنبي، وكتاب أسماء الله عزّ وجلّ وصفاته، وكتاب العروض، وكتاب نقض العروض، وكتاب جوهرة الجمهرة، وكتاب السبيل في الأصول، وكتاب أخبار أبي العيناء، وكتاب تاريخ الملل واختلاف الدّول، وكتاب الزّيدين، وكتاب ديوان شعره.
ومن شعره: [مجزوء الرجز]

وقال: [مجزوء الكامل]
قلت دعني وجهك الجنّة حفّت بالمكاره
وكانت وفاته في رابع عشر صفر من سنة خمس وثمانين وثلاث مائة.
وقد ذكرت أخباره مستوفاة في كتاب سمّيته حصول المراد من أخبار ابن عبّاد.

  • دار الغرب الإسلامي - تونس-ط 1( 2009) , ج: 1- ص: 308