ابن منقذ اسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشيزري، أبو المظفر، مؤيد الدولة: امير، من اكابر بني منقذ اصحاب قلعة شيزر (بقرب حماة، يسميها الصليبيون Sizarar) ومن العلماء الشجعان. له تصانيف في الادب واتاريخ، منها (لباب آلاداب - ط) و (البديع - خ) في البديع، و (المنازل والديار - خ) و (النوم والاحلام - خ) و (القلاع والحصون) و (اخبار النساء) و (العصا - ط) منتخبات منه. ولد في شيزر، وسكن دمشق، وانتقل إلى مصر (سنة 540 هـ) وقاد عدة حملات على الصليبين في فلسطسن، وعاد إلى دمشق.
ثم برحها إلى حصن كيفي فأقام إلى ان ملك السلطان صلاح الدين دمشق، فدعاه السلطان اليه، فاجابه وقد تجاوز الثمانين، فمات في دمشق. وكان مقربا من الملوك والسلاطين. وله (ديوان شعر - ط) وكتب سيرته في جزء سماه (الاعتبار - ط) ترجم إلى الفرنسية والالمانية.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 1- ص: 291
أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن
نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن زغيب بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك بن أبي مالك بن عوف بن كنانة بن بكر بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: هكذا ذكر هو نسبه وفيه اختلاف يسير عند ابن الكلبي. ويكنى أسامة أبا المظفر، ويلقب مؤيد الدولة مجد الدين.
وفي بني منقذ جماعة أمراء شعراء، لكن أسامة أشعرهم وأشهرهم، وأنا أذكر لكل واحد من أهله في ترجمته ما يليق ولا أفرقهم:
ذكره عماد الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني في «كتاب خريدة القصر وجريدة العصر» وأثنى عليه كثيرا فقال: ما زال بنو منقذ هؤلاء مالكي شيزر، وهي حصن قريب من حماة، معتصمين بحصانتها ممتنعين بمناعتها، حتى جاءتن الزلزلة في سنة نيف وخمسين فخربت حصنها، وأذهبت حسنها، وتملكها نور الدين محمود بن زنكي عليهم، وأعاد بناءها فتشعبوا شعبا وتفرقوا أيدي سبا.
قال ابن عساكر: ذكر لي أسامة أنه ولد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وقدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ومات أسامة في ثالث عشري رمضان سنة أربع وثمانين وخمسمائة ودفن بجبل قاسيون. قال العماد: وأسامة كاسمه، في قوة نثره ونظمه، يلوح في كلامه أمارة الإمارة، ويؤسس بيت قريضه عمارة العبارة، حلو المجالسة، حالي المساجلة، ندي الندي بماء الفكاهة، عالي النجم في سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصانيف، أسكنه عشق الغوطة، دمشق المغبوطة، ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم، فانتقل إلى مصر فبقي بها مؤمرا مشارا إليه بالتعظيم، إلى أيام ابن رزيك، فعاد إلى الشام، وسكن دمشق مخصوصا بالاحترام، حتى أخذت شيزر من أهله، ورشقهم صرف الزمان بنبله، ورماه الحدثان
إلى حصن كيفا مقيما بها في ولده، مؤثرا لها على بلده، حتى أعاد الله دمشق إلى سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة سبعين، ولم يزل مشغوفا بذكره، مشتهرا بإشاعة نظمه ونثره، والأمير العضد مرهف ولد الأمير مؤيد الدولة جليسه، ونديمه وأنيسه. (قال مؤلف هذا الكتاب: وقد رأيت أنا العضد هذا بمصر عند كوني بها في سنتي إحدى عشرة، واثنتي عشرة وستمائة وأنشدني شيئا من شعره وشعر والده) قال: فاستدعاه إلى دمشق- يعني مؤيد الدولة- وهو شيخ قد جاوز الثمانين.
قال وأنشدني العامري من شعره بأصبهان، وكنت أتمنى لقياه، وأشيم على البعد حياه. حتى لقيته في صفر سنة إحدى وسبعين بدمشق، وسألته عن مولده فقال: ولدت في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وأنشدني لنفسه البيتين اللذين سارا له في قلع ضرسه:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته | يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد |
لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا | لناظري افترقنا فرقة الأبد |
قالوا نهته الأربعون عن الصبا | وأخو المشيب يجوز ثمت يهتدي |
كم حار في ليل الشباب فدله | صبح المشيب على الطريق الأقصد |
وإذا عددت سني ثم نقصتها | زمن الهموم فتلك ساعة مولدي |
كفى بسراج الشيب في الرأس هاديا | إلى من أضلته المنايا لياليا |
فكان كرامي الليل يرمي فلا يرى | فلما أضاء الشيب شخصي رمانيا |
ما العمر ما طالت به الدهور | العمر ما تم به السرور |
أيام عزي ونفاذ أمري | هي التي أحسبها من عمري |
لو شئت مما قد قللن جدا | عددت أيام السرور عدا |
لم يبق لي في هواكم أرب | سلوتكم والقلوب تنقلب |
أوضحتم لي سبل السلو وقد | كانت لي الطرق عنه تنشعب |
إلام دمعي من هجركم سرب | قان وقلبي من غدركم يجب |
إن كان هذا لأن تعبدني | الحب فقد أعتقتني الريب |
أحببتكم فوق ما توهمه | الناس وخنتم أضعاف ما حسبوا |
يا دهر مالك لا يصدك | عن مساءتي العتاب |
أمرضت من أهوى ويأ | بى أن أمرضه الحجاب |
لو كنت تنصف كانت | الأمراض لي وله الثواب |
يا ليت علته لي غير أن له | أجر المريض وأني غير مأجور |
لو كان صد معاتبا ومغاضبا | أرضيته وتركت خدي شائبا |
لكن رأى تلك النضارة قد ذوت | لما غدا ماء الشبيبة ناضبا |
ورأى النهى بعد الغواية صاحبي | فثنى العنان يريغ غيري صاحبا |
وأبيه ما ظلم المشيب فإنه | أملي فقلت عساه عني راغبا |
أنا كالدجى لما تناهى عمره | نشرت له أيدي الصباح ذوائبا |
حبسوك والطير النواطق إنما | حبست لميزتها على الأنداد |
وتهيبوك وأنت مودع سجنهم | وكذا السيوف تهاب في الأغماد |
ما الحبس دار مهانة لذوي العلا | لكنه كالغيل للآساد |
انظر إلى حسن صبر الشمع يظهر لل | رائين نورا وفيه النار تستعر |
كذا الكريم تراه ضاحكا جذلا | وقلبه بدخيل الغم منفطر |
نافقت دهري فوجهي ضاحك جذل | طلق وقلبي كئيب مكمد باك |
وراحة القلب في الشكوى ولذتها | لو أمكنت لا تساوي ذلة الشاكي |
لئن غض دهر من جماحي أو ثنى | عناني أو زلت بأخمصي النعل |
تظاهر قوم بالشمات جهالة | وكم إحنة في الصدر أبرزها الجهل |
وهل أنا إلا السيف فلل حده | قراع الأعادي ثم أرهفه الصقل |
لا تحسدن على البقاء معمرا | فالموت أيسر ما يؤول إليه |
وإذا دعوت بطول عمر لامرئ | فاعلم بأنك قد دعوت عليه |
كأن قلبي إذا عن ادكاركم | ظل اللواء عليه الريح تخترق |
أحبابنا كيف اللقاء ودونكم | عرض المهامه والفيافي الفيح |
أبكيتم عيني دما لفراقكم | فكأنما إنسانها مجروح |
وكأن قلبي حين يخطر ذكركم | لهب الضرام تعاورته الريح |
ذكر الوفاء خيالك المنتاب | فألم وهو بودنا مرتاب |
نفسي فداؤك من حبيب زائر | متعتب عندي له الإعتاب |
ودي كعهدك والديار قريبة | من قبل أن تتقطع الأسباب |
ثبت فلا طول الزيارة ناقص | منه وليس يزيده الإغباب |
حظر الوفاء علي هجرك طائعا | وإذا اقتسرت فما علي عتاب |
لو حط رحلي فوق النجم رافعه | ألفيت ثم خيالا منك منتظري |
وذكرت كم بين العقيق إلى الحمى | فجزعت من أمد المدى المتطاول |
وعذرت طيفك في الجفاء فإنه | يسري فيصبح دوننا بمراحل |
وأعجب ما لقيت من الليالي | وأي فعالها بي لم يسؤني |
تقلب قلب من مثواه قلبي | وجفوة من ضممت عليه جفني |
انظر إلى لاعب الشطرنج يجمعها | مغالبا ثم بعد الجمع يرميها |
كالمرء يكدح للدنيا ويجمعها | حتى إذا مات خلاها وما فيها |
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا | له فكل على الخيرات منكمش |
أيامه مثل شهر الصوم خالية | من المعاصي وفيها الجوع والعطش |
أأحبابنا هلا سبقتم بوصلنا | صروف الليالي قبل أن نتفرقا |
تشاغلتم بالهجر والوصل ممكن | وليس إلينا للحوادث مرتقى |
كأنا أخذنا من صروف زماننا | أمانا ومن جور الحوادث موثقا |
قمر إذا عاينته شغفا به | غرس الحياء بوجنتيه شقيقا |
وتلهبت خجلا فلولا ماؤها | مترقرقا فيه لصار حريقا |
وازور عني مطرقا فأضلني | أنى اهتدى نحو السلو طريقا |
فليلحني من شاء فيه فصبوتى | بهواه سكر لست منه مفيقا |
أبا الفوارس ما لاقيت من زمني | أشد من قبضه كفي عن الجود |
رأى سماحي بمنزور تجانف لي | عنه وجودي به فاجتاح موجودي |
فصرت إن هزني جان تعود أن | يجني نداي رآني يابس العود |
سقوف الدور في خربرت سود | كستها النار أثواب الحداد |
فلا تعجب إذا ارتفعت علينا | فللحظ اعتناء بالسواد |
بياض العين يكسوها جمالا | وليس النور إلا في السواد |
ونور الشيب مكروه وتهوى | سواد الشعر أصناف العباد |
وطرس الخط ليس يفيد علما | وكل العلم في وشي المداد |
هو من عرفن فلو عصاه نهاره | لرماه نقع جيوشه بغياهب |
خلع الخليع عذاره في فسقه | حتى تهتك في بغا ولواط |
يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ولا | هذا كذلك إبرة الخياط |
عماد الدين مولانا جواد | مواهبه كمنهل السحاب |
يحكم في مكارمه الأماني | ولو كلفنه رد الشباب |
وعذرك في قضا شغلي قضاء | يصرفه فما عذر الجواب |
صديق لنا كالبحر قد أهلك الورى | ولم تنههم أخطاره عن ركوبه |
مودته تحكيه صفوا وخبرها | كمشربه من حوبه وذنوبه |
كنت بين الرجاء واليأس منه | أقطع الدهر بين سلم وحرب |
ألتقي عتبه بأكرم إعتا | ب ويلقى ذلي بتيه وعجب |
فبدا للملوك أني لو رم | ت سلوا لما سلا عنه قلبي |
فتجنى لي الذنوب ولا و | الله مالي ذنب سوى فرط حبي |
انظر بعينك هل ترى | أحدا يدوم على الموده |
لترى أخلاء الصفا | ء عدى إذا تأتيك شده |
تنكرني الإخوان حتى ثقاتهم | وحذرني منهم نذير التجارب |
كأني إذا أودعت سري عندهم | رفعت بنار فوق أعلى المراقب |
ولوا فلما رجونا عدلهم ظلموا | فليتهم حكموا فينا بما علموا |
ما مر يوما بفكري ما يريبهم | ولا سعت بي إلى ما ساءهم قدم |
ولا أضعت لهم عهدا ولا اطلعت | على ودائعهم في صدري التهم |
محاسني منذ ملوني بأعينهم | قذى وذكري في آذانهم صمم |
وبعد لو قيل لي ماذا تحب وما | تختار من زينة الدنيا لقلت هم |
هم مجال الكرى من مقلتي ومن | قلبي محل المنى جاروا او اجترموا |
تبدلوا بي ولا أبغي بهم بدلا | حسبي بهم أنصفوا في الحكم أم ظلموا |
يا راكبا تقطع البيداء همته | والعيس تعجز عما تدرك الهمم |
بلغ أميري معين الدين مألكة | من نازح الدار لكن وده أمم |
هل في القضية يا من فضل دولته | وعدل سيرته بين الورى علم |
تضييع واجب حقي بعد ما شهدت | به النصيحة والإخلاص والخدم |
إذا نهضت إلى مجد تؤثله | تقاعدوا وإذا شيدته هدموا |
وإن عرتك من الأيام نائبة | فكلهم للذي يبكيك يبتسم |
وكل من ملت عنه قربوه ومن | والاك فهو الذي يقصى ويهتضم |
اين الحمية والنفس الأبية إذ | ساموك خطة خسف عارها يصم |
هلا أنفت حياء أو محافظة | من فعل ما أنكرته العرب والعجم |
أسلمتنا وسيوف الهند مغمدة | ولم يرو سنان السمهري دم |
وكنت أحسب من والاك في حرم | لا يعتريه به شيب ولا هرم |
وأن جارك جار للسموأل لا | يخشى الأعادي ولا تغتاله النقم |
هبنا جنينا ذنوبا لا يكفرها | عذر فماذا جنى الأطفال والحرم |
لكن رأيك أدناهم وأبعدني | «فليت أنا بقدر الحب نقتسم» |
ولا سخطت بعادي إذ رضيت به | «ولا لجرح إذا أرضاكم الم» |
تعلقت بحبال الشمس منك يدي | ثم انثنت وهي صفر ملؤها ندم |
لكن فراقك آساني وآسفني | ففي الجوانح نار منه تضطرم |
فاسلم فما عشت لي فالدهر طوع يدي | وكل ما نالني من بؤسه نعم |
الق الخطوب إذا طرقن | بقلب محتسب صبور |
فسينقضي زمن الهموم | كما انقضى زمن السرور |
فمن المحال دوام حال | في مدى العمر القصير |
ودعت صبري ودمعي يوم فرقتكم | وما علمت بأن الدمع يدخر |
وضل قلبي من صدري فعدت بلا | قلب فيا ويح ما آتي وما أذر |
ولو علمت ذخرت الصبر مبتغيا | إطفاء نار بقلبي منك تستعر |
يا طائرا لعبت أيدي الفراق به | مثلي فأصبح ذا هم وذا حزن |
داني الأسى نازح الأوطان مغتربا | عن الأحبة مصفودا عن الوطن |
بلا نديم ولا جار يسر به | ولا حميم ولا دار ولا سكن |
لكن نطقت فزال الهم عنك ولي | هم يقلقل أحشائي ويخرسني |
وكل من باح بالشكوى استراح ومن | أخفى الجوى بث» عنه شاهد البدن |
أرقت عيني بنوح لست أفهمه | مع ما بقلبي من وجد يؤرقني |
وما بكيت ولي دمع غواربه | إذا ارتمت منه لم تنشق بالسفن |
ما فهت مع متحدث متشاغلا | إلا رأيتك خاطرا في خاطري |
ولو استطعت لزرت أرضك ماشيا | بسواد قلبي لا بأسود ناظري |
ألا هل لمحزون تذكر إلفه | فحن وأبدى وجده من يعينه |
وعيشا مضى بالرغم إذ نحن جيرة | ترف على روض الوصال غصونه |
لدى منزل كان السرور قرينكم | به فتولى إذ تولى قرينه |
فلو أعشبت من فيض دمعي محوله | لما رضيت عن دمع عيني جفونه |
لأشكرن النوى والعيس إذ قصدت | بي معدن الجود والاحسان والكرم |
فسرت في وطني إذ سرت عن وطني | فمن رأى صحة جاءت من السقم |
وقد ندمت على عمر مضى أسفا | إذ لم أكن لك جارا فيه في القدم |
فاسلم ولا زلت محروس العلا أبدا | ما لاحت الشهب في داج من الظلم |
ظننت وظن الألمعي مصدق | بأن سقام المرء سجن حمامه |
فإن لم يكن موت صريح فإنه | عذاب تمل النفس طول مقامه |
وكم يلبث المسجون في قبضة الأذى | يجرب فيه الموت غرب حسامه |
ترحلت عن بغداد لا كارها لها | وفي القلب منها لوعة وحريق |
فسقيا لأيام تقضت بربعها | إذ العيش غض والزمان أنيق |
باخوان صدق ليس فيهم مشاقق | وكلهم حان علي شفيق |
ولما أعارتني النوى منك نظرة | أحب إلى قلبي من البارد العذب |
تعقبها البين المشت فليتنا | بقينا على تأميلنا لذة القرب |
ليت شعري علام صدك عنا | بعد ما كنت تدعي الأشواقا |
لا تجار الزمان سبقا إلى الهجر | فما زال صرفه سباقا |
أنت غر بغدره فلهذا | قد تعجلت بالصدود الفراقا |
بني أبي إن عدا دهر ففرقنا | فهم نفسي بكم ما عشت مجتمع |
هل تعلمون الذي في النفس من أسف | عليكم وحنين ليس ينقطع |
نزحتم أدمعي حتى لقد محلت | جفون عيني ومات اليأس والطمع |
وإن دهرا رمى عن جيده دررا | أمثالكم لزمان عاطل ضرع |
أما الفراق فقد عاصيته فأبى | وطالت الحرب إلا أنه غلبا |
أراني البين لما حم عن قدر | وداعنا كل جد بعده لعبا |
أسطو عليه وقلبي لو تمكن من | كفي غلهما غيظا إلى عنقي |
وأستعز إذا عاتبته حنقا | وأين ذل الهوى من عزة الحنق |
ماذا النجيع بوجنتيك وليس من | شرط الأنوف على الخدود رعاف |
ألحاظنا جرحتك حين تعرضت | لك أم أديمك جوهر شفاف |
إذا ذكرت أياديك التي سلفت | مع سوء فعلي وزلاتي ومجترمي |
أكاد أقتل نفسي ثم يمنعني | علمي بأنك مجبول على الكرم |
من كان يرضى بذل في ولايته | من خوف عزل فإني لست بالراضي |
قالوا فتركب أحيانا فقلت لهم | تحت الصليب ولا في موضع القاضي |
لا تعجلوا بالهجر إن النوى | تحمل عنكم منة الهجر |
وظاهرونا بوفاق فقد | أغناكم البين عن الهجر |
ألقى المنية في درعين قد نسجا | من المنية لا من نسج داود |
إن الذي صور الأشياء صورني | نارا من البأس في بحر من الجود |
كيف السلو وحب من هو قاتلي | أدنى إلي من الوريد الأقرب |
إني لأعمل فكرتي في سلوة | عنه فيظهر في ذل المذنب |
بكرت تنظر شيبي | وثيابي يوم عيد |
ثم قالت لي بهزء | يا خليعا في جديد |
أحبابنا لو لقيتم في مقامكم | من الصبابة ما لاقيت في ظعني |
لأصبح البحر من أنفاسكم يبسا | كالبر من أدمعي ينشق بالسفن |
لئن نسي امرو عهدا فإني | لعهد أبي الفوارس غير ناس |
وما عاش الأمير أبو فراس | فما مات الأمير أبو فراس |
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا | وفي الصد والهجران إلا تناهيا |
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها | فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا |
وطاوعت الواشين في وطالما | عصيت عذولا في هواها وواشيا |
ومال بها تيه الجمال إلى القلى | وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا |
ولا ناسيا ما استودعت من عهودها | وإن هي أبدت جفوة وتناسيا |
وقلت أخي يرعى بني وأسرتي | ويحفظ فيهم عهدتي وذماميا |
ويجزيهم ما لم أكلفه فعله | لنفسي فقد أعددته من تراثيا |
فأصبحت صفر الكف مما رجوته | أرى اليأس قد غطى سبيل رجائيا |
فما لك لما أن حنى الدهر صعدتي | وثلم مني صارما كان ماضيا |
تنكرت حتى صار برك قسوة | وقربك منهم جفوة وتناسيا |
على أنني ما حلت عما عهدته | ولا غيرت هذي الشؤون وداديا |
فلا زعزعتك الحادثات فإنني | أراك يميني والأنام شماليا |
حوى مرشد وابناه غر المناقب | وحلوا من العلياء أعلى المراتب |
ذوائب مجد ما علمت بأنهم | من العلم أيضا في الذرى والذوائب |
أتت من علي روضة جاد روضها | سحائب فضل لا كجود السحائب |
بأبيات شعر أفحمت كل شاعر | وآيات نثر أعجبت كل خاطب |
وغر معان أعجزت كل عالم | وأسطر خط أرعشت كل كاتب |
ربيع بورد وافد لمطالع | وربع لوفد وارد بمطالب |
وخود رمت بالسحر عن قوس حاجب | لها في العلا فخر على قوس حاجب |
فلو قطبت راحا لما قطبت لها | وجوه ولا غطت على حكم شارب |
ما بعد جلق للمرتاد منزلة | ولا كسكانها في الأرض سكان |
فكلها لمجال الطرف منتزه | وكلهم لصروف الدهر أقران |
وهم وإن بعدوا عني بنسبتهم | إذا بلوتهم بالود اخوان |
بالشام لي جدث وجدت بفقده | وجدا يكاد القلب منه يذوب |
فيه من البأس المهيب صواعق | تخشى ومن ماء السماء قليب |
فارقت حتى حسن صبري بعده | وهجرت حتى النوم وهو حبيب |
يذكرني يحيى الرماح شوارعا | وبيض المواضي جردت للوقائع |
وأقسم ما رؤياه في العين بهجة | بأحسن من أوصافه في المسامع |
وسلافة أزرى احمرار شعاعها | بالورد والوجنات والياقوت |
جاءت مع الساقي تنير بكأسها | فكأنها اللاهوت في الناسوت |
أدنو بودي وحظي منك يبعدني | هذا لعمرك عين الغبن والغبن |
وإن توخيتني يوما بلائمة | رجعت باللوم إبقاء على الزمن |
وحسن ظني موقوف عليك فهل | غيرت بالظن بي عن رأيك الحسن |
ومهفهف كتب الجمال بخده | سطرا يحير ناظر المتأمل |
بالغت في استخراجه فوجدته | لا رأي إلا رأي أهل الموصل |
ومغردين ترنما في مجلس | فنفاهما لأذاهما الأقوام |
هذا يجود بما يجود بعكسه | هذا فيحمد ذا وذاك يذام |
سقيت كأس الهوى علا على نهل | فلا تزدني كأس اللوم والعذل |
نأى الحبيب فبي من نأيه حرق | لو لابست جبلا هدت قوى الجبل |
ولو تطلبت سلوانا لزدت هوى | وقد تزيد رسوبا نهضة الوحل |
عفت رسومي فعج نحوي لتندبني | فالصب غب زيال الحب كالطلل |
صحوت من قهوة تنفى الهموم بها | لكنني ثمل من طرفه الثمل |
أصبر النفس عنه وهي قائلة | ما لي بعادية الأشواق من قبل |
كم ميتة وحياة ذقت طعمهما | مذ ذقت طعم النوى لليأس والأمل |
والنفس إن خاطرت في غمرة وألت | منها وإن خاطرت في الوجد لم تئل |
لها دروع تقيها من سهام يد | فهل دروع تقيها أسهم المقل |
فانظر إليه تر الأقمار في قمر | وانظر إلي تر العشاق في رجل |
بأي أمر سأنجو من هوى رشأ | في جفنه سحر هاروت وسيف علي |
إذا رمى طرفه باللحظ قال له | قلبي أعد لارماك الله بالشلل |
أمن بني الروم ذا الرامي الذي فتكت | سهامه بالورى أم من بني ثعل |
إن خفت روعة هجران الحبيب فقد | أمنت في حبه من روعة العذل |
يا خير قوم لم يزل مجدهم | في صفحات الدهر مسطورا |
عبدك يبغي أسمرا ذكره | ما زال بين الناس مذكورا |
مسدد والجور من شأنه | إن نال وترا صار موتورا |
فإن تفضلت به عاد عن | صدور أعدائك مكسورا |
أتلقى مثلا بمثل فلما | صار عاجا سرحته بالعاج |
جزيت من ولد بر بصالحة | فقد كسبت ثوابا آخر الزمن |
وقد حججت إلى البيت الحرام وقد | أتيته زائرا يا خير محتضن |
فلا تنلك يد الأيام ما طلعت | شمس وما صدحت ورقاء في فنن |
يا نصر يا ابن الأكرمين ومن | شفع التلاد بطارف الفخر |
هذا كتاب من أخي ثقة | يشكو إليك نوائب الدهر |
فامنن بما عودت من حسن | هذا أوان النفع والضر |
جزى الله نصرا خير ما جزيت به | رجال قضوا فرض العلاء ونفلوا |
هو الولد البر العطوف وإن رمى | به حادث فهو الحمام المعجل |
يفديك يا نصر رجال محلهم | من المجد والإحسان ان يتقولوا |
سأثني بما أوليت بالموقف الذي | تقر به الأقدام أو تتزلزل |
وألقاك يوم الحشر أبيض ناصعا | وأشكر عند الله ما كنت تفعل |
سمحت بروحي في رضاك ولم يكن | ليعجزني لولا رضاك المذاهب |
وهانت لجراك العظائم كلها | علي وقد جلت لدي النوائب |
فكان ثوابي عن ولائي تجهم | رمتني به منك الظنون الكواذب |
فمهلا فلي في الأرض عن منزل القلى | مسار إذا أخرجتني ومسارب |
وإن كنت ترجو طاعتي بإهانتي | وقسري فإن الرأي عنك لعازب |
رحلتم وقلبي بالولاء مشرق | لديكم وجسمي بالعناء مغرب |
فهذا سعيد بالدنو منعم | وهذا شقي بالبعاد معذب |
وما أدعي شوقا فسحب مدامعي | تترجم عن شوقي إليكم وتعرب |
ووالله ما اخترت التأخر عنكم | ولكن قضاء الله ما منه مهرب |
دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 2- ص: 571
ابن منقذ الأمير الكبير العلامة، فارس الشام، مجد الدين، مؤيد الدولة، أبو المظفر أسامة ابن الأمير مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، الشيزري.
ولد بشيزر سنة ثمان وثمانين وأربع مائة.
وسمع في سنة499 نسخة أبي هدبة من علي بن سالم السنبسي.
روى عنه: ابن عساكر، وابن السمعاني، وأبو المواهب، والحافظ عبد الغني، والبهاء عبد الرحمن، وابنه الأمير مرهف، وعبد الصمد بن خليل الصائغ، وعبد الكريم بن أبي سراقة، ومحمد بن عبد الكافي الصقلي.
وله نظم في الذروة كأبيه.
قال السمعاني: ذكر لي أنه يحفظ من شعر الجاهلية عشرة آلاف بيت.
قلت: سافر إلى مصر: وكان من أمرائها الشيعة، ثم فارقها، وجرت له أمور، وحضر حروبا ألفها في مجلد فيه عبر.
قال يحيى بن أبي طيء في ’’تاريخه’’: كان إماميا حسن العقيدة، إلا أنه كان يداري عن منصبه، ويتاقي، وصنف كتبا منها ’’التاريخ البدري’’، وله ’’ديوان’’ كبير.
قلت: عاش سبعا وتسعين سنة، ومات بدمشق في رمضان سنة أربع وثمانين وخمس مائة.
وله:
مع الثمانين عاث الضعف في جسدي | وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي |
إذا كتبت فخطي خط مضطرب | كخط مرتعش الكفين مرتعد |
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما | من بعد حطم القنا في لبة الأسد |
فقل لمن يتمنى طول مدته: | هذي عواقب طول العمر والمدد |
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 15- ص: 352
أسامة بن مرشد بن عليّ بن مقلّد بن منقذ، أبو المظفّر، ويلقّب مؤيّد الدولة.
وبنو منقذ جماعة، منهم أمراء وشعراء وأدباء، وما زالوا مالكي شيزر، وهي حصن قريب من حماة، معتصمين بحصانتها، حتّى جاءت الزلزلة في سنة نيّف وخمسين وخمس مائة، فخرّبت حصنها، وأذهبت حسنها، وتملّكها نور الدّين محمود بن زنكي، وأعاد بناءها، فتشعّبوا شعبا، وتفرّقوا أيدي سبأ.
وأسامة هذا كان مولده في سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. قال ابن عساكر في تاريخه: دخل دمشق في سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة، وكان ذا نثر قويّ، ونظم رضيّ، تلوح عليه أمارة الإمارة، وكان معتدل التصاريف، مطبوع التصانيف.
فمن ذلك: كتاب التاريخ البدري: خمسة أجزاء، وكتاب أزهار الأنهار: ثلاثة أجزاء، وكتاب البديع في صنعة الشّعر: مجلّد، وكتاب الاعتبار: مجلّد، وكتاب العصا: مجلّد، وكتاب المواعظ الشافية، وهو تاريخ البلدان والقلاع: مجلّد، وكتاب التجائر المربحة: مجلّد، وديوان شعره: مجلّد، وكتاب المنازل والدّيار، وكتاب فضائل الصّحابة، وكتاب تشبيث الغريق، وكتاب اختيار رسالة القشيري، وكتاب شعراء الشام المتأخّرين، وكتاب رسالة زجر الجاحظ، وكتاب لباب الآداب، وكتاب مكارم الأخلاق، وكتاب ذيل يتيمة الدهر، وكتاب تاريخ أيامه.
ومن شعره قوله: [الكامل]
أحبابنا كيف اللقاء ودونكم | عرض المهامه والفيافي الفيح |
أبكيتم عيني دما لفراقكم | فكأنّما إنسانها مجروح |
وكأنّ قلبي حين يخطر ذكركم | لهب الضّرام تعاورته الرّيح |
دار الغرب الإسلامي - تونس-ط 1( 2009) , ج: 1- ص: 296