صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب بن شاذى، أبو المظفر، صلاح الدين الأيوبى، الملقب بالملك الناصر: من أشهر ملوك الإسلام. كان أبوه وأهله من قرية دوين (فى شرقى أذربيجان) وهم بطن من الروادية، من قبيلة الهذانية، من الأكراد. نزلوا بتكريت، وولد بها صلاح الدين، وتوفى فيها جده شاذى. ثم ولى أبوه (أيوب) أعمالا فى بغداد والموصل ودمشق. ونشأ هو فى دمشق، فدخل مع أبيه (نجم الدين) وعمه (شيركوه) فى خدمة نور الدين محمود بن عماد الدين زنكى (صاحب دمشق وحلب والموصل) واشترك صلاح الدين مع عمه شيركوه فى حملة وجهها نور الدين للاستيلاء على مصر (سنة 559هـ) فكانت وقائع ظهرت فيها مزايا صلاح الدين العسكرية. وتم لشيركوه الظفر أخيرا، باسم السلطان نور الدين، فاستولى على زمام الأمور بمصر، واستوزره خليفتها العاضد الفاطمى. ولكن شيركوه ما لبث أن مات. فاختار العاضد للوزارة وقيادة الجيش صلاح الدين، ولقبه بالملك الناصر. وهاجم الفرنج دمياط، فصدهم صلاح الدين. ثم استقل بملك مصر، مع اعترافه بسيادة نور الدين. ومرض العاضد مرض موته، فقطع صلاح الدين خطبته، وخطب للعباسيين، وانتهى بذلك أمر الفاطميين. ومات نور الدين (سنة 569) فاضطربت البلاد الشامية والجزيرة، ودعى صلاح الدين لضبطها، فأقبل على دمشق (سنة 570) فاستقبلته بحفاوة. وانصرف إلى ما وراءها، فاستولى على بعلبك وحمص وحماة وحلب. ثم ترك حلب للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، وانصرف إلى عملين جديين: أحدهما الإصلاح الداخلى فى مصر والشام، بحيث كان يتردد بين القطرين، والثانى دفع غارات الصليبيين ومهاجمة حصونهم وقلاعهم فى بلاد الشام. فبدأ بعمارة قلعة مصر، وأنشأ مدارس وآثارا فيها. ثم انقطع عن مصر بعد رحيله عنها سنة 578 إذ تتابعت أمامه حوادث الغارات وصد الاعتداآت الفرنجية فى الديار الشامية، فشغلته بقية حياته. ودانت لصلاح الدين البلاد من آخر حدود النوبة جنوبا وبرقة غربا إلى بلاد الأرمن شمالا، وبلاد الجزيرة والموصل شرقا. وكان أعظم انتصار له على الفرنج فى فلسطين والساحل الشامى (يوم حطين) الذى تلاه استرداد طبرية وعكا ويافا إلى ما بعد بيروت، ثم افتتاح القدس (سنة 583) ووقائع على أبواب صور، فدفاع مجيد عن عكا انتهى بخروجها من يده (سنة 587) بعد أن اجتمع لحربه ملكا فرنسا وانكلترة بجيشيهما وأسطوليهما. وأخيرا عقد الصلح بينه وبين كبير الفرنج ريكارد قلب الأسد Richard Coeur de Lion (ملك انكلترة) على أن يحتفظ الفرنج بالساحل من عكا إلى يافا، وأن يسمح لحجاجهم بزيارة بيت المقدس، وأن تخرب عسقلان ويكون الساحل من أولها إلى الجنوب لصلاح الدين. وعاد (ريكارد) إلى بلاده. وانصرف صلاح الدين من القدس، بعد أن بنى فيها مدارس ومستشفيات. ومكث فى دمشق مدة قصيرة انتهت بوفاته. وكان رقيق النفس والقلب، على شدة بطولته، رجل سياسة وحرب، بعيد النظر، متواضعا مع جنده وأمراء جيشه، لا يستطيع المتقرب منه إلا أن يحس بحب له ممزوج بهيبة، اطلع على جانب حسن من الحديث والفقه والأدب ولا سيما أنساب العرب ووقائعهم، وحفظ ديوان الحماسة. ولم يدخر لنفسه مالا ولا عقارا. وكانت مدة حكمه بمصر 24 سنة، وبسورية 19 سنة، وخلف من الأولاد 17 ذكرا وأنثى واحدة. وللمصنفين كتب كثيرة فى سيرته، منها: كتاب (الروضتين -ط) لأبى شامة، فى تاريخ دولته ودولة نور الدين، و (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية -ط) لابن شداد، ويسمى (سيرة صلاح الدين) و (البرق الشامى -خ) سبعة أجزاء، فى أخباره وفتوحاته وحوادث الشام فى أيامه، لعماد الدين الكاتب، و (النفح القسى فى الفتح القدسى -ط) لعماد الدين أيضا، و (صلاح الدين الأيوبى وعصره -ط) لمحمد فريد أبى حديد، و (حياة صلاح الدين الأيوبى -ط) لأحمد بيلى المصرى.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 8- ص: 220
يوسف الناصر صلاح الدين الكبير
يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب، السلطان العادل المؤيد المجاهد المرابط المثاغر، السلطان الملك الناصر أبو المظفر ابن الملك الأفضل نجم الدين الدويني - دوين بطرف بلاد آذربيجان. اختلف في نسبه، فقوم يقولون أموي الأصل، وقال الصاحب كمال الدين ابن العديم في كتاب (الإشعار بما للملوك من النوادر والأشعار) ينتسب من العرب إلى مالك بن طوق صاحب الرحبة؛ وقال قوم: هو من الأكراد، وهو الصحيح. لم يأت في ملوك الإسلام بعد نور الدين الشهيد مثله، فتح القدس الشريف وطهر السواحل من الإفرنج. وكان شافعي المذهب، أشعري العقيدة يلقن عقيدة الأشعري لأولاده ويلزمهم بالدرس عليها. وسمع الحديث وأسمعه أولاده.
سمع من السلفي الحافظ، والإمام أبي الحسن علي بن إبراهيم بن المسلم ابن بنت أبي سعد، وأبي طاهر عون، وعبد الله بن بري، والقطب مسعود النيسابوري وجماعة؛ وروى الحديث، وملك البلاد فتوحا.
ولد بتكريت، وأبوه واليها سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة؛ وأقام في الملك أربعا وعشرين سنة؛ وتوفي بقلعة دمشق بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء سابع عشر صفر سنة تسع وثمانين وخمس مائة، وحضر القاضي الفاضل وفاته، وغسله الدولعي وأخرج في تابوته وصلى عليه القاضي محيي الدين ابن الزكي، وأعيد إلى الدار التي في البستان التي كان فيها مريضا، ودفن في الضفة الغربية منها؛ وصلى عليه الناس أرسالا، وتأسف الناس عليه، حتى الفرنج، لما كان من صدقه ووفائه إذا عاهدهم.
وبنى ولده الأفضل على شمالي الجامع الأموي قبة وهي التي شباكها قبلي الكلاسية، ونقله إليها يوم عاشوراء سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة، ومشى بين يدي التابوت، وأراد العلماء حمله على رقابهم فقال الأفضل: (يكفيه دعاؤكم الصالح)، وحمله مماليكه، وأخرج إلى باب البريد وصلي عليه قدام النسر، وصلى عليه محيي الدين ابن الزكي، ولحده ولده الأفضل وخرج وسد الباب وجلس للعزاء ثلاثة أيام.
وفتح القدس والبلاد الساحلية والشامية والفراتية والحصون الفرنجية، ولم يخلف إلا سبعة وأربعين درهما ودينارا واحدا صوريا؛ ولم يخلف ملكا ولا عقارا، وخلف سبعة عشر ولدا ذكرا وابنة صغيرة: الملك الأفضل علي صاحب دمشق، والملك العزيز عثمان صاحب مصر، والملك الظاهر غازي صاحب حلب، والملك المعز فتح الدين إسحاق، والملك المؤيد نجم الدين مسعود، والملك الأعز شرف الدين يعقوب، والملك الظافر مظفر الدين خضر، والملك الزاهر مجير الدين داود، والملك المفضل قطب الدين موسى، والملك الأشرف عزيز الدين محمد، والملك المحسن ظهير الدين أحمد، والملك المعظم فخر الدين توران شاه، والجواد زكي الدين أيوب والغالب نصير الدين ملكشاه، وعماد الدين شادي، ونصرة الدين مروان، والمنصور أبا بكر، ومؤنسة زوج الملك الكامل. وهؤلاء كلهم عاشوا بعده، وكان أكثرهم بحلب عند الظاهر، وآخرهم موتا توران شاه توفي بعد أخذ حلب، في قلعتها. وقد تقدم في ذكر نجم الدين أيوب بن شاذي ذكر أصلهم وسب اتصالهم بنور الدين الشهيد، وتقدم أيضا في ترجمة أسد الدين شيركوه ابن شاذي سبب دخول شيركوه إلى مصر بحده في أيام العاضد، وفي ترجمة أيوب المذكور سبب وزارة صلاح الدين يوسف المذكور للعاضد خليفة مصر، وفي ترجمة القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي طرف من ذلك، فليكشف جميع ذلك من أماكنه المذكورة.
وأرسل العاضد خلع الوزارة إلى صلاح الدين، وكانت العادة في مثل ذلك، ما يذكر: وهو عمامة بيضاء تنيسي بطرز ذهب، وثوب دبيقي بطرازي ذهب، وجبة تحتها سقلاطون بطرازي ذهب وطيلسان دبيقي بطراز ذهب رقيق، وعقد جوهر قيمته عشرة آلاف دينار، وسيف محلى مجوهر قيمته خمسة آلاف دينار، وفرس حجر صفراء من مراكب العاضد قيمتها ثمانية آلاف دينار، ولم يكن بالديار المصرية أسبق منها، وطوق وتخت وسرفسار ذهب مجوهر وفي رقبة الحجر مشدة بيضاء وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وفي أربع قوائم الفرس أربع عقود جوهر، وقصبة ذهب وفي رأسها طلعة مجوهرة وفي رأسها مشدة بيضاء بأعلام ذهب، ومع الخلعة عدة بقج وعدة من الخيل وأشياء أخر، ومنشور الوزارة ملفوف في ثوب أطلس أبيض.
وكانت وزارة صلاح الدين يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمس مائة. وجلس في دار الوزارة وحضر الأمراء والكبراء ووجوه البلد وأرباب دولة العاضد؛ وعم الناس جميعهم، المصريين والشاميين، بالهبات والصلات. ولما وزر صلاح الدين للعاضد شكر نعمة الله تعالى عليه وتاب عن الخمر وأقلع عن اللهو وأقبل على الجد والاجتهاد. وجرى له مع العاضد ما جرى من خلعه وإقامة الدعوة بمصر للعباسيين. ولم يزل يشن الغارات على الفرنج بالكرك والشوبك وبلادهما، وجعل الناس يهرعون إليه من كل جانب وهو يفيض عليهم سحائب الإنعام إلى أن اشتهر ذكره وبعد صيته. ولما استقر أمره بمصر أخذ نور الدين الشهيد حمص من نواب أسد الدين، وكان نور الدين يكاتب صلاح الدين بالأمير الإسفهسلار ويكتب علامته في الكتب تعظيما أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب بل يكتب الأمير الإسفهسلار صلاح الدين، وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا؛ هذا قبل موت العاضد.
والتمس صلاح الدين من نور الدين أن يبعث إليه إخوته فلم يرسلهم وقال: أخاف أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلاد؛ ثم إنه جهزهم إليه، فلما تجمع الفرنج وطلبوا المسير إلى مصر فتوجه إليه والده نجم الدين ومعه بقية إخوته، وفي ذلك يقول عمارة اليمني من قصيدة:
عجبا لمعجزة أتت في عصره | والدهر ولاد لكل عجيب |
رد الإله به قضية يوسف | نسقا على ضرب من التقريب |
جاءته إخوته ووالده إلى | مصر على التدريج والترتيب |
وكان وصولهم إليه سنة خمس وستين وخمس مائة، ولما أن توجه صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر في المرة الثالثة، قال العرقلة:
أقول والأتراك قد أزمعت | مصر إلى حرب الأعاريب |
رب كما ملكتها يوسف | الصديق من أولاد يعقوب |
ملكها في عصرنا يوسف | الصادق من أولاد أيوب |
فكان ذلك فألا جرى على لسانه.
ولما خلع العاضد وجرى له، أرسل صلاح الدين إلى نور الدين يعرفه ذلك، فسير نور الدين إلى أمير المؤمنين المستضيء يعرفه بذلك فحل عنده محلا عظيما، وسير إلى نور الدين الخلع الكاملة له ولصلاح الدين أيضا، إلا أنها أقل من خلع نور الدين، وسيرت الأعلام السود لتنصب على المنابر. ثم إن الوحشة حصلت بين نور الدين وصلاح الدين لأته طلب منه المسير إليه إلى الكرك بالعساكر المصرية لحصار الفرنج، فاعتذر باختلال البلاد وأنه متى سار بالعساكر خاف لبعده عنها، فلم يقبل نور الدين عذره وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها، فبلغ الخبر صلاح الدين فجمع أهله وفيهم والده نجم الدين وخاله شهاب الدين الحارمي ومعهما سائر الأمراء، وأعلمهم بما عزم عليه نور الدين واستشارهم فلم يجبه أحد منهم، وقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه وصددناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأي ومكر وعقل، وقال لتقي الدين: أقعد وسبه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك، أتظن أن في هؤلاء من يحبك ويريد لك الخير مثلنا؛ فقال: لا، فقال: والله لو رأيت أنا وخالك هذا نور الدين لم يمكنا إلا أن نترجل له ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا فكيف يكون غيرنا؟ وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر على الثبات على سرجه ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه، وهذه البلاد له وقد أقامك فيها وإذا أراد عزلك فأفي حاجة له في المجيء، يأمر بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد؛ وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا فنحن مماليك نور الدين وعبيده يفعل ما يشاء بنا. فتفرقوا على هذا وكتب بعضهم بالخبر إلى نور الدين. ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل تجمع هذا الجمع الكبير وتطلعهم على سرك؟ وإذا سمع نور الدين أنك تمنعه بلاده جعلك أهم أموره وأولاها بالقصد؛ ولو قصدك لم تر معك أحدا من هذه العساكر وكانوا أسلموك إليه؛ وأما الآن فسيكتبون إليه بهذا الذي جرى، وتكتب أنت إليه وتقول له أي حاجة إلى قصدي يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي. فهو إذا بلغه هذا رجع عن قصدك واشتغل بما هو الأهم عنده، والأيام تتدرج والله {كل يوم هو في شأن}. فكان الأمر كما قال نجم الدين ولم يقصده نور الدين بعد ذلك. وتوفي نور الدين، رحمه الله، بعدما سير إليه موفق الدين خالد بن القيسراني يطالبه بالمال والحساب على ما تقدم في ترجمته. وكان قد بلغ السلطان صلاح الدين أن في اليمن إنسانا اسمه عبد النبي قد استولى عليها وملك حصونها؛ فجهز إليه أخاه توارن شاه فقتله وأخذ البلاد منه. ثم إن صلاح الدين علم أن الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد لا يستقل بالأمر بعد والده، فقصد دمشق في جيش كثيف مظهرا أنه يتولى أمر الصالح فدخل دمشق بالتسليم في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول سنة سبعين وخمس مائة وتسلم قلعتها وكان أول دخوله دار أبيه وهي الدار المعروفة بدار العقيقي وفرح الناس به واجتمعوا إليه وأنفق في ذلك أموالا عظيمة، وسار إلى حلب ونازل حمص وأخذ المدينة في جمادى الأولى من السنة وهي الوقعة الأولى. وأنفذ سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي صاحب الموصل عسكرا وافرا وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين ليردوه عن البلاد، فلما بلغه ذلك رحل عن حلب وعاد إلى حماه ورجع إلى مصر وأخذ قلعتها؛ ووصل مسعود المذكور إلى حلب وأخذ عسكر ابن عمه الصالح ابن نور الدين وخرجوا في جمع عظيم، فلما علم بذلك صلاح الدين سار إليهم ووافاهم على قرون حماه، ثم إنهم اجتهدوا أن يصالحوه فما اتفق بينهم صلح وتلاقوا فانكسروا بين يديه وأسر منهم جماعة ومن عليهم، وذلك في تاسع عشر شهر رمضان المعظم من السنة؛ وسار عقيب ذلك ونزل على حلب فصالحوه على أخذ المعرة وكفرطاب وبارين، ثم إنه تصاف هو وسيف الدين غازي على تل السلطان، وانكسرت ميسرة صلاح الدين ثم انتصر عليهم وفروا بين يديه فلم يتبعهم ونزل في خيامهم وفرق اسطبلاتهم ووهب خزائنهم، وسار إلى منبج وتسلمها، وتوجه إلى عزاز وحاصرها في رابع ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وخمس مائة، وعليها وثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين، فنجاه الله منهم وظفر بهم، وملك عزاز في رابع عشر ذي الحجة. ثم سار ونزل حلب في سادس عشر الشهر وأقام عليها مدة ثم رحل عنها.
وكان قد أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين سألته عزاز فوهبها لها. ثم إن صلاح الدين عاد إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة وكان أخوه توران شاه قد وصل من اليمن فاستخلفه بدمشق. وتأهب للغزاة، وخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرملة وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة، وكانت الكسرة على المسلمين فطلبوا مصر وضلوا في الطريق وتفرق شملهم، وأسر الفرنج الفقيه عيسى الهكاري وكان ذلك وهنا عظيما في المسلمين جبره الله تعالى يوم حطين. ثم إن صلاح الدين أقام بمصر يلثم شعثه وبلغه تخبط الشام فاهتم بالغزاة فوصل رسول قلج أرسلان صاحب الروم يلتمس الصلح ويتضور من الأرمن؛ فعزم على قصد بلاد ابن لاوون وهي بلاد سيس، فدخلها وأخذ في طريقه حصنا فسألوه الصلح فصالحهم ورجع عنهم؛ فدخل عليه قلج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم فأجابه. وحلف صلاح الدين في عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين وخمس مائة ودخل في الصلح قلج أرسلان والمواصلة. ورجع بعد ذلك إلى دمشق وتوجه منها إلى مصر. وتوفي الصالح ابن نور الدين الشهيد واستخلف أمراء حلب وجندها لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل فأتى إليها خوفا من سبق صلاح الدين إلى حلب واستولى على الحواصل وتزوج أم الصالح؛ ثم إنه قايض أخاه عماد الدين زنكي من حلب إلى سنجار؛ وخرج من حلب ودخلها عماد الدين زنكي المذكور فجاءه صلاح الدين وحاصره في سادس عشرين المحرم سنة تسع وسبعين وخمس مائة، فصالحوه على سنجار والخابور ونصيبين وسروج وما في قلعة حلب من الحواصل والأموال ويأخذ صلاح الدين حلب، فوافقهم على ذلك وأعطى الرقة لحسام الدين طمان لكونه دخل في الصلح؛ وكان صلاح الدين قد أخذ سنجار في ثاني شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمس مائة وأعطاها لابن أخيه تقي الدين عمر. ثم إن صلاح الدين صعد إلى قلعة حلب يوم الاثنين سابع عشرين صفر سنة تسع وسبعين وخمس مائة ورتب أمورها ورحل عنها في ثاني عشرين شهر ربيع الآخر، وجعل فيها ولده الظاهر غازي وولى القلعة سيف الدين يازكوج الأسدي وجعله يرتب مصالح ولده الظاهر غازي.
وعاد إلى دمشق، وخرج منها لقصد الكرك في ثالث شهر رجب من السنة، وسير إلى أخيه العادل أبي بكر ليحضر إليه، وكان بمصر، فسار إليه بجيش عظيم. وحشد الفرنج واجتمعوا وجاءوا إلى الكرك، وخاف صلاح الدين على مصر فسير إليها ابن أخيه تقي الدين عمر ورحل عن الكرك في سادس عشر شعبان من السنة واستصحب العادل معه إلى الشام ودخل دمشق في رابع عشرين شعبان من السنة وأعطاه حلب ودخلها يوم الجمعة ثاني عشرين شهر رمضان. وخرج الظاهر ويازكوج ودخلا دمشق. وقيل إن العادل أعطاه على دخول حلب ثلاث مائة ألف دينار يستعين بها على الجهاد. ثم إنه أعاد العادل إلى مصر والظاهر إلى حلب؛ ثم إنه أعطى العادل حران والرها وميافارقين. ثم كانت وقعة حطين المباركة على المسلمين في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة وسط النهار يوم الجمعة؛ وكان كثيرا ما يقصد لقاء العدو يوم الجمعة عند الصلاة تبركا بدعاء المسلمين والخطيب على المنبر. وكان العدو قد اجتمع بمرج صفورية، فسار صلاح الدين ونزل على بحيرة طبرية على سطح الجبل لينظر قصد الفرنج فلم يتحركوا فنازل طبرية وأخذها في ساعة واحدة، ونهب الناس مالها وسبوا وقتلوا وحرقوا، وبقية القلعة محتمية؛ وبلغ العدو ذلك فرحلوا نحوها فترك صلاح الدين على طبرية من يحاصرها والتقى العدو على سطح جبل طبرية الغربي وباتا على مصاف إلى بكرة الجمعة وتصادموا والتحم القتال بأرض قرية لوبيا، وضاق الخناق بالعدو وحال الليل بينهم فحملت أطناب المسلمين من سائر الجوانب وصاحوا صيحة رجل واحد فألقى الله الرعب في قلوب الفرنج، فهرب القومص وقصد جهة صور وتبعه المسلمون فنجا منهم، وهرب بعض الفرنج فتبعهم طائفة من المسلمين واعتصمت طائفة منهم بتل حطين، فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران فاشتد بهم العطش، فأسر مقدموهم وقتل الباقون؛ وكان ممن سلم وأسر من مقدمي الفرنج الملك جفري وأخوه والبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك، وابن الهنفري، وابن صاحب طبرية، ومقدم الديوية، وصاحب جبيل، ومقدم الاسبتار.
قال القاضي ابن شداد: ولقد حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصا واحدا معه نيف وثلاثون أسيرا قد ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان. وأما مقدم الاسبتار والديوية فإن السلطان قتلهما وقتل من بقي من صنفهما حيا، وأما أرناط البرنس فإن السلطان كان قد نذر دمه لأنه كان قد عبر به قوم من مصر في حالة الصلح فغدر بهم وقتلهم فناشدوه الصلح الذي بينه وبين المسلمين فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم. فجلس في دهليز الخيمة وعرضت الأسرى عليه وصار الناس يتقربون إليه بمن في أيديهم من الفرنج وهو يفرح بما فتح الله عليه. واستحضر الملك الجفري وأخاه البرنس أرناط، وناول السلطان الملك جفري شربة من خلاب وثلج فشرب منها وكان على أشد حالي من العطش، ثم ناولها للبرنس؛ وقال السلطان للترجمان: أنت الذي سقيته وإلا أنا فما سقيته؛ وكان من جميل عادات العرب وجميل أخلاقهم أن الأسير إذا أكل وشرب من مال من أسره أمن، ثم أمر بمسيرهم إلى موضع عينه فمضوا بهم إليه وأكلوا شيئا وعادوا بهم فاستحضرهم وأوقف البرنس بين يديه وقال: ها أنا أنتصر لمحمد منك، ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل فسل النيمجاه وضربه بها، فحل كتفه وتمم قتله من حضر؛ فلما رأى جفري ذلك قال: لم تجر عادة الملوك بقتل الملوك، فقال السلطان: هذا تجرأ على الأنبياء وجاوز الحد. ثم نزل على طبرية وسلم قلعتها ورحل طالبا عكا ونزل عليها وقاتلها وأخذها بكرة الخميس مستهل جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، واستنقذ من كان بها من الأسرى وأخذ ما كان فيها من الأموال. وتفرقت العساكر إلى بلاد الساحل فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة.
وسار يطلب تبنين فنزل عليها يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى فنصب عليها المناجيق وضايقها بالزحف، وكان فيها أبطال معدودون فقاتلوا قتالا شديدا ونصر الله السلطان عليهم، وتسلمها يوم الأحد ثامن عشره عنوة وأسر من فيها بعد القتل ورحل عنها إلى صيدا وتسلمها في غد يوم نزوله وهو يوم الأربعاء عشرون يوما من جمادى الأولى. وسار إلى بيروت ونازلها يوم الخميس تاسع عشرين جمادى الأولى وزحف عليها وتسلمها وتسلم أصحابه جبيل؛ ولما فرغ من هذا الجانب رأى قصد عسقلان ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها، فأتى عسقلان ونزل عليها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة وسلم في طريقه إليها مواضع كثيرة كالرملة والداروم، وقاتل عسقلان قتالا عظيما، ونصب عليها المناجيق وتسلمها يوم السبت سلخ جمادى الآخرة، وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبريل والنطرون بغير قتال. ثم إنه طلب القدس الشريف ونزل عليه يوم الأحد الخامس عشر شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة ونزل بالجانب الغربي، وقيل إن الذي كان في القدس من المقاتلة يزيدون على ستين ألفا خارجا عن النساء والصبيان، ثم انتقل إلى الجانب الشمالي ونصب المناجيق وضايق البلد، وأخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم، فأخذ أهل القدس في الأمان وتسلمه يوم الجمعة سابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة ليلة المعراج وكان فتحا عظيما شهده جماعة من أهل العلم، ومن أرباب الخرق والزهد وعالم كثير؛ وصلى الجمعة فيه يوم فتحه وكان الصلح وقع على أن أهل القدس يزنون نون عن كل رجل عشرين دينارا، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل صغير ذكر أو أنثى دينارا واحدا، فمن أحضر قطيعته نجى بنفسه وإلا أخذ أسيرا؛ وأفرج عن من كان بالقدس من الأسارى وكانوا خلقا عظيما. وأقام يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والفقراء والفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه. وكان ذلك يقارب مائتي ألف وعشرين ألف دينار، ولم يرحل عن القدس ومعه من المال شيء ورحل عن القدس يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان وأتى عكا ونظر في أمورها وتوجه إلى صور ونزل قريبا منها وسير لإحضار آلات الحصار فلما تكاملت عنده نزل عليها في ثاني عشر شهر رمضان وقاتلها وضايقها عظيما، واستدعى أسطول مصر وقاتلها في البر والبحر وخرج أسطول صور على أسطول مصر في الليل وأخذوا المقدم والرايس وخمس قطع للمسلمين وقتلوا خلقا كثيرا في سابع عشرين الشهر، فضاق صدر السلطان وكانت الأمطار قد توالت فرحل عن صور طلبا لراحة العساكر وحمل من آلات الحصار ما أمكن وحرقوا ما عجزوا عن حمله للوحل، وكان رحيله يوم الأحد ثاني ذي القعدة، وتفرقت العساكر وأقام هو وجماعة من خواصه بعكا إلى أن دخلت سنة أربع وثمانين وخمس مائة. وكان لما نزل على صور قد سير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة.
ثم إن السلطان نزل على كوكب في أوائل المحرم سنة أربع وثمانين ولم يكن معه من العسكر إلا القليل وكان حصنا حصينا وفيه الأقوات والرجال وعلم أنه لا يؤخذ إلا بعد شدائد فعاد إلى دمشق ودخلها في سادس عشر شهر جمادى الأولى، فأقام في دمشق خمسة أيام فبلغه أن الفرنج قصدوا جبيلا فخرج مسرعا، فلما علموا بحركته رجعوا، فسار نحو حصن الأكراد، وكان قد وصل إليه عماد الدين صاحب سنجار ومظفر الدين ابن زين الدين وعسكر الموصل، فوصل إلى أنطرسوس سادس جمادى الأولى، فلما رآها نزل عليها، وما لحق العسكر يضرب الخيام حتى تعلق المسلمون في الأسوار وأخذوها بالسيف وغنموا شيئا كثيرا وأحرقوها، وأقام عليها إلى رابع عشر جمادى الأولى، ثم سار يريد جبلة فوصل إليها، وما تم نزوله إلا أن ملكها وكان فيه مسلمون مقيمون وقاض يحكم فيهم، وسلمت القلعة بالأمان بعد قتال شديد في تاسع عشر جمادى الأولى وأقام عليها إلى الثالث والعشرين من الشهر، وسار إلى اللاذقية ونزل عليها الرابع والعشرين من جمادى الأولى، واشتد القتال إلى آخر النهار فأخذ البلد دون القلعتين، وغنم الناس شيئا كثيرا وجدوا في النقوب إلى أن كان النقب طوله ستين ذراعا وعرضه أربعة أذرع، فطلب الفرنج الأمان والصلح على سلامة نفوسهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم ما خلا الغلال والذخائر والسلاح وآلات الحرب، فأجابهم وأقام عليها إلى سابع عشرين جمادى الأولى؛ ورحل إلى صهيون ونزل عليها تاسع عشرين الشهر فأخذها يوم الجمعة ثاني جمادى الآخرة وقاتل القلعة قتالا عظيما، فطلب الفرنج الأمان بشرط أن يؤخذ من الرجل عشرة دنانير والمرأة خمسة دنانير ومن كل صغير ديناران، الذكر والأنثى سواء، ثم إنه أقام بهذه الجهة إلى أن أخذ عدة قلاع منها بلاطنس وغيرها. ثم رحل وأتى بكاس فنزل عليها سادس جمادى الآخرة، وقاتلوا قتالا عظيما، ثم يسر الله فتحها وقتل أكثر من بها وأسر الباقون وغنم الناس كثيرا، ثم إن قلعة الشغر طلب أهلها الأمان في ثالث عشر الشهر المذكور وسألوا المهلة ثلاثة أيام، وطلع العلم السلطاني إليها يوم الجمعة سادس عشر الشهر. ثم إن السلطان سار إلى برزية فنزل عليها يوم السبت رابع عشرين الشهر ثم أخذها عنوة يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر؛ ثم صار منها إلى دربساك ونزل عليها يوم الجمعة ثامن من رجب وتسلمها يوم الجمعة ثاني عشرين الشهر المذكور وأعطاها للأمير علم الدين سليمان بن جندر؛ وسار عنها ونزل على بغراس وتسلمها بعد القتال في ثاني شعبان. وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر، وكان شرط الصلح على أن يطلق كل أسير عندهم والصلح إلى سبعة أشهر فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد. ورحل السلطان فسأله ولده الظاهر غازي أن يجتاز به فأجابه ودخل حلب في حادي عشر شعبان وأقام بالقلعة ثلاثة أيام؛ وسار من حلب فاعترضه تقي الدين ابن أخيه وأصعده إلى قلعة حماه وعمل له طعاما وسماعا صوفيا، وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه جبلة واللاذقية، وسار على بعلبك ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيام يسيرة. ثم خرج منها يريد صفد فنزل عليها ولم يزل القتال يعمل إلى أن تسلمها بالأمان في سابع عشر شوال. وفي رابع شهر رمضان المذكور سلمت الكرك وسلمها نواب صاحبها وخلصوه بذلك من الأسر في نوبة حطين، كذا ذكره بعضهم. وقد تقدم أن السلطان قتل البرنس صاحب الكرك بيده. ثم إنه سار إلى كوكب وقاتلها قتالا شديدا والأمطار كثيرة والرياح عواصف، فطلب أهلها الأمان وتسلمها نصف القعدة؛ ونزل إلى الغور وأقام بالمخيم بقية الشهر وأعطى الناس دستورا وسار مع أخيه العادل لزيارة القدس وصلى به العيد. وتوجه في حادي عشر الحجة إلى عسقلان وأخذها من العادل وعوضه عنها بالكرك؛ ثم مر على الساحل يتفقد أحواله ودخل عكا فأقام بها معظم المحرم سنة خمس وثمانين وخمس مائة ورتب بها الأمير بهاء الدين قراقوش واليا وأمره بعمارة سورها، وعاد إلى دمشق فدخلها في مستهل صفر سنة خمس وثمانين وخمس مائة وأقام بها إلى شهر ربيع الأول، ثم خرج إلى شقيف أرنون ونزل إليه صاحب الشقيف بنفسه ولم يشعر به إلا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له وأكرمه واحترمه وأكل معه الطعام وذكر له أنه يعطيه المكان ويسلمه ويعطيه مكانا يسكنه بدمشق لأنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الفرنج وأن يعطيه إقطاعا يقوم به وبأهله فأجابه إلى ذلك. وفي أثناء شهر ربيع الأول جاء الخبر بتسليم الشوبك، وكان قد أقام عليه جمعا يحاصرونه مدة سنة إلى أن نفد زاد من كان فيه وسلموه بالأمان.
ثم ظهر للسلطان أن جميع ما قاله صاحب الشقيف كان خديعة، فرسم عليه؛ ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها يوم الاثنين ثالث عشر شهر رجب سنة خمس وثمانين؛ وفي ذلك اليوم سير صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة، وأتى عكا ودخلها بغتة ليقوي قلوب من بها، واستدعى العساكر فجاءته من كل ناحية، وكان العدو مقدار ألفي فارس وثلاثين ألف راجل، ثم تكاثر الفرنج واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا ومنعوا الداخل والخارج، فضاق لذلك صدر السلطان واجتهد في حفظ الطريق ففتحه، وجرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، وتأخر الناس إلى تل العياضية، وبها توفي الأمير حسام الدين طمان وكان من الشجعان؛ وقيل للسلطان إن الوخم قد عظم بمرج عكا وإن الموت قد فشا بالطائفتين فأنشد السلطان:
اقتلاني ومالكا | واقتلا مالكا معي |
ثم إن الفرنج جاءتهم الأمداد من داخل البحر واستظهروا على المسلمين بعكا، وكان فيهم الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكاري، وضايقوهم أشد مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد.
فنما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وخمس مائة خرج رجل عوام ومعه كتب من المسلمين يذكرون أنهم قد أيقنوا بالهلاك ومتى أخذ البلد عنوة ضربت رقابهم، وأنهم صالحوا الفرنج على أن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدد والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار وخمس مائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جهتهم وصليب الصلبوت، على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونسائهم سالمين، ويضمنوا للمركيس لأنه كان الواسطة أربعة آلاف دينار. فلما وقف السلطان على ذلك عظم ذلك عليه وأنكره وشاور أهل الرأي وتقسم فكره، فهو في ذلك وإذا أعلام الفرنج قد ارتفعت وصلبانه وذلك ظهيرة يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، وصاح الفرنج صيحة واحدة وعظمت المصيبة على المسلمين ووقع البكاء والعويل؛ ثم إن الفرنج، خرجوا من عكا وقصدوا عسقلان والسلطان قبالتهم في عسكره ووصلوا إلى أرسوف، فكان بينهم قتال عظيم، ونال المسلمين منهم وهن عظيم. فأتى السلطان الرملة. وشاور السلطان أهل مشورته في أمر عسقلان وهل يخربها، فاتفقوا على أن يكون الملك العادل قبالة العدو ويتوجه هو بنفسه ويخربها، وأن حفظ القدس أولى. فسار إلى عسقلان ثامن عشر شعبان. قال القاضي ابن شداد: وقد تحدث معي في خراب عسقلان بعد أن تحدث مع ولده الأفضل وقال: لئن أفقد ولدي جميعهم أحب إلي من أن أهدم منها حجرأ ولكن إذا قضى الله تعالى ذلك وكان فيه، مصلحة المسلمين فما الحيلة في ذلك. فوقع الخراب في عسقلان في تاسع عشر شهر شعبان، وقسم الخراب على الناس وحزن الناس على خراب عسقلان حزنا عظيما، وعظم عويل أهله لتشتتهم، وشرعوا في بيع ما لا يقدرون على حمله، فباعوا ما يساوي عشرة آلاف بألف، وابتيع اثنا عشر طير دجاج بدرهم؛ وخرج الناس بأهلهم إلى المخيم. ووصل من جهة العادل من أخبر أن الفرنج تحدثوا معه في الصلح وطلبوا جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان ذلك مصلحة، لما علم من نفس الناس وضجرهم من القتال وكثرة ما عليهم من الديون؛ وأذن للعادل في ذلك وفوض الأمر إلى رأيه. وأصبح يوم الجمعة عشرين رمضان وهو مصر على الخراب وأباح الناس ما في الهري وأحرق البلد. وأتى الرملة وخربها وخرب قلعتها، وتأخر بالناس إلى جهة بلد الخليل، عليه السلام، وخرب قلعة النطرون. وطلب الانكتار من العادل، بعد اجتماعهما على مودة، الاجتماع بالسلطان، فقال السلطان: إذا وقع الصلح اجتمعنا. ثم إن الصلح تم وكان يوم الأربعاء ثاني عشرين شعبان سنة ثمان وثمانين وخمس مائة؛ ونادى المنادي أن البلاد الإسلامية والنصرانية واحدة في الأمن والمسالمة من شاء من كل طائفة يتردد إلى بلاد الطائفة الأخرى من غير خوف ولا محذور؛ وكان يوما مشهودا حصل فيه السرور العظيم للفريقين، وقد علم الله أن ذلك بغير رضى السلطان وكانت المصلحة في ذلك لأنه توفي عقيب ذلك. ثم إنه أعطى النجدات دستورا إلى بلادهم. وعزم السلطان على الحج وأقام بالقدس يتأهب للمسير إلى مصر؛ وأقام لعمارة البيمارستان والمدرسة، ثم تفقد البلاد والقلاع البحرية ودخل دمشق بكرة الأربعاء سادس عشر شوال، وفيها أولاده الأفضل والظاهر والظافر المشمر، وأولاده الصغار. وجلس يوم الخميس سابع عشرين شوال بكرة النهار وأنشده الشعراء وبل الناس شوقهم منه ولم يتخلف أحد من الخاص ولا العام عنه، وكشف مظالم الرعايا وأنعم على الناس. ولما كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة عمل الأفضل للظاهر دعوة وحضرها السلطان واحتفل الأفضل بها وكان يوما مشهودا. وعاد العادل بعدما تصفح أحوال الكرك بقصد البلاد الفراتية، وخرج السلطان إلى لقائه ودخلا حادي عشر الحجة إلى دمشق. وانشرح السلطان بدمشق وتفرج بها وتصيد وروح بدنه وقلبه من الجهاد والسهر والتعب ونسي عزمه إلى مصر. ثم إنه ركب يتلقى الحاج خامس عشر صفر سنة تسع وثمانين وكان ذلك آخر ركوبه. فلما كان ليلة السبت وجد كسلا وما انتصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية، وفصد في الرابع واشتد مرضه وقلت رطوبات بدنه، وكان يغلب اليبس على مزاجه؛ واشتد المرض في السابع والثامن وحدث له غشي في التاسع وامتنع من المشروب، وحقن في العاشر دفعتين. ثم إنه اشتد به المرض، وشرع الأفضل في تحليف الناس له. وتوفي صلاة الصبح يوم الأربعاء سابع وعشرين صفر سنة تسع وثمانين وخمس مائة، كما تقدم. قال ابن الأثير عز الدين: ومن عجيب ما يحكى من التطير أن السلطان لما برز من القاهرة أقام لتجتمع العساكر وعنده الأعيان من الدولة والعلماء والأدباء، وأخذ كل واحد يقول شيئا في الوداع وفي الفراق، وفي الحاضرين معلم أولاده فأخرج رأسه من بين الحاضرين وأنشد:
تمتع من شميم عرار نجد | فما بعد العشية من عرار |
فانقبض السلطان والناس وتطيروا من ذلك. وكان الأمر كذلك لم يعد إلى مصر بعد واشتغل بالبلاد الشرقية وفتوح القدس والساحل، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وكتب القاضي الفاضل إلى ولده الظاهر غازي يعزيه بطاقة مضمونها: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} {إن زلزلة الساعة شيء عظيم}. كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر، أحسن الله عزاءه وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف، في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا، وقد حفرت الدموع المحاجر، وقد بلغت القلوب الحناجر؛ وقد ودعت أباك ومخدومي وداعا لا تلاقي بعده، وقلبت وجهه عنك وعني، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة، ضعيف القوة، راضيا عن الله عز وجل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المعدة ما لم يدفع البلاء ولا يملك رد القضاء؛ (وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف). وأما الوصايا فلا تحتاج إليها، والآراء فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم؛ وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته، وهو الهول العظيم ؛ والسلام.
ونقش على صندوق قبره من كلام القاضي الفاضل: (اللهم فارض عن تلك الروح، وافتح له أبواب الجنة وهي آخر ما كان يرجوه من الفتوح). ولما كان الفاضل عنده في هذه المرضة قال له: يا خوند أو يا مولانا: (وأرى أن تدفن سيفك معك فإنه عكازك إلى الجنة).
ذكر فتوحاته: الديار المصرية، فإنه فتحها وطهرها من الرفض وتلك المقالات الردية؛ واليمن ودمشق وحمص وحماه والمعرة وكفرطاب وبارين ومنبج وعزاز وحلب والموصل وسنجار والرقة وجعبر والرحبة والخابور ونصيبين والرها وميافارقين وسروج والكرك والشوبك والقدس وغزة وعسقلان والرملة وطبرية وكوكب وصفد والطور وعكا وصيدا وبيروت ونابلس والداروم وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وتبنين وهونين وجبيل وحصن الأكراد وانطرسوس واللاذقية وصهيون وبلاطنس وشغر وبكاس وبرزيه وبغراس ودرب ساك وأنطاكية وحارم وخلاط.
وقال وجيه الدين بن المظفر منصور بن سليم في (تاريخ إسكندرية): وبعث صلاح الدين ابن أخيه تقي الدين إلى المغرب ففتح طرابلس وقابس وأكثر بلاد أفريقية؛ وبعث شمس الدولة إلى اليمن ففتح زبيد وعدن وتعز والجند، انتهى.
وأما أوقافه، وإن كانت غير مشهورة، فمنها: المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي، رضي الله عنه؛ والمدرسة التي بجوار مشهد الحسين بن علي، رضي الله عنهما، بالقاهرة؛ ودار سعيد السعدا خادم المصريين وقفها خانقاه؛ ودار عباس والعادل بن سلار، مدرسة للحنفية وهي السيوفية؛ ومدرسة زين التجار بمصر؛ وبنى بالقاهرة داخل القصر بيمارستانا؛ وله بالقدس مدرسة؛ وله بمصر مدرسة للمالكية؛ ووقف بقرية حطين خانقاه؛ ووقف على الغزالية بالجامع الأموي بدمشق؛ ومدرسة بجانب البيمارستان النوري بدمشق تعرف بالصلاحية ولا وقف لها؛ وله بدمشق مدرسة للمالكية؛ وهو الذي عمر قلعة الجبل بالديار المصرية؛وهو الذي أدار السور على القاهرة ووصله بمصر بتولي بهاء الدين قراقوش. وقيل إنه أول ما ولي الوزارة بمصر للعاضد جلس في الدار التي هي الآن خانقاه بيبرس المظفر.
وكتب القاضي الفاضل، رحمه الله، مرسوما بإسقاط مكوس مصر والقاهرة عن السلطان صلاح الدين، قدس الله روحه، وجملة ذلك في كل سنة مائة ألف دينار؛ تفصيل ذلك: مكس البهار وعمالته ثلاثة وثلاثون ألفا وثلاث مائة وأربعة وستون دينارا؛ مكس البضائع والقوافل وعمالتها تسعة آلاف وثلاث مائة وخمسون دينارا؛ منفلت الصناعة عن مكس البز الوارد إليها والنحاس والقصدير والمرجان والمفاضلات خمسة آلاف ومائة وثلاثة وتسعون دينارا؛ الصادر عن الصناعة بمصر ستة آلاف وست مائة وستة وستون دينارا؛ سمسرة التمر ثلاثة مائة دينار؛ الفندق بالمنية عن مكس البضائع ثمان مائة وستة وخمسون دينارا؛ رسوم دار القند ثلاثة آلاف ومائة وثمانية دنانير؛ رسوم الملح والخشب الطويل ست مائة وستة وسبعون دينارا؛ رسوم القلب المنسوبة إلى بلبيس، والبوري المنسوب إلى قاقوس مائة دينار؛ رسوم التفتيش بالصناعة عن البهار وغيره مائتان وسبعة عشر دينارا؛ ختمة أرمنت عن الوارد إليها سبعة وستون دينارا؛ فندق القطن ألفا دينار؛ سوق الغنم بالقاهرة وبمصر والسمسرة وعبور الأغنام بالجيزة ثلاثة آلاف وثلاث مائة وأحد عشر دينارا؛ عبور الأغنام والكتان والأبقار بباب القنطرة ألف ومائتا دينار؛ واجب ما يرد من الكتان الحطب إلى الصناعة مائتا دينار؛ رسوم واجب الغلات كالحبوب الواردة إلى الصناعة والمقس والمنية والجسر والتبانين ومقالب جزيرة الذهب وطموه وبر الدوح ستة آلاف دينار؛ مكس ما يرد إلى الصناعة من الأغنام ستة وثلاثون دينارا؛ الأغنام البيتوتية اثنا عشر دينارا؛ العرصة والسرسناوي بالجيزة ومكس الأغنام مائة وتسعون دينارا؛ منفلت الفيوم عما يرد من الكتان من القبلة من البضائع الواردة من الفيوم وغيره أربعة آلاف دينار ومائة وستون دينارا؛ مكس الورق المجلوب إلى الصناعة ورسم التفتيش مائتا دينار؛ الجفنة بساحل الغلة والأقوات والرسائل سبع مائة وثمانية وستون دينارا؛ فلت العريف بالصناعة الصادرة مائتا دينار؛ دار التفاح والرطب بمصر والعرصة بالقاهرة ألف وسبع مائة دينار؛ رسم ابن المليجي مائتا دينار؛ دار الجبن ألف دينار؛ مشارفة الجزارين مائتان وأربعون دينارا واجب الحلي الوارد من الوجه البحري والقطن ألف وعشرون دينارا؛ رسم سمسرة الصفا ألف ومائتا دينار؛ منفلت الصعيد مائة وأحد وستون دينارا؛ خاتم الشرب والدبيقي ألف وخمس مائة دينار؛ مكس الصوف مائتا دينار؛ نصف الموردة بساحل المقس أربعة عشر دينار؛ دكة السمسار ثلاث مائة وخمسون دينارا، منفلت التعريف بالصناعة وجملة البهار والبضائع مائتان وستة عشر دينارا؛ الحلفاء الواردة من القبلة مائة وخمسة وثلاثون دينارا؛ الوتد والشرقية والطعم بدار التفاح ومنفلت القبلة بالجسر والتبانين خمسة وثلاثون دينارا؛ رسوم الصفا والحمراء ورسوم دار الكتان ستون دينارا؛ حماية الغلات بالمقس ودار الجبن مائة وأربعون دينارا؛ الحلفاء الواردة على الجسر ومعدية المقياس مائة دينار؛ خمس البرنية بالجيزة عشرون دينارا؛ تل التعريف بالصناعة ثمانية وعشرون دينارا؛ منفلت الغلات بمعدية جزيرة الذهب عشرة دنانير؛ رسوم الحمام بساحل الغلة خمس مائة وأربعة وثلاثون دينارا؛ واجب الحناء الوارد في البر ثمان مائة دينار، واجب الحلفاء والقضاب ثلاثة وستون دينارا؛ مكس ما يرد من البضائع إلى المنية مائة وأربعة وثمانون دينارا؛ مسلخة شطنوف البرانية مائتا دينار؛ سوق السكريين خمسون دينارا؛ رسوم سمة الجمل بالشارع وسوق وردان تسعة عشر دينارا؛ واجب الفحم الوارد إلى القاهرة عشرة دنانير، معدية الجسر بالجيزة مائة وعشرين دينارا؛ سمة البقري أربعون دينارا؛ السمة بدار الدباغ تسعة عشر دينارا؛ سمسرة الجبس الجيوشي ثلاث مائة واثنا عشر دينارا؛ دكان الدهن ومعصرة الشيرج والخل الحامض بالقاهرة خمس مائة دينار؛ الخل الحامض وما معه أربعمائة وخمس دنانير؛ بيوت الغزل والمصطبة ثلاث مائة وخمسون دينارا؛ وذبائح الدلالة ثلاث مائة دينار؛ سمسرة الكتان ثلاث مائة دينار؛ رسوم حماية الصناعيين أربع مائة دينار؛ مربعة العسل مائتان واثنان وثلاثون دينارا؛ معادي جزيرة الذهب وغيرها ثلاث مائة دينار؛ خاتم الشمع بالقاهرة ثلاث مائة وستون دينارا؛ زريبة الذبيحة سبع مائة دينار؛ معديتا المقياس وانبابة مائتا دينار؛ حمولة السلجم ثلاث مائة وثلاثون دينارا؛ مكس دكة الدباغ ثمان مائة دينار؛ سوق الرقيق خمس مائة دينار؛ معمل الطبري مائتان وأربعون دينارا؛ سوق منبوبة ثمانمائة وأربعة وستون دينارا؛ ذبائح الضأن بالجيزة ورسوم ساحل الصنط عشرة دنانير؛ نخ السمك خمسة دنانير؛ تنور الشوي مائتا دينار؛ نصف الرطل من مطابخ السكر مائة وخمسة وثلاثون دينارا؛ خاتم الحلي مائة وعشرون دينارا؛ سوق الدواب بالقاهرة ومصر أربع مائة دينار؛ سوق الجمال مائتان وخمسون دينارا؛ قبان الحناء ثلاثون دينارا؛ واجب طاقات الأدم ستة وثلاثون دينارا؛ منفلت الخام بالشاشيين ثلاثة وثلاثون دينارا؛ أنولة القصار والجير أربعون دينارا؛ أعوان المراكب المنشأة والخضر والحلفا ستة وثلاثون دينارا؛ بيوت الفروج ثلاثون دينارا؛ الشعر والطارات أربعة دنانير؛ رسوم الصبغ والحرير ثلاث مائة وأربعة وثلاثون دينارا؛ وزن الطفل مائة وأربعون دينار؛ معمل المزر أربعة وثمانون دينارا؛ الفاخوريات بالقاهرة ومصر مائتان وستة وثلاثون دينارا.
وقال أبو شامة في (الروضتين)، نقلا عن ابن أبي طي إن الذي أسقطه صلاح الدين، وإن الذي سامح به لعدة سنين متقدمة آخرها سنة أربع وستين وخمس مائة مبلغه نيف عن ألف ألف دينار وألفي ألف أردب، سامح بذلك وأبطله من الدواوين وأسقطه من المعاملين.
ومن كرمه، قدس الله روحه، أنة كان يهب البلاد فضلا عن الأموال؛ وجاد بآمد على ابن قرا رسلان؛ وكان يعطي في وقت الضائقة كما يعطي في وقت السعة. وحضره وفود بيت المقدس ولم يكن في خزائنه ما يعطيهم فباع قرية من قرى بيت المال وقضى الثمن عليهم. وكان نواب خزائنه يخفون عنه كثيرا من المال خوفا أن يفرقه. وقال مرة (يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كمن ينظر إلى التراب)، وكأنه أراد بذلك نفسه؛ ولم يقل يوما أعطينا فلانا ولا زدنا فلانا. وحصر ما وهبه بمرج عكا لا غير من الخيل فكان عشرة آلاف فرس. ومن شجاعته أنه رابط العدو المدة المديدة بجمع يتضاعف عليه عدد أعدائه وكان يشارف بنفسه تعبئة الصفوف ويخترق العساكر ميمنة وميسرة ومعه غلام واحد لا غير ومعه جنيب له، وقرىء عليه جزء وحديث بين الصفين؛ وقال: في نفسي أنه متى يسر الله لي فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت وودعت وركبت البحر إلى جزائره اتتبع الكفار فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.
وقيل إنه كان بحماه فكتب إلى أخيه العادل:
ولما جرى العاصي وطيع أدمعي | لبعدك قال الناس أيهما النهر |
وكان الفاضل حاضرا فقال:
ولما بدا وجه ابن أيوب مشرقا | مع البدر قال الناس أيهما البدر |
ومدحه، رحمه الله تعالى، شعراء عصره؛ ومن أحسن ما مدح به قصيدة ابن سناء الملك لما فتح حلب، وهي من أحسن شعره أيضا:
بدولة الترك عزت ملة العرب | وبابن أيوب ذلت شيعة الصلب |
وفي زمان ابن أيوب غدت حلب | من أرض مصر وعادت مصر من حلب |
ولابن أيوب دانت كل مملكة | بالصفح والصلح أو بالحرب والحرب |
مظفر النصر مبعوث بهمته | إلى العزائم مدلول على الغلب |
والدهر بالقدر المحتوم يخدمه | والأرض بالخلق والأفلاك بالشهب |
ويجتلي الخلق من راياته أبدا | مبيضة النصر من مصفرة العذب |
إن العواصم كانت أي عاصمة | معصومة بتعاليها عن الرتب |
ما دار قط عليها دور دائرة | كلا ولا واصلتها نوبة النوب |
لو رامها الدهر لم يظفر ببغيته | ولو رماها بقوس الأفق لم يصب |
ولو أتى أسد الأبراج منتصرا | خارت قوائمه عنها ولم يثب |
جليسه النجم في أعلى منازله | وطالما غاب عنها وهي لم تغب |
تلقى إذا عطشت والبرق أرشية | كواكب الدلو في بئر من السحب |
كل القلاع تروم السحب في صعد | إلا العواصم تبغي السحب في صبب |
حتى أتى من منال النجم مطلبه | يا طالب النجم قد أوغلت في الطلب |
من لو أبى الفلك الدوار طاعته | لصير الرأس منه موضع الذنب |
أتى إليها يقود البحر ملتطما | والبيض كالموج والبيضات كالحبب |
تبدو الفوارس فيها في سوابغها | بين النقيضين من ماء ومن لهب |
مستلئمين ولولا أنهم حفظوا | عوائد الحرب لاستغنوا عن اليلب |
جمالهم في مغازيهم إذا قفلوا | حمالة السبي لا حمالة الحطب |
فطاف منها بركن لا يقبله | إلا أسنة أطراف القنا السلب |
وحل من حولها الأقصى على فلك | ودار من برجها الأعلى على قطب |
ومانعته كمعشوق تمتعه | أشهى من الشهد أو أحلى من الضرب |
فمر عنها بلا غيظ ولا حنق | وسار عنها بلا حقد ولا غضب |
تطوي البلاد وأهليها كتائبه | طيا كما طوت الكتاب للكتب |
وافى الفرات فألقى فيه ذا لجب | يظل يهزأ من تياره اللجب |
رمت به الجرد في التيار أنفسها | فعومها فيه كالتقريب والخبب |
لم ترض بالسفن أن تغدو حواملها | فعزها ليس يرضي ذلة الخشب |
وكان علمها قطع الفرات به | تعلم العوم في البحر الدم السرب |
وجاوزته وأبقى من فواقعه | درا ترصع فوق العرف واللبب |
إلى بلاد أجابت قبل أن دعيت | للخاطبين ولولا الخوف لم تجب |
لو لم تجب يوسفا من قبل دعوته | لعاد عامرها كالجوسق الخرب |
خافت وخاف وفر المالكون لها | فالمدن في رهب والقوم في حرب |
ثم استجابت فلا حصن بممتنع | منها عليه ولا ملك بمحتجب |
وأصبحوا منه في هم وصبحهم | وهم سكارى بكأس اللهو والطرب |
تفرغوا لنعيم العيش واشتغلوا | عن الثغور بلثم الثغر والشنب |
أرض الجزيرة لم تظفر ممالكها | بمالك فطن أو سائس درب |
ممالك لم يدبرها مدبرها | إلا برأي خصي أو بعقل صبي |
حتى أتاها صلاح الدين فانصلحت | من الفساد كما صحت من الوصب |
واستعمل الجد فيها غير مكترث | بالجد حتى كأن الجد كاللعب |
وقد حواها وأعطى بعضها هبة | فهو الذي يهب الدنيا ولم يهب |
يعطي الذي أخذت منه ممالكه | وقد يمن على المسلوب بالسلب |
ويمنح المدن في الجدوى لسائله | كما ترفع في الجدوى عن الذهب |
ومذ رأت صده عن ربعها حلب | ووصله لبلاد حلوة الحلب |
غارت عليه ومدت كف مفتقر | منها إليه وأبدت وجه مكتئب |
واستعطفته فوافتها عواطفه | وأكتب الصلح إذ نادته عن كثب |
وحل منها بأفق غير منخفض | للصاعدين وبرج غير منقلب |
فتح الفتوح بلامين وصاحبه | ملك الملوك ومولاها بلا كذب |
ومعجز كم أتانا منه مشبهه | فصار لا عجبا من فضله العجب |
تهن بالفتح يا أولى الأنام به | فالفتح إرثك عن آبائك النجب |
فافخر ففتحك ذا فخر لمفتخر | ذخر لمذخر كسب لمكتسب |
بك العواصم طابت بعدما خبثت | بمالكيها ولولا أنت لم تطب |
فليت كل صباح ذر شارقه | (فداء ليل فتى الفتيان في حلب) |
إني أحب بلادا أنت ساكنها | وساكنيها وليسوا من ذوي نسب |
إلا لأنك قد أصبحت مالكها | دون الأنام وهل حب بلا سبب |
فجود كفك ذخري في يدي ويدي | وحب بيتك إرث عن أبي وأبي |
ألهى مديحك شعري عن تغزله | فجاء مقتضبا في إثر مقتضب |
فلم أقل فيه لا إن الصبابة لي | يوم الرحيل ولا إن المليحة بي |
ورثاه لما مات، رحمه الله، جماعة منهم ابن الساعاتي، كتبها للملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يقول له:
لئن كان ليل الحزن عمت غياهبه | فقد ناب عن بدر التمام كواكبه |
وإن كان ليث الغاب أخلى عرينه | وغاب، فهذا شبله وكتائبه |
له لبد: ماذيه ورماحه | وبيض ظباه: غابه ومخالبه |
وإن فارق الغمد المحلى حسامه | فهذا حسام لا تفل مضاربه |
وإن أقفر الفسطاط منه فإنه | منازله مأهولة وملاعبه |
أقام عماد الدين رفع بنائه | فما ضل مسعاه ولا ذل جانبه |
يرد العيون الشوس عنه كليلة | من الحق نور ليس يعدوه لازبه |
كأن شعاع الشمس يلقاك دونه | ولم تر ملكا حاجب الشمس حاجبه |
ولا بد من شكوى إلى الدهر محضة | وإن خاب من يشكوه أو من يعاتبه |
هوى جبل الدين الحنيف وزعزعت | بريح المنايا العاصفات مناكبه |
وأغمد سيف الله من كل مارق | وسيمت وكانت محرمات قواضبه |
وما ابتسم البرق السماوي بعده | ولكنه حلت عليه ذوائبه |
وما كان عقد المزن إلا منظما | ولكن لنار اللوعة انهل ذائبه |
وما اهتز عطف الدهر إلا كآبة | غداة ثوى عنه أخوه وصاحبه |
لمن تلبس الأطواق ورق خواطب | وقد طويت عن كل أرض سحائبه |
حدتني المنايا أن أقوم أمامه | يخاطبني إحسانه وأخاطبه |
لو أن جهادا مفصحا عن شجونه | شجاك من البيت المقدس نادبه |
لقد أظلمت أبراجه بعد شمسه | نعم، وانحنت حزنا عليه محاربه |
عجبت لناعيه تخب جياده | وتنجو على طي الموامي ركائبه |
وينطق في النادي فصيحا لسانه | وقد رجعت عنه خلاء حقائبه |
ومازلت للإشفاق إذ استعيده | أغالطه عن قوله وأجاذبه |
وأستفسر الألفاظ وهي تسوؤني | رجاء حديث يخلف الظن كاذبه |
لعل مقالا آخرا مثل أول | تغد به فرسانه ونجائبه |
أخادع دمعي راجيا وأكفه | بهدب جفوني جاريا وأغالبه |
تذكر نعمى سافرات وجوهها | إلي وجود باسمات مواهبه |
فلما بدا من تحت من في ضريحه | وجمت وقلبي بالوجيب يجاوبه |
ظللت كأن السيف غنى ذبابه | وقد رقصت أحشاؤه وترائبه |
وما هو إلا البين زمت ركابه | وطارت به في الخافقين نواعبه |
وما الليل في الآفاق إلا حداده | وما هذه الأيام إلا أشايبه |
تمادت لديه راجفات رماحه | وناحت عليه صاهلات سلاهبه |
وشقت جيوب الفضل وجدا وأصبحت | أرامل منه عينه وكواعبه |
ونامت عيون الرعف بعد سهادها | فما راعها من وابل النبل خاضبه |
كأن غدير أسر كل مفاضة | تجعد وهنا بالنسيم جوانبه |
فلله يوما أسمع الصم خطبه | وأفهم حتى أفحم الخلق خاطبه |
وما خلت أن الشمس تكسفها يد | ولا أن نجم الأفق يخفيه طالبه |
خبا بعدما عم الفضاء شهابه | ونور حتى ظلمة الظلم ثاقبه |
ولم يك فينا يوسف غير يوسف | لكف زمان موبقات مساغبه |
وقد كان لا يعصى وإن شق أمره | مضاء ولا تحصى ثناء مناقبه |
فكم أجل ناء قضاه حسامه | ورق كريم جود كفيه واهبه |
وجيش حشاه السمهرية والظبا | فخطيه تردي الأسود ثعالبه |
لقد جل قدر الموت بعد خموله | فكل منيع باذخ فهو غاضبه |
أبعد ابن أيوب يصاغ مديحه | وحاشاك أو عيش تساغ مشاربه |
كأن لم يعده عن كماة عداته | وقد دميت أنيابه ونوائبه |
ولا سار سير العبد تحت ركابه | إلى كل ذي ملك تدب عقاربه |
عجبت له لم تغنه سطواته | ولم تثنه آراؤه وتجاربه |
ويغتاله المقدار لا هو دافع | بوادره عنه ولا ذاك هائبه |
وكيف أطاعته عوائد جهله | إلى أن تخطى سيفه وهو نائبه |
لها لذ طعم الشكل من كل هالك | فما شاء فلتجلب عليه مصائبه |
فيا مالك الأملاك صبرا وعزمة | فبالصبر يدنو من رجائك عازبه |
تنبه لها عظمى ولست بهاجع | فإن جواد الحزم ما أنت راكبه |
ومن كان في المسعى أبه دليله | تدانت له أسبابه وسباسبه |
فرب ملم فادح جل أمره | فساءت مباديه وسرت عواقبه |
أيسلب خير الناس حيا وميتا | وينجو سليما من سيوفك سالبه |
وكيف تقر الهام في سكناتها | وهذا سنام المجد قد جب غاربه |
ثوى بين أكتاف الشآم وأصبحت | مشارقه مهجورة ومغاربه |
لقد قر زلزال الفرنجة بعده | ونامت عيون كن قبل تراقبه |
وقد كانت الأرض البسيطة داره | وأملاكها عيدانه ومقانبه |
كأن لم يحل جنح الدجى بعجاجه | ولم يحل يوما كاسف اللون شاحبه |
ولم تشك عين الشمس من هبواته | وقد خفقت راياته ومناكبه |
ولا جر في أرجائها ذيل جيشه | ومن فوق تيجان الملوك مساحبه |
لدان له من كل مصر شريفه | وذل به كل حي مصاعبه |
وهام إلى أعلامه كل معقل | كما هام وجدا بالمحب حبائبه |
ولو لم يشب للهول صفح حسامه | لما غازل الأجفان والدم خاضبه |
هو البحر حدث عنه غير مكذب | فما تنقضي آياته وعجائبه |
ولم يك في أوصافه ما يعيبه | سوى أنه خلق إذا جد عائبه |
فدام لهذا الملك منك عزيزه | فغير أبيك الناصر الملك غائبه |
فليس الورى إلا مطيعا تثيبه | بحسن بلاء أو عصيا تواثبه |
وعهدك هامات الأعادي طروسه | وناقطة الخطي والسيف كاتبه |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 29- ص: 0
يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان الدويني الأصل التكريتي المولد
ودوين بضم الدال وكسر الواو بعدها آخر الحروف ساكنة ثم نون
بطرف أذربيجان من جهة أران أهلها أكراد
وهو السلطان الملك الناصر التقى النقي العالم الذكي العادل الزكي فاتح الفتوح بركة أهل زمانه صلاح الدين المظفر ابن الأمير الملك الأفضل نجم الدين
ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة بتكريت إذ أبوه واليها
وسمع الحديث من الحافظ أبي طاهر السلفي وأبي طاهر بن عوف والشيخ قطب الدين النيسابوري وعبد الله بن بري النحوي وجماعة
روى عنه يونس بن محمد الفارقي والعماد الكاتب وغيرهما
وكان فقيها يقال إنه كان يحفظ القرآن والتنبيه في الفقه والحماسة في الشعر
وملك البلاد ودانت له العباد وأحبه الخلق ونصر الإسلام وغزا الفرنج وكسرهم مرات وفتح المدن الكبار وأقام في السلطنة أربعا وعشرين سنة يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله
وكان ملكا عظيما شجاعا مهيبا عادلا يملأ العيون روعة والقلوب محبة قريبا بعيدا عابدا قانتا لله لا تأخذه لومة لائم مجلسه يجمع الفضلاء والفقراء وأصحابه كأنما هم على قلب رجل واحد محبة فيه واعتقادا وطواعية
ولقد صنف في سيرته القاضي ابن شداد كتابا مستقلا وصنف ابن واصل كتابا في سيرته وسيرة أهل بيته وصنف أبو شامة في سيرته وسيرة الملك نور الدين وصنف العماد الكاتب في فتوحاته وصنف آخرون في شأنه وما عسى الذي نورده بعد ما أطال هؤلاء ثم اعترفوا بالقصور والتقصير في حق هذا السيد الكبير ولنأت بما فيه مقنع وبلاغ
ذكر ابتداء أمره قبل ملكه
قدم به أبوه إلى دمشق وهو رضيع فناب أبو ببعلبك لما أخذها أتابك زنكي في سنة ثلاث وثلاثين وقيل إن أباه خرج من تكريت في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين فتطيروا به وقال بعضهم لعل فيه الخيرة وأنتم لا تعلمون فكان كذلك ثم اتصل والده نجم الدين أيوب بالملك نور الدين الشهيد فخدمه هو وولده صلاح الدين هذا خدمة بالغة وكان أسد الدين شيركوه أخو نجم الدين عند نور الدين قبلهما وكان أرفع عنده منهما منزلة فإنه كان مقدم جيوشه فلما تخلخل حال المصريين الفاطميين وضعفوا عن مقاواة الفرنج وكادت الفرنج تملك القاهرة وملكوا بلبيس وصيروا لهم بالقاهرة شحنة يحكم وضعف أمر الإسلام بديار مصر جدا وكان الفاطميون قد بلغوا في سوء السيرة إلى الحد المعروف وأفتى علماء الإسلام بإباحة دمائهم ووجوب قتالهم لما هم عليه من الزندقة والإلحاد ووصل شاور وزير العاضد خليفة مصر إلى دمشق إلى نور الدين يستنجده ثم عاد إلى مصر فجهز نور الدين إليهم عسكرا أمر عليهم أسد الدين شيركوه وجهز معه أخاه نجم الدين وابن أخيه صلاح الدين فدخلو مصر آمنين وقتلوا شاور وولى شيركوه وزارة الخليفة العاضد إلى أن مات بعد نيف وسبعين يوما فولى بعده صلاح الدين الوزارة وهي في ذلك الوقت كالسلطنة فاستقل بسلطنة مصر ولقب بالملك الناصر لقبه بذلك الخليفة العاضد في سنة أربع وستين وصار للعاضد معه الاسم فقط وصار صلاح الدين هو السلطان فاستمر إلى أول سنة سبع وستين فقطع صلاح الدين الخطبة للعاضد وخطب للمستضيء خليفة بغداد واستقل بالملك ومات العاضد وقبض صلاح الدين على الفاطميين بأسرهم واستولى على القصر وخزائنه وهي أموال لا تحصى ولا تعرف لملك قبل الفاطميين
وكان صلاح الدين من حين اتصل بخدمة نور الدين قد طلق اللذات وكان محببا إليه
خفيفا على قلبه ولما افتتح مع عمه مصر ثم استقل بالوزارة عظمت سطوته واتفقت له وقعة مع السودان سنة بضع وستين وكانوا نحو مئتي ألف فنصر عليهم وقتل أكثرهم وهرب الباقون وابنتي سور مصر والقاهرة على يد قراقوش واستفحل أمره جدا إلى أن أباد بيت الفاطميين وأهان الرفض وغيرهم من بدع المبتدعين
ذكر يسير من أخباره بعد استقلاله بالسلطنة وموت العاضد
وقد كان لما قبض على الفاطميين أخذ في نصرة السنة وإشاعة الحق وإهانة المبتدعة والقبض على الفاطمية والانتقام من الروافض وكانوا بمصر كثيرين ثم تجردت همته إلى الفرنج وغزوهم وكان من أمره معهم ما ضاقت به التواريخ وكان من أول فتوحاته برقة ونفوسة افتتحها على يد أخيه شمس الدولة في سنة ثمان وستين ثم في سنة تسع افتتح اليمن وقبض على المتغلب عليها عبد النبي بن مهدي ثم في سنة سبعين سار من مصر إلى دمشق بعد وفاة نور الدين مظهرا أنه يقيم نفسه أتابكا لولد نور الدين لكونه صبيا فدخلها يلاطفه ونزل بالبلد بدار أبيه المعروفة بدار العقيقي التي هي اليوم المدرسة الظاهرية ثم تسلم القلعة وصعد إليها وأخرج الصبي من الملك وصار هو سلطان مصر والشام واليمن والحجاز ثم سار قاصدا حماة وحمص ولم يشتغل بأخذ قلعتها
ثم نازل حلب وهي الوقعة الأولى وفيها سير السلطان غازي بن مودود أخاه عز الدين مسعودا في جيش كبير لحربه وكان بها ولد نور الدين فترحل عن حلب ونزل على قلعة حمص فأخذها وهو مع ذلك يظهر حسن المقاصد وأنه قاصد إعزاز الدين وإنقاد البلاد من الفرنج وتسهيل أمور المسلمين
وجاء عز الدين مسعود فأخذ معه عسكر حلب وصار إلى قرون حماة وأخذ صلاح الدين يراسلهم دواما للصلح كيلا يقع سيف بين المسلمين وهم يراسلونه وهو يظنون أنه يطلب الصلح لضعفه عنهم وهم لا يعرفون ما عليه الرجل من حسن النية وحقق عندهم ما ظنوه كثرة عساكرهم وقلة من كان مع صلاح الدين من العسكر في ذلك الوقت فلما أبوا إلا المشاجرة معتقدين أن المصاف معهم يحصل غرضهم وأعجبتهم كثرتهم لاقاهم صلاح الدين فكانت الهزيمة عليهم وأسر صلاح الدين منهم خلقا ثم ساق وراءهم ونزل على حلب ثانيا فصالحوه وأعطوه المعرة وكفر طاب وبارين
وجاء صاحب الموصل غازي فحاصر أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار لكونه انتمى إلى صلاح الدين ثم صالحه لما بلغ غازي كسر أخيه مسعود ونزل بنصيبين وجمع العساكر وأنفق الأموال وعبر الفرات وقدم حلب فخرج إلى تلقيه ابن عمه الصالح إسماعيل بن نور الدين وأقام على حلب مدة
ثم كانت وقعة تل السلطان وهي منزلة بين حلب وحماة جرت بين صلاح الدين وصاحب الموصل في سنة إحدى وسبعين فنصر صلاح الدين ورجع غازي وعدي الفرات بعدما استأصل صلاح الدين كثيرا من خيامه وأمواله وفرقها في جماعته ثم سار
وإن نثر | خلت الحبر |
نهى أمر | صم البشر |
كف الغير | فكم أسر |
علجا كفر | فلا مقر |
إلا سقر | ذات الشرر |
ملك بهر | إذا اعتكر |
ليل الغرر | أو انهمر |
دم همر | ساء وسر |
نفعا وضر | خيرا وشر |
كم اعتبر | منه النظر |
فضل السير | إذا ظهر |
قال البشر | كم لعمر |
يوم | أغر |
وقد قيل أول من أبدع هذا المعنى فنظم قصيدة على حرف واحد أبو النجم حيث يقول
صلاح الدين فتسلم منبح وحاصر قلعة أعزاز ثم نازل حلب ثالثا وأقام عليها مدة فأخرجوا ابنة صغيرة لنور الدين إلى صلاح الدين فسألته أعزاز فوهبها لها ثم عاد إلى الديار المصرية واستناب بدمشق أخاه شمس الدولة تورانشاه وكان قد عاد من اليمن وكانت هذه السفرة منه إلى الشام مما نقم عليه ظاهرا للإساءة فيها إلى ولد نور الدين وهو ابن مخدومه الذي انشأه وأحسن إليه وقيامه على بيت الملك والعز قبله وهما صاحب الموصل وأخوه غير أن الحال بالآخرة تبين أن الله تعالى قد أراد إعزاز دينه على يد هذا الرجل وأنه لا يتم للمسلمين أمر بدون سلطان قاهر قادر على استئصال شأفة الفرنج في ذلك الوقت يجتمع عليه المسلمون ولا تتفرق عنه كلمتهم ويكون هو في نفسه جديرا بذلك وأبى الله أن يكون في ذلك العصر إلا صلاح الدين
فلما وصل إلى القاهرة عائدا من الشام بعد ما فعل ما رأيت مجمله دون مفصله وفي تفاصيله شرح كبير أحلناك على كتبه خرج إلى الفرنج في سنة ثلاث والتقاهم على الرملة فانكسر المسلمون يومئذ وثبت صلاح الدين وتحيز بمن معه ثم دخل إلى مصر ولم شعث العسكر ثم عاد إلى الشام وملك حلب وغيرها من البلاد وعظمت الشوكة ثم توجه لمحاصرة الفرنج بالكرك وجاء أخوه العادل من مصر وكان قد استنابه عليها فسير صلاح الدين تقي الدين عمر ابن أخيه ليحفظ مصر وأعطى أخاه العادل حلب بعد أن كان بها ولده الظاهر بن صلاح الدين وقدم الظاهر من حلب ثم أعاد العادل إلى مصر والظاهر إلى حلب ثم نزل على الموصل وترددت الرسل بينه وبين صاحبها عز الدين ثم مرض صلاح الدين فرجع إلى حران واشتد مرضه بحيث أيسوا منه وحلفوا لأولاده
بإمرة والله يريد حياته ليتم إعزاز دينه فعوفي ومر بحمص وقد مات بها ابن عمه محمد بن شيركوه فأقطعها لولده شيركوه ثم استعرض التركة فأخذ أكثرها وكان عمر شيركوه اثنتي عشرة سنة ثم إن شيركوه هذا الشاب حضر بعد سنة عند صلاح الدين فقال له أين بلغت في القرآن فقال إلى قوله تعالى {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} فعجب الحاضرون من ذكائه وقيل إن صلاح الدين إنما أخذ الأموال ليحفظها لهذا الشاب
وفي سنة ثلاث وثمانين افتتح صلاح الدين بلاد الفرنج وأسر ملوكهم وكسرهم على حطين وتوالت عليه الفتوحات وأنقذ البيت المقدس منهم وافتتحه وأعز الدين
ومما اقتلعه من يد الفرنج طبرية وقتل وأسر في ذلك اليوم أكثر من أربعين ألفا وتسلم قلعتها وأحضر إليه صليب الصلبوب وضرب بين يديه في مخيمه أعناق مائتي فارس من عظماء الفرنج
ثم افتتح مدينة عكا وكانت من أعظم حصونهم وأكثر مدنهم وأقام بها الخطبة الإسلامية ثم افتتح البيت المقدس وغيره وأخلى ما بين الشام ومصر من الفرنج وهذا عداد ما يحضرنا من فتوحاته من أيدي الفرنج قلعة أيلة
طبرية
عكا
القدس
الخليل
الكرك
الشوبك
نابلس
عسقلان
بيروت
صيدا
غزة
لد
حيفا
صفورية
الفولة
معليا
الطور
إسكندرونة
قلنسوة
يافا
أرسوف
قيسارية
جبلة
يبني
صرفند
عفربلاد
اللجون
نجدقاقون
مجدل
يابا
تل الصافية
بيت نوبا
النطرون
الجيب
البيرة
بيت لحم
ديخاوزاوا
حصن الدير
دمرا
قلقيلية
هريث
الزيب
الوعيرة
الهرمز
بعلب
العازرية
نقوع
الكرمل
مجدل
الطار
المعبر في جبل عاملة
والشقيف
سبسطية
ويقال بها قبر زكريا
وجبيل
وكوكب
وأنطرطوس
واللاذقية
وبكسرائيل
وصهيون
وحبلة
وقلعة العيد
وقلعة الجماهرية
وبلاطنس
والشغر
وبكاس
وسرمانية
وبرزية
ودربساك
وبغراس
وكانا كالجناحين لأنطاكية ومدينة صفد
وكل هذه مدائن منيعة وأكثرها اليوم قرى كبار ومنها مدائن كثيرة باقية إلى الآن
ونازل صور مدة ولم يقدر له فتحها وله مصافات يطول شرحها وافتتح كثيرا من بلاد النوبة من يد النصارى
ومن تأمل الرسائل الفاضلية رأى العجب من تأثيرات هذه الرجل في الإسلام ومن شدة بأسه وشجاعته
وكانت مملكته من الغرب إلى تخوم العراق ومعها اليمن والحجاز فملك ديار مصر بأسرها مع ما انضم إليها من بلاد المغرب والشام بأسرها مع حلب وما والاها وأكثر ديار ربيعة وبكر والحجاز بأسره واليمن بأسره ونشر العدل في الرعية وحكم بالقسط بين البرية مع الدين المتين والورع والزهد والعلم كان يحفظ القرآن والتنبيه والحماسة
قال الموفق عبد اللطيف رأيت السلطان صلاح الدين على القدس فرأيت ملكا عظيما يملأ القلوب روعة والعيون محبة قريبا وبعيدا سهلا محببا وأصحابه يتشبهون به يتسابقون إلى المعروف كما قال تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غل} وأول ليلة
حضرته وجدت مجلسا حفلا بأهل العلم يتذاكرون في أصناف العلوم وهو يحسن الاستماع والمشاركة ويأخذ في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق ويتفقه في ذلك وكان مهتما في بناء سور القدس وحفر خندقه يتولى ذلك بنفسه وينقل الحجارة على عاتقه ويتأسى به جميع الأغنياء والفقراء فيركب لذلك قبل طلوع الشمس إلى وقت الظهر ويأتي داره فيمد السماط ثم يستريح ويركب العصر ويرجع في ضوء المشاعل ويصرف أكثر الليل في تدبير ما يعمله نهارا وكان يحفظ الحماسة ويظن أن كل فقيه يحفظها انتهى مختصرا
وقد وثبت عليه الإسماعيلية مرة فجرحوه وسلمه الله وهو الذي ابتنى قلعة القاهرة على جبل المقطم
وفتح من بلاد المسلمين حران وسروج والرها والرقة والبيرة وسنجار ونصيبين وآمد وملك حلب والبوازيج وشهرزور وحاصر الموصل إلى أن هادنه صاحبها عز الدين مسعود ودخل في طاعته وكانت هذه عادته إذا دخل أحد في طاعته لا يقابله إلا بالإحسان
وفتح أيضا من بلاد الشرق خلاط على يد ابن عمه تقي الدين فهذا ما افتتحه من بلاد الشرق
واستولى أيضا على طائفة وفتح عسكره مدينة طرابلس الغرب وكسر عسكر تونس وخطب بها لبني العباس وافتتح بلاد اليمن قيل ولو لم يقع الخلف بين عسكره الذين جهزهم إلى الغرب لملك الغرب بأسره
ولم يختلف عليه مع طول مدته أحد عسكره على كثرتهم
وكان الناس يأمنون ظلمه لعدله ويرجون رفده لكثرته
ولم يكن لمبطل ولا لصاحب هزل عنده نصيب
وكان إذا قال صدق وإذا وعد وفى وإذا عاهد لم يخن وإذا نازل بلدا وأشرف على أخذه ثم يطلب أهله الأمان يؤمنهم وكان جيشه يتألمون لذلك لفوات حظهم ولا يسعهم إلا وفاقه وامتثال أمره
وكان رقيق القلب جدا وربما حلق على مدينة وأحاط بها فسمع بكاء الحريم فتركها وإنما يفعل ذلك مع المسلمين
فمن كتاب فاضلي في فتوح حمص لما أحدقت العساكر المنصورة بالسور العاصم إحداق السوار بالمعاصم وطارت السهام إلى أوكارها من الضلوع وبرقت الأسنة وكأنها زبد بحار الدموع حصحص الحق واتسع الخرق وعلم أن ما أراده الخالق لا يرده الخلق فارتفع الضجيج وعلا تحت العجاج العجيج وأدركتنا رقة رفضت من أيدينا الرقاق وخشية عنت لنا أعنة الفساق فرفعنا على الأسوار أعلاما منشورة بالكف والإمساك مأمورة ووضعت الحرب أوزارها وحلت الأمنة أزرارها وشفعنا الوجوه المستورة بالخفر من نسوانها في الوجوه المكشوفة بالمعصية من فرسانها
وربما حاصر قوما ولم يمنع الميرة عنهم وجرى معهم على كذبهم ليأخذهم بالسهولة ثم يتبين له غدرهم وكذبهم وهو مع ذلك يحلم عنهم ويراعي مصلحة الدين كما اتفق له في حمص وقد افتتح المدينة وعصت عليه القلعة ولم يمنع الميرة عن أهلها ثم لما تبين له حالهم لم يبادر إلى الهدم مع ما فيه من سرعة نصرته خشية على القلعة لكونها من حصون المسلمين وطاول بهم الأمر إلى أن تيسر له فتحها
فمن كتاب فاضلي عن السلطان وهو محاصر قلعة حمص وقد بلغه أن أهلها استنجدوا عليه بالفرنج وأمرنا في القلعة بأن لا يضيق لها خناق ولا يضعف لأهلها أرماق ولا يمنع البيع والشراء والانتقال ويفتح لها ما لا يفسح فيه من يريد تثقيل وطأة الحصار وكان من استدعائهم الفرنج ما كان وهان بفضل الله تعالى من أمرهم ماهان
ثم أخذ يصف القلعة المشار إليها بكونها نجما في سحاب وعقابا في عقاب
وهامة لها الغمامة عمامة وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال منها قلامة عاقدة حبوة صالحها الدهر على أن لا يحلها بفزعه عاقدة عصمة صافحها الزمن على أن لا يروعها بخلعة فاكتنفت بها عقارب لا تطبع طبع حمص في العقارب وضربتها بالحجارة فأظهرت العداوة المعلومة بين الأقارب ولم تكن غير ثالثه من الجد إلا وقد أثرت فيها جدريا بضربها ولم نصل إلى السابع إلا والبحر أتى ينذر بنقبها واتسع الخرق على الراقع وسقط سعدها عن الطالع إلى مولد من هو إليها طالع وفتحت الأبراج فكانت أبوابا
وسيرت الجبال منها فكانت سرابا فهنالك بدت نقوب
#يرى قائم من دونها ما وراءهاومن الكتب والمراسيم عنه
كتب في النهي عن الخوض في الحرف والصوت {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض} الآية خرج أمرنا إلى كل قائم في صف أو قاعد في أمام وخلف أن لا يتكلم في الحرف بصوت ولا في الصوت بحرف ومن يتكلم بعدها كان الجدير بالتكليم {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}
وسأل النواب القبض على مخالفي هذا الخطاب وبسط العذاب ولا يسمع لمتفقه في ذلك تحرير جواب ولا يقبل عن هذا الذنب متاب ومن رجع إلى هذا الإيراد بعد الإعلان وليس الخبر كالعيان
رجع أخسر من صفقة أبي غشبان وليعلن بقراءة هذا الأمر على المنابر ليعلم به الحاضر البادي ويستوي فيه البادي الحاضر والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
قلت لا أشك أن هذا الفصل من كلام القاضي الفاضل
وهذه وقائع شتى
من ابتداء دخوله إلى مصر قبل أن يتسلطن وإلى أن استأثر الله بروحه الطاهرة مختصرة مقتصرا فيها على عيون الأخبار
في سنة أربع وستين وخمسمائة كان مسير أسد الدين شركوه عم السلطان صلاح الدين إلى مصر المسير الثالث
وذلك أن الفرنج قصدت الديار المصرية في جموع كثيرة وكان الملك نور الدين من جهة الشمال ونواحي العراق فطلعوا من عسقلان وأتوا إلى بلبيس فحاصروها وملكوها واستباحوها ثم نزلوا على القاهرة فحاصروها فأحرق شاور مصر خوفا من الفرنج وبقيت النار فيها أربعة وخمسين يوما فلما ضايقوا القاهرة وضعف المسلمون عنهم بعث إلى ملكهم يطلب الصلح على ألف ألف دينار يعجل له بعضها فأجابه ملك الفرنج واسمه مري إلى ذلك وحلف له فحمل إليه شاور مائة ألف دينار وماطله بالباقي وكاتب في ذلك الملك العادل نور الدين يستنجد به وسود كتابه وجعل في طيه ذوائب النساء وواصل كتبه يستحثه وكان بحلب فساق أسد الدين من حمص إلى حلب في ليلة
قال القاضي بهاء الدين ابن شداد قال لي السلطان صلاح الدين كنت أكره الناس للخروج إلى مصر هذه المرة وهذا معنى قوله {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}
وقال ابن الأثير إن صلاح الدين قال لما وردت الكتب من مصر إلى نور الدين أحضرني وأعلمني الحال وقال تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسول إليه تحثونه على الحضور ففعلت فلما سرنا عن حلب ميلا لقيناه قادما فقال له نور الدين تجهز فامتنع للخوف من غدرهم أولا وعدم ما ينفقه في العساكر آخرا فأعطاه نور الدين الأموال والرجال وقال له إن تأخرت عن مصر سرت أنا بنفسي فإنها إن ملكها الفرنج لا يبقى معهم بالشام مقام فالتفت إلى عمي وقال تجهز يا يوسف
فكأنما ضرب قلبي بسكين فقلت والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها فلقد قاسيت بالإسكندرية من المشاق مالا أنساه
فقال عمي لنور الدين لا بد من مسيره معي وارسم له فأمرني نور الدين وأنا أستقيله
فانفض المجلس
ثم قال نور الدين لا بد من مسيرك مع عمك فشكوت الضائقة فأعطاني ما تجهزت به وكأنما أساق إلى الموت
وكان نور الدين رجلا مهيبا فسرت مع عمي فلما توفي أعطاني الله من الملك ما لا كنت أتوقعه انتهى
فجمع أسد الدين الجيوش وسار إلى دمشق وعرض بها الجيش وتوجه إلى مصر في جيش عرمرم فقيل كانوا سبعين ألف فارس وراجل فتقهقر الفرنج لمجيئه ودخل القاهرة في سابع ربيع الآخر وجلس في الدست وخلع عليه العاضد خلع السلطنة وولاه وزارته وقام شاور بضيافته عسكره وتردد إلى خدمته فطلب منه أسد الدين مالا ينفقه على جيشه فماطله فبعث إليه الفقيه ضياء الدين عيسى بن محمد الهكاري يقول إن الجيش طلبوا نفقتهم وقد ما ظلتهم بها وقد تغيرت قلوبهم فإذا أتيتني فكن على حذر منهم
فلم يؤثر هذا عند شاور وركب على عادته وأتى أسد الدين مسترسلا وقيل إنه تمارض فجاء شاور يعوده فاعترضه صلاح الدين وجماعة من الأمراء النورية فقبضوا عليه فجاءهم رسول العاضد يطلب رأس شاور فذبح وحمل إليه في سابع عشر ربيع الآخر ثم لم يلبث أسد الدين أن حضرته المنية بعد خمسة وستين يوما فقلد العاضد السلطان الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف السلطنة ولقب الملك الناصر وكتب بتقليده القاضي الفاضل بعد ما كان وقع خلف كبير عند الفراغ من عزاء أسد الدين فيمن يكون سلطانا ثم اتفقت كلمة الأمراء النورية على صلاح الدين قال العماد الكاتب وألزموا صاحب القصر يعني العاضد بتوليته
وقال القاضي كانت الوصية إلى صلاح الدين من عمه فلبس خلعة السلطنة بالقصر بين يدي العاضد وقبل يده وجاء إلى دار الوزارة وإن شئت قلت دار السلطنة فإن الوزارة عند الفاطميين هي السلطنة اسما ومعنى وجلس في دست الملك وشرع في تركيب السلطنة وترتيبها فأول ما دهمه أمر الخادم الخصي الذي كان يلقب مؤتمن الخلافة فإنه شق العصا باطنا وائتمر وتنمر وانضمت إليه طوائف من أخبث الروافض وكاتبوا الفرنج خفية فاتفق أن تركمانيا عبر بالبئر البيضاء فرأى نعلين جديدين مع إنسان فأخذهما وجاء بهما إلى صلاح الدين فوجد في البطانة خرقة مكتوب فيها إلى الفرنج من القصر فقال دلوني على كاتب هذا الخط فدل على يهودي
فلما حضر تلفظ بالشهادتين واعترف أنه كتب ذلك بأمر الطواشي المشار إليه واستشعر الطواشي الخبر فلزم القصر وأعرض عنه صلاح الدين إلى أن خرج إلى قرية له فأنهض له السلطان صلاح الدين من أخذ رأسه في ذي القعدة وقرر مكانه بهاء الدين قراقوش فصار مختوما على القصر لا يدخل القصر شيء ويخرج إلا بمرأى منه ومسمع
فلما قتل الخادم غار السودان وثاروا وكانوا أكثر من خمسين ألف مقاتلة وقد قدمنا أنهم كانوا نحو مائة ألف وكل قاله المؤرخون ولعل الجمع بينهما أن الخمسين ألفا كانوا مقاتلة فرسانا والباقون كانوا رجالة لا يضمهم ديوان وأقبلوا كقطع الليل المظلم فخرج إليهم من عسكر صلاح الدين الأمير أبو الهيجاء واتصل الحرب بين القصرين ودأب الحرب بينهم يومين ثم كانت الدائرة على السودان وأخرجوا إلى الجيزة وكانت لهم محلة تسمى المنصورة فخربت وحرقت ثم بلغ نور الدين نبأ هذه الأخبار الطيبة فانشرح صدره وأمد صلاح الدين بأخيه شمس الدولة تورانشاه
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة
وفيها نزل الفرنج على دمياط في صفر وحاصروها أحدا وخمسين يوما ثم رحلوا خائبين لأن نور الدين وصلاح الدين أجلبا عليهم برا وبحرا وأنفق صلاح الدين أموالا كثيرة وقال ما رأيت أكرم من العاضد أرسل لي مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها
وفيها دخل نجم الدين أيوب أبو صلاح الدين مصر فخرج العاضد بنفسه إلى لقائه وتأدب ابنه صلاح الدين معه وعرض عليه منصبه
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة
وفيها عمل صلاح الدين بمصر مدرستين للشافعية والمالكية وخرج بجيوشه فأغار على الرملة وعسقلان وهجم على ربض غزة ورجع إلى مصر وجهز بعض جنده إلى قلعة أيلة فغزوها في المراكب وافتتحوها واستباحوا الفرنج فيها قتلا وسبيا وكان فتح هذه القلعة واستعادتها من الفرنج أعظم النعم على المسلمين فإنها كانت قلعة منيعة وكانت الفرنج قد اتخذوها هي والكرك سبيلا إلى الإحاطة بالحرمين الشريفين فقدر الله فتحهما على يد هذا السلطان رحمه الله
ومن كتاب فاضلي من السلطان إلى الخليفة يعدد فيه ما للسلطان من الفتوحات ومن جهاد الفرنج ومنها قلعة بثغر أيلة بناها العدو في البحر ومنها المسلك إلى الحرمين الشريفين بحيث كادت القبلة يستولي على أصلها والمشاعر يسكنها غير أهلها ومضجع الرسول صلى الله عليه وسلم يتطرق إليه الكفار
في كلمات قالها
ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة
فاستفتح السلطان الخطبة في الجمعة الأولى منها بجامع مصر لبني العباس وأقيمت الخطبة العباسية في الجمعة الثانية بالقاهرة وأعقب ذلك موت العاضد في يوم عاشوراء بالقصر وجلس السلطان للعزاء وأغرب في الحزن والبكاء وانقرضت دولة الفاطميين وكان لها أكثر من مائتي سنة وتسلم السلطان القصر بما فيه من خزائنه وذخائره واحتاط على آل القصر فجعلهم في مكان برسمهم وقررت لهم المؤونة وجمعت رجالهم واحترز عليهم ومنعوا من النساء لئلا يتناسلوا وذكر المؤرخون من نفائس القصر وذخائره مالا نطيل بذكره وانتقل الملك العادل سيف الدين أبو بكر إلى القصر بمرسوم أخيه فاستقر في نيابة السلطان وكتبت الكتب إلى بغداد بالبشارة وأعاد الجواب والخلعة الفائقة العباسية إلى السلطان صلاح الدين
وفيها قال ابن الأثير حدث ما أوجب نفرة نور الدين عن صلاح الدين وذلك أن نور الدين أرسل إليه يأمر بجمع الجيش والمسير لمنازلة الكرك ليجيء هو بجيشه ويحاصرانها فكتب إلى نور الدين يعرفه أنه قادم فرحل على قصد الكرك وأتاها وانتظر وصوله فأتاه كتابه يعتذر باختلال البلاد فلم يقبل عذره وكان خواص صلاح الدين خوفوه من الاجتماع به وهم نور الدين بالدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها فبلغ ذلك صلاح الدين فجمع أهله وأباه وخاله الأمير شهاب الدين الحارمي وسائر الأمراء وأطلعهم على نية نور الدين واستشارهم فسكتوا فقال ابن أخيه تقي الدين عمر إذا جاء قاتلناه ووافقه غيره من أهله فشتمهم نجم الدين أيوب واحتد وكان ذا رأي ومكر وقال لتقي الدين اسكت وزبره وقال لصلاح الدين أنا أبوك وهذا خالك أتظن أن في هؤلاء من يريد لك الخير مثلنا فقال لا فقال والله لو رأيت أنا وهذا نور الدين لم يمكنا إلا أن ننزل ونقبل الأرض ولو أمرنا بضرب عنقك لفعلنا فما ظنك بغيرنا فكل من تراه من الأمراء لو رأى نور الدين لما وسعه إلا الترجل وهذه البلاد له وإن أراد عزلك فأي حاجة له إلى المجيء بل يطلبك بكتاب
وتفرقوا وكتب أكثر الأمراء لنور الدين بمأتم ولما خلا بولده قال أنت جاهل تجمع هذا الجمع وتطلعهم على سرك ولو قصدك نور الدين لم تر أحدا منهم ثم كتب إلى نور الدين بإشارة والده نجم الدين يخضع له ففتر عنه
ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة
فأرسل السلطان فيها قراقوش مملوك ولد أخيه تقي الدين عمر إلى جبال نفوسه ومعه طائفة من الأتراك فلما وصل إلى الجبال استصحب معه منها بعض المتقدمين ونزل على طرابلس الغرب فحاصرها ثم فتحت فاستولى عليها قراقوش وسكنها وكثرت عساكره
وفيها جهز السلطان شمس الدولة إلى برقة فافتتحها على يد غلام له تركي
ثم بلغ السلطان أمر ابن مهدي الخارج باليمن وما هو عليه من اختلال العقيدة فجهز أخاه شمس الدولة فافتتح اليمن وتملكها
ثم سار السلطان بنفسه من مصر يريد اقتلاع مدينة الكرك من الفرنج وبدأ بها لقربها إليه وكان من الوهن في الإسلام والعظمة في الدين استيلاء الملاعين على الكرك وعلى قلعة أيلة فإنهم يمنعون الحاج وأشد من ذلك ما يخشى على الحرمين الشريفين منهم إذ لم يكن بينهم وبينهما حاجز غير لطف الله وقصدوهما مرات ثم يندفعون بمشيئة الله من غير دفاع من البشر وكانت الكرك تزيد على قلعة أيلة بمنع القوافل السائرة بين الشام ومصر فإنها كانت الدرب وأما غزة والرملة وما حواليهما فكان الفرنج لا يمكنون مسلما أن يمر بهما فورد عليهما وحاصرهما وقاتل الفرنج ولم يفتحهما في هذه السنة ورجع إلى مصر
ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة
قال ابن الأثير جهز السلطان أخاه توران شاه إلى بلاد النوبة فافتتح منها ما شاء الله فلما عاد جهزه إلى اليمن بقصد عبد النبي صاحب زبيد فطرده عن اليمن وملك زبيد وأسر عبد النبي وزوجته الحرة وكانت صالحة كثيرة الصدقة وعذب عبد النبي واستخرجت منه أمواله
ثم سار توران شاه إلى عدن وملكها ياسر فأسر وهزم
ثم سار فافتتح
من حصون اليمن قلعة تعرف بقلعة الجند قال أبو المظفر بن الجوزي يقال افتتح ثمانين حصنا ومدينة باليمن وما حواليها
وقد تقدم في السنة قبلها إرسال تورانشاه وهو شمس الدولة إلى اليمن ووقعة النوبة فقتل والله أعلم في أي السنتين كان إرساله
وفي هذه السنة وصل الموفق ابن القيسراني إلى مصر رسولا من الملك نور الدين يطالب السلطان صلاح الدين بحساب جميع ما حصله من أرياع البلاد ولم يعلم نور الدين بتفاصيل علو شأن صلاح الدين وأنه مستول على أعظم ما في يد نور الدين فصعب ذلك على صلاح الدين وقيل إنه أراد شق العصا ثم ذكر لنور الدين حقوقه وإحسانه وأمر النواب بالحساب وعرضه على ابن القيسراني وأراه جرائد العساكر بالإقطاعات وأعاده إلى نور الدين ومعه الفقيه عيسى وهدية عظيمة وهي ختمة بخط ابن البواب وختمه بخط مهلهل وختمه بخط الحاكم البغدادي وربعة مكتوبة بالذهب بخط فارسي وربعة عشرة أجزاء بخط راشد وثلاثة أحجار بلخش وستة قضبان زمرد وقطعة ياقوت وزن سبعة مثاقيل وحجر أزرق ستة مثاقيل ومائة عقد جوهر وزنها ثمانمائة وسبعة وخمسون مثقالاوخمسون قارورة دهن بلسان وعشرون قطعة
بلور وأربع عشرة قطعة جزع وإبريق يشم وطشت يشم وصحون صيني وزبادي أربعون وكرتان عود قماري وزن إحداهما ثلاثون رطلا بالمصري والأخرى أحد وعشرون ومائة ثوب أطلس وأربعة وعشرون بقيارا مذهبة وخمسون ثوب حرير وحلة فلفي مذهب وحلة مرايش صفراء وغير ذلك من القماش الذي يكثر عده وقيمة القماش على ما ذكر مائتان وخمس وعشرون ألف مثقال ذهب ومن الخيل والبغال والجواري والسلاح شيء كثير ومن المال خمسة أحمال ولم يصل شيء من ذلك إلى نور الدين لأنه مات قبل وصوله
ولما مات نور الدين طمعت الفرنج وتحركوا بالسواحل وسلطن الشاميون الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين وكان عمره نحو عشر سنين فاستنجد بالسلطان صلاح الدين صاحب مصر ونزل الفرنج على بانياس وصالحهم أمراء دمشق على مال وأسارى يطلقون فلما بلغ ذلك صلاح الدين انزعج له وكتب إلى الشاميين يوبخهم وكتب إلى شيخ الشافعية شرف الدين ابن أبي عصرون يخبره أنه لما أتاه كتاب الملك الصالح تجهز للجهاد وخرج وسار أربع مراحل فجاءه الخبر بالهدنة المؤذنة بذل الإسلام على يد من اقتلعها
من دفع القطيعة والأسارى وسيدنا الشيخ أول من جرد لسانه الذي تغمد له السيوف وتجرد
ولما بالغ صلاح الدين في توبيخ الأمراء وكان ابن المقدم أكبر أمراء دمشق خشى من قدوم صلاح الدين إلى الشام وأشاع أن صلاح الدين يريد انتزاع دمشق من ولد مخدومه نور الدين وكتب إلى صلاح الدين لا يقال عنك إنك طمعت في بيت من غرسك ورباك وأسسك وفي دست ملك مصر أجلسك ثم تعطف له وترفق ويقول وما يليق بحالك غير فضلك واتصالك
فكتب إليه صلاح الدين إنا لا نؤثر للإسلام وأهله إلا ما جمع شملهم وألف كلمتهم ولا نختار للبيت الأتابكي أعلاه الله إلا ما حفظ أصله وفرعه فالوفاء إنما يكون بعد الوفاة ونحن في واد والظانون بنا سوء الظن في واد
ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة
وقد تزايد طمع الفرنج في دمشق بموت نور الدين فرأى صلاح الدين من الحزم جمع المسلمين على سلطان واحد يقيم الملة وينصر الشريعة وإنه ذلك الواحد الذي تعقد عليه الخناصر وأن الإسلام محتاج إليه وصار الحاسدون والجاهلون بأحكام الشريعة يعيبون منه قصده لأخذ دمشق ويقولون كيف يسلب ولد أستاذه نعمته وينزع ملكه وهم كما قال في واد فإنه فيما يغلب على الظنون الصادقة إنما قصد لم شعث
الإسلام وقيام الدين وظهر ذلك على يده من بعد فخرج من مصر بجيوش لا يحصى عددها واستخلف أخاه الملك العادل نائبا بها ووصل إلى بصرى رابع عشري ربيع الآخر فخرج إليه صاحبها منقادا لخدمته ثم تتابع عسكر الشام ملاقين مستبشرين ونزل بجسر الخشب في الثامن والعشرين وقد تكاثرت العساكر وازدحم الملاقون وأصبح لدخول دمشق فعارضه عدد من الرجال فدعستهم عساكره المنصورة وصدمتهم خيوله وعزماته المأمورة ودخل البلد وملكها بلا قتال ونادى من ساعته بإطابة النفوس وإزالة المكوس وكانت الولاية في دمشق قد ساءت والمكوس التي رفعها نور الدين قد أعيدت فأعاد صلاح الدين الحق إلى نصابه وصارت دمشق مثل مصر وكلاهما في مملكته
ثم خرج إلى حمص فنازلها ونصب المجانيق على قلعتها ولم يملكها وترحل عنها إلى حماة فملكها في جمادى الآخرة ثم سار إلى حلب وحاصرها إلى آخر الشهر وبها الصالح إسماعيل ولد نور الدين واشتد بها الحصار وهذه هي الفعلة التي نقمت على صلاح الدين فالله أعلم بنيته وأنه أساء العشرة في حق الصالح ابن نور الدين بحيث استعان الصالح عليه بالباطنية ووعدهم بالأموال فقتلوا من أمراء صلاح الدين الأمير خمارتكين وخلقا وجرحوا صلاح الدين ثم أمسكهم وقتلهم عن آخرهم ورجع إلى حمص فحاصرها بقية رجب وتسلمها بالأمان في شعبان ثم عطف إلى بعلبك فاستلمها ثم رد إلى حمص وقد اجتمع عسكر حلب وكتبوا إلى صاحب الموصل يستعينون به على صلاح الدين فجهز إليهم جيشه وأمدهم بأخيه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي فأقبل الكل إلى حماة وقد استقرت لصلاح الدين فحاصروها فسار إليهم صلاح الدين
فالتقاهم على قرون حماه فكسرهم أقبح كسرة ثم سار إلى حلب فوقع الصلح بينه وبين ابن زنكي على أن يكون له آخر بلد حماة والمعرة وأن يكون لولد نور الدين حلب وجميع أعمالها وتحالفوا ورد إلى حماة وجاءته رسل الخليفة المستضيء بالخلع والهدايا والتهنئة بالملك ثم سار إلى حصن بارين فحاصره ثم تسلمه
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة
وفيها كان وقعة تل السلطان بنواحي حلب وذلك أن عسكر الموصل نكثوا أيمانهم ووافوا تل السلطان في جموع كثيرة وعليهم السلطان سيف الدين غازي ابن مودود بن زنكي فالتقاهم السلطان صلاح الدين في جمع قليل فهزمهم وأسر كثيرا منهم وحقن الدماء ثم أحضر الأمراء الذين أسرهم فمن عليهم وأطلقهم
ثم سار صلاح الدين إلى منبج وأخذها في شوال من ينال بن حسان المنبجي وكان نور الدين قد أعطاها لينال عندما انتزعها من أخيه غازي بن حسان وصعد الحصن وجلس يستعرض أموال ابن حسان صاحبها وذخائر فكانت ثلاثمائة ألف دينار ومن أواني الذهب والفضة والذخائر والأسلحة ما يناهز ألفي ألف دينار ورأى على بعض الأكياس والآنية مكتوبا يوسف فسأل عن هذا الاسم فقيل ولد له يحبه اسمه يوسف وكان يدخر له هذه الأموال فقال السلطان أنا يوسف وقد أخذت ما خبئ لي
ثم سار إلى عزاز فنازل قلعتها ثمانية وثلاثين يوما وقفز عليه وهو محاصرها قوم من الفداوية وجرح في فخذه وأخذوا فقتلوا ثم افتتح عزاز
ومن كتاب منه إلى أخيه العادل ولم ينلني من الحشيشي الملعون إلا خدش قطرت منه دم قطرات خفيفة انقطعت لوقتها واندملت لسعاعتها
ثم سار من عزاز فنازل مدينة حلب كرة أخرى في نصف ذي الحجة وقامت القلعة في حفظها بكل ممكن وصابرها صلاح الدين شهرا
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة
وفيها ترددت الرسل في الصلح بين السلطان صلاح الدين والملك الصالح إسماعيل ابن نور الدين فرحل صلاح الدين عن حلب وأبقاها لابن نور الدين ورد عليه عزاز وتوجه إلى مصياف بلد الباطنية فنصب عليها المجانيق وأباح قتلهم وخرب بلادهم فتشفعوا بصاحب حماة شهاب الدين خال السلطان فسأل السلطان الصفح عنهم وتوجه عائدا إلى مصر فوصلها وأمر ببناء السور الأعظم المحيط بمصر والقاهرة وجعل على بنايته الأمير قراقوش ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين وصرفت عليه أموال جزيلة
وفيها أمر بإنشاء قلعة الجبل المقطم التي هي الآن دار سلاطين مصر وجعل على بنائها أيضا قراقوش ولم يكن السلاطين قبلها يسكنون إلا دار الوزارة بالقاهرة
ثم سافر إلى الإسكندرية وتردد إلى السلفي فسمع منه الحديث ثم عاد إلى مصر وبنى تربة الشافعي رضي الله عنه
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة
وفيها كانت وقعة الرملة
سار السلطان من القاهرة إلى عسقلان فسبى من الفرنج كثيرا وغنم وسار إلى الرملة وقد تجمعت عليه الفرنج وحملوا على المسلمين فانهزموا وثبت السلطان وابن أخيه تقي الدين عمر ودخل الليل واحتوى الفرنج على أثقال المسلمين واستشهد من المسلمين جماعة منهم أحمد ولد تقي الدين عمر ولم يبق للمسلمين قدرة على ماء ولا زاد وتعسفوا الرمال راجعين إلى مصر
وفي هذه الواقعة أسر الفقيه عيسى الهكاري أكبر الأمراء فافتداه السلطان بستين ألف دينار
ودخل السلطان القاهرة بعد ثلاثة عشر يوما وتواصلت خلفه العساكر ثم عاد السلطان إلى الشام
ودخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة
وفيها اجتمعت الفرنج عند حصن الأكراد فسار إليهم السلطان ولم يقع قتال ثم أغاروا على أعمال دمشق وجهز لحربهم فرخشاه ابن أخي السلطان فالتقاهم وكسرهم وقتل من مقدميهم جماعة منهم هنفري
قال ابن الأثير وما أدراك ما هنفري به كان يضرب المثل في الشجاعة
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة
وفيها ضربت الطبول ببغداد وزفت البشائر بانتصار السلطان صلاح الدين على الفرنج وأسره لصاحب الرملة وصاحب طبرية الكافرين وهي وقعة مرج العيون
ومن حديثها أن صلاح الدين كان نازلا تل بانياس ببيت بسراياه فلما استهل المحرم ركب فرأى راعيا فسأله عن الفرنج فأخبره بقربهم فعاد إلى مخيمه وأمر الجيش بالركوب فركبوا وسار بهم حتى أشرف على الفرنج وهم في ألف قنطارية وعشرة آلاف مقاتل فارس وراجل فحملوا على المسلمين فثبتوا لهم وحملت المسلمون عليهم فولوا الأدبار فقتل أكثرهم وأسر منهم مائتان وسبعون أسيرا منهم بادين وأود مقدم الداوية وابن القومصة وأخوا صاحب جبيل وابن صاحب مرقية وصاحب طبرية فأما بادين بن بيرزان فاستفك نفسه بمبلغ وبألف أسير من المسلمين واستفك الآخر نفسه بجملة وأما أود فجن في حبس قلعة دمشق وانهزم من الوقعة ملكهم مجروحا وأبلى في هذه الوقعة عز الدين فرخشاه بلاء حسنا
واتفق أنه في يوم الوقعة ظفر أسطول مصر ببطستين وأسروا ألف نفس فلله الحمد على نصره
وكان قليج أرسلان سلطان الروم طلب حصن رعبان وزعم أنه من بلاده وإنما أخذه منه نور الدين على خلاف مراده وأن ولده الصالح إسماعيل قد أنعم به عليه فلم يفعل السلطان فأرسل قليج عشرين ألفا لحصار الحصن فالتقاهم تقي الدين عمر صاحب حماة
ومعه سيف الدين علي المشطوب في ألف فارس فهزمهم لأنه حمل عليهم بغتة وهم على غير تعبية فضربت كوساته وعمل عسكره كراديس فلما سمعت الروم الضجة ظنوا أنهم قد دهمهم جيش عظيم فركبوا خيولهم عريا وطلبوا النجاة وتركوا الخيام بما فيها وأسر منهم عددا ثم من عليهم بأموالهم وسرحهم ولم يزل تقي الدين يدل بهذه النصرة ولا ريب أنها عظيمة
وورد بغداد رسول صلاح الدين وهو مبارز الدين كشطغاي وجلس له ظهير الدين أبو بكر ابن العطار وبين يديه أرباب الدولة فجاء وبين يديه اثنا عشر أميرا عليهم الخوذ والزرديات ومع كل واحد قنطارية وعلى كتفه طارقة ملك الفرنج على القنطاريات سعف الفرنج وبين يديه أيضا من التحف والنفائس من ذلك صنم حجر طويل ذراعين فيه صناعة عجيبة قد جعل سبابته على شفته كالمتبسم عجبا ومن ذلك صينية ملآنة جواهر وضلع آدمي نحو سبعة أشبار في عرض أربع أصابع وضلع سمكة طوله عشرة أذرع في عرض ذراعين
وفيها جهز السلطان القاضي أبا الفضائل بن الشهرزوري إلى الخليفة ببغداد أيضا بجواهر مثمنة وعشرة أسرى من الفرنج
ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة
وفيها توجه السلطان قاصدا بلاد الأرمن وبلاد الروم ليحارب قليج أرسلان بن مسعود ابن قليج أرسلان عندما استجار محمد بن أرسلان بن داود صاحب حصن كيفا بالسلطان على حموة قليج المذكور ثم صلح الحال بينهما فنزل السلطان على حصن من بلاد الأرمن فأخذه وهدمه ثم رجع فعند وصوله إلى حمص جاءه التقليد والخلع من الخليفة الناصر فركب بها بحمص وكان يوما مشهودا وجاء إلى دمشق وولى عز الدين فرخشاه
نيابة السلطنة بالشام وهو ابن أخيه ثم توجه السلطان إلى مصر وتوجه منها إلى الإسكندرية وشاهد ما تجدد بها من السور وسمع بها الموطأ على أبي الطاهر ابن عوف
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة
وفيها قصد نائب الشام عز الدين فرخشاه بمرسوم السلطان بلاد الكرك بالعساكر فخربها وذلك عندما بلغ السطان أن اللعين صاحب الكرك سولت له نفسه قصد المدينة الشريفة ليتملكها فما نهبت بلاده عاد بالخيبة
وفيها ظهرت الوحشة بين الخليفة الناصر والسلطان وذلك أن السلطان لما اشتهر اسمه بالعدل وشدة الوطأة وخافته النفوس الفاجرة واستبشرت به الأرواح الطاهرة وحسده ملوك الأطراف وأحبوا أن يوقعوا بينه وبين الخليفة سولوا للخليفة أمورا أوجبت أن يكتب للسلطان يأخذ عليه في أشياء منها تسميته بالملك الناصر مع علمه أن الإمام اختار هذه التسمية لنفسه وهذه الواحدة على ندورتها مدفوعة بأن السلطان لقب بالناصر من أيام الخليفة المستضيء قبل أن يلي الناصر الخلافة فكتب له السلطان جوابا فاضليا منه والخادم ولله الحمد يعدد سوابق في الإسلام والدولة العباسية لا يعدها أولية أبي مسلم لأنه والي ثم وارى ولا آخرية طغرلبك لأنه نصر ثم حجر
والخادم بحمد الله خلع من كان ينازع الخلافة رداءها وأساغ الغصة التي ذخر الله للإساغة في سيفه ماءها فرجل الأسماء الكاذبة الراكبة على المنابر وأعز بتأييد إبراهيمي فكسر الأصنام الباطنة بسيفه الظاهر لا الساتر وفعل وما فعل للدنيا ولا معنى للاعتداد بما هو متوقع الجزاء عنه في اليوم الآخر
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة
فيها افتتح السلطان حران وسروج وسنجار ونصيبين والرقة والبيرة وآمد
ونازل الموصل وحاصرها وبهره ما رأى من حصانتها وجاءه شيخ الشيوخ صدر الدين من قبل الخليفة يتشفع في صاحب الموصل فرحل عنها
وفيها بعث السلطان أخاه سيف الإسلام طغتكين على نيابة السلطنة بإقليم اليمن بأسره وأمره بإخراج نواب أخيه توران شاه بها فرحل إليها وقبض على متولي زبيد حطان بن منقذ وأخذ منه أموالا جزيلة وسكن سيف الإسلام في اليمن
وفيها مات عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب نائب الشام فبعث السلطان على نيابة دمشق شمس الدين محمد بن المقدم
وفيها خرج السلطان بنفسه من مصر غازيا وما تهيأ له العود إليها وقد عاش بعد ذلك اثنتى عشرة سنة
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة
ورسل الخليفة في كل سنة تجيء غير مرة بالتودد ظاهرا واستعلام أخبار السلطان باطنا فلا يرون إلا إماما عادلا لا يصطلى له بنار وغضنفرا باسلا لا يقوم لغضبه إلا الواحد القهار وكتب له السلطان كتابا فاضليا فيه من أخبار الفرنج كان الفرنج قد ركبوا من الأمر نكرا وافتضوا من البحر بكراذ وعمروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة.
دار هجر - القاهرة-ط 2( 1992) , ج: 7- ص: 339
يوسف بن أيوب بن شاذى بن مروان، السلطان الملك الناصر صلاح الدين:
صاحب الديار المصرية والشامية [ ......... ].
دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان-ط 1( 1998) , ج: 6- ص: 1