ابن نخيل محمد بن إبراهيم بن عبد العزيز بن نخيل الأندلسي، أبو عبد الله، نزيل تونس، الأديب، الكاتب، المورخ، وكان أبوه شاعرا صالحا.
لما استنقذ الخليفة عبد المؤمن بن علي البلاد التونسية من الاحتلال النرماني في سنة الأخماس 555/ 1169 أصبحت تونس جزءا من السلطنة الموحدية الشاسعة، يتعاقب عليها الولاة من الموحدين، إلى أن انقطعت عن الدولة الموحدية واستقل أبو زكريا يحيى الحفصي سنة 626/ 1229 مغتنما فرصة ضعف الدولة الموحدية. وكانت تونس والجزائر - إذ ذاك - تجتازان أزمات الاختلال والاضطراب من جراء ثورة بني غانية الميورقيين من بقايا الملثمين المرابطين، وطموح بعض أمراء الطوائف إلى التغلب على الجهات التي كانوا يحكمونها مستغلين بعد السلطة المركزية عنهم، فحاول بنو الرند استعادة قفصة وما يتبعها من بلاد الجريد، لكن الخليفة أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن قضى على إمارتهم نهائيا في سنة 576/ 1181.
أما ثورة بني غانية فإنها شكلت تهديدا خطيرا لنفوذ الموحدين بإفريقية، وكادت تعصف بحكمهم وأشاعت الفوضى والاضطراب، ونشرت الخراب والدمار، والبلاد لم تندمل جراحها من زحفة الأعراب وتفكك الوحدة واحتلال النرمان، وكانت القبائل العربية التي استقرت بالبلاد الإفريقية منذ زحفها في أواخر حكم المعز بن باديس الزيري
الصنهاجي لا يلذ لها العيش إلا في ظل الفوضى والاستجابة السريعة لكل ناعق بفتنة أو داعية إلى ثورة طمعا في الأسلاب والغنائم، ولا تحب قيام نظام قوي يقضي على ميولها الفوضوية، ونزوعها إلى الشغب، وتعاطيها السلب والنهب بمختلف العناوين، وظهرت هذه الخصائص وبرزت بروزا بينا إبان ضعف الدولة الحفصية مما سبب لها كثيرا من المتاعب والمشاكل، وقد استغل بنو غانية هذه الخصائص والمساوئ من القبائل العربية واستعانوا بها على تمديد مدة الثورة على الموحدين مما دعا خلفاءهم بالمغرب الأقصى إلى القدوم بأنفسهم إلى تونس لتدبير الخطط الرامية إلى القضاء على الثورة، فقدم إلى تونس أمير المؤمنين يعقوب المنصور سنة 558/ 1172 وابنه الناصر الذي جاءها سنة 601/ 1204 صحبة الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص جد الملوك الحفصيين في وقت استفحال أمر يحيى بن إسحاق الميورقي الثائر الذي استولى على تونس العاصمة وسوسة والقيروان عدا بلاد الجريد ونفزاوة وطرابلس، وسار أمير المؤمنين الناصر الموحدي في جيش كثيف فاسترجع منه تونس والمهدية وقابس حتى اضطر يحيى بن غانية للفرار قاصدا طرابلس فأذن الناصر الموحدي الشيخ أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص بملاحقته فالتقى به في تاجرا قرب مدنين وحطمه شر تحطيم، واكتفى الثائر بنجاة رأسه لاجئا إلى التراب الليبي ريثما يجمع قواه، ويعيد الكرة ليشتبك في معركة أخرى مع الموحدين سنة 604/ 1205 بشبرو على مقربة من تبسة، وفي سنة 606/ 1207 بسفح جبل نفوسة بليبيا وفي المعركتين انتصر عليه الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص انتصارا ساحقا.
وقبل أن يعود الخليفة الناصر إلى المغرب سنة 603/ 1204 ولى الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص أمر إفريقية لما عهد فيه من الكفاءة والحزم والتفاني في خدمة الدولة الموحدية، وهي خصال زادتها الأحداث ثباتا ورسوخا، ومنحه صلاحيات واسعة لحكم الإمارة الإفريقية، ولأول عهد ولايته لمع نجم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن نخيل فعينه في أول الأمر رئيسا لديوان الأعمال، ثم رئيسا لديوان الرسائل، قال الحافظ المؤرخ ابن الأبار في كتابه «إعتاب الكتاب» واصفا نفوذ كلمته وارتفاع مكانته وانتقاله من ديوان الأعمال إلى ديوان الرسائل «وكان ابن نخيل لأول هذه الإيالة المباركة من فاز بقدح النباهة المعلى، وعاد يعد العطل من الوجاهة المحلى، نقلته السعادة من ديوان الأعمال إلى ديوان الرسائل، وأعلقته بأعظم الحرمات وأشرف الوسائل، فأجاد الإنشاء وتبوأ من رفيعات المراتب حيث شاء، مفردا بخلوص الحماية ومحكموها ومعتمدا بخصوص العناية وعمومها، لا إنشاء عليه في توقيع ولا اقتصار بعد على ترفيع».
ويبدو أن ابن نخيل أعان الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص على توطيد أركان ولايته، واعتمد عليه اعتمادا كليا في تسيير شئونها لما لمس فيه من كفاءة، ومكارم أخلاق، وحسن معاملة للناس، قال ابن الشماع في «الأدلة البينة النورانية في مفاخر الدولة الحفصية» عند الكلام عن إمارة الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص: «ولما ولي استكتب محمد بن نخيل المشهور بالجود وحسن الوساطة، فكان الناس معهما في كل خير وساس الناس سياسة حسنة طال عهدهم بها فأمنهم وحباهم، فرأوا من بركته وبركة أيامه وحسن رعاية من يصلهم وأحبوه الحب الشديد».
وفي مدة الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص كون ابن نخيل ثورة كبيرة حاول من أجلها حساده ومبغضوه أن يفسدوا ما بينه وبين رئيسه الذي أصم أذنيه عن سماع كل السعايات، وقبض على بعض أصحابها، وأبقاه في شامخ عزه، وإلى هذا أشار ابن الأبار بقوله:
«وبلغ ابن نخيل ما ليس عليه من مزيد الارتفاع المشيد غلب على مشرفه بالاصطناع غلبة جعفر على الرشيد، فنهى وأمر آمنا من التعقيب، وأورد وأصدر نائما عن التثريب، وقد فوض إليه في كافة الأمور، وقطرت عليه قصص الخاصة والجمهور إلى أن كثب بالمعايات المحضة، وقذف باحتجان ما يخرج من الحسبان من الذهب والفضة، وما أثرت في انتقاص ثروته ولا اعترف على انتقاص حظوته، بل صمم عنها المجد الصميم صمما وعم المنتسبين إليه والمتجنبين إليه قبضا وقمما».
ولكن الحظ لم يبسم طويلا لابن نخيل بعد وفاة مخدومه وولي نعمته الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص سنة 618/ 1222 الذي تولى مكانه ابنه عبد الرحمن الذي عزل بعد ثلاثة أشهر من ولايته وغوض بالسيد أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن الذي وصل إلى تونس في ذي القعدة سنة 618/ 1222، وبعد شهر من وصوله قبض على ابن نخيل وعلى أخويه أبي بكر ويحيى، وصادر أموالهم من منقول وعقار، ثم قتل ابن نخيل وأخاه يحيى لشهر من اعتقالهما بعد فرار أولهما من السجن وإعادة اعتقاله، ونقل أخاهما أبا بكر إلى مطبق المهدية.
ومن أسباب نكبة ابن نخيل أنه في أيام الإقبال بدرت منه فلتات لسانية وخطية في حق الخليفة الموحدي يوسف المنتصر ابن الناصر فأذن هذا قريبه السيد أبا العلاء إدريس بالتنكيل به ومصادرة أمواله.
ألف ابن نخيل في التاريخ كتابا سماه تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية (دليل مؤرخ المغرب الأقصى) لم يصل إلينا وإنما نقل عنه المؤرخون التونسيون فقرات في تآليفهم كالتجاني في رحلته، وابن خلدون، والزركشي وابن أبي دينار ومقديش (واسمه عندهما ابن بخيل وهو تحريف من الناسخ أو الطابع)، ونقل عنه ابن سعيد الأندلسي في كتابه «الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة»، ويظهر من النصوص التي نقلها عنه التونسيون أنه تحدث في تاريخه عن أمراء الطوائف في عهد انحلال الدولة الزيرية الصنهاجية كأمراء بني جامع بقابس، وبني الرند بقفصة والجريد، وعن الدولة الموحدية وزعيمها المهدي بن تومرت، وعن ظهورها، وخلفائها إلى عصره، وعن الأحداث الواقعة بتونس عند ما كانت تابعة للسلطنة الموحدية كمحاولة رجوع بني الرند إلى حكم قفصة والجريد، وثورة بني غانية الذي ذكر تفاصيلها بكثير من الدقة والإسهاب، ووصل بتاريخه إلى عهد مخدومه الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص، ويفهم من نقل ابن سعيد عنه في «الغصون اليانعة» أنه ترجم للأعلام والأدباء، وله عناية بالأنساب، وعنه نقل المؤرخون الذين جاءوا بعده نسب المهدي بن تومرت ونسب بني أبي حفص، وأورد في تاريخه بعض النصوص الأدبية المتعلقة بالأحداث كقصيدة عبد البر بن فرسان في إحدى انتصارات يحيى بن إسحاق الميورقي، وحلى كتابه ببعض الحكايات التي تكشف عن أخلاق وصفات الذين ترجم لهم مثل الحكاية التي نقلها عنه الكثير من المؤرخين في جودة فهم وذكاء أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص.
وذكر التجاني في «رحلته» أن لابن نخيل تاريخا لإفريقية وتونس، ولعله الكتاب السابق الذكر، وتصرف التجاني في اسمه وموضوعه وقد احتفظ لنا ابن الأبار بمناسبة انتصار الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص على الثائر يحيى بن إسحاق الميورقي في واقعة شبرو في منتصف صفر سنة 604/ 1208 برسالة من إنشاء ابن نخيل، وبرسالة ثانية بمناسبة انتصاره على الثائر يحيى الميورقي في واقعة منهل وادي موسى من سفح جبل نفوسة بليبيا سنة 606/ 1210، وفي الرسالتين يتجلى نثره الفني بخصائصه من ميل إلى تقسيم الكلام إلى فقرات مقفاة موزونة باستخدام المحسنات البديعة من جناس وسجع، ونزوع إلى الاقتباس وتضمين الأمثال السائرة، ونثر الأبيات الشعرية حسب الطريقة المتبعة لدى كتاب عصره شرقا وغربا، وبالرغم من هذه القيود اللفظية فإنه استطاع أن يبرز معانيه وأغراضه في صور بيانية واضحة التقاسيم والملامح، وله حاسة فنية يقظة تلتقط من المشاهد المتعددة أبرز الصور التي تسترعي النظر وتجلب الانتباه فيصوغها في وصف دقيق بريشة فنان يحسن المزاوجة بين الأصباغ والألوان لتخرج الصورة نابضة بالحركة والحياة، وقد وصف خروج الأعراب للقتال مصحوبين بنسائهم وأطفالهم وإبلهم، وصور مشهد الفوضى والاختلاط عند انهزامهم وسهولة الإجهاز عليهم وسط هذا الركام من الناس والأنعام، وهي ظاهرة احتفظت بها القبائل العربية بتونس إلى العصور المتأخرة وسجلها الملاحظون الأجانب إبان الاحتلال الإسباني لتونس.
ولا تخلو الرسالة من معلومات تاريخية مفيدة كأسماء القبائل الموالية للموحدين أو الموالية للميورقي وإيراد تفاصيل دقيقة للأحداث.
المصادر والمراجع:
- الأدلة البينة النورانية لابن الشماع تحقيق عثمان الكعاك (تونس 1936) ص 40 مع تعليق محقق الكتاب، إعتاب الكتاب لابن الأبار تحقيق د/صالح الأشتر (دمشق 1380/ 1961) ص 235 - 249، دليل مؤرخ المغرب الأقصى لعبد السلام بن سودة (تطوان 1369/ 1950) ص 162 (وتحرف فيه إلى ابن نجيل)، رحلة التجاني 108 - 147، الغضون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة لابن سعيد الأندلسي تحقيق إبراهيم الابيارى ص 98 - تعليق (محرفا إلى ابن نجيل)، بلاد البربر الشرقية في عصر الحفصيين لروبير برانشفيك (بالفرنسية) 1/ 17 تعليق رقم 24 - 2/ 385.

  • دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان-ط 2( 1994) , ج: 5- ص: 28