يوسف بن إبراهيم بن جملة الشيخ الإمام العالم الفقيه قاضي القضاة بالشام، الحوراني المحجي الشافعي الأشعري.
كان قد تفقه مدة لابن حنبل رضي الله عنه، ثم إنه انتقل الى مذهب الشافعي، وتميز وناظر الأقران، وأخذ عن الشيخ صدر الدين بن الوكيل، وعن قاضي القضاة شمس الدين بن النقيب، وعن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. وصار من الأعيان، ونظر القمر الى جماله وهو خزيان، وجالد فرسان البحث وجادلهم، وفض على الطلبة ما عنده في خزانة علمه وجاد لهم.
ولما باشر قضاء الشام وتولى بحكمه الأوامر والأحكام، باشر ذلك بصلف وأمانة، وعفاف لم تتطرق إليها جناية ولا خيانة، وكان ذا مهابة وسطوة على المريب، وشدة وطأة على القريب والغريب:
قاض إذا التبس الأمران عن له | رأي يفرق بين الماء واللبن |
القائل الصدق فيه ما يضر به | والواحد الحالتين السر والعلن |
الفاصل الحكم عي الأولون به | ومظهر الحق للساهي وللذهن |
وكان فيه ديانة وحسن عقيدة، وله محاسن كل منها بيت القصيدة.
وكان في أيام نيابته لقاضي القضاة جلال الدين بدمشق قد قام على الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة الزيارة، وسدد سهمه إليه وأطلق زياره، وانتصب لهذا الأمر، وأوطأ قدميه على الجمر، ولم يصل على جنازته، وتبرأ من حيازته.
ولم يزل على حاله الى أن وقعت له تلك الواقعة التي كان فيها غرضا للسهام الرواشق، ووقته في وقتها كل غاسق، ودخل الى دار السعادة وهو قاضي القضاة وخرج منها وهو فاسق، واعتقل في القلعة مدة، وحلت به في هذه الواقعة كل شدة، ثم إنه أفرج عنه بعد مدة، وأعطي تدريس المسرورية بعد أن كاد يموت غما، كما جرى لسيبويه في المسألة الزنبورية.
ولم يزل بعد ذلك على حاله الى أن غاض ماء حياته، وفاض دمع باكياته.
وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، ودفن بوادي العظام عند أهله.
ومولده سنة ست وثمانين وست مئة.
وكان قد درس بالدولعية، وخرج له شيخنا علم الدين البرزالي عن الفخر علي وجماعة.
ولما توفي قاضي القضاة علم الدين الأخنائي ولي هو بعده قضاء القضاة بدمشق، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، لأن الأمير سيف الدين تنكز كتب في أمره للسلطان بعناية ناصر الدين الدوادار، وباشر القضاء على أحسن ما يكون من الصلف والعفة. وكان فصيحا بليغا شديد العارضة في البحث.
ثم إن حمزة التركماني أحرف الأمير سيف الدين تنكز عنه وأغراه، ولم يزل به الى عقره وقال عنه إنه رشا ناصر الدين الدوادار بالذهب على القضاء، وهذا أمر أنا وغيري نستبعده من الجانبين. وكان تنكز قد فوض إليه الأمر في الشيخ ظهير الدين لأنه لم يصح ما نقله عنه، فبالغ ابن جملة في تعزير الظهير واستقصى، والاستقصاء شؤم، فعقد له مجلس في يوم الجمعة تاسع عشري شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، وقد بيت القضية له حمزة، فدخل وهو قاضي القضاة في الشام، وخرج وهو فاسق قد حكم بعزله وسجنه في القلعة. وكانت واقعة غريبة في تلك الأيام لم يعهد الناس مثلها.
أنشدني إجازة لنفسه القاضي زين الدين عمر بن الوردي:
دمشق لا زال ربعها خضرا | بعدلها اليوم يضرب المثل |
فضامن المكس مطلق فرح | فيها وقاضي القضاة معتقل |
وقلت أنا في ذلك:
العفو يا رب من بلاء | قوى الورى ما تطيق حمله |
أمر جرى في الوجود فردا | يا عجبا وهو لابن جمله |
وأقام في الحبس خمسة عشر شهرا الى أن شفع فيه موسى بن مهنا، وتحدث الأمير سيف الدين تنكز مع قاضي القضاة شرف الدين المالكي في عاشر صفر سنة ست وثلاثين وسبع مئة في إخراجه من الاعتقال، فقال القاضي: يكتب خطه، ويشهد عليه أن الحكم الذي صدر منه في حقه صحيح، فلم يجب الى ذلك، وتردد الرسول إليه في ذلك غير مرة، ثم إنه أجاب الى أنه يمشي الى مجلس المالكي ويسلم عليه، فخرج من القلعة يوم الإثنين ثالث عشر صفر الى دار القاضي المالكي، ثم الى الجامع، ثم الى أهله بالمدرسة المسرورية.
وولي القضاة بعده القاضي شهاب الدين بن المجد عبد الله.
ولما خرج من الاعتقال أعطي تدريس الدولعية، ثم تمرض، وخلت المدرسة الشامسة البرانية، فدرس بها أياما بعد ذلك زين الدين بن المرحل، وكانت وفاته بالمسرورية.
وكنت بالديار المصرية لما رسم السلطان الملك الناصر بولايته قاضي القضاة، فكتبت له تقليده بذلك ونسخته:
الحمد لله الذي أعلى منار الشرع الشريف بجماله، وجلى دجاه بمن تحسده البدور في الأفق ليالي التمام على كماله، وشيد ركنه بمن يقصر باع السيف في جلاده عند جداله، وحفظ قواعده بمن إذا أمسك قلم فتاويه تفيأت الأحكام تحت ظلاله، وأحيا سنته بمن تتضح به سنن حرامه وحلاله، ونشر لواء فضله بمن إذا ظمئ البحر المحيط فقل دع ذا فإنك عاجز عن حاله.
نحمده على نعمه التي ادخرت لأيامنا الشريفة حبرا عز بوجوده اجتماع المثلين، واقتطف ثمار العلوم فما داناه أحد في الفروع ولا وصل معه الى الأصلين، وطال بالعلم ثم بالحلم وزاد في تطولاته ولم يقتصر على الطولين، وأجمع الناس على استحقاقه، فلم تكن المسألة فيه ذات قولين.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندخرها ليوم القضاة والفصل، ونعلم أنها أصل الإيمان وما سواه فرع والقياس رد فرع الى أصل، ونعتمد على بركات فضلها في الأمر والنهي والقطع والوصل، وننال بإخلاصها على أعداء الدين عز العزم ونصر النصل.
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله خير من قضى ومضى، وأعدل من مضى، وسيف شرعه إذا استقبله مشكل حكم فيه ومضى، وأشرف من ساس الناس بحلقة الرضى وحكمة المرتضى، وأعز من أغضى الشيطان لظهور ملته على جمر الغضا.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير من اتبع شرعه في أحكامه، وخاف مقام ربه فشكر الله له حسن مقامه، وقصر خطاه على ما أمهره ونهاه، فلم يكن له إقدام على حركة أقدامه، واستبرأ لدينه في قضاياه فما أخطأت سهامه مرامي مرامه، صلاة تتألق بأنوارها البروق اللامعة، وتتعلق بأستارها الخلائق في الواقعة، ما قبلت ثغور الأقلام خدود المهارق الساطعة، ورقمت إبر الغمام برود الحدائق اليانعة، وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين.
وبعد:
فإن منصب الشرع الشريف لا شك في عموم نفعه، ولا مرية في أن السوابق جرت لنصبه، والعوالي جرت لرفعه، ولا ريب في أن شمم كل عرنين ينقاد صاغرا لوضعه، ما حكمنا في شيء حتى نعود الى أمره ونعوذ، ولا خرجنا في السياسة عن حكمه لا على سبيل السهو ولا بحكم الشذوذ، ولا برز أمره بحكم إلا وقال: سيفنا المنصور له دائم النفوذ.
وكانت دمشق المحروسة كالشامة في وجنة الشام، وكالجوهرة التي أصبحت واسطة عقد الملك في الانتظام، هذا الى ما جاء في فضلها في السنة، وثبت لنا في الخارج أنها أنموذج الجنة، قد شغر منصب حكمها الشافعي من قاض يسوس الرعايا، ويجتهد في أحكامه حتى تدله الألمعية على المقاتل الخفايا، ويتوسم وجوه الخصوم وكلامهم فيكون ابن جلا وطلاع الثنايا، أمهلنا آراءنا الشريفة هذه الفترة، واستخرنا الله تعالى فيمن نحليه بهذا الطوق أو نخصه بهذه الدرة، وذكر بين أيدينا الشريفة جماعة كل منهم جل إلا أن يكون قد جلى، واستوعب الشروط المعتبرة، وكان بذلك الاستيعاب محلى، فأشار من إشارته كالسهم الذي يصيب الإشارة، وبركة رأيه خالصة من حظوظ النفس الأمارة، وعين من عزت به الشريعة الشريفة منالا، وزان رتبتها الجليلة فازدادت به جمالا، وحمى حوزتها لأنه فارس البحث وجدلهم وجد لهم ونسف مغالط النسفي ولو كانت جبالا، ونقى ونقح كلام من مضى فكم قيد مطلقا يمرح وأطلق مقيدا برسف، وجلس في حلقة دروسه وكأنما تطلع من محراب داود ويوسف، يغرق المزني في وابل فضله الصيب، ويفوق عرف عرفانه على القاضي أبي الطيب، ويتلون الصباغ في شامله من عجزه، ويعترف الغزالي بأنه لم يكن من نسج طرزه، قد صاغ أصوله وابن الحداد في الفروع، والتذ بكراه وصاحب التنبيه لا يذوق لذة الهجوع، وأنفق من محصوله وابن الحاجب في ضيعة من صيغة منتهى الجموع.
وكان المجلس العالي القضائي الجمالي هو مظهر هذه الضمائر والمقصود بهذه الأدلة والأمائر، لا تليق هذه الصفات إلا بذاته، ولا تحسن هذه النعوت إلا بأدواته. فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني المالكي الناصري الناضري، لا زال الرعايا بعدله في أمان، ومواقع اختياره ترتاد لهم الكافي الكافل من رب السيف والطيلسان، أن يفوض إليه القضاة الشافعية بالشام المحروس ولاية أحكم عقدها، وانتظم عقدها، وتبلج عرفها وتأرج عرفها. فليأمر بالمعروف وينه عن المنكر، ويسير سيرة عمرية تتلى محاسنها وتشكر.
وليأخذ بحق المظلوم ممن ظلمه، ويجر لسان قلمه بما قامت به البينة فعلمه، وليتبع الحق إن كان مع المشروف أو الشريف، ويطلب رضى الله تعالى في خذلان القوي ونصرة الضعيف.
وليسو بين المتخاصمين في موقفهما عنده، ويسمع الدعوى إذا تمت والجواب إذا أكمل قصده، وليلن جانبا لمن حضره، ويتمسك بآداب الشرع التي حضه عليها وأمره.
وليتحرز من أمر الشهود في كل شيء ولينقب عن أحوالهم فإن منهم من يموت على الشهادة وهو حي، ويتبعهم بألمعيته في كل أمر، ويسمع شهادتهم بفطنة إياس وذكاء عمرو.
والأيتام فليول عليهم من يراقب الله في أموالهم، ويخشى الله في معاملاتهم، فكفى ما بهم من سوء حالهم، ولا يركن في أمرهم إلا لمن اختبره المرة بعد المرة، وعلم أن عفته لا تسامحه في التماس الذرة.
والأوقاف فليجر أمورها على النظام البارع ولا يتعد بها شروط الواقفين، فإن نص الواقف مثل نص الشارع.
والأيامى فليزوجهن من أكفائهن شرعا، ويمنع من يلبسهن من العضل درعا. والأنكحة الأهلية يستوضح عقودها، والخلية يعتبرها شهودها. ومال المحجور عليه يودعه حرزا يحفظ فيه، ومال الغائب، وكذلك المجنون والسفيه.
ووقائع بيت المال المعمور فلتكن مضبوطة النظام، محفوظة الزمام، مقطوعة الجدل والخصام. ونوابه في البلاد والجهات والنواحي المتطرفات هو المطلوب عند الله بجنايتهم، والمحاسب على ما اجترحوه من ولايتهم. فلا يولي من يراه فقيها ’’وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها’’، ولا من اتصف بالجهل، ورأى زينة المال والأهل، بل يتحر في أمورهم، ويتبع معاملتهم في غيبتهم وحضرهم، فأنت أدرى بما إليه الأمر يؤول، وكلكم راع وكل راع مسؤول.
والوصايا كثيرة ومنك تعرف، وإليك ترجع وتصرف. فما نعلم عوانك الخمرة، ولا نعرف صناعك كيف تصنع الشذرة، فما تحتاج الى أن نسردها، بل نجمعها ولا نفردها، وهي تقوى الله عز وجل التي من تمسك بها فاز قدحه، وأمن سرحه، وتعين ربحه وتبين نجحه.
والله تعالى يتولاك، ويعينك على ما أولاك، ويزيدك مما أولاك.
والخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه حجة في ثبوت العمل بما اقتضاه. والله الموفق بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.