الرياحي إبراهيم بن عبد القادر بن أحمد بن إبراهيم الرياحي الليبي الأسلاف، قدم جده إبراهيم من ليبيا، ونزل بالموضع المعروف بالعروسة منزل رياح، وكان حافظا للقرآن، وله معرفة بسر الحرف، واشتغل هنالك بتأديب الصبيان. وأصل سلفه من قبيلة المحاميد القاطنين بليبيا من فريق رياح الهلالية الذين دخلوا افريقية على عهد المعز بن باديس الزيري الصنهاجي.
العلامة الفقيه، الأديب الشاعر، الصوفي، الرحالة، السياسي. ولد بتستور، وبها حفظ القرآن، ثم ارتحل إلى تونس لطلب العلم في أواخر القرن الثاني عشر، وسكن بحوانيت مدرسة عاشور ثم بمدرسة بير الحجار.
وأخذ بجامع الزيتونة عن أعلام عصره كصالح الكواش، وحسن الشريف، وأخذ الأصول عن إسماعيل التميمي، والبيان والمنطق عن عمر المحجوب، وأخيه محمد المحجوب، وقرأ النحو على حمزة الجباس في مكتب اشهاده كتاب المغني لابن هشام، وكان هذا الشيخ عالم العربية في عصره (ت سنة 1217/ 1802 ودفن بالزلاج) وأخذ عن أحمد بو خريص، والطاهر بن مسعود وكان يميزه عن أقرانه بإبطال الدرس إذا غاب، وكلمه بعض الطلبة في ذلك فقال: «هذا الرجل ننتفع به أكثر مما ينتفع بنا»، وأخذ عن غيرهم من اعلام عصره وغالبهم أجازه إجازة عامة، وأخذ التصوف عن شيخ الطريقة الشاذلية الشيخ البشير بن عبد الرحمن الونيسي الزواوي نزيل تونس، وكان ملازما له، ويدخل منزله بلا استئذان، ومدح الطريقة الشاذلية، وابتكر لها الادعية، وفي سنة 1216/ 1801 تعرف بالشيخ علي حرازم بن العربي برادة والفاسي وأخذ عنه الطريقة التيجانية بتونس،
ونشرها، وأقام أورادها، وأسس لها زاويته المشهورة قرب حوانيت عاشور، وله شعر كثير في مدح الطريقة التيجانية، وكان على صلة بالشيخ مصطفى بن عزوز البرجي الجزائري نزيل نفطة، وله فيه مدائح نثرية وشعرية، وبعد استكمال تحصيله انتصب للتدريس بجامع الزيتونة وازدحمت الطلبة على دروسه. وطريقته في التدريس، أنه ينقل الدرس ويمليه من حفظه، ثم يقرر ما يظهر له، ثم يسرد كلام المصنف بكيفية تبعث النشاط في النفس، وهو أول من ابتكر هذه الطريقة، وقلده فيها من جاء بعده كمحمد بيرم الثالث، ومحمود بن الخوجة، وغيرهما، وسمعه شيخه الطاهر ابن مسعود يدرس الشرح المختصر للسعد التفتازاني على التلخيص فاعجب به.
وعند ما توفي شيخه محمد الفاسي خلفه في تدريس تفسير البيضاوي، وصحيح البخاري، في جامع صاحب الطابع.
وبعد عشرين سنة من إقامته بتونس سئم ضيق العيش، والوحدة بالمدرسة حتى عزم على الهجرة من البلاد التونسية، وبلغ ذلك الوزير يوسف صاحب الطابع، فتسبب له في إسناد خطة العدالة ولما جاءه الحاج بالضياف بأمر الولاية قال له «نترجى عشرين سنة مستقبلة حتى أجمع من أجر الوثائق ما اتخذ به بيتا وزوجة! » وعزم على الهجرة، وعظم هذا على الوزير صاحب الطابع فاشترى له دارا بما يلزمها من المرافق والاثاث، والتزم له بنفقة الزواج فتزوج، وكان ذلك في أيسر وقت، ووالى عليه وابل كرمه فعدل عن فكرة الهجرة.
تخرج عليه كثير من الاعلام منهم ابناه الطيب وعلي، ومحمد بن ملوكة، ومحمد النيفر وابناه الطيب والطاهر، ومحمد البنا، ومحمد البحري بن عبد الستار، والطاهر بن عاشور، ومحمد بن سلامة، وأحمد بن حسين القمار الكافي وأحمد بن أبي الضياف المؤرخ، وسالم بو حاجب، وعمر بن الشيخ، وغيرهم كثير.
وفي سنة 1218/ 1803 انتخبه الأمير حمودة باشا سفيرا للسلطنة
الشريفية بالمغرب الأقصى على عهد السلطان سليمان بن محمد لغرض طلب الميرة لوجود مجاعة بتونس، وأصحبه رسالة من انشاء الشيخ عمر المحجوب وقابل السلطان، وأنشده قصيدته التي مطلعها:

وهي من جيد شعره. وفي هذه الرحلة اجتمع في فاس بالشيخ أحمد التيجاني، وأخذ عنه الطريقة، كما اجتمع بكثير من العلماء منهم الشيخ الطيب بن كيران، وتباحث معه في مسائل من العلوم، وحضر درس السلطان في التفسير، ودخل مدينة سلا، وأجازه فيها العلامة محمد الطاهر المير السلاوي بما تضمنه ثبت الشيخ أحمد الصباغ الاسكندري من العلوم على اختلاف أنواعها والكتب المصنفة فيها من المطولات والمختصرات بالأسانيد المتصلة إلى أربابها كما أجازه بذلك الشيخ عمر بن عبد الصادق الشستي المالكي عن شيخه أحمد الصباغ جامع الثبت المذكور، والشيخ محمد مليكة عن الشيخ عبد الوهاب العفيفي، ومحمد بن عيسى الزهار، عن مؤلفه الشيخ أحمد الصباغ المذكور والاجازة مؤرخة في شوال سنة 1219 هـ‍.وكانت رحلته إلى المغرب الأقصى رحلة سياسية وعلمية.
وفي سنة 1241/ 1826 قدم إلى تونس أحد تلامذة الشيخ أحمد التيجاني فذهب معه إلى تماسين في الجنوب الجزائري، واجتمع بخليفة صاحب الطريقة الحاج علي التماسيني، ثم رجع إلى تونس، وبعدها سافر إلى الحج، وحج مرة ثانية سنة 1252/ 1836 نيابة عن مصطفى باي الذي قام بسائر ضرورياته ذهابا وإيابا وأركبه الفرقاطة الحسينية ورجع في 19 رجب 1253/ 13 اكتوبر 1837 بعد وفاة منوبه الأمير مصطفى باي بثلاثة أيام.
وكان سبب سفره للحج في هذه المرة وحشة وقعت بينه وبين تلميذه القاضي المالكي محمد البحري بن عبد الستار وذلك أنهما اختلفا في يتيم تزوجت أمه فانتقل الحق في حضانته إلى جدته للأم، وقضى بهذا القاضي بناء على المشهور في المذهب، ولم يرض عم الطفل بهذا الحكم، وطلب أن
يكون الطفل في حضانته والتزم بالنفقة عليه من ماله إلى أن يبلغ أشده ويأخذ ارثه من أبيه كاملا، فقضى له بذلك الشيخ المترجم اعتمادا على غير المشهور نظرا لمصلحة اليتيم، فانتصر هذا لرأيه وهذا لرأيه ووقع بينهما اختلاف في مجلس مصطفى باي آل الأمر فيه أن القاضي أتى بكتب الفقه تحملها الأعوان وجعلوها بين يديه، وطلب من الباي أن يأمر أحد الكتاب بقراءة محل الحاجة من كل كتاب فغضب الشيخ المترجم له وقال لتلميذه القاضي المذكور في ذلك المجلس «قصر يا قليل الحياء».
وامتعض الباي من هذه المقالة، وانفصل المجلس بتنفيذ حكم القاضي، وتأثر المترجم من موقف تلميذه القاضي، وقدم استقالته من خطة رئاسة الفتوى المالكية فلم يقبلها الباي، وألزمه على الاستمرار في القيام بها، فبعث إليه برسالة جاء فيها: «فإن معظم قدركم لم يطلب الإقالة إلا لما عيل وضاق ذرعا أمري، فإني منذ توليتها وأنا حزين الفؤاد، رهين الندم والانكاد، من يقوم بحق الله وحق العباد؟ حتى وهن العظم مني، وهذا القدر من الأعذار كاف في تفضلكم علي بالاسعاف، كيف وقد انضم إلى ذلك ما لا صبر لأحد عليه، وهو مواجهتنا على رءوس الاشهاد، باساءة الأدب في ذلك الناد، ممن كان نلقمه ثدي التعليم، ويرعانا بعين الاجلال والتعظيم، ثم إنه لم يقنع بسنان لسانه حتى شرع لنا رمح بنانه، فهل بعد هذا التعدي من اذلال؟ ! وماذا بعد الحق إلا الضلال .. »
فأجابه الباي «بأن هذا الأمر متعين عليك شرعا، والمعارضة في العلم ليست من سوء الأدب وإلا سد باب المشورة، ومثلك ومثله تكون قلوبكم متعاضدة، وأنفسكم على الخير متواردة .. ».
وكان الباي منتصرا للشيخ محمد البحري بن عبد الستار القاضي، وأكبر قول الشيخ لتلميذه بمحضره في المجلس «يا قليل الحياء».
ولما وصل المترجم إلى الحرم النبوي أنشد عند باب السلام:
ودعا على خصمه، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثأره منه.
قال تلميذهما الشيخ أحمد بن أبي الضياف بعد أن أورد القصيدة معلقا: «وما ضر الشيخ البحري لو راجع شيخه بلطف، أو سأله عن مستنده كما كان يسأله، أو نقل ما في تلك الكتب، أو بعث بها إليه، وأي داع إلى كتب بأيدي صف من الأعوان في ذلك المشهد إلا تبريد شيخه، ونسبته إلى المكابرة! والحال أن شيخه لم يخالف اجماعا، ولا قاطعا من النصوص، ولا قياسا جليا، بل القياس الجلي في النظر لليتيم هو حفظ ماله حتى يبلغ الأشد، ولا معرة تلحقه إلا أنفق عليه عمه، فعم الرجل صنو أبيه، وللعم حق الحضانة بعد غيره لأنه من العصبة، ومصلحة اليتيم في حفظ ماله توافق فتوى الشيخ، والأصل في الأحكام الشرعية أن تكون معقولة المعنى، والنازلة مناط اجتهاد ما ضر الشيخ - رضي الله عنه - لو صبر وعفى، وكان أجره على الله».
وصدق ابن أبي الضياف في ملاحظاته، فإن الأحكام الشرعية معقولة المعنى كما قال، ورعاية المصلحة المعقولة المعتبرة شرعا تقضي العمل بفتوى الشيخ الرياحي، لكن التعبد بنصوص الفقهاء وبمشهور المذهب لهما من السيطرة على العقول ما يلغي كل اعتداد معقول المصلحة، ومثل هذا الجمود كان من أسباب تأخر الفقه، وانحطاط المجتمعات الإسلامية.
وفي سفرته هذه للحج اجتمع بأعلام الاسكندرية، والقاهرة، والحرمين الشريفين، منهم محدث المدينة المنورة محمد عابد السندي المدرس بالحرم النبوي، وأجازه ما حواه ثبته المعروف «بحصر الشارد في أسانيد محمد عابد».
كما أجازه بالقاهرة الشيخ محمد الأمير الصغير بما حواه ثبت والده، وسمع هو منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية. وسند الشيخ إبراهيم الرياحي المتصل بالشيخ الأمير في الصحيحين، والموطأ والشفا يرويه كثير من تلامذته، والطبقات التي جاءت بعدهم إلى عهود قريبة، ويتصل سندي بها من طريق شيخنا محمد الهادي العلاني الأنصاري الخزرجي من
ذرية سيدنا أبي أيوب الأنصاري القيرواني المحتد، التونسي الدار، رحمة الله عليه.
وفي القاهرة أجاز إبراهيم بن حسن السقا الأزهري المصري.
ولما حل بتونس محمد بن التهامي بن عمر الأنصاري الرباطي سنة 1243/ 1829 تدبج معه وكتب له محمد بن التهامي المذكور اجازة مطولة في خصوص رحلة العياشي وما تضمنته.
وفي يوم السبت 8 ربيع الثاني 1254/ 30 جوان 1838 سافر إلى استانبول صحبة الكاتب الفقيه محمود بو خريص بتكليف من المشير الأول أحمد باشا باي للقيام بمهمة سياسية لدى السلطنة العثمانية تتمثل في طلب اعفاء الامارة التونسية من اداء المال السنوي المقرر. ولما وصل إلى استانبول أكرمت السلطنة وفادته، واستعد للحضور بالسراي بعد أيام حيث سيجري الاحتفال بمقابلة السلطان محمود، وفي الساعة المحددة وصل السفير التونسي ملتفا في برنس الصوف النقي الطاهر، وقف أمام مدخل قاعة العرش، حيث اجتمعت الحاشية كلها، وعوض أن يكتفي المترجم - حسب المعتاد - بلمس مع احترام لشريط الحرير المطرز بالذهب المربوط بالعرش، والذي يمسكه الحاجب الأول بايع المترجم بصوت عال السلطان خليفة رسول الله ودعا له بالبركات وافضال الله تعالى، ثم تقدم خطوات أمام الحضور المبهوتين بهذه الجسارة، واقترب من السلطان بحيث يسمعه، والقى بهدوء قصيدته المعدة لهذه المناسبة، والتي طلب فيها من السلطان إعفاء بلاده من دفع الاعانة المالية السنوية، والتي لا مبرر لبقائها في نظره، وطالع هذه القصيدة:
واجتمع بالصدر الأعظم رشيد باشا وأنشده:
واجتمع بشيخ الإسلام أحمد عارف حكمت، ووقعت بينهما
مراسلات شعرا ونثرا، وعرف كل منهما قدر صاحبه واستجازه شيخ الإسلام فأجازه المترجم نظما، وهكذا كان في رحلاته السياسية لا يهمل الاتصال برجال العلم، والاستفادة منهم، ومطارحتهم، واستجازتهم، أو إجازته لهم.
ورجع إلى تونس في أواسط رجب /1254 أوائل اكتوبر 1838 بالغا في سفارته شيئا من الأمل، وهو أن الدولة العثمانية لا تلح في طلب الاعانة المالية السنوية، ويتوقف الحال لوقت آخر، فإذا اقتضى هذا المال الضرر فلا حاجة به.
وفي شعبان /1256 نوفمبر - ديسمبر 1840 ختم تفسير البيضاوي بجامع صاحب الطابع، وأبدع ما شاء في ذلك الختم، وحضر هذا الختم مصطفى باشا باي، وصحبته وزراؤه وخاصته، وجلس حذو الشيخ كآحاد الطلبة.
وكان أول المدرسين بجامع يوسف صاحب الطابع عند تمام بنائه في سنة 1229/ 1814 وأقرأ به شرح القسطلاني على البخاري ومختصر خليل في الفقه، وأقرأ النحو، وسماه الوزير يوسف صاحب الطابع شيخا للمدرسة التي بقرب الجامع، وقدمه حسين باشا باي لرئاسة أهل الشورى من المفتين بعد أن قال له الحاضرون: «قد تعين الأمر عليك شرعا بعد وفاة الشيخ إسماعيل التميمي» فقال له الباي: أقبلت شهادتهم؟ فقبل الولاية سنة 1248/ 1832.وكاد لا يقبل الولاية، ودلك أن الباي استقدمه على لسان الثقة المقرب محمد ابن الوزير العربي زروق، ولما وصل قام الباي، وأجلسه حذوه، وقال له: «إن سيدي حمودة باشا اختارك لخطة القضاء فهربت منه، وأنا أرجو ألا تمتنع الآن من رئاسة الفتوى، ولا تهرب مني».
فقال له: «الأحسن أن تتركني للتدريس لأنه أنفع للمسلمين، وتقدم لهذه الخطة من حصل له التميز فيها من أهل المجلس».
فأومأ الباي إلى الشيخ أحمد بن أبي الضياف أن يعارضه فقال له:
«يا سيدي! إن الأمر متعين عليك، وصار واجبا شرعيا في حقك، وحاشاك أن تترك واجبا».
- فقال له: «أتشهد بذلك»؟ .
- فقال: «نعم أشهد به».
- فقال: «من يشهد معك؟ ».
- فقال له: «تلميذك الشيخ محمد الأصرم كاهية باش كاتب» وكان جالسا أمام الباي.
- فقال: «أشهد بذلك، وأدين الله به».
- فقال للباي: «أقبلت شهادة هؤلاء».
- فقال: «نعم! وأنا معهم».
- فقال: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» وقبل الولاية وألبس خلعتها بحضرة الباي».
وقدم للتدريس من الرتبة الأولى بجامع الزيتونة، عند وضع ترتيب التدريس به المشير الأول أحمد باشا باي في شهر رمضان 1255/ 1842 وقدمه المشير الأول المذكور للخطابة والإمامة بجامع الزيتونة في السنة نفسها، وهو أول من جمع بين هاتين الخطتين: رئاسة أهل الشورى والإمامة والخطابة بجامع الزيتونة.
والمترجم يمثل النضوج العلمي الذي بلغ أوجه في أيام المشير الأول أحمد باشا باي، كما يمثل خير تمثيل شخصية رجال العصر الحسيني في أخذه من معارف عصره من كل شيء بطرف، ففي الوقت الذي يحرر البحوث العلمية الدقيقة، نجده ينشئ الخطب، ويدبج الرسائل، وينظم الشعر، وهو عالم أكثر منه أديبا، وهو شاعر أكثر منه كاتبا، وقد كان بحق أبا للنهضة التي ابتدأت في أواسط العصر الحسيني بنقده، وتوجيهه، وكثرة الشيوخ الذين تخرجوا عليه، ونوروا النصف الثاني من القرن التاسع عشر/الثالث عشر هـ‍.ولعبوا دورا كبيرا في التمهيد لحركة الاصلاح التي قام بها خير الدين، وبعد أول أديب تونسي عرف بالأديب التونسي في الخارج.
وكان شديدا على البايات، لا يهادن، ولا يتردد أن يعاملهم معاملة عامة الناس. استدعاه أحد البايات إلى قصر باردو ليخبره أنه عينه لخطة التدريس بجامع صاحب الطابع، وكان من عادة البايات تقديم أيديهم للتقبيل، وحين دخل على الباي صافحه، ولم يقبل يده فتغير عليه الباي، وأراد أن يحرجه فسأله عن سبب قدومه فأجابه بأن لا سبب له، وأنه هو الذي أرسل إليه، ولولا طلبه لما قدم، ولم يسع الباي إلا أن يكاشفه برغبته، ولم يقبل الوظيفة إلا بعد الحاحه الشديد.
وبالرغم من حب المشير الأول له كان المترجم ما فتئ ينتقده وينكر عليه سياسته الجائرة في فرض الضرائب، وفي طريقة جمعها، وكان يصرح بهذا الانكار ولا يخفيه، ومع ذلك كان المشير يجله ويخشاه، ويتودد إليه، وكان قد تخلق باخلاق استاذه الشيخ صالح الكواش في موقفه من البايات لا يتوانى في الرد عليهم، ولا يخاف في الله لومة لائم.
وكان مقصودا لقضاء الحوائج لما عليه من كريم الأخلاق، وسامي المكانة في النفوس، واعتقاد المسئولين فيه الولاية والصلاح، يقال إن المشير الأول أحمد باشا كان يقول: إنه لم يقتل والدي غير دعاء الشيخ إبراهيم، ولذلك كان يتحامى جانبه، ويجل مكانه، خرج المترجم يوم المولد النبوي لقصد التوجه إلى جامع الزيتونة، فوجد عند بابه أرملة وأولادها عائلة رجل يسمى السعدي، قد أقام في سجن الكراكة مدة فضجوا بين يديه ضجة واحدة، وتراموا بين يديه يسألونه بجاه الله ورسوله أن يشفع لهم في السجين المذكور عند الباي المشير الأول، ولما أتم قراءة المولد، وأخذ المشير يحادثه عرض عليه شفاعته في السعدي، فقال له المشير: «مؤبد» ولم يستكمل كلامه حتى استعاذ المترجم، وقال: «إنما التأبيد لله» ونهض يكررها قبل اتمام الموكب، وقد بهت المشير من ذلك بمرأى ومسمع من جميع الحاضرين، وعند ذلك قام على أثره الوزير ولسان الدولة يعتذران
عن صدور تلك المقالة من الوالي، وأعلماه بأنه أصدر أذنه بتخلية سبيل السعدي.
ومن لطائفه أنه استجار به العدل الشيخ منصور الورغمي في لبس الملوسة حين ألزمها الأمير حسين باشا باي لكافة العدول على نظر الشيخ محمد بيرم الثالث، وكان الشيخ منصور دميما فاستهجن لبسها، وخاف أن يتعاطاه الناس بسببها، فكتب المترجم في ذلك إلى شيخ الإسلام محمد بيرم الثالث مستشفعا بقوله:
فأجابه عن ذلك شيخ الإسلام محمد بيرم الثالث بقوله:
ومن مواقف المترجم التي يؤاخذ عليها، ويراها بعضهم أنه جانب فيها الصواب، فتواه في جواز الاحتماء بالدول الأجنبية إذا خاف المحتمي من ظلم قد يؤدي بحياته، وهذه الفتوى صدرت منه في مسألة القاضي محمد العنابي، وقد رد عليها ردا مطولا مفتي فاس الشيخ المهدي الوزاني في أوائل نوازله المسماة بالمعيار الجديد.
توفي بمرض الكوليرا الذي اجتاح تونس في 22 رمضان، ودفن بتربته بالزاوية التي أحدثها لذكر الورد التيجاني.
مؤلفاته:
1) أجوبة عن مسائل علمية، ورسائل، في قدر مجلد منها:
أ - فتوى في جواز الاحتماء بالأجنبي عن الملة.
ب - رسالة في تحريره لمسألة إراقة خمر المسلم، وتعقب الخلاف الذي وقع في تفصيل الحكم بالنظر لتطهيرها بالتخليل ونحوه مما استدركه الشيخ أبو مهدي عيسى الغبريني على الشيخ الشبيبي.
ج - رسالة أجاب بها الشيخ محمد المسعودي قاضي رأس الجبل عن مسألة من استدعي للحلف على المصحف فقال: ائتوني به وأنا اعفس عليه بساقي، وأنه لا تلزمه الردة حيث إن مراده الحلف على الحق، ومسألة مجاعلة وكيل الخصام باجر معين على اتمام القضية، وبسط المسألتين بسطا عجيبا.
د - رسالة في تمكين من امتثل دفع بعض دين عليه، وادعى في باقيه لدى قاضي مالكي من المطلوبية وانتقل بالقضية الى قاض حنفي.
هـ‍ - رسالة رفع اللجاج في نازلة ابن الحاج، في شأن قضية الحضانة، الحضانة التي اختلف فيها مع القاضي محمد البحري بن عبد الستار.
و- رسالة في الماجل المشترك.
وله أجوبة عن أسئلة كثيرة.
ز - جواب أجاب الأمير حسن باي في جواز معاوضة العقار، وجواز تحويل أبواب المساجد لمراعاة المصلحة.
ح - جواب في سطح الجامع، وبيان ما يخالف فيه الجامع وما حكم.
ط - جواب في الفرق بين الحمار الأهلي، والحمار الوحشي.
ي - جواب في من نسي تكبيرات العيد، ولم يأت الا بتكبيرة الاحرام.
ك - رسالة في الحكم اذا علل بعلة وارتفعت فإنه يرتفع.
ل - رسالة في الرد على منكري الطريقة التيجانية.
م - رسالة في الرد على الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي قرضها الشيخ محمد بيرم الثالث نظما.
ن - رسالة المبرد، رد بها على رسالة الصوارم والاسنة في الرد على من أخرج الشيخ التيجاني من دائرة السنة، ورسالة الصوارم والأسنة للشيخ محمد النميلي التونسي عالم مصر، رد بها على الشيخ أحمد التيجاني على بعض كتابته في صفة الكلام من علم التوحيد، قيل إن المترجم حين اجتاز بمصر في حجته الثانية أقام بها نحو خمسة عشر يوما يطلب الاجتماع بالشيخ النميلي، ولم يجتمع به، ولما بلغت رسالة المبرد للشيخ النميلي كتب ردا عليها في نحو خمس وأربعين كراسا في علم الكلام. ورسالة المبرد قرضها الشيخ محمد بيرم الثالث نظما.
س - رسالة في الأعذار ألفها أواخر سنة 1265 وقرضها شيخ الإسلام محمد بيرم الثالث شعرا، ورسائله توجد ضمن مجموع بالمكتبة الوطنية.
ع - وله أجوبة مسائل أتت إليه من غدامس (بالجنوب الليبي)، ومسائل أتت إليه من وادي سوف (بالجنوب الجزائري) وتليها مسائل أجاب بها قاضي الحاضرة الشيخ محمد بن سلامة، ثم مسائل أجاب بها المترجم كثيرا من قضاة المالكية وغيرهم من السائلين بحيث إن مجموعها يعد من عزيز الفتاوى، وهو يميل في كتابته إلى الاختصار، وتحرير ما به الحاجة في المسألة.
ف - جواب وفتوى عن مسألة الانزال، يوجد ضمن مجموع رسائل بالمكتبة الوطنية (أصله من المكتبة العبدلية) ورسائله توجد في مجموع بالمكتبة الوطنية (أصله من العبدلية).
ص - حاشية على شرح الفاكهي على القطر، ناهزت التمام، ولم تتم توجد بالمكتبة الوطنية.
ق - حاشية على شرح الخزرجية للقاضي زكريا على الخزرجية في العروض.
ر - ديوان خطب جمعية.
ش - ديوان شعر، ط. بالقسم العربي من مطبعة بكار ونشر سنة 1330/ 1912 وهذا المطبوع لا يشمل كل شعره لأن له مجموعة شعرية في «مجموع الدواوين التونسية (تأليف الشيخ محمد السنوسي) ما يناهز الألفي بيت».
ت - مولد، اختصره من تأليف الشيخ مصطفى البكري المصري عام 1257/ 1841 باقتراح من المشير الأول أحمد باشا باي، ذكر فيه فضائل المولد، وما وقع فيه من الارهاصات عند ولادته والنسب الشريف، وغير ذلك، ساق نصه الأصلي حفيده في «تعطير النواحي» مصدرا به الجزء الثاني من خط مصنفه، وقال بخلاف المستعمل الآن فإن فيه التصرف والاختصار ط. بالمطبعة الرسمية بتونس سنة 1293/ 1876 في 11 ص وهذا المولد لم يذكره سركيس ولا بروكلمان.
ث - كتابة على قوله تعالى {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} في رسالة.
خ - النرجسية العنبرية في الصلاة على خير البرية (رسالة).
ذ - منظومة في الصلوات التي تفسد على الإمام دون المأموم.
ض - نظم الآجرومية «فهو وإن جمع ما احتوى عليه الأصل والمسائل، وسهل حفظها على كل طالب وسائل، غير أنه - فيما يظن - من مبادئ نظمه كما لا يخفى على مطالع كلامه، وإلا فإنه كان آية الله في حسن الانشاء، يتصرف في النظم والنثر كيف يشاء » توجد منه نسخة بالمكتبة الوطنية رقم 2923.
المصادر والمراجع:
- اتحاف اهل الزمان 3/ 185، 211، 4، 21، 4/ 23، 35، 53، 136، 7/ 73، 82، 91، 92، 93، 99، 100 (في ترجمة الوزير يوسف صاحب الطابع).
- الاعلام 4/ 41 (لو بخطه رقم 16).
- برنامج المكتبة الصادقية (العبدلية) 2/ 276، 277، 3/ 236، 4/ 302، 365.
- الأدب التونسي في العصر الحسيني للدكتور الهادي حمودة الغزي (تونس 1972) 119 - 134.
- تاريخ معالم التوحيد 28، 30.
- الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي 329، 331.
- دليل مؤرخ المغرب الأقصى، ص 474 جاء فيه ان «قصيدته في مدح إبراهيم ابن السلطان سليمان العلوي المتوفى سنة 1234/ 1816 في حياة والده، شرحها شرحا عجيبا علي بن عبد الله الميتوي سنة 1247/ 1831 وقف عليه صاحب «السلوة» وذكر أنه التزم فيه السجع من أوله إلى آخره انظر ج 3/ 132».
- شجرة النور الزكية 386 - 389.
- عنوان الأريب 2/ 90 - 97.
- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 4/ 133.
- فهرس الفهارس 1/ 328، 329.
- فهرس مخطوطات المكتبة الأحمدية ص 260.
- مسامرات الظريف لمحمد السنوسي 147 - 250 (أوسع ترجمة له).
- معجم المطبوعات 957 - 958.
- معجم المؤلفين 1/ 49.
- هدية العارفين 1/ 42.
- وجوه تونسية (بالفرنسية) للصادق الزمرلي ص 31 - 40.
- أحمد الحمروني: بيبلوغرافيا إبراهيم الرياحي، مجلة «الهداية» ع 2 س 8 ص 116، 119.
J.Quemeneur، Publications، de l'Impremerie officielle tunisiene، in revue Ibla 1962، p.161 no 43.

  • دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان-ط 2( 1994) , ج: 2- ص: 387