ابن عاشور محمد الطاهر بن محمد بن محمد الشاذلي بن عبد القادر بن محمد بن عاشور الشريف، أصل سلفه من الأندلس، ثم هاجروا إلى سلا بالمغرب الأقصى ثم انتقلوا إلى تونس، وأول من استوطنها الصوفي محمد المولود بسلا - توفي والده وتركه صغيرا فرباه أخوه الأكبر الشيخ محمد (حمدة).
قرأ بجامع الزيتونة فأخذ عن أعلامه المشاهير كأخيه محمد بن عاشور، ومحمد بن ملوكة، ومحمد بن الخوجة ومحمد بيرم الثالث، ومحمد معاوية، وإبراهيم الرياحي، ومحمد الخضار، وعاشور الساحلي، وأقبل بجد على طلب العلم، وبعد تخرجه تصدر للتدريس بجامع الزيتونة، وفي سنة 1262/ 1846 سمي مدرسا من الطبقة الأولى بجامع الزيتونة، وأقرأ النحو، والبلاغة والأصول، والأدب فدرس شرح المحلي لجمع الجوامع للسبكي بين العسائين وهو قاض تلبية لرغبة تلاميذه في اكمال الكتاب، ولما ذاع صيته بعد زمن قليل رام المشير الأول أحمد باشا باي تقديمه لخطة القضاء قائلا في مجلسه: «هذه ثمرة غرسي نريد الانتفاع بها في حياتي» لأن تحصيله كان في أيام دولته، واستشار فيه محمد بيرم الثالث فما عابه إلا بصغر السن.
فقال له: هل تعلم أعلم منه ممن تقدمه بالسن؟
فأجابه بعدم العلم.
فأولاه الباي قاضيا في 25 رجب 1267/ 26 ماي 1851 وله من العمر 35 سنة. قال ابن أبي الضياف: «وكان - يومئذ - في الفنون المعقولة أحسن منه في الفقه، وللرجل همة حملته على الانقطاع إلى الدواوين الفقهية وعمر بها أوقاته، حتى تدارك في قليل من الزمان ما فاته، وجرى مع فحول الفقهاء
في مضمارهم، ومعارك أنظارهم، ويحذو في الفقه حذو العلامة أبي الفداء إسماعيل التميمي من مشاركة الأصول بالفروع، لا يذكر فقها أو ترجيحا إلا بدليله ويقول: لا يعجبني أن أقول هكذا قال الفقهاء، وما يمنعني أن أعلم الدليل كما علموه».
وفي دولة المشير محمد الصادق باي في سنة 1277/ 1861 تقلد خطة الافتاء، ونقابة الاشراف والاحتساب على فواضل الأحباس في طرق البر العامة، وخطة الاحتساب هذه تشبه خطة مدير إدارة الأوقاف كالاشراف على الأوقاف بالبلدان بواسطة النواب كما هو الشأن بعد تأسيس إدارة الأوقاف وتنظيمها، وهذا الإصلاح من مبتكرات الوزير خير الدين.
وعين عضوا في مجلس الباي الخاص، والمجلس الأكبر للشورى «الحامي لحقوق المملكة والدولة والسكان» قال ابن أبي الضياف: «فلم يكن عند الظن في مصلحة البلاد والعباد، وربما أعان شراع الوحدة بالاستبداد لما رأى في ذلك من المصلحة والاجتهاد».
وابن أبي الضياف عفيف القلم، يلتمس المعاذير لمعاصريه ومعارفه وإلا فإن الإعانة على خرق القانون الدستوري وتأييد الحكم الاستبدادي المطلق ليست فيهما مراعاة المصلحة العامة. كان ذكيا، عالي الهمة، رفيع الأخلاق، كاتبا شاعرا، حلو المحاضرة، طيب المعاشرة مع تلاميذه، بعيدا عن التصنع في الزي يلتحف في الشتاء بالحولي، ويقول لمن يعذله: «دونك وقولي».
كانت له أملاك ودخل من أوقاف أسرته، ودخل من وظائفه، فعاش عيشة سيد، وهذا الثراء أعانه على أشباع نهمه من الكتب العلمية النادرة الوجود، فعند ما كان يدرس المطول في البلاغة استجلب كتاب دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني واستنسخه من بعض مكتبات استانبول بواسطة بعض التجار لأن الكتاب غير موجود بتونس فكان لدرسه رنة عظيمة في المحافل العلمية.
وقسم حياته بين المنزل العائلي بمدينة تونس والمصيف بسيدي أبي سعيد وبالخصوص بضيعة أريانة (على بضعة كيلومترات من تونس).
وكان يملك بإريانة زيادة عن مسكنه عدة بساتين، وديار، وطاحونة القرية، وله على القرويين سلطة أبوية وهم يتمتعون بحمايته، وهو الذي حبس على المجتمع القروي بأريانة بئر بلحسن التي كانت بأملاكه. وفي منزله المؤثث جيدا يقتبل فيه الطبقة العليا من المجتمع التونسي في ذلك العصر، وكان فارسا ماهرا، يقوم بجولات وبالصيد في الغابة.
وهذه الحياة القريبة من حياة الوجهاء ومن القواد الحكام، وكذلك من حياة بعض العائلات الكبرى لعلماء الحنفية أثارت غضب الأوساط المالكية وكونت له كثيرا من الأعداء.
وحالته في عيشه تضاد تماما حالة شقيقه الأكبر الشيخ محمد (حمدة) الذي كان مائلا إلى التقشف مع الرغبة في تعليم العلم، ورفض الخطط الرسمية الشرعية ومثل هذا يتطابق مع الصورة التقليدية للعالم المالكي.
وتسميته قاضيا مالكيا تولد عنها حسد وأحقاد في وسط العلماء لأن القاضي الشاب لا يستطيع التضحية من أجل المتطلبات الاجتماعية للخطة، ولم يبذل أي مجهود ليظهر مسنا والمشي بخطوة رزينة تناسب الوقار الشكلي حسب مفهوم ذلك العصر، ومثل هذه الهيئة يناسبها ركوب البغلة ولكن المترجم تحصل من الباي على حق ركوب جواد.
ومن تلامذته الوزير محمد العزيز بوعتور، والوزير يوسف جعيط، وشيخ الإسلام أحمد بن الخوجة وسالم بو حاجب، ومحمد بن الخوجة شيخ الإسلام، ومحمد النجار، ومحمد بيرم الخامس، وغيرهم. توفي يوم الاثنين 21 ذي الحجة 1284/ 13 أفريل 1868 وله 54 سنة، وحضر جنازته الباي وجمهور غفير ودفن في تربة عائلته قرب سيدي علي الزواوي رفيق جده.
مؤلفاته:
1) تعليقات على ما أقراه من صحيح مسلم.
2) حاشية على شرح المحلي لجمع الجوامع لم تتم.
3) حاشية على شرح ابن سعد الحجري على الأشموني، جمعها من خطه تلميذه شيخ الإسلام أحمد كريم.
4) حاشية على شرح العصام لرسالة البيان.
5) حاشية على القطر تسمى هدية الأريب إلى أصدق حبيب.
6) شفاء القلب الجريح بشرح بردة المديح، ط بالمط الوهبية بمصر سنة 1296/ 1877.
7) الغيث الافريقي وهو تقاييد على حاشية عبد الحكيم السيالكوتي على المطول في البلاغة، لم يتم.
8) تقارير على حاشية الصبان على الأشموني، لم تتم.
9) كنش في الفقه. مخطوط بمكتبة سميه وحفيده.
المصادر والمراجع:
- اتحاف أهل الزمان 8/ 165 - 7، الأعلام 7/ 43، ايضاح المكنون 2/ 151، 726، تونس وجامع الزيتونة لمحمد الخضر حسين 108 - 11، شجرة النور الزكية 392، عنوان الأريب 2/ 122 - 27، مجمل تاريخ الأدب التونسي 268 - 70، معجم المطبوعات 156 معجم المؤلفين 5/ 37، 6/ 124، 10/ 101 (ظنا منه أنها تراجم لأشخاص متعددين وهم شخص واحد)، هدية العارفين 2/ 378، محمد الصالح المهيدي، المجلة الزيتونية محرم صفر 1365 جانفي فيفري 1946 أثناء التعريف بأسلاف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (الحفيد) شيخ جامع الزيتونة. علماء تونس في القرن الثامن عشر والتاسع عشر (أطروحة دكتوراه الحلقة الثالثة، بالفرنسية) لمحمد العزيز بن عاشور (مرقونة بكلية الآداب شعبة التاريخ بالجامعة التونسية) ص 82 - 87.

  • دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان-ط 2( 1994) , ج: 3- ص: 300